الجمعة، 19 فبراير 2021

التطرف الديني .. الرأي الآخر ! دكتور صلاح الصاوي

 

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. 

 أمـا بـعــد.

فإن ظاهرة التطرف الديني من الظواهر التي  شغلت الرأي العام في الآونة الأخيرة، وكثر حولها الجدل من قبل كثير من العلماء والمفكرين من داخل صفوف التيار الديني ومن خارجه، لقد أصبحت هذه الكلمة مصطلحًا شائعًا على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام، وأخذت تستعمل في المقام الأول للدلالة على معارضة العرف الاجتماعي العام، أو الشرعية الوضعية القائمة باسم الإسلام، مهما بلغت درجة المخالفة في هذا العرف العام والأوضاع السائدة للثوابت الإسلامية، ومهما بلغت درجة الاعتدال في هذه المعارضة وتحركها من خلال الأطر والقنوات الشرعية؛  بل ساد التناقض في معالجة هذه الظاهرة بصورة تدعو إلى الدهشة، وتغري بالمزيد من هذا التطرف.

لقد رفعت المؤسسات الحاكمة في مواجهة هذا التطرف شعار الفصل بين الدين والسياسة، ولكنها لم تغذ السير في هذا الطريق إلى نهايته، فما فتئت رغم إعلانها بهذا الشعار تستخدم الدين وتوظف العلماء الرسميين لإضفاء الشرعية على كثير من سياساتها الداخلية والخارجية، فإن عارضها معارض باسم الدين قذفت في وجهه بهذا الشعار، وأكدت على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة!!؛ فالدين والسياسة شقيقان إن كنت في مقعد السلطة، وعدوان إن كنت في مقعد المعارضة!! ولقد أدى هذا المسلك إلى أن فقدت الشعارات الإسلامية كثيرًا من مصداقيتها، وأصبحت لا تعدو في حس كثير من المواطنين أن تكون مجرد شعارات ترفع للاستهلاك اليومي أو الموسمي بحسب الأحوال، ثم تتراجع لتحل محلها شعارات أخرى تفصل بحسب الطلب، وتنسج بحسب المقاس، ثم تتراجع بعد أن تؤدي دورها المنشود لتحل محلها شعارات جديدة، وهكذا دواليك.

والعجيب أن هذا المصطلح استعمل أول ما استعمل في إسرائيل، عندما بدأ الشباب المتدين في الأرض المحتلة يتعرف على جذوره الحضارية، ويتلمس طريقه نحو الأصالة الأيديولوجية، ويرفض ركام التصورات العلمانية  التي  أهدرت قضيته ردحًا طويلًا من الدهر، وقذفت بها إلى سراديب المفاوضات ومهزلة النضال بالكلمات، ولم يجن بعد هذه المعاناة الطويلة إلا مزيدًا من الشتات والفواجع، فرمت قوات الاحتلال هذا الشباب بهذه التهمة، ومنها انتقلت إلى البلاد العربية التي  رمت بهذه التهمة كل معارض للسلطة باسم الإسلام. 

ويقابل هذا المصطلح في الشرق مصطلح الأصولية في الغرب، وهو تعبير شاع استخدامه في الأوساط الغربية للدلالة على ظاهرة التطرف أو السلفية أو العودة إلى النصوص المقدسة، وإذا كان للغربيين عذرهم في رفض هذا الاتجاه، لأن العودة إلى الكتب المقدسة عندهم تعني العودة إلى الجهل والخرافة ومعاداة التقدم نظرًا لما أصاب هذه الكتب على يد الأحبار والرهبان من العبث والتحريف الفاحش، فإن الأصولية في العالم الإسلامي ينبغي أن تكون على النقيض من ذلك، لأن العودة إلى الكتاب والسنة تعني العودة إلى النبع الصافي والوحي المعصوم، الذي  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ([1]) فما أبعد الشُقة بين الشرق والغرب في هذه القضية، وما أتعس  من يحاكون بغير وعي وينقلون بغير بصيرة !!.

 ولسنا في صف التطرف بطبيعة الحال، ولن نكون كذلك إن شاء الله ما بقي فينا نفس يتردد، كما لا ننكر اشتمال التاريخ الإسلامي على بعض مواقف التطرف التي  حفل بها تاريخ الفرق الغالية، كالخوارج والرافضة وأمثالهم، كما لا ننكر أن صفوف التيار الديني المعاصر قد تسرب إلى بعضها هذا الداء بجرعات متفاوتة، وما دعاوى تكفير الأمة والتشكك في إسلامها إلا جرعة من هذه الجرعات، وإن كانت أكثر هذه الجرعات كثافة، وأمرّها مذاقا!! .

كما لا ننكر كذلك أن التطرف علة من علل التدين، وأنه قد تسرب إلى الأمم السابقة فأهلكها، وإن تسربه إلى أي  تجمع معاصر يعني إيذانًا بإخفاقه في أداء مهمته، وفشله في الوصول إلى غايته فيتحول من بارقة من بوارق الأمل إلى هوة من مهاوي اليأس، وبؤرة من بؤر الشتات!!.

نقول مع إيماننا بهذا كله، إلا أننا نؤمن وبنفس المستوى أن اعتبار كل معارضة للسلطة باسم الإسلام تطرف ديني نوع من أنواع الاستطالة البالغة والعدوان الظلوم، وأسوأ من هذا أن نرى مجرد الالتزام بالمظهر الإسلامي علامة من علامات التطرف وسمة من سمات الانحراف الديني، فنربط بين التدين وبين التطرف، كما نربط بين التهتك وبين الاعتدال، وفي هذا غاية التطرف وغاية المراغمة للدين والمكابرة للحقيقة وللواقع وللتاريخ!!.

وبين يدي هذا الحوار حول قضية التطرف نريد أن نؤكد للقارئ و للمتابع، إننا لا نريد لهذا الحوار أن يكون امتدادًا للمنهج الذي ينهجه بعض رموز هذا التطرف ممن  ينطلقون في أعمالهم من رؤية جزئية لبعض القضايا الإسلامية، أو يحبسون أنفسهم ومن وراءهم في اجتهادات قاصرة في بعض النصوص الشرعية، ويعطلون روح الشريعة وما جاءت لتحقيقه ابتداء من رفع الحرج والوفاء بالمصالح البشرية، كما لا نريد له  في نفس الوقت وبنفس القدر أن يكون امتدادًا لأبواق السلطة التي  تسلط هذه التهمة على كل من تسول له نفسه بالمعارضة الدينية لأعمالها التسلطية، أو الذين ينطلقون في معالجتهم لقضية التطرف من كراهية التدين في ذاته تطرفًا أو اعتدالًا، ويتحول الأمر في برامجهم من هجوم على التطرف إلى هجوم على الإسلام، وهذا أمر في غاية القبح والنكارة!!.

كما نؤكد إيماننا العميق بأن قيام هذا الحوار يعد إنجازًا في ذاته، وأن استمرار هذا الحوار وعدم انقطاعه يعد إنجازًا آخر، مهما كانت نتيجة هذا الحوار من التقاء فكري بين الفريقين أو مجرد تقارب بينهما، أو حتى بقاء كل منهما في مواقعه الفكرية!.

وقد يسأل سائل: وما قيمة الحوار إن لم يفض إلى غاية، ولم يصل أطرافه من خلاله إلى نتيجة؟، ونقول له: إن مجرد استماع كل فريق إلى الآخر، وإدراكه لحقيقة القناعات الفكرية التي يحملها، وتحرير محل النزاع بين الفريقين تحريرًا دقيقاً يعد في ذاته إنجازًا هائلاً، ينتفي معه الغبش في رؤية كل منهما للآخر، ويمتهد به سبيل أمامهما للمراجعة والتأمل، بعد أن يخلد كل منهما لنفسه، ويقف وجهًا لوجه أمام محكمة الضمير!.

لقد طوف هذا الحوار بمجالات متعددة، وصال وجال في أمور شائكة ومناطق محرمة، يتهيبها الكثيرون، وينقطع دونها الأكثرون، ورغم حساسية ودقة هذه المسائل فقد جاء الحوار صريحًا واضحًا مباشرًا، قذف فيه كل فريق بما عنده، وعارض الآخر بأقصى ما عنده، وترك  للقارئ  والمشاهد الحق في إصدار الحكم النهائي لصالح هذه الحجة أو تلك.

ولعل هذا الحوار هو أطول وأشمل حوار شهدته ساحات المساجلات الفكرية، والتقطته أجهزة التسجيل المسموعة والمرئية، واستقرأ هذه القضية من مختلف جوانبها في شمول عجيب وترابط غريب.

وإننا ندعو القراء والسامعين والمشاهدين أن يتجردوا مؤقتًا من المواقف المسبقة، وأن يجعلوا من هذه المحاورة سياحة للفكر، ونزهة للعقل، وفرصة نادرة للمراجعة والتدبر، وأن لا يحمل أحدًا منهم تعاطفه مع ممثله في الحوار على القبول المجمل بكل ما يقول مهما بدا في حديثه من قصور أو تكلف في بعض المواضع، كما لا تحمله معارضته للطرف الآخر على الرفض المجمل لكل ما يقول مهما بدا في حديثه من موضوعية ومنطقية في بعض المواقف.

إنها فرصة نادرة  للمراجعة ووقفة هادئة  للتأمل! وإن العاقل من يجعل الحق ضالته والاعتدال بغيته، ولا يبالي بعد ذلك من أي  جهة جاء،كما لا يبالي صاحب الضالة الذي ينشدها مع فريق ممن فزع لمعونته أن يجدها لنفسه أو يجدها له غيره، إن مقصوده الأول أن يجد ضالته، ويستوي عنده بعد ذلك أن يتم هذا على يده أو على يد الآخرين، وما هؤلاء الذين خفوا لنجدته إلا كرام محسنون فهم على سعيهم مشكورون، وبحسن تقديرهم جديرون.

إن القصد والاعتدال هو غاية السعي من هذا الحوار، ومما سوف يعقبه من محاورات بإذن الله، وإذا كان ذلك كذلك فسواء جاءت هذه الغاية من هذه الجهة أو تلك، أو جاء بعضها من هنا وبعضها من هناك، فإن هذا لا ينبغي أن يؤثر في حس استقبالنا لهذه الغاية المرجوة بكل عدل وتقدير وموضوعية، شاكرين لمن أجريت هذه الغاية على لسانه، وتحقق هذا المقصود من خلاله!

ولا يسعنا في النهاية إلا أن نتوجه بالشكر لكل من ساهم في الإعداد لهذا الحوار وأعان على عقده بأي  نوع من أنواع العون، آملين أن تستمتعوا في متابعته كما استمتعنا نحن في إجرائه، وأن نلتقي بكم في حوار آخر بإذن الله، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

***

 


حقيقة التطرف الديني ومعياره

نستهل هذا الحوار بالسؤال عن حقيقة التطرف الديني، وعن معياره في ضوء الأصول والقواعد الدينية المعتبرة؟.

التطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، إذًا فهو يقابل التوسط والاعتدال([2])، قال الشاعر:

كانت هي الوسط المحـمي فاكـتنفت   بهـا الحـوادث حتى أصـبحت طرفًا

فهو على هذا يصدق على التسيب كما يصدق على المغالاة، وينتظم في سلكه  الإفراط  والتفريط على حد سواء، لأن في  كل منهما  جنوحًا إلى الطرف، وبعدًا عن الجادة والوسط.

وقد دأب المفكرون  المعاصرون على الحديث عن التطرف في أحد شقيه فحسب، فتحدثوا عن تطرف المغالاة والإفراط  وأغفلوا أو تجاهلوا الحديث عن تطرف  التسيب والتفريط  ربما لأن هذا الأخير لا يثير حساسية المجتمع ولا قلق الدولة، وقد أدى هذا التجاهل إلى تكريس التطرف الأول  واستعار فتنته([3]).

هذا.... وسنكتفي في هذا المقام  بهذه اللمحة عن تطرف التسيب والتفريط و نقصر حديثنا عن النوع الأول باعتباره المقصود الأصلي بهذه المحاورة فنقول:

التطرف المقصود في هذا المقام هو: التنطع في أداء العبادات الشرعية، أو مصادرة اجتهادات الآخرين في المسائل الاجتهادية، أو تجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف والتتطع في أداء العبادات هو التعمق أو مجاوزة الحد في الأقوال والأفعال، ويدخل فيه الزيادة على المشروع، والتزام ما لم يلزم به الشارع، والورع الفاسد، ونحوه، فلقد أخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»، قالها ثلاثًا.

وأخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى المزدلفة في حجة الوداع قال لابن عباس: «هلم القط لي» - أي  حصيات يرمي بهن الجمار في منى - قال:  فالتقط له حصيات من حصى الخذف ( أي  حصى صغارًا مما يخذف به)  فلما وضعهن في يده قال: «نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين»([4]) وهو نهي عام عن جميع الغلو في الاعتقادات والأقوال والأعمال.

 ويدخل في هذا ما نشاهده من بعض الحجيج أثناء رمي الجمار حيث يتعمد بعضهم الرمي بالأحذية والبصق على موضع الرمي والتفوه ببعض العبارات المنكرة  وغير ذلك من صور الغلو التي  لا تتفق مع جلال هذه المواقف فضلًا عما تتضمنه من الإيذاء لبقية إخوانه من الحجيج .

ومنه ما أراده هؤلاء الذين أتوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!، ثم التزم أحدهم بأن يصوم الدهر ولا يفطر، والآخر بأن يقوم الليل ولا ينام، والثالث بأن لا يتزوج النساء، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبين لهم أنه أخشاهم لله وأتقاهم له ولكنه يصوم ويفطر ويقوم ويرقد ويتزوج النساء،  وأن من رغب عن سنته فليس منه([5]).

أما مصادرة اجتهادات الآخرين في المسائل الاجتهادية: فهي التعصب للرأي  تعصبًا لا يعترف معه للآخرين بوجود، فقوله هو الصواب الذي  لا يحتمل الخطأ، وقول غيره هو الخطأ الذي  لا يحتمل الصواب، وهو مع الناس كالمشرق مع المغرب لا تقترب من أحدهما إلا بمقدار ما تتباعد من الآخر، من خالفه في الرأي فهو جاهل مبتدع  ومن خالفه في السلوك فهو فاسق عاص، فهو الناطق الرسمي باسم الحق، المتحدث الرسمي بلسان الإسلام، لا يقيم وزنًا لاجتهاد مخالف ولو أوفى أصحابه على الغاية في العلم والديانة، وعرفوا في تاريخ الأمة بالإمامة في الدين، وكانوا ممن جعل الله لهم لسان صدق في الأولين والآخرين!.

 وقد أكد أهل العلم على عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية إنكارًا يؤدي إلى التشنيع على المخالف أو التثريب عليه بالهجر ونحوه، وأن الخلاف في الفروع أكثر من أن ينحصر،  ولو أن كل مسلمَين اختلفا في مسألة تهاجرا وتدابرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة قط، ولا يزال أهل العلم يفرقون بين الشرع المحكم وهو الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وبين الشرع المؤول وهو اجتهادات أهل العلم فيما وراء ذلك من الظنيات وموارد الاجتهاد، ويبينون أن الأول: هو الذي لا يحل لأحد مخالفته، وهو الذي تنتصر له سيوف المسلمين، ومن نازع في شيء منه فقد اتبع سبيلًا غير سبيل المؤمنين، أما الثاني: فالأصل أنه لا يضيق فيه على المخالف، وأن من عمل فيه بأحد الرأيين لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بالرأي الآخر لم ينكر عليه ولم يهجر كذلك، لا يستثنى من ذلك إلا الاجتهادات الشاذة وما اعتبر من زلات العلماء، ولم يقل أحد من أهل العلم في هذا القسم إن فقهه هو الإسلام، وإن اجتهاده هو الحق  الذي   ليس بعده إلا الضلال، ولا ارتضوا من أحد أن يقلدهم فيه من غير أن يحتاط لنفسه ويستبرئ لدينه ويأخذ من حيث أخذوا، وكان أكثر ما يقولون في هذا القسم: ما نحن عليه صواب يحتمل الخطأ، وهو مبلغنا من العلم، وما عليه غيرنا خطأ يحتمل الصواب، وكانوا يتناصحون ويتغافرون، ويثني بعضهم على بعض، ويعرف كل منهم للآخر فضله وعلمه، فاستحقوا بذلك أن يكونوا أئمة الدين وأن يكتب الله لهم بذلك القبول في الأولين والآخرين.

أما تجاوز الحدود الشرعية في الإنكار على المخالف: فهو ألا يفرق بين مجمع عليه وبين مختلف فيه، ولا يراعي درجات الاحتساب ولا يعتبر بالمآلات، ولا يوازن بين المصالح والمفاسد المترتبة على هذا الإنكار، ولا يضع اعتبارًا لاختلاف الزمان والمكان والأحوال، فإن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقهًا من أخطأه كان احتسابه وبالًا على نفسه وعلى الدين، واعتبر به في عداد الغلاة والمتطرفين .

هذا ولا تعد مصادرة اجتهادات الآخرين من قبيل التطرف إلا في المسائل الاجتهادية، أما ما كان من المحكمات والمعلوم بالضرورة من الدين فلا محل فيه للاجتهاد، ولا سبيل للمسلم معه إلا التسليم والانقياد، ولا عبرة فيه بشذوذ الآراء ولا بشطحات الأهواء، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾([6]).

ذكرت أن التطرف يقابل الاعتدال والتوسط، فما معيار ذلك الاعتدال؟ أهو التزام الشرعية القانونية وطاعة أولى الأمر مهما كان اتفاقها أو اختلافها مع الدين؟ أم هو التزام الشرعية الإسلامية واتباع ما يقضي به الدين وإن تعارض مع القانون والشرعية الوضعية القائمة؟.

إن هذا الحوار معقود أساسًا للحديث عن التطرف الديني، فالمرجع في تحديده إذن إلى الدين، ولا دخل للشرعية الوضعية في ذلك، فالذي يقرر أن هذا تطرف أو اعتدال إنما هو الشارع لا غير، وقد تمهد في محكمات الشريعة أن الحجة القاطعة و الحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن الذي تفرد بالحق في توجيه الخطاب الملزم المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو تخييرًا أو وضعًا إنما هو الله رب العالمين، وأن طاعة أولي الأمر ليست مطلقة لأن الطاعة المطلقة لا تكون إلا للشارع لا غير، أما أولوا الأمر فقد قيد الشارع طاعتهم بما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»([7])، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([8])، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمن لم يطع الله»([9])، فكيف يكون معيار التطرف الديني التزام الشرعية الوضعية وإن كانت مراغمة للشرعية الإسلامية، ومحادّة لله و رسوله؟!.

إن القوانين الوضعية تبيح الربا والزنا والخمر فهل يكون معيار الاعتدال هو الالتزام بإباحة هذه الموبقات ومعيار التطرف هو القول بتحريمها؟  إن القوانين الوضعية تبيح الردة عن الإسلام فهل يكون معيار الاعتدال هو الالتزام بإباحة الردة ومعيار التطرف هو الالتزام بتحريمها؟ إن المعيار الوحيد المقبول لتوصيف الأعمال واعتبارها من قبيل التطرف أو الاعتدال هو الميزان الشرعي الذي يقوم  أساسًا على تحكيم الكتاب والسنة، والتخريج عليهما وفقًا للقواعد المعتبرة شرعًا في باب الاجتهاد.

ما هي أهلية الحكم على تصرف ما بأنه من قبيل التطرف أو الاعتدال؟ أو بعبارة أخرى: هل الحكم على الأعمال بأنها من قبيل التطرف أو الاعتدال يعد من قبيل الأحكام الشرعية التي يتعين الرجوع فيها إلى علماء الشريعة، أم أنه عمل فكري بحت يتاح لسائر المفكرين والكتاب؟

الأصل في الحكم على الأعمال بأنها من قبيل التطرف والاعتدال أنه عمل فقهي مرجعه إلى علماء الشريعة مادمنا نتحدث عن التطرف الديني، لأن التفريق بين المحكم والمتشابه، ومعرفة الآراء المعتبرة شرعًا في المتشابه ونحوه يعد من قبيل العلم الشرعي الذي يجب أن يرد الأمر فيه إلى أهله، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.

لقد رأينا في واقعنا المعاصر من يعد ارتداء الحجاب من قبيل التطرف رغم أنه فريضة محكمة، ورأينا من يعد إطلاق اللحية من قبيل التطرف رغم أنها سنة ثابتة، ورأينا من يعد الامتناع عن شرب الخمر في الاحتفالات العامة من قبيل التطرف رغم أن الخمر أم الكبائر، ورأينا من يعتبر المحافظة على الصلاة في أول وقتها من قبيل التطرف بدعوى أن العمل عبادة، وأنه لا ينبغي أن تقطع عبادة العمل من أجل الصلاة رغم أن الصلاة لوقتها من أفضل الأعمال، وأخيرًا رأينا صحفية فرنسية تتهم المسلمين جميعًا بالتطرف لأنهم يؤذِّنون ويذهبون إلى المسجد خمس مرات كاملة كل يوم!!

وتقول إن هذا مبالغة لا مبرر لها!! إلى غير ذلك من التداعيات التي كان مردها إلى إباحة التخوض في القضايا الشرعية لكل شارد ووارد، ولو أننا وكلنا الأمر إلى عالمه، ورجعنا في هذه المسائل إلى أهلها لما انتهينا إلى كل هذه التداعيات التي لا تزيد المتطرفين إلا عنادًا ولا تزيد هذه الفتنة إلا وقودًا واشتعالًا!

 هل نفهم من ذلك أنك تبيح انتهاك الشرعية القانونية القائمة بدعوى مخالفتها للشرعية الإسلامية؟ أليس هذا هو المدخل إلى التطرف؟ والحجة التي  يتذرع بها المتطرفون دائمًا إلى ما يريدونه من الفوضى والتهارج؟

الأصل ألا تعارض في المجتمع الإسلامي بين الشرعية الإسلامية وبين ما يسري في هذا المجتمع من أنظمة ولوائح، فلقد ذكرت لك أن المشروعية العليا في المجتمع الإسلامي للكتاب والسنة لا غير، و أن الدولة الإسلامية هي التي  تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وأن حظ هذه الدولة من الشرعية بقدر حظها من إقامة هذا الدين وحمل الأمة عليه، وبديهي أن كل ما تعارض مع محكمات الكتاب والسنة  فهو باطل ولو ظاهرته جميع الشرائع الوضعية، فإن أهل الأرض جميعًا لا يملكون ولو اجتمعوا في صعيد واحد أن يحلوا شيئًا مما حرم الله أو يحرموا شيئًا مما أحل الله؛ إذ لا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه؛ وإن هذا هو الأصل الكلي القطعي الذي يثبت بثبوته عقد الإسلام وينتفي بانتفائه .

أما  إذا انخرم هذا الأصل في دولة من الدول، وافترق فيها القرآن والسلطان، وتباينت أنظمتها القانونية مع الشريعة الإسلامية، فإن هذا من أعظم المنكرات التي يسخطها الله ورسوله، والواجب على المسلم في هذه الحالة أن يدور مع الإسلام حيث دار، وأن يلزم الشرعية الإسلامية حيث كانت، وأن يحمل نفسه على الاستقامة على أمر الله مهما كلفه ذلك من عنت، وأن يصبر على ذلك ويصابر، وهذا على مستوى الالتزام الشخصي والسلوك الفردي، أما على مستوى الإنكار على المخالف والسعي في تغيير هذه المنكرات، فقد ذكرت لك من قبل أن للحسبة فقهًا من أخطأه كان احتسابه وبالًا على نفسه وعلى الآخرين، واعتبر به في عداد الغلاة والمتطرفين، فللتطرف كما ذكرت لك ثلاثة معايير منها تجاوز الحدود الشرعية في الإنكار على المخالف، وعلى هذا فإن الخروج على الشرعية القائمة فيما خالفت فيه الشرعية الإسلامية يجب أن يكون ضمن الضوابط والأطر المقررة شرعًا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هذه الضوابط التي تقوم على اعتبار المآل، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والالتزام بآداب الاحتساب ودرجاته هي التي  تكفل الاعتدال والرشد في ممارسة هذه الأعمال، وبدونها يتحول الأمر إلى تطرف منكر وردود أفعال عشوائية لا تؤتي أكلها ولا تحقق أهدافها  بل تنذر بخطر جسيم وشر مستطير!!.

 هل يعد الالتزام بالفرائض والمندوبات، والتجافي عن المحرمات والمتشابهات أو دعوة الناس إلى شيء من ذلك من قبيل التطرف أو الغلو في الدين؟

كيف يكون التزام الواجبات واجتناب المحرمات والورع عن المتشابهات من قبيل الغلو في الدين؟  وإذا كان هذا هو الغلو في الدين فما هو الدين إذن ؟، وما عسى يكون ذلك الاعتدال المنشود؟، إن جماع الدين هو التزام الواجبات والكف عن المحرمات والورع عن المتشابهات، قال صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه»([10])، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها»([11]).  

وإن الدعوة إلى ذلك هي الدعوة إلى الدين،  وإن اتهام العمل بذلك أو الدعوة إليه بالتطرف أو الغلو إنما هو اتهام للدين ومراغمة للديَّان، وإن من نكد الدنيا أن يطرح هذا السؤال ابتداء في أمة تنتسب إلى الإسلام وفي مجتمع يعلن أن دينه الرسمي هو الإسلام  وأن الشريعة الإسلامية هي مصدره الرئيسي للتشريع. 

ولقد سبقت الإشارة إلى قول فضيلة المفتي: ولكننا ومن أجل أن نضع الأمور في نصابها الصحيح علينا أن نقول: إن المحافظة على الصلاة ليست تطرفًا، والمحافظة على فرائض الدين ليس تطرفًا، والتزام المرأة بالزي الإسلامي ليس تطرفًا، وإطلاق اللحية ليس تطرفًا، إنما التطرف الذي أقصده هو ما كان خارجًا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم([12]).

لقد سمعنا من ينتقد من الغربيين على المراكز الإسلامية التي  تؤذِّن خمس مرات في اليوم، ويعتبر أن ذلك من المبالغة والتزايد، والقوم معذورون في ذلك، فهم ليسوا مسلمين أولًا، ولم يألفوا من دينهم زيارة الكنيسة إلا مرة واحدة في الأسبوع لمن شاء ثانيًا، أما أن يصدر ذلك من أحد ممن ينتسب إلى الإسلام  أو في مجتمع يدين جمهوره بالإسلام فذلك هو العجب العجاب، بل الفتنة التي  تذر الحليم حيرانًا!!

 هل يعتبر الورع والأخذ بالعزائم، أو دعوة الناس إلى الأخذ بها من قبيل الغلو في الدين؟

لا يعتبر العمل بالأحوط أو الأخذ بالعزائم ودعوة الناس إلى ذلك من الغلو في الدين، بل هو الترقي المحمود في مدارج السالكين،  وسنة من مضى من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، ما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بسنة أخرى آكد، أو تفويت مصلحة شرعية أولى بالاعتبار، ولكن الغلو يحدث عندما يتجاوز المرء دائرة الالتزام الشخصي بهذه العزائم، وندب الآخرين برفق إلى العمل بها، إلى دائرة الإلزام بها،  والإنكار على من خالفها، ورفعها إلى مصاف الواجبات والفرائض العينية، فإن هذا هو الذي   يدخل في دائرة الغلو، وينأى  بأصحابه عن الجادة، فلا حرج إذن على المسلم أن يأخذ بالعزائم أو أن يندب الناس إلى الأخذ بها وإنه على ذلك لمحمود ومأجور، أما أن يلزم بذلك الآخرين، أو ينكر به على المخالفين، فهذا الذي يدخل في نطاق الغلو، ويعتبر به أصحابه في عداد المتطرفين!.

***

 


من هنا كانت البداية

لكثير من المتطرفين في التعامل مع الفقه والشريعة منهج يتسم بالجهل والسطحية، وينم عن كثير من الغلو والعقد النفسية، وإليه يرجع كل ما تميزوا به من الشذوذ والتخبطات الفقهية، فهم يرفضون الالتزام بمذهب من المذاهب الأربعة التي توارثتها الأمة جيلًا بعد جيل يقولون هم رجال ونحن رجال، ولا يكادون يستفتون إلا أئمتهم وأمراءهم في كل ما يعرض لهم من مسائل الدين، ولا يكادون يقبلون فتوى من أحد إلا إذا كانت مصحوبة بالدليل، يتعالمون بذلك على العلماء ويتطاولون به على أئمة الدين، ألا يعد هذا المنهج من قبيل التكلف الذي نهينا عنه  والشطط البالغ الذي لا يعول عليه، فضلًا عما يتضمنه من التطاول الفاحش على من مضى من أئمة المسلمين، وما يترتب عليه من الشذوذ عن جماعة المسلمين؟.

التزام مذهب من المذاهب المدونة ليس فريضة لازمة على كافة المسلمين، فقد كان الإسلام قبل أن توجد هذه المذاهب وقبل أن يولد هؤلاء الأئمة، وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بوجوب التمذهب بمذهب بعينه، إذ لم يعرف في عصر الصحابة بل ولا في عصر التابعين من اتخذ رجلًا منهم يقلده في جميع أقواله لا يسقط منها شيئًا، ويسقط أقوال غيره فلا يقبل منها شيئًا، ولم يحدث ذلك إلا في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فضلًا عما يتضمنه ذلك من إيجاب طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في أمره وهو خلاف الإجماع.

ومن ناحية أخرى فإن الناس لا يخلو حالهم في هذه القضية من أحد هذه الأنواع:

1- إما عامي: والعامي لا يصح له مذهب، ولا يلزم بالرجوع إلى إمام بعينه دون سواه، وإنما يستفتي من اتفق ممن يثق في علمه ودينه، ومذهبه مذهب من أفتاه.

2- وإما عالم مجتهد: وهو لا يصلح له التقليد، لأن التقليد شأن العامة وأشباه العامة! أما أهل العلم فالواجب أن يرجعوا إلى مصادر الشريعة، وأن يأخذوا من حيث أخذ الأئمة، وقد أجمع أهل العلم على المنع من التقليد بالنسبة للعالم القادر على النظر في الأدلة، واستثمار الأحكام منها،  ولم يجيزوا له التقليد إلا في حالات الضرورة.

3- وإما طالب علم: وهذا الذي يتعين عليه أن يتلقى العلم على يد الشيوخ، وأن يتخرج على  أيديهم  وسبيله إلى ذلك في هذه الأيام أن يدرس الفقه على أحد هذه المذاهب المعتمدة ليتدرج منه إن قدر الله له المضي في هذا الطريق إلى دراسة الفقه المقارن والنظر في الأدلة والتخريج عليها تمهيدًا لاستقلاله بالنظر في مستقبل الأيام، وإن أتيح لهذا الدارس إمام مجتهد مستقل  يتلقى عنه العلم ويتخرج على يديه فلا يلزمه بطبيعة الحال أن يتقيد بمذهب من المذاهب التي لا تعدو أن تكون مناهج للاستنباط  ووسائل لنيل العلم الشرعي،  ولا يمثل الالتزام بها غاية في ذاته.

ولقد أجمع على هذا الذي ذكرته لك جمهور أهل العلم من السابقين ومن المعاصرين، ومن رجع إلى كتب الأصول وقف من ذلك على ما يملؤه يقينًا بهذه الحقائق([13]).

وممن أفتى بذلك  من المعاصرين:

فضيلة شيخ الأزهر في كتابه: (الفقه الإسلامي .. مرونته وتطوره)، قال تحت عنوان: هل يجب على المقلد التزام مذهب معين؟: «الحق الذي ذهب إليه جمهور العلماء  إنه لا يجب على المقلد التمذهب بمذهب معين،  بحيث لا يجوز له الخروج عنه، بل له أن يعمل في مسألة بقول أبي حنيفة وفي أخرى بقول مالك أو الشافعي للقطع بأن المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة ومن بعدهم كانوا يستفتون مرة واحدًا ومرة أخرى مجتهدًا آخر، غير ملتزمين مفتيًا واحدًا، وعلى ذلك لو التزم مقلد مذهبًا معينًا لا يلزمه الاستمرار في تقليده، اختار هذا: الآمدي وابن الحاجب والكمال بن الهمام والرافعي وغيرهم. ذلك لأن التزام مذهب معين غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب إمام معين من المجتهدين فيقلده في دينه، يأخذ كل ما يقرره دون غيره»([14]).

كما أفتى به من قبله الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، ومفتي مصر الأسبق الشيخ حسنين مخلوف، والشيخ محمد متولي الشعراوي، كما أفتتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية([15])  وآخرون.

 أما ما ذكرت من قولهم هم رجال ونحن رجال، فهي كلمة حق ولكني أخشى أن يراد بها في هذا المقام باطل، لأن التجاسر على رد فتاوى أئمة أهل العلم لا يكون إلا بعد تأمل في النصوص ومقابلة بين الآراء، والتعرف على أدلة كل فريق، ثم يكون الترجيح بعد ذلك، وهذا يحتاج إلى أهلية وأدوات أخاف ألا تتاح لكثير من المعاصرين، على الرغم من تقديرنا لاهتمامهم بطلب العلم وحماسهم للتجديد ونبذ التقليد، وعمومًا فإن هذه الكلمة إن جاءت من أهلها فهي مقبولة بل هي الأصل الذي لا معدل عنه، أما إن جاءت ممن لا يملك أهلية النظر ولو كان جزئيًا فهي مردودة، وأخشى أن يفتح بها باب إلى الجرأة على الدين، والتطاول على أئمة المسلمين. 

وإن الحد الأدنى الذي لا يمكن الترخص فيه مع من يسلك هذا المسلك من المبتدئين أن لا يتكلم في مسألة ليس له فيها سلف، وألا يتبنى رأيًا في مسألة ليس له فيه سلف، وذلك احتياطًا للشريعة حتى لا تنسب إليها اجتهادات فجة لم تبلغ بعد مبلغ الاجتهادات المعتبرة لتقصير أصحابها وقلة بضاعتهم من العلم([16]).

أما ما ذكرت من أنهم لا يكادون يستفتون إلا أئمتهم وأمراءهم، فهو قول إن صح يستوجب المراجعة، لأن الحق ليس وقفًا على فئة بعينها دون فئة ولا فريق بعينه دون فريق، وهو ضالة المؤمن أينما وجده التقطه، وإذا قبل هذا المسلك من عوامهم فإنه لا يمكن قبوله من طلبة العلم فيهم وممن يعدونهم اليوم ليكونوا علماء الغد، فإن مثل هذا المنهج لا يبني عالمًا ولا يفيد طالب علم، فإن من لم يعرف الخلاف ويقف على شتات الآراء ويقابل بين أدلتها لم يشم رائحة الفقه بأنفه، ولهذا كان من شروط الاجتهاد العلم بمواقع الإجماع ومواقع الاختلاف: العلم بمواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما انعقد عليه الإجماع، والعلم بمواقع الاختلاف حتى لا يرد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه، فإن من لم يعرف الاختلاف فليس بفقيه كما قال أبو حنيفة، أولم يشم الفقه بأنفه كما روي عن قتادة رحمه الله.

ومن ناحية أخرى أليس من الإنصاف أن نلتمس شيئًا من العذر لهؤلاء عندما يعرضون عن استفتاء بعض من انتسب إلى العلم في المؤسسات الدينية الرسمية لما يرون في بعضهم من رقة في الدين، وتهافت على أبواب السلاطين، وركون إلى الظالمين؟!.

أما ما ذكرت من إصرارهم على طلب الدليل فهو الأحوط في الدين، وهو الذي كان يتحراه الصحابة والتابعون  والأئمة شريطة أن يكون السائل أهلًا لفهم هذا الدليل، وهو الذي حث عليه كثير من الأئمة المعاصرين فهو مسلك محمود في الجملة لا يلام صاحبه، ولا ينسب بسببه إلى تنطع أو غلو([17]).

ولكن الذي نضيفه في هذا المقام أن هذا الإيراد للأدلة ليس شرطًا لا سيما إذا كان السائل من العامة وذلك لما يلي:

الإجماع الذي نقله غير واحد من الأصوليين على أنه لم يزل أهل العلم يستفتون فيفتون ويتبعون من غير إبداء المستند وإن ذلك قد شاع وذاع، ولم ينكر عليه فكان إجماعًا([18]).

إن المتتبع لكتب الحديث يرى استدلال تابعي التابعين بأقوال من قبلهم من التابعين، واستدلال هؤلاء بأقوال وأعمال من قبلهم من الصحابة، وهو استدلال بأقوال وأعمال لم تذكر معها أدلتها، فدل ذلك على عدم اشتراط ذكر الأدلة لصحة الفتوى أو جواز العمل بها، بل إننا لو تتبعنا آثار أئمة السلف وأشد الناس إنكارًا على التقليد لوقفنا على ما لا يحصى من الفتاوى التي لم تذكر معها الأدلة.

إن إيراد الأدلة للعامي لا يخرجه عن دائرة التقليد من الناحية الفقهية البحتة، لأن المفتي يورد الدليل موردًا يجعله منتجًا للحكم الذي قال به وذهب إليه، ولا يملك المستفتي إلا تقليده في هذا الفهم  فالتقليد كما يكون في الحكم يكون في فهم دليل الحكم، ومجرد المعرفة بالدليل لا تخرج عن ربقة التقليد، ذلك أن المعرفة المعتبرة بالدليل التي تخرج عن نطاق التقليد هي التي يغلب معها الظن بحصول المقتضى وعدم المانع.

ومع هذا فلا يملك العالم إن سئل عن الدليل إلا أن يجيب، وإلا كان كاتمًا للعلم، إلا إذا قدر أن السائل ليس أهلًا لفهم الدليل، وهذه مسألة تقديرية والأمر فيها واسع.

بقيت كلمة أخيرة: إن الاتهام بالجهل والسطحية والغرور والعقد النفسية على النحو الوارد في السؤال استفزاز لا يليق، ومسلك لا يتفق مع المنهج الإسلامي في الحوار بل لا يتفق مع المنهج الحضاري للحوار بصفة عامة، فقد اتفق العقلاء على أن الكلمة الجارحة توغر الصدور،  والكلمة الطيبة تفتح مغاليق القلوب، وقد أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى فرعون فقال لهما: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾([19]).

***


قميص عثمان

 الدعوة إلى تطبيق الشريعة هي المحور الذي دار حوله وانبثق منه فكر التطرف، فهل تعتبر الدعوة إلى تطبيق الشريعة والإلحاح على ذلك في كل المناسبات من قبيل التطرف، لاسيما إذا قرر أولوا الأمر التمهل في هذا الأمر حتى تتحقق المواءمة السياسية، وكانت هذه الدعوة قد أفضت إلى سلسلة من التداعيات المنكرة كالعنف والتكفير ونحوه؟

 الشريعة هي كل ما شرعه الله لعباده من الدين، فهي تنتظم العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات  وهي بهذا المعنى مرادفة لكلمة الدين، والدعوة إلى تطبيق الشريعة هي الدعوة إلى إقامة الدين عقيدة وأخلاقًا وعبادات ومعاملات، والدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة هي الدولة التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به؛ فهل يمكن القول بأن الدعوة إلى إقامة الدين تعتبر من قبيل التطرف أو الغلو في الدين؟!.

إن الشريعة إذن في مدلولها العام هي الإسلام، فالقبول بها قبول بالإسلام،  وردها رد للإسلام، وإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة دعوة إلى تصحيح أصل الرضا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.

فما آمن بالله ولا رضي به ربًا من أدار لكتابه ظهره، وتحاكم إلى غيره، فإن الله يقول في محكم التنزيل: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِله أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾([20])، ويقول عن بني إسرائيل: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الِله وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا([21])،  ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الربوبية لم تكن في مقام التحنث والتنسك بل كانت في مقام التحليل والتحريم. فكان الأحبار والرهبان يحلون لهم الحرام فيستحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه، فاتخذوهم بذلك أربابًا من دون الله، ودل ذلك على أن كل من أطاع غيره في خلاف الدين وهو يعرف أنه خلاف الدين والتزم بالطاعة المطلقة له في ذلك فقد اتخذه ربًا من دون الله.

وما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا رضيه رسولًا من أبى التحاكم إلى شريعته، وقد قال الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([22])، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»([23]).

وما آمن بالإسلام ولا رضيه دينًا من أبى الاستسلام لشرائعه والانقياد لهديه، فإن الإسلام هو الاستسلام لله وحده فمن أبى الاستسلام لله كان مستكبرًا عن عبادته ومن استسلم له ولغيره كان مشركًا، والمشرك بالله والمستكبر عن عبادته كلاهما كافر به.

فالدعوة إلى تطبيق الشريعة إذن دعوة إلى تصحيح عقد الإسلام، وإلى تجديد الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.    

أما ما ذكرت من التريث حتى يتهيأ المجتمع وتتحقق المواءمة السياسية؛ فإن الجواب على ذلك أن تهيئة المجتمع لا تكون بالدعاوى المجردة التي تشهد على زيفها كل القرائن، وإنما تكون باتخاذ الخطوات العملية الجادة التي تدرج بالأمة على طريق الطهر والفضيلة، وتنأى بها عن سعار الشهوات والشبهات، إنها تكون بالمبادرة إلى التطبيق المرحلي للشريعة في عدد من القطاعات، فإن هذه التهيئة تبدأ بإصلاح مناهج التعليم، وبرامج الإعلام، ودعم أجهزة الدعوة إلى الله، وكل ذلك جزء لا يتجزأ من قضية تطبيق الشريعة، فقد جاءت الشبهة من اختزال القوم للشريعة في الحدود ثم قالوا: أن الشريعة - يقصدون الحدود - لا سبيل إلى إقامتها إلا بعد تهيئة الأمة وتحقيق المناخ السياسي الملائم، والجواب على ذلك أن الحدود جزء من المعاملات، والمعاملات جزء من الشريعة التي تنتظم العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، فهي الطابق الرابع من عمارة الإسلام إذا صح التعبير.

فلنبدأ على الفور بتهيئة الأمة لذلك من خلال إصلاح الخلل في أجهزة الدعوة والتعليم والإعلام، ولنبادر بتطبيق شريعة الله في هذه الأجهزة حتى تساهم في توفير المناخ الملائم لتطبيق بقية أحكام الإسلام إن كنا صادقين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تصريحًا للاستهلاك الموسمي ثم يغلق ملف القضية إلى موسم قادم؟!!.

إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليس مطلب التيار الإسلامي وحده بل هي مطلب الأمة الإسلامية كلها من أدناها إلى أقصاها، وحسبك هذه التوصيات المتعاقبة من مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية وهي المؤتمرات التي كانت تضم مندوبين وممثلين عن كافة الدول الإسلامية، وما من مؤتمر من هذه المؤتمرات إلا وتتضمن توصياته مناشدة المسئولين في الأمة الإسلامية سرعة العمل على وضع أحكام الشريعة موضع التنفيذ، والتنبيه على أن السبب في كل ما يصيبنا من كوارث ونكبات هو تعطيل هذه الأحكام، وحسبنا أن ننقل هذه الفقرة من توصيات المؤتمر الثامن المنعقد في ذي القعدة 1397 هـ. والذي حضره مندوبون وممثلون من أربعة وخمسين دولة فقد جاء في توصيات فترته الأولى ما يلي:

 يقرر المؤتمر وجوب العمل الجاد من أجل  تطبيق أحكام الشريعة  الإسلامية، في جميع البلاد الإسلامية في المعاملات، والعقوبات، وفي جميع فروع هذه الشريعة.

إن المؤتمر يرى أنه قد حان الوقت الذي ينبغي أن يتحرر فيه المسلمون من ربقة التشريعات الوضعية التي لا تلائم ما جاءت به شريعة الإسلام.

ويؤكد المؤتمر أن التغاضي عن تنفيذ الشريعة الإسلامية هو السبب الأساسي فيما تفشَّى بين الناس من فساد في العقيدة، والأخلاق، والمعاملات، ويعلن أنه لا سبيل إلى إنقاذ المجتمعات الإسلامية من هذه المفاسد إلا بالاعتصام بالشريعة الإسلامية ووضعها موضع التنفيذ بكل أجزائها.

ويرشد المؤتمر إلى أن الشريعة الإسلامية تتصف بالسعة والشمول، وتقوم على احتواء كل ما يجد من مشكلات في حياة الناس، وتضع لها أوفق الحلول بما يناسب طبيعة البشر وأهدافهم في حياتهم الدنيا والأخرى، ولهذا يطلب المؤتمر أن يراعي المسئولون عن وضع القوانين أن تكون مبنية على أسس الشريعة الإسلامية، وأن يراجعوا قوانينهم القائمة حاليًا لتحقيق هذه الغاية.

     ويؤكد المؤتمر انحراف كل دعوة إلى إغفال النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، أو تفسيرها وفقًا للأهواء الشخصية أو الجماعية، ويرى في ذلك نزعة معادية للإسلام، ويوصي بنشر المؤلفات المبسطة التي تشيع مفاهيم الشريعة على أوسع نطاق، والتعريف بمزاياها، ويحث الفقهاء على مصاولة أعداء الشريعة في الداخل والخارج والرد على تخرصاتهم وعدم السكوت على كل ما يمس الشريعة الغراء من قريب أو بعيد([24]).

وحسبك هذا القرار الذي أصدره مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة عام 1399 هـ بمناشدة حكام الدول العربية والإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية، وقد تضمن النص على أن من أهم واجباته الكتابة إلى ملوك ورؤساء هذه الدول للمبادرة إلى تطبيق الشريعة التي  تكفل لهم عز الدنيا وسعادة الآخرة، وإليك مقتطفات من هذا القرار:

 لقد تدارس مجلس المجمع الفقهي واقع الدول العربية والإسلامية المؤلم وما تعانيه من تفكك وما ابتليت به من نأي عن الأخذ بأسباب العز والسعادة، وإعراض عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وزهد في تعاليمها، وانصياع إلى تطبيق قوانين مستوردة ما أنزل الله بها من سلطان.

وقرر مجلس المجمع أن من أهم واجباته أن يكتب إلى ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية رسائل يناشدهم فيها إلى أن يبادروا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية التي  تكفل لهم بالتزامها عز الدنيا وسعادة الآخرة، ويحصل لهم بالاستمساك بها النصر على الأعداء، والظفر بالأمن والطمأنينة، والخلاص من المصائب التي يعانون منها نتيجة لإعراضهم عن تحكيمها ويتم إرسال هذه الرسائل وفقًا للصيغة المرفقة([25]) .

نائب الرئيس

محمد علي الحركان

رئيس مجلس المجمع الفقهي

عبدالله بن حميد

توقيع

عبد العزيز بن باز

توقيع

محمد محمود الصواف

توقيع

حسنين مخلوف

سافر ولم يوقع

مصطفى الزرقاء

توقيع

عبد المحسن عباد

توقيع

محمد رشيد قباني

توقيع

اللواء محمود شيت خطاب

توقيع

محمد سالم عبد الودود

توقيع

صالح بن عثيمين

توقيع

محمد بن عبد الله السبيل

توقيع

محمد رشيدي

توقيع

عبد القدوس الهاشمي

 

توقيع

محمد الشاذلي النيفر

 

وحسبك أيضًا مؤتمر العدالة الأول الذي عقد بنادي القضاة بالقاهرة في شعبان 1406 هـ  وحضره جمهور القضاة في مصر وافتتحه رئيس الجمهورية فقد تضمنت توصياته فيما يتعلق بتطبيق الشريعة ما يلي: إعمالًا لما تنص عليه المادة الثانية من دستور جمهورية مصر العربية من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع يوصي المؤتمر باتخاذ الخطوات الآتية:

1 - إصدار مشروعات القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية، ومراجعة سائر التشريعات لتتفق في أحكامها مع مبادىء الشريعة.

2 - أن يواكب إصدار تلك التشريعات وتنفيذها تهيئة المناخ العام الملائم في مجالات التعليم والتربية والإعلام والثقافة والتكافل الاجتماعي وغيرها من المجالات.

3 - أن تولي كليات الحقوق بالجامعات ومركز الدراسات القضائية دراسة الشريعة الإسلامية العناية اللازمة بالقدر الذي يتناسب مع دورها بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع([26]).

وحسبك للتدليل على أنها إرادة الأمة كلها أنه ما من حزب من الأحزاب السياسية إلا ويضع في مقدمة برنامجه الانتخابي قضية تطبيق الشريعة لما يعلمه من إجماع الأمة كلها على هذا المطلب، ودعمها لدعاته  وأنه لا سبيل إلى كسب ثقتها وتأييدها إلا بهذا الطريق، فكيف يصح بعد شهادة المؤتمرات الدولية والمجامع العلمية وانعقاد هذا الإجماع من مختلف طوائف الأمة أن يقول قائل: إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة تعد من قبيل التطرف أو الغلو في الدين؟!

***

 


هل الإسلام هو الحل؟

يعتقد كثير من المتطرفين أن الإسلام هو الحل، وأن الحلول العصرية كالحل الاشتراكي والليبرالي وغيره هي المسئولة عما أصاب شعوب هذه المنطقة من الهزائم والنكبات  ويرفضون المزج بين هذه الفلسفات الوضعية وبين النظام الإسلامي الذي   يدعون إليه زعمًا منهم بأن الإسلام منهج شامل فيه تفصيل كل شيء، وأن صلاحيته ممتدة على مدى الزمان والمكان إلى قيام الساعة، فما تقدير هذا التصور في ميزان الاعتدال والتطرف؟

أما أن الإسلام هو الحل فذلك اعتقاد كافة المسلمين، وليس اعتقادًا خاصًا بالمتطرفين، وعلى كل من يشك في هذه المقولة أن يراجع أصل إيمانه بالله ورسوله، وأن يتدبر في الجواب على هذه الشكوك قوله تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى *  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾([27])، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾([28])، وقوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾([29]).

إن الإسلام هو الحل لأنه وحي الله المعصوم الذي يحمل هدايته إلى البشرية إلى قيام الساعة، وقد أوجب الله الحكم به والتحاكم إليه، وجعل من الإعراض عنه كفرًا يوجب لأصحابه جحيم الخلد وشقاء الأبد، وقد ضمنه جل وعلا منهاجه لإصلاح عباده وتحقيق مصالحهم وتلبية أشواقهم الروحية والمادية، ولقد حكمت به هذه الأمة قرابة ثلاثة عشر قرنًا من الزمان كانت فيها الأمة التي لا تغيب عنها الشمس، ثم تخلت عنه أو أجبرت على التخلي عنه فصارت كمًّا مهملًا في ذيل قافلة الرقيق!!.

أما ما ذكرت من رفض المتطرفين للمزج بين النظام الإسلامي والفلسفات الوضعية: فهو كلام مجمل يحتاج إلى بيان:

فإن كان المقصود أن ما جزمت فيه الشريعة بأدلة قاطعة فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر لأن هذه النصوص هي مستقر المصالح ومستودعها، فلا يحل لأحد أن يتجاوزها بحجة التجديد والاستفادة من تجارب الآخرين فذلك حق لا ريب فيه.

أما إن كان المقصود منه منع الاستفادة بالتجارب البشرية فيما سكتت عنه الشريعة أو لم تقطع فيه بأدلة قاطعة فذلك موضع نظر، فقد استفاد عمر رضي الله عنه من الفرس نظام الدواوين، وقبله أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، فهذه التجارب إذا خلت من المحاذير الشرعية يمكن الاستفادة منها في إطار المقاصد العامة للشريعة وقواعدها الكلية فقد قال تعالى عن القرآن الكريم: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾([30]) ، وقال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾([31]) . فإحاطة أدلة الإسلام  بمختلف جوانب الحياة من المعلوم بالضرورة من الدين([32])، ولكن بقي أن نتعرف على المنهج الذي استوعبت به نصوصه وهي متناهية ما يطرأ من الأحداث والوقائع وهي غير متناهية، لقد فصلت الشريعة القول فيما لا يتغير كمسائل الاعتقاد والأخلاق والعبادات وبعض المعاملات، وأجملت القول فيما يتغير فوضعت له من القواعد الكلية والأصول القطعية ما ينطبق على أجناس الحوادث القائمة في زمن النبوة وما يتجدد منها إلى قيام الساعة.

لقد أمرت - على سبيل المثال - بالشورى وأكدت على سلطة الأمة في تولية حكامها ومحاسبتهم وعزلهم عند الاقتضاء، ولكنها لم تحبسنا في كيفية معينة أو شكل بعينه لتحقيق هذا المبدأ لما ينطوي عليه هذا التحديد من ضيق وحرج، قد رفعه الله عن هذه الأمة  ولم يجعله في هذه الشريعة الخاتمة، فتظل الأمة في إطار التزامها بهذا المبدأ قادرة على أن تبتكر من الأساليب والأشكال ما يحقق هذا المبدأ في أرقى صورة ممكنة، وتبقى قادرة كذلك على مراجعة اجتهادتها في ذلك أولًا بأول، تفاعلًا مع المستجدات، واستفادة من التجارب، ومواكبة لسنة التطور والتجديد التي لا يكاد يخلو منها زمان ولا مكان.

ففي إطار النصوص الجزئية، والمبادئ الكلية، ومن خلال منهج تفصيل ما لا يتغير، وإجمال ما يتغير أحاطت الشريعة بمختلف جوانب الحياة، واستأثرت وحدها بالصلاحية لكل زمان ومكان.

أما فشل الأنظمة الوضعية فدليله الحس والمشاهدة، وما نبأ البروسترويكا وما حدث في أوربا الشرقية ببعيد!!، فكيف يجرؤ بعد ذلك مسلم على القول بأن الدعوة إلى تحكيم الشريعة أو الحل الإسلامي تعد من قبيل التطرف أو التنطع في الدين؟ اللهم غفرًًا.

وإن كان لنا من اعتراض على هذا التعبير (الإسلام هو الحل) فهو أن الإسلام ليس مجرد حل لمشكلاتنا المعاصرة بل هو الدين الذي تعبدنا الله به، والذي ينشأ عن التزامه - فيما ينشأ - أن يكون حلًا لمشكلات حياتنا المعاصرة؛  فنحن لا نقبل على الإسلام لمجرد أنه الحل، بل لأنه الدين الذي تعبدنا الله به، ولم يجعل لعباده طريقًا إلى مرضاته وجنته ولا فرارًا من سخطه وناره إلا من خلاله، ولا يخفى أن هذا المعنى مستصحب لدى من يرفعون هذا الشعار، ولكن قصدنا إلى التنبيه عليه حتى لا يختزل الإسلام في حس من يتحمسون لتطبيقه من العامة في كونه حلًا لهذه المشكلات، ويبهت عندهم الهدف الأول لهذا الدين وهو هداية الخلق إلى الحق وإفراد الله بالعبادة، واستنقاذ العباد من ظلمة الكفر، وعتق رقابهم من النار!.

***

 


التطرف الديني وهدم الشرعية

 يردد كثير من المتطرفين أن تحكيم القوانين الوضعية عمل من أعمال الكفر الأكبر، وأن السبيل الوحيد للخلاص من هذا الكفر هو النبذ الكامل لهذه القوانين، وتخريب النظام القانوني الوضعي برمته لينشأ على أنقاضه النظام الإسلامي الذي يزعمون، متجاهلين أن هذه القوانين الوضعية بما أضيف إليها من أعمال القضاء وشروح فقهاء القانون قد اكتسبت الطابع الوطني عبر هذه المدة الطويلة من التطبيق، وأصبحت ثروة تشريعية هائلة وتمرس بها القضاة فهمًا وتطبيقًا، فكيف يمكن الإطاحة بذلك كله بنزوة  طارئة يتولى كبرها طائفة من المتعجلين، مع ما تفضي إليه هذه المقولة من عدمية مخيفة واختلال كامل يسري في مختلف المرافق العامة  ولا نجد نظيرًا لمثله في دولة من الدول المتحضرة؟.

في البداية يجب أن نقرر أن القوانين الوضعية موضع النزاع هي القوانين المخالفة للشريعة، أي  التي  تحل ما حرم الله أو تحرم ما أحل الله، أو تتناقض تناقضًا جذريًا مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها الكلية.

ولم يقل أحد أن ما وراء ذلك من القوانين الوضعية كأنظمة الإسكان والمرور والصحة تعد بذاتها قوانين كفرية، لأن هذه القوانين تدور في فلك السياسة الشرعية وتنظم أمورًا سكتت عنها الشريعة الإسلامية  وهذه - يكفي بعد الإعلان عن سيادة الشريعة - أن تراجع في ضوء المقاصد العامة للشرع لتهذيب ما يتعارض منها مع هذه المقاصد، وتكتسب بذلك الصفة الإسلامية.

ولكن موضع النزاع يتمثل في هذه القوانين التي تحل حرام الله وتحرم حلاله، وقبل ذلك يتمثل في هذا المنهج الذي يقضي بنقل مصدرية الأحكام من الشريعة الإسلامية إلى القوانين الوضعية ومن الكتاب والسنة إلى ما يسمى بإرادة الأمة  والتحاكم ابتداءً في الدماء والأموال والأعراض إلى غير الإسلام!

 لقد تمهد في محكمات الشريعة أن التحليل والتحريم والتشريع المطلق حق خالص لله جل وعلا وحده فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وأن من نازعه في شيء من ذلك فقد أشرك، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([33])، وقال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾([34]) ، فدلت الآية الأولى على أن إفراد الله بالحكم من عبادته، وأن عبادته وحده هي الدين القيم، وأنكرت الآية الثانية أن يبتغى غيره حكما وهو الذي أنزل الكتاب مفصلًا، وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾([35]) .

وفي تفسيرها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حاتم: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟! قال: فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم!»، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم  إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله، فدل ذلك على أن من عدل عن أمر الله ونهيه إلى أمر غيره ونهيه، والتزم بطاعته دون  طاعة الله ورسوله فقد أشرك، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾([36])، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قال:جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنأكل مما قتلنا ونترك ما قتل الله؟ فأنزل الله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ..... الآية،  فدل ذلك على أن من عدل عن أمر الله وشرعه، وقدم عليه قول غيره فقد أشرك([37]) .

وجماع القول في ذلك أن الخلق والأمر من أجمع صفات الربوبية وأظهر خصائصها، وقد استفاضت النصوص في تفرد الله جل وعلا بهذين الأمرين كما قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾([38])، وقال تعالى على لسان عبده موسى في محاجته لفرعون: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾([39])، وقال تعالى على لسان خليله إبراهيم: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾([40])، وأمر عبده محمدًا أن يسبح باسم ربه الأعلى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾([41])؛ فمن نازع الرب جل وعلا في الأمر كان كمن نازعه في الخلق ولا فرق،  والأمر في لغة الشارع يأتي بمعنيين:

الأول: الأمر الكوني: وهو الذي به يدبر شئون المخلوقات  و به يقول للشيء كن فيكون، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾([42])، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾([43])، والأمر بهذا المعنى لا يملك أحد أن ينازع الله في مثله، لأن الواقع العملي يبهته ويبطل زعمه فما ينبغي له وما يستطيع.

الثاني: الأمر الشرعي: وهو الذي به يفصل الحلال والحرام، الأمر والنهي وسائر الشرائع، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾([44])، والأمر بهذا المعنى هو الذي ادعاه الطواغيت من البشر لأنفسهم على مدار التاريخ، ادعاه فرعون عندما كان يقول لقومه فيما يحكيه عنه القرآن: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ اْلرَّشَادِ﴾([45])، وادعاه الأحبار والرهبان الذين كانوا يحلون لبني إسرائيل ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحل الله فاتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وادعاه الطواغيت من الملوك عندما اقتسموا السلطة مع الكنيسة بعد صراع طويل انتهي إلى هذه الأثنينية فأصبح للكنيسة حق التشريع والحكم في المسائل الدينية، وللملك والدولة حق التشريع والحكم في الأمور المدنية، وتم بذلك الفصل بين الدين والدولة، ثم ادعاه الثوار من رجال الثورة الفرنسية عندما انتزعوا السيادة من كليهما وجعلوها لممثلي الشعب فتمثلت ألوهية التشريع الجديدة في هؤلاء، وأصبح الأمر والنهي والتشريع المطلق بأيديهم يحلون به ما يشاءون ويحرمون به ما يشاءون دون رقابة كنسية أو حريجة دينية، وعن هذه الثورة وهؤلاء الثوار انتقل هذا الأمر إلى كافة الدساتير في البلاد العربية والإسلامية.

وعلى هذا فإن مكمن الخلل في واقعنا المعاصر ليس في مجرد بضعة قوانين مخالفة للشريعة فحسب، ولكنه يكمن أساسًا في هذا المنهج الذي يقرر ابتداء نقل مصدرية الأحكام من الشريعة إلى القانون، وينزع  السيادة عن الشريعة الإسلامية ليسبغها على القوانين الوضعية، ويجرد نصوص الكتاب والسنة من السيادة و الحاكمية ويقرر هذا الحق المطلق للإرادة البشرية وما يصدر عنها عبر المجالس النيابية، الأمر الذي لم تعهده الأمة في تاريخها  كله، والذي يوشك أن يكون ثورة ضد الإسلام، وانقلًابًا ضد النبوة  ومنازعة لله في أخص خصائص الربوبية، الأمر الذي لا يبقى معه مثقال ذرة من توحيد أو إيمان!!.

ومن ناحية  أخرى  فإن أصل الإيمان كما عرفه الصحابة والتابعون، ونقله عنهم أئمة أهل السنة على مدار القرون يتكون من ركنين لا يثبت الإيمان إلا باجتماعهما معًا وهما تصديق الخبر والانقياد للأمر، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم، فلا ينحصر أصل الإيمان في مجرد التصديق كما يتبادر إلى بعض الناس، إذ لو قال رجل لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفره أعظم ممن كذبه ابتداء ولم يقر برسالته، ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نشهد أنك لرسول الله لم يكونوا مسلمين بذلك لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في نفوسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله ولم يقولوا ذلك على سبيل الانقياد للإسلام والانخلاع مما كانوا عليه من الشرك، ولهذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «فلم لا تتبعوني؟»، قالوا: نخاف من يهود؛ فعلم من ذلك أن الإيمان لا يكفي فيه مجرد التصديق الخبري بالتوحيد والرسالة بل لا بد من التصديق الانقيادي المتضمن الالتزام بالشرع واتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به.

نخلص من هذا إلى أن الكفر الأكبر الذي ينتقض به عقد الإيمان: إما أن يرجع إلى خلل في ركن التصديق أو خلل في ركن الانقياد، وعلى هذا الأساس يمكن تفصيل القول في قضية الحكم بغير ما أنزل الله، فإن كان مردها إلى تكذيب الحكم الشرعي أو رده وعدم التزامه فذلك الكفر الأكبر، وإن كان مردها إلى اتباع الهوى في نزوة طارئة وواقعة جزئية مع بقاء الإقرار بما أنزل الله تصديقًا وانقيادًا كانت من جنس الذنوب الكبائر، وصدق عليها ما قاله بعض السلف: كفر دون كفر. وعلى هذا فإن تحكيم القوانين له صورتان: صورة رجل ملتزم بهذه القوانين التزامًا نهائيًا، فهي عنده معيار الشرعية، ومقياس الحق والباطل، وميزان العدل والظلم، لا ينكر عليها مخالفتها لشرع الله، ولا يسعى في تغيير ما تناقض منها مع الدين، ولا يجد في صدره حرجًا من ذلك، فهذه هي صورة الكفر الأكبر المخرج من الملة وإن كان صاحبها مصدقًا بما أنزل الله، وذلك لسقوط ركن الانقياد الذي لا يتم عقد الإيمان إلا به.

والصورة الأخرى  صورة رجل ملتزم بهذه القوانين بمقتضى الضرورة والواقع الذي لا قدرة له على تغييره، ولكنه كاره لمخالفتها للدين، ساع في تغيير ما تناقض منها مع الشريعة حسب وسعه وطاقته، أو كاره لذلك بقلبه ومنكر له بجنانه، فهذا هو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله ولا سبيل إلى تكفيره، إلا أن يأتي بكفر بواح عندنا فيه من الله برهان!

   أما ما نسبته إلى هؤلاء من القول بأن السبيل الوحيد للتخلص من هذا الكفر هو النبذ الكامل لهذه القوانين فهو قول يحتاج إلى تفصيل.

 فإن قصد به التخلص الكامل من القوانين التي تتناقض مع الشريعة كتلك التي تحل الزنا والربا،  وتنظم التعامل في الخمور، وتعطل الحكم بالقصاص والحدود ونحوه، فذلك حق لاستحالة الجمع بين النقيضين كما يقولون.

 أما إن قصد به بقية القوانين الأخرى التي تدور في فلك العفو وما سكتت عنه الشريعة فهذه قد تكون مما تتسع له قواعد السياسة الشرعية بالمعنى الواسع، ولإصلاح الخلل فيها منهجان:

منهج يقضي بإلغائها من الأساس لقيامها من حيث المبدأ على فلسفات وضعية اشتراكية أو ليبرالية، وتعبيرها عن مقاصد هذه الأيديولوجيات، ثم التوجه إلى إقامة بناء تشريعي جديد متكامل يستند في أصوله وفروعه إلى مقاصد الشريعة، ويستلهم مبادئها الكلية في كل ما يتضمنه من قوانين ولوائح([46]). 

ومنهج آخر يقول: يعاد النظر في هذه التشريعات فيُستبقى منها ما ثبت وفاؤه بالمصلحة وملاءمته لمقاصد الشريعة، ويُلغى منها ما ثبت تعارضه مع ذلك.

 إن نقطة البداية في إصلاح هذا الخلل تتمثل في الإعلان عن سيادة الشريعة واعتبارها المشروعية العليا في المجتمع، والإقرار بأن كل ما تعارض معها فهو باطل مهدر.

ثم يكون التوجه بعد ذلك من خلال هذا الإطار إلى إلغاء ما يجب إلغاؤه من هذه القوانين، وتعديل ما يجب تعديله، وإقرار ما يتسنى إقراره، على أن يتم ذلك كله استنادًا إلى سيادة الشريعة، وإقرار الأمة كلها بالخضوع المطلق لأحكامها حكامًا ومحكومين.

أما ما تذكره من التخوف من أن يؤدي ذلك إلى هدم النظام القانوني الوضعي الذي اكتسب الطابع الوطني وألفه القضاة، فلا أدري أيهما كان أكثر توطنًا واستقرارًا في بلادنا: الشريعة الإسلامية التي بقيت ثلاثة عشر قرنًا وتنبع من ديننا الذي به ندين، أم القوانين الوضعية التي وفدت إلينا منذ قرن واحد على يد من وطئت خيولهم الأزهر ونصبوا المشانق في دنشواي، ومكنوا لليهود في فلسطين؟ وكيف نغار على نظام وفد إلينا مع قوافل المستعمرين، ولا نغار على شريعة نزل بها الروح الأمين على قلب سيد الأولين والآخرين؟؟!.

أما ما تذكر من أن هذه القوانين تمثل ثروة تشريعية، فهل تقارن هذه الثروة بما تركه لنا فقهاء الإسلام على مدى ثلاثة عشر قرنًا من الزمان؟ أتقارن شروح القوانين الوضعية بما زخرت به المكتبة الإسلامية من مئات الألوف من كتب الفقه التي لا تزال مبعث إعجاب المتخصصين في الدراسات القانونية في أرقى الجامعات والمراكز العلمية؟ بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الدراسات الفقهية المعاصرة والتي تعني أن وراءها جيشًا جرارًا من المتخصصين يملأ السهل والجبل؟([47]).

أما ما تخافه من اختلال المرافق العامة وبقاء الأمة بلا قانون إذا ما أعلن عن سيادة الشريعة وإلغاء ما يتعارض معها فهو خوف لا مبرر له لأن القوانين البديلة مودعة في أدراج المجالس النيابية منذ سنين طويلة، وقد تمت مناقشتها والتداول حولها من أعلى المؤسسات الدينية والحقوقية، ولم يبق إلا أن يدفع بها إلى التطبيق بقرار تصحح به هذه الأوضاع النكدة التي لم تجن الأمة في ظلها إلا الشقاء والضنك والتخبط!

يؤكد كافة المتطرفين أن وظيفة الدولة من المنظور الإسلامي تتمثل في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وإن حظها من الشرعية بقدر حظها من القيام بهذه الوظيفة، وأن كل تصرف لها خارج هذا الإطار فهو باطل ومنعدم، مع ما تؤدي إليه هذه المقولات من إهدار الشرعية القائمة، وإشاعة الفوضى  وتخريب المجتمع، بالإضافة إلى ما تحمله من الغطاء الشرعي للإرهاب الذي شهدت البلاد مسلسلًا من جرائمه في الآونة الأخيرة. فما مدى صحة هذه المقولات؟ وما تقديرها في ميزان التطرف والاعتدال؟

أما أن  وظيفة الدولة في الإسلام تتمثل في حراسة الدين وسياسة الدنيا به فهذا الذي اتفقت عليه كلمة علماء الإسلام أجمعين. 

ويقول الماوردي في الأحكام السلطانية: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» ([48])، ولم تخرج عبارات سائر ما تكلم في هذه القضية من أهل العلم من هذا الإطار([49]).

أما أن حظها من الشرعية بقدر حظها من القيام بهذه الوظيفة فذلك الحق الذي لا معدل عنه لأن الحجة القاطعة والحكم الأعلى في المجتمع الإسلامي هو الشرع لا غير، ولا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الشارع في طاعته، وفي الحدود التي أذن بها، فلم يجعل الشارع لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة على سبيل الاستقلال، وإنما هي تبع لطاعة الله ورسوله. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ([50])، فأعاد الفعل مع الرسول ولم يعده مع أولي الأمر ليبين أن للرسول صلى الله عليه وسلم طاعة على سبيل الاستقلال، وأما أولوا الأمر فإن طاعتهم تبع لطاعة الله ورسوله، فكانت طاعتهم مقيدة بأن تكون فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة، ولذلك لم يأمر بالرد إليهم عند التنازع وإنما أمر بالرد فقط إلى الكتاب والسنة، ولهذا أكدت النصوص الشرعية على تفرد الله جل وعلا بالطاعة المطلقة، وأنه لا طاعة لأحد في معصيته. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([51]).

أما ما ذكرت من أن هذا يؤدي إلى إهدار الشرعية القائمة، فقد علمت وعلم المسلمون أجمعون أنه لا شرعية إلا لما وافق الشرع؛ فإن كانت الشرعية القائمة موافقة للكتاب والسنة فقد وجبت الطاعة لها ظاهرًا وباطنًا، ولا ينازعها إلا باغ ظلوم، أما إن كانت الشرعية نفسها خارجة على الشرعية، مناقضة للكتاب والسنة، مراغمة لأمر الله  ونهيه، فلا مناص  حينئذ من القول بأن الطاعة لا تكون إلا في الطاعة، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن الحل في  هذه الحالة لا يكون بإلزام الأمة بالطاعة في المعصية، بل بإلزام أولي الأمر بالتقيد بالشرعية الإسلامية، وعدم الخروج على محكمات الكتاب والسنة التي يؤمن بها الجميع حكامًا ومحكومين، أما إن كان المقصود هو التزام الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على الأمر والنهي والكف عن الاحتساب على المنكر إذا أفضى الاحتساب إلى منكر أكبر فقد سبق أن هذا هو الفقه الشرعي الذي يجب التقيد به في باب الأمر والنهي، وأن إغفاله يفضي إلى الوقوع في الشطط والتطرف، فالسعي إلى التغيير يجب أن ينضبط باعتبار المآل، والموازنة بين المصالح والمفاسد لتحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، أما الاعتقاد الشخصي والسلوك الفردي فلا مناص فيه من الالتزام بالشرعية الإسلامية في جميع الأحوال.

وأما ما أشرت إليه من حوادث العنف التي ترتبت على إهدار الشرعية القائمة فإن التصدي لذلك له شقان: شق يتعلق بالقائمين على الأمر، ويتمثل في دعوتهم إلى الالتزام بالشرعية الإسلامية التي يدين لها الجميع بالولاء والطاعة، فلا يكون لهذه الحوادث يومئذ مبرر، ولا لأصحابها حظ من الشرعية، والشق الثاني يتعلق بمن تنسب إليهم هذه الحركات ويتمثل في دعوتهم إلى الالتزام بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم تجاوز القواعد الشرعية الضابطة لهذه الفريضة حتى تحقق أعمالهم غاياتها في إحياء واجب الحسبة والجهاد، ولا تخرج إلى دائرة الشطط والتطرف، وهذا لا يتأتى من خلال دعاة عرفوا بوقوفهم على أبواب السلاطين، بل من خلال من عرفوا بالصدع بكلمة الحق من العلماء الربانيين والدعاة المجاهدين.

   فدعوة أولي الأمر إلى الالتزام بالشرعية الإسلامية، ودعوة القائمين بهذه الحوادث إلى الالتزام بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقيد بقواعده الشرعية هو المخرج من هذه الفتن، ولا يكون المخرج أبدًا بإطلاق القول بشرعية الأنظمة الوضعية، ووجوب الطاعة المطلقة لها في الطاعة والمعصية، فإن هذا الذي لا سبيل إلى قبوله في واقعنا المعاصر، وقد نضجت المفاهيم الإسلامية، وأصبحت الأمة على بصيرة من أمرها، وعلى وعي مرتفع بحقائق دينها وبأباطيل خصومه.

***

 

 


التطرف والحريات

ينازع عامة المتطرفين في إطلاق الحريات العامة التي كفلتها للإنسان كافة المواثيق الدولية، ويقررون أنه لا حرية إلا فيما وافق الشرع، وإن التزام الدولة بحماية الموروثات الدينية أسبق من التزامها بإطلاق الحريات الشخصية، يريدون أن يفرضوا بذلك وصاية على الشعب باسم الدين، وأن يصادروا حق الإنسان  في ممارسة حياته كما يشاء، رغم ما حفظته لنا كتب التاريخ من قول عمر بن الخطاب لواليه على مصر عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!».

لا منازعة في أن حرية الإنسان  مقدسة كحياته سواء،  وأنها الصفة الطبيعية التي  يولد بها الإنسان  كما قال الفاروق - رضي الله عنه -: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!»، وأنه يجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد حتى لا يعبث بها عابث، أو ينتهكها ظلوم، وأنه لا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة و بالإجراءات التي  تقررها.

إلا أن هذه الحرية لا تعني خلع الربقة وإسقاط التكاليف الشرعية، والتمرد على سلطان الشريعة فإن هذا نوع من التخريب لا تقره شريعة إسلامية ولا قانون وضعي.

إن جميع الدساتير في أكثر دول العالم تحضرًا وتحررًا تنص على إطلاق حرية الأفراد في ممارسة حرياتهم في حدود القانون، فالتقيد بالقانون أمر منصوص عليه في كافة الدساتير، ولما كان القانون في الإسلام هو هذه الشريعة المطهرة فإن تقييد حق الأفراد في ممارسة حرياتهم بأن تكون في حدود الشريعة يصبح أمرًا طبيعيًا بديهيًا موافقًا لما يجري عليه العمل في دول العالم أجمع!.

إن الحرية التي تحميها الدولة الإسلامية ليست هي حرية الزنا والربا والدعارة والشذوذ الجنسي وتعاطي الخمور، وليست هي حرية الكفر والطعن في المقدسات، وليست هي إشاعة الفاحشة والدعوة إلى الرذيلة والعودة بالأمة إلى الجاهلية الأولى، فإن كانت هذه هي الحرية التي تتباكى عليها أيها الصديق فلا مكان لمثلها في دار الإسلام، وخير لمن ينشدها أن ينفصل عن جماعة المسلمين، وأن يخلع ربقة الإسلام من عنقه، وأمامه ديار الكفر بعد ذلك يخوض فيها ويلعب كما يشاء، وسيُردُّ على ربه يومًا من الدهر فيعلم!! ويقف بين يديه ليقال له ما يقال لكل من طغى وآثر الحياة الدنيا: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾([52]).

 هل يعني هذا مصادرة كافة الفنون في الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، وانعدام كافة وسائل الترويح عن النفس بحيث لا يرى الناس فيها إلا مقطبين وعابسين: نهارهم صوم وعمل، وليلهم رهبنة وتبتل، فإن بقيت عندهم فسحة من الوقت أمضوها في زيارة القبور استعدادًا للموت قبل نزول الموت؟ هل هذه هي الدولة التي يبشر بها المتطرفون؟

لن تنعدم كافة الفنون في الدولة الإسلامية، ولن يصادر حق الناس في الترويح عن أنفسهم ساعة وساعة، ولن ترى فيها الوجوه مكفهرة ولن يرى الناس فيها يتدافعون إلى القبور بالغدو والآصال أسرابًا إثر أسراب كما تتوهم أيها الصديق، فإن هذه الصورة التراجيدية لا وجود لها إلا في وهمك، ولا أثر لها إلا في خيالك، فإن الإسلام الذي سمح للحبشة أن يلعبوا بالحراب في مسجد رسول - الله صلى الله عليه وسلم  -  وسمح لأم المؤمنين عائشة بالنظر إليهم وهي محمولة على عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمر بالغناء في الأفراح، وجعل فصل ما بين الحلال والحرام الصوت وضرب الدف، والذي أقر جاريتين من جواري الأنصار على الغناء في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى أبا بكر عن التعرض لهن، لا يمكن أن يكون مجتمعه مجتمع الوجوه التي تعلوها غبرة وترهقها قترة!!.

إن الإسلام لم يصادر النزوع الفطري للنفس البشرية إلى طلب شيء من الترويح حتى لا تكل، لكنه هذب هذه الرغبة وارتقى بها وصانها عن أن تكون سكرًا وعربدة وإدمانًا وفجورًا على النحو الذي شقيت وتشقى به المجتمعات الجاهلية في كل زمان ومكان؛ ففي إطار الضوابط الشرعية يستطيع طالب المتعة البريئة أن يجد له متسعًا ومكانًا رحبًا لا حرج فيه ولا تثريب على صاحبه، وإن شئت فصلت لك القول في ذلك تفصيلًا، أما عبدة الأهواء والشهوات من عشاق المتعة الحرام وطلاب الخنا والموبقات،  والذين يتوارى فحيح رغباتهم الأثيمة تحت ستار الفن وشعار التحضر والتحرر، فهؤلاء لا سبيل إلى انقياد المجتمع المسلم وراء أهوائهم الجامحة، وليس على هذا المجتمع من حرج إن هو حال بينهم وبين ما يشتهون، حماية لهم ولأمثالهم من شيطان الجسد الرابض وراء جلودهم، ثم أخذ يجادلهم بالتي هي أحسن، ويدعوهم إلى الطهر بالحكمة والموعظة الحسنة لعلهم يثوبون يومًا!.

***

 


لا وصاية على الأمة

 يقودنا هذا إلى الحديث عما يلجأ إليه شباب هذه الجماعات المتطرفة من بسط وصايته على الآخرين، وفرض آرائهم الدينية بالعنف تحت شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أمهات الفرائض في الإسلام، بل هو القطب الأعظم في الدين والفريضة التي ابتعث الله بها النبيين أجمعين، بإقامته على وجهه كما أمر الله استحقت هذه الأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾([53])، وبإضاعته استحق بنو إسرائيل اللعنة على لسان الأنبياء، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾([54])،وفي الحديث الوارد في تفسير هذه الآية عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل  على لسان داود وعيسى بن مريم﴾... إلى قوله: ﴿فاسقون﴾، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر  ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا أو تقصرنه على الحق قصرًا»([55]).

وعلى هذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس محاولة من الآمر بسط وصايته على الناس، أو فرض آرائه على الآخرين، ولكنه ولاية شرعية متبادلة بين المؤمنين، يخاطب بها أعلاهم أدناهم،  ويجدع بها أدناهم أنف أعلاهم، والذي يقوم بها لا يفرض وصاية ولا يمارس إرهابًا، وإنما هو قائم بأمر الله، وناصر لشعائر الله على أن يلتزم في أمره ونهيه بالضوابط الشرعية وألا يجر إنكاره إلى منكر أكبر.

ولكن الأمر والنهي من أعمال السيادة التي تمارسها الدولة في الإسلام، ولا سبيل لآحاد الناس إليها و إلا لتقاتل الناس و لعدا بعضهم على بعض؟!.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»([56])، فهل التغيير بالقلب أو باللسان لا يكون إلا من السلطة الحاكمة باعتباره عملًا من أعمال السيادة؟!

لم أقصد التغيير بالقلب أو باللسان فإن هذا يمكن أن يكون للكافة، ولكن منازعتي في التغيير باليد الذي يعني بلغتنا المعاصرة الإرهاب وفرض الوصاية على الآخرين بالعنف.

الأصل في التغيير باليد أنه منوط بالسلطة العامة لأنه يحتاج إلى شوكة ومنعة قل أن تتوفر لغيرها، ولأنه إذا جاء التغيير باليد من جهتها لا يؤدي ذلك إلى فتن وتقاتل إذ لا طاقة لفرد أو لأفراد مهما بلغوا من القوة أن يقفوا لقوة الدولة، ولأنها قبل ذلك مسئولة بحكم ما أنيط بها من الولاية على الناس على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولم تعقد لها البيعة إلا على هذا الأساس، فإن أخلت بذلك فإن شرعية حكمها من الأساس تكون في مهب الرياح!.

ولهذا كانت ولاية الحسبة إحدى الولايات الدينية في الدولة الإسلامية، فيتعين على ولي الأمر أن ينصب المحتسبين الذين يأمرون بالمعروف متى ظهر تركه، وينهون عن المنكر متى ظهر فعله، ويستظهرون على ذلك بقوة النظام والسلطان، باعتبارهما جزءًا من سلطة الدولة،  وولاية من ولاياتها العامة.

ولكن إذا ضيع أولوا الأمر هذه الفريضة وفشت المنكرات في الأمة، وطغى أهلها في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فهل تكف أيدي الرعية عن القيام بهذا الواجب وقد أضاعه السلطان وأعوانه؟!

إن النصوص التي جاءت في هذا الباب عامة: «من رأى  منكم منكرًا فليغيره» وإلى القول بعمومها ذهب جمهور أهل العلم، إلا أن القيد الوحيد الذي يرد على ذلك ألا يفضي الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك فقد تعين الكف لما في ذلك من المفسدة الراجحة([57]). 

فالقيد الوحيد المعتبر في هذا المقام هو الحذر من أن يفضي الاحتساب إلى فتن وتقاتل وشهر سلاح ونحوه، فإن هذه هي الفتن التي ينبغي أن يجنب المجتمع شرورها، أما ما وراء ذلك فإن الأمر والنهي بشرائطه الشرعية حق بل وواجب على الكافة.

 وماذا عن هذه الشرائط أو القواعد الضابطة لأداء هذه الفريضة؟

لكي تبقى هذه الفريضة في إطار الشرعية يجب مراعاة جملة من القواعد نذكر منها:

1- تجنب الإنكار في المسائل الاجتهادية: فقد اتفق أهل العلم على أن مجاري الاجتهاد لا تدخل في المنكرات المشار إليها في قوله صلى الله علـيه وســلم: «من رأى  منكم منكرًا فليغيره بيده»، نعم يتكلم فيها مع المخالف بالبينات والحجج العلمية، ولكنها لا تنكر باليد، ولا يقدح بها في دين أحد أو في عدالته، وقد أشار إلى هذا المعنى عدد كبير من أهل العلم نذكر منهم الغزالي وابن تيمية والنووي والسيوطي وآخرين([58]). 

2- اعتبار المآل والتحقق من غلبة المصلحة: فلقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم، لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، فالمقصود إذن باعتبار المآل ألا يفضي الأمر أو النهي إلى مفسدة أعظم هي أسخط لله من مفسدة إضاعة هذا المعروف أو التلبس بهذا المنكر، وذلك لما تمهد في الأصول من أن مبنى الشريعة تحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين عند التعارض، وقد سبقت الإشارة إلى نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل عبد الله بن أبي بن سلول حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ونهيه سبحانه وتعالى عن سب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عدوًا بغير علم، وامتناعه صلى الله عليه وسلم من إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم لأن الناس كانوا حديثي عهد بجاهلية.

ولهذا يجب الكف عن الاحتساب إذا أدى إلى التقابل، وتحريك الفتنة بالمقاتلة، لأن هذا التقابل وتلك المقاتلة أنكر من كل منكر وأعظم من كل مفسدة، وقد نص على ذلك عدد كبير من أهل العلم نذكر منهم: ابن العربي في تعليقه على حديث «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»، والقاضي عياض والجويني وغيرهم([59]). 

وهذه القاعدة من آكد الأمور التي يجب الانتباه إليها في واقعنا المعاصر.

3- مشروعية الترخص عند الخوف من الأذى ووجوبه إذا امتد هذا الأذى إلى الغير: فإن القدرة التي هي مناط التكليف بهذا الواجب لا تنتقض بالعجز الحسي فحسب بل تنتقض كذلك بالخوف من المكاره التي تلحق المحتسب في بدنه أو ماله، فإن خشي أن يتعرض لما لا طاقة له به من البلاء شرع له الترخص، ووسعه الانتقال إلى درجة أخرى من درجات التغيير لا يتعرض معها إلى هذا البلاء.

 فهل نفهم من ذلك عدم مشروعية أعمال العنف التي يقوم بها هؤلاء المتطرفون نظرًا لما يتعرضون له بسببها من الاعتقالات والتعذيب ونحوه؟ بحيث يمكن اعتبارها نوعًا من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة؟

يجب أن نفرق في هذا المقام بين الأذى الذي يلحق المحتسب في خاصة نفسه وبين امتداد هذا الأذى إلى غيره من أهله أو جيرانه ونحوه:

 فبالنسبة لما يصيبه من الأذى في خاصة نفسه؛ فإذا آنس في نفسه قدرة على تحمل هذا البلاء، وكان لأمره ونهيه تأثير في دفع منكر أو تقليل درجته أو تقوية قلوب أهل الدين شرع له الاحتساب،  وكتبت له فضيلة الصابرين المجاهدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»([60])، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»([61]).

 أما إذا خشي امتداد الأذى إلى غيره فقد تعين عليه الكف في هذه الحالة، إلا إذا رضي هذا المتضرر بذلك، لأن للإنسان  أن يسامح في حقوق نفسه وليس له أن يسامح في حقوق الآخرين([62]).

ويجب التنبه إلى أن الأذى الخفيف بنحو السب والشتم وغيره لا يعد في نظر كثير من أهل العلم مانعًا يمنع من الاحتساب، ولا يعتبر عذرًا يسقط التكليف بهذا الواجب الذي لا ينفك بطبيعته عن شيء من الأذى، ولهذا يأتي الأمر بالصبر دائما عقب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمـَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمـُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ﴾([63]).

إذا علم القائم بهذا الواجب أنه لا أثر لفعله من ناحية، وأنه يناله الأذى الجسيم من ناحية أخرى، فهل يلغي عقله ويصر على المضي في هذه المهمة المستحيلة والصفقة الخاسرة؟!.

- بطبيعة الحال ليس له أن يغلق عينه، ولا أن يلغي عقله، بل إن غلب على ظنه عدم جدوى فعله من ناحية وتعرضه للأذى الجسيم من ناحية أخرى تعين عليه الامتناع في هذه الحالة، حيث يصبح العمل عبثًا لا طائل تحته، وقد أشار إلى هذا المعنى الغزالي في الإحياء فقال: «يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إن رأى  فاسقًا متغلبًا، وعنده سيف وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته، فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهًا، وهو عين الهلاك، فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثرًا ويفديه بنفسه، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له،  بل ينبغي أن يكون حرامًا، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على تغيير المنكر أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفاقه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة في شيء»([64]).

يبقى بعد هذا كله أن روح العصر لم تعد تقبل التدخل في حريات الآخرين بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو بأي حجة أخرى، إن الحرية يا سيدي أثمن ما حصل عليه الإنسان  من المكاسب بعد صراعه الطويل مع قوى الاستبداد السياسي،فكيف يقبل التضحية بها بهذه السهولة؟!، وكيف يستسيغ عقله وقلبه أن تفرض عليه وصاية من قبل إنسان  مثله ربما كان زميلًا له ؛ بل ربما كان مرؤوسًا له أو رجلًا من عامة الناس؟! إن صراع الإنسان من أجل تحرير حقوقه من قبضة الطغاة والذي توج بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان  قد أضاف إلى الفكر البشري مفاهيم جديـدة عن التحرر والمساواة وهي مفاهيم حضارية بكل المقاييس، وقد وقعت عليها جميع الدول، وانعقد عليها إجماع المجتمع الدولي، وصارت علامة مضيئة في تاريخ الحضارة البشرية فكيف يمكن التضحية بذلك كله بسهولة؟!

ليس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصاية من أحد من البشر على أحد، وإنما هي وصاية الشريعة على المؤمنين بها، فمن رضي بالإسلام دينًا فقد رضي بإقامة شريعته، والتزم بعدم إظهار مخالفتها في دار الإسلام، فإن جاهر بمخالفتها بعد ذلك كانت الأمة كلها عيارًا عليه حتى يفيء إلى الحق الذي التزم به طائعا مختارًا يوم أن رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا.

ألسنا نعلن جميعًا عبوديتنا لله الواحد الأحد؟ أليس مقتضى هذه العبودية التزام الطاعة لأمره ونهيه؟ هل أكرهنا على هذا الالتزام أحد من البشر؟ ألم نعلن جميعًا بمقتضى إيماننا بالله ورسوله أننا مدينون بشرعه كما أننا مدينون بقدره؟ إذا كنا قد أقررنا بذلك، فلنعلم أن من أمر الله ونهيه بل من جوامع أمره ونهيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالمعروف متى ظهر تركه والنهي عن المنكر متى ظهر فعله،  ولنعلم أيضًا أن الله الذي نعبده هو الذي أعطى هذا الحق للمسلمين جميعًا في إطار ضوابط معينة ليأخذ بعضهم بحجز بعض ويقي بعضهم بعضًا التعرض لمساخط الله والتقحم في نيرانه، ولقد ضرب نبينا صلى الله عليه وسلم لذلك مثلًا بقوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا صعدوا إلى أعلى ليجتلبوا الماء ومروا على من فوقهم، فقال بعضهم لبعض لو خرقنا في نصيبنا خرقًا فنستقي منه ولا نؤذي من فوقنا فلو تركوهم يفعلون لغرقوا جميعًا ولو ضربوا على أيديهم ومنعوهم من ذلك  لنجوا  ونجوا جميعًا([65]).

 فالمجتمع المسلم عندما يقف بشرع الله في وجه من يجاهر بخروجه على هذا الشرع فإنه يبقي على نفسه وعلى هذا المخالف، فيوقي الجميع شؤم هذه المعصية في الدنيا والآخرة، وإن هو فرط في ذلك ذاعت المعصية وهانت، واجترأ الناس على المزيد، فتنقض عرى الإسلام في هذا المجتمع عروة عروة، ويستجلب أهله على أنفسهم شقاء الدنيا والآخرة. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه»([66]).

أما ما ذكرت من عدم قبول روح العصر لمنطق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمتى كانت روح العصر حاكمة على الشريعة؟ ومتى كانت مصدرًا من مصادر التشريع؟ إن روح العصر التي تتحدث عنها والتي تقول أنها لا تقبل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد قبلت بخروج النساء كاسيات عاريات، وقد قبلت بإطلاق الحق في الزنا للبالغات، وقد قبلت بتعاطي الخمور والمسكرات، بل قبلت بالشذوذ الجنسي وأصبحت إباحته قانونًا ساريًا في بعض المجتمعات، أفبعد ذلك تكون هذه الروح موضع اعتبار المسلم ومصدرًا من مصادر إلهامه يعطل بها الواجبات وينسخ بها الشرائع؟! ألا ما أشد غفلتنا أيها الصديق العزيز!!

أما ما ذكرت من حقوق الإنسان  وما صدر من الإعلان العالمي لحقوقه والذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 م، فلن يبلغ هؤلاء من الرعاية بالإنسان مبلغ خالق الإنسان الذي خلقه فسواه والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فقد تقطعت الوثائق قديمها وحديثها دون أن تبلغ معشار ما قرره الإسلام في هذا المجال، لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم على سفوح عرفات يوم الحج الأكبر ليعلن على الأمة أول وثيقة تتضمن هذه الحقوق فكان مما قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه»، وتحدث بأبي هو وأمي عن حرمة الدماء  والأموال والأعراض وتحدث عن الأمانة وحقوق النساء وحرمة الظلم، والتفريق بين المسلمين، وهكذا رفع الإسلام هذه الحقوق إلى مستوى الحرمات، وصانها بالحدود والواجبات، وجعل حقوق العباد لا تسقط بالتوبة، ولا تبرأ الذمة منها إلا بردها أو عفو أصحابها، وجعل حرمة الإنسان  أعظم من حرمة بيت الله الحرام!!.

ولقد حمى هذه الحقوق بحماية الله لها لأن لكل ملك حمى وإن حمى الله في أرضه محارمه،  وبحماية الضمير الذي يقف حارسًا إذا غاب الحراس، ويحول دون المساس بها وإن غفلت عيون الرقباء، ثم بحماية المجتمع الإسلامي ثانيًا الذي أوجب عليه التكافل لنصر المظلوم والضرب على يد الظالم ؛ وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»([67])،  وبحماية الدولة بما تقيمه من الحدود والعقوبات الشرعية التي جعلها الله حماية لهذه  الحقوق أو لهذه الحرمات.

هذا هو قبس من حقوق الإنسان في الإسلام، لكنها تدور جميعًا في فلك العبودية لله، لا تخلع فيها ربقة الإسلام باسم الحرية، ولا يتحلل فيها من التكاليف الشرعية باسم المدنية، ولا تهدم فيها الفضيلة من أجل الأهواء والنزوات البشرية، ولا تخرب فيها الآخرة من أجل عمارة الدنيا، إنه التكامل المدهش بين الدين والدنيا والتقابل المعجز بين الحقوق والواجبات في تناسق منقطع النظير!.

فإذا وليت وجهك شطر الدعوات الأرضية التي تبنت المطالبة بحقوق الإنسان  وجدت الفصام النكد بين الدنيا والآخرة، ووجدت الفصل الممقوت بين الدين والدنيا في كل ما يسطرون؛ لقد خلع هؤلاء القوم ربقة العبودية لله، وأطلقوا العنان للأهواء والشهوات، ولم يستهدوا بنور الوحي فيما يقررونه من الحقوق والواجبات، فكان لزامًا على المسلم أن يتعامل مع هذه البيانات بحذر، وأن يردها إلى النور الذي بين يديه، والميزان الذي جعله الله قائمًا بالقسط لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيقبل منها ما يجيزه الشارع المعصوم ويرد منها ما خالفه.

       ومن ناحية أخرى فإنني أتساءل أيها العزيز: هل احترمت تلك الدول هذه الحقوق وصانت هذه المواثيق؟!، هل سمعت عن الذين يموتون جوعًا في إفريقيا بينما تُلقى الحبوب الغذائية في البحار في أمريكا، وتقتل الحيوانات بالرصاص في أوربا، حتى لا يهبط سعر هذه السلعة، بدلًا من أن يفيضوا منها على هؤلاء الجياع؟!، هل سمعت بالذي جرى ويجري على أرض فلسطين ولبنان وغيرها من إبادة جماعية تحت سمع وبصر ومباركة دعاة الحرية والمدافعين عن  حقوق الإنسان؟! إن المبادئ في هذه الدول تتبدل كلما تبدلت مواقع المصلحة تمامًا كما تتبدل الأحذية والجوارب وغيرها من السلع  الاستهلاكية التي لم تصنع إلا لتستهلك وتبدل دونما حريجة ولا حياء، أسمعت بمقال هذا الشاعر المكلوم الذي هالته هذه المتناقضات فأنشد يقول:

فقتل فـرد واحــــد     جريمـــة لا تغتفـــــر

وقتل شعـب كامــل    مسـألة فيهــا نظـــر؟! 

   ألا ما أشبه هؤلاء في هذه المسألة بمن استحلوا دم الحسين رضي الله عنه، وراحوا يتورعون عن دماء البراغيث، ويسألون عن حكم المحرم إذا قتل ذبابة!! مع الفارق الشاسع بين الفريقين، إن هؤلاء الأوائل فعلوا ما فعلوا بنوع تأويل، أما هؤلاء المعاصرون فليس لهم من تأويل إلا أن الدين الوحيد عندهم هو المصلحة، والمعبود الوحيد لديهم هو الدولار!!.

والخلاصة أيها العزيز أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فيه وصاية من أحد على أحد، لأن الذي جعل المعروف معروفًا وأوجب الأمر به هو الله، والذي جعل المنكر منكرًا وأوجب النهي عنه هو الله، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يدعوك لرأيه، ولا يعبدك  لاجتهاده، وإنما يدعوك إلى الله، ويأمرك بما أمر به الله، وينهاك عما ينهى عنه الله، وهو في ذلك كله قائم بأمر الله، ليس له من الأمر من شيء، وإنما هو ممتثل لأمر الله قائم بما أوجبه عليه من الأمر والنهي، ولعل هذا بعض الحكمة في كون الأمر والنهي لا يكون إلا في مواضع الإجماع التي لا يتمارى فيها المجتهدون، والتي تمثل الشرع المحكم الذي يقطع فيه بأنه حكم الله، وتسل سيوف المجاهدين لنصرته، ولا منازعة  فيه ولا مماراة، أما مواضع الاجتهاد فهي كما سبق تخرج من هذه الدائرة حتى لا تكون فيها شبهة الوصاية أو فرض الرأي الاجتهادي على الآخرين على النحو الذي  ذكرت أيها العزيز.

***

 

 


التطرف والتكفير

 يشيع في قاموس المتطرفين في هذه الأيام ألفاظ الكفر والردة، ويجري استخدامها بغير ضوابط حتى أصبحوا يطلقونها على جماهير المسلمين، في الوقت الذي نعلم فيه ويعلم فيه سائر الناس أن التكفير سلطة إلهية بحتة، وأنه لا يملك أحد من الناس أن يكفر مسلمًا نطق بالشهادتين بحال من الأحوال، لأن الكفر لا يكون إلا بإنكار القلب ولا سبيل إلى الاطلاع على ما انطوت عليه القلوب، فكيف يدعي هؤلاء علم الغيب، و يتجرءون على حق من حقوق الله عز وجل، في الوقت الذي يزايدون فيه على الدعوة إلى التوحيد، ويتهمون الناس بالجهل بالعقيدة؟ أليسوا هم الجاهلين المعتدين؟

لقد خلطت في سؤالك بين قضيتين: إحداهما حق والأخرى باطلة.

أما الحق: فهي إنكارك على من يطلق الكفر على جماهير المسلمين بغير سلطان من الله، ونحن أول المنكرين على هؤلاء، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسارع في التكفير بغير بينة وحجة قاطعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن قذف مؤمنًا بكفر فهو كقتله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك»([68])، ولكن بقي أن تعلم أن هؤلاء في محيط العمل الإسلامي قلة شاذة، وإن حاول الإعلام الظلوم أن يركز عليهم أضواءه ليجعل منهم واجهة التيار الإسلامي كله، وذلك في مسلسل هجومه على دعاة الإسلام واستعدائه على حملة الشريعة، ومهما كان أمر هؤلاء من قلة أو كثرة فإن التكفير يجب أن ينضبط بالضوابط  الشرعية، وأن يتريث في أمره إلى آخر مدى، وقد قال الغزالي في فيصل التفرقة: «ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلًا، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد»([69]).

أما القضية الباطلة فهي ما ذكرت من أن من نطق بالشهادتين فلا سبيل إلى تكفيره بحال لأن التكفير سلطة إلهية بحتة لارتباطه بعمل القلب الذي لا يطلع عليه إلا الله، بل أن هذه المقولة توشك أن تكون إنكارًا لمعلوم من الدين بالضرورة.

كيف وهي الأمر الذي نسمعه من مشايخنا، وتنشره مختلف وسائل الإعلام تحت سمع وبصر العلماء والفقهاء والمتخصصين ؟

أخشى أن تكون قد أسأت الفهم أيها العزيز، إذ لا يمكن لأحد من أهل العلم أن يقر بما تقول مهما بلغت قلة بضاعته من العلوم الشرعية، إنك تقرر أن الكفر عمل القلب فلا سبيل للحكم به على أحد، وهذا يقابل بأن نقيض الكفر وهو الإيمان عمل من أعمال القلب كذلك فلا سبيل إذن للحكم به بدوره على أحد،  فهل تقبل أن تمتنع من الحكم بالإيمان على أحد من المسلمين؟ فإن قلت إنما أحكم بظاهر الإسلام والإيمان بناء على ما يأتيه المسلم من أعمال الإسلام الظاهرة قلنا لك: وكذلك الكفر فيجب عليك أن تحكم بظاهر الكفر بناء على ما يأتيه  الكافر من أعمال الكفر الظاهرة  وتكل الأمر في سريرتهما إلى الله، وإلا فكيف تحكم بالإسلام والإيمان بظاهر من العمل، ولا تحكم بالكفر والشرك بظاهر من العمل كذلك؟ أليس هذا محض التفريق بين المتماثلين وهو نقيض ما استقر في الفطر والعقول؟.

فإن قلت إن الله قد جعل أعمال الإسلام دليلًا على الإسلام، قلنا وكذلك قد جعل أعمال الكفر دليلًا على الكفر، فإن كان قد جعل النطق بالشهادتين علامة على الإسلام، فقد جعل سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء بالمصحف أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة أورد شيء مما أنزل الله علامة على الكفر، فلماذا فرقت بين المتماثلين، وحكمت بالإسلام بناء على الأولى ولم تحكم بالكفر بناء على الثانية؟!.

أما قولك إن التكفير سلطة إلهية فبذلك نقول، ولكننا نضيف أيضا أن الحكم بالإسلام سلطة  إلهية كذلك فلا يجوز أن تشهد لأحد بالإسلام أو تشهد عليه بالكفر إلا وفق أحكام الله عز وجل وطبقًا لما بينه من شروط وقواعد، فلا نكفر أحدًا بغير برهان، ولا نشهد بإسلام أحد بغير برهان، وإن الذي ينطبق على الأولى ينطبق على الثانية ولا فرق، فالذي يحدد ضوابط الإسلام والكفر إنما هو الشرع لا غير، ولا مدخل في ذلك لأحد من البشر، وهذا هو المعنى الصحيح لقولنا: إن الشهادة بالإسلام أو الكفر حكم شرعي بحت لا مدخل فيه للأهواء البشرية،  وإنما يجب أن يكون كل منهما وفقًا لما أنزل الله.

فالصواب إذن أن يقال: إن الكفر ظاهر وباطن كما أن الإسلام ظاهر وباطن، وإن كان لا سبيل لنا في الدنيا للإطلاع على باطن أحد من الناس فإن الشريعة قد جعلت الظاهر علامة على الباطن، فإن كان القلب عامرًا بالإيمان انعكس ذلك على الجوارح بالاستقامة، إلا إذا حال دون ذلك عارض من إكراه ونحوه، وإن كان الباطن فاسدًا كان الظاهر فاسدًا بحسبه، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ودليله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له بدوره تأثير على ما في القلب،  فكل منهما يؤثر في الآخر، وحسبك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([70])، وعلى هذا فكما نستدل بظاهر أعمال الإسلام على ثبوت الإسلام ونحكم به نستدل بظاهر أعمال الكفر على ثبوت الكفر ونحكم به، ولا يتم الحكم بهذا أو ذاك إلا وفق النصوص الشرعية القطعية، ولا مدخل في ذلك لاجتهادات العقول ولا لنـزعات الأهواء.

ومن ناحية أخرى فإن النصوص الشرعية قد تكلمت عن الردة وقررت لها أحكامًا، وجميع كتب الفقه في جميع المذاهب المعتمدة وغير المعتمدة تكلمت عن الردة وأفردت لها أبوابًا وقررت لها أحكامًا، وفي التاريخ  الإسلامي جرت حروب الردة أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وانعقد عليها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فكيف حجبت عن هذا كله أو تجاهلته بفلسفة متهافتة لا تصمد أمام أي مناقشة؟!.

 وإني سائلك سؤالًا أيها العزيز أرجو أن تحسن التدبر في منطوقه ومفهومه، ما تقول في رجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو داس المصحف بقدمه عمدًا وهو يعلم، أو كذب بسورة من سور القرآن، أو أنكر يوم القيامة، وآمن بتناسخ الأرواح، أو قال إن القرآن من صنع  محمد، أو آمن بنبوة مرزا غلام أحمد كنبي بعث بعد محمد صلى الله عليه وسلم كما يعتقد بذلك القاديانية، أو طالب بإلغاء فريضة الصوم لأنها تعطل من الإنتاج، أو طالب بنقل الحج إلى الإسكندرية ليستمتع الناس بالطقس المعتدل والنسيم العليل، أو دعا إلى نقل صلاة الجمعة إلى الأحد ليستمتع الناس بالعبادة في إجازتهم الأسبوعية، أو دعا إلى تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة أسوة بتعدد الزوجات بالنسبة للرجل؟، ما تقول فيمن اعتقد أو فعل أو دعا إلى شيء من ذلك أيها العزيز؟

إن قلت أنه لا يزال على الإسلام فقد كابرت الحجة والمنطق والواقع  والتاريخ، وإن قلت إنه كافر فقد لزمتك الحجة ووجب عليك الإقرار بأن الكفر ظاهر وباطن، و أنه كما نستدل بظاهر أعمال الإسلام على ثبوت عقد الإسلام نستدل بظاهر أعمال الكفر على ثبوت حكم الكفر، وإلا فهو التناقض الذي لا مخلص منه!.

  يرى فريق من المتطرفين أن الإصرار على المعصية كفر أكبر يخرج صاحبه من الملة، ويرتبون على ذلك تكفير كثير من العامة لما يرونه من تماديهم على بعض المعاصي وعدم إقلاعهم عنها، فما مدى دقة هذه المقولة؟ وأين موقعها من التطرف أو الاعتدال؟

هذه المقولة من مقولات أهل البدع، ولم يقل بها عبر التاريخ فيما نعلم غير الخوارج، وقد حمى الله أهل السنة والجماعة من الوقوع في هذه المقالات الغالية، فقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن المعاصي من أمور الجاهلية ولا يكفر فاعلها بارتكابها أو الإصرار عليها إلا إذا استحلها، وأن أصحاب الكبائر في مشيئة الله إن شاء الله  تعالى عذبهم وإن شاء غفر لهم، ومن أدلتهم على ذلك:

أولًا: تفريق الشريعة بين  الشرك والكفر من ناحية،  وبين بقية الذنوب من ناحية أخرى،  وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾([71])، ففرقت الآية بين الشرك وبين ما دونه من المعاصي، وقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾([72])، ففرقت بين الكفر من ناحية وبين الفسوق والعصيان من ناحية أخرى، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾([73])، وشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: «و أينا لم يظلم نفسه؟»؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ليس كما تظنون إنما هو الشرك،ألم تسمعوا قول لقمان لابنه : ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾»([74])، ففرق صلى الله عليه وسلم بين الشرك الذي هو أعظم الظلم وبين ما دونه من المعاصي التي يظلم بها الإنسان  نفسه، لكنها لا تخرجه من الملة ولا توجب له الخلود في النار، وصحح لأصحابه ما فهموه من هذه الآية على غير وجهه.

ثانيًا: تفريق الشريعة بين العقوبة المقررة للكفر والردة وبين العقوبات المقررة للمعاصي، فجعلت للكفر حدًا واحدًا هو القتل «من بدل دينه فاقتلوه»([75])، وفاوتت بين عقوبات المعاصي من القطع إلى الجلد إلى الرجم إلى القتل إلى التعزير بحسب نوعها، ولو كان الجميع في مرتبة واحدة، وكانت المعاصي كلها من قبيل الردة لما فرقت بينها هذا التفريق، و لانطبق عليها جميعًا حد الردة بلا استثناء.

ثالثًا: أحاديث الشفاعة وفيها شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، ولو كان هؤلاء كفارًا لكانوا مخلدين في نار جهنم، ولم تنفعهم شفاعة الشافعين.

رابعًا: بطلان ما ذهب إليه الخوارج والمرجئة في باب الإيمان من أن الإيمان معنى واحد يذهب كله بذهاب بعضه، فقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وأنه يتفاوت ويتبعض، وأنه قد يجتمع في الرجل كفر وإيمان وشرك وتوحيد ونفاق وإخلاص وطاعة ومعصية، وأن من المعاصي ما ينقض أصل الإيمان، ومنها ما ينقض كماله الواجب، ويبقى أصحابها في مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، والأدلة على ذلك مستفيضة من النصوص والآثار ومقالات أهل العلم.

 خامسًا: إجماع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وسائر السلف والأئمة على أن المعاصي من أمور الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. وقد عقد البخاري لذلك بابا في صحيحه فقال (باب المعاصي من أمر الجاهلية): ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية»([76])، وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾([77]).

 هذا ولا يعني ذلك التهوين من خطورة الإصرار على المعصية، فإن المعاصي بريد الكفر كما أن الحمّى بريد الموت، ويخشى على صاحبها من سوء الخاتمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»([78])، وإن العبد إذا أذنب الذنب كان كالنكتة السوداء في قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران المشار إليه في قوله تعالى: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾([79])، وإن المداومة على المعصية قد تورث القلب استحلالها الأمر الذي يعني خروج صاحبها من الملة، ومع إقرارنا بهذا كله فلا مناص من أن يكون إجراء الحكم بالكفر في الظاهر منضبطًا بالضوابط التي قررتها الشريعة في ذلك، وأن نعلم أن خطأنا في الحكم بإسلام كافر أهون من خطئنا في الحكم بتكفير مسلم، وأن خطأ الإمام في العفو خير من خطئه في العقوبة. 

هذا فضلًا عما هو مقرر من أن جميع أحكام الدنيا إنما تجري على الظاهر، وليس هناك تلازم حتمي بينها وبين أحكام الآخرة، فنحن نشهد بإسلام المنافقين في الدنيا وهم في الدرك الأسفل من النار في الآخرة، وقد نحكم بكفر بعض المستضعفين من المسلمين بظاهر إقامتهم في دار الشرك، ومظاهرتهم المشركين على المسلمين، وعدم علمنا بما يسرونه من الإيمان، وقد يكونون من المعذورين في الآخرة، فالجنة والنار لا يملكهما إلا رب الجنة والنار، وليس لنا من ذلك كله إلا الحكم بالظاهر في الدنيا وتفويض الأمر في المآلات إلى الله ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾([80]).

 يذهب بعض غلاة المتطرفين إلى عدم الحكم بإسلام أحد من المواطنين حتى يعلن تبرأه من الأنظمة الوضعية، و ينكر عليها حسب طاقته، وقد ترتب على ذلك سلسلة من التداعيات الخطيرة كعدم الصلاة في المساجد العامة، وعدم الاقتداء بالمصلين فيها، وعدم أكل الذبائح الوطنية، ويسوقون في سبيل الاستدلال على هذه المقولة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾([81])، وقولهم: إن المسلم قد اختلط بغيره في هذه المجتمعات فلابد إذن من التوقف حتى التبين، فما مدى الجرم في هذه المقولة؟ وأين موقعها من التطرف والاعتدال؟.

لا يكون التوقف إلا إذا حدث شك في دلالة الشهادتين على الإجابة إلى الإيمان والدخول في الإسلام، والبراءة من كل دين يخالفه، فإن حدث شك في دلالة الشهادتين على هذا القدر المجمل العام وجب التوقف، ولا يكون الحكم بالإسلام إلا بعد التبين، ومن الأمثلة على ذلك إذا أقر النصراني بالشهادتين ولكنه كان من فرقة من فرق النصارى التي  تعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول إلى العرب وحدهم، وأنهم ليسوا مخاطبين برسالته ولا مأمورين باتباعه، فلا يكون إذن هذا الإقرار بالشهادتين كافيًا للحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يكون قد أقر بهما إجابة إلى الإيمان ودخولًا في الإسلام  ويحتمل أن يكون قد أقر بهما إخبارًا عما يعرفه من صدق هذه الرسالة ولكنه لا يزال على دين قومه من أن هذه الرسالة لا تلزمه، وأنه لم يؤمر باتباع هذا الرسول: ومع وجود مثل هذا الشك يجب التوقف حتى يستبان قصده ولا يكون الحكم له بالإسلام إلا بعد التبين([82]).

أما ما وراء ذلك من تفاصيل التوحيد وتفاصيل الشرائع فلا يقدح الجهل بها أو عدم توجه الإرادة إليها ابتداء  في ثبوت عقد الإسلام ابتداء، ثم يعلم هذه التفاصيل تباعًا، فإن أقر بها استمر الحكم بإسلامه وإن أنكرها انقطع حكم إسلامه وثبت في حقه حكم الردة.

وبناء على هذا التفصيل يكون الحكم على هذه المقولة، فهذه المقولة لا تصح إلا إذا حدث شك في دلالة الشهادتين على قبول الإسلام والتزام أحكامه، والبراءة المجملة من كل دين يخالفه، أما حدوث الشك في دلالتها عند قائلها على بعض التفاصيل فهذا لا يؤثر على إجراء الحكم بها ابتداء بالإسلام، ثم يتم التعريف بهذه التفاصيل وإقامة الحجة بها في حينها، فإن أنكر شيئًا منها أجريت عليه أحكام الردة.

ولهذا فإن تطبيق هذه المقولة لا يصح إلا في مثل المجتمعات التي  يكثر فيها  أمثال الدروز أو القاديانية ونحوهم من  سائر الفرق المرتدة ويشكلون بها نسبة غالبة، ففي مثل هذه المجتمعات يصح القول بأن المسلم قد اختلط بغيره، وأن مجرد الإقرار بالشهادتين وحده لا يكفي لإجراء الحكم بالإسلام، وأنه يجب أن يصار إلى التوقف، ولا يحكم بالإسلام إلا بعد التبين.

أما ما عدا ذلك من المجتمعات الإسلامية التي لم تنتشر فيها مكفرات غالبة على مستوى الأفراد فإن إطلاق هذه المقولة فيها ينطوي على شطط ظاهر، إذ لم يعرف إطلاق هذه المقولة في مثل هذه المجتمعات إلا عن الخوارج وأخص بالذكر فرقة الأخنسية الثعالبة منهم.

أما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾([83])، فلا يستدل بها على تطبيق هذه المقولة في مثل هذه المجتمعات لسببين:

الأول: أن معرض الآية في دلالة الإقرار بالشهادتين على الإجابة إلى الإيمان والإقرار المجمل بالإسلام ؛ أي هل قالهما قاصدًا الإجابة إلى الإيمان والدخول في الإسلام، أم قالهما تعوذًا من السيف؟!.

الثاني: أن الآية لم تصرح بنفي الحكم بالإسلام عن هذا الذي ألقى السلام بل صرحت بالإنكار على نفي الإيمان عنه، ولقد جاء في بعض أسباب النزول أن الصحابة قالوا لهذا الرجل: إستأسر، فإن كنت صادقًا فلن يضيرك قيد ليلة أو ليلتين، وإن كنت سوى ذلك كفانا الله شرك، فإن صح ذلك يكون هذا الموقف إجراءً أمنيًا لا علاقة له بقضية الحكم بالإسلام أو الكفر، بل قد يفعل مثله مع بعض من نشهد لهم  بظاهر الإسلام إن حامت حولهم الشكوك وأحاطت بهم التهم.. والخلاصة: أن الاستدلال بهذه الآية لا يسعف أصحابه في إثبات إطلاق القول بوجوب التوقف في مجتمعاتنا المعاصرة.

***


الجاهلية في معجم التطرف

من المصطلحات الشائعة في قاموس المتطرفين مصطلح الجاهلية، وقد أفرطوا في استخدامه بطريقة فجة، فنجدهم يطلقون القول بجاهلية المجتمعات المعاصرة نظرًا لما يتخللها من بعض المخالفات الشرعية، فهل يمكن، القول بجاهلية مجتمع في هذا العصر الذي فجر أهله الذرة وقاموا بغزو الفضاء وحققوا شأوًا في الحضارة لم يتحقق مثله على مدار التاريخ؟ ألم تنقض الجاهلية ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبزوغ فجر الإسلام؟ وهل يمكن أن يكون هذا الشطط إلا نوعًا من الإسقاط النفسي لفريق عجزوا عن اللحاق بموكب هذه الحضارة فلم يجدوا أمامهم إلا إمطارها بوابل من اللعنات واتهام مجتمعاتها ودولها بالجاهلية؟

للإجابة على هذا السؤال يجب أن نبدأ بتحديد حقيقة الجاهلية التي عاشها العرب قبل البعثة والتي انتهت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومجيء الإسلام.

هل كانت جاهلية تخلف حضاري وفقر في باب التقنية و التقدم المادي والكشوف العلمية؟ لو كان هذا هو السبب في وصفها بالجاهلية لتمثل البديل الذي جاء به الإسلام للقضاء على هذه الجاهلية في منظومة من الحقائق العلمية في مختلف المجالات الفلكية والطبيعية والكيميائية والهندسية، ومجموعة من النظريات السياسية المفصلة ومجموعة من الخبرات الاقتصادية لزيادة الإنتاج وتحسينه، فهل كان هذا حقًا هو العطاء الذي جاء به الإسلام والذي بسببه انتقل الناس من الظلمات إلى النور؟!.

إن الواقع المستيقن أن القرآن لم يكن كتابًا في الفلك أو الجيولوجيا أو الأحياء أو الفيزياء أو الاقتصاد ونحوه، وإنما كان كتاب هداية في المقام الأول، وإن تضمنت آياته إشارات علمية إلى بعض هذه الحقائق فإنها تساق في هذا المعرض - معرض الهداية - لتقدم الدليل تلو الدليل على عصمة القرآن وعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق هذه الرسالة، وجدارتها بالخلود، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

إذن فما هي هذه الجاهلية؟ إنها حالة نفسية ترفض الاهتداء بهدي الله، ووضع تنظيمي يأبى التحاكم إلى ما أنزل الله، إنها عبودية الهوى واتخاذه إلهًا من دون الله، لقد كان هذا هو جوهر هذه الجاهلية، وهو جوهر قابل لأن يتخذ صورًا شتى بحسب البيئة والظروف والزمان والمكان، فتتشابه كلها في أنها جاهلية وإن اختلفت مظاهرها كل الاختلاف.

      وقد ذكرت كلمة  الجاهلية في القرآن في أربعة مواضع: في كل من آل عمران،  والمائدة، والأحزاب والقتال.

 أما أول هذه المواضع فيشير إلى سوء الظن بالله وهي «جاهلية الاعتقاد» وذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾([84])،  يشير إلى الذين كانوا يقولون: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾، كانوا يظنون بعد وقوع القدر أنهم كانوا يقدرون على دفعه فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ﴾، وبقوله: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾([85])، وسمى ظنهم هذا ظن الجاهلية.

 ويشير الثاني إلى جاهلية الحكم، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾([86])، وتقرر الآية أن للحكم منهجين لا ثالث لهما: حكم الله أو حكم الجاهلية، وذلك كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾([87])،  فإما شريعة الله أو أهواء البشر ولا ثالث!  ونفس هذا المعنى تجده في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ﴾([88]). 

 ويشير الثالث إلى جاهلية العادات والسلوك الاجتماعي المشين، وهي جاهلية الأعراف والعادات وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾([89])، وغاية هذا التبرج الذي نعت الآية على أهله أن المرأة كانت تُبدي موضع القرط والقلادة منها، وتمشي مسفحة بصدرها بين الرجال فأين هذا من تبرج النساء في واقعنا المعاصر؟([90]).

ويشير الرابع إلى حمية الجاهلية وهي جاهلية العصبيات، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾([91]) يحدث عن منع الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم من دخول مكة عام الحديبية حتى لا يتحدث العرب أنه دخلها عليهم ضغطة.

ويلاحظ أن تعبير الجاهلية ليس مرادفًا للفظ الكفر، فإن الجاهلية هي مطلق الفسوق عن أمر الله، وذلك قد يكون في الأصول فيكون كفرًا، وقد يكون في الفروع فيكون معصية وكل حالة بحسبها، فقد تحدث القرآن الكريم عن جاهلية التبرج وهي معصية بلا جدال، ولا تكون كفرًا إلا بالاستحلال، وتحدث القرآن عن جاهلية الأنفة والكبر وهي معصية من المعاصي، وتحدثت السنة عن جاهلية التفاخر بالأحساب وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما عير بلالًا بأمه: أعيرته بأمه: إنك امرؤ فيك جاهلية، ولم يقل أحد أن هذه الكلمة تعد كفرًا من أبي ذر،  وأنه قد خرج بها من الملة.

وعلى هذا فإذا شاع في أمة من الأمم أو في عصر من العصور الحكم بغير ما أنزل الله حتى غلب على هذا العصر، أو فشا فيهم تبرج النساء حتى صار هو السمة الغالبة على نسائهم، أو دعوا بدعوى الجاهلية فأصبح اعتزاز كل أمة بعرقها الذي تنتمي إليه، فهذه تعتز بالفرعونية، وهذه تعتز بالفينيقية،وهذه تعتز بالآشورية، وهذه تعتز بالذئب الأغبر وقد كان معبودها قبل الإسلام وتجعله شعارها الرسمي، ويخجل الجميع من الانتماء إلى الإسلام أو عقد الولاء والبراء على أساسه، إذا فشا ذلك  في أمة من الأمم أو غلب على عصر من العصور صح إطلاق وصف الجاهلية على هذه الأمة أو على هذا العصر من غير أن يعني ذلك بالضرورة إطلاقًا لوصف الكفر عليهم لأن الجاهلية كما ذكرت تعبير مطلق يشمل الكفر وما دونه، فما الحرج إذن وما الخطأ في إطلاق هؤلاء الناس وصف الجاهلية على مجتمعاتنا المعاصرة؟.

ألم يغلب عليها الحكم بغير ما أنزل الله حتى صار هو القاعدة؟ والله يقول: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾([92])  ألم يغلب على نسائها التبرج؛ وهو تبرج لم تبلغ مثله ولا معشاره الجاهلية الأولى والله يقول: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ ([93])، ألم يغلب على أهلها الاعتزاز بالقوميات، والافتخار بالعصبيات، وإحياء النعرات الجاهلية كالفرعونية وغيرها وتقديمها لتكون بديلًا عن وشيجة الإسلام، والله يقول: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾([94]) ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وإن من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله»([95]).

ما الحرج إذن في إطلاق وصف الجاهلية على مجتمعاتنا المعاصرة، وهو إطلاق كما ذكرت لا يلزم منه بالضرورة إطلاق الحكم بالكفر على هذه المجتمعات حكامًا أو محكومين، لأن لفظ الجاهلية كما ذكرت أعم من ذلك؟.

وعلام التشويش بهذا الأمر على جماعة من المتدينين، واجتهادهم فيه كما بينا ظاهر راجح، وقد سبقهم إلى استخدامه واطلاقه أئمة كالشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، والشيخ محمد رشيد رضا في مصر، وهما من الإمامة في العلم والدين بمكان لا يجحد([96]).

وفي النهاية...أقول أيها العزيز إن إطلاق وصف الجاهلية ليس حكمًا شرعيًا قاطعًا محددًا وإنما هو اجتهاد قدمنا لك فيما مضى أسانيده وبينا لك وجهه، وأنت في حل من استخدامه إن عسر عليك قبول هذه الأدلة، ولكن التشويش على القائلين به عدوان ظلوم لا مبرر له.

***

 


الإرهاب الفكري

في مسلسل الإرهاب الفكري الذي تمارسه الجماعات المتطرفة يزعم هؤلاء المتطرفون أن اختيار الأمة لممثليها في البرلمان يجب أن يكون على أساس الولاء لمقولاتهم السياسية مثل شعار (الإسلام هو الحل)، وشعار (القرآن دستورنا) ونحوه، وأن كل عضو يرفع يده في البرلمان معترضًا على هذه المقولات أو ساعيًا في تعطيلها يعد خائنًا لله ورسوله والمؤمنين، بل لا يبعد القول بتكفيره إن لم تكن له شبهة سائغة!  فما مدى دقة هذه المقولة في ظل المفاهيم الحديثة للحصانة البرلمانية التي تعني إطلاق حرية النائب في التعبير عن معتقداته وآرائه السياسية كما يشاء؟ وهل تتسع سماحة الإسلام لمثل هذه المقولات الإرهابية السمجة؟

الأصل كما ذكرت لك مرارًا أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى في دار الإسلام هو الشرع لا غير، وأن تفرد الله بالأمر كتفرده بالخلق ولا فرق، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾([97])، وأن الأمة في الإسلام لا تملك ولو اجتمعت عن بكرة أبيها في صعيد واحد أن تحل حرام الله أو تحرم حلاله، وأن منازعة الله في التشريع المطلق تعد إشراكًا بالله، لأنها منازعة له في أظهر خصائص ربوبيته على عباده.

وعلى هذا فلا تملك هذه المجالس ولا غيرها أن تعقب على شيء من أحكام الله، ولا تستدرك عليه أو أن تطرحه للمداولة ابتداء، لأن هذا تجاوز لمقتضى العبودية واجتراء على حرم الربوبية، فالله يحكم لا معقب لحكمه، والأصل في علاقة العبد بسيده هو مطلق الانقياد والخضوع كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾([98])، وكما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([99]).

والشورى في الإسلام لا تكون إلا في موضع العفو أو الإباحة، ولهذا كان الصحابة إذا أرادوا أن يشيروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر يسألونه أولًا عما إذا كانت القضية مما حسمه الوحي أم أنها من جنس ما احيل فيه إلى الخبرة والتجربة؟ كما فعل الحباب بن المنذر يوم بدر عندما أراد أن يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير موضع نزوله فقال له: يا رسول الله: «أرأيت هذا المنزل منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر؟ أم الرأي والحرب والمكيدة؟»، فلما قال له صلى الله عليه وسلم: «بل الرأي والحرب  والمكيدة»؛ أشار عليه بتغيير موقعه، فحيث يكون النص القاطع فلا مجال للتشاور بل الخضوع والطاعة والانقياد، ولهذا قال البخاري في الصحيح: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم([100]).

وبناء على ذلك فقد كان الأصل في هذه المجالس التي  نقلت إليها مصدرية الأحكام، وتفردت دون غيرها بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق من دون الله هو الاعتزال والاجتناب، ولولا ما يتطلع إليه بعض الصالحين من إمكانية الانتصار لدين الله من خلال هذه المواقع، ودعوة الآخرين إلى الانقياد لشريعته وجعلها المصدر الوحيد للتشريع، وإلغاء كل ما تعارض معها من الأنظمة والقوانين..لولا هذا الرجاء ما امتهد سبيل للدخول في هذه المجالس ابتداء، ولا انعدمت شرعية التعامل معها بالكلية، وذلك لما تقوم عليه كما ذكرت لك من منازعة الله في أخص خصائصه ومن مقتضيات ربوبيته ألا وهو الحق في السيادة العليا والتشريع المطلق.

فعندما يتوجه هؤلاء إلى جماهير الأمة ليقولوا لهم: اختاروا ممثليكم على أساس الولاء للإسلام، والالتزام بنصرة شريعته فهذا هو الحق الذي  لا معدل عنه، والسبيل الوحيد لإمكانية اعتبار المشاركة في هذا الأمر برمته عملًا مشروعًا تتسع لمثله قواعد السياسة الشرعية، فليس في هذا الموقف إرهاب ولا شبهة إرهاب، بل إنه الحد الأدنى من الحق والبقاء على عهد الله.

والعجيب أن هذا الذي تلحقه بمسلسل المواقف الإرهابية للجماعات المتطرفة قد أفتى بمثله وحرض عليه كثير من العلماء والفقهاء ممن لا يمتون بصلة إلى هذه الجماعات، ومنهم من تبوأ كرسي الوزارة أو منصب الإفتاء، ولبعضهم من هذه الجماعات موقف النقد والتحفظ!!

نذكر من هؤلاء فضيلة الشيخ الشعراوي  فقد سئل: لماذا لم تطبق الشريعة الإسلامية حتى الآن؟ فأجاب:

هذا سؤال يجب أن يرد عليه الشعب نفسه،لأنه هو  الذي   يختار المشرعين لهذا البلد، فهل كان في مقياسكم عند من انتخبتموه، عهد أن يحكم بكتاب الله، يجب أن يكون الأساس الذي   تنتخبون نوابكم عليه هو هذا العهد، ولقد قلت إننا لا نريد من البشر أن يعلنوا رأيهم في منهج الله، ولكن أريد منكم أن يعلن مجلس الشعب الذي يعطيه الدستور مهمة التشريع في هذا البلد أن لا يجد في تشريعات الخلق بديلًا عن تشريعات الحق، أريد منكم أن يكون ذلك هو الأساس الذي تحاسبون نوابكم عليه، ماذا أديتم لدينكم في مجلسكم التشريعي؟، وحين يوجد مثل هذا، يكون النواب قد علموا أنهم اختيروا على أساس أن يعلنوا أن حكم الله هو الذي يجب أن يسيطر على هذا البلد، وأن دستوره يجب أن يطبق تطبيقًا عاجلًا عادلًا([101]).

وقد أفتى بقريب من هذا المعنى مفتي مصر الأسبق الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله في معرض إجابته على سؤال حول ما يجري في الانتخابات أحيانًا من تحليف بعض الناخبين على اختيار مرشح بعينه؟؛ فذكر أن الأصل هو اختيار الكفء والصالح، وأن من استحلف على غير ذلك لزمه الحنث في اليمين.

وذكر رحمه الله أن هذا الاختيار يعتبر بمثابة الشهادة فإذا لم تؤد الشهادة على وجهها كان صاحبها شاهد زور وساعيًا في ضرر الجماعة، فإذا استحلفه أحد المرشحين لا يحلف أصلًا، وإذا حلف ثم تبين له أن منافسه هو الصالح أو الأصلح حقًا دون من استحلفه، وجب عليه أن ينتخب الأصلح ويكفر عن يمينه، وكان الحنث في هذه واجبًا والتمادي في اليمين معصية([102]).

أما ما ذكرت من الحصانة البرلمانية، وحرية النائب في التعبير عن معتقداته السياسية، فالواجب أن تستخدم هذه الحصانة في نصرة الإسلام، وفي تأمين المطالبة بتطبيق شريعته، لأنها ليست حصانة من التكاليف الشرعية، وليست براءة من النار، ولا عهدًا على أن لا يحاسبه الله على ما يقول أو يفعل، فالنائب في البرلمان بشر من البشر مخاطب بالتكاليف الشرعية، ومطالب بالوقوف عند مقتضى العبودية  ومسئوليته بحكم موقعه مضاعفة، وحسابه عسير جد عسير، ولن يجيره من الله في موقعه هذا أحد، ولن يجد من دونه ملتحدًا إلا أن يكون نصيرًا لشريعته، وفيًا لعهده، وقافًا عند حدوده، سَلمًا لأوليائه  وحربًا على أعدائه، وكل موقف له سوى ذلك فهو خيانة للإسلام ونقض لميثاق الله وسَيُرَدُّ إلى ربه فيعلم!.

***

 


ديـن ودولـة

تتفق كافة الجماعات المتطرفة على أن الإسلام دين ودولة، ويزعمون أن فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين!!، في الوقت الذي نعلم فيه أن عددًا من كبار رجالات العلم المستنيرين كالشيخ علي عبد الرازق في كتابه: «الإسلام وأصول الحكم»، والأستاذ خالد محمد خالد في كتابه: «من هنا نعلم» قد نازعوا في هذه المقولة، وأثبتوا زيفها بالأدلة القاطعة، وأن الدولة في الإسلام لم تكن إلا عبئًا عليه وانتقاصًا من حرمته، فما تحليلكم لهذا التناقض بين الفريقين؟، وما تقدير ذلك كله في ميزان التطرف والاعتدال؟.

إن حقيقة الصلة بين الدين والدولة في الإسلام كحقيقة الصلة بين العقيدة والشريعة، وقد أجمعت الأمة كلها في مختلف أعصارها وأمصارها على أن الإسلام عقيدة وشريعة، فإنكار الدولة في الإسلام كإنكار الشريعة سواء بسواء.

إن القرآن الكريم والسنة المطهرة مليئان بأحكام كثيرة وقواعد جليلة في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وأحكام الحدود والقصاص، وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث ونحوه، فمن زعم أن الإسلام دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا وأعظم على الله الفرية، بل إنه يبلغ في قوله هذا مبلغ الخيانة العظمى لدينه وأمته وللحقيقة المجردة، فهو عندما يدعو لفصل الدولة عن الدين أو العقيدة عن الشريعة يتصور دينًا آخر ويسميه الإسلام!!.

ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين:

الأول: إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وكفر هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين.

الثاني: وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، و ينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرع جل في علاه، وكفر من يجترئ على ذلك معلوم بالضرورة من الدين.

وهؤلاء بهذا المسلك يجعلون الإنسان ندًا لله الذي خلقه، بل هم بهذا يعلون كلمة الإنسان  على كلمة الله جل جلاله  ويمنحونه من السلطة والاختصاص ما يحجرون مثله على الله جل في علاه، وبهذا يصبح الإنسان «ربًا» فوق الرب يحكم بما يريد، ويقضي بما يشاء!!.

لقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد لأنه رد على الله حكمًا واحدًا من أحكامه، فكيف بهؤلاء وهم يردون على الله كافة شرائعه وأحكامه، ويتهمونها بالقصور والجمود وانعدام الصلاحية؟!، ترى هل يبقى مع هذا المسلك أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان؟!!.

أما ما ذكرت من أنهم يزعمون أن فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، فهذه كلمة شيخ الأزهر الأسبق محمد الخضر حسين، وتستطيع أن ترجع إليها في كتابه رسائل الإصلاح وفي غيره من الكتب إن شئت. فهي كلمة حق قالها إمام من أئمة المسلمين ولا علاقة لها بالتطرف ولا بالمتطرفين.

وأزيدك عليها كلمة الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية عندما قال: «إن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه، ولقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة للخروج عليه، لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد، فهو ثورة حكومية على دين الشعب، في حين أن العادة أن تكون الثورات من الشعب على الحكومة، وشق عصا الطاعة منها، أي من الحكومة؛ لأحكام الإسلام بل ارتداد عنه من الحكومة أولًا ومن الأمة ثانيًا، وهو أقصر طريق إلى الكفر»([103]).

ولكن أوربا لم تعرف طريقها إلى التقدم إلا بعد أن فصلت الدولة عن الدين، وتحررت من طغيان الكنيسة؟

لأن أوربا لم تكن يومئذ على دين أيها العزيز!!، وما كانت تملك إلا جذاذات مهلهلة من دين عبثت بأصوله يد الأحبار والرهبان الذين كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، والذين كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبه شعوبهم من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون!!.

 فالذي فصلته أوربا عن الدولة لم يكن دينًا صحيحًا منزلًا من عند الله، وإنما كان هو هذه الأهواء المقدسة!! التي كرست الخرافة، وحاربت العلم، وأحرقت العلماء، وأغرقت أوربا يومئذ في بحر من الدماء!

ودعني أعقد لك هذه المقارنة بين فصل الدولة عن الدين عند الغربيين، وفصل الدولة عن الدين في بلاد المسلمين، حتى تقف على حجم الكارثة التي يجر إليها أمتهم هؤلاء الناعقون بهذه الدعوة الخبيثة في دار الإسلام فأقول:

1- إن المناداة بفصل الدين عن الدولة في تاريخ المسيحية، عود بها إلى وضعها الأول الصحيح، وإن انحرافها عن هذا المبدأ جر عليها وعلى شعوبها البلاء والشقاء، أما في الإسلام فإن المناداة بفصل الدين عن الدولة انحراف به عن وضعه الصحيح، وإن وقوع هذا الفصل في بعض مراحل التاريخ هو الذي جر على الإسلام وعلى المسلمين البلاء والشقاء.

2- إن علاقة الدين بالدولة - في تاريخ القرون الوسطى - جعل من رجال الدين طبقة تمثل السيطرة والاستعلاء والاضطهاد والتعصب، ولكن علاقة الدين بالدولة في عصور الإسلام الزاهرة لم تخلق مثل هذه الطبقة إذ الإسلام نفسه لا يعترف بوجودها، فكيف يعترف بحقها في السيطرة والاستعلاء؟.

3- إن ربط الدولة بالدين - في أوربا - أدى إلى اضطهاد الفكر، وخنق الحريات وقيام الحروب الدينية المفجعة، وخضوع الناس لكابوس الخرافة والجهالة والبؤس ؛ أما ربط الدولة بالدين - في عصور الإسلام الزاهرة - فقد أدى إلى انطلاق الفـكر وحماية الحريات الدينية، وإشاعة السلام بين أبناء الديانات، وتحرير الناس من أوهام الخرافات والشـعوذة، وتحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية بين أبناء الشعوب.

4- إن فصل الدين عن الدولة في تاريخ أوربا، كان في عصر نهضتها الكبرى ولقد سارت من بعده حرة طليقة تسيطر على شئون العالم وتتحكم في مصائره، أما في الإسلام فإن أزهى عصور حضارته وأحفلها بالقوة والمجد وأجداها على الإنسانية، هي العصور التي قامت فيها دولته على مبادئ شريعته، وما حدث الجفاء بين الدين والدولة إلا في عصور الضعف والجمود والفوضى.

وحسبنا مثلًا على ذلك أن نقارن بين تركيا في ظل الدين وتركيا في ظل العلمانية لندرك مدى الفرق الشاسع، والظلم الفادح في قياس الشرق على الغرب في هذه القضية: لقد فصل الدين عن الدولة في تركيا، فماذا جنت من المكاسب؟ لقد أُلقي بتركيا في أحضان الغرب غارقة بديونها مثقلة بالتزاماتها وأصبحت سوقًا لتصريف المنتجات الغربية، ومركزًا للقواعد الحربية، وهدفًا للعدوان الشيوعي والإفناء الجماعي، عندما كان «الدين» سيد الدولة كانت تركيا إمبراطورية تملأ عين الدنيا وسمعها، وكانت باسم الإسلام تخيف جارتها روسيا، بل ظلت عدة قرون تدير رحى الحرب في أرض روسيا نفسها، وعندما أصبحت «الدولة» سيدة الدين أصبحت تركيا مستعمرة لا هيبة لها ولا وزن، فعادت دويلة تقبع مرعوبة في أقل من 10% من حدودها الأولى، وتتسول سلاحها من هنا ومن هناك، وصار أقصى ما تتطلع إليه أن تصبح عضوا في السوق الأوربية المشتركة، وأوربا تضن عليها بذلك!!، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾([104]).

 ولكن أعلامًا روادًا قد تبنوا الدعوة إلى هذا الفصل، وقد ذكرت لك منهم الشيخ علي عبد الرازق، والأستاذ خالد محمد خالد؟.

أما ما ذكرت بالنسبة للشيخ على عبد الرازق فيكفي أن تعلم أنه قد انفرد بهذا الرأي دون أمة الإسلام جميعًا، فلقد أجمعت الأمة على بكرة أبيها على أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأنه دين ودولة، وقد تولى أهل العلم الرد على كتاب الشيخ علي عبد الرازق وأوسعوه نقدًا وإبطالًا، ثم عقدت هيئة كبار العلماء محاكمة لهذا الرجل، وقضت بإخراجه من زمرة العلماء وسحبت منه إجازة الأزهر، ومن أعضائها من قضى بكفره وخروجه عن الملة بالكلية، وتستطيع أن تراجع في نقض هذا الكتاب ما كتبه كل من الشيخ محمد بخيت المطيعي، في كتابه: (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، ومحمد كاظم حبيب، في كتابه: (مؤامرة فصل الدين عن الدولة)، والسنهوري، في كتابه: (فقه الخلافة وتطورها)، ومحمد ضياء الدين الريس، في كتابه: (النظريات السياسية)، وكتابه: (الإسلام والخلافة في العصر الحديث نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم) وآخرين وآخرين!.

أما عن حقيقة الدعوة التي تولى كبرها علي عبد الرازق فإنها تقوم على فكرتين أساسيتين، لا تقل أحداهما في بطلانها وجرأة صاحبها على ربه عن الأخرى!.

أما الفكرة الأولى فهي زعمه أن الإسلام عقيدة فردية روحية فحسب لا صلة لها بالدنيا ولا علاقة لها بشئونها العملية، فهو بهذا ينكر وجود الشريعة في الإسلام ابتداء، وقد تناولنا هذه الفكرة بالنقض فيما سبق وسقنا مقالات أئمة العلم في بطلانها، وإلى الذين تعجبهم شهادات المستشرقين وتبهرهم كلمات الغربيين نذكر لهم بأن القول بأن الإسلام دين ودولة هو الذي تفيض به كتابات كثير من المستشرقين مثل فتزجرالد ونيللنو وشاخت وجب وغيرهم، ويستطيع الباحث أن يقف على مقولاتهم في هذه القضية بلا عناء([105]).

أما الفكرة الثانية فهي ما عبر عنه بقوله: (إن الرسالة قد انتهت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم) وهذا نص عبارته كما وردت في صفحة 90 من كتابه المشئوم.

فماذا يريد الشيخ بهذه العبارة؟، هل يريد أن تبليغ الوحي قد تم وانقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم؟، إن كان ذلك هو المقصود فهو أمر بدهي، ولا حاجة إلى التنصيص عليه، ولا مناسبة لذكره في معرض حديثه، أما إن كان يقصد أن موضوع التبليغ قد انتهى بموته صلى الله عليه وسلم، فتلك لعمر الله داهية الدواهي، والفرية التي لم يجرأ على القول بمثلها أكابر المستشرقين من اليهود والنصارى!!، لأن مقتضى ذلك أن الشريعة قد انتهت وانقضى العمل بها بموته صلى الله عليه وسلم، ولم تعد في حاجة إلى نظام ينشأ لحراسة هذه الشريعة أو لحمل الأمة عليها لأن هذه الشريعة نفسها قد انتهت بموته صلى الله عليه وسلم، ولم يعد لها وجود!!.

وهذه هي النتيجة الحتمية لكل من يدعون إلى الفصل بين الدين والدولة فإنهم لا مناص لهم من الالتفاف على الشريعة لإزاحتها بوجه أو بآخر، فتارة بالقول بأن الشريعة قد انتهت بموته صلى الله عليه وسلم كما زعم علي عبد الرازق، وتارة أخرى بادعاء أن الشريعة قد بنيت على مراعاة المصالح وقد تغيرت المصالح في هذا العصر فلا مناص من تغيير الأحكام التشريعية وتطويرها تبعًا لذلك، وأنه إذا تعارضت المصلحة مع النص أو الإجماع فالعبرة بالمصلحة كما يقول كثير من المعاصرين، فإذا نحيت الشريعة بهذا المدخل أو ذاك فقد امتهد السبيل للقول بأن الإسلام دين لا دولة، ويصبح المسلمون رعايا مستأنسين تحت أي راية علمانية  تحكمهم.. اشتراكية كانت أو شيوعية أو رأسمالية أو ما شاء الشيطان من نظريات ومذاهب!!!.

إن كثيرًا من الباحثين يرجح بناء على جملة من الشواهد العلمية القوية أن هذا الكتاب في الأصل هو للمستشرق اليهودي مرجليوث، وأن الشيخ لم يكن له منه إلا أن وضع اسمه عليه ليتولى كبره ويبوء بإثمه، ويلبس به ثوب الخزي والعار إلى يوم القيامة.

ولعل مما يزيدك دراية بهذا الكتاب([106]) أن تعلم أن صدوره كان مواكبًا للإعلان عن إلغاء الخلافة في تركيا وإعلان تركيا العلمانية، فجاء هذا الكتاب للتأكيد على ثلاثة أمور:

الأول: أن الإسلام دين لا دولة تبريرًا للثورة اللادينية الكمالية التي تولى كبرها أتاتورك.

 الثاني: تبرير خروج المرتدين على الصديق رضي الله عنه تبريرًا لخروج الكماليين على السلطان عبد الحميد، ولقد صال وجال في الدفاع عن إخوانه المرتدين([107]) في هذا الكتاب بما لم يجرؤ على القول بمثله أحد من قبل، ضاربًا بموقفه هذا بإجماع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرض الحائط.

 الثالث: براءة الإسلام من الخلافة والخلفاء تبريرًا لفصل الدين عن الدولة وطعن الخلفاء العثمانيين.

أما ما ذكرته عن الأستاذ خالد محمد خالد، فيكفي أن تعلم أن الأستاذ خالد قد رجع بنفسه عن هذه الفكرة، وأصدر في ذلك كتابًا بعنوان: (الدولة في الإسلام) عام 1981م، وقد نشر في جريدة الأخبار بالقاهرة في: 32/8/1977 مقالًا تحت عنوان: (دين ودولة وعبادة وخلافة)، جاء فيه: «وإني لأرجو أن يجيء كلامي هذا تصحيحًا لرأي كنت قد أبديته في كتابي «من هنا نبدأ»([108]).

فلماذا إذن هذه الحفاوة البالغة بآراء شاذة شق بها أصحابها إجماع المسلمين، وبادر بعضهم إلى الرجوع عنها، وأعلن هذا الرجوع في كتب مدونة، وعلى متن الصحف اليومية السيارة، الحكومية منها والمعارضة؟!

***

 


أزمة ثقة

يؤكد عامة المتطرفين على عدم جدية التصريحات التي تصدرها المؤسسات الدستورية بشأن تطبيق الشريعة، وعدم صحة ما تتعلل به من الضغوط الدولية، وعدم المواءمة السياسية ونحوه في الوقت الذي نرى فيه أكابر العلماء يصدرون بيانًا من صحن الأزهر الشريف يبرئون فيه ساحة المسئولين، ويقرون فيه: «أنهم لم ينكروا للإسلام مبدأ، ولم يردوا على الله حكمًا، وأنهم حريصون على أن تبلغ الدعوة الإسلامية مداها تبليغًا وتطبيقًا، وأن انتظار الظرف المناسب هو الذي يدعوهم إلى التريث في تطبيق الشريعة»، فإذا كانت هذه هي شهادة الكبار فلماذا لا يرعوي هؤلاء الصغار، ويكفون عن هذه المزايدات التي لا يراد بها إلا التشويش والإثارة ويوظف الدين من خلالها لتحقيق مآرب سياسية؟!.

من رحمة الله تعالى أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، وقديمًا قالوا: اعرف الحق تعرف أهله، وقد أجمعت الأمة على أنه لا عصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا  لإجماع الأمة، وأن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن تحكيم القوانين الوضعية التي تحل ما حرم الله وتحرم ما أحل الله، يعد بذاته عملًا من أعمال الرد لأحكام الله، فهو إباحة عامة تحميها الدولة، وتسبغ عليها الشرعية، ويحكم بموجبها القضاء عند التنازع، فأي صورة لرد أحكام الله  أبلغ من هذه الصورة؟.

أما ما يقال من أن انتظار الظرف المناسب هو الذي يدعو إلى التريث، فماذا يراد بانتظار الظرف المناسب؟، إن كان المقصــود به تهيئة الأمة وإعدادها لقبول تطبيق الشريعة، فإن هذه مقولة من يختزلون الشريعة في الحدود والعقوبـات، ويرون أن هذه العقوبات لانقطاع الحكم بها حينًا من الدهر قد باتت غريبة على الحس العام، ويحتاج استئناف العمل بها إلى تهيئة وإعداد، وقد قلنا مرارًا إن تطبيق الشريعة أوسع مدى من ذلك، لأن الشريعة هي كل ما شرعه الله لعباده من الدين، فهي تشمل العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، وما الحدود إلا جزء من المعاملات، وما المعاملات بدورها إلا قسم من أقسام هذا البناء الشامخ.

وعلى هذا فإن إعداد الأمة لتقبل الحدود من خلال إصلاح أجهزة الدعوة والتعليم والإعلام هو جزء من تطبيق الشريعة في هذه المواقع، وسواء علينا أسميناه تطبيقًا للشريعة في هذه المرافق أم سميناه إعدادًا وتهيئة لتطبيق الشريعة في مجال العقوبات فما الذي يمنع منه ويحول دون المبادرة إليه؟ سلمنا أن تطبيق الحدود يحتاج إلى إعداد فلماذا لم نبادر إلى هذا الإعداد؟ أم أن الإعداد بدوره يحتاج إلى إعداد، وهكذا في دور وتسلسل لا نهاية له؟!.

إن هذه الشبهة التي يتذرع بها على تهافتها وعدم قبولها لا تنهض - إن قبلت - إلا عذرًا عن تأخير التطبيق في مجال العقوبات، فما بال بقية المجالات؟! وما العذر الذي يقبل عند الله وعند الناس ويبرر الامتناع عن تطبيقها في غير الحدود والعقوبات؟  إننا لا يكاد يمر علينا يوم إلا وينقض فيه المزيد من عرى الإسلام،  وتنتقل معه الأمة من سيء إلى أسوأ، ومن دركة إلى دركة أشد منها ظلامًا وأسوأ منها هبوطًا؟!.

أما ما يقال من الضغوط الدولية فإن الضغوط الدولية لا علاقة لها بما يعد من قبيل الإصلاحات الداخلية البحتة، لا علاقة لها مثلًا بإغلاق مصانع الخمور، أو منع المراقص الليلية، أو إصلاح الخلل في أجهزة التعليم والإعلام ونحوه، لاسيما مع التأكيد على ضمان حقوق الأقليات وتركهم وما يدينون!!.

أما ما صدر عن العلماء في هذا البيان فهو زلة من الزلات التي قد تصدر عن أهل العلم، لا يقلدون فيها ولا يجرحون بسببها،  وقد وردت النصوص بالتحذير من زلات العلماء وكثرت مقالات أهل العلم في التنبيه عليها، فقد قال صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه ابن عمر: «أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم»، وفي رواية أخرى:«إني لا أخاف  على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة»، قالوا وما هي يا رسول الله؟، قال: «أخاف عليكم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع»، وقال عمر رضي الله عنه «يفسد الزمان ثلاثة:  أئمة مضلون،  وجدال المنافق بالقرآن - والقرآن حق - وزلة العالم». وكان تميم الدارى يقول: «اتقوا زلة العالم»، فسأله عمر: «ما زلة العالم؟»، قال: «يزل بالناس فيؤخذ به فعسى أن يتوب العالم والناس يأخذون بقوله»، وإذا زل العالم زل بزلته عالم كما يقولون، وكان معاذ بن جبل يقول: «يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن؟»، فسكتوا، فقال: «أما العالم إن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن زل فلا تقطعوا منه إياسكم، فإن المسلم يفتن ثم يتوب»([109]).

هذا وقد اتفق أهل العلم على أن زلة العالم لا يقلد فيها، ولكن لا يطعن فيه ولا يشوش عليه بسببها، لاسيما إذا كان من أصحاب الفضل والسابقة فإنها تكون حينئذ مغمورة في بحر جهاده وفضله، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وهذه الزلات يجب أن تمات، فلا يشاع ذكرها ولا يقلد أحد فيها من ناحية، ولا تغض من قيمة من نسبت إليه من ناحية أخرى([110]).

ومن ناحية أخرى فقد نازعهم فيما قرروه  في هذا البيان كثير من العلماء والدعاة، نذكر منهم: 

الشيخ صلاح أبو إسماعيل، فقد قال فيما نشرته عنه جريدة الوفد: «إن الذين اشتركوا في ندوة الأزهر وأصدروا البيان هم أساتذتنا، وأعلام على طريق الدعوة، ولا نشك في سعة آفاقهم وعمق فقههم وحسن نواياهم».

لكنهم بمقدار ما نظروا في مناهل العلم، صرفوا النظر عن واقع الأمر فجاء كلامهم دفاعًا عن مصر ولم يتهم أحد مصر بالكفر، مصر التي أجمع شعبها على المادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقوانين، وأقسم كل مسئول على احترام هذا النص، ولكن كل مسئول حنث في يمينه!.

لقد جاء كلام العلماء فيضًا من الثقة بالحكام وهم مثقلون بالأوزار، ففضيلة الشيخ الشعراوي الذي دعانا إلى الحكم على علانية الحاكم نسي أن حكامنا أقروا قانونًا يحظر على الداعية أن يدعو، فالمادة 201 من قانون العقوبات تقول: «لا يجوز لأحد ولو كان من رجال الدين داخل دور العبادة أن يقول ولو على سبيل النصيحة الدينية قولًا يعارض به قانونًا أو قرارًا إداريًا، ومن فعل ذلك يحبس ويغرم فإن قاوم فإنه يسجن ويغرم!».

وكذلك الخمر والربا والميسر وما إليها من منكرات أقرت بقوانين وكلها تحليل لما حرم الله، وهذا هو رد الأمر على الآمر على حد تعبير فضيلة الشيخ الشعراوي.

ويضيف الشيخ صلاح: «أن أخطر ما في البيان هو اعتراف العلماء ببقاء الاستعمار القانوني والثقافي والإعلامي وبأننا لا نحكم برؤوسنا وإنما برءوس غيرنا لأن قوتنا من عندهم».

الشيخ يوسف البدري، فقد نشرت له جريدة الوفد كذلك تصريحه بأن بيان العلماء جاء متأخرًا كثيرًا وكان الأولى به أن يكون مبادرة وليس رد فعل، وتأكيده أن نزول كبار الدعاة وعلى رأسهم الشيخ الشعراوي والداعية محمد الغزالي والدكتور الطيب النجار، لمخاطبة جمهور الناس يدل على أن أحداثًا مزعجة قد حدثت، وأن خلف هذا النزول مؤشرات خطيرة، وقد تحامل العلماء على الشباب ووصفوهم بالبلاهة والجهل وهو وصف غير صحيح فأنا أعرف من شباب الجماعات الإسلامية من هو على علم وتقوى.

ويضيف الشيخ يوسف: أن قول الشيخ الشعراوي أن الكلمة تكون من الرأس إذا كان القوت من الفأس هو نفس العلة التي تعلل بها حكام العرب لتعطيل الشريعة الإسلامية. وهذه دعوة ضالة لأن مصر كانت سلة خبز العالم، وبالإمكان أن توفر قوتها، ولا ننسى أن اللقمة تأتي من عند الله، ولا يجوز أن يستخدم هذا مبررًا لتعطيل الشريعة، والدليل الأكبر قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾([111])، وهكذا يكون كلام الشيخ الشعراوي مخالفًا لأحكام الشريعة ومبادئها.

لقد تمنيت أن يأتي البيان موضوعيًا يحدد أسباب المشكلة بالبعد عن أحكام الشريعة، ثم يأتي بالعلاج وأن يناقش كلا الطرفين الشباب من جانب والحكومة من جانب آخر، وأعتقد أن أي كلام لتسكين ثائرة الشباب دون تطبيق الشريعة الإسلامية يعد مسكنًا لا علاجًا»([112]).

وكلا الشيخين لا انتساب لهما إلى جماعة من الجماعات الإسلامية، وليس الاستدلال بمقالات أحد الفريقين بأولى من الاستدلال بمقالات الفريق الآخر!!.

***

 


التطرف في الوسط القضائي

لقد كان لشيوع أفكار التطرف آثارها على محراب القضاء، فقد ظهر فريق من القضاة يعلنون براءتهم من القوانين الوضعية، ويمتنعون عن الحكم بها في بعض القضايا التي تكون المخالفة فيها للشريعة صريحة صارخة، وقد يصدرون حكم الشريعة استنادًا على النص الدستوري العام الذي يقرر أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ويثبتون ذلك في حيثيات هذا الحكم، وحجتهم في ذلك ما يزعمونه من أن القاضي المسلم ملتزم بمقتضى إسلامه أن يحكم بين الناس بما أنزل الله، وأن هذا الالتزام سابق على غيره ومبطل لكل ما يعارضه، وأن القاضي الذي يجترئ على الحكم بغير ما أنزل الله فإنما يجترئ على الكفر أو الظلم أو الفسق!!، أفلا تعتبر مواقف هؤلاء القضاة امتدادا للتطرف الديني بما تنطوي عليه من إهدار الشرعية القانونية التي انتصبوا لحمايتها وإقامة العدل من خلالها ومخالفة أولي الأمر الذين أمروا بطاعتهم في كل من القانون والشريعة؟ أم أن هذه المواقف يمكن تخريجها على نحو آخر؟.

الحكم بغير ما أنزل الله كبيرة من أكبر الكبائر يتراوح حكمها في القرآن الكريم بين الكفر أو الظلم أو الفسق، ولا ينفك الحاكم بغير ما أنزل الله - إذا لم يكن مخطئًا أو مكرهًا - عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة بحال من الأحوال، فإذا كان يحمد للمسلم أن يتورع عن المتشابهات وأن يجعل بينه وبين الحرام جُنَّة من الحلال، وأن يترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، فكيف يلام على الامتناع عن عمل أدنى درجات الظلم أو الفسق؟ وقد يبلغ بصاحبه مبلغ الكفر والخروج من الملة؟ كيف يجبر المرء على أمر يوقفه بين الكفر أو الظلم أو الفسق؟، وكيف لا يحمد له تجنبه لهذا الأمر وابتعاده عن السقوط في أوحاله؟.

أرأيت لو امتنع القضاة جميعًا عن الحكم بغير ما أنزل الله، هل كانت تمضي كل هذه السنوات على القوانين الوضعية دون أن تمتد إليها يد بالمراجعة والتغيير؟.

ألا يمثل هذا الاحتجاج صرخة بالغة تصك آذان المسئولين وتحملهم على المراجعة وإعادة الحساب. إننا نحيي كل قاضي مسلم يتخذ هذا الموقف، ونشد على يديه،  ونوصيه بالصبر على أمر الله حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده.

أليس من نكد الدنيا أن يعتبر الحكم بما أنزل الله والمطالبة بإقامة شرعه تطرفًا وعدوانًا،  ويسمى الحكم بغير ما أنزل الله حكمة واعتدالًا؟؟!!.

ولكن هذا القاضي قد أقسم على احترام الدستور والقوانين؟

ولكن الدستور ينص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا يقضي بالبطلان الدستوري على كل ما يخالف الشريعة الإسلامية من القوانين واللوائح، فهو عندما يمتنع عن تطبيق القانون الوضعي المخالف للشريعة في قضية من القضايا أو يحكم فيها بما أنزل الله فقد امتنع عن تطبيق قانون غير دستوري، قد قضى الدستور نفسه ببطلانه، وقام بتطبيق قانون دستوري قد أرشد الدستور نفسه إلى تطبيقه، أو على الأقل هذا اجتهاد القاضي وهو اجتهاد كثير من كبار رجال القانون ورجال القضاء يجعل القاضي في حل من هذا القسم! وأخيرًا أليس من المفارقات العجيبة أن يقسم أحد بالله على أن يحكم بغير ما أنزل الله؟ وأن يجعل من الحلف بالله مانعًا دون الحكم بشريعة الله؟!.

أما ما ذكرت من أن هذا الموقف يتضمن فيما يتضمن مخالفة أولي الأمر الذين أمرنا باتباعهم في كل من القانون والشريعة فهو تعميم فاحش يحتاج إلى إعادة نظر، لأن الشريعة لم تأت بطاعة مطلقة لأحد من دون الله، فقد قيدت الطاعة لأولي الأمر بأن تكون فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد سبق تفصيل القول في هذه المسألة، وإيراد الأدلة على ذلك من محكمات الشريعة،  ومقالات أهل العلم فلا داعي للإعادة.

***

 


التطرف والتنكر للانتماء القومي

تلتقي فصائل التيار الإسلامي على رفض الدعوة إلى القومية العربية أو إلى غيرها من القوميات، ويرونها لونًا من ألوان الارتداد إلى الجاهلية الأولى، ويتنادون بالقومية الإسلامية واعتبار الإسلام وحده أساس الانتماء ومعقد الولاء والبراء، يريدون بهذا أن يجعلوا من الإسلام وحده سياسة فيختزلونه في شكل سياسي، ويغلفونه كدين، ويمنعون منه غير المسلمين، ليتحول على أيديهم في النهاية إلى ديانة قومية مغلقة شبيهة بالديانة اليهودية، ويجعلون منه عدوًا لكل وطنية، وخصمًا لأي جنسية بينما الدين الإسلامي دين عام شامل إنساني حضاري، فلا هو قومية متعصبة، ولا شعوبية جاهلة، فما تعليقك على هذا التوجه ؟

يذكرني سؤالك هذا بما ذكره سقراط من أن فهم مقولة الخصم وتحرير محل النزاع هو أساس كل خلاف في الكون ولو فهم كل فريق مقولة الآخر على وجهها لما بقي بينهما نزاع، ولا أخفي عليك عجبي ودهشتي مما ذكرت، ولكن دعنا نبدأ بالتعرف على موقف هؤلاء من الدعوة إلى القومية، مقدمين لذلك ببيان حقيقة هذه الدعوة.

والقومية في حقيقتها حركة سياسية تنادي بحق كل أمة في أن تكون وحدة سياسية واحدة، وتدعو إلى عقد الولاء والبراء على أساس الانتماء إلى هذه الأمة.

والقومية العربية حركة سياسية تدعو إلى عقد الولاء والبراء على أساس الانتماء إلى العروبة، وتنادي بحق العرب في أن تكون لهم وحدة سياسية جامعة.

ولقد نشأت الدعوة إلى القومية كرد فعل لحركة التتريك التي انتشرت في تركيا وكانت مقدمة طبيعية لانفراط عقد الأمة الإسلامية وتمزق دولة الخلافة، فبعد أن كان الإسلام هو الرابطة الجامعة لكل من انتسب إليه عربًا كانوا أو عجمًا تفجرت هذه النعرات فتنادى العرب يا للعرب، وتنادى الأتراك يا للأتراك، وتحزب هؤلاء وتحزب هؤلاء، وكانت بداية النهاية لدولة الخلافة، ولقد كان الرواد الأوائل للقومية العربية وسلفها الأولون من غير المسلمين، فإن نصارى العرب هم أول من حمل لواء الدعوة إلى القومية العربية وذلك بشهادة النصارى أنفسهم، وحسبنا أن نعلم أن أكثر من 90% من قادة الحركة القومية العربية من خريجي الجامعات الأمريكية ببيروت، وأن نصيف اليازجي وبطرس البستاني وهما أول من ابتدع الدعوة إلى هذه الفكرة كانا من نصارى جبل لبنان، وأن الإرساليات التبشيرية والجمعيات العلمية النصرانية  كانت وقود الدعوة إلى هذه الفكرة.

وتعتبر الدعوة إلى القومية العربية تجديدًا للشعوبية القديمة، وهي دعوة نشأت بين العجم تدعو إلى احتقار العرب وإعلاء شأن الفرس، وبث هذه الروح في أوصال الأمة الإسلامية أملًا في تمزيق هذه الأمة وتشرذم أبنائها.

ولما كان تعبير القومية في واقعنا المعاصر قد اختلط ببعض المعاني المحمودة أو الفطرية فإن من الواجب التفصيل لنميز الخبيث من الطيب فنقول:

إن كان المقصود من القومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره، وأحقهم بإحسانه وجهاده، وأن يعمل المسلم من أجل رفعة بلده وأمته العربية الإسلامية باعتبار ذلك تكليفًا شرعيًا تعبده الله به، وأن ذلك يعد طريقًا ومدخلًا لرفعة العالم الإسلامي والأمة الإسلامية ككل، فلا حرج في ذلك ولا غضاضة لأنه لا تعارض بين الجزء والكل ولا بين الخاص والعام، فقد تمهد في فقه الشريعة: «أن الأقربين أولى بالمعروف، وأن حق الجيران آكد من حقوق غيرهم من سائر المسلمين، وأن أولى الجيران بالرعاية أقربهم إليك بابًا، وأن الزكاة تنفق في إقليمها، ولا تنقل إلى غيره إلا إذا استغنى هؤلاء واحتاج أولئك، أو أصابتهم مجاعة، أو نحو ذلك».

وإن كان المقصود بها أن الأمة جميعًا مطالبة بالعمل والجهاد، وأن على كل قوم فيها أن يحققوا الغاية من جهتهم حتى يلتقي الجميع في ساحة النصر، فيجتهد العرب في إقامة الإسلام في بلادهم، ويجتهد أهل باكستان في إقامة الإسلام على أرضهم، ويجتهد أهل إفريقيا في إقامة الإسلام من جهتهم، حتى يلتقي الجميع في ساحة النصر الجامع إن شاء الله، وفي بحبوحة الخلافة الجامعة بعد ذلك فذلك محمود مقبول.

أما إن كان المقصود بها التفريق بين المسلمين، وسلخ العرب عن نسبهم الإسلامي، وعقد الولاء والبراء على أساس العروبة فحسب، واتخاذها سلمًا إلى موالاة  كفار العرب وملاحدتهم، وإلى رفض تحكيم الشريعة الإسلامية، فذلك لعمر الحق هو الخسران المبين والردة السافرة عن الإسلام، وذلك للأسباب الآتية:

أولًا: إن معقد الولاء والبراء هو الإسلام لا غير، وأن الدعوة إلى الإسلام تنتظم جميع الأجناس و الألسنة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، و لهذا كانت الدعوة إلى عقد الولاء والبراء على أساس العروبة من دعاوي الجاهلية التي تفرق بين المسلمين والتي صح فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «من دعى بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم، وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله»([113]).

وحسبك أنها فرقت جماعة المسلمين، وأسقطت دولة الخلافة حيث تعصب العرب لعروبتهم، وتعصب الترك لطورانيتهم، فنشأت حركة التتريك في تركيا، ثم نشأت حركة القومية العربية في بلاد العرب، ثم تنادي الجميع إلى الانفصال، ثم انتهى الأمر إلى أن تحركت الجيوش العربية بقيادة لورانس لتحارب مع الحلفاء الكافرين جيوش الأتراك المسلمين!!.

ثانيًا: أنها سلم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم بجامع العروبة والقومية ففي الوقت الذي تعمل فيه القومية العربية إلى قطع وشائج الولاء والتناصر مع بقية المسلمين من غير العرب، تمهد السبيل إلى موالاة الكفار العرب لأن منهجها لا يفرق بين عربي وعربي، وإن تفرقت أديانهم، وقد تمهد في محكمات النصوص تحريم موالاة الكافرين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، والنصوص في ذلك كثيرة نذكر منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَِ﴾([114]).

ثالثًا: إنها المدخل الطبيعي إلى العلمانية  وفصل الدولة عن الدين، لأنها بهذه الصورة تنتظم أديانًا شتى، وبطبيعة الحال لمن يرضى أبناء هذه الديانات وقد التقوا في رابطة قومية جامعة بسيادة شريعة إحدى هذه الديانات دون غيرها.

فيتواضع الجميع على تعطيل العمل بكافة الشرائع الدينية والتحاكم إلى ما يختارونه لأنفسهم من القوانين الوضعية، وقد تمهد في محكمات النصوص وجوب التحاكم إلى ما أنزل الله، والقطع بالحكم بالردة عن الإسلام على كل من يأبى ذلك. قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([115])،  وقال تعالى:  ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ([116]).

أما الاعتراض بأن الدعوة إلى عقد الولاء والبراء على أساس الإسلام تهدف إلى أن تجعل من المسلمين وحدة سياسية واحدة فذلك حق، وهو الذي كانت عليه الأمة الإسلامية ثلاثة عشر قرنًا من عمر الزمان لم ينقطع إلا في أوقات الفتن وفي فترات متباعدة، حتى انفرط عقدها وسقطت خلافتها في هذا القرن، فتمزقت بددًا، وصارت كمَّا مهملًا في ذيل قافلة الرقيق.

ولا أدري ما وجه الاعتراض على ذلك والنصوص بين أيدينا قاطعة في وجوب اجتماع الكلمة والاعتصام بحبل الله، والنهي عن التنازع والتفرق وفساد ذات البين؟ 

 ألم يقل الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾([117])،  ألم يقل الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾([118])، ألم يحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفارقة الجماعة وشق عصا الطاعة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»، ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من جاء يريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم حتى تبقى دولتهم قوية متمسكة وذلك في مثال قوله صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنًا من كان»، فما وجـه الاعتراض إذن عـلى دعوة تهـدف إلى أن يصبح  المسلمون وحدة سياسية جامعة؟.

أما الادعاء بأنهم يريدون أن يغلقوا الإسلام كدين، وأن يمنعوا منه غير المسلمين فهذا لعمر الحق أعجب العجب  وأغرب الغرائب، بل القول الذي لم يسمع بمثله الأولون والآخرون!!، وأشهد الله أنه ما طاف بخيال أحد من الدعاة إلى تطبيق الشريعة طرفة عين، فضلًا عن أن يتبناه ويدعو إليه؟، إن عموم الرسالة وعالمية الدعوة من الأمور المعلومة بالضرورة من الدين، وما كفر الدعاة إلى تطبيق الشريعة بدعوة القومية إلا لأنها قدمت لتكون بديلًا من عالمية الإسلام، وأنها تخدش الاجتماع على أساس الإسلام، وتقصر الولاء على العرب دون بقية المسلمين، فلأنها عصبية جاهلية ضيقة لفظها هؤلاء وتجاوزوها إلى بحبوحة الإسلام،  ولسان حالهم يردد:

ولست أرضى سوى الإسلام لي وطنـًا         الشـام فــيه ووادي النــيل سيانـي

وحيثما ذكــــر اسـم اللــه فـي بلـــد عددت أرجــــاءه مـن لب أوطاني

أبعد هذا يتهم التيار الإسلامي بأنه ينادي بإغلاق الإسلام كدين،ويمنع منه غير المسلمين؟! تالله إنها لإحدى الكبر! وسُيردّ قائلها إلى ربه فيعلم!!.

ولا أدري ما معنى قول القائل: «ويمنعون منه غير المسلمين»، وما مرجع الضمير في هذه العبارة؟!، هل يريد أنهم يمنعون غير المسلمين من الإسلام، وإن من أراد أن يسلم من أهل الكتاب أو من الوثنيين وقفوا له بالمرصاد ومنعوه من دخول الإسلام لأن الإسلام خاص بهم وحدهم؟!، هل سمع بهذا من أحد؟، هل نقل إليه عن أحد؟، أتراه مدركًا لما يقول؟، أم أنه يهذي كالذي يتخبطه الشيطان من المس؟، اللهم إنا نبرأ إليك من الضلالة ونعوذ بك من الخذلان والجهالة، ونشهدك على الذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا !!.

***


التطرف الديني والتصوف

للتطرف الديني مع قضية التصوف موقف يتسم بالشدة البالغة والعداوة المزمنة. فهو يقرر أن التصوف وإن كان قد بدأ ربانية وتزكية إلا أنه انتهى إلحادًا وزندقة، ويرفض ما يقوم به السادة الصوفية حول مقامات الصالحين من أعمال يعبرون بها عن حبهم لأولياء الله: كتقبيل أضرحتهم، والتبرك بها، وإيقاد السرج حولها للزائرين، ونذر النذور لتكون طعامًا لمن لاذ بأعتابها من الفقراء والمساكين، وإحياء ذكراهم كل عام ليتجدد الشوق والحنين، والتوسل بمقاماتهم عند الله في كشف الضر عن المستجيرين، بل قد يصل رفضهم إلى درجة اعتبار هذه الأعمال إشراكًا بالله، وتسمية أصحابها بالقبوريين والخرافيين والمشركين!! رغم أن هؤلاء من أكثر الناس معرفة بالله وتعظيمًا لأوليائه واستماتة في طلب مرضاته!!.

بل بلغ الأمر بكثير من هؤلاء المتطرفين مبلغ القول بحرمة الصلاة في المساجد المقامة على أضرحة الصالحين، وقد يذهب بعضهم إلى بطلانها، مخالفين بذلك إجماع الأمة كلها التي اتفقت على مشروعية هذه المساجد وتعظيمها بل وتخصيصها بمزيد من التعظيم اعتبارًا بما تضمه من رفات الأولياء والصالحين، والرحمات التي لا ينقطع نزولها من السماء بسبب وجود أجسادهم الطاهرة فيها، و الدعوات التي لا ينقطع صعودها إلى السماء ترحـمًا عليها وعلى ساكنيها!!.

ولقد أدت هذه النظرة الظالمة إلى هذه الأعمال إلى الوقوع في كثير من الفتن والمنازعات بينهم وبين السادة الصوفية، بل تطورت هذه المنازعات في الآونة الأخيرة إلى حد قيام مجموعات من المتطرفين بالتسلل إلى أضرحة بعض الصالحين وإحراقها على حين غفلة من المصلين، الأمر الذي  أوفى على الغاية في الاستفزاز والاستهانة بمشاعر المؤمنين، وقد تمكنت سلطات الأمن من القبض على بعض مدبري هذه الحوادث وردعهم بما يستحقون، ولكن المشكلة أعمق من أن تتصدى لها أجهزة الأمن فحسب، إنها تمثل صراعًا بين فريقين يدعي كل منهما أن الحق في جانبه، والأمة من ورائهم حيرى متخبطة، وتوشك أن تزهد في هؤلاء وهؤلاء، وأن ينفلت زمامها فتسترسل مع الأهواء والشهوات، وتصبح نهبًا لأصحاب المذاهب الإلحادية، فأين وجه الصواب في كل هذه المتناقضات؟ وأين موقع كل واحد منها من التطرف والاعتدال؟ وما المخرج من هذه الفتن المظلمة؟.


نشأة التصوف:

لقد ذكرت في كلامك جملة من المسائل يحسن الفصل بينها ليتسنى مناقشة كل واحدة منها على حدة. فقد تحدثت عن منشأ التصوف ونسبت إليهم القول بأن التصوف قد بدأ ربانية وتزكية وانتهى إلحادًا وزندقة:

أما قولهم إن التصوف قد بدأ ربانية وتزكية فهذا الذي عليه عدد كبير من أهل العلم ونخص بالذكر منهم ابن تيمية من السابقين، ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا من المعاصرين، فقد ذكر ابن تيمية أن لفظ التصوف لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة الأولى، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، كما ذكر أن أول ظهور للصوفية كان بالبصرة فقد كان فيها من المبالغة في الزهد والورع والخوف والعبادة ما لم يكن في سائر الأمصار، فكما كان في الكوفة من سلك من طريق العلم والفقه ما له فيه اجتهاد،كان في البصرة من سلك من طريق العبادة والزهد ما له فيه اجتهاد، حتى قيل فقه كوفي وعبادة بصرية، ونظرًا لما كان ينقل عنهم من العجائب في باب الخوف والورع والعبادة مما قد يقترن بالزيادة عن أحوال الصحابة أو مخالفة السنة تنازع الناس في طريقهم:

فطائفة ذمت التصوف والصوفية وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة.

وطائفة قالت وادعت أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء.

والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومن سابق بالخيرات بإذن الله([119]).

فمن جعل طريق أحد الزهاد أو العباد أفضل من طريق الصحابة فهو ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد أخطأ في أمر من أمور العبادة مذمومًا ممقوتًا فهو ضال مبتدع، فالمؤمن يثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته، فقد يجتمع فيه ما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه.

وأما أنه انتهى بعد ذلك إلحادًا وزندقة: فمن المعلوم أن تاريخ التصوف قد عرف بعد ذلك صوفية الرسم الذين ليس لهم من التصوف إلا اللباس والهيئة الظاهرة،كما عرف صوفية البدع والأهواء، ثم عرف أخيرًا صوفية الإلحاد والخروج السافر على الكتاب والسنة، وهي المرحلة التي ظهر فيها القول بوحدة الوجود والحلول وسقوط التكاليف ونحوه، حتى كان أحدهم يقول عن نفسه إنه هو الله!! ويمر آخر منهم  على كلب ميت  فيقول: هذا ربي هذا ربي!!.

فالتصوف إذن قد مر بكل هذه الأطوار، وقد يغلب عليه في واقعنا المعاصر صوفية البدع والأهواء في بعض المناطق  وربما غلبت عليه صوفية الإلحاد والعقائد الفاسدة في غيرها من المناطق: وإن كان هذا لا ينفي وجود بقية من صوفية الاتباع والتزكية في هذه وفي تلك.

وأيًا كان الحال فإن هذا الأمر مرده إلى الاستقراء، فقد ينشأ الرجل بين فريق من صوفية الإلحاد فيعمم الحكم من خلالهم على سائر القوم، أو العكس، قد ينشأ بين فريق من صالحي الصوفية أو من أهل البدع المخففة منهم  فيعمم الحكم من خلالهم على البقية، والمحكم في هذا كله هو المعايير التي نحاكم على أساسها الصوفية وغيرهم، فإذا صحت المعايير واستقامت أصبح الخلاف في الاستقراء  والتقدير والتعيين  هينًا ويسيرًا بعد ذلك.

التبرك:

 وماذا عن كراهية هؤلاء المتطرفين للأولياء، وجرأتهم على الصالحين من عباد الله؟.

ماذا تقصد بكراهية هؤلاء المتطرفين للأولياء وجرأتهم على الصالحين من عباد الله؟.

أقصد هذا التشنج والرفض المطلق لما يقوم به السادة المتصـوفـة مـن بعض الأعمال التي يعبرون بها عن حبهم لأولياء الله، كالتبرك بهم وتقبيل مقاماتهم وإيقاد السرج حولها خدمة للزائرين، وتقديم النذور لمن يلوذون بها من الفقراء والمساكين والإحياء السنوي لذكراهم تجديدًا للأسوة وإطفاء للواعج الحنين.

أما ما ذكرت من التبرك فإن من يتأمل نصوص الكتاب والسنة يدرك أن البركة قسمان:

1- بركة ذات: وهي تسري على كل ما اتصل بهذه الذات، وهذه البركة خاصة بالأنبياء والمرسلين لا يشركهم فيها غيرهم، ولا تتعدى آثار هذه البركة إلى من عداهم إلا إذا كان مقتديًا بهم ملتزمًا بما دعوا إليه وجاهدوا في سبيله، ولهذا لم تتعد بركة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم أحد لما وقع من الرماة يومئذ من مخالفة عن أمره صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فذات النبي صلى الله عليه وسلم، مباركة، وكل ما اتصل بها فهو مبارك، فالنبي صلى الله عليه وسلم مبارك الذات والصفات والأفعال، وقد صح تبرك أصحابه صلى الله عليه وسلم ببعض الأشياء المنفصلة عن بدنه كالشعر وماء الوضوء والعرق والنخامة ونحوه، نذكر من ذلك ما رواه البخاري في سنده من حديث عروة بن مسعود وفيه: «... ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بعينيه فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، فوالله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها»([120]).

وما رواه البخاري أيضًا بسنده عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: «أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيها شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة، فاطلعت في الجـلـجل فرأيت شعـرات حمرًا»([121]).

والمراد من ذلك كما يقول الحافظ في الفتح إنه كان من اشتكى أرسل إناءً إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل به استشفاء بها فتحصل له بركتها([122]).

وهذه البركة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقاس عليه في ذلك أحد من أمته لإجماع الصحابة على ذلك، فإنهم لم يقع منهم شيء من ذلك مع أفضل الخلق من بعده أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، فكان ذلك إجماعًا منهم على ترك هذه الأشياء، وقد يكون ذلك منهم سدًا للذرائع، أو لاعتقادهم اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المرتبة، وقد أشار إلى ذلك الشاطبي رحمه الله في الاعتصام حيث قال: «... إن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم، بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنهما وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء»([123]).

وعد الحافظ ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر استلام القبور من الكبائر([124])

فإذا تمهد ذلك فقد صح أن التبرك بالأضرحة وما حولها من الستور ونحوه بدعة لا أصل لها ويجب تجنبها قطعًا لذريعة الشرك واقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إجماعهم على تركه.

ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية قد نصت في فتوى رسمية صدرت في عهد الشيخ عبد الرحمن قراعة على بدعية التمسح بالأضرحة وتقبيلها والتبرك بها على النحو الذي يفعله العامة في هذه الأيام، وكان هذا في الفتوى الصادرة في 29 من شوال 1344 هـ الموافق  12 مايو 1926، كما صدرت الفتوى بذلك أيضًا في عهد الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله وهي منشورة ضمن كتابه «فتاوى شرعية»([125]).

2- النوع الثاني من التبرك بركة الأعمال: وهي عامة لكل من أحسن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأعماله، من ذلك قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم، أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنها: «فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها»([126])، فهذه من بركة الأعمال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج بها فكان ذلك سببًا في عتق كثير من قومها، والصالحون من عباد الله بركة على قومهم وأمان لأمتهم بهذا الاعتبار، فإنهم بطاعتهم لله وبدعوتهم إلى الله، وبأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يسوق الله رحمته، ويدفع نقمته، ويرفع بلاءه، بل قد يكون وجود الصالحين في ذاته سببًا في دفع العذاب عمن معهم من الكفار والفجار حتى لا يصيب العذاب هؤلاء الصالحين كـما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾([127]).

 هل معنى هذا أنه  يجوز للقائل أن يقول: نحن في بركات أولياء الله الصالحين؟ ونحن في بركاتك يا سيدنا الشيخ؟!.

هذا الكلام صحيح باعتبار، باطل باعتبار.

 فإن قصد به أن باستقامة الصالحين في أنفسهم على أمر الله، وبدعوتهم من معهم إلى طاعة الله  وبما يقومون به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يدفع الله البلاء ويفتح أبواب الرخاء والسراء فهذا حق، فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة ويدفع من العذاب بسببهم حق بهذا الاعتبار حق لا ريب فيه، ومن أراد بالبركة هذا فهو صادق وقوله حق.

 أما إن أراد به معنى بدعيًا كمن يعتقد أن وجود صالح مقبور في أحد الأماكن يكون سببًا في رفع البلاء عن أهل هذا المكان وإن لم يقوموا بطاعة الله، أو من اعتقد أن من أشرك بهم فسجد لهم من دون الله، أو قبل الأرض بين أيديهم تحصل له البركة والسعادة وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله، فذلك من الباطل الصراح.

وأظنك تذكر أيها العزيز أن المدينة المنورة قد استبيحت في واقعة الحرة ولم يمنع عن أهلها وجود النبي صلى الله عليه وسلم مدفونًا بها، لأن أهلها كانوا قد أتوا من الأعمال ما يستحقون به ذلك، كما أخالك تذكر أن النصارى قد استولوا على أرض الشام قرابة 120 عامًا ولم يدفع عن أهل هذه البلاد وجود الخليل عليه السلام مدفونًا بها، وأن القاهرة قد تعاقبت عليها جيوش الاحتلال الفرنسي ثم الإنجليزي ولم يمنع عنها ذلك وجود أكابر الأولياء المدفونين في أرضها،  ولهم عند أهلها من التبجيل ما يتجاوز حدود المشروع في أغلب الأحيان، فمن اعتمد على أن بركة الميت تدفع عن الحي مع كون الحي عاملًا بمعصية الله فهو غالط لا محالة.

 وماذا عن إنكارهم على إضاءة الشموع على القبور؟؟

أنكروا ذلك لما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»، ولما يتضمنه ذلك من إضاعة المال في غير فائدة، والإفراط في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام، ولهذا عدها كثير من أهل العلم من الكبائر، منهم ابن القيم رحمه الله، ومنهم ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر حيث عنون لها في هذا الكتاب وذكرها في موضوعين: أولهما عند ذكر الكبيرة الرابعة والتسعين،  والآخر عند ذكر الكبيرة الثانية والعشرين بعد المائة([128])، وقد صرح بالنهي عنها فقهاء المذاهب الأربعة([129])، فهل يصح التشنيع عليهم بذلك، وقد ورد فيه من النصوص ومقالات أهل العلم ما ورد؟!، وهل ينسبون بسببه إلى كراهية الأولياء والصالحين أم إلى اتباع سيد الأولين  والآخرين؟!.

النذر:

 وماذا عن نذر النذور لإفادة من يقوم على خدمتها من المتطوعين، ولمن يلوذ برحابها من الفقراء والمساكين؟ أتظن أن الناذر يقصد إطعام الميت؟ أم أنه يقصد إعانة من يقوم على خدمة ضريحه أو من يعكف حوله من أبناء الطريق؟.

هذه النذور أيها العزيز باطلة بإجماع المسلمين وهي مع قصد تعظيم البقعة أو تعظيم من دفن فيها من الشرك الجلي الذي يحبط العمل ولا يبقى معه مثقال ذرة من إيمان.

 لقد بدأت تردد نفس المقولات التي يرددها المتطرفون، وأظنك ستسوق نفس الحجج والبراهين!.

سيدي! أذكرك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، فلما سئل عن الكبر قال: «بطر الحق وغمط الناس»؛ فاحذر أن تحملك اللجاجة والخصومة على بطر الحق والتجافي عن أهله، فإن الكبر والغرور هو أول ما عصي به الله عز وجل،  وبهما استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد، وأعيذك بالله من ذلك!!.

إن النذر لهذه المشاهد أيها العزيز لا يكون إلا مع تعظيمها ورجاء نفعها مع الله أو من دون الله، ولهذا لا يكون النذر مطلقًا وإنما يكون مرتبطًا بجلب منفعة أو دفع مضرة، مثل: إن رد علي غائبي أو عوفي مريضي فلك نذر كذا وكذا، فهو لا ينفك عن تعظيم المقبور واعتقاد تأثيره في جلب المنافع ودفع المضار، وذلك هو الشرك الأكبر الذي سقط في شراكه عباد الأصنام في الجاهلية الأولى، وهو محرم عند فقهاء المذاهب الأربعة([130]).

 ولكن الناذرين لهذه الأضرحة لا يعتقدون فيها الألوهية، ولا يتعبدون لأصحابها من دون الله؟

إن نفس التوجه إليها بالنذور، واعتقاد تدخلها في قضاء الحوائج على وجه من الوجوه يعد في ذاته عبادة لغير الله، لأن تعظيمها بالنذر واعتقاد قدرتها على النفع والضر باب من أعظم أبواب العبادة، وهل عبادة الله إلا تعظيمه والتقدم بالنسك إليه؟!.

إنهم لا يعتقدون تدخلها في قضاء الحاجات أو دفع الملمات؟

حسنًا...!! فلماذا ينذرون لها إذن؟ وما وجه الربط بين القولين: إن شفي مريضي فلك من النذر كذا وكذا؟

ومن ناحية أخرى فإني أتوجه إليك بهذا السؤال: هل يستطيع الناذر إذا قضيت حاجته أن ينكث في نذره؟، ألا يعتقد أن عشرات الكوارث والنكبات ستلاحقه إذا تردد في الوفاء بهذه النذور؟، ويقول إن أصابه شيء من ذلك هذا سر الشيخ وقد انتصف الشيخ لنفسه! إن الواقع يا سيدي الكريم أنهم يعتقدون قدرة المقبور على سوق النفع في البداية ولهذا ينذرون له، وقدرته على إيصال الضر في النهاية إذا نكثوا في نذورهم، ولهذا يوفون بهذه النذور، وبين البداية والنهاية يجتالهم شيطان عن دينهم ويزين لهم عبادة غير الله، وهم غافلون.

ومما هو جدير بالذكر أن النهي عن هذه النذور والقول ببطلانها وعدم وجوب الوفاء بها قد صدرت به الفتاوى الرسمية من دار الإفتاء المصرية التي أكدت على عدم انعقادها وعدم اشتغال الذمة بها وأنها حرام وسحت، وممن أفتى بهذا من المفتين الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ عبد الرحمن قراعة والشيخ حسنين مخلوف، ومن قبلهم الشوكاني والصنعاني رحمهم الله أجمعين.

 ولكنهم يقولون دائمًا: إن النذر لله والثواب للأولياء؟.

حسن جدًا، فلماذا  إذن جعلوا ثواب النذر للأولياء؟، لماذا لم يجعلوه لأنفسهم أو لأحد من ذوي  رحمهم؟، ولماذا لم يكن هذا النذر إلا بمناسبة حاجة طرأت أو نازلة نزلت؟، ولماذا ارتبط النذر بقضاء هذه الحاجة أو بدفع هذه الملمة؟، وما دخل الولي في ذلك كله؟ إنها أمثلة لو تدبرتها لعلمت بشاعة المغالطة في هذه المقولة، وأدركت كيف أجلب الشيطان بخيله ورجله على هؤلاء وزين لهم عبادة غير الله وهم غافلون؟.

إنهم يعتقدون كما ذكرت لك قدرة الولي على التدخل في تيسير هذه الحاجة، أو دفع هذه النازلة، فيتقربون إليه بهذا النذر ليقوم بالوساطة اللازمة لقضائها، ثم يعتقدون قدرته على الإضرار بمن تسول لهم أنفسهم التردد في الوفاء بهذه النذور، ولذلك يسارعون إلى الوفاء بها ولا يترددون، اتقاء لسخط هذا الولي ودفعًا لنقمته.

ولقد جاء في الفتوى الرسمية التي أصدرتها دار الإفتاء ردًا على ما تذكر من أنهم ينذرون لله نسوقه إليك بنصه: «والظاهر لنا أن هؤلاء العوام وإن قالوا بألسنتهم إني نذرت لله أو تصدقت لله فمقصدهم في الواقع ونفس الأمر إنما هو التقرب إلى الأولياء والصالحين وليس مقصدهم التقرب إلى الله تعالى وحده ولم يبتغوا بذلك وجهه»([131])، وكان المفتي يومها الشيخ عبد المجيد سليم.

ولكن هذه النذور يستفيد منها العاملون على خدمة هذه الأضرحة والمجاورون لها من الأحباب وأبناء الطريق؟.

إذا كان إبراز هذه القبور ابتداء على هذا النحو وجعلها عيدًا وسترها بالستور وإيقاد السرج عليها كل ذلك من الكبائر كما رأيت، فكيف يجوز العكوف حولها، والانتصاب لخدمتها،  وإغراء العامة بتعلق قلوبهم بها من دون الله؟؟!.

إن الشارع قد قطع الذريعة إلى الشرك وحمى جناب التوحيد فلا يجوز في شريعته مثل هذا العكوف البدعي، أليس في هؤلاء المجاورين شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: ما هذه التماثيل التي  أنتم لها عاكفون؟ أليس في هؤلاء السدنة شبه من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، أو شبه من سدنة  الصلبان والمجاورين عندها؟.

إننا نقول لك: أثبت الحجر أولًا ثم انقش... فإذا كان الحجر لم يثبت لأنه لا شرعية لتميز هذه القبور ابتداء بتشييدها وبناء القباب فوقها وسترها بالستور، وإيقاد السرج عليها، واتخاذ المساجد حولها، فلن يثبت ما تريد أن ترتبه على ذلك من توفير الموارد لمن سميتهم بالمجاورين وأبناء الطريق، لأنه لا شرعية لهذه المجاورة ابتداء حتى يثور البحث حول توفير الموارد المالية لأصحابها من النذور ونحوه!.

الأضرحة.

 ولماذا لا يجوز بناء الأضرحة على هذه القبور تخليدًا لذكرى الصالحين، واعترافًا بفضلهم وتشجيعًا على زيارتهم للترحم والاستغفار؟

لأن هذا هو الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيح عند مسلم وغيره نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يجصص القبر أو أن يبنى عليه([132])، وأمره أن تسوى القبور المشرفة بالأرض، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبى الهياج الأسدي قال: «قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته»([133]) ولقد اتفـقت كلمة أهل العلم من فقهاء المذاهب الأربعة على النهي عن البناء على القبور أو تجصيصها وكراهـية ذلك([134])، ولهذا جعل الفقهاء الوصية بتطيين القبور وبناء الأضرحة عليها وصية باطلة، ويصرف المبلغ الموصى به على هذه الأعمال إلى الفقراء، وقد صدرت بهذه المعاني فتوى رسمية من دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد المجيد سليم بتاريخ 2 / 7 / 1928([135]).

 ولكن ما وجه الحكمة في ذلك؟.

الحكمة من ذلك متعددة: منها أن ذلك من زينة الحياة الدنيا فلا حاجة للميت به، فهو إضاعة للمال في غير فائدة، ومنها - والله أعلم - أن البناء على القبور وتمييزها على هذا النحو ذريعة إلى الافتتان بها وتعظيم أصحابها والتوجه إليهم بالدعاء من دون الله، ولعل الذي نشاهده في واقعنا المعاصر فيما يحدث حول هذه الأضرحة المشيدة أبلغ دليل على ذلك!.

الاحتفال بالمولد

 وماذا عن إحياء الذكرى السنوية لهؤلاء الصالحين لتجديد الأسوة بهم وانتفاع العامة بما يتخللها من المواعظ والأعطيات؟.

لقد نهت الشريعة عن مثل هذه الاجتماعات البدعية حتى جعلتها مانعًا من الوفاء بالنذر ! فقد روى أبو داود عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلًا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟»، قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟»، قالوا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: «أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم».

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ  فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»([136]). 

وهذا يدل على بدعية هذه الاجتماعات، وعلى أن الذبح لله في أمكنة أوثان المشركين وأعيادهم معصية، فإن نذره فلا يجب الوفاء به، والمراد بالعيد في هذا المقام الاجتماع العام على وجه معتاد يتكرر بصفة دورية مع ما يتبعه من العبادات والعادات، وهو هذا الذي نسميه: «إحياء الذكرى السنوية»، ويسمى في بعض المناطق: «بالمولد»، مع ما يتبعه من شد الرحال، والتمسح بالجدر والأستار وتلاوة المبتدع من الأوراد والأذكار، ومخالفة السنن والآثار!.

أما ما ذكرت من تجديد الأسوة وانتفاع العامة بالمواعظ والهبات فلم تتعين هذه الاجتماعات البدعية طريقًا إلى ذلك، وفي المباحات مندوحة عن المحرمات، فالأعطيات أبوابها مفتوحة لمن شاء، والاجتماع على الندوات العلمية ومجالس الوعظ مكفول لمن شاء، فلم تتعين هذه الأحفال طريقًا إلى هذه المصالح التي لا تكاد تذكر إذا ما قورنت بما ينشأ عنها من المفاسد الدينية والخلقية على نحو تعرفه مصلحة الآداب وسجلات الأمن العام؟!.  

ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد المجيد سليم قد أفتت بأن عمل الموالد على النحو الذي يجري عليه العمل الآن ليس من القرب لأنه لم يفعله السلف الصالح، ولاشتماله على كثير من المخالفات الشرعية، وأن الوقف على عملها لا يلزم، ويصرف المال الموقوف على ذلك للفقراء والمساكين، وقد صدرت هذه الفتوى في غرة ربيع الثاني 1361هـ.


التوسل:

وماذا عن التوسل إلى الله بالصالحين؟ إن شراذم المتطرفين تصر على أنه بدعة وشرك وكفر؟ وكل ما يخطر على بالك من ألفاظ اللعنة والنقمة؟

التوسل إلى الله بدعاء الصالحين مشروع وهو أحد الأسباب التي يقبل بها الدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حينما توجه إلى العمرة: «لا تنسني يا أخي من دعائك»، وإن كان من أهل العلم من قال بضعف هذا الحديث، أما التوسل إلى الله بجاه الصالحين وذواتهم فهو من مسائل الاجتهاد، والجمهور على المنع منه، ولا يعرف دليل صحيح يدل على مشروعيته، ولا أدل على عدم مشروعيته من عدول الصحابة عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته عند الاستسقاء وتوسلهم بدعاء العباس، وقول عمر: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا واليوم نتوسل إليك بعم نبينا»، فتقدم العباس يدعو والناس خلفه يؤمِّنون([137])، ولو كان التوسل بالجاه والذات مشروعًا ما ترك الصحابة التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه، إذ لا يقارن جاهه صلى الله عليه وسلم بجاه عمه العباس، ولأن حرمة جاهه صلى الله عليه وسلم  لم تنقطع بموته فإن جاهه عند الله عظيم في حياته وبعد مماته وإلى أبد الآبدين، فلما عدل الصحابة عن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء عمه علم من ذلك اتفاقهم على عدم مشروعية التوسل إلا بدعاء الأحياء أو بما يقدمه الإنسان  بين يدي دعائه من الطاعات والقربات.

وأين أنت من حديث توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى رد الله عليه بصره؟ وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: «إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه فيّ وشفعني في نفسي، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر»، ولا تتوهمن أن هذا خاص بحياته صلى الله عليه وسلم فلقد علمه الصحابي الجليل عثمان بن حنيف راوي الحديث لرجل كان له إلى عثمان بن عفان حاجة لم يدرك قضاءها، وأمره أن يدعو بهذا الدعاء فقضيت حاجته؟، وهذا يدل على مشروعية التوسل به في حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلم؟.

لقد فهم بعض أهل العلم من الحديث ما تقول؛ فأجازوا التوسل وقصروه على شخص النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أطلق القول بجوازه، ولكن الراجح والذي عليه جمهور أهل العلم أن توسل الأعمى كان بدعاء النبي  صلى الله عليه وسلم  في حياته لا بذاته بدليل قوله في الدعاء: «اللهم شفعه فيّ وشفعني في نفسي»، فهو دعاء بأن يقبل الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم له وهذه الفضيلة لا تتحقق لمن لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من أن العميان الآن لا يلزم أن يجابوا إلى دعائهم كما أجيب دعاء الأعمى الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أما تعليم عثمان بن حنيف هذا الدعاء للرجل الذي كانت له حاجة إلى عثمان ففي إسناده نظر،  فقد ضعفَّه أهل العلم بالحديث.

 ولكن كثيراً من أهل العلم ينازعك في هذا ويرى مشروعية التوسل؟

لقد قلت لك من البداية أن المسألة اجتهادية([138])، ولكن الراجح فيها هو القول بالمنع.

 وما تقول فيمن يزعم من المتطرفين أن التوسل كفر وشرك؟.

من قال ذلك فقد غلط، لأننا لا نعرف أحدًا من أهل العلم ذهب إلى هذا المذهب، ولكن قد يحدث خلط بين التوسل بالصالحين في الدعاء، وبين دعائهم أنفسهم من دون الله، فلعل الذين قالوا إن التوسل شرك كانوا يقصدون صورة التوجه إلى الميت بالدعاء كقول القائل يا حسين ارزقني واشفني ونحوه، فإن مثل هذه الصيغة شرك بالاتفاق.

ولكن قائل هذه الصيغة لا يقصد منها أكثر من التوسل به إلى الله، فهو يعلم أن الحسين لا يملك بذاته نفعًا ولا ضرًا، وليس له من الأمر إلا الشفاعة والدعاء، فكيف فرقت بينهما وهما يؤولان في النهاية إلى معنى واحد؟.

لأن اللغة والعقل والشرع يفرقون بين أن تسأل إنسان أن يقضي لك حاجتك وبين أن تتشفع به لدى آخر، فهو في الأولى مسئول وفي الثانية مسئول به، ولذلك كانت الأولى شركًا لما تتضمنه من دعاء غير الله، ولم تكن الثانية كذلك لأن المدعو فيها هو الله، وإنما دخل الابتداع في هذه الصيغة المحدثة في الدعاء، أما إذا ثبت بيقين أن السائل لا يقصد هذا المعنى الظاهر المتبادر، ولم يرد بصيغة الدعاء إلا التوسل، وأنه أخطأ في التعبير عن معنى التوسل بهذه الصيغة ألحقت بالتوسل وكان حكمهما واحدًا، ولكن يبقى الأصل أن ظاهر هذه العبارة هو الشرك، حتى نعلم أو يغلب على ظننا انتفاء إرادة هذا الظاهر، وتوجه القصد لمجرد التوسل.

تحريم زيارة القبور.

 هل أتاك نبأ تحريم أهل التطرف لزيارة القبور؟، واتهام من يفعلون ذلك بالشرك والردة عن الإسلام اتباعًا للشيخ ابن تيمية؟.

لم يأتني هذا النبأ، ولا أعرف عن أحد منهم ولا عن الشيخ ابن تيمية أنه ذهب إلى هذا المذهب، فإن ابن تيمية يقرر أن زيارة القبور مشروعة ولو كانت قبور الكفار، فهو يقول في اقتضاء الصراط المستقيم: «وزيارة القبور جائزة في الجملة حتى قبور الكفار، فإنه في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي»... إلى أن قال: وروى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة»، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارتها بعد النهي، وعلل ذلك بأنها تذكر الموت والدار الآخرة، وأذن لنا إذنًا عامًا في زيارة قبر المسلم والكافر»([139]).

ولكنهم يفرقون كما يفرق ابن تيمية بين الزيارة الشرعية التي تكون طلبًا للموعظة وتذكرًا للآخرة وسلامًا على الميت، واستغفارًا له، وبين الزيارة البدعية التي يراد بها دعاء الميت من دون الله، والتمسح بقبره، وإيقاد السرج عليه، وينفتح بها من ذرائع الشرك ما لا يعلمه إلا الله!!.

فالذي يحظره ويحظرونه هو ما يصحب هذه الزيارة من البدع والشركيات، أما الزيارة ذاتها فقد اتفق أهل الإسلام قاطبة على مشروعيتها بلا نزاع.

أراك تنكر على استلام الضريح وتقبيل الستور المسدلة فوقه، وفي إنكارك هذا من الغفلة عما يقتضيه الحب من الاندفاع إلى هذه الأعمال التي يروي بها المحب غلته من غير أن يطوف بخاطره خاطر العبادة المزعومة لهذه الأضرحة ولا لأصحابها من دون الله.. أما سمعت قول المحب القديم

أمر على الديار ديار سلمى         أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

 وما حب الديار شغفن قلبي        ولكن حب من سكن الديارا

بل أما سمعت قول الآخر:

 أوما ترى الجلد الحقير مقبلًا        بالفم لما صار جلد المصحف

أراكم في شغل عن هذه اللطائف بما تكدحون فيه من توزيع شهادات الحكم بالكفر والشرك على عباد الله!! ولو عمرت العاطفة قلوبكم لنظرتم إلى هذه الأعمال بمنظار آخر؟.

أما حب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحين من عباد الله فإنه أساس مكين من أسس الإيمان، بل لا يتم إيمان بدونه، وإن تخلفه يعني الزندقة والنفاق الأكبر، وإننا نتعبد الله بحب نبينا وحب الصالحين من عباده كما نتعبده بالصلاة والصيام والصدقة، وهل الدين إلا الحب والبغض؟.

وكيف لا نتعبد الله بذلك وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في الصحيح: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، وفي رواية: «لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين»، وقوله صلى الله عليه وسلم في أصحابه: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ومن آذى الله يوشك أن يأخذه»، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب»، وهل لأحد قِبَل بحرب الله عز وجل حتى يعادي أولياءه؟.

أما أن يتمثل التعبير عن هذا الحب في هذه الأفعال فهذا موضع النزاع أيها الصديق، لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع،  ونحن متبعون لا مبتدعون، لقد رأينا الشريعة لم تجعل التقبيل عبادة إلا للحجر الأسود، ولم تجعل الاستلام عبادة إلا للركن اليماني بالكعبة، ولم تجعل الالتزام عبادة إلا عند باب الملتزم، ولم تجعل الطواف عبادة إلا حول الكعبة، فوقفنا حيث أوقفنا الله ورسوله، لأننا لم نجد أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل شيئًا من ذلك في غير هذه المواضع، فأدركنا أنهم فهموا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم اختصاص هذه الأماكن بهذه العبادات، ولو كان تعدية حكمها إلى غيرها دينًا وعبادة لما فاتهم ذلك وهم أحرص الناس على الخير وأولاهم به، ألا يسعك أيها العزيز ما وسع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟.

إن الذي يأتي بذلك لا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون قد جاء ببدعة ظلمًا، أو فاق أصحاب محمد علمًا، فأي الرجلين أنت أيها العزيز؟!.

أما ما ذكرت من تقبيل الجدر حبًا في أصحابها ومن تقبيل جلد المصحف توقيرًا للمصحف، فإن مورد الأول ليس في باب العبادات، وإنما هو عادة من العادات، فإن الذي كان يقبل جدار سلمى لم يكن يتعبد بذلك، وقياس العبادات على العادات قياس مع الفارق، لأن العبادات مبناها على التوقيف ومرجعها إلى الأدلة، وليس إلى أبيات من الشعر سيقت في مورد الغزل بسلمى أيها الصديق!!.

أما تقبيلك المصحف فقد روي أن عكرمة بن أبي جهل كان يقبله ويقول: هذا كتاب ربي، فإن صحت هذه الرواية فهو أثر يمكن أن يعتمد عليه في تقبيل المصحف خاصة، فضلًا عن أن الذريعة إلى الشرك في تقبيل المصحف منتفية، أما الذريعة إلى الشرك في تقبيل أعمدة القبور وأستارها وجدرها مفتوحة، وهي ذريعة قريبة جدًا أيها الصديق!.

ولكي تقطع الشك باليقين أسوق لك الفتوى الرسمية الصادرة من مفتي مصر الأسبق الشيخ حسنين مخلوف وقد ورد إليه سؤال حول من يطوفون بالأضرحة ويقبلون المقاصير المضروبة على قبورهم ويوفون ما التزموه من النذور لهم فكان مما أجاب به رحمه الله: «إن الطواف لم يشرع إلا حول البيت المعظم تعبدًا لله سبحانه وطاعة، فلم يرد عن الشارع في الكتاب أو السنة نص في الطواف حول غيره ولم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وتابعي التابعين وهم خير القرون أن طاف أحد منهم حول قبر عند زيارته، فلا يجوز الطواف حول القبور، ويجب التزام آداب الزيارة عند حصولها حتى تقع على الوجه المشروع ولا تقترن بمحرم أو مكروه من الأعمال، كما لا يجوز تقبيل المقاصير والشبابيك والأبواب والقباب والأعتاب والتمسح بها في الأضرحة والمشاهد، وكل ذلك من أعمال الجاهلية التي يعتقد العامة أنها من باب العبادة أو المبالغة فيها  يتقربون إلى الله بها ويرجون المثوبة عليها. وما هي في شيء منها، إذ أن العبادة إنما تكون بما شرعه الله وحدده في كتابه أو سنة رسوله، وليس للعباد أن يشرعوا فيها ما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم»([140]).

 لقد بلغ الشطط والتطرف بهؤلاء مبلغ اعتزال المساجد المقامة على هذه الأضرحة وتحريض الناس على اعتزالها، ونهيهم عن الصلاة فيها، وهم يقرءون في القرآن في قصة أصحاب الكهف: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾([141])، وهم يرون بأم أعينهم ما يراه المسلمون أجمعون من وجود القبر الشريف بالمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أليس هذا محض المخالفة للقرآن،  والمكابرة لما أجمع عليه المسلمون على مدار التاريخ؟.

ليس الأمر كما تتوهم أيها العزيز، فإن النهي عن اتخاذ المساجد على القبور هو صريح هديه صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال به أئمة العلم على مدار القرون، إن القبر والمسجد لا يجتمعان في الإسلام أبدًا، وأيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، وقد عنون البخاري في صحيحه فقال: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور([142])، وعنون مسلم في صحيحه فقال: النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد([143]).

والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة ومستفيضة نذكر منها:

عن عائشة وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» تقول عائشة: «يحذر ما صنعوا»([144]).

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم، تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية، وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»([145]).

وعن جندب بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «... ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»([146]).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([147]).

هذا وقد جعله الإمام ابن حجر الهيتمي من الكبائر وذكره مرتين في كتابه الزواجر: مرة عند ذكر الكبيرة الثلاثة والتسعين،والأخرى عند ذكر الكبيرة الحادية والعشرين بعد المائة([148])، وبالجملة فإن المنع من ذلك هو إجماع من تكلم في  هذه المسألة من أهل العلم([149]).

ومما هو جدير بالذكر أن فتوى رسمية قد صدرت من دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد المجيد سليم تقضي بتحريم دفن الموتى في المساجد وهي الفتوى الصادرة بتاريخ  22/6/1940 م([150]).

كما ورد استفتاء إلى مجلة منبر الإسلام - وهي مجلة رسمية تصدرها وزارة الأوقاف المصرية حول حكم الدين في إقامة الأضرحة داخل المساجد، فأجاب الشيخ عطية صقر مفتي المجلة بما يلي: «سبقت الإجابة عن هذا السؤال في عدد ذي الحجة، وخلاصتها أنه إذا أقيم المسجد فلا تجوز إقامة ضريح فيه، وإذا أقيم ضريح فلا تجوز إقامة المسجد عليه كما هو الرأي المختار»([151]).

ولكن ما هو المعنى المراد من اتخاذ القبور مساجد المنهي عنه فيما ذكرت من الأحاديث؟

اتخاذ القبور مساجد يشمل الصلاة على القبور أو الصلاة إليها: أو بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها، وهناك بعض الأحاديث التي يؤخذ من مجموعها هذه المعاني منها: ما رواه الطبراني في المجموع الكبير من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر»، وما رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي سعيد من نهيه صلى الله عليه وسلم، أن يبنى على القبور أو يقعد عليها، أو يصلى إليها، وقول عائشة في الصحيح: «فلولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا»، أي أن يبنى عليه مسجد، فعلم بذلك أن بناء المساجد على القبور داخل في معنى الاتخاذ الوارد في الأحاديث.

وقد قال الشافعي في الأم: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه»([152]).

أما ما ذكرت من قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾([153])، فلا وجه للاستدلال به لأنه شرع من قبلنا،  وقد ورد ما ينسخه في شريعتنا وهو هذه الأحاديث المصرحة بالنهي والدالة على التحريم.

 ولكن شرع من قبلنا شرع لنا كذلك؟ ألم يقل الله جل وعلا بعد أن ذكر أنبياءه في سورة الأنعام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾([154])؟.

هذه قضية خلافية فلأهل العلم فيها قولان، ولكن المحكم عند الجميع أنه إذا جاء ناسخ لذلك في شريعتنا فلا يعمل بالشريعة السابقة،وقد قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾([155])، وعلى هذا فإن قلنا إن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا فقد بطل الاستدلال بهذه الآية، وإن قلنا أن شرع من قبلنا شرع لنا فقد علمت أن الشرط في ذلك ألا يأتي ما ينسخه في شريعتنا، وقد جاء النسخ في قضيتنا هذه متمثلًا في أحاديث النهي السابقة.

    أما ما ذكرت من وجود قبره الشريف في مسجده الشريف صلى الله عليه وسلم، فلا وجه للاستدلال به لأن دخول الحجرة النبوية التي بها القبر إلى المسجد لم يكن في عهد الصحابة، فقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، وظلت هذه الحجرة منفصلة عن المسجد حتى عهد الوليد بن عبد الملك الذي أدخل الحجرة وفيها القبر في المسجد الشريف، ولم يكن في المدينة المنورة يومئذ أحد من الصحابة، فلا يجوز والحال كذلك أن نستدل بهذا الفعل وقد علمت مخالفته للأحاديث الصحيحة الصريحة، وفهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومخالفته لصنيع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان اللذين وسعا المسجد ولم يدخلا فيه القبر.

 ولكن ما هي الحكمة الكامنة في هذا النهي والتي استوجبت كل هذا التشدد؟

الحكمة في ذلك والله أعلم هي قطع الذريعة إلى الشرك، وحماية جناب التوحيد حتى لا يبالغ أحد في تعظيم ميت فيفتتن به، ولعل فيما يحدث حول قبور الصالحين في واقعنا المعاصر أبلغ جواب على هذا التساؤل([156]).

  ولكن وجود المساجد على القبور مما شاع العمل به في بلاد المسلمين من غير نكير؟  أتظن أن هذه الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على باطل، وأن هؤلاء المتطرفين وحدهم على الحق أليس ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن؟، أليس يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار؟، ألستم تقولون أن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد؟، ألم تأت النصوص في لزوم الجماعة وتحذر من مفارقتها، وتتوعد الخارج عليها؟ ما لكم لا تعقلون؟!.

على رسلك أيها الحبيب: إن جمهور الناس قد فارقوا الجماعة، فإن الجماعة هي الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن مضى من أئمة المسلمين، وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن في كلامك جملة من النقاط تحتاج كل واحدة منها إلى تعليق:

تقول: لقد شاع وجود المساجد على القبور في بلاد المسلمين من غير نكير فكان ذلك دليلًا على شرعيتها، وأقول: كم من المنكرات قد شاعت في زماننا هذا وعمَّ فسادها حتى شب عليها الصغير وشاب عليها الكبير؟، ألم تحكم الأمة بغير ما أنزل الله تحت سمع وبصر الملايين؟، ألم يصبح الربا دعامة الاقتصاد في بلاد المسلمين؟، ألم يصب غباره كل إنسان  أقلته أرض المسلمين أو أظلته سماؤهم؟، ألم ينتشر السفور وكشف ما أمر الله بستره في نساء المؤمنين؟، فمتى كان شيوع المنكرات دليلًا على مشروعيتها أيها العزيز؟.

ومن ناحية أخرى فما أدراك أنه لم يكن نكير على ذلك من أحد من المسلمين؟، إن الدعاة إلى التوحيد والدين الخالص لم يزالوا يصدعون بكلمة الحق وإن أغضبت أصحاب الأهواء، وإن كتب أهل العلم لم تزل حافلة بالإنكار على ذلك من السابقين والمعاصرين، وقد ذكرت لك جملة من مقالات أهل العلم وفتاوى دار الإفتاء المصرية الصادرة في هذا الصدد! .

فكيف يصح مع ذلك القول بأن هذا الأمر مما شاع به العمل في بلاد المسلمين من غير نكير؟، وأي  نكير أبلغ من أن تصدر دور الإفتاء الرسمية فتاواها بالإنكار على هذا العمل وتسجل ذلك في مضابطها الرسمية؟.

    وتقول: كيف تكون هذه الملايين على باطل وهذه القلة وحدها على الحق؟، وأقول: متى كانت الكثرة وحدها دليلًا على الصواب؟، وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾([157])، وقد بلغك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء»، إن أتباع الرسل لا يزالون هم القلة على مدار التاريخ، وإن شيوع الباطل وكثرة أتباعه لا يجعله حقًا، كما أن غربة الحق وقلة أنصاره لا يجعله باطلًا؟، إن التاريخ لا يزال يذكر ما قاله بعض السلف، وقد كشفوا أمام خصومهم في إحدى المعارك: والله لو نهشتنا السباع أو تخطفتنا الطير ما شككنا أنكم على الباطل،  وأننا على الحق!!.

وإني سائلك سؤالًا وأترك لك التدبر في منطوقه ومفهومه: كم نسبة النساء المحجبات إلى السافرات في بلاد المسلمين؟، كم نسبة المصلين إلى غير المصلين؟، بل كم نسبة المسلمين إلى غير المسلمين؟، ألا يدلك ذلك على أن الكثرة إذا فسد الزمان لا تحمل وحدها دلالة على شيء؟، أما ما تذكر من لزوم الجماعة فإن لزوم الجماعة في هذا المقام لا يشترط لها قلة ولا كثرة بل هي ما وافق الحق ولو كنت وحدك.

ولهذا كان نعيم بن حماد يقول: «إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت حينئذ وحدك».

وقد قال عبد الله بن مسعود لعمرو بن ميمون الأودي: «يا عمرو بن ميمون: أتدري ما الجماعة؟، قال: لا، فقال له: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك»،، وفي رواية أخرى أنه قال له: «ويحك إن جمهور الناس قد فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل»([158]).

وقال أبو شامة: «حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وأتباعه. وإن كان المتمسك بالحق قليلًا والمخالف له كثيرًا، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم»([159]).

فالجماعة إذن أيها العزيز هي ما دلت عليه النصوص، وفهمه منها السلف الصالح، مهما كان المتمسكون به في هذه الأيام قليلين وغرباء. 

وما حكم الصلاة في هذه المساجد المقامة على القبور؟

اتفق الأئمة على النهي عن الصلاة في هذه المساجد لما سبق إيراده من الأحاديث الصحيحة الصريحة، أما حكم هذه الصلاة فهو مسألة خلافية عند أهل العلم: فمنهم من أفتى ببطلانها، ومنهم من قال بصحتها مع الإثم، وأما كراهتها فهي موضع اتفاق الجميع، فإن جمهور الأئمة على أن الصلاة فيها منهي عنها، إما نهي تحريم أو لا تصح كالمشهور من مذهب أحمد وغيره، وإما نهي تنزيه كمذهب الشافعي، وموارد الاجتهاد لا يضيق فيها على المخالف([160])، وعلى هذا فلا وجه للإنكار عليهم في نهيهم عن الصلاة في هذه المساجد لأن هذا هو الذي اتفق عليه الأئمة، ولا للإنكار على من ذهب منهم إلى عدم صحة الصلاة فيها لأنه رأي متوجه، أفتى به الإمام أحمد وابن قدامة صاحب المغني وغيرهما من أهل العلم، فهو أحد الرأيين في مسألة اجتهادية، فلا يجوز أن ينسب من يقول به إلى الغلو.

الرقى والتعاويذ .

 ومـاذا عن مقالاتهم الفجة في الإنـكار على الرقى والتمائم والتـعاويذ، وقد علمت أن العين حق، أو كـما يحـكى في بعض الآثار لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين؟.

الرقية إذا كانت بالقرآن أو الأذكار والأدعية الصحيحة  فهي مشروعة،  لما رواه مسلم في صحيحه عن عون بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله كيف نرقي في ذلك؟ فقال: «اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»، ولقد وردت السنة الصحيحة ببعض الرقى، مثل رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وهي في صحيح مسلم: «باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك»، أما إذا تضمنت الرقية شيئًا من الشرك كالاستغاثة بغير الله، أو كانت بكلام غير مفهوم فهذه هي الرقية الممنوعة وقد سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»([161]).

أما التعاليق التي يعلقها الناس طلبًا للشفاء أو دفعًا للعين ونحوه فهذه من المحرمات بل من الشرك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وغيره عن عقبة بن عامر: «من علق تميمة فلا أتم الله  له، ومن علق ودعة فلا أودع الله له»، ولما رواه أحمد في مسنده عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى  رجلًا في يده حلقة من صفر، فقال له: «ما هذه؟»، قال من الواهنة، فقال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا!، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا !!»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك»([162]).

 هل ينطبق ذلك على ما نعلقه من آيات القرآن؟.

تعليق التمائم التي من القرآن طلبًا للشفاء من مسائل الاجتهاد، فمن أهل العلم من أجازها وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد روي أنه كان يحفظ أولاده الكبار هذه الدعوات ويعلقها في ألواح في عنق الصغار، وقد أعلت هذه الرواية بأنها ضعيفة من ناحية، ولأن تعليقها ربما كان للحفظ بدليل تحفيظه للكبار، لاسيما وأن الأصل في التميمة أن التميمة تكتب في ورقة لا في لوح، من ناحية أخرى.

ومن أهل العلم من منعها وهو اختيار ابن مسعود وابن عباس وكثير من الصحابة،  ورجحه كثير من أهل العلم لعموم أحاديث النهي من ناحية، ولسد الذريعة إلى الشرك من ناحية ثانية إذ قد يتدرج من المختلف فيه إلى المجمع على رده، ولصيانة المعلق من الامتهان من ناحية ثالثة، إذ قد يحمل أثناء قضاء الحاجة والاستنجاء ونحوه.

ولسنا في هذا المقام بصدد مقابلة الآراء والترجيح بينها، وإنما بصدد تحقيق القول في اتهام من يمنع مثل هذه التمائم بالغلو والتطرف، وبيان أن هذا المنع قول متوجه، وأنه إن لم يكن هو القول الراجح وقول الجمهور في هذه المسألة فإنه على الأقل أحد القولين في مسألة اجتهادية، فكيف يتهم من يذهب إليه بالشطط والتطرف وقد علمت أنه قول ابن عباس وابن مسعود وكثير من الصحابة؟.

وإذا كانت التهم تلقى جزافًا على هذا النحو فما المانع أن توجه تهمة التطرف إلى الفريق الآخر كذلك واتهام كاتهام؟!.

أما ما تذكره من العين وأثرها فذلك حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين»([163])، ولكن ضررها يستدفع بالوسائل الشرعية الصحيحة كالرقى المشروعة ونحوه، شأنها في ذلك شأن سائر المضار، فنحن ندفع المرض بالتداوي ولكن لا نتداوى بمحرم، كذلك ندفع العين بالرقى والتعاويذ الشرعية، ولا نستخدم من ذلك ما كان شركًا أو ما كان ذريعة إلى ذلك، وفي الحلال منادح واسعة.

***

 


ماذا يعبدون؟!

 يقع جمهور المتطرفين في شبهة التجسيم والتشبيه بسبب مغالاتهم في رفض التأويل، حتى إنهم يصرحون بأن لله يدا وساقا وعينا وصورة إلى غير ذلك مما ورد في نصوص المتشابهات، والتي لو استطردنا مع مقولاتهم فيها لاستطعنا أن نركب منها صورة متكاملة لبشر مثلنا، ولهذا صح قول من قال: إن المشبهة يعبدون صنما!! فأين موقع هذه المقولات من التطرف والاعتدال؟.

الذي عليه جماهير أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة، وتابعهم عليه من تسميهم بالمتطرفين أن نثبت لله ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، لأن الكيف مجهول بيقين، ولا سبيل إلى الاطلاع عليه لأحد من العالمين، فهم يقولون في جميع هذه الصفات ما قاله مالك في الاستواء (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، ولهذا شاع في مقولاتهم: إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([164])؛ فنفى الكيف بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وأثبت الوصف بقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

هذا ولن يـخلو أحـد من الـثقات القائلين بالـتأويل من أن يثبت شيئًا من هذه الصفات، فيحتج به عليه في إثبات ما نفاه   فإن أثبت العلم ونفى السمع، يقال له لم أثبت العلم وقد رأيت أن البشر يعلمون، أليس في ذلك تشبيه لله بخلقه؟!!.

فإن قال: إنه علم يليق بجلاله يختلف عن علم المخلوقين، قلنا وكذلك السمع ! فإنه سمع يليق بجلاله يختلف عن سمع المخلوقين، وهكذا. فماذا تنقم منهم في ذلك أيها العزيز؟.

ولكن الاستطراد مع هذه القاعدة وتطبيقها في النصوص المتشابهة سيوقع في التشبيه لا محالة، لأنه سينتهي بنا إلى إثبات اليد والرجل والساق والعين والوجه والصورة!!وقد جاء في كل ذلك نصوص أيها العزيز؟.

إن الذي يوقع في التشبيه ليس إثبات الوصف، ولكن التخوض في الكيف وإثباته على النحو الذي   تكون عليه صفات الحوادث، فمن قال: يد كأيدينا أو عين كأعيننا فقد سقط في هاوية التشبيه لا محالة، أما من فوض في أمر الكيف ووكل علمه إلى الله عز وجل ووقف حيث أوقفه الله ورسوله فذلك الذي   قد أحرز نفسه في حصن حصين، وتحضرني في هذا المقام أبيات من الشعر أسوقها لك على سبيل البيان، وهي تحكي قصة رجل أجهد نفسه في معرفة الكنه والكيف فوقعت له واقعة سجلها الشاعر في هذه الأبيات:

سعي  ليدرك كنه الله خالقــــــــه          وأوغل السير في سهــل وفي جبل

حتى إذا لم يجد من سعيـــه أمـــلا        وأوشـك العقل أن يختل من كلل

أي غلامـــا يشـــط البحــر مجتهد        أفـــي حفر بئر بلا يأس ولا ملل

فقال مهـــلا ماذا تبتغـــي فرنـــا إليـــه في همــــة كبرى وفي أمـل

وقال إني أريـد البحـــر أنقلـــــه لهــذه البئـــر هلا زدت في عمـلي

فقال ويحـــك! هذا البحــر تنقله  لهـــذه البئر هذه منتهـي الخبـــل

فقال حسبك يا من جئت توعظني لقــد تجاوزت في لومي وفي جدلي

أأنت أكبر أم رب الوجـــود مدى          حتـــى ترى نقله في عقلك الثمل

***

 


التطرف والأقليات

 يزعم فريق من المتطرفين أن إخواننا من غير المسلمين اليوم لا عهد لهم ولا ذمة، لأنهم قد نقضوا هذه الذمة بما ينسبونه إليهم من تآمر على الإسلام !!، وطعن في دين المسلمين، وتحزبهم للاستقلال بالقسم الجنوبي من البلاد وإقامة دولة خاصة بهم!!، وعمالتهم لخصوم الإسلام وأعدائه خارج البلاد، ويزعمون أن الوثائق والتصريحات شاهدة بذلك كله، وقد ترتب على هذه النظرة وقوع كثير من حوادث الاعتداء التي قام بها بعض هؤلاء المتطرفين وكادت أن تشعل نار الفتنة الطائفية في طول البلاد وعرضها لولا نخبة من العقلاء قيضها الله لإطفائها، فما مدى هذه الرؤية من المنظور الشرعي، وما هو  الإطار الشرعي الصحيح الذي يجب أن يحكم العلاقة بين الفريقين في مثل هذه الحالات وفي غيرها ديانة وسياسة؟!.

لأهل الذمة في الإسلام حقوق وعليهم واجبات، فمن حقوقهم تأمينهم على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتركهم وما يدينون، فيأمنون على معابدهم وأداء شعائرهم  والتحاكم في مسائل الأسرة إلى كنائسهم، والإطار الجامع لهذا كله «لهم مالنا وعليهم ما علينا»، أما الواجبات المنوطة بهم فيمكن إيجازها في الولاء للدولة الإسلامية، وعدم الطعن في المقدسات الإسلامية، فإن طعنوا في ديننا أو ظاهروا علينا عدونا فقد برئت منهم الذمة.

ولكن السبيل لا يكون إلا على من ثبت في حقه هذا النقض، أو رضي به وظاهر عليه، أما من برئ منه وأنكره فأولئك ما عليهم من سبيل، والأصل في هذا ما هو مقرر في كل الكتب السماوية من أن الجرم لا ينسب إلا لمن أتى به، ولا يحاسب عليه إلا من باشره أو ظاهر عليه، قال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾([165])، وقال تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾([166])، وعلى هذا فالأصل بقاء الذمة والعصمة حتى تثبت هذه الأمور في ذاتها أولًا، ثم يثبت في حق المعين أنه ممن جاء بها أو ظاهر عليها  ثانيًا، ودون إثبات ذلك مسافات شاسعة.

ومن ناحية السياسة الشرعية ليس في مصلحة الدعوة إلى تطبيق الشريعة التي ينادي بها التيار الإسلامي التحرش بهذه الأقليات التي تستخدم ورقة رابحة في أيدي المبطلين لتعطيل هذه الدعوة وزراعة الألغام في طريقها، إنهم يتذرعون بهذه الأقليات لتبرير التجاهل المتعمد لتطبيق الشريعة،  ويتعللون بأن هذا سيفجر في البلاد نيران الفتنة الطائفية، وسيجرها إلى سلسلة من الاضطرابات والحروب الأهلية، والأمر الذي لا تحتمله  الظروف الراهنة في البلاد، فإذا أحسن هؤلاء لأهل الذمة فقد أسقطوا هذه الحجة من أيدي المبطلين، وفوتوا عليهم المزايدة على هذه الورقة، وأمنوا ظهورهم من جهة قد تستخدم لتطويق هذه الدعوة وضربها عند الاقتضاء، وقد جاء في بعض الوثائق ما يدل على أن هذه الفكرة قد طرحت على بساط البحث.

 

 

التطرف وقضايا المرأة

 للمرأة في عالم التطرف حكاية طويلة:

فهي تبالغ في الحجاب بطريقة استفزازية بحيث لا يرى منها إلا الوجه والكفان، وقد تغطيهما أيضًا أخذًا بالأحوط أو اعتقادًا لوجوب تغطيتهما كذلك، كما يفتي بذلك بعض أئمة الإرهاب وخبراء التطرف!!.

وهي لا تصافح أحدًا من الرجال مهما بلغت درجة قرابته، لا يستثني من ذلك إلا الزوج والمحارم مع ما يقتضيه ذلك من قطيعة الرحم وتدمير العلائق بين ذوي القربي!.

وهي لا تأذن في بيتها إذا غاب زوجها لغير المحارم حتى لا تتحقق الخلوة المحرمة كما يزعمون، مهما بلغت درجة قرابة هذا الزائر! مع ما يسببه هذا المنع من حرج، وما ينطوي عليه من شذوذ وإساءة ظنون!!.

وهي عازفة عن سماع الأغاني أو مشاهدة التلفاز بدعوى التفرغ لرعاية الزوج والولد أو الاعتكاف للعبادة والانقطاع لمطالعة الكتب الدينية، وقد تحمل أولادها على ذلك، مع ما يؤدي إليه ذلك من الغياب عن الواقع، ونشأة التوترات والعقد النفسية، الأمر الذي ينعكس بالضرورة على مستقبل الأجيال القادمة!!.

وهي لا تسافر من بلد إلى بلد إلا مع زوج أو محرم اعتمادًا على بعض المرويات في هذا الباب، في الوقت الذي سادت فيه مفاهيم المسـاواة والحـرية، وحطمـت فيه المرأة بقايا الأغلال! أفلا تعد هذه الردة الحضارية من قبيل التطرف والغلو في الدين؟، وهل يصح اعتبارها - كما يزعمون - من قبيل الورع والتحوط؟!.

لقد أثرت في سؤالك عددًا من القضايا يحسن الفصل بينها ومعالجتها واحدة واحدة.

الحجاب:

أما إنكارك عليها أنها تبالغ في التحجب بطريقة استفزازية بحيث لا يرى منها إلا الوجه والكفان، فهو إنكار عجيب ومنطق غريب، لأن الذي يعرفه المسلمون أجمعون أن هذا يمثل الحد الأدنى الذي يحرم الترخص فيه بوجه من الوجوه!!.

ألست تقرأ القرآن أيها الصديق العزيز؟، ألم تستوقفك آية الحجاب في سورة النور في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾([167])، أو قوله تعالى في سورة الأحزاب:  ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الـْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَهُ غَفُورًا رَّحِيمًاِ﴾([168]).

ألم تعلم بإجماع أهل الإسلام قاطبة على وجوب تغطية ما سوى الوجه والكفين؟ ثم زاد بعضهم فقال بوجوب تغطية الوجه كذلك؟ فكيف تعرض هذه الفريضة القطعية في الدين في معرض التشكك والإنكار؟ وتدفع أصحابها بتهمة التطرف والغلو وتجاوز حدود الاعتدال؟

وإن كنت في شك مما ذكرته لك فاسأل عنه كل من انتسب إلى العلم من المسلمين في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها، اسأل عنه رجال الفتوى ودور الإفتاء والمجامع الفقهية ومراكز البحوث الإسلامية وعمداء الكليات الشرعية، اسأل عنه الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقرويين  في المغرب، والنجف في العراق، وإدارة البحوث العلمية بالرياض،  ومجلس الفكر الإسلامي بباكستان، وكل جهة تظن فيها الدراية بالشرع والتخصص في علومه؟!! وسيأتيك الجواب من كل هؤلاء بما يذهب عنك وساوس الشيطان!

النقاب

أما ما ذكرت من مبالغة بعض هؤلاء النساء بتغطية الوجه كذلك عملًا بالأحوط فقد علم الفقهاء والمفتون وسائر المتخصصين في الدراسات الشرعية أن تغطية الوجه مسألة خلافية، وقد بدأ الخلاف فيها منذ عهد الصحابة، ومن القائلين منهم بوجوب تغطيته ابن مسعود، ومن القائلين بجواز كشفه ابن عباس  في إحدى الروايتين، وقد انتقل هذا الخلاف من الصحابة إلى الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهكذا إلى واقعنا المعاصر.

وقد أشارت بعض النصوص الشرعية إلى النقاب بإشارات مباشرة الأمر الذي يقطع معها بوجوده بل شيوعه في الصدر الأول، وأنه ليس بدعة كما يزعمون، نذكر من هذه النصوص:

 قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين»([169])، فلو لم يكن ستر الوجه معلوما وشائعا لما نهيت المحرمة عن ستره في الإحرام، لأن النهي عن شيء لا وجود له ضرب من العبث، وقول أم المؤمنين عائشة: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه»([170])، وقول أسماء بنت أبي بكر:«كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام»([171]).

فالقول بوجوب تغطية الوجه قول متوجه،  وهو أحد الوجهين في مسألة اجتهادية، وللقائلين به أدلة وسلف، والقول به لم يقتصر على شباب الجماعات الإسلامية بل أفتى به كذلك من شيوخ هذا العصر وفقهائه خلق كثير،  نذكر منهم على سبيل المثال علماء الحرمين المكي والمدني، والدكتور محمد محمود حجازي في التفسير الواضح، والشنقيطي في أضواء البيان والمودودي  بباكستان وآخرين وآخرين.

ولست هنا بصدد الانتصار لهذا الرأي أو ذاك، ولكني أردت أن أبين فقط أن هذا المذهب ليس بغريب وليس بمستنكر، وليس بدعة تركية كما زعم بعض المعاصرين، وإنما هو اجتهاد إسلامي أصيل حملته إلينا كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب الفقه، على مدار التاريخ الإسلامي من قبل أن يعرف الأتراك ومن قبل أن يدخلوا في الإسلام، ارجع إن شئت إلى كتاب زاد المسير لابن الجوزي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والتفسير الكبير للرازي، ومدارك التنزيل للنسفي، وأنوار التنزيل للبيضاوي، وأحكام القرآن للجصاص، والكشاف للزمخشري، وغير ذلك من الكتب التي يعجزنا حصرها، فهو إذن مما عرفه تاريخ الإسلام، بل كان هو الأصل في نساء الأمة على مدى هذه القرون المتطاولة([172]).

فالتي تفعل ذلك احتياطًا لدينها وخروجًا من الخلاف أو اعتقادًا منها بوجوبه فلا تثريب عليها في ذلك، بل هي مشكورة على ذلك ومأجورة، ولعلنا هنا نؤكد مرة أخرى على الضابط الذي ذكرناه للتطرف في بداية حديثنا، فقد قلنا: إن الأخذ بالأحوط أو العمل بأحد الرأيين في مسألة اجتهادية لا يعد من قبيل التطرف بحال من الأحوال، ولكن التطرف يكمن في مصادرة بقية الاجتهادات، وتجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف.

فمن تصادر اجتهادات الآخرين وتتهمهم في دينهم لأنهم رجحوا الرأي الآخر الذي يذهب إلى جواز كشف الوجه عند أمن الفتنة فهي التي يصح أن تنسب إلى  التطرف، ويجب إرشادها إلى سلوك الطريق القويم في التعامل مع المسائل الاجتهادية .

أما من فعلت ذلك احتياطًا لدينها أو اعتقادًا منها بوجوب النقاب، ولم تنكر على الآخرين اجتهاداتهم، ولا جعلت بها سبيلًا إلى عرضهم فلا يستطيع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن  يلومها على ذلك، أو أن يتهمها تصريحًا أو تعريضًا بالتطرف أو الغلو في الدين.

ولقد سئل فضيلة مفتي مصر الحالي الدكتور محمد سيد طنطاوي عن النقاب فأجاب: «النقاب فضيلة من الفضائل التي تريد المرأة من ورائها أن تزداد احتشامًا وتسترًا، ونحن لا نعتب عليها في ذلك أو نلومها على ذلك،  ولكن إذا كانت في الجامعة أو في عمل أو في هيئة من الهيئات وطلبت منها تلك الجهة التي تعمل فيها أن تكشف عن وجهها حتى تعرف ففي هذه الحالة يجب عليها أن تمتثل لهذا الأمر حماية لأمن تلك المؤسسة أو تلك الكلية، أما النقاب في ذاته فهو فضيلة من الفضائل التي لا نعيب عليها من تستعملها بشرط ألا تزعم بأن هذا هو الفرض أو الواجب لأن النقاب مجرد فضيلة والوجه عند جمهور العلماء ليس بعورة، وإذا دعت الضرورة إلى كشف الوجه فعليها أن تطيع لأن من يأمر بكشف الوجه حتى تعرف لم يأمر بمعصية»([173]).

وخير لمن ينتقدون على هؤلاء العفيفات أن يوجهوا سهام نقدهم إلى التطرف المقابل، إلى التطرف في السفور والتبذل والذي تحولت به شوارعنا إلى كرنفال أو معارض للأزياء،  تفتن المؤمنين والمؤمنات،  وتشيع التفسخ  والانحلال في أوساط هذا الجيل!!.

هل من السلوك الإسلامي أن تصر طالبة الطب على ارتداء النقاب وتروح وتغدوا على مرضاها بهذا المظهر الكريه؟.

لا أعرف نزاعًا بين أحد من أهل العلم في مشروعية تغطية وجه المرأة بنقاب ونحوه، وإنما وقع النزاع في وجوبه، وعلى هذا فلا تثريب على طالبة الطب ولا على غيرها في ارتداء النقاب مادام هذا لا يفوت عليها مصلحة شرعية معتبرة.

ولقد كان النقاب شائعًا أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نهي عنه بالنسبة للمحرمة، فقال: «لا تنتقب محرمة ولا تلبس القفازين»، ولو كان غير معروف أو شائع لما كان هذا النهي.

والعجيب أن جميع الأطباء رجالًا ونساء يلبسون ما يشبه النقاب عند القيام بإجراء أي عملية جراحية لا عتبارات علمية، فلماذا لا تعترض على هذا النقاب كذلك؟، أم الاستنارة تقتضي أن يقبل ماجاء من عند العلم ويرد ماجاء من عند الله؟.

 


ولكن النقاب ليس بواجب؟

لقد ذكرت لك أن وجوب النقاب مسألة خلافية، فلا تثريب على من لم تر وجوبه إن تخلت عنه إلا إذا فسد الزمان وخشيت الفتنة، وليس لأحد أن يتهمها في دينها على هذا الموقف، ولكن ليس لها أن تنكر على من ترتديه، إذ اجتهاد كاجتهاد، وليس تقليد هذا الإمام بأولى من تقليد ذلك، ما دمنا جميعًا ندور في فلك التقليد باعتبارنا من العامة أو أشباه العامة.

ولا أدري لماذا هذه الحملة المحمومة على النقاب؟، ولماذا لم نسمع إنكارًا بنفس المستوى على السافرات الموغلات في السفور والتبذل؟، وإنني أهمس في أذن رواد هذه الحملات الظالمة بهذا السؤال: أيهما أولى بوصف الخروج على الفطرة والاستفزاز لمشاعر الناس: المبالغة في التدين بالنقاب أم المبالغة في التهتك بارتداء الشورت و الميكروجيب؟، إنه سؤال أترك لضمائر هؤلاء أن يجيبوا عليه في لحظة من لحظات التجرد والصدق مع النفس، وما أندر هذه اللحظات في حياتنا المعاصرة؟!!.

مصافحة الرجال

أما ما ذكرت من امتناعهن عن مصافحة الرجال الأجانب ولو كانوا ذوي قربى، وأن هذا يؤدي إلى قطيعة الرحم وتدمير العلاقات فهو قول من غاب عن حقائق الشرع وانقطع عن التواصل مع علمائه!.

فلقد ثبت  النهي عن مصافحة المرأة الأجنبية في كثير من النصوص الشرعية، نذكر منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة»([174])، وما روي عن عائشة من أنه صلى الله عليه وسلم: كان إذا بايع النساء بايعهن كلامًا، ولا يأخذ  أيديهن في يده، فقد قالت فيما رواه البخاري في الصحيح: «لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام»([175])، وفي رواية: «ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك»، وقوله صلى الله عليه وسلم  لنساء الأنصار عندما أتين للبيعة: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»([176])، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معقل بن يسار: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له»([177]).

ومن أقوال أهل العلم نذكر:

 ما أورده ابن حجر في باب بيعة النساء: «أن فيه منع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك»([178])، وما أفتى به الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة  بالسعودية مرارًا وغيره من علماء الحرمين المكي والمدني من تحريم ذلك([179])، وما أجاب به فضيلة الشيخ الشعراوي عندما سئل عن مصافحة المرأة الأجنبية فقال: «المرأة لا يجب أن تصافح الرجل، هب أن واحدا نيته حسنة، إنما الشرع يشرع للمجموع، واحتشام المرأة للمجتمع كله، وهو قاطع حاسم رادع لاستفزاز الشهوات الملتهبة»([180]).

فإذا كانت هذه هي الأدلة التي اعتمدن عليها  فيما ذهبن إليه، من عدم مصافحة الرجال، فكيف يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشوش عليهن بذلك، أو أن ينسبهن بسببه إلى الغلو والتطرف؟.

بقي بعد ذلك أن نذكر أن هذا الحكم عام لا فرق فيه بين ذوي القربى وغيرهم لا يستثنى منه إلا المحارم  وليس صحيحًا ما ذكرت من أن هذا يؤدي إلى قطيعة الرحم وتدمير العلاقات لأن الأصل أننا أمة مسلمة، ومهما تجافينا عن ديننا فلا يزال الحنين إليه واحترام أحكامه كمينًا في الأعماق، فقط كل الذي نوصي به أن يبتعد أهل الدين في تبليغهم لهذه الأحكام المهجورة والسنن المضاعة عن الغلظة والفظاظة  والتعالي على الخلق وسوء الظن بهم واتهامهم ابتداء بكراهية الشرع ومنابذة أحكامه العداء، فإن قطيعة الرحم تأتي من مثل هذه الآفات أما مجرد البلاغ والبيان،  لاسيما مع إعطاء القدوة، والرفق بالآخرين، والتدرج بهم فلن يقابل من هذه الأمة إلا بكل الحب والحفاوة والإشادة والتقدير، وإن بقيت بعد ذلك بقية  تتنكر لدينها بعد ما علمت من الحق، وتكره شرائع الإسلام بعد ما أقيم بها من الحجة فهي قلة مارقة لا تغير شعائر الإسلام ولا شرائعه من أجلها، وإنما على أهل الحق أن يمضوا في استقامتهم على الحق ودعوة الآخرين إليه، وأن يغفروا للذين لا يرجون أيام الله، وأن يقولوا للكارهين والناقمين والمعتدين: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾([181]).

الخلوة في البيوت:

أما ما نقمته من المرأة المتدينة أنها لا تأذن في بيتها إذا غاب زوجها إلا لذي رحم محرم، أو مع ذي رحم محرم أو آخرين فإن هذا المسلك لعمر الله هو الحق الذي دان به المسلمون أجمعون، وما فسدت الأمة إلا يوم أن ضيعت هذه الفرائض وهبت عليها رياح التغريب مع التيارات الوافدة فنالت من ديننا ومن أعراضنا ما لم تنله سنابك خيول المستعمرين ولا أفتك أسلحتهم على مر السنين!!.

وإني سائلك هذا السؤال وأرجوا أن تصدقني الجواب: ألم يبلغك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي رحم محرم»([182])؟، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان»، والحديث متفق على صحته عند البخاري ومسلم، ألم يقرع آذانك قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء»؛ فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟، فقال صلى الله عليه وسلم: «الحمو الموت»([183])، ألم يبلغك قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم»؟([184]).

ألم تعلم أن البخاري عنون في صحيحه فقال: (باب لا يخلو رجل بامرأة إلا ذو محرم)؟، وأن مسلم عنون في صحيحه فقال: (باب تحريم الخلوة بالأجنبي)؟، وأن الترمذي عنون فقال: (باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات)؟.

إذا كان لم يبلغك شىء من ذلك وأنت تنكر على أصحابه  بغير علم، وتتهمهم بغير بينة، فهذا فضلا عن كونه ظلمًا مقبوحًا في ذاته، فإنه لا يليق بمثقف يدعي الاستنارة، ويزعم الاهتمام بقضايا التطرف الديني، ويجعل من نفسه قاضيًا في مثل هذه المسائل الشائكة، وإن كان قد بلغك ثم لم تقم له وزنًا ولم تلق له بالًا وظللت تتهم من يتمسك به بالغلو والتطرف فتلك لعمرالله كبيرة أخاف أن تنال من  أصل إيمانك أيها التقدمي المستنير!! وعلى كلا الحالين فلا مخلص  لك من قول الشاعر:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة                 وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

ولكن المصلحة قد تقضي بالدخول على النساء لقضاء بعض الحاجات، خاصة من تربطنا بهن صلة القرابة أو الزمالة في العمل؟!.

لم تغلق الشريعة الباب أمام قضاء تلك الحاجات، ولكن اشترطت عدم الخلوة قطعًا للذريعة  إلى الفتنة، ولهذا أمرت من أراد الدخول على النساء في هذه الحالة أن يصطحب معه رجلًا أو رجلين منعًا للخلوة، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان»([185]).


سماع الأغاني ومشاهدة التلفاز  

أما ما ذكرت من عزوفها عن سماع الأغاني أو مشاهدة التلفاز، وخشيتك مما قد يترتب على ذلك من التوترات والعقد النفسية والغياب عن الواقع فهو تخوف لا مبرر له، إذ ليس التلفاز هو المصدر الوحيد للاطلاع على الواقع ومتابعة أحداثه، ولا يمثل غيابه من حياة الإنسان مدخلًا إلى التوترات والعقد النفسية كما تقول، فمصادر المعرفة  متعددة،  وما التلفاز إلا واحد منها، وقد علمت وعلم الناس أجمعون ما تتضمنه أكثر برامج التلفاز من المفاسد التي باتت تشكو منها الأجهزة الرسمية وتعترض الرقابة على كثيرمن أعمالها الفنية، والشيء إذا غلبت مفسدته على مصلحته توجه القول بمنعه، لقد كان في الخمر بعض المنافع ولا شك، ولكن غلبة المفسدة فيها جعلتها من المحرمات بل من أخبث الخبائث، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾([186]).

إن أحدًا من هؤلاء لم يطلق القول بحرمة هذا الجهاز، أو بحرمة كل مايعرض من خلاله، بل يؤكدون دائمًا على أن الأجهزة لا توصف في ذاتها بحل ولا حرمة، وإنما حكمها حكم ما تستخدم من أجله، فإن استخدمت في حق كانت مشروعة،  وقد ترتقي إلى درجة الواجبات، وإن استخدمت في باطل كانت ممنوعة وقد تصل إلى درجة المحرمات، وإن استعملت في هذا وفي ذاك فالعبرة لما غلب([187]).

ثم يضيفون أن ما يعرض من خلال هذه الأجهزة منه ما هو نافع ومفيد وهو قليل، ومنه ما هو ضار ومفسد وهو الأكثر والأغلب، فمن استطاع أن يضبط نفسه ومن جعلهم الله تحت ولايته فلا يرى منه إلا القليل النافع فلا تثريب عليه، ومن خشي ألا يقدر على ذلك  فالأولى به أن يقطع الذريعة إلى الفساد، وأن يستبرئ لدينه وعرضه بإغلاق هذا الباب، أما من تيقن وقوعه في مشاهدة المنكرات فقد تعينت الحرمة في حقه!

ومما هو جدير بالذكر أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية قد أفتت فيما يتعلق بمشاهدة التليفزيون بما يأتي: «الجلوس  أمام التليفزيون جائز إن كان المسموع غير محرم، كتلاوة القرآن والنشرات التجارية والأخبار السياسية، وممنوع إن كان المسموع محرمًا كالأغنيات الخليعة والكلمات الماجنة و أصوات المغنيات ولو بأغنيات غير ماجنة، وأغاني الرجال الذين يتكسرون في غنائهم أو يتخنثون فيها، وبالجملة فالجلوس والاستماع تابعان لحكم المسموع حلًا وحرمة، وقد يمنع ما كان جائزًا من السماع والجلوس من أجل الإفراط فيه وتضييعه لفراغ قد يكون الإنسان  في أمس الحاجة إلى شغله بما يعود عليه وعلى أسرته والأمة بالنفع العميم والخير الكثير.والأحوط في ذلك تركه لأنه قد يكون وسيلة إلى سماع ورؤية ما يحرم سماعه ورؤيته»([188]).

فأي غضاضة في هذا المنطق السديد والفهم الرشيد الذي تدعمه فتاوى الفقهاء ولجان الإفتاء المتخصصة؟!.

أما الغناء فقد غلب عليه الفساد ودغدغة الغرائز، وإثارة كوامن الشهوات، وهذا محرم بالاتفاق عند القائلين بحل الغناء والقائلين بحرمته على السواء، والقليل الذي لا يتضمن ذلك هو موضع شبهة، فهل على المسلمة من حرج إن أرادت أن تستبرئ لدينها وعرضها باجتناب هذه المتشابهات وإغلاق هذا الباب بالكلية؟!.

لقد سئل فضيلة الشيخ الشعراوي عن حكم الشرع في استماع الأغاني من المطربين والمطربات فأجاب: «إنه يلهيك عن طاعة الله، ويخل الإنسان  عن وقاره الاتزاني. لا خير في خير بعده النار. ولا شر في شر بعده الجنة. ولابد من مقارنة المقدمات بالنتائج»([189])، فهل كان الشيخ بهذا متطرفًا من المتطرفين؟.

ليس المقام هنا مقام مناقشة ما يحل أو يحرم من الغناء، ولا بسط القول في اختلاف العلماء فيه، وبيان ما استدل به هؤلاء وهؤلاء فلهذا مقام آخر، ولكن المقصود أن نبين أن ما يعرض من الغناء في إعلامنا المعاصر لا يكاد يختلف أهل العلم جميعًا على تحريم أكثره. وتبقى بعد ذلك بقية في موضع التشابه يبيحها فريق ويمنع منها آخرون، فما الحرج إذن في توقي هذه المتشابهات،  والانقطاع لما تعبدنا الله به من الحقوق والواجبات؟! ألم يقرع آذانك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ولدينه، و من وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام»؟!.

ما الغضاضة في اتقاء المتشابهات لاسيما إذا لم يتضمن هذا مصادرة لبقية الاجتهادات، و لا إنكارًا على الآخرين.

لأنه لا إنكار فيما سبق إلا في مواضع الإجماع -؟ أم أن الإنسان  في منظوركم لا يكون مواطنًا صالحًا ولا يبرأ من تهمة التطرف إلا إذا خاض مع الخائضين ولعب مع اللاعبين؟ فإن لم يفعل فإن تهمة الإرهاب والتطرف تلاحقه أينما كان: إن سكت كان متطرفًا، وإن تكلم كان إرهابيًا، ولا مخلص له من هذا أو تلك؟!!.

 ولكن الذي ننكره على الجماعات المتطرفة ليس مجرد اختيارهم لهذه المواقف، ولكن محاولة فرضها على الآخرين؟، ولعلك سمعت بهجومهم في الآونة الأخيرة على كثير من الأعمال الفنية ومحاولاتهم المتكررة للاعتداء على الفنانين والمشاهدين، وهو الأمر الذي لا يمكن قبوله ولا السكوت عليه!، إن الإرهاب يبدأ عندما يتحول الحوار إلى رصاصة تقتل، وأسلحة تدمر، واعتداء صارخ على حريات الآخرين!!.

اشتمال هذه الأحفال على محرمات قطعية من المعلوم بالضرورة فلا ينكره إلا مكابر، ولو لم يكن فيها إلا المبالغة في التبرج والاختلاط المنكور بين الرجال والنساء والاجتماع على لهو وطرب وغناء لكان كافيًا في القول بحرمة هذه الأحفال  فكيف إذا أضيف إلى ذلك في بعض الأحيان عروض راقصة تستثير الحيوان الرابض وراء جلود الرجال والنساء، وتغري بالفاحشة بلا حريجة ولا حياء؟.

فإنكار هذه الجماعات لم يكن على مجرد أمور اجتهادية أجازها فريق من أهل العلم ومنعها آخرون، بل على أمور محرمة قد علم تحريمها من الدين بالضرورة.

ولكن الذي ينبغي أن ينكر على هؤلاء هو عدم اعتبارهم المآلات في إنكارهم على مثل هذه الأعمال. فقد أصبحت هذه الأحفال في حماية النظام وأصبحت تمثل جزءًا من سيادته، وبات ينظر إلى العدوان عليها على أنه انتقاص من هيبته واجتراء على سلطته، فصارت المواجهة في الحقيقة ليس مع منظمي هذه الأحفال ولكنها مواجهة مع الدولة والسلطة  وينجم عنها في الغالب من الفتن وإراقة الدماء ما تربوا مفسدته على مفسدة هذه الأحفال، فهنا يتوجه القول بالكف عن الاحتساب باليد على هذه المنكرات، و الاكتفاء بمرحلتي الإنكار بالقلب واللسان اعتبارًا لهذه المآلات، واعتمادًا على ما تقرر من أن مبنى الشريعة تحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، وأن إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر لم يكن مشروعًا، وإن كان هذا المنكر مما يبغضه الله ويمقت أهله!

ومن ناحية أخرى أليس الأولى قبل النكير على هؤلاء لتجاوزهم القصد في الاحتساب على هذه الأعمال أن ننكر على القائمين على هذه الأحفال، وأن نردهم إلى الالتزام بضوابط الحلال والحرام في هذه الاجتماعات؟!([190]).

السفر بغير محرم:

 وماذا عن امتناع المرأة  في عالم التطرف عن السفر إلا مع محرم؟، ألا تزال  هذه النظرة الدونية الشهوانية للمرأة هي التي تحكم جميع مواقفهم في التعامل مع الجنس اللطيف؟!، أيصح أن يحجر على المرأة في السفر في الوقت الذي نالت فيه كل حقوقها، و أصبحت تمثل بلادها في المؤتمرات والمحافل الدولية، بل أصحبت تنافس الرجل في أدق الأعمال، حتى غزت معه الفضاء ووصلت معه إلى القمر؟، أيحجر عليها السفر مسافة بضعة كيلومترات وهي التي شقت أجواء الفضاء، وقادت الطائرات، وأصبحت رئيسة لبعض الحكومات في أعرق البلاد؟!.

لقد تمهد في أدلة الشرع الصحيحة والصريحة النهي عن سفر المرأة بغير محرم، و لقد قال بموجب هذه الأحاديث عامة أهل العلم من السلف والخلف، وإن وقع شيء من الاختلاف في تحديد مناطها،  وبعض التفاصيل المتعلقة بتطبيقها  ومن هذه الأحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم»، وهو من رواية مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: «لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي حرمة منها»، وفي رواية: «يومين»، وفي رواية: «ثلاثة»، وفي رواية: «يوم وليلة»، وكل هذه الروايات صحيحة، وقد قال بموجب هذه الأحاديث عامة أهل العلم من المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة  وغيرهم من المحدثين والمفسرين والأصوليين والفقهاء، لم يستثن من هذا الإجماع إلا سفر المرأة في الحج مع نسوة ثقات أو في رفقة مأمونة، فقد أجازه بعض أهل العلم من المالكية والشافعية ومنعه آخرون.

 ولسنا بصدد تفصيل القول في هذه الآراء وبيان أدلتها وترجيح الراجح منها، ولكننا أردنا أن نرد على من ينسب القائلين بالمنع من سفر المرأة بغير محرم إلى الغلو وإلى التطرف، وأن نبين له أن هذا الذي يشن الغارة عليه ويدمغه بهذه التهمة قد وردت به النصوص وقال به عامة من تكلم في هذه المسألة من أهل العلم.

هذا، وإن فريقًا من المعاصرين قد أخذ يتأمل مناط النهي الوارد في هذه النصوص، وذكر أنه الخوف على المرأة من أخطار الطريق إذا سافرت وحدها في الفيافي والقفار، ولم تكن في حماية محرم، الأمر الذي يعرضها للمخاطر، ولا تسلم معه من القيل و القال، ثم ربط الحكم بهذه العلة وجودًا أو عدمًا فقال: إذا انتفت هذه العلة في واقعنا المعاصر، فكان السفر بالطائرات التي تنتفي معها الخلوة، والتي تقطع بها آلاف الأميال في ساعات، ولا يبلغ السفر فيها في الغالب إلا جزءًا من اليوم أو جزءًا من الليلة  فلابد من إعادة الاجتهاد في هذه المسألة في ضوء انتفاء علة التحريم نظرًا لأمن الطريق وقصر مدة السفر ونحوه.

ولا تزال هذه القضية في محل الاجتهاد، وموضع نظر بين أهل العلم، فقد أجاب الفريق الأول قائلًا بأن أخطار الطريق لا تزال قائمة، متمثلة في الأعطال التي قد تتعرض لها الطائرات والهبوط المفاجئ لها أحيانًا في بلاد أخرى، واحتباس الناس بسبب ذلك ساعات طويلة، قد تصل في بعض الأحيان إلى بضعة أيام، وبالإضافة إلى ورود النهي عن سفر المرأة بغير محرم في بعض الأحاديث مطلقًا عن التقييد بمدة زمنية معينة، ويجيبهم المعاصرون بأن الأعطال المفاجئة في حكم النادر، والنادر لا حكم له، لأن الأحكام تبنى على الأعم الأغلب ولا تبنى على القليل النادر، وأن المطلق من هذه الأحاديث يحمل على المقيد كما هو معروف عند الأصوليين.

ومرة أخرى نذكر بأننا لسنا في مقام الانتصار لهذا الرأي أو ذاك، لكننا أردنا فقط أن نبين أن إطلاق القول بالمنع عن سفر المرأة بغير محرم اجتهاد قديم مستقر تدعمه ظواهر النصوص وتؤيده مقالات عامة من مضى من أهل العلم، والقول بفتح باب الاجتهاد في هذه المسألة في ضوء ما طرأ من مستجدات اجتهاد حادث، لا يزال يدرج في أولى خطواته، وأهل العلم مدعوون إلى إنضاجه وحسمه بما يتفق مع مقاصد الشريعة، ويحقق المصلحة العامة.

ومرة أخرى نذكر كذلك بأن اختيار أحد الرأيين مسألة اجتهادية لا يجوز مطلقًا أن يعتبر من قبيل التطرف أو الشطط  لاسيما إذا كان الاختيار هو التمسك بالأصل وما عليه الجمهور، وإنما الشطط والتطرف يتمثل في مصادرة بقية الاجتهادات، أو تجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف، وعلى هذا فإن الشطط الحقيقي يتمثل في الإنكار على هؤلاء الذين يستبرئون لدينهم وأعراضهم، ويتقون الشبهات، ويعملون بالأحوط!

ولا يمثل المنع من السفر في هذه الحالة عدوانًا على المرأة،  وإنما هو الاحتياط الواجب لها،  والصيانة المحمودة لحرمتها، والضن بها على كل ما يعرضها للقيل والقال!

ومما هو جدير بالذكر أن فتوى رسمية صدرت من دار الإفتاء المصرية بتحريم سفر المرأة بغير محرم حتى في الحج والعمرة، وأخرى بتحريم إقامة الأنثى بمفردها بدون محرم حفاظًا على العرض والدين، وكان الذي أصدر الأولى الشيخ عبد المجيد سليم في نوفمبر1924 م([191])، والذي أصدر الثانية الشيخ حسنين مخلوف في أكتوبر  1948 م([192]).

***


التطرف والأفراح!

 يتبنى بعض دعاة التطرف الديني القول بحرمة الخطبة مما أدى بعائلات كثيرة إلى إجبار فتياتهن على الزواج دون سابق معرفة أو اختبار، ولعل هذا كان أحد الأسباب التي أدت إلى ارتفاع نسبة الطلاق في المجتمع في هذه الأيام بصورة لم يشهدها من قبل؟.

مشروعية الخطبة لمن أراد الزواج ونظر كل من الطرفين إلى الآخر موضع إجماع أهل العلم. ونسبة القول بتحريمها إلى التيار الإسلامي مجازفة، بل اتهام ظلوم، إذ  لا يعرف عن أحد منهم القول بتحريم ذلك، ولكن الذي ينازعون  فيه ويتحدثون عن حرمته هو ما يحدث بمناسبة الخطبة في واقعنا المعاصر من خلوة بالمخطوبة واصطحابها خارج بيتها بدون محرم، وتكشف المرأة أمام خطيبها ونحوه مما حرمته الشريعة، ولعل هذا هو منشأ اللبس في نسبة القول بتحريم الخطبة إلى التيار الإسلامي.

وإننا كما نؤكد على مشروعية الخطبة وحل أن ينظر كل من راغبي الزواج إلى الآخر،  وأن ذلك أحرى أن يؤدم بينهما كما صرحت بذلك الأحاديث، فإننا نؤكد أيضًا أن المخطوبة أجنبية،  وأنه لا يحل لخاطبها أن يراها وهي متجردة  ولا أن يخلو بها، ولا أن يسافر معها بغير محرم،  إذ لا يحل شيء من ذلك إلا بالعقد، وقد انعقد على ذلك إجماع أهل العلم.

وقد صدرت بهذا فتوى رسمية من دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ حسن مأمون رحمه الله، وفيها التأكيد على مشروعية رؤية الخاطب لمخطوبته في حضور أحد محارمها، وعدم مشروعية اختلائه بها وخروجهما معًا منفردين كما يفعل بعض الشباب الآن، وأن هذا مما أجمع المسلمون على تحريمه لأنها لا تزال أجنبية حتى يتم بينهما عقد الزواج([193]).

كما صدرت بذلك فتوى أخرى في عهد الشيخ حسنين مخلوف وهذا نصها:

 السؤال: هل يجوز لمن يخطب فتاة أن يذهب بها وحدها إلى السينما ونحوها أو يختلي بها في غير رقابة من أهلها؟.

الجواب: إن هذه الفتاة أجنبية من خاطبها، والخلوة بها قبل العقد محرمة شرعًا فلا يجوز لهما ذلك شرعًا وهو ذريعة من ذرائع الفساد في المجتمع، والتهاون فيه نذير شر مستطير، وكم كانت له نتائج خطيرة، فليحذر المسلمون ذلك، وليقفوا عند حدود الله وشرائعه، والله أعلم([194]).

  ولماذا؟ أليس العقد إيجابًا وقبولًا، وقد تحقق ذلك بالخطبة التي ارتضى بها كل منهما الآخر على علم من الولي وجمع من الشهود؟.

العقد إيجاب وقبول نعم، ولكن الخطبة وعد بالعقد وليست عقدًا، فلم تنصرف إرادة الطرفين ولا إرادة الولي إلى إبرام هذا العقد بالخطبة، وإنما تعتبر وعدًا واتفاقًا مبدئيًا على إبرام العقد وإتمام النكاح في المستقبل، والناس كل الناس يفرقون بين الخطبة وبين العقد، ويفرقون بين الخاطب وبين الزوج، وهذا معلوم من الواقع بالضرورة.

أما إجبار الفتيات على الزواج ممن لا يعرفوهن فذلك محض الظلم فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت»([195])، ولقد عنون البخاري في صحيحه لذلك فقال: (باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها)([196])، وعقد مسلم في صحيحه أيضا بابًا لذلك فقال: (باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت)([197]).

 ولقد خير النبي صلى الله عليه وسلم جارية بكرًا أتت إليه صلى الله عليه وسلم وذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، ورد نكاح خنساء بنت خدام  الأنصارية عندما أتت إليه واشتكت أن أباها زوجها وهي كارهة. ولقد عنون البخاري فقال: (باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود)([198])، لا يستثنى من ذلك إلا الصغيرة فهذه التي يتولى وليها تزويجها إذا شاء ويكون لها الحق في الفسخ بعد البلوغ.

ولا أعرف أحدًا ممن انتسب إلى التيار الإسلامي ينزع إلى إجبار بناته على الزواج من أحد لاسيما وقد شاع العلم بأحكام الزواج في أوساط هذا التيار، وطبعت عشرات الكتب التي تتحدث عن أحكام الخطبة وآداب الزفاف وتحفة العروس ونحوه وأصبحت في متناول العامة. بل لا أعرف أحدًا ينزع هذا المنـزع في واقعنا المعاصر إلا في بعض المناطق القبلية المغلقة ذات التقاليد الصارمة. وهم يفعلون ذلك من وحي العصبية وليس من وحي الإسلام.

يرفض عامة المتطرفين في أحفالهم كل ما يشيع البهجة على الحضور من الغناء والموسيقى، والتقاط الصور التذكارية، وجلوس العروسين جنبًا إلى جنب لتلقي التهاني ونحوه، فتتسم أفراحهم بالتجهم و الكآبة، ويشيع فيها الملل والرتابة، مع ما يستتبعه ذلك من تضجر المدعوين الذين جاءوا ليعبروا عن فرحتهم بهذه المناسبة، فتبهتهم هذه المواقف الرجعية وتملأهم بالسخط على كافة المتدينين، ولا يرون في مثل هذا التدين إلا لعنة تحرمهم بهجة الحياة، وتنغص عليهم  تمتعهم بطيباتها، ألا يعد هذا من قبيل فتنة الناس عن الدين، وصدهم عن السبيل؟، فأين موضع هذا من قضية التطرف؟.

ابتداء يجب أن نقرر أن نعمة الزواج من أجل نعم الله على عباده كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾([199])، ومن حق هذه النعمة أن تقابل بشكر المنعم جل في علاه، وأول ذلك ألا نجعل من ليلة إتمام هذه النعمة ليلة تحلل وعربدة وتهتك وفسوق عن أمر الله، فيكون خير الله إلينا نازلًا ويكون شرنا إليه صاعدًا، فإن هذا غاية الجحود والكنود والكفران!!.

ومن ناحية أخرى فإن الإسلام قد حث على إظهار الفرح والبهجة في هذه الليلة، فأباح فيها من الغناء والضرب بالدفوف مالم يبحه في غيرها،حتى جعل فصل ما بين الحلال والحرام الصوت وضرب الدف، والنصوص في ذلك مشهورة ومستفيضة.

ولا أظن أن هذا القدر يغيب عن عامة المتدينين، بل أحسب أنهم حريصون على استيفائه، والأخذ بالرخصة في أوسع مداها في هذا اليوم حتى يعلم الناس أن في ديننا فسحة إلا أن هذا القدر المنضبط بضوابط الشريعة المطهرة شيء والذي درج عليه الناس في أفراحهم  ويريدون أن يحملوا عليه المتدينين شيء آخر

لقد درج الناس على أن يجلس العروسان في هذه الليلة في أبهى زينتهما جنبًا إلى جنب على منصة عالية حيث يطلع عليهما كافة المدعوين، ثم يؤتى بالمغنيات أو المغنيين يغنين بين أيديهن على مرأى  ومسمع من الحضور، وقد تقدم أثناء ذلك بعض العروض الراقصة بما تحويه من تهتك وفجور، فإذا ألقيت نظرة على الحضور وجدت الرجال والنساء في أبهي زينتهن في اختلاط كامل وسفور فاتن، وتخفف من كثير مما تعودوا أن يلزموا به أنفسهم من الاحتشام في بقية الأوقات  هذه هي الصورة التي درج عليها الناس في أفراحهم، ويريدون أن يحملوا المتدينين على قبولها، وإلا فهم معقدون متطرفون متعصبون؟!!.

فهل على المتدينين من حرج إن هم أنكروا على هذه الأوضاع، ونسبوا أصحابها إلى التفريط والفسوق  عن أمر الله؟.

إن الإسلام لا يمنع  من أن تعم الفرحة الجميع في هذه الليلة، بل إن هذا هو الذي يندب إليه ويحرض عليه، ولكن ضمن أطر وضوابط تصان بها الأعراض، ويحفظ بها الحياء، ونبقى بها على حسن صلتنا مع المنعم جل في علاه!.

فليسعد النساء في هذه الليلة عروسهن كما يشأن، وليغنين بين يديها بكل ما جادت به قرائح الشعراء في الغزل والحب كما يهوين شريطة أن تفرد لهن قاعة خاصة بهن صيانة للحرمات وسدًا للذرائع إلى الفتنة، ولينشد المنشدون في قاعة الرجال ما طاب لهم الإنشاد، وليهنئوا الزوج العروس ما طابت لهم التهنئة،  وليمازحنه بما طاب لهم من ألوان المزاح المباح، وليستمتع الجميع بكل ما أحله الله من طيبات المطاعم والمشارب كما يريدون.

ولكن ما وجه الإصرار على أن تكون عروسه بجواره، وأن يجتمع النساء والرجال في قاعة واحدة؟، وأن يطلع كل واحد إلى زوجة الآخر وهي في أبهى زينة وأفحش سفور؟، لماذا هذا الإصرار المريب؟، وما علاقة اكتمال الفرح في هذه الليلة بهذا الاختلاط المنكور؟، ولماذا الإصرار على تمايل المغنيات والراقصات أمام الرجال في هذه الليلة وإلا فهو  الكآبة والملل والرتابة والويل والثبور؟، وما وجه النزاع على وجه الحقيقة؟.

إن كان في  إشاعة البهجة في هذه الليلة فقد كفلها الإسلام على النحو السابق شريطة الفصل بين النساء والرجال، والبعد عن المحرمات، أما إن كان في التمتع بالتطلع إلى أجساد النساء السافرات في هذه الليلة واطلاع كل منهم على حليلة الآخر في أتم زينة وأفحش سفور فهذا الذي لا سبيل إليه ولا نعمت العين ولا كرامة؟، فهلا كشفتم القناع عن الحقيقة في هذه الخصومة يا معاشر المعتدلين والمستنيرين والتقدميين؟.

أما ما ذكرت من الصور الفوتوغرافية فلنتجاوز مؤقتًا الخلاف الوارد في مشروعية هذه الصور، ولنفترض مؤقتًا أنها من المباحات المحضة، وأنه لم يرد في تحريمها دليل قط، فأي صور هذه التي يرى أنها مما تتم بها البهجة في هذه الليلة؟، إنها صورة العروس في أبهي زينتها، وصورة النساء في قمة سفورهن، وصورة هذا الحفل الساهر الماجن المختلط، فأي شريعة هذه التي تجيز مثل هذه الصور العارية الفاتنة؟، وأي  رجولة هذه التي تسمح لصاحبها بأن تصور عروسه في قمة سفورها و أبهى زينتها ليعلق صورتها بعد ذلك في بيته في صدر المكان المعد لاستقبال ضيوفه ليطلع عليها كل غاد ورائح!، فتكون طلعتها الفاتنة أول ما يستقبل به الزائر الغريب لحظة دخوله!، وما علاقة البهجة بالتقاط هذه الصور للنساء أو مع النساء؟، وما وجه الارتباط دائمًا بين البهجة وبين الاختلاط السافر بين الرجال والنساء؟، ولو وقفت المسألة عند حدود صور تلتقط للرجال مع الرجال أو النساء مع النساء لامتهد سبيل لمناقشة الأمر،ولكن الإصرار على هذا الاختلاط المنكور وعلى التقاط الصور على هذه الهيئة المحرمة هو الذي يخرج بالأمر عن كونه مجرد صورة وقع فيها الخلاف بين أهل العلم، إلى عورات يستباح كشفها، وتستمتع العيون بالتطلع إليها! الأمر الذي لم يحل في شريعة قط!! .

ومما هو جدير بالذكر أن استفتاء ورد إلى مجلة منبر الإسلام حول حكم الدين في زف العروسين بالرقص والموسيقى فأجاب فضيلة الشيخ عطية صقر مفتي المجلة بما يأتي: «قبل كل شيء نقول: إن زفاف العروسين في جمع من الرجال والنساء بالأوضاع الموجودة الآن حرام،  أما الموسيقى والغناء فقد كثرت الإجابة عنهما، وخلاصتها عدم الحرمة في الأصل والحرمة عارضة لسوء الكلام أو سوء الإلقاء أو للاختلاط المحرم أو التأثر الخطأ أو اللهو عن واجب و الرقص إن كان من النساء أمام الأجانب فهو حرام لا شك في ذلك، وقد كانت العروس تزف في العهود الأولى بين نساء ليس فيهن رجل أجنبي، ولا يراها إلا زوجها عندما تزف إليه، والغناء كان من نسوة لخاصة النساء، وكان بألفاظ عفيفة وإلقاء غير مسترذل، والرسول سمعه وهو يهنئ الربيع بنت معوذ بالزفاف من مغنيات وغير لهن كلمات غير صحيحة «وفينا نبي يعلم ما في غد»،  وفي الحديث أنه قال لعائشة التي أخبرته أنها كانت في زفاف عروس «هلا بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، ولولا الحنطة السمراء، ما جئنا بواديكم»، وقال: «إن الأنصار يحبون الغناء»، فالخلاصة أن أي  شيء فيه فتنة وخروج عن الآداب الشرعية وهي معروفة حرام([200]).

***


التطرف والتصوير

هل لي أن أسأل عن وجه تشدد المتطرفين في قضية التصوير وعن سر استماتتهم في تحريمها في الوقت الذي أصبحت فيه الصور الفوتوغرافية وغيرها جزءًا لا يتجزأ من حضارتنا المعاصرة؟.

لقد ورد في تحريم التصوير وتشديد النكير والوعيد على المصورين أحاديث كثيرة، نذكر منها: قوله صلى الله عليه  وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم»، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله»، وقول علي رضي الله تعالى عنه لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبر مشرفًا إلا سويته» وكل هذه الأحاديث في  الصحيح.

هذه الصور قد تكون من الصور المجسمة التي لها ظل وهذه يغلب عليها لفظ التماثيل، وقد تكون لا ظل لها سواء رسمت باليد أو التقطت بالآلة ويغلب عليها لفظ الصور.

هذا وقد وردت النصوص باستثناء بعض أنواع الصور من الحرمة: منها لعب الأطفال، ومنها الصور الممتهنة التي تداس وتوطأ على البسط والنمارق ونحوها، ومنها الصورة إذا قطع رأسها فكان الباقي كهيئة الجذع، ومنها كل ما ليس له روح كالأشجار والمناظر الطبيعية  وقد صحت في كل ذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قد روى البخاري  عن عائشة  رضي الله عنها قالت: «كنت ألعب بالبنات - وهن اللعب من التماثيل الصغار - عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل  يتقمعن منه - أي  يستخفين منه - فيسر بهن إلي فيلعبن معي»([201]).

وفي حديث آخر عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قدم من غزوة تبوك أو خيبر... فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟»، قالت: بناتي. قالت ورأى فيها فرسًا مربوطًا له جناحان فقال: «ما هذا؟»، قلت: فرس، قال: «فرس له جناحان؟»، قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك»([202]).

وعنها رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله صلى الله عليه ومسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه، وقال: «يا عائشة أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله»، قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين»([203])، وقال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه  تمثال وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع  فيصير هيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن ومر بالكلب فليخرج»([204]).

وأخرج مسلم في صحيحه أن رجلًا جاء إلى ابن عباس فقال: إنى رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها؛ فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم، وقال إن كنت لابد فاعلًا فاصنع الشجر وما لا نفس له»([205]).

أما الحكمة في تحريم التصوير فقد يكون لما يتضمنه من مضاهاة خلق الله كما مر في بعض الأحاديث، وقد يكون لقطع الذريعة إلى الشرك وحماية جناب التوحيد، فقد ذكر المفسرون عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾([206])، « إن هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم حتى تذكركم بهم ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت من دون الله»، وقد يكون لهذا الحكم ولغيرها، والله أعلم.

وقد قال بموجب هذه النصوص جمهور أهل العلم من السلف والخلف.

قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم: «قال أصحابنا وغيرهم من العلماء تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث   وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أودرهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقًا على حائط أو ثوبًا ملبوسًا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ فيه كلام نذكره قريبًا إن شاء الله،  ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض السلف إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي   أنكر النبي صلى الله عليه ومسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة»([207]).

وقد اختلف أهل العلم في تحريم بعض أنواع من الصور بناء على اختلافهم في فهم الحكمة من النهي عن التصوير ومن هذه الأنواع التي اختلفوا فيها التصوير الفوتوغرافي. فمنهم من أطلق القول بحرمته نظرًا لعموم النصوص الواردة في النهي عن التصوير، ولعدم وجود الفارق المعتبر بين التصوير باليد وبين التصوير بالآلة، ومنهم من أطلق القول بحله اعتبارًا بأنه يعد من قبيل حبس الظل وليس من قبيل التصوير المعني في هذه النصوص، واعتبارًا بالنظر في المرآة وفي صفحة الماء حيث ينتج النظر إلى المرآة وإلى صفحة الماء صورة ولم يقل بحرمتها أحد من أهل العلم، وأخيرًا لأنه ليس مضاهاة لخلق الله ولكنه عين خلقه، كما تأخذ صورة بالآلة لتوقيعك أو لمكتوب كتبته بيدك فلا يقال أن الماكينة قد قلدت خطك وزورت توقيعك بل هو عين خطك وعين توقيعك.

ومن أهل العلم من حاول الجمع بين الأمرين فأباح التصوير للمصلحة الواضحة التي لا تعارض بمفسدة راجحة،  وقياسًا على لعب البنات التي أذن بها النبي صلى الله عليه وسلم في  بيته لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجعل الأصل فيما سوى ذلك المنع ذهابًا إلى عموم النصوص الواردة في النهي.

وبناء على هذا تجوز جميع الصور المستخدمة في أغراض تعليمية، أو في أغراض أمنية ونحوه من كل ما دعت الحاجة إليه، فالقضية إذن من موارد الاجتهاد، وقد سبق أن أشرت أن اختيار أحد الرأيين في مسألة اجتهادية لا يوصف بالتطرف أو الغلو، ولو كان هو الأحوط أو الأشد، وإنما يأتي الغلو من مصادرة بقية الاجتهادات، أو تجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف.

وعلى هذا. فإذا تبنى فريق من المتدينين الرأي القائل بحرمة التصوير إلا لضرورة تعليمية أو أمنية ونحوه لم يكونوا في هذا مبتدعين ولا متطرفين، لأن هذا الرأي هو أحد الآراء المعتبرة الواردة في هذا الباب بل الأرجح والأظهر فهو الذي تدل عليه ظواهر النصوص، وقال بموجبه كثير من أهل العلم، ولكن الذي ينصحون به ألا يصادروا بقية الاجتهادات، وألا يجاوزوا الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف له في هذا الرأي .

ومما هو جدير بالذكر أن  عامة علماء الحرمين المكي والمدني على هذا القول،  وأن دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد الرحمن قراعة رحمه الله  عام 1912 م([208]) كانت تتبنى الرأي القائل بحرمة التصوير الفوتوغرافي، وقد أفتت بذلك بمناسبة شكوى بعض الحجاج المسافرين لأداء الحج من إلزامهم بوضع صور فوتوغرافية على أوراقهم، وأن ذلك محرم شرعًا، فرفع الأمر إلى دار الإفتاء فأفتت بأن الأصل في هذه الصور هو الحرمة إن كانت لذي روح وكانت كبيرة كاملة الأعضاء بحيث تبدو للناظر من غير تأمل، أما إن كانت صغيرة لا تتبين تفاصيل أعضائها إلا بإمعان النظر وتدقيقه، أو كانت كبيرة نقص من أعضائها ما لا يعيش صاحبها إلا به لم يكره اقتناؤها،  فهل كانت دار الإفتاء تمثل التطرف في ذلك الوقت؟!.

***

 


التطرف والرأي الآخر 

يشتط المتطرفون في التعامل مع المخالف لهم، ويمارسون معه لونًا من الإرهاب الفكري يتمثل في تفسيقه وتبديعه ثم يعقب ذلك هجره والتشنيع عليه، وقد يقع ذلك مع بعض أرحامهم وجيرانهم، الأمر الذي يدمر العلائق، ويقطع الأرحام، ويربط بين التدين وبين العنف والإرهاب في حس كثير من الناس، فكيف ترون هذا المنهج في التعامل؟ وهل تتسع سماحة الإسلام لمثل هذه الغلظة والفظاظة؟ وما موقع ذلك من قضية التطرف والاعتدال؟.

المخالفون ليسوا سواء، فمنهم المخالف في مسألة اجتهادية هي بطبيعتها من موارد الاجتهاد وهذه لا يضيق فيها على المخالف، ولا يثرب عليه بهجر ولا غيره، ولا مجال فيها للإنكار باليد، وإنما يتكلم فيها بالبينات والحجج العلمية، فمن ظهر له رجحان أحد الرأيين إما عن اجتهاد أو تقليد سائغ لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن ظهر له رجحان القول الآخر لم ينكر عليه ولم يهجر كذلك، والخلاف في هذه المسائل أكثر من أن ينحصر، ولو أن كل مسلمين اختلفا في مسألة من هذه المسائل تهاجرا وتهارجا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة قط!.

ومنهم المخالف في مسألة قاطعة لا مجال فيها للاجتهاد، بحيث يعد المخالف فيها عاصيًا أو مبتدعًا، وهذه التي يثرب  فيها على المخالف بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم.

فالتجافي عن أصحاب البدع والمعاصي، والتثريب عليهم بالهجر ونحوه سنة ماضية، وقد شهدت به الأدلة من القرآن والسنة ومقالات أهل العلم، ومن الأدلة القرآنية عليه: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾([209])، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾([210]).

أما الأدلة على ذلك من السنة فهي مستفيضة، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك، واستمر هجرهم خمسين ليلة حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عليهم، ولقد عقد المحدثون أبوابًا خاصة لذلك لشهرة هذا الأمر واستفاضته؛ ففي سنن أبي داود: (باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، وباب ترك السلام على أهل الأهواء)، وفي شرح السنة للبغوي: (باب مجانبة أهل الأهواء)، وفي الترغيب والترهيب للمنذري: (الترهيب من حب الأشرار وأهل البدع لأن المرء مع من أحب)، وفي رياض الصالحين للنووي: (باب تحريم الهجر بين المسلمين إلا لبدعة في المهجور أوتظاهر بالفسق)، وقال الغزالي في الإحياء: «طرق السلف اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي، وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظلمة والمبتدعة، وكل من عصى معصية متعدية إلى غيره»، ولكن هذا الهجر قد يؤدي إلى استفحال الشر، ويحمل المهجور على العناد، ويدفع به إلى مزيد من الانحراف والتدهور.

ولهذا نقول يجب أن ننظر إلى مقصود الشارع من هذا الهجر، وأن  ندرك أن مشروعيته تدور مع هذا المقصود وجودًا وعدمًا، فلقد شرع الله إنكار المنكر ليزول ويحل محله من المعروف ما يحبه ويرضاه  وهجر أصحاب البدع والمعاصي من جنس إنكار المنكر الذي جاءت به الشريعة، وغايته زجر العصاة والمبتدعة وحملهم على الحق، وردع العامة عن التلبس بمثل ما جاءوا به، انتصارًا للدين وصيانة لأحكامه من أن يتظاهر الناس على هجرها والمجاهرة بالخروج عليها. فإذا أدى الهجر إلى تحقيق هذه المقاصد أو بعضها كان مشروعًا، وإذا لم يؤد إلى تحقيق شئ منها لقلة الهاجر وضعفه وغلبة المهجور وقوته وكونه لا يرتدع بمثل ذلك، بل ربما تمادى في فسوقه وأوغل في معصيته لم يشرع، وكان التأليف أنفع في هذه الحالة من الهجر، وإنكار المنكر له آدابه وله درجاته، فيجب أن يبدأ بالتعرف على المنكر بغير تجسس، ثم التعريف فقد يكون المتلبس بالمنكر جاهلًا، ثم الوعظ والنصح ويكون في حق من يقدم على المنكر وهو عالم بحرمته لكن غلبت عليه شهوته، ثم التعنيف بالقول الغليظ إذا لم يرتدع بالنصح والتذكير بلطف، وهكذا فلا ينتقل من مرحلة إلا إذا  يئس من التغيير بالتي قبلها.

ثم ارتباط هذا الأمر برمته بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فإن ترتب على هذا الإنكار مفسدة أعظم تعين الكف عنه رغم أن هذا المنكر مما يسخطه الله ويمقت أهله، لأن مبنى الشريعة - كما سبق - تحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين. ولهذا تفاوتت معاملة أهل البدع وأهل المعاصي من التأليف والمداراة إلى الهجر والمجافاة بحسب المصلحة أو المفسدة المترتبة على هذا أو ذاك، وعلى هذا فليس التثريب على المخالف بالهجر من جنس الإرهاب الفكري ولكنه قيام بأمر الله، وتعظيم لحرماته، ونصح للمهجور، وقيام بحقه، وقد دلت عليه الأدلة من القرآن والسنة وعمل أهل العلم، ولكن شريطة أن يتم في إطاره الشرعي وبضوابطه التي تكفل له أن يكون وسيلة لاستصلاح الأحوال وألا يأتي بنقيض ما قصد منه.

أما ما ذكرت مما قد يترتب عليه من قطيعة رحم في بعض الأحيان فقد قال الله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾([211])، فإن كان هذا الهجر في الله فتجرد عن حظوظ النفس ورجا به استصلاح أحوال المهجور وحمله على الإنابة إلى الحق فهو مسلك شرعي صحيح وقد تعقبه مودة لا تنقطع، وذلك بما يقذفه الله في قلب المهجور من الهداية والإنابة كما قال تعالى: ﴿عَسَى اللَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([212])، على أن الغالب في أزمنة الفتن وغربة الدين وانتقاض عرى الإسلام ترتب المصلحة على التأليف والمداراة أكثر من ترتبها على الهجر والمجافاة، كما أن العذر في هذه الأزمنة أوضح لغربة الدين وندرة  من تقوم به الحجة وعجزه.

لم يقف إنكار المتطرفين على المخالف لهم عند حدود أصحاب المعاصي الظاهرة بل تجاوز ذلك إلى الإنكار على الجمعيات الإسلامية الأخرى بحجة أنها لا تعمل بالسياسة ولا تتكلم إلا في القضايا الدينية والاجتماعية البحتة، وأن هذا يمثل نوعًا من التجزئة للدين، والكتمان للعلم وخيانة أمانة البلاغ، وقد يزعم بعضهم أن مردود هذه الأعمال في النهاية بزعمهم لمصلحة أعداء الإسلام، فكيف ترون هذه النظرة الإرهابية؟ وأين موقعها من التطرف والاعتدال؟!.

الأصل في الدعوة إلى الله هو الشمول والإحاطة، ولا يقوم بهذا الدين إلا من يحوطه من جميع جوانبه، وواجب أهل العلم والدعوة في الجملة أن يبلغوا ما أنزل إليهم من ربهم، أي أن يتكامل البلاغ على مستوى مجموع الدعاة، بحيث لا يتواطأ أهل البلد على كتمان شيء مما أنزل الله، وإلا لزمهم جميعًا إثم كتمان العلم، ولم يبرأوا من العهدة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ([213])، والأصل في كتمان شيء مما أنزل الله ممن تعين عليه البيان أنه كبيرة من الكبائر فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾([214])، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»([215]).

وبناء على ما تقدم فإن هذه الجمعيات التي تقتصر في دعوتها على بعض الجوانب الإسلامية كمجاهدة البدع والخرافات، أو بناء المساجد، أو كفالة الأيتام والفقراء، أو تحفيظ القرآن الكريم،  أو دعوة العوام لنقلهم من بيئة الغفلة إلى بيئة الذكر ومن بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة، ما لم يكن مرد هذا الاقتصار إلى غبش في فهم حقيقة الإسلام أو إنكار لصلته بما وراء ذلك من الشئون الحياتية، وما لم يتعين عليهم البلاغ الكامل لعدم وجود من يقوم بهم البلاغ في بقية الجوانب فإن عملهم هذا يعد نوعًا من التخصص الذي تتسع لمثله قواعد السياسة الشرعية شريطة التكامل مع الآخرين، وأن يستشعر كل منهم أنه جزء من مسيرة شاملة متكاملة يرابط كل فريق منها على ثغر من الثغور، ومن مجموع هذه الأعمال يتحقق الشمول ويتكامل البلاغ فإن هذا هو مقتضى التكافل في أداء الفروض الكفائية التي يخاطب بها مجموع الأمة ولا يلزم أن يقوم بها كل فرد  منها على التعين.

أما إذا تعين عليهم البلاغ لعدم وجود من يقوم بهم البلاغ في بقية جوانب الإسلام فلا يسعهم إلا أن يصدعوا بالحق وأن يبلغوا البلاغ المبين وأن يحوطوا هذا الدين من جميع جوانبه، وإن كان هذا لا يتنافي بطبيعة الحال مع التدرج في البلاغ، واعتبار مقتضيات الزمان والمكان والأحوال، على أن يكون البلاغ المبين والدعوة الشاملة هو الغاية التي يحرص هؤلاء على النهوض بها في نهاية المطاف.

وبناء على ماسبق نستطيع أن نزن التعامل مع هذه التجمعات بميزان دقيق...فالجمعيات التي تجزئ الإسلام فعلًا باطنًا وظاهرًا ولا ترى له علاقة بالشئون العامة للأمة، وتقصر دوره على الاجتماعيات والشعائر الفردية ونحوه، فهذه يجب أن ينكر عليها، وأن يبين خطؤها بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم.

وأما الجمعيات التي يكون اقتصارها على بعض الجوانب نوعًا من أنواع التخصص أو اجتهادًا في تقدير المصلحة وفقًا لمقتضيات الزمان والمكان مع إيمانها بشمول الإسلام وإحاطة رسالته بمختلف جوانب الحياة فهذه لا يثرب عليها، ولا تسفه أعمالها، ولا يصادر اجتهادها، وإنما تقر على سعيها، ويسعى لتحقيق التكامل بينها وبين بقية التخصصات حتى يحل التنسيق والتكامل محل التهارج والتآكل، لأن المطلوب كما سبق أن يتحقق الشمول على مستوى مجموع هذه التجمعات، وألا يتواطأ أهل دولة على كتمان جانب من جوانب الإسلام، لا أن يتحقق هذا الشمول على مستوى كل تجمع من هذه التجمعات الجزئية.

إن هذا التعدد والتخصص حقيقة واقعة، فإن أسسنا النظر إليه على أنه تعدد تخصص وتنوع، أو اجتهدنا في تحويله إلى ذلك، أمكن الاستفادة من هذه الطاقات لتصب في النهاية في بحر الإسلام العظيم  وإن افتقدنا هذه النظرة حل الصراع والتراشق بالتهم محل التراحم والتكامل، والتعاون على البر والتقوى، وتبددت كل هذه الجهود، و اشتغل كل فريق بالدفاع عن نفسه وإهدار أعمال الآخرين، ولا يفيد من ذلك إلا أعداء الدين!.

إن حجم الفتن التي تحيط بالدعوة والدعاة في هذه الأيام يجعل من هذا التخصص اجتهادًا سائغًا، ويمهد لأصحابه كثيرًا من العذر، ويجعل من المبادرة إلى اتهامهم بغير بينة نوعا من التعجل الأهوج والاستطالة الظالمة التي يجب أن يتخلص منه المنتسبون إلى الدعوة إلى الله في هذه الأيام.

***

 


التطرف والوظائف العامة

يتشكك كثير من المتطرفين في شرعية الاشتغال ببعض الأعمال كالمحاماة والقضاء والالتحاق بالجيش والشرطة ونحوه، بل يرون حرمة الاشتغال بهذه الأعمال في ظل تحكيم القوانين الوضعية وانعدام سيادة الشريعة الإسلامية، رغم حيوية هذه الأعمال ومساسها المباشر بمصالح المواطنين، الأمر الذي يجعل التحريض على تركها نوعًا من التخريب للوطن والتآمر على مصالح المواطنين، فأين ترى موقع هذه الآراء من قضية التطرف والاعتدال؟.

أثرت في حديثك مجموعتين من الأعمال يحسن التفريق بينهما ومناقشة كل مجموعة منهما على حده، وهما القضاء والمحاماة من ناحية، والجيش والشرطة من ناحية أخرى.

القضاء

 أما بالنسبة للقضاء فإن مسألة الاشتغال بالقضاء في ظل تحكيم القوانين الوضعية من المسائل الحادثة، وقد تمهد في قواعد الشريعة بطلان تولية القضاء وحرمة قبولها إذ نص في عقدها على أن يحكم القاضي بغير الحق، ولا أبعد عن الحق من الحكم بغير ما أنزل الله. قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾([216])، ولقد كان أهل العلم فيما مضى يتورعون عن تقلد القضاء في ظل تحكيم الشريعة خشية أن يحال بينهم وبين القضاء بالحق  بتدخل من قبل الحكام، وكانوا يضربون على ذلك ويصبرون، فما بالنا بالقضاء الوضعي، وتحت مظلة القوانين الوضعية؟!.

ومما هو جدير بالذكر أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية قد وجه إليها هذا السؤال:

هل يجوز لمسلم أن يكون قاضيًا في بلد تحكم بغير ما أنزل الله من قرآن أو حديث؟

الجواب: لا يجوز([217])، نعم قد ترخص بعض المعاصرين في قبول ولاية القضاء في هذه الأيام استنادًا لقواعد الضرورة، وتحقيقًا لبعض المصالح أو دفعًا لبعض المفاسد([218])، ومنهم من فرق بين القضاء الذي لا يتعرض فيه القاضي للحكم بغير ما أنزل الله بصورة مباشرة كالمجالات الإدارية وبعض المجالات المدنية ونحوه، وبين المجالات التي تقوم مباشرة على مراغمة أحكام الشريعة كالمجالات الجنائية فرخص في الأولى ومنع من الثانية، ولا تزال هذه الاجتهادات في حاجة إلى مزيد من النضج والبلورة، ويبقى الأصل الجامع المحكم وهو حرمة الحكم بغير ما أنزل الله،  وبطلان تولية القضاء في ظله، وحرمة توليها، فكيف يتهم المتمسك بهذا الأصل بالشطط والتطرف؟ أليس الحد الأدنى في موقفه أنه يتبنى أحد الرأيين في مسألة اجتهادية، وأنه يتمسك باجتهاد معتبر له حظ من النظر إن لم يكن هذا الاجتهاد هو الأصل والراجح والمعتبر، وإذا كان من أهل العلم فيما مضى من سبق إلى الامتناع عن ولاية القضاء تحت مظلة الحكم بما أنزل الله ولم يتهم بالتطرف، فكيف يتهم بالتطرف من يمتنع عن ولاية القضاء في ظل الحكم بغير ما أنزل الله وانعدام سيادة الشريعة؟!

المحاماة:

 وماذا عن الاشتغال بالمحاماة ؟

عمل المحاماة من جنس عمل القضاء ولهذا يسمونه القضاء الواقف، وللمانعين منه أدلة تدور حول ما تتضمنه المحاماة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله فالمحامي يستند في كافة طلباته ودفوعه إلى القانون الوضعي ويطالب بتطبيقه ثم ما يغلب على أعمال المحاماة من الفساد الخلقي كالكذب والدفاع عن الباطل ونحوه، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾([219])، ويقابل هذا الاجتهاد اجتهاد آخر يذهب إلى الترخص في هذا العمل اعتبارًا للحاجة الماسة بل الضرورة الملحة، فإن الحاجة إلى المحاماة من جنس الحاجة إلى القضاء، فإذا رخص في التحاكم إلى القضاء الوضعي لاستيفاء الحقوق واستخلاص المظالم عند انعدام البديل الشرعي فإن هذا الترخص يحب أن ينسحب على أعمال المحاماة كذلك، باعتبارها من لوازم التقاضي ومقتضياته، على أن يلتزم المحامي بأن تكون القضية التي يترافع فيها عادلة،  وأن تكون مطالبه فيها مشروعة.

ومما هو جدير بالذكر أن الشيخ محمد صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية قد سألته إحدى المحاميات المصريات عن حكم العمل بالمحاماة، فأصدر فيها هذه الفتوى  التي نسوقها بنصها  سؤالًا وجوابًا لتكتمل الفائدة:

سؤال: العمل بالمحاماة قد يعرض الإنسان  لمناصرة الشر والدفاع عنه لأن المحامي يريد البراءة مثلًا للمذنب الذي يدافع عنه، فهل مكسب المحامي من ذلك حرام، وهل هناك شروط إسلامية لعمل الإنسان  محاميًا؟.

الجواب: المحاماة مفاعلة من الحماية، والحماية إن كانت حماية شر ودفاع عنه فلا شك أنها محرمة لأنه وقوع في ما نهى الله عنه في قوله: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ([220]) وإن كانت المحاماة لحماية الخير والذب عنه فإنها حماية محمودة مأمور بها في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وعلى هذا فإن من أعد نفسه لذلك يجب عليه قبل أن يدخل في القضية المعنية أن ينظر في هذه القضية ويدرسها فإن كان الحق مع طالب المحاماة دخل في المحاماة وانتصر للحق ونصر صاحبه، وإن كان الحق في غير جانب من طلب المحاماة فإنه يدخل في المحاماة أيضًا لكن المحاماة هنا تكون عكس ما يريد الطالب بمعنى أنه يحامي عن هذا الطالب حتى لا يدخل فيما حرم الله عليه، وفي دعوى ما ليس له، أو إنكار ما هو عليه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلومًا»، قالوا: يا رسول الله  هذا المظلوم،  فكيف ننصره إذا كان ظالمًا؟، قال: «تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه»، فإذا علم أن طالب المحاماة ليس له حق في دعواه فإن الواجب أن ينصحه وأن يحذره، وأن يخوفه من الدخول في هذه القضية، وأن يبين له وجه بطلان دعواه حتى يدعها مقتنعًا بها([221]).

ومع كون هذا الاجتهاد الأخير هو الأقرب إلى الواقع و الأرجى تحقيقًا للمصلحة، إلا أن الاجتهاد الأول يظل قائمًا ومعتبرًا، بل هو الأصل الذي لا يعدل عنه إلا تحت مطارق الضرورة، فكيف يتهم من يتمسك بالأصل ويستند إلى أدلة الشرع بالغلو، أو ينسب إلى الشطط والتطرف؟!.

إن التطرف في مثل هذه المسائل الاجتهادية لا يبدأ إلا عند مصادرة بقية الاجتهادات، وتجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف، فهذا هو الذي يدخل في دائرة التطرف، ويجب أن يرد أهله إلى الجادة، أما من أبدى رأيه ودافع عنه، ولم يتجاوز موقفه حدود الحوار والمجادلة فليس لأحد عليه من سبيل .

وماذا عن بقية الأعمال؟

أما بالنسبة للالتحاق بالجيش والشرطة ونحوه فقد سبق أن تعرضنا لهذه المسألة وذكرنا أن هذه المسألة يتنازعها اجتهادان:

1- اجتهاد يرى الابتعاد عن هذه المواقع إيثارًا للسلامة نظرًا لما تشتمل عليه من المظالم من ناحية، واعتبارًا لعدم شرعية الراية التي ترفعها هذه الأجهزة من ناحية أخرى، فقد أفسدت الرايات القومية والوطنية نقاء الجهاد وجعلته أقرب إلى قتال الحمية والعصبية، وأفسدت القوانين الوضعية جهاد الشرطة وجعلته أقرب إلى حماية الاستبداد والظلم المقنن وحراسة العلمانية .

2- وهناك اجتهاد آخر يرى أن وجود الصالحين في هذه المواقع باعتباره وسيلة من وسائل استصلاح الأحوال يعد من مسائل السياسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، و تتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال. فقد يفتيى به في بلد ولا يفتى به في بلد أخر، وقد يفتى به في زمان ويفتى بعكسه في زمان  آخر وقد يفتى به بالنسبة لشخص ولا يفتى به بالنسبة لشخص آخر.

     أما بالنسبة للمظالم فعلى المسلم أن يتقي الله في دفعها ما استطاع، وأما بالنسبة للشرعية فإن الأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...»، وأن المصالح الشرعية يجب أن تقام وإن اعترض في طريقها بعض المناكر، وعلى المسلم أن يتقي الله في هذه المناكر ما استطاع .

ولسنا هنا بصدد الموازنة بين الرأيين، ولكن المقصود أن نبين أن اعتزال هذه المواقع على أوضاعها الحالية هو أحد الرأيين في مسألة اجتهادية، فلا يجوز أن يتهم أصحابه بالشطط أو ينسبوا إلى التطرف، وقد تقرر أن التطرف هو مصادرة اجتهادات الآخرين في المسائل الاجتهادية، أو تجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف، فما لم يصل موقف هؤلاء إلى شيء من ذلك فأولئك ما عليهم من سبيل .

أما ما ذكرت من أن اجتناب هذه الوظائف يؤدي إلى تدمير هذه المرافق الحيوية مما يمثل تخريبًا للوطن، وتآمرًا على مصالح المواطنين فليس الأمر على هذا النحو، لأن هؤلاء الممتنعين  أن كانوا  قلة  فلن يفضي امتناعهم إلى شيء من ذلك، وستجد هذه المرافق من المتهالكين  على أبوابها والمتهافتين على الالتحاق بها ما يعوضها عن أمثال هؤلاء، وإن افترضت أنهم كثرة فقد يؤدي امتناعهم إلى إصلاح الخلل في هذه المرافق عندما يتم الاستماع إلى مطالبهم وإنفاذ ما كان منها موافقًا للحق، فيكون  ذلك نوعًا من أنواع التغيير السلمي الذي لا تراق فيه الدماء.

***

 


وللأطعمة نصيب!

 في الوقت الذي تعاني فيه جماهير المواطنين من الأزمات الاقتصادية الطاحنة تخرج علينا الجماعات المتطرفة ببدعة تحريم اللحوم المستوردة التي يجد فيها المواطن متنفسًا من غلاء الأسعار وضعف المرتبات، ويستطيع من خلال ما توفره الدولة منها في المجمعات الاستهلاكية أن يطعم أهله وولده فكيف ترون هذا النكد؟، وأين موقعه في ميزان التطرف والاعتدال؟.

لا يخفى أن محل النزاع هو اللحوم المستوردة من غير المجتمعات الشيوعية والوثنية  لأن حرمة ذبائح الشيوعيين والوثنيين محل إجماع المسلمين، وإنما يرد النزاع في مشروعية اللحوم المستوردة من المجتمعات التي ينتسب أهلها إلى اليهودية أو النصرانية.

ولا يخفى أن إباحة ذبائح أهل الكتاب مما وردت به نصـوص الكـتاب والـسنة وانعقد علـيه إجمـاع الأمـة. قال تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾([222])، ويشترط لحل ذبائحهم أمران التذكية أي الذبح بالطريقة الشرعية، وهي قطع الحلقوم والمريء والودجين عند الاختيار، وأن لا يهل بها لغير الله.

ومنشأ الشبهة في حل ذبائح أهل الكتاب في هذه الأيام هو ما شاع في بعض هذه المجتمعات من قتل الحيوانات بطريق  الصعق بالكهرباء وإطلاق الرصاص ونحوه، فإذا حدث الشك في طريقة التذكية فأي أصل يستصحب؟ هل يستصحب أن الأصل في ذبائحهم هو الحل حتى يثبت ما يدل على تحريمها كعدم التذكية؟ أم الأصل في الذبائح عمومًا هو الحرمة حتى يثبت ما يدل على حليتها بذبحها بالطريقة المعتبرة شرعًا؟.

ونظرًا للاختلاف في ذلك وقع الاختلاف في مدى مشروعية هذه الذبائح التي تأتي من بلاد شاع فيها الاستعاضة عن ذبح الحيوانات بالقتل بالطرق الأخرى تحت شعار ما يسمونه بالرفق بالحيوان.

ومما هو جدير بالذكر أن فتوى رسمية صدرت من دار الإفتاء المصرية تقصر حل اللحوم  المستوردة على ما تمت تذكيته منها بطريقة شرعية، وتؤكد على حرمة الذبيحة إذا انخرمت الشروط الواجبة في طريقة التذكية، بأن كانت الآلة تخنق أو تصعق أو تميت بأي طريقة أخرى غير مستوفية للشروط السابق ذكرها وكان هذا في 17 / 8/1955م وقبلها صدرت فتوى أخرى في 30/6/1955م، وكان المفتي فيها هو الشيخ حسن مأمون الذي أصبح فيما بعد شيخًا للأزهر([223]).

وقد أفتت بعض المجامع الفقهية المعتبرة بهذا الرأي وأفتى بعضها بالرأي الآخر. فقد أفتى الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى في السعودية بالحرمة، وأفتى الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالحل([224]) ولكل من الرأي وجه ووجاهة، ولا يجوز - كما سبق - أن يكون اختيار أحد الرأيين في مسألة اجتهادية مبررًا للطعن في المخالف واتهامه بالشطط والتطرف، إلا إذا خرج الأمر من نطاق الاختيار والترجيح إلى مصادرة بقية الاجتهادات، وتجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف  فهذا الذي يوسم بالتطرف.

ومما هو جدير بالذكر أن فضيلة الشيخ الشعراوي قد سئل عما يثار من التشكك في مشروعية اللحوم المستوردة فأجاب: «أنه أيضًا مرتاب في أمر هذه المعلبات،  وساق حدثًا طريفًا جميلًا وهو أنهم وجدوا إحدى هذه المعلبات المكتوب عليها (ذبحت حسب أو طبقًا للشريعة الإسلامية)، وفتحوها فوجدوها علبة سردين وليست لحمًا، وهذا يفقد الثقة في مثل هذه المعلبات، وأن المسألة أصبحت تجارة يبغون بها الكسب بأي وجه وعلى أي شكلية، فيضعون هذه الإعلانات إرضاء لنا وما هي من الحق في شيء، وكما هو معروف فإن الذي يكذبك فيما تعلم لا تصدقه فيما لا تعلم»([225]).

***

 


هل هي أزمة خلق؟

يشيع عند كثير من المتطرفين ظاهرة عدم القيام للقادم عند السلام والتحية مهما بلغ سنه وعلت منزلته متعللين في ذلك ببعض الآثار التي  يزعمون أنها تنهى عن مثل هذا القيام، أفلا يعد هذا المسلك نوعًا من التنطع وسوء الفهم نظرًا لما ينطوي عليه من الجفاء ومخالفة المألوف بين الناس في باب التحية وما يتركه في نفس القادم من الوحشة والإحسـاس بالمهانة؟، أما أن الأمر يدخل في دائرة الاجتهادات المقبولة؟، بل ألا يعكس ذلك ما تعانيه نفوسهم من الأمراض والعقد النفسية؟.

على رسلك أيها الصديق، فإن من الخير لحوارنا أن يستمر بعيدًا عن هذه الاستفزازات التي لا تزيد الأمور إلا تعقيدًا وتأزمًا، وقد علمنا الله أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن فأولى أن تكون هذه الحسنى مع من يدينون بديننا ويتفجرون ولاءً له وتحرقًا إلى إقامته، تنقم منهم عدم القيام للقادم فهل علمت أنه  لم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يقوموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أقبل عليهم لما يعلمون من كراهته لذلك، وفي ذلك يقول أنس رضي الله عنه: «لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك»، ولكن يستثنى من ذلك القيام لمن قدم من سفر أو حضر من غيبة،  لما ورد من قيامه صلى الله عليه وسلم لعكرمة وأمره للأنصار أن يقوموا لسعد بن معاذ بقوله: «قوموا إلى سيدكم»، عندما قدم ليحكم في بني قريظة لما نزلوا على حكمه.

 هذا هو الأصل في هذا الباب،  وينبغي على المسلم أن يتحرى في أعماله موافقة الشرع واتباع السنة ما استطاع، إلا أن في المسألة أصلًا آخر جديرًا بالاعتبار كذلك وهو التأليف وإصلاح ذات البين وإزالة التباغض والشحناء، فإذا وجد المسلم بين قوم من عادتهم إكرام القادم بالقيام، ولا علم لهم بهذه السنة، ولو ترك القيام لاعتقد القادم أن هذا لترك حقه أو قصد خفضه والحط من منزلته، فالأصلح أن يقام له في هذه الحالة تألفًا له ودفعًا لفساد ذات البين، حتى يألف السنة وتسكن إليها نفسه. وهذا الأصل عام، وهو من قواعد الرشد في الدعوة إلى الله عز وجل،  وقد أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ويمكن الرجوع إليه لمن شاء([226]).

وعلى هذا فإن عدم القيام للقادم لا يمثل شططًا في الفهم، ولا تطرفًا في السلوك لما ذكرت لك من الدليل، ولكن الذي يمكن أن يؤخذ في موقف هؤلاء هو عدم مراعاة هذا المعنى الأخير وهو تألف الجاهل بالسنة والتدرج معه في الدعوة، وأنه لا بأس بالقيام له في البداية دفعًا للتباغض والتشاحن إن كان يتوهم أن عدم القيام له هضمًا لحقه وخفضصا من شأنه، حتى يتم تعريفه بلطف لما تمهد في الأصول من أن مبنى الشريعة دفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما، هذا هو موطن التثريب على هؤلاء،  وهو يرجع كما ترى إلى الحماس لتطبيق السنة وعدم الانتباه إلى قاعدة اعتبار المآل،  وما يقتضيه التأليف من ترك شيء من السنة في بعض الأحوال.

 ولكنهم يستدلون في هذا المقام بحديث: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار»، مما يدل على أن الأمر لا يتعلق بترك سنة من السنن ولكننا أمام كبيرة من الكبائر، والكبائر لا يجوز ارتكابها من أجل التأليف؟.

ليس هذا من ذاك، فقد ذكر أهل العلم أن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد كما تفعل الأعاجم بملوكهم وعظمائهم، وليس معناه أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه وصلوا قيامًا أمرهم بالقعود، وقال: «لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضًا»، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، الأمر الذي يبين محمل الحديث الذي ذكرت، وأنه وارد في هذا المقام وليس في مقام القيام للقادم إذا جاء؟([227]).

..................................................................................

***

 

 


التطرف وتخريب البنوك الوطنية

 تحريم الفوائد

لا يزال فقه النكد الذي يسيطر على تفكير الجماعات الإرهابية ومن دار في فلكهم من المنتفعين بالدين والمتسترين وراء تطبيق الشريعة يؤدي دوره في إهدار الشرعية عن المؤسسات البنكية والمرافق الاقتصادية في الدولة، بحجة تعاملها بالربا زاعمين أن فوائد البنوك هي الربا الحرام الذي نزل القرآن لتحريمه، ضاربين عرض الحائط بفتاوى المستنيرين من أهل العلم الذين فرقوا بين هذه الفوائد وبين الربا الحرام الذي كان يستغل الدائن فيه حاجة المدين إلى الإقراض، فضلًا عن قياسهم هذه الفوائد على أرباح عقد المضاربة تلك التي قال بحلها الفقهاء أجمعون، بل مخالفين لما قررته دار الإفتاء مؤخرًا من مشروعية هذه الفوائد، ورغم كل هذه المستجدات والفتاوى المستنيرة لا يزال المتطرفون في غيهم يعمهون، وعن مصلحة بلادهم عمون، وبتخريب اقتصاد أمتهم مولعون، فأين ترى هذه المواقف الرجعية الإرهابية في ميزان التطرف والاعتدال؟.

تحريم الربا مما علم بالضرورة من الدين، فلقد ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل مما علم من دين الرسل بالضرورة فهو لم يحل في شريعة قط. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْـمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾([228])، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد السبع الموبقات في الحديث المتفق على صحته عند البخاري ومسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قيل يا رسول الله ما هي؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»، وقال جابر رضي الله عنه فيما أخرجه مـسلم في صحيحه: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آكل الربا ومؤكله وكاتبـه وشاهديه»، وقد أجمع المسلمون في سائر الأعصار والأمصار على حرمته، وقد نقل هذا التحريم فقهاء المذاهب جميعًا، وإذا كان الأمر كذلك فلا مجال فيه لتمحل متمحل أو تأول متأول يزعم الاجتهاد والتجديد، ويدعي العصرية والاستنارة، إذ لا اجتهاد فيما كان قطعي الثبوت والدلالة بإجماع الأمة كلها سلفها وخلفها على السواء!!.

 سلمنا بحرمة الربا، ولكن المنازعة في كون فوائد البنوك هي هذا الربا الحرام.

الربا نوعان: ربا النسيئة وربا الفضل.

أما ربا النسيئة: فهو الربا الجلي الذي كان شائعًا في الجاهلية، وتنزل القرآن بتحريمه،  وهو الزيادة في الدين نظير الأجل، ويتلخص في هذه العبارة (أخرني وأزيدك)، أخرني في الأجل وأزيدك في مقدار الدين، هذا هو الربا الذي أباحته الجاهلية القديمة وتحاول إباحته الجاهلية المعاصرة، وقد نزل القرآن بتحريمه بما لا يدع مجالًا للشك.

أما ربا الفضل: فهو الربا الذي جاءت السنة بتحريمه،  وهو البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر أو تأخر قبضه في الأموال الربوية، وليس المقصود هو استقصاء القول في أنواع الربا وما يندرج تحت كل نوع من الصور، وإنما المقصود أن نؤكد أن ربا النسيئة هو الربا الجلي المحرم بنص القرآن، وأن فوائد البنوك هي هذا الربا بلا نزاع.

ولم تقتصر صورة الربا الذي عرفه العرب في الجاهلية على الزيادة عند حلول الأجل وعدم القدرة على الوفاء، بل إن منهم من كان يشترط هذه الزيادة من البداية كما نص على ذلك الجصاص والطبري وغيرهم، فضلًا عن عدم الفارق المعتبر بين من يشترط الزيادة ابتداء وبين من يشترطها عند حلول الأجل، بل الأول هو الأولى بالتحريم.

 ولكن الربا القديم كان الدائن يستغل فيه حاجة المدين إلى الاقتراض للقيام بضروراته الأساسية من المأكل والملبس والمسكن والدواء ونحوه، فأين هذا من الفوائد في واقعنا المعاصر؟!، هل تستطيع أن تقول بأن المواطن الذي يتقاضى الفائدة من البنك يستغل حاجة البنك في الإقراض؟، وأن البنك في هذه العلاقة هو الطرف الضعيف الذي يجب أن تتدخل القوانين لحمايته؟، ألا يجب في هذه الحالة أن تتجدد النظرة إلى هذه القروض تبعًا لتغير الظروف وتجدد المصلحة؟.

لا يقوم هذا التفريق على أساس علمي. فليس صحيحًا أن المقصود بالربا المحرم في هذه النصوص هو القروض الاستهلاكية التي يستغل فيها الغني القوي حاجة الفقير الضعيف، بل ربما عكس ذلك هو الصحيح، فالعرب أهل تجارة بطبيعتهم، وقوافلهم التجارية في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام غنية عن التعريف لما جاء من ذكرها في القرآن الكريم، ولم يكن العربي يومئذ مثقلا بأعباء معيشية كتلك التي تنوء بها كواهل أبناء هذا العصر، فقد جعل الله له من جلود الأنعام بيوتًا يستخفها يوم ظعنه ويوم إقامته، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا له، وطعامه شربة لبن وحفنة تمر، وشيء من اللحم يناله مما بيده من النعم، وحياة كهذه يغلب على أصحابها ألا تكون قروضهم في محيط الاستهلاك في الجملة.

ومن ناحية أخرى فإننا إذا احتكمنا إلى الواقع العملي رأينا أن أبواب القروض مؤصدة في الواقع أمام الفقراء والمحاويج، فصاحب الضرورة المحتاج لا يجد من يقرضه. لا في المؤسسات المصرفية ولا عند أحد من الناس!! لأن الغالب على القروض - وقد أصبحت هي وسيلة الاستثمار المربحة والآمنة - أن تتوجه إلى الأثرياء وأرباب المشروعات ليزدادوا ثراء على ثراء، ولاسيما وأن لهم من رصيد الثقة ما يشجع أصحاب الأموال على أن يبذلوا أموالهم إليهم، لتتمتع بالضمان والأمان، ولتدر عليهم ما تدره من الربا الحرام!!.

      ومن ناحية أخرى فإن هذا المنطق ينطبق بدوره على القروض الخارجية التي تقترضها الدولة نفسها من الدول الكبرى والمؤسسات المالية العالمية وتستخدمها في تمويل خطط التنمية بالداخل، فهل يصدق عليها بدورها أنها ليست فوائد ربوية؟ لأن الربا فقط لا يكون إلا فيما أخذ ليستهلك؟.

وهل يصح إطلاق القول بأن من أخذ ليثمر وينتج بالضرورة أن يكون طرفًا قويًا لا يصدق على من يقرضه بالفائدة أنه يتعامل بالربا ؟ إن واقع الدول النامية ومأساتها المزمنة مع الديون الخارجية وصندوق النقد الدولي تكذب هذه المقولة، لقد أصبح كل هم هذه الدول هو ما يسمى بخدمة الديون أي الفوائد الربوية، فتراها تلهث وتركض لتؤدي هذه الفوائد الربوية التي تتضاعف عامًا بعد عام، ويبقى أصل المال ثابتًا على حاله، مع ما يصحب ذلك من قهر لإرادتها السياسية  وتدخل الدول المقرضة في شئونها الداخلية والخارجية؟([229]).

أما الاستناد على فكرة المصلحة في تبرير القول بمشروعية هذه الفوائد فهو مردود، فقد أجمع الأصوليون على أن  من شروط العمل بالمصلحة أن لا تكون ملغاة، وأن تكون حقيقية، وأن تكون عامة، فإن عريت المصلحة عن هذه الضوابط كانت خلعًا للربقة وتحكيمًا للهوى المجرد، مهما توارت خلف قناع زائف من الحاجة أو المصلحة، وفي الأدلة القاطعة على تحريم الربا ما يدل على أن هذه المصلحة ملغاة بل ما يدل على أنها ليست مصلحة من الأساس.

فإن قيل إنه حيث كانت المصلحة فثم شرع الله، قلنا «كلمة حق أريد بها باطل» فإن النصوص الشرعية مستقر المصالح ومستودعها، فحيث كان شرع الله فثمت المصلحة، فلا أعلم بمصالح العباد من رب العباد، ولا يليق بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أن في الخروج عن شرع الله وانتهاك حرمته مصلحة وصلاحًا، وأن في الوقوف عند أمر الله ونهيه مفسدة وفسادًا!!، وإن غاية ما يستفاد من هذه الكلمة أن ما سكتت عنه النصوص اعتبرت فيه المصالح على شرائطها الشرعية.

 ولكن إذا كانت هذه البنوك تجمع هذه الودائع وتدفع بها في أوعية الاستثمار، وتحصل من وراء ذلك على الأرباح، فلماذا لا تعتبر الفائدة جزءًا من الأرباح الناجمة من هذه الأعمال على النحو الذي يجري عليه العمل في عقد المضاربة؟ فيكون المودع هو رب المال، والعامل هو البنك، والربح المتحصل يكون بينهما على الشرط؟ أليس في هذا تيسير على العباد وتحقيق لمصالح الأمة والتزام بأحكام الشريعة؟ لاسيما وقد أفتى بهذا النوع كثير من المستنيرين من أهل العلم كالإمام محمد عبده والشيخ عبد الوهاب خلاف وآخرين؟!.

لا منازعة في أن عقد المضاربة من العقود المشروعة وقد ثبتت مشروعيته بالسنة التقريرية والإجماع([230])، وحقيقة المضاربة دفع المال إلى من يتجر فيه بجزء من ربحه، فهو عقد يجمع بين رجل يملك المال ولا قدرة له على العمل وبين آخر يقدر على العمل ولا يملك المال، على أن يكون الربح بينهما والخسارة على رب المال ولا يخسر العامل إلا جهده ومن الشروط التي أجمع أهل العلم على اشتراطها لمشروعية المضاربة أمران: شيوع الربح، وعدم تضمين العامل.

أما شيوع الربح فلأن تحديده ابتداء يجعل ربح أحد الطرفين مضمونًا على كل حال بينما يتعرض الطرف الآخر لاحتمال الربح و الخسارة، وهذه حقيقة الربا الذي وردت بتحريمه الأدلة القاطعة.

ومن ناحية أخرى فإنه يقطع الشركة في الربح، فقد لا يربح المال إلا هذا القدر المحـدد فيـستأثر به هذا الذي اشترط، وقد لا يربح أصلًا فتقع مصيبة هذا القدر على رب المال يدفعها من أصل المال، وقد يزيد الربح زيادة بالغة فيتضرر هذا الذي اشترط له هذا القدر اليسير.

      قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض - أي المضاربة - إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة([231]).

 قبل أن نتجاوز هذه النقطة هل هناك أدلة شرعية استند إليها هذا الإجماع على شيوع الربح  أم أنه محض اجتهاد فيمكن أن يقابل باجتهاد آخر؟

بل هناك أدلة شرعية على هذا الإجماع، فحاشى لأهل العلم من السلف الصالح أن ينقل عنهم إجماع لا يكون مستندًا إلى أدلة الشرع. وسند هذا الإجماع هو دلالة نص أحاديث المزارعة التي نص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه لا يجوز أن يكون نصيب مالك الأرض أو العامل فيها ما يخرج من بقعة معينة منها، كالذي ينبت على القنوات مثلًا لأنه ربما تهلك هذه البقعة وتسلم بقية الأرض، أو تسلم هذه البقعة وتهلك بقية الأرض فنهاهم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن رافع بن خديج، قال: «كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك».

 ولكن ما العلاقة بين المضاربة وبين المزارعة؟

المزارعة أخت المضاربة، فإن كلًا منهما يمثل شركة بمال من جانب وعمل من جانب، فالمزارعة اشتراك بين رب الأرض وبين العامل الزارع، والمضاربة اشتراك بين رب المال وبين العامل التاجر، فالمضاربة كما يقول أحد العلماء المعاصرين مزارعة في التجارة، والمزارعة مضاربة في الزراعة.

  وماذا عن عدم تضمين العامل ؟

أما عدم تضمين العامل فلأن يده على المال يد أمانة، والأمين لا يضمن إلا بالتفريط أو التعدي. واشتراط الضمان على العامل يفسد هذا العقد ويذهب بشرعيته. وعلى هذا فإن تكييف فوائد البنوك على أنها جزء من ربح مضاربة تخريج معتمد على الافتراض والتخيل، ترده حقائق الشرع،وتبهته مجريات الواقع، لأن البنوك تحدد سلفًا نسبة الفائدة ولا تتركها جزءًا شائعًا من الناتج، ولأن البنوك تضمن الأموال المودعة لديها للمودعين، لا تنفك البنوك عن ذلك!! فبطل إذن هذا التخريج لتخلف هاتين الدعامتين الأساسيتين من دعائم عقد المضاربة، وهما شيوع الربح وعدم تضمين العامل.

إننا إذا سرنا مع المبادئ والأصول الاقتصادية في أدق حدودها كانت لنا الخيرة بين نظامين اثنين لا ثالث لهما: فإما نظام يتضامن فيه رب المال والعامل في الربح والخسارة، وإما نظام لا يشترك فيه معه في ربح ولا خسارة، ولا ثالث لهما إلا أن يكون تلفيقًا من الجور والمحاباة.

وما المخرج إذن؟

أن نحول هذا الافتراض إلى حقيقة، وأن ننشئ عقد مضاربة حقيقية بين البنك وبين جماعة المودعين، يقوم فيها البنك بدور العامل عندما يتلقى الأموال ويكون المودعون هم أصحاب المال،  ثم يعيد البنك توظيف هذه الأموال فيدفع بها إلى أصحاب المشروعات لاستثمارها بعد اطلاعه على دراسات الجدوى  ووثوقه من أصحابها ويكون في هذه الحال هو رب المال، والمستثمرون الراغبون في التمويل هم العمال  وما يحصل عليه منهم من الربح يكون بينه وبين جماعة المودعين، على أن يلتزم البنك بالشروط الشرعية المقررة لعقد المضاربة من عدم تحديد الربح، وعدم التزامه بالضمان.

***

 

 


إعلان الحرب على دار الإفتاء

ولكن القول بإباحة فوائد شهادات الاستثمار هو الفتوى الرسمية التي أصدرتها دار الإفتاء المصرية بتاريخ: 8/9/1989م، وذكرت أن المسألة قد عرضت لجنة من فقهاء المذاهب الأربعة مكونة من ثلاثة عشر عالمـًا وأن أربعة فقط هم الذين ذهبوا إلى الحرمة وأفتى البـاقون بالجـواز وبـناء علـى ذلك أصـدرت دار الإفـتاء فتواها بإباحة هذه الفوائد، فكيف نترك رأي الجمهور إلى رأي انفرد به أربعة؟ وكيف نتجاوز فتوى صادرة من أعرق مؤسسة دينية في البلاد، وهي موضع ثقة المسئولين، وتضم تحت لوائها أكابر المتخصصين؟!.

أولًا: أذكرك بما اتفقنا عليه في بداية هذا الحوار واتفق عليه المسلمون أجمعون أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، وأن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: إن قضية الفوائد كانت قد حسمت من قبل هذه الفتوى وأغلق ملفها بالقرار الصادر من المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية الذي انعقد في 52من شهر المحرم 5831هـ. والذي   حضره ممثلون ومندوبون من خمس وثلاثين دولة، وانتهي إلى إصدار القرار التالي:

1- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.

2-  كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾([232]).

3- الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقرير ضرورته([233]).

وقد تجاهل فضيلته هذا القرار وأعاد فتح الملف من جديد!.

 وكما خالف فضيلته القرار الصادر من مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية والذي      ضم - كما سبق - ممثلين ومندوبين عن خمس وثلاثين دولة، فقد خالف القرار الذي اتخذه مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في دورته التاسعة والذي نص فيه على حرمة الفوائد الربوية، وعدم جواز الانتفاع بها شرعًا، وحرمة التعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج لمن يتيسر له التعامل مع أحد المصارف الإسلامية، كما خالف القرار الصادر من مجمع منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في ربيع الثاني عام  1406 هـ، والذي قرر ربوية هذه الفوائد وحرمتها بالإجماع. كما خالف به المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية المنعقد بالكويت عام  1403 هـ والذي أكد في أولى توصياته أن فوائد البنوك هي الربا المحرم شرعًا.

وإذا كانت هذه القرارات بمثابة الإجماع على تحريم الفوائد فإن الإجماع لا ينسخه إلا إجماع لاحق، فهل أجمع علماء الأمة على ما أعلنه فضيلته من حل فوائد شهادات الاستثمار؟ لقد قوبلت فتوى فضيلته بعاصفة من الرفض والاستنكار لم يسبق لها مثيل، مما قد يصح معه القول بأن الإجماع قد انعقد على رفض هذه الفتوى واعتبارها من الزلات التي يجب أن تمات وأن يضرب عنها الذكر صفحًا، لأنها لم ترقى إلى مستوى النظر فيها ولو كمجرد اجتهاد، وسنورد بعد قليل طرفًا من هذه الاستنكارات.

 ثالثًا: لقد اعتمد فضيلة المفتي - غفر الله له - في هذه الفتوى على دراسة قامت بها لجنة كونها  مجمع البحوث الإسلامية لدراسة هذه المسألة وتقديم تقرير عنها إلى المجمع، ولم يتبن المجمع ما انتهي إليه أغلبية هذه اللجنة من الحل رغم مرور بضعة عشر عامًا على تشكيلها أي منذ  1967 م إلى الآن.

 وقد اصطفى فضيلته هذه اللجنة من بين لجان عديدة أسبق وأعرق، واعتمد عليها وحدها في إصدار هذه الفتوى، بل تجاهل فضيلته جملة من الفتاوى الرسمية التي أصدرتها دار الإفتاء ذاتها بتحريم هذه الفوائد([234]).

بل خالف بها الفتوى الصادرة من فضيلته نفسه قبل هذه الفتوى الأخيرة ببضعة أشهر، وفيها النص على تحريم فوائد البنوك ونصيحة السائل بأن يتحرى الاستثمار الحلال!.

وقد كانت هذه الفتوى بمناسبة استفتاء تقدم به أحد المواطنين حول شرعية شهادات الاستثمار فأجابه فضيلة المفتي بالحرمة! ولو أردنا الاستقصاء في ذلك لأعجزنا الحصر.

بل إن فضيلة المفتي قد خالف بهذه الفتوى فضيلة شيخ الأزهر الذي قال كلمته في هذه القضية  ونشرت في جريدة الأهرام الصادرة في  81 / 8 / 1979 م وقد أحال إلى القرار الصادر من مجمع البحوث عام 1385 هـ ، و الممهور بتوقيع مندوبين وممثلين من خمس وثلاثين دولة إسلامية، والذي سبقت الإشارة إليه، وجزم فضيلته بحرمة فوائد البنوك،وأرشد إلى أن يكون تمويل مشروعات الدول عن طريق المشاركة المشروعة وليس عن طريق الإقراض الربوي.

هذا ومن الجدير بالذكر أن علماء الأزهر قد عارضوا هذه الفتوى معارضة جماعية، ويكفي أن نشير إلى البيان الذي أصدره علماء الأزهر في مكة المكرمة في نقد هذه الفتوى ونقضها وهو ممهور بتوقيع ما يزيد على مائة عالم من علماء الأزهر، فإن كانت العبرة بالعدد فليقارن فضيلته تسعة إلى مائة!! وقد أشارت إلى هذه الفتوى مجلة المختار الإسلامي في عددها الصادر في رجب 1410 هـ .

رابعًا: إن التكييف الشرعي الصحيح للودائع المصرفية العادية أنها قد انتقلت من باب الوديعة إلى باب القرض فقهًا وقانونًا، ولا مناص من هذا التخريج في التحليل العلمي الدقيق.

أما من الناحية الفقهية فلأن جوهر الوديعة توكيل في حفظ المال على أن يرد عينه. ولهذا تبقى في ضمان صاحبها ولا يجوز للمودع أن يتعدى باستخدامها أو أن يفرط في حفظها، فإن فعل فهو ضامن ولكن جوهر القرض تمليك الشيء على أن يرد بدله، ولهذا فإنه يدخل في ضمان المقترض بمجرد القبض لأنه صار ملكًا له. ولهذا فإن من أودع غيره وديعة على أن يستهلكها ويرد بدلها فقد انتفت أحكام الوديعة لانتفاء أهم أركانها وهو حفظ المال وأصبحت قرضًا من القروض مهما كان اللفظ الذي تعامل به الطرفان، لما تقرر من أن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني، وهو المبدأ الذي أقر به فضيلة المفتي في صلب فتواه، هذا هو التخريج الذي سطرته أقلام الفقهاء، وهدوا إليه دونما رهق ولا عناء([235])، وهو أيضًا الذي صدرت به الفتوى الرسمية من دار الإفتاء في عهد الشيخ جاد الحق في ديسمبر 1979 م

وأما من الناحية القانونية فقد قطع القانون المدني النزاع في هذه المسألة ونصت المادة 637 على ما يلي: «إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونًا له باستعماله اعتبر العقد قرضًا»، وإذا اتفقت الشريعة والقانون على هذا التخريج فلماذا نحيد من هذه الحقيقة، وتتكلف في البحث عن تخريج آخر لا يقره القانون لما يتضمنه من مخالفة نص المادة 637 السابقة، ولا تقره الشريعة لأن العبرة فيها - كما يقر فضيلة المفتي نفسه - بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني؟!.

والعجيب أن يذكر فضيلة المفتي أنه أرسل ليستعلم عن التكييف الفقهي لشهادات الاستثمار من إدارة البنك وعما إذا كانت تعتبر قرضًا أو وديعة أذن للبنك باستعمالها، والتكييف عمل فقهي بحت كان ينبغي أن يكون البنك هو الذي يستعلم فضيلته عنه، وقد خالفت إدارة البنك في جوابها على فضيلته نص القانون المدني الذي لم يفرق بين الأمرين وجعل الوديعة المأذون في استعمالها قرضًا، وهو الأمر الذي يختاره غالبية الفقهاء.

فما كان لفضيلته أن يحيل إلى البنك عملًا هو من صميم عمل الفقيه والمفتي، وما كان للبنك أن يجيبه على خلاف نص القانون، وأخيرًا لا جدوى لهذا الالتفاف لأن الوديعة توكيل في حفظ المال على أن يرد عينه وهذا المعنى منتف تمامًا في هذه الودائع، والقرض تمليك للمال على أن يرد بدله، وهذا المعنى موجود تماما في هذه الودائع!! فلماذا نكابر الواقع والفقه والقانون؟!.

وإذا تقرر أن التكييف الشرعي الصحيح للودائع المصرفية أنها بمثابة قروض فقد حسمت المسألة، وأصبحت كل زيادة فيها هي الربا الحرام بالإجماع.

إذا كان الأمر كما تقول فما هو التخريج الفقهي الذي عولت عليه أغلبية هذه اللجنة فيما انتهت إليه من القول بمشروعية الفوائد؟

لم يتفق القائلون بالحل من أعضاء هذه اللجنة على تخريج واحد، بل تراوحت تخريجاتهم للفوائد بين اعتبارها مضاربة صحيحة أو اعتبارها معاملة حديثة لم يرد فيها نص فيكون الأصل فيها هو الإباحة، وكلا الأمرين باطل لا وجه له.

أما اعتبارها مضاربة صحيحة فهو مخالف - كما سبق - لما أجمع عليه المسلمون من اشتراط شيوع الربح وعدم تضمين العامل لكي تصح المضاربة، وفي هذه المعاملة لو سلمنا بهذا التخريج فإن الربح محدد والعامل ضامن، فكيف تتأتى صحة هذه المضاربة؟ إن المضاربة التي عرفتها الأمة واتفقت على مشروعيتها لها إطاراتها الشرعية التي تستند إلى النصوص  و إلى الإجماع، فلا ضمان فيها على العامل إلا بتفريط أو عدوان، لأن يده على المال يد أمانة، والخسر فيها مصيبته على رب المال، ولا يخسر العامل إلا عمله. والربح فيها جزء شائع لا مبلغ ثابت حتى لا تنقطع الشركة في الربح.

هذه هي ملامح المضاربة التي عرفتها الأمة في تاريخها كله، وهي غائبة بالكلية في شهادات الاستثمار، لأن المصرف يضمن قيمة الشهادات على كل حال، ولا فرق بين المعروف عرفًا والمشروط شرطًا، ولا يتحمل رب المال خسرًا، لأن ربحه ثابت على كل حال، أيًا كانت نتيجة الاستثمار. وربح رب المال فيها ليس جزءًا شائعًا، ولكنه مبلغ محدد  ثابت يتقاضاه رب المال ولو لم يربح المصرف غيره، بل ولو خسر كذلك،  فماذا بقي من قواعد المضاربة حتى نصر على أن نلحق هذه الشهادات بها اللهم إلا افتراضات وأماني؟!.

أما اعتبارها معاملة حديثة فهو مردود عليه من الذين قالوا من الأعضاء التسعة بأنها عقد مضاربة، ومردود عليه بأن جوهر هذه المعاملة إقراض بزيادة وهو حقيقة الربا الذي اتفقت على تحريمه الأديان السماوية الثلاثة؟!

ومن ناحية أخرى فقد نص الفخر الرازي في تفسيره على أن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية، لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا، ورأس المال باقي بحاله. فمن ذا الذي قال أنها معاملة لم تعرف إلا في هذا العصر؟.

ولكن الربا الذي عرفته الجاهلية قديماً والذي أشار إليه فضيلة المفتي في فتواه هو الزيادة عند حلول الأجل وعدم القدرة على الوفاء وهو الذي يتلخص في قول الدائن (أخرني وأزيدك)، وفيه كما لا يخفى شبهة استغلال إعسار المدين وعدم قدرته على الوفاء، أما الفوائد المعاصرة فإن الزيادة يتم الاتفاق عليها من البداية، ومن هنا فإن القياس مع الفارق؟.

لا وجه لهذا  الحصر، ولا فارق  في هذا القياس!.

 كيف؟.

لا وجه لحصر الربا الجلي الذي حرمه الله ورسوله فيما يكون من الزيادة على سبيل الاستغلال عند حلول أجل الدين، وعدم قدرة المدين على الوفاء كما أشار إلى ذلك فضـيلة المفتي، فإن هذه الصـورة ليسـت هي الصورة الوحيدة للربا الجلي، إذ لا فرق بين اشتراط الزيادة ابتداء عند الإقراض أو اشتراطها انتهاء عند حلول الأجل وعدم القدرة على الوفاء، وقد ذكر الإمام أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن أن الربا الذي كان يعرفه العرب ويفعلونه هو إقراض الدنانير والدراهم إلى أجل بزيادة مشروطة على ما يتراضون به([236])، وقد ذكر كل من الطبري والرازي قريبًا من ذلك.

بل لو صح انحصار الربا الجاهلي في صورة الزيادة عند حلول الأجل وعدم القدرة على الوفاء، فلا فارق في قياس الفوائد المعاصرة على هذه الصورة، بل إن الصور المعاصرة التي تشترط الربا ابتداء أسوء وأشنع وأولى بالتحريم!!.

وأخيرًا فإن هذه الصورة الجاهلية القديمة توجد اليوم فيما يسمى بالفوائد التأخيرية، فإن الرجل إذا لم يف بدينه في موعده قيل له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن تأخر يومًا واحدًا تحرك العداد الربوي حاسبًا عليه كل يوم من أيام التأخير.

ومن ناحية أخرى فلا أدري معنى ما جاء في عبارة المفتي من تقييد هذه الصورة التي ذكر أنها هي الربا الجلي المحرم بالإجماع، بأن تكون على سبيل الاستغلال للمدين: هل هذا قيد لبيان الواقع، وأن كل مطالبة بالزيادة يصدق عليها هذا الوصف، أما أنه قيد لتقسيم هذه المطالبة إلى قسمين: قسم تكون معه من قبيل الربا الحرام إذا كانت على سبيل الاستغلال، وقسم لا تكون معه حرامًا إذا لم تكن على سبيل الاستغلال؟ وما هو الضابط للتفريق بين النوعين في هذه الحالة وهل قال أحد من الأئمة قبله بهذا القيد على مدار التاريخ؟ وهل يمكن على سبيل الاستطراد أن نفهم من قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾([237])، بأن المحرم فقط هو إكراههن على الزنا على سبيل الاستغلال، أما إذا تم الأمر عن تراضي وطيب خاطر بأن اتفقت الأمة  مع سيدها على أن تزني ولها مما تزني به10 %  مثلًا يكون ذلك جائزًا وخارجًا عن نطاق التحريم الذي جاءت به الآية؟ إنها مجرد أسئلة ... ولا حاجة إلى الجواب!.

خامسًا: ولا ندري ما وجه مطالبة فضيلة المفتي للمسئولين بالبنك الأهلي أن يسموا هذه الفوائد بالعائد الاستثماري أو الربح الاستثماري بدلًا من تسميتها فوائد (كذا!!)، يقول: مع اعترافنا بأن العبرة في المعاملات بحقيقتها ومضمونها وليست بألفاظها وأسمائها، أليس هذا كلام يهدم آخره أوله؟، إذا كانت العبرة في العقود بالحقائق لا بالألفاظ فما الذي يفيده تغيير اسم الفائدة إلى اسم العائد أو الربح؟!،  إننا نربأ بفضيلته أن يكون ممن ذكرت النصوص عنهم أنهم يستحلون الربا باسم البيع والسحت باسم الهدايا، والخمر يسمونها بغير اسمها، فهو عندنا أجل من ذلك، ولكن الدهشة لا تزال تعقد ألسنتنا منذ أن قرأنا ذلك ولم نعرف له وجهًا!!.

سادسًا: ومن غرائب ما جاء في كلام فضيلته قوله: إنه لا يوجد تحديد بالمعنى الدقيق للربح بدليل تراوح فوائد هذه الشهادات بين 4 % منذ إنشائها حتى أصبحت الآن تزيد على 16 % والغريب في ذلك أن سعر الفائدة في العالم كله يتذبذب بين جزر ومد و ارتفاع وانخفاض ولم يقل أحد أن هذا يخرج الفوائد الربوية المقطوع بها في العالم كله عن كونها ربوية!.

 إذا كان الأمر كذلك فما هو التخريج الذي   اعتمد عليه فضيلة المفتي فيما ذهب إليه في بيانه من القول بمشروعية تحديد الربح؟

إن بيان فضيلة المفتي قد اضطرب في تحديد السبب الذي من أجله ترخص في مسألة تحديد الربح فمرة يعلل ذلك بما ينقله عن الشيخ عبد العظيم بركة من أن المشروعات اليوم مبنية على قواعد اقتصادية مضمونة النتائج وأن الربح فيها محقق، وما يأخذه صاحب المال من الربح لا يعدو أن يكون حصة ضئيلة بالنسبة لمجموع الربح الذي تدره هذه الشهادات، ومرة ينسب إلى القائلين بالحل عمومًا أن السبب في هذا الترخص هو حماية صاحب المال ودفع النزاع بينه وبين البنك، ولأنه لم يرد في الكتاب والسنة ما يمنع من هذا التحديد إذا وقع بالتراضي بين الطرفين، وينقل عن الشيخ عبد الوهاب خلاف قوله: ونحن الآن في زمن ضعفت فيه ذمم الناس، ولو لم يكن لصاحب المال نصيب معين من الربح لأكله شريكه... وكلا التخريجين موضع نظر بل باطل وفاسد عند التحقيق:

أما الأول وهو القول بأن النتائج مضمونة، والربح محقق فانتفت العلة من اشتراط الشيوع وهو قطع الشركة في الربح عندما لا يربح المال إلا هذا القدر المحدد فيرده الواقع العملي لمؤسسات الدولة وشركات القطاع العام التي تبلغ خسارتها سنويًا بالملايين، والتي ما كان لها أن تقدر على الاستمرار لولا ما تتلقاه من دعم حكومي تبذله لها الحكومات لتحفظ به ماء وجهها أمام الشعوب!.

ومن ناحية أخرى فقد أعلن فضيلة شيخ الأزهر لجريدة الأهرام أنه علم من المتخصصين أن أموال هذه الشهادات توجه إلى الخدمات، وأن الدولة تدفع من خزانتها أرباح هذه الشهادات، وأن هذا هو السبب الذي   توقف مجمع البحوث من أجله في تحديد الحكم الشرعي بالنسبة لهذه الشهادات، وإذا كان ذلك كذلك فليس ثمة إذن استثمار ولا ربح، وسقط هذا التخريج كله من الأساس!!.

إننا نجهد أنفسنا لنلهث وراء افتراضات لا وجود لها إلا في ذهن القائلين بها، نقول: لم لا نعتبر ما يأخذه المودع من عائد استثمار هذه الشهادات جزءًا من ربح قراض؟ ونختلف على ذلك، ونجهد أنفسنا في صياغة التخريجات والقضية كلها في واد آخر، لأنه لا يوجد استثمار ابتداء حتى ينتج عنه ربح يثور الخلاف في الشروط الشرعية اللازمة لتوزيعه !  فاعتبروا يا أولي الألباب!!.

وأما الثاني وهو القول بأن التحديد لحماية صاحب المال ودفع النزاع بينه وبين البنك وأنه لو لم يجعل لصاحب المال نصيب لأكله شريكه،  فهو مردود بأن هذا لو صح تصوره في المضاربات التي تكون بين الأفراد فلا يتسنى تصوره في شهادات الاستثمار التي تنشأ العلاقة فيها بين صاحب المال وبين الدولة، إلا إذا افترض فضيلته أن الدولة ستأكل المودعين وأصحاب الأموال إذا لم تحدد لهم نصيبهم من البداية، فهل نسي فضيلته أنه يتكلم عن مضاربة طرفاها الدولة وأصحاب الأموال؟! وهل يصح أن يقال في مثل هذه الحالة أن الذمم قد خربت وأنه لو لم يكن لصاحب المال نصيب معين في الربح لأكله شريكه؟ بل هل يتأتى النزاع ابتداءً في مثل هذه العلاقة؟ إن الدولة ممثلة في البنك هي التي تتولى التوظيف والمحاسبة وجميع الوثائق والودائع والمستندات تحت أيديها، وتقدم للمودع في النهاية كشفًا بإجمال مستحقاته ما له وما عليه،  وإن نازع في شيء فغالبًا ما يكون النزاع حول عدم إدراج وديعة من الودائع في كشف الحساب، أما حساب الأرباح والخسائر فلا طاقة له على المنازعة فيه لأنه قضيته غابت عنه تفاصيلها...وما ينبغي له وما يستطيع، غاية الأمر أنه إذا لم يكن راضيًا عن نتيجة أعمال البنك قام بسحب أمواله وأودعها في بنك آخر.

 إذن فما هو التخريج الفقهي الذي استند إليه فضيلته فيما انتهى إليه في بيانه من الإعلان عن مشروعية فوائد هذه الشهادات ؟

لقد اضطرب البيان أيضًا في تخريج ما انتهى إليه من القول بمشروعية هذه الشهادات، فبينما نجده يؤسس ذلك على أحد التخريجين الذين انتهت إليهما اللجنة المذكورة باعتبار هذه الفوائد جزءًا من ربح المضاربة، أو باعتبار المعاملة برمتها جزءًا من المعاملات الحديثة فتكون من المسكوت عنه وترد إلى الأصل العام وهو حل المنافع وحرمة المضار، وجدناه يذكر بعد ذلك تخريجًا آخر وهو اعتبارها مكافأة على معروف، وتشجيعًا على عمل من أعمال الخير، فيذكر أن من الخير أن يشتري المواطن هذه الشهادات بنية المساعدة للدولة في تنمية مشروعاتها النافعة، وأن يتقبل الأرباح باعتبارها مكافأة، ولونًا من التشجيع له على مساندته لها فيما يعود عليه وعلى غيره بالفائدة، فبينما كانت عقدًا من عقود المعاوضات في البداية أصبحت عقدًا من عقود الإرفاق والمساعدة في النهاية!!ولله في خلقه شئون.

والسؤال الآن: هل هذه الفوائد تعد جزءًا من ربح في عملـية تجارية أم تعد مكافأة على معـروف بذله المواطن للدولة، إن الفرق بين المكافأة على المعروف، وبين الربح الناتج عن التجارة هو الفرق بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات، فالربح حق يطالب به، ويتحاكم في شأنه إلى القضاء، والمكافأة على المعروف إحسان من بذله فقد تفضل، ومن منعه فما هو على المنع بملوم ﴿مَا عَلَى الْـمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾([238])، فكيف وقع هذا التناقض في بضعة أسطر؟ أم أن المقصود هو الإصرار على إباحة هذه الشهادات ثم يساق من أجل ذلك مختلف الاحتمالات، وشتى التبريرات، بحيث إذا لم يصح منها واحد صح الآخر، ولو أدى ذلك إلى التناقض والتلفيق بهذه الصورة المؤسفة؟!.

 وماذا عما استدل به فضيلته من أن شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت قد أفتى بمشروعية هذه الفوائد؟

أما ما ذكره فضيلته من الاستدلال بفتوى الشيخ محمود شلتوت فرغم ما هو مقرر من أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك، وأن زلات العلماء لا يقلدون فيها ولا يتهمون بسببها، فإن الشيخ شلتوت قد نقل عنه رجوعه عن هذه الفتوى في أواخر حياته، وهذا ما يرويه الثقات منهم الشيخ محمد أبو زهرة حيث ذكر أنه ناقشه في هذه الفتوى في أواخر حياته، وأنه اقتنع بالرجوع عنها، وقال: تحذف من كتاب الفتاوى، فقال له أبو زهرة:  بل تبقى، ويعلق عليها بأنك رجعت عنها، ويبدو أن الأجل لم يمهله حتى يفعل ذلك([239]).

وبالإضافة إلى ذلك فإن كتابه في تفسير الأجزاء العشرة الأولى من القرآن وهو من أواخر ما طبع له في حياته رحمه الله قد ضمنه إطلاق القول بتحريم الربا وشنع على الذين يجهدون أنفسهم في تحليله([240]).

والخلاصة أن بيان فضيلة المفتي يحتاج إلى مراجعة متأنية في ضوء ما أسفر عنه من مناقشات وردود أفعال وتعليقات من أكابر المتخصصين في الدراسات الفقهية ممن يكن لهم فضيلة المفتي كل تقدير ويبادلونه بدورهم هذا الشعور، وعلى رأس هؤلاء فضيلة شيخ الأزهر، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وإنه  لذلك أهل وبه جدير بإذن الله.

وهكذا يتجلى لك أيها العزيز أنه ليس فقط من تسميهم بالجماعات المتطرفة هم الذين يقولون بحرمة فوائد البنوك، ولكنها الأمة كلها ممثلة في شيخ الأزهر وفي مجمع البحوث الإسلامية، وفي المجمع الفقهي بمكة المكرمة، وفي منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي دار الإفتاء، وفي علماء الأزهر، وأخيرًا من المفتي نفسه قبل بضعة أشهر من بيانه الأخير!، فهل انكشف عنك الغطاء؟! .

***


التطرف وشركات التأمين

ينازع جمهور المتطرفين في شرعية عقود التأمين، ويرون أنها عقود فاسدة لاشتمالها على الغرر والربا ولشبهها بالقمار والميسر، ويرفضون التعامل مع شركات التأمين في الوقت الذي أصبح فيه التأمين ضرورة من ضرورات حياتنا المعاصرة لا ينفك عنه مجتمع يعيش عصره، ويريد أن يلحق بموكب التقدم، وأن يؤمن اقتصاده من مخاطر الغرق والحريق ونحوه من سائر الحوادث المفاجئة، ويؤمن على نفسه وأسرته والعاملين لديه ضد الحوادث والعجز والوفاة وغيره مما لا غنى عنه في مجتمع معاصر، فكيف ترون هذا الموقف الجامـد من هذه الجمـاعات الجامدة؟ وأين موقع هذا كله من قضية التطرف؟.

عقد التأمين التجاري الذي تقوم به شركات التأمين من العقود الفاسدة لاشتماله على الغرر والربا، ولشبهه بالقمار والميسر.

أما اشتماله على الغرر فلأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطًا واحدًا ثم تقع الكارثة فيستحق مبلغ التأمين كاملًا، وقد لا تقع الكارثة فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا ماديًا، ونفس هذه الجهالة تنطبق على موقف المؤمن فهو لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ، بالنسبة لكل عقد بمفرده، وإن كان قد يستطيع ذلك إلى حد كبير بالنسبة لمجموع المستأمنين عن طريق الاستعانة بقواعد الإحصاء، ولكن تبقى الجهالة والغرر في كل عقد على حده، بل على مستوى مجموع هذه العقود قد تطرأ ظروف طارئة تقلب موازينه كلها رأسًا على عقب، والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، وقد صح من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وبيع الغرر([241]).

وأما اشتماله على الربا فلأن ما تدفعه شركة التأمين للمستأمن أو لورثته لا يخلو من ثلاث حالات: إما أن تدفع له أقل مما دفعه من أقساط أو أكثر منها، أو يكون ما تدفعه مساويًا لها، فإن دفعت له مبلغًا مساويًا للمبلغ الذي دفعه أقساطًا فذلك ربا النسيئة نظرا لتأخر دفع هذا المبلغ إلى وقت حلول الكارثة، وإن دفعت له أكثر فذلك ربا الفضل إذا نظر إليه من ناحية الزيادة، وإذا نظر إليه من ناحية تأخير وقت الدفع إلى وقت حلول الكارثة فهو ربا النسيئة، وكل من الفضل والنسيئة محرم على انفراد فكيف بهما إذا اجتمعا؟!.

وأما اشتماله على القمار فلأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع، ولأن كلًا من الطرفين لا يعلم بما ستؤول إليه الأمور على وجه التعيين. فقد يموت المؤمن عليه أو يقع الحادث بعد دفع قسط واحد، ويستحق ورثته مبلغ التأمين كله، وقد تنقضي المدة كلها ولا تحصل الوفاة ولا يقع الحادث، فكل من الطرفين المؤمن والمسـتأمن يتردد بين احتمالات متعددة، ولا علم لأحدهما بما سيكون من الأمر على التعيين، إذ لا شيء في عقد التأمين يعد محدد الأخذ والعطاء، فالشخص قد يدفع عشرين ويكسب مائة، والشركة قد تخسر مع أحد المستأمنين مائتين وتكسب من آخر ألفًا وهكذا.

ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية قد أصدرت فتواها بحرمة التأمين على الحياة، والتأمين ضد الحريق، والتأمين على العقارات عمومًا ضد كافة أنواع الحوادث، واعتبرت ذلك كله من التصرفات الباطلة شرعًا لأنه عقد معلق على خطر الوجود تارة يقع وتارة لا يقع وهو بهذا المعنى يكون قمارًا، وقد صدرت هذه الفتاوى  لثلاثة من المفتين هم أصحاب الفضيلة: الشيخ بكر الصدفي في الفتوى الصادرة في 10 شعبان 1328 هـ  وفيها تحريم التأمين على الحياة الشيخ محمد بخيت في فتواه الصادرة  في 21 ربيع الآخر 1337 هـ الموافق 15يناير 1919م وفيهما تحريم التأمين ضد الحريق،  والشيخ عبد الرحمن قراعة في فتواه الصادرة  في 7 جمادى الثانية 1344 هـ الموافق 22 ديسبمر 1925م وفيها تحريم التأمين على العقار.

كما صدر قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض  بتاريخ 4/4 / 1397هـ بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، كما صدر أيضًا قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ.بتحريم كافة أنواع التأمين التجاري، ولم ينازع في تحريمه إلا الشـيخ مصطفى الزرقا وحده([242]).

   ونحن لا ننكر أن هناك بعض الاجتهادات المخالفة لقلة من المعاصرين، ولكن رأي الجمهور بل الذي يوشك أن يكون إجماعًا هو الجزم بفساد هذا العقد وعدم مشروعيته. وإذا كان ذلك كذلك فكيف يتهم فريق من الناس بالإرهاب أو ينسبون إلى التطرف لقول هم فيه موافقون للجمهور ولفتاوى دار الإفتاء،  ولقرارات المجامع الفقهية، وهيئات كبار العلماء؟ وماذا يكون الاعتدال إذن أيها العزيز؟!

 ولكن لا تزال الحاجة إلى التأمين ماسة، والقول بحرمته يوقع في حرج عظيم؟

لم تغلق الشريعة باب المصالح على البشر، وإن المجامع الفقهية التي أفتت بتحريم التأمين التجاري قد أرشدت إلى التأمين التعاوني بدلًا منه ونصت على القول بمشروعيته، فقد نص على مشروعية التأمين التعاوني كبديل من التأمين التجاري كل من مجمع البحوث الإسلامية([243]) في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385 هـ.  ومجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية  بتاريخ 4 ربيع الثاني  1397هـ ، ومجلس المجمع الفقهي بمكة المكرمة بتاريخ 14شعبان 1398هـ([244])، ففي البدائل الشرعية الطيبة ما يلبي هذه الحاجة ويحقق هذه المصلحة بعيدًا عن التلوث بهذه المحرمات، وقد استطاع الاقتصاد الإسلامي أن يقدم صيغًا إسلامية للتأمين تقوم في الجملة على تجنب الربا والغرر في هذا العقد لتقدم نموذجًا إسلاميًا بديلًا يفي  بالحاجة، ولا يخرج عن دائرة الشرعية، وهي صيغ عملية وقابلة للتنفيذ الفوري، بل قد جربتها بالفعل شركات قائمة وحققت في ذلك نجاحًا منقطع النظير.

***

 


التطرف واستحلال المال العام

يشيع بين بعض غلاة المتطرفين ظاهرة استحلال المال العام بدعوى كفر الدولة لرفضها لتطبيق الشريعة  وبالتالي فإن أموالها مهدرة ولا عصمة لها، وقد ترتب على ذلك بعض الاختلاسات وأعمال السطو والتجاوزات المالية الخطيرة الأمر الذي يفضي إلى استباحة المرافق العامة، وتخريب المؤسسات المالية والاقتصادية للدولة، وفي ذلك من الدمار للذمم والتخريب للوطن ما لا يخفى فساده؟ فأين هذا التوجه الخطير من قضية التطرف؟.

الأموال العامة ملك للأمة وليست ملكًا للحاكم،وليس للحاكم من هذه الأموال إلا النظارة والإشراف، وذلك بجباية المال من وجهه وإنفاقه في وجهه، وهو في هذا المال كولي اليتيم: إن استغنى استعفف، وإن افتقر أكل بالمعروف. وإذا كانت هذه الأموال ملكًا لمجموع الأمة فهي أموال معصومة  ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتخوض فيها بغير حق، أو أن يستحل منها ما يستحله من الأموال المباحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»([245])، وإن غاية ما تحدث فيه أهل العلم بشأن صلة الفرد بالأموال العامة في ظل أئمة الجور الذي يتضرعون في هذه الأموال بغير حق ويحولونها إلى مغانم شخصية هو القول بتصرف آحاد الرعية في هذه الأموال العامة على النحو الذي كان سيتصرف به فيها الأئمة العدول، أي ليس لأحد منهم أن يغنمه لنفسه، وإنما يوجهه إلى مصارفه الشرعية.

فإذا انعدمت شرعية ولاية الحكام على هذه الأموال لكفرهم أو لظلمهم الفاحش وتضرعهم في  هذه الأموال بغير حق، فإن أقصى ما يمكن أن يفعله المسلم إذا أصاب شيئًا من هذه الأموال أن يوجهه إلى مصارفه الشرعية، وأن يتصرف فيه على النحو الذي كان سيتصرف به فيها الإمام العادل، لا يستحل لنفسه منه شيء، أما أن ينتهبه لنفسه، ويحوله إلى مغنم شخصي فهذا فعل المجرمين والأوغاد، ولا أعلم أحدًا من منتسبي الجماعات الدينية يجترئ على القول بشيء من ذلك([246]).

..................................................................................

***

 

 


التطرف و التجنس

  في الوقت الذي تحرص فيه الدول النامية على تشجيع شبابها على الهجرة والحصول على الجنسية الأجنبية لاكتساب الخبرات، ودعم اقتصاد الوطن، ونصرة القضايا الوطنية في البلاد الأجنبية ينازع بعض المتطرفين في مشروعية التجنس بجنسية دولة أجنبية، ويرون في قبول هذه الجنسية بابًا من أبواب الردة عن الإسلام والخروج من الملة!، لما يتضمنه بزعمهم من القبول الطوعي لشرائع الكافرين!، والتزام الولاء لدولهم والخدمة بجيوشهم إلى غير ذلك من الالتزامات العادية التي يطالب بها كافة المواطنين في هذه البلاد والتي لا تقارن مفاسدها إن وجدت بالمصالح المنشودة في هذا التجنس، فما وجه الصواب في هذه القضية؟،  وأين موقعها من قضية  التطرف؟.

الجنسية عقد بين الدولة وبين المتجنس يصبح المتجنس بمقتضاه أحد رعايا هذه الدولة، ويسري عليه ما يسري على كافة المواطنين الأصليين من الحقوق والواجبات. وعلى هذا فالمفترض في المتجنس بل الذي يطالب بالإقرار به فعلًا في الأوراق الرسمية هو قبول الالتزام بقوانين هذه البلاد والانتماء النفسي إليها ولاء ونصرة، والالتزام بمواقفها حربًا وسلمًا  واستعداده للانتظام في سلك الجندية للدفاع عنها عند الاقتضاء، فهو في الجملة يمثل نوعًا من الانفصال عن جماعة المسلمين، واللحوق بدار الحرب والتحيز إلى من فيها من الكافرين.

ولا شك أن هذه المعاني إن قصد إليها المتجنس ظاهرًا وباطنًا فهي تمثل نوعًا من خلع الربقة والخروج من الإسلام، فإن الالتزام بشرائع ونظم هذه البلاد على ما تتضمنه من الكفر والإلحاد والإباحية، و الانتماء النفسي  لهذه البلاد ولاء وبراء، وتبني مواقفها السياسية والعسكرية، والتزامه بالانخراط في جيشها، وحمل السلاح للدفاع عنها عند الاقتضاء يمثل انسلاخًا كاملًا من جماعة المسلمين، واتصالًا كاملًا بدار الحرب ومن فيها من المشركين.

ولهذا المعنى قضى علماء الأزهر وعلماء جمعية الهداية الإسلامية بمصر ومفتي بنزرت بتونس بكفر من قبل التجنس بالجنسية الفرنسية يوم أن كانت الجنسية تعني بالفعل هذه المعاني، فقد أرادت فرنسا إبان احتلالها لتونس أن تكرس أوضاع الاحتلال إلى الأبد، ففتحت أبواب التجنس بالجنسية الفرنسية أمام التونسيين، حتى إذا قبلوا ذلك وأصبحوا فرنسيين لم يعد هناك وجه للمطالبة  باستقلال تونس وخروج الفرنسيين، فوقف أهل العلم يومئذ بالمرصاد لهذه المناورة الخبيثة وصدرت الفتوى القاطعة من علماء تونس وظاهرهم على ذلك علماء الأزهر في مصر، أن التجنس بالجنسية الفرنسية بما يعنيه من قبول شرائع الفرنسيين، والانتماء للأمة الفرنسية والانفصال عن جماعة المسلمين يعد كفرًا صريحًا، وأن المتجنس كافر خارج عن الإسلام وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، وحدث في هذه الأثناء أن مات أحد المتجنسين وكانوا يسمون أنفسهم بالمسلمين الفرنسيين، فرفض أهله أن يدفن في مقابر المسلمين ودفنوه في مقابر النصارى، فأبت فرنسا إلا أن ينبش قبره وتخرج جثته ويدفن في مقابر المسلمين!!، فقام المسلمون وأعادوه إلى مقابر الكفار، وماجت البلاد باضطرابات هائلة، وكانت هذه الأحداث مع غيرها توطئة لتنبيه الأمة، وإشعال روح الجهاد الذي توج في النهاية باندحار الفرنسيين.

يقول الشيخ يوسف الدجوي عضو هيئة كبار العلماء بمصر:«إن التجنس بالجنسية الفرنسية والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء حتى الأنكحة والمواريث والطلاق ومحاربة المسلمين والانضمام إلى صفوف أعدائهم، معناه الانسلاخ من جميع شرائع الإسلام ومبايعة أعدائه على أن لا يعودوا إليه ولا يقبلوا حكمًا من أحكامه بطريق العهد الوثيق والعقد المبرم، وهل بقي بعد ذلك من الإسلام شيء؟!،  وإن هناك فرقًا كبيرًا بين من تسوقه الشهوات بسلطانها الشديد إلى الزنا وشرب الخمر مثلًا وبين من يلتزم هذه الأشياء مختارًا لها على شرائع الإسلام التي نبذها وراء ظهره وأعطى على نفسه العهود والمواثيق ألا يعود إليها، فإن صاحب هذه الشهوات يفعل ما يفعل بمقتضى سلطانها الطبيعي القاهر، فهو يتمنى أن يتوب الله عليه فهو معتقد قبح ما يفعل وسوء مغبته، وربما كان قلبه ممتلئًا بمحبة الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما لعنوا ذلك الذي حد في الخمر مرارًا: «لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله»، فمثل هذا يوشك أن يندم على ما فعل ويتوب مما اقترف، وأما حليف الفرنسيين الخارج من صفوف المسلمين طوعًا واختيارًا مستبدلا لشريعة بشريعة وأمة بأمة مقدمًا ذلك على اتباع الرسـول بلا قاصـر ولا ضـرورة، فلابد أن يكون في اعتقاده خلل، وفي إيمانه دخل، وإذا حللنا أحواله القلبية ونزعاته النفسية وجدناه منحل العقيدة فاسد الإيمان فهو من وادي من قال الله فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾»([247])، ... إلى أن قال: «ومما لاشك فيه أن أبناء أولئك المتجنسين لابد أن يكونوا خلوا من الإسلام براء من ذويه، لا يعرفون غير الكفر ومحبذيه، ولا شك أن الرضا بالكفر كفر، والوسيلة تعطي حكم المقصد، وما لا يتم الكفر إلابه فهو كفر، ومن عزم على الكفر بعد خمسين عامًا فهو كافر من الآن، ولا يمكننا أن نفهم إلا أن هذا استحلال لما حرم الله ورد لما أوجبه سبحانه وتعالى».

وجاء في نص الفتوى التي أصدرتها جمعية الهداية الإسلامية في هذه المسألة ما يلي: «أما بعد، فإن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال هو التعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولاشك أن شيئًا واحدًا من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بالردة ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت»...  إلى أن قال: «أما النطق بالشهادتين مع التردي في هذه البؤر الخبيثة الموجبة للردة  ومع عدم الإقلاع عنها والتبرؤ  منها والندم عليها، هذه الشهادة على تلك الحال لا تنفع صاحبها شيئًا وإن صام وصلى وزعم  أنه مسلم، لأن الشهادتين إنما كانتا دليلًا على الإسلام باعتبار أنهما عقد بين العبد وربه على احترام أحكام دينه  والرضا عنه وعن تشريعه، وعدم تخطيه إلى شريعة أخرى، فإذا قامت قرينة ظاهرة تدل على عدم الإذعان لمقتضى هاتين الشهادتين لم يقبل إسلام من نطق بهما، كمن يقول كلمة التوحيد وهو يسجد لصنم، وكمن يقول أنا أؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وهو يهين كتاب الله»، فما بالك بالتجنس الآنف و هو جريمة متألفة - كما علمت - من أربعة جرائم كل منها يكفي قرينة ظاهرة تدل على عدم الإذعان لكلمة الإسلام، وعلى ترك القيام بحقها. وما مثل هؤلاء إلا كمثل من قال الله فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾([248]).

والهدف أن نبين أن التجنس يوم أن يعنى هذه المعاني وتتوجه إليها إرادة المتجنس ظاهرًا وباطنًا  فإنه كفر بلا نزاع، أما إذا عري التجنس عن هذه المعاني، ولم يعد إلا بابًا من أبواب الفرار من الاضطهاد أو الضنك الذي يعاني منه كثير من المسلمين في بلادهم، ولم يعد ما يسجل في أوراق المتجنس من التزامات إلا إجراءات إدارية شكلية فاقدة الدلالة منعدمة القيمة، لا تمثل بالنسبة للمتجنس تحولًا نفسيًا إلى الدولة الجديدة ولا التزامًا حقيقيا بقوانينها، ولا انفصالًا حتميًا عن جماعته جماعة المسلمين، فهنا تصبح المسألة من موارد الاجتهاد.

فهناك من يمنع منها باعتبارها ذريعة إلى تحول هذه المحاذير إلى واقع عملي عندما تمتد إقامة المتجنسين  في هذه البلاد، وتنشأ لهم فيها ذرية لا تتفتح أعينهم إلا على الكفر، وآباؤهم في شغل عنهم بدولاب العمل الذي لا يتوقف لحظة في هذه البلاد ووسائل الإعلام تسحق البقية الباقية في نفوسهم من الانتماء للإسلام وتنشئهم نشأة علمانية محضة، فيتبخر الحس الإسلامي من نفوسهم رويدًا رويدًا، وتتراجع المفاهيم الإسلامية شيئًا فشيئًا، ويتحولون مع مرور الأيام إلى مسخ مشوه لا هو من المسلمين ولا من أهل الكتاب!!

وينازع في ذلك آخرون فيقولون: إن هذه المآلات ليست حتمية، فهناك المراكز الإسلامية التي تقوم على رعاية هؤلاء ويمكن الاتصال بها لمن أراد.

ومسألة قبول الشرائع ليست حتمية لأن مردها إلى الرضا القلبي وهو لا سلطان لأحد عليه، أما مجرد الخضوع فيستوي فيه المتجنس والمقيم في هذه البلاد.

وأما الولاء لهذه الدولة الجديدة فلا يوجد ارتباط حتمي بينه وبين التجنس، فكم من مقيمين في البلاد الإسلامية وأرواحهم ترفرف في ديار الكفر ولعلهم لم يذهبوا إليها ساعة من نهار!!  وكم من مقيمين في هذه الديار أو مكتسبين لجنسيتها وهم يتفجرون ولاء للإسلام، وانتماء إلى أمته، وبراءة من جاهلية هذه البلاد.

وأما التعهد بالجندية فهو إجراء شكلي فاقد القيمة، ويستطيع  المتوطن في هذه البلاد أن يمتنع من الاشتراك في الحرب متى شاء، ويخضع لبعض العقوبات اليسيرة، وربما يعفى منها إذا أثبت أن امتناعه يرجع إلى أسباب دينية، وإذا لم تكن هذه المفاسد حتمية لم يكن الحكم بالحرمة حتميًا كذلك، وإنما يختلف الحكم باختلاف الأشخاص فهناك من يسمح له بذلك لقوة في يقينه، أو لملابسات تحيط بإقامته في هذه البلاد وتجعله بعيدًا عن الفتنة، وهناك من يفتي بالمنع لرقة في دينه، ووهن في يقينه الأمر الذي يرجح معه استجابته لدواعي الفتنة، وهكذا تختلف الفتوى باختلاف الأشخاص والأحوال.

والذي أود أن أصل إليه من هذا العرض أن التجنس إذا تضمن الانفصال النفسي عن جماعة المسلمين، والقبول الطوعي لشرائع الكافرين، والتزام الولاء للدولة الجديدة ومن فيها من المشركين، فقد امتهد به السبيل للخروج من الإسلام! أما إذا لم يتضمن ذلك كان من موارد الاجتهاد: فمن أهل العلم من أطلق القول بالمنع منه سدًا للذرائع، ومنهم من فصل فجعله يدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد حلًا وحرمة، وقضى باختلاف الفتوى فيه باختلاف الظروف والأحوال.

وإذا كان ذلك كذلك فليس من العدل في شيء أن تنسب القائلين بالمنع من التجنس إلى التطرف بسبب هذا القول، لأن التجنس إذا تضمن الانفصال عن جماعة المسلمين فقد أفتى الأئمة بأنه انسلاخ من الإسلام، وإذا كان مجرد ذريعة لذلك كان من موارد الاجتهاد، وتختلف الفتوى فيه بحسب تفاوت هذه الذريعة قربًا أو بعدًا، قوة أو ضعفًا. وقصارى الأمر فيمن يقول بالمنع منه في هذه الحالة أنه يتبنى أحد الرأيين في مسألة اجتهادية، وقد ذكرنا من قبل أن ذلك لا يعد من قبيل التطرف، إلا إذا تضمن مصادرة بقية الاجتهادات، أو تجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف.

إذا كانت قضية التجنس تنطوي على كل هذه المحاذير فماذا تفعل الدولة الإسلامية التي تتعين مصلحتها في إرسال بعض أبنائها للإقامة في هذه البلاد، أو الهجرة الدائمة إليها واكتساب جنسيتها، تحقيقًا لاعتبارات اقتصادية أو سياسية أو أمنية؟

لم تغلق الشريعة الإسلامية باب المصالح على الناس، فتستطيع الدولة الإسلامية أن ترسل من تشاء من أبنائها بعد أن تحسن إعدادهم على أرضها بما يبني إيمانهم، ويصحح مفاهيمهم، ويجدد ولاءهم لدينهم وأمتهم  وينبههم  دائمًا على خطورة الفتن المتفشية في هذه البلاد، وما قد يتعرضون له فيها من مزالق ومخاطر، ثم ترسل: معهم من الدعاة والمربين من يحفظ الله بهم عليهم دينهم، فيقيمون فيهم شعائر الإسلام، ويقضون في خصوماتهم وفقًا لما أنزل الله، ويتنسمون من خلالهم عبير الإيمان، بل ويمارسون معهم ومن خلالهم دعوة أبناء هذه البلاد إلى الإسلام، وينشئون واحة ظليلة بين هذه المفاوز القاحلة، وكم من بلاد فتحت للإسلام من خلال قوافل من التجار لم ينسوا  في زحمة أعمالهم التجارية أنهم حملة رسالة، وطليعة أمة، فطفقوا يفتحون مغاليق القلوب بالإيمان، ويبددون شبه الشرك ودياجير الكفران، حتى اتسعت رقعة الخير، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وفتحت هذه البلاد بالإسلام في النهاية!!.

***

 


تحريم العمل في البنوك

يمتنع كثير من المتطرفين عن العمل في البنوك التي تتعامل بالفائدة بحجة أن فوائد البنوك هي الربا الحرام  وأن من يشارك فيها بوجه من الوجوه فقد استوجب اللعنة، لا يفرقون في ذلك بين بنك وطني أو بنك أجنبي، ولا يلتفتون إلى الظروف الاقتصادية القاسية التي تحيط بغالب الخريجين، أفلا يعد هذا الامتناع والدعوة إليه من قبيل التطرف والإرهاب؟.

لقد سبق تفصيل القول في فوائد البنوك بما لا يدع مجالًا للشك أن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وناقشنا شبهات المترخصين، وبينا مدى ما فيها من تناقض وتهافت، أما العمل في البنوك الربوية فالأصل في كل ما اتصل بالعقود الربوية هو الحرمة لما جاء في الصحيح عن جابر أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه»، أما بقية الأعمال المصرفية فهي في محل الشبهة التي تقوى أو تضعف بحسب قربها أو بعدها من العملية  الربوية.

ولا ننكر أن هناك من المعاصرين من اعتمد على قاعدة الضرورة في الترخص في بعض هذه الأعمال، ومنهم من توسع في باب المصلحة، ورأى أن اكتساب الخبرة المصرفية لا سبيل إليه إلا من خلال هذه المصارف الربوية، وأن ترك هذه المجالات يعني تحويلها إلى مرتع للمبطلين، من الذين يفسدون في الأرض  ولا يصلحون، وأن امتناع فرد أو أكثر لن يؤثر في تغيير المسار واستصلاح الأحوال([249]).

وأن أعمال البنوك ليست كلها من قبيل الربا بل منها الأعمال الربوية  ومنها الخدمات المصرفية وهي خدمات يبذلها البنك لعملائه مقابل أجر، والأصل فيها هو الحل، إلى غير ذلك من التبريرات أو التخريجات التي لا يخلو أغلبها من مقال، والتي تنتسب إلى ضغط الواقع ووطأة المعاناة أكثر من انتسابها إلى الدليل الشرعي والنظر الفقهي، فالضرورة تقدر بقدرها، وتبقى في حس المسلم ضرورة يسعى في إزالتها ولا يعتمد عليها في الاستقرار والتوسع، واكتساب الخبرات المصرفية لا يسوغ الارتباط الدائم بهذه المصارف، ولا الإباحة العامة لها بغير ضوابط، وقد تتراجع هذه النية مع مرور الأيام، ولا يبقى إلا التوظف الذي ينال مقابله الأجر فيذهب مبرر الترخص!!.

والحد الأدنى في المسألة أن الامتناع عن العمل في البنوك الربوية هو الأصل الذي لا يعدل عنه إلا لضرورة على أن تقدر بقدرها ويسعى في إزالتها، أو لمصلحة راجحة قدر أهل الاجتهاد أنها أرجح من مفسدة الترخص في هذا العمل وليس ذلك من باب التطرف في شيء، بل هو العزيمة لمن قدر، أما أصحاب التأويلات الذين يرخصون أو يترخصون فحسابهم على الله!.

ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية كانت قد أصدرت فتوى في  82 رمضان  1362 هـ الموافق  61 سبتمبر 1944 م، بحرمة مباشرة الأعمال التي تتعلق بالربا من كتابة وغيرها، وكان قد ورد إليها استفتاء من شخص يعمل كاتبًا ببنك التسليف الزراعي ويسأل عن مدى شرعية عمله هذا، علمًا بأنه محتاج إليه في معيشته، فأجابته دار الإفتاء بما يلي: «اطلعنا على هذا السؤال ونفيد أن الربا محرم شرعًا بنص الكتاب والسنة وبإجماع المسلمين، ومباشرة الأعمال التي تتعلق بالربا من كتابة وغيرها إعانة على ارتكاب المحرم، وكل ما كان كذلك فهو محرم شرعًا، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه والبخاري من حديث أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، واللعن دليل على إثم من ذكر في الحديث الشريف»([250]).

كما أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية، فتوى بحرمة العمل في البنوك الربوية ولو في مجرد الحراسة([251]).

فكيف يتهم من يذهب إلى حرمة العمل في البنوك الربوية بالتطرف، وهو الأمر الذي أفتت به دار الإفتاء المصرية ولجنة الإفتاء السعودية،  والذي تشهد له النصوص القطعية،  وأقوال من مضى من أئمة أهل العلم.

***

 


التنطع في الشكليات

 وماذا عن التشدد المرضي في بعض الجزئيات الثانوية كإطالة اللحية وتقصير الثياب ونحوه، وقد يبلغ الأمر ببعضهم مبلغ الامتناع عن حلق لحيته أثناء تأديته الخدمة العسكرية، ويفضل أن يقدم إلى محاكمة عسكرية على أن يحلق لحيته، وقد تقضي عليه المحكمة بالسجن مدة تبلغ مدة تجنيده أو قريبًا منها، أفلا يعد هذا من قبيل التنطع والمغالاة في الدين؟.

إعفاء اللحية:

إعفاء اللحية سنة من سنن الفطرة، وشعيرة من شعائر الإسلام، وقد استفاضت النصوص في الأمر بإعفائها وتوفيرها مخالفة للمشركين، واتباعًا لسنة النبيين، فقد روي البخاري في صحيحه عن ابن عمر: «أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى»، وعند مسلم عن أبي هريرة: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس»، وفي رواية: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، واحفوا الشوارب»، وفي قصة الرجلين اللذين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرس وكانا قد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟»، قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي»([252]).

وقد اتفق جمهور العلماء من المذاهب الأربعة على وجوب إعفاء اللحية  وحرمة حلقها، ومنهم من اقتصر على القول بسنيتها  فقط وكراهة الحلق وهم قليل، بل إن من أهل العلم من اعتبر الجناية على اللحية من جنس الجناية على الحياة وأوجب في ذلك الدية كاملة كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والثوري  ومنهم من أوجب في ذلك دية يقدرها الخبراء وإليه يذهب مالك والشافعي، والقدر المحكم عند الجميع هو حرمة اللحية واعتبار الاعتداء عليها جناية تستوجب المساءلة.

ففي مذهب الحنفية جاء في الدر المختار: «ويحرم على الرجل قطع لحيته، وصرح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة - بالضم - وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد، وأخذها كلها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم»([253]).

وإن كان قد وجد من أهل العلم من اكتفى بالقول بأنها سنة،  أو من المعاصرين([254])، من قال بأنها من سنن العادات وليست من سنن الهدى فإن ظاهر النصوص السابقة يضعف هذه، الآراء ويبقى الحد الأدنى في المسألة أن القول بوجوبها وحرمة حلقها هو مذهب الجمهور، والرأي الراجح الغالب عند أهل العلم، فكيف يتهم من يعمل بالنصوص الشرعية ويفهمها على الوجه الذي فهمها به جمهور أهل العلم بأنه قد غلا في دينه، وتكلف في فهمه، وتجاوز حدود الاعتدال؟.

وإذا كان الأمر كذلك فلا يحل لجهة من الجهات أن تأمر الناس بما يخالف السنة فضلًا عن أن تلزمهم بذلك وتهددهم عليه بالسجن ونحوه، فهو نوع من الطغيان الذي يورد أصحابه موارد التهلكة والبوار.

وأما الإصرار على عدم حلق اللحية رغم التهديد بالسجن ونحوه فهو من جنس الأخذ بالعزائم الذي لا يكلف به كل أحد، فمن اعتقد وجوب اللحية وأن حلقها معصية وجاء من يحمله على هذه المعصية قسرًا، فاختار التغرير بنفسه في إعزاز الدين وإجلال رب العالمين فما هو على ذلك بملوم، بل هو مأجور غير مأزور، والإثم كل الإثم والنكال كل النكال على من عرضه لهذه الفتنة، وسيرد على ربه فيعلم!.

أما من أراد أن يترخص فلا تثريب عليه، فقد تمهد عند أهل العلم أن السجن إكراه وأن الضرب إكراه  وقد قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾([255]).

ومما هو جدير بالذكر أن استفتاءً ورد من المحكمة العسكرية إلى فضيلة شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق على جاد الحق عندما كان مفتيا للجمهورية بشأن اللحية، وكان ذلك بمناسبة محاكمة شاب أبى أن يحلق لحيته وطالب باستفتاء الأزهر في ذلك  فأجاب فضيلته بأنه لا يحل للجهات العسكرية أن تلزم الناس بحلق اللحية وأن هذا الإلزام لا مبرر له، ولا علاقة له بنظافة أو انضباط، فلا تزال جيوش أكثر الدول نظافة وانضباطًا لا تلزم أفرادها بشىء من ذلك، ولجنودها مطلق الحرية في إعفاء لحيتهم أو حلقها، ولا يعتبر الممتنع عن حلقها من الرافضين عمدًا للأوامر العسكرية، وقد صدرت هذه الفتوى بتاريخ 12/6/1981([256]).

أما بالنسبة للموازنة بين المصالح والمفاسد فهذه قضية اجتهادية، وتختلف الفتوى فيها من شخص لآخر.

  وماذا تقصد بالموازنة بين المصالح والمفاسد في هذا المقام؟

الموازنة بين مفسدة الحلق ومفسدة السجن، أو بين المصلحة في الإصرار على عدم الحلق و مصلحة الدعوة في بقاء هذا الشخص حرًا طليقًا يبلغ رسالة ربه ويدعو إلى إقامة الإسلام، ولا شك أن مبنى الشريعة تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا حدث التعارض بين المصالح والمفاسد كان الواجب هو تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما،  ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.

وهل يمكن أن تقارن مصلحة الإبقاء على اللحية بمصلحة الإبقاء على صاحبها يؤدي واجبه نحو وطنه ونحو أمته ؟

على الجملة لا شك أن مصلحة الإبقاء على صاحب اللحية أرجح من مصلحة الإبقاء على اللحية، لكن هذا بالنسبة لمن تؤهلهم قدراتهم للقيام بدور في مجال الدعوة أو العمل العام،  أما من سوى هؤلاء فقد يرى أحدهم أن المصلحة في أن يثبت على ما يعتقد أنه الحق ليعلم الناس درسًا في الثبات على المبدأ والتضحية من أجله، والناس كما يحتاجون إلى من يعلمهم الفقه والأحكام الشرعية يحتاجون كذلك إلى من يعلمهم التضحية والفداء والثبات على الحق، وعمومًا هذه الموازنة برمتها من مسائل الاجتهاد، والأصل أنه لا يضيق فيها على المخالف، ولا يجوز أن ينسب بسببها إلى الغلو، فإن الغلو هو مصادرة اجتهادات الآخرين في المسائل الاجتهادية أو تجاوز الحدود  الشرعية في التعامل مع المخالف كما سبق، وليس هذا من ذاك.

وبعد: فأيهما أولى بالوصف بالغلو: موقف الشاب المتدين الذي أصر على إعفاء لحيته استجابة لأمر الله، أم موقف المؤسسات العسكرية في حملها له على حلقها مراغمة لأمر الله؟، ومعاندة للفتوى الرسمية الصادرة في هذه القضية من دار الإفتاء؟، أجيبوا يا أولي الألباب!!.

 الإسبال في الثياب

وماذا عن الإصرار على تقصير الثياب على هذه الصورة العجيبة الفولوكورية التي نراها من متطرفة هذا العصر؟.

بل العجيب أيها العزيز هو إنكارك على ذلك، فإن تقصير الثياب بالنسبة للرجال حتى لا تتجاوز الكعبين هو السنة التي كان عليها وأمر بها وحذر من مخالفتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار»([257])، وقوله صلي الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار، ومن جر إزاره بطرًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة»([258])، ولقد عنون البخاري في صحيحه فقال: (ما أسفل من الكعبين فهو في النار)([259])،  وعنون مسلم في صحيحه فقال: (تحريم جر الثوب خيلاء)([260]).

هذا... وقد وردت بعض النصوص بتقييد الوعيد الوراد في هذه الأحاديث بما كان للخيلاء، فقد روى البخاري عن سالم عن عبدا لله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، قال أبو بكر يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لست ممن يصنعه خيلاء»، وفي رواية أخرى عن سالم: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»([261]) ، وفي رواية أخرى عن ابن عمر عند البخاري: «من جر ثوبه مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة».

بل إن من أهل العلم من عد هذا الإسبال من الكبائر، فقد ذكره الذهبي في كتابه الكبائر فقال: الكبيرة الخامسة والخمسون إسبال الإزار والثوب واللباس والسراويل  تعززًا وعجبًا  وفخرًا  وخيلاء([262])، وقال ابن حجر الهيتمي: الكبيرة التاسعة بعد المائة: طول الإزار أو الثوب أو الكم أو العذبة خيلاء. فكيف تتهم القوم بالتطرف وقد سمعت هذا السيل من الأحاديث الصحيحة الصريحة؟! ووقفت على ما ذكره فيها الثقات العدول من أئمة أهل العلم؟!.

هل أفهم من قولك هذا أن الناس جميعهم آثمون؟! وأن أقدامهم جميعًا في جهنم؟!.

كل من طالت ثيابه منهم حتى بلغت أسفل كعبيه فهو مخالف للسنة، ومن فعل ذلك منهم خيلاء فقد وقع في الحرام، وهو من أهل الوعيد.

 ولكن أصحاب الفضيلة من علماء الأزهر لا يقولون بذلك؟.

تقصد لا يفعلون ذلك، ولكن إن تسألهم يصدقوك، وكم من سنن قد هجرت، وكم من معالم للإسلام قد درست في هذا العصر؟!، ألم يبلغك قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؟»، ألم يبلغك قوله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك؟»، ألم يرعك هذا التواطؤ العام في كافة المؤسسات الحاكمة على مستوى الأمة  على التغريب والحكم بغير ما أنزل الله؟ ألم يفزعك  هذا التهالك منها على العلمانية  وفصل الدين عن الدولة؟ ألم تفزعك هذه الأقلام المشرعة على حرب الإسلام في كافة مؤسسات الإعلام؟.

سيدي الكريم: أذكرك بمقالة ابن مسعود لعمرو بن ميمون: إن جمهور الناس قد فارقوا الجماعة! وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل، كما أذكرك بمقالة نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت حينئذ وحدك!.

 ألا تكون هذه الأحاديث منسوخة أو متروكة لمعارضتها لما تعلمناه جميعًا من أن الدين يسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج؟.

لم تنسخ هذه الأحاديث،ولا يزال أهل العلم يعملون بها، ويحضون على العمل بها، ويشددون النكير على من خرج عنها، وقد ذكرت لك من قبل أن الذهبي قد عد إسبال الثياب خيلاء من الكبائر، وكذلك ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر([263]).

وليس في هذا الحديث أيها العزيز ما يتعارض مع رفع الحرج إذ ليس في  تقصير الثوب حرج ولا إثارة من حرج، اللهم إلا مفارقة الإلف، وهذا تستكين إليه النفس وتألفه بعد مدة يسيرة .

التطرف في الوسط الفني!!

لقد كان لشيوع أفكار التطرف في المجتمع آثارها على الأوساط الفنية، فقد شهدت الأيام الأخيرة ظاهرة اعتزال كثير من الفنانين والفنانات للأضواء، وانسحابهن من الوسط الفني برمته، والانقطاع للعبادة والاشتغال بالأعمال الخيرية العامة، أفلا تعد هذه الظاهرة استجابة للتطرف الديني، وامتدادًا له في هذه الأوساط المعروفة بالتحرر والانطلاق؟ وهل يمكن للفكر المستنير أن يشجع مثل هذه الظاهرة التي  تعد نوعًا من الانتحار الفني، وانتصارًا لظاهرة الإرهاب والتطرف؟

الفساد في الوسط الفني لا يخفى على أحد، ولا ينكره أحد، فقد شهد به كثير من المشتغلين في هذا الوسط في لحظات الصدق التي تمر بها النفس البشرية مهما ران عليها من حجب الشهوات والشبهات  بل سجلته على بعض المشتغلين في هذا الوسط أحكام قضائية باتة،وما أنباء قضايا المخدرات وقضايا تسهيل الفجور أو القوادة بخافية على أحد، وما كان لنا أن نكشف مخبوءًا أو نهتك سترًا لو بقى الأمر في حدود الانحرافات الشخصية التي يستتر بها أصحابها، ولكنه تجاوز ذلك إلى درجة احتراف هذه المنكرات والمجاهرة بها الأمر الذي   سجلته بعض المحاكم المصرية في أحكام  قضائية نهائية([264]).

ومن ثم فإن المعركة الدائرة في هذه الأيام حول محاولة إثبات مشروعية ما يجري في الأوساط الفنية وإعطائه صكًا إسلاميًا بالإباحة المطلقة محاولة خاسرة، لأن الذي تكلم عنه العلماء من الترويح عن النفس وإباحته إذا لم يشتمل على فحش ونحوه في واد، والذي يجري في الأوساط الفنية اليوم في واد آخر، والفرق بينهما كالفرق بين الخمرة والماء، إن الذي   يغشى الوسط الفني من مباذل وتهتك  وخلوة محرمة وإباحية جامحة بل وإخراج أعماله جميعها ابتداء من دائرة الحل والحرمة جنوح مجنون، وعربدة محمومة لا سبيل إلى ترقيعها أو إخفاء عوارها بتلمس دليل من هنا وفـتوى من هناك، وإن القوم أنفسهم يعلنون أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك، فالفن عندهم خارج دائرة التكليف لا يخضع في منظومة تفكيرهم إلا لجملة من السنن أو القوانين الطبيعية كسائر أمور التقنية والأمور التجريبية([265]).

 فلماذا يلهث ورائهم بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي لإعطائهم صكوك الشرعية وهم يرفضون تدخل الشريعة في مجالهم ابتداء ويخرجون أعمالهم من دائرة الحل والحرمة بالكلية؟!.

وإذا كان ذلك كذلك فإن العائدين إلى ربهم من هذا الطريق الموحش بعد أن خبروا أسراره  وتجرعوا غصصه عائدون إلى الفطرة التي  فطر الله عليها عباده، وليس بمستنكر أن يعود الإنسان  إلى فطرته أو يصلح ما فسد من صلاته بفطرته،  بل المستنكر أن يلج في غوايته وأن يوغل السير في شعاب الضلالة!!.

وإنهم  يحملون بذلك  الدليل على نزوع الإنسان بفطرته إلى التطهر وحنينه بفطرته إلى الهداية، و إنهم لحريون بكل الحفاوة والتقدير، فإن الله لأشد فرحًا بتوبتهم من فرح الرجل الذي ضلت ناقته  في البرية وعليها زاده وماؤه فحفر لنفسه حفرة وجلس فيها ينتظر الموت فأخذته سنة من النوم ففتح عينه فوجد الناقة واقفة على رأسه، فقال من شدة الفرح يارب أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح!!، وسلوا هؤلاء العائدين عن تجاربهم مع هذا الوسط البائس فإن عندهم التفاصيل وفي جعبتهم الكثير والكثير!!.

 فكيف يصح أن يقال عمن تطهروا من هذا الدنس وعرفوا طريقهم إلى ربهم وولوا وجوههم شطره يرجون رحمته ويخافون عذابه، أنهم قد غلوا في دينهم وسقطوا في هوة التطرف؟ أيقول هذا رجل ليس مغلوبًا على عقله ويعيش في دار الإسلام؟، أيقول هذا إنسان  آمن بربه ساعة من نهار؟.

هل أفهم من هذا أنك تحرم الرقص والغناء والتمثيل وسائر أنواع الفنون الجميلة؟.

أما الرقص فنعم ولا كرامة.. اللهم إلا إذا تخيلنا حدوث شيء منه مع الحلائل في خلوة، وهذا نادر بطبيعة الحال وليس هو المسئول عنه في هذا المجال، إن الرقص المسئول عنه يمثل فتنة عاصفة وفاحشة بينة، ومنكر لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن ينكره ما استطاع سبيلًا إلى إنكاره. ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية كانت قد أصدرت فتوى بحرمة الرقص بجميع أنواعه، وذكرت أنه لا يشتبه في حرمته مسلم يعيش في دار الإسلام، وإن ذلك من المعلوم بالبداهة من الدين، وكان المفتي يومها فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله، وقد صدرت هذه الفتوى بتاريخ4 رمضان 1362 هـ.

وأما الغناء ففيه تفصيل: فمنه ما هو حرام بالاتفاق، ومنه ما هو مباح بالاتفاق، ومنه ما هو في محل الاجتهاد، أما المحرم بالاتفاق فهو كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية، لأن هذا النوع لو كان كلامًا عاديًا لكان من المحرمات، فكيف إذا اجتمع له الوزن والنغم وقوة التأثير؟

وأما المباح بالاتفاق فهو ما خلا من ذلك في مواطن السرور المشروعة كالعرس وقدوم الغائب وأيام الأعياد ونحوه، وقد وردت في ذلك نصوص صحيحة صريحة.

أما المختلف فيه فهو ماعدا هذين القسمين:

ولا يخفى أن أغلب الغناء الذي يقدم في وسائل الإعلام اليوم  هو من الصنف الأول الذي يغري بالسقوط، ويدغدغ الغرائز ويوقظ الشيطان الرابض وراء جلود البشر!! دع عنك ما قد تتضمنه بعض كلمات هذه الأغاني من كفر صريح كهذا الذي يقول: (قدر أحمق الخطى)، أو الذي يقول: (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت)، أو الصيغة العامية لهذه الأبيات في قول أحد المغنين: (جايين الدنيا ما نعرف ليه، ولا رايحين فين، ولا عايزين إيه).

وإذا كان الفنانون في بلادنا لا يعرفون لماذا جاءوا  أو ماذا عليهم أن يفعلوا!، فإن الفنانين اليهود يعرفون جيدًا الإجابة على هذه الأسئلة، ويسحقون تحت نعالهم آمال هذه الأمة في حياة حرة كريمة، ويمضون إلى غايتهم لا يلوون على شيء، وحملة الأقلام الواعية يشجعونهم، أما العرب في بلادنا المنكوبة فإن سماسرة الغزو الثقافي يتحركون في صفاقة نادرة لتشجيع الفن الخليع، وتضليل مسعى الأمة الخيري.

إنني أنظر إلى من يحاولون أن يتلمسوا الأدلة التي وردت في السنة بإباحة بعض أنواع الغناء لاستخدامها في إضفاء الشرعية على الغناء المعاصر في صورته الراهنة على ما يشتمل عليه من الفحش ودغدغة الغرائز  والإغراء بالفاحشة، أنهم يمارسون عملية تزييف للوعي في حق الجماهير التي تصيغي بسمعها إليهم تترقب أن يصدعوا بكلمة حق في وجه كل هذه التداعيات، وإن الصلة بين الغناء المشروع والغناء الإعلامي المعاصر كالصلة بين الجبن الطعام والجبن الحرام، فالأول طعام حلال مأكول، والثاني رذيلة خلقية ممقوتة وهو نقيض الشجاعة والرجولة، وأذكر في هذا المقام كلمة لأحد علماء الإسلام تعليقًا على من حاول أن يستدل بهذه الأحاديث على مشروعية الغناء الصوفي واعتباره طريقًا للتقرب إلى الله تعالى فقال إن مثل من يستدل بهذا على ذاك كمثل من سئل عن علم الكلام وهو الإثبات الفلسفي للعقائد فأجاب  أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام اسم وفعل وحرف!! أو أن الكلام نقيض السكوت، فخرج بالأمر كله عن مقصود السائل وشرع يطوف في آفاق أخرى!!.

إننا نؤكد مرة أخرى أن النزاع لا يجري الآن في دائرة الغناء المختلف فيه، ولكنه يدور في فلك الغناء المقطوع بحرمته من المجيزين للغناء والمانعين منه على السواء، ولهذا فإن من الظلم للأمة والتزييف لوعيها أن ندخل في تفاصيل الخلاف الوارد في هذا الباب، ونصور لها الأمر على أنه لا يزال في دائرة الاجتهاد والسعة!.

إننا نقول: إذا وصلتم بالغناء القائم إلى مستوى الغناء المختلف فيه فقد امتهد السبيل للمقارنة والمقابلة والترجيح، ويومها سنفسح المجال لفقهائكم المستنيرين يصولون ويجولون، ويفتون بما يعتقدون أو بما تريدون، ونعدكم أننا يومها سنلوذ بالصمت، أما أن يقدم الغناء الفاحش، الداعي إلى السقوط، المحرض على الفاحشة، المصحوب بالتأوهات والتنهيدات على أنه الغناء المختلف فيه، وأن الناس فيه ما بين مجيز ومانع، فإنني أخشى والله أن تنزل على أهل العلم قارعة من السماء لما يتضمنه ذلك من خيانة أمانة البلاغ والتلبيس على الناس!!.

 هل ترمي بذلك إلى أن كل الغناء الإعلامي المعاصر من النوع المحرم؟.

ذكرت لك أن جله كذلك، وقد يكون فيه ما لم يبلغ هذه الدرجة، ولكن الأحكام تبنى على الأعم الأغلب، والقليل النادر لا حكم له.

 وماذا عن التمثيل؟.

حسنه حسن وقبيحه قبيح، ويشترط في الحسن منه أن يتم في إطار شرعي بعيدًا عن الخلوة المحرمة والاختلاط المنكور([266])، وقد أخرجت بعض مؤسسات الإعلام الإسلامية بعض الأعمال الفنية الراقية على فقر إمكانياتها، وحداثة تجربتها واستقبلها الناس بإقبال منقطع النظير، فكيف إذا وظفت في ذلك إمكانيات دولة كتابًا وأموالًا وأجهزة ومتخصصين؟ إننا لا نقف أبدا في وجه الفن عندما يكون أداة من أدوات البناء، وعندما يستهدي في مسيرته بقبس من نور الوحي المعصوم،فيقدم العرض النافع والترويح البريء في إطار من الطهر والفضيلة!

ولأهل العلم المعاصرين مقالات في مشروعية التمثيل عندما يكون على هذا النحو تستطيع أن ترجع إليها إن شئت.

وماذا عن النحت والتماثيل؟

نصب التماثيل في الميادين ليس من الإسلام في شيء، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم، بطمس الصور وتكسير التماثيل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة ولا تماثيل، وإذا كان الفقه الإسلامي قد سجل خلافًا بين أهل العلم  في حرمة الصور التي لا ظل لها، فإنه لم يسجل لنا خلافا - فيما نعلم - في حرمة التماثيل والصور المجسمة، لاسيما صور الزعماء والقادة، وقد سبق قول على رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي  فيما أخرجه مسلم في الصحيح: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته » .

ومن ناحية أخرى فإن هذه التماثيل ليست من أساسيات التقدم ولا من ضرورات الحضارة، ولن تحرج الأمة أو ترهق من أمرها عسرًا إن هي استغنت عنها وأغلقت ملفها إلى الأبد، ولقد كان ظهور التماثيل وشيوعها في الفترة الأخيرة وإرسال البعثات العلمية للتنقيب عن الآثار من التماثيل ونحوه مرتبطًا بإحياء النعرات العرقية القديمة، وإشاعة مفاهيم القومية والوطنية وبلورتها، وربط الأمة بها لتكون بديلًا لها عن الانتماء إلى الإسلام والانتساب إلى راية الخلافة، ولقد كانت الدول الأوربية من أحرص الناس على دعم هذه البعثات والسخاء عليها بالمال والخبرات ليفتشوا لكل دولة في أعماق ترابها عن تاريخ تعتز به و ماضي عريق تنسب إليه، فتتشرذم الأمة بين هذه الانتماءات المتصارعة، وتشتغل بها عن التنادي للاجتماع حول الإسلام وإحياء الخلافة من جديد.

يقول أحد المستشرقين: إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنحصل على تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام، ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم سيترك دينه ولكنه يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات.

***

 


دولة داخل دولة

 تطالعنا الصحف في كثير من الأحيان بأنباء عن شراذم من المتطرفين يرون أن من حقهم ممارسة سلطة الدولة في توقيع العقوبات وإقامة الحدود ونحوه، فتسمع أن طائفة منهم أمسكت برجل سكير وأقامت عليه الحد، والأخرى أمسكت بامرأة سيئة السمعة وهددتها بحلق شعرها والتنكيل بها إن لم تقلع عن تهتكها، وأخرى تجمعت لمنع احتفال أجري بمناسبة عرس ونحوه، لما فيه من الاختلاط أو لوجود بعض المطربات أو الراقصات، وقد يلقون ببعض العبوات الناسفة على مثل هذه الاجتماعات فتصيب الحضور بأضرار بالغة، ويتحول بها العرس إلى مأتم إلى غير ذلك من التصرفات الهوجاء والممارسات الإرهابية التي أعيى تفسيرها كبار الخبراء والمتخصصين في شتى مراكز البحوث الاجتماعية والجنائية والنفسية وغيرها، فكيف ترى هذه الأعمال وما موقعها من موضوع التطرف؟

ألمح في حديثك الخلط بين أمرين: بين منع المنكرات وبين عقوبة أصحابها،  ويجب الفصل بينهما منعًا للالتباس، أما منع المنكرات فهو حق لآحاد الأمة ولا يختص بذلك الحاكم، ولا يتوقف على إذنه، لأنه قد يكون الحاكم نفسه هو المتلبس بهذا المنكر فكيف يتوقف الاحتساب عليه ومنع منكره إلى إذنه؟، قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره...» (الحديث)،  ولا يخفى أن الخطاب في هذا الحديث متوجه إلى الكافة، ولكن يشترط أن يتم هذا المنع في إطار الضوابط المقررة شرعًا للاحتساب، والتي منها تحقق القدرة وغلبة المصلحة وأن يقتصر في الإنكار على حدود الحاجة، فإن انتقضت القدرة بالخوف من الأذى شرع الترخص والانتقال إلى درجة أخرى من درجات التغيير، وإن كان يستحب له أن يصبر ويغرر بنفسه في إعزاز الدين، وإجلال رب العالمين، إلا إذا توقع أن يمتد الأذى إلى غيره فيتعين عليه الكف، وإذا غلب على ظنه حدوث منكر أكبر كالتقاتل وإراقة الدماء ونحوه تعين الكف كذلك، لأن مبنى الشريعة - كما سبق - تحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين.

أما عقوبة أصحاب المعاصي فهذه للسلطان ليس لآحاد الرعية منها شيء، لاسيما في واقعنا المعاصر، الذي تركزت فيه القدرة كل القدرة مع السلطان، وانعدمت كل سلطة بجوار سلطته، وعلى هذا فإن ما يحدث في الواقع، إن كان من جنس منع المنكرات أثناء وقوعها فالأصل فيه أنه مشروع شريطة ألا يتجاوز الضوابط الشرعية السابقة، وإن كان من جنس العقوبة عليها وتعزير أصحابها فهذا الذي يتعين منعه والكف عنه لأن ذلك إلى الولاة لا إلى آحاد الناس.

 هل تستطيع أن تحدد بناء على ذلك أين الخلل على وجه التحديد؟

مكمن الخلل في أحد أمرين:

أحدهما: تجاوز الحدود الشرعية في الإنكار بأن لا يقتصر في التغيير على قدر الحاجة، أو يغفل اعتبار المآل والموازنة بين المصالح والمفاسد، فيحتسب في مواضع كان ينبغي عليه أن يكف يده حتى لا يفضي احتسابه إلى منكر أكبر، أو يعرض غيره لما لا يطيقه من البلاء، بأن يحتسب على منكرات يؤدي احتسابه فيها إلى امتداد الأذى إلى بعض أهله أو جيرانه أو إخوانه، لأنه إذا كان للإنسان  أن يسامح في حقوق نفسه، فليس له أن يسامح في حقوق الآخرين  إلا بأذنهم.

الثاني: الخلط بين إنكار المنكر وبين العقوبة عليه، فيأتي من الأعمال ما يظنه مشروعًا باعتباره من جنس إنكار المنكر وهو في الحقيقة غير مشروع لكونه من جنس العقوبة عليه وهذا الأخير كما سبق مرده إلى السلطان وليس إلى آحاد الناس.

 تحدثت عن الضوابط الشرعية في إنكار المنكر، فهل ترى أن تطبيق هذه الضوابط في واقعنا المعاصر يتيح لنا التعرض للأفراح والاحتفالات العامة التي تشوبها بعض المنكرات على النحو الذي تفعله هذه الجماعات الإرهابية؟؟.

ليس هناك في هذه المسألة أصل مضطرد في جميع المناطق، ولكن الغالب في تطبيق هذه الضوابط أنه يقودنا إلى الكف عن الاحتساب باليد على هذه المنكرات في هذه الأيام!

 كيف ذلك وما الدليل؟ فإني إلى هذه الإجابة بالأشواق!.

لأن هذه المنكرات بعد أن وقعت حولها سلسلة من المصادمات الدامية بين  السلطة العامة وبين الجماعات الإسلامية أصبحت موضع تحد بالنسبة للسلطة، وميدانًا لاختبار القوة بين الفريقين، وباتت النظرة إليها من قبل السلطة العامة على أنها تمثل جزءًا من سيادتها، وأن المساس بها انتقاص من سيادتها وخرق لمشروعيتها وإهدار لكرامتها وهيبتها كدولة: فأصبحت حماية هذه المنكرات تمثل في منظورها مسألة مبدأ، ولو أدى الأمر إلى أن تحرك  في سبيل ذلك كل ما تملك من وسائل القمع والقوة المسلحة   وإذا بلغ الأمر هذا المبلغ يصبح من المتعين الكف عن الاحتساب باليد، والانتقال إلى درجة أخرى من درجات التغيير!.

 لماذا؟

لأن الاحتساب باليد في هذه الحالة معناه الصدام المسلح بين هذه الجماعات وبين السلطة العامة، وإذا بلغ الأمر هذا المبلغ، وعرف ذلك مقدمًا أو غلب على الظن، أوشك أن يلتحق الاحتساب في هذه الحالة بالمحرمات وذلك للأسباب الآتية:

1- انعدام الجدوى في هذا الاحتساب لعدم تكافؤ القوى بين الفريقين.

2- غلبة المفسدة لأن ما يترتب من التهارج وإراقة الدماء أكثر مفسدة وأسخط لله من بقاء هذه المنكرات.

3- امتداد الأذى إلى الغير، فقد سبق بالاستقراء التام للمواقف السابقة أن آثار هذه المواجهة وما قد يعقبها من البلاء لا تقتصر على القائمين بهذه الأعمال، ولكنها تمتد لتنال من ورائهم من الأهل والإخوان والجيران ونحوه، وحيث علم ذلك أو غلب على الظن تعين الكف وحرم الاحتساب، لأن للإنسان  - كما سبق - أن يسامح في حق نفسه وأن يغرر بها في طاعة ولكن ليس له أن يسامح في حقوق الآخرين.

ونحن هنا نفسر ولا نبرر، إذ لا يستطيع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسوغ ارتكاب منكر من المنكرات في الخفاء، فضلًا عن المجاهرة به وحمايته بالقوة المسلحة وفتنة من ينكرون على أصحابه واستباحتهم دماءً وأموالًا وأعراضًا بكل وسيلة منكرة، وإذا كان الاحتساب في هذه الحالة يعني هذه السلسلة من المفاسد فقد تعين الكف عنه والانتقال إلى درجة أخرى من درجات التغيير.

 وأخيرًا فإنني أوصي بضرورة التثبت من كل ما تنقله أجهزة الإعلام في بلادنا، ولا يكتفى بالاعتماد على الصحف وحدها في إثبات حدث وتطييره ومحاكمة أصحابه على أساسه وكأنه حقيقة واقعة، وإذا كان قد استقر في بداهة العقل وعرف من قواعد الشرع أنه لا تقبل شهادة خصم على خصمه، فإن أجهزة الإعلام في بلادنا بتوجهاتها العلمانية  تعد خصمًا للجماعات الإسلامية، واجتهادها في تشويه صورتها وتحطيم رموزها لا يخفى على أحد، فلا تقبل شهادتها إذن على هذه الجماعات ولو افترض صدقها في بقية المجالات، فكيف إذا كان الأصل في معظم ما تكتبه عن هذه الجماعات وغيرها هو المبالغة وعدم الموضوعية وربما الكذب في كثير من الأحيان؟ .

لقد استوقفني هذا المعنى عندما سمعتك تقول في سؤالك إنهم هددوا امرأة سيئة السمعة بحلق شعرها، وإنني أستبعد أن يصدر هذا التهديد من مسلم يعرف دينه، لأن حلق شعر النساء يعتبر مثلة، وقد نهت الشريعة عن المثلة، ومن آداب التهديد باعتباره إحدى درجات تغيير المنكر أن يكون المهدد قادرًا على إنفاذ ما هدد به و إلا كان كاذبًا، وإيقاع المهدد به هنا متعذر لأنه لا سبيل إليه شرعًا باعتباره مثلة كما سبق، الأمر الذي يرجح معه أن الخبر مختلق من الأساس، وأنه من مزايدات الإعلام على هذه الجماعات.

 ذكرت أن أمر إقامة الحدود والعقوبة على المنكرات مفوض إلى السلطان ولا دخل فيه لآحاد الناس، ولكن الجماعات الإرهابية تنازع في ذلك، وتزعم أن ابن تيمية أطلق الحق في إقامة الحدود لكل قادر عليها إذا لم يقم بها السلطان، فكيف نجمع بين القولين؟.

تحدث شيخ الإسلام عن هذه القضية في كتاب الحدود في الجزء الرابع والثلاثين من مجموع الفتاوى، فذكر أن الله خاطب المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا، ولكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقال: إن تفويض الحدود إلى السلطان ونوابه هو الأصل مادام قادرا عليها وقائمًا بها، فإن عجز ونكل ووجد من يقدر على إقامتها بغير مفسدة راجحة لم يجز تعطيلها، وختم حديثه بهذه العبارة: «والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم تقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه، والله أعلم»([267]).

و مآلات هذه العبارة تتفق في النهاية مع ما قرره أهل العلم من ارتباط الحدود والعقوبات بالسلطان منعًا للفتن، لأن شيخ الإسلام إنما ربط إقامة الحدود بأمرين: القدرة على ذلك وغلبة المصلحة على المفسدة ولو طبقنا هذين الشرطين في واقعنا المعاصر لانتهينا إلى القول بمنع تفويض هذه الأمور إلى العامة لعدم قدرتهم من ناحية إذ لا قدرة تقابل بقدرة السلطان في هذه الأزمان، ولغلبة المفسدة على المصلحة في قيام العامة بها من ناحية أخرى لما يؤدي إليه ذلك من الفتن والتهارج وإراقة الدماء، وهي أمور تربو مفسدتها على مفسدة الكف المرحلي عن إقامة هذه الحدود إلى حين، فاتفقت المآلات في النهاية، ولكن كلام شيخ الإسلام يفتح الباب لإمكانية إقامة الحدود إذا افترض تحقق هذه القدرة وغلبة المصلحة في مرحلة من المراحل، ولو لم يكن القائمون بهذه الحدود قد بلغوا بعد  مبلغ التمكين العام والسيادة التامة.

***

 


جيوب الإرهاب

أثارت الجماعات المتطرفة بدعة الدعوة إلى تكوين الجماعات الدينية،وابتدعت لها من البروتوكولات والوسائل ما يكفي لإحكام سيطرتها على أفرادها كفكرة البيعة والسمع والطاعة، وعقوبة المخالف باسم التعزير والطرد من الجماعة، الأمر الذي يذكرنا بعقوبة الحرمان والطرد الكنسي الذي كانت تمارسه الكنيسة  في العصور الوسطى، وتعددت هذه الجماعات وتصارعت، وشب الخلاف بينها، وبلغ في بعض الأحيان مبلغ الاعتداء بالسنج والجنازير والسكاكين ونحوه، وهكذا تمزق الإسلام بين عداوات تتربص به من الخارج، وبين جهالات وجرائم ترتكب باسمه من الداخل، فكيف ترون كل هذه الأعمال وأين موقعها من قضية التطرف والاعتدال؟.

البذور الأولى: تحدثت في سؤالك عن ثلاث قضايا أرجو أن نفصل بينها لنناقش كلًا منها على حدة كما تعودنا في الإجابة على مثل هذه الأسئلة حتى لا تختلط الأمور، وهذه الأمور الثلاثة تتمثل في مدى شرعية إنشاء الجماعات الدينية وما تتخذه من وسائل كالبيعة والطاعة والتعزير ونحوه، ثم تعدد هذه الجماعات و تنوعها، وأخيرًا تصارع هذه الجماعات واعتداء بعضها على بعض.

أما شرعية إنشاء هذه الجماعات فهي لا تعدو أن تكون نوعًا من أنواع التعاقد على عمل من أعمال الخير، وتنظيم التعاون على البر والتقوى، فهناك من الفرائض ما ينوء  به كاهل الفرد الواحد الفرائض المتعلقة بأعمال النفع العام ونحوه، فلا يتسنى القيام بها إلا من خلال تكتل مجموعة من البشر واتفاقهم على التعاون على أدائها، فإذا التقت مجموعة من البشر وتعاقدوا على القيام بعمل من أعمال الخير كالدعوة إلى الله، أوبناء المساجد، أو  كفالة الأيتام، أو رعاية العجزة والمسنين،أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إقامة مراكز متخصصة لمقارنة العلوم الطبيعية بالنصوص الشرعية ونحوه، فقد وجدت الخلية الأولى أو البذرة الأولي للجماعة، وأظن أن هذا القدر لا ينازع في مشروعيته أحد من العقلاء، إذ لا يزال الناس يتعاقدون على عمل الخير، ويتعاونون على أدائه منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، بل لا تزال جميع دول العالم تسمح بذلك، وتوافق على إنشاء الجمعيات الخيرية أو الاجتماعية وتعتمد أنظمتها وتمنحها الشخصية الاعتبارية، وتسبغ عليها الحماية القانونية، فهو أمر مقرر في كل من الشريعة والقانون.

والأصل في مشروعيته النصوص العامة التي تأمر بالتعاون على البر والتقوى و تحض على التواصي بالحق والتعاضد على عمل الخير، بل إن هذا الأمر لفرط بداهته يستغني عن سوق الأدلة وحشد البراهين([268]).

الهيمنة: أما ما أشرت إليه من البيعة والتزام الطاعة والتعزير ونحوه  فهو من مقتضيات هذا الأمر  وتوابعه المشروعة، إذ لابد عند الاجتماع من رأس، ولابد من التزام الطاعة لهذا الرأس في حدود دستور معين يتفق عليه المجتمعون، ولابد من عقوبات توقع على المخالف في حدود ما تسمح به النظم القائمة.

وهذا الأمر جائز بدوره في الجمعيات الخيرية المسجلة لدى وزارات الشئون الاجتماعية في مختلف البلاد  إذ يتم الاتفاق على مجلس للإدارة، وعلى رئيس لهذا المجلس، وعلى وثيقة تأسيس ودستور معين تدار هذه الجمعية على أساسه  ويتضمن كيفية التعامل بين أعضائه أو مع الآخرين، وكيف تدار الأمور، وكيف تحل المشكلات عند التنازع،  وكيف تصفى كلها عند الاقتضاء. 

وعلى هذا فالبيعة ليست أكثر من التزام الطاعة للقائم على هذا العمل الذي تم اختياره بواسطة المؤسسين - أهل الحل والعقد - إذ ليست البيعة أكثر من العهد على الطاعة، ولا يجوز الخلط هنا بين الطاعة العامة التي تعطى للإمام المتمكن وبين هذه البيعة الاتفاقية أو الرضائية التي تبذل للقائم على تنظيم عمل جزئي محدود، إذ الأولى توجب عموم النظر على عموم المسلمين، أما الثانية فلا توجب النظر إلا على هذه المجموعة التي تعاقدت فيما بينها على هذا العمل، وفي حدود العمل الذي اتفقوا على إقامته.

أما التعزير فهو عقوبات اتفاقية توقع على الخارج على هذا الالتزام، ولا يتسنى الالتزام بها وتوقيعها في الواقع إلا إذا كانت في حدود ما تسمح به الأنظمة السارية في البلاد، هذا عن شرعية هذه الجماعات وشرعية ما تتخذه من الوسائل التنظيمية.

 هل هناك شروط يجب تحققها في هذه الجماعات لتظل في دائرة الشرعية الإسلامية ؟

نعم يجب لبقائها في إطار الشرعية الإسلامية ما يلي:

1- ألا تتحزب على أصل كلي  يخالف الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع و إلا كانت فرقة من الفرق، فإن اجتمعت على بدعة التكفير بالذنب أو بدعة الإرجاء في باب الإيمان أو التعطيل في باب الصفات، أو الجبر في باب القدر،كانت فرقة من الفرق الضالة المتوعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة».

2- ألا يعقدوا الولاء والبراء على أساس هذا التجمع، بحيث يحبون ويوالون من كان معهم بالحق وبالباطل، ويبغضون ويعادون من ليس منهم سواء أكان على الحق أو الباطل، فإن هذا من التفرق والتعصب الذي يبغضه الله ورسوله، بل الأصل هو محبة وموالاة أهل الحق والدين سواء أكانوا من هذه الجماعة أو من غيرها، وبغض ومعاداة أهل الضلال من داخل هذه الجماعة ومن غيرها، ليتمحض الولاء لله ورسوله، لأن تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة بما يخالف الأصول المنزلة من عند الله من أمور الجاهلية المفرقة للأمة، وأهلها خارجون عن السنة والجماعة وداخلون في البدعة والضلالة، فيجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو المتبوع المطاع، ويعطى كل شخص أو نوع من أنواع العالم من الحقوق ما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقرب من قربه، ويقصى من أقصاه، ويوسط من وسطه، وهكذا حتى لا تتشرذم الأمة وتتمزق كلمتها بمثل هذه الجماعات.

***


تعدد الجماعات

 وماذا عن تعدد هذه الجماعات؟

إن كان هذا التعدد تعدد تخصص وتنوع تتكامل به الجهود، ويتكافل به الناس في أداء مختلف فروض الكفايات، ويتنافس به الجميع في الخيرات،  ويجد فيه كل راغب في عمل من أعمال الخير وعاء منظمًا يستوعب طاقته ويستثمر جهده وينسقه مع جهود الآخرين،  وساد التعاون والتعاضد والتراحم كان هذا التعدد مشروعًا لا حرج فيه ولا تثريب على أصحابه.

أما إذا كان تعدد تنازع وتضاد، تتهارج به الصفوف، وتتناكر به القلوب، ويذوق به بعضهم بأس بعض، فهذا هو التفرق المذموم المنهي عنه في محكمات الشريعة، بل يتحول به الواقع إلى واقع فتنة، ويمتهد به سبيل إلى اعتزال الجميع

  هل نفهم من قولك هذا أنه  دعوة إلى اعتزال كافة الجماعات الإسلامية المتنازعة ؟

الواجب هو اعتزال باطل التشاحن والتباغض في هذه الجماعات وفي غيرها، لكن من دعي إلى خير محض من هذه  الجماعات أومن غيرها  فلا يسعه إلا التلبية، والأصل في هذا قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ([269])، فمن  دعي إلى بر أو تقوى من أي جهة أجاب، ومن دعي إلى إثم أو عدوان قبض يده وامتنع عن الجواب، ثم يبقى بعد ذلك واجب حتمي وهو يعدل أو يفضل درجة الصيام والصدقة ألا وهو إصلاح ذات البين، فعلى المسلم أن يبذل جهده ما استطاع في الإصلاح بين المتنازعين ﴿إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ([270])، فإن فساد ذات البين هي الحالقة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، قال صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة   والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: أصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة. لا أقول تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين!»([271]).

إذن ما هو الواجب بالتحديد تجاه تنازع هذه الجماعات؟

ألا تكثر عند التنازع سواد هذه أو تلك فإن الواقع واقع فتنة، وأن تعتزل هذا التهارج والتراشق بالتهم ما وسعك الاعتزال، ثم استفراغ الوسع في الإصلاح بينها ما وسعك السعي  إلى الإصلاح، لا تألوا في ذلك جهدًا، ولا تدخر في سبيل إنفاذه طاقة، ثم الاحتفاظ بالولاء المتوازن للجميع، والتعاون على البر والتقوى مع الجميع، واعتزال الإثم والعدوان من الجميع، فهذا الذي يسع المسلم في واقع الفتنة.

 ولكن ألا يمثل هذا التهارج ظاهرة سلبية متطرفة؟ 

بلى، ولا أجادلك في ذلك، وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه رضي بالتحريش فيما بينهم، ولقد عز على الشيطان أن تجتمع للإسلام كلمة وأن ترتفع له راية على يد هذه الطلائع الشابة، فأخذ يدس بينها ويغري بعضها ببعض، ويحرض بعضها على بعض، ولكن الله جل وعلا وهو الغيور على دينه وأوليائه ما كان ليضيع إيمان هؤلاء وجهادهم، فقد رأينا هذه الظاهرة آخذة في الانحسار في الأيام الأخيرة، و أصبحت الرغبة في تجاوز هذه التصدعات مطلبًا ملحًا يسيطر على الجميع، وأوكد لك في النهاية على ضرورة التحري فيما ينقل عن هؤلاء عبر أجهزة عرفت بالخصومة لهم والتضرع في حربهم، فإن أبسط مبادئ العدل الشرعي والعقلي ألا تقبل شهادة الخصم على خصمه حتى ولو كان معروفًا بالصدق واستقامة الحال.

ولكن كيف يمكن أن يتحول هذا التعدد إلى ظاهرة إيجابية، والأصل أن كل جماعة لا تنشأ إلا على أنقاض الأخرى، بل لا ترى مبررًا لنشأتها ابتداء إلا إذا أسقطت الشرعية عن الآخرين وأحبطت أعمالهم لتعطي بذلك لنفسها المبرر في استقلالها برفع راية مستقلة وتكوين جماعة جديدة، إن فكرة التعددية مرفوضة ابتداء في منظور هذه الجماعات.

 فهي أحادية النظرة إرهابيه التوجه لا ترى شرعية لوجودها إلا بعد أن تحطم الآخرين، فكيف تتصور أن يرشد هذا التعدد في ظل هذه المفاهيم التسلطية والمرتكزات الإرهابية ؟؟!.

لا منازعة ابتداء في أن تعدد الرايات إذا كان على النحو الذي ذكرته، تعدد تشاحن وتباغض تتناكر به قلوب الناس، وتتمزق به كلمتهم، فهو من الأمور المنكورة البغيضة، ولا يسع مسلم أن يسكت عنه أو يضرب عنه الذكر صفحًا فضلًا عن أن يجادل عنه أو يدافع عن أصحابه، وقد قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾([272])، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾([273])، فهو إذن على هذا النحو خلل وخطر، والعاملون للإسلام جميعًا مدعوون إلى تقويمه والتصدي لمن يتولون كبره و ينفخون في كيره ولا نزال نذكر هؤلاء بأن هذا هو واجب الوقت الذي لا يسع قادرًا غير مغلوب على عقله أن يتقاعس عن أدائه، فما عبد الله بعد التوحيد بعمل هو أحب إليه من إصلاح ذات البين، وما عصي بعد الشرك بذنب هو أسخط إليه من التفرق في الدين وفساد ذات البين.

ولكن الذي نحرص على تأكيده في هذا المقام أن تعدد التخصص والتنوع الذي تتكامل به الجهود وتتعاضد فيه الحشود ممكن ومقدور،وأنه ليس لونًا من الخيال أوضربًا من المحال، بل هو الصورة العملية التي لا غنى عنها ولا  بديل منها، فإن الدولة الإسلامية في أرشد أحوالها لا يسعها إلا أن توزع الأدوار وتقسم الأعمال وتتولى هي مهمة الإشراف والتنسيق.

أرأيت لو تخيلنا كتيبة تعمل في المحافظة على السنة تخريجًا وتحقيقًا، وتسهر على بيانها للناس درسًا وتصنيفًا، وكتيبة تهتم بتصحيح عقائد الأمة ومحاربة البدع والخرافات، وكتيبة تحيي في الأمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحثها على القيام بها وتعطي لها في ذلك المثل والقدوة، وكتيبة تعمل على إحياء فريضة الجهاد وتحث الأمة عليها وتقدم لها أمثلة في الفداء والتضحية، وكتيبة تعمل على إدارة الحوار مع الساسة في شتى المؤسسات الدستورية وتسعى إلى أن ينفذ صوت الإسلام إلى كافة المستويات وإلى مختلف المواقع، وأن توجه قرارها لمصلحة الأمة، وكتيبة تسعى إلى دعوة العوام وإخراجهم من بيئة الغفلة إلى بيئة الذكر ومن بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة، وكتيبة تعمل في مجال بحوث تطبيق الشريعة وإعداد النماذج والصياغات العملية القابلة للتطبيق في واقعنا المعاصر، لو كان الأمر على هذا النحو،وتم الاتفاق بين العاملين للإسلام على ذلك، حالًا أو مقالًا، وكفوا ألسنتهم عن التقاذف فيما بينهم بالتهم و المناكر وجمعتهم المجالس للتنسيق والتعاون وتبادل الرأي، وجددوا مفهوم الأمة في العمل الإسلامي، وتواصوا بنبذ التعصب والتحزب الجاهلي الذي يربط الولاء والبراء باسم أو رسم دون الكتاب والسنة، أقول: لو أنهم فعلوا ذلك لهدوا إلى سواء السبيل، ولما كان للتعدد أدنى دلالة على التشرذم أو التفرق المذموم، لأن جماعة المسلمين في أرشد أحوالها لا يسعها إلا أن تقسم العمل بين الدعاة والمجاهدين، وتنسق بينهم على النحو السابق.

أليست هذه هي الصورة العملية التي تقوم بها الجامعات عندما توزع الأدوار والتخصصات بين مختلف الكليات، وتقوم بها الكليات عندما توزع الأدوار بين مختلف الأقسام، وتقوم بها الأقسام عندما توزع الأدوار بين مخـتلف الأساتذة؟

أليست هذه هي الصورة العملية التي تقوم بها المستشفيات عندما توزع التخصصات بين مختلف الأقسام  بل أليست هذه هي الصورة التي تقوم  بها الدولة عندما توزع الأدوار وتنسق الأعمال بين مختلف الأجهزة والولايات؟ هل  يمكن أن نتخيل صورة أخرى بديلة في ظل  تشعب المهام  وتراكم الاحتياجات  ؟!.

 ولكن كيف يتأتى ذلك في ظل مفاهيم العصمة السائدة عند هذه الجماعات؟ إذ تزعم كل واحدة منها أنها سفينة نوح، وأن أميرها الملهم هو المنقذ والمخلص؟!!وأنها جاءت بمالم يأت بمثله الأولون والآخرون، فهي وحدها الجديرة بأن تكون الناطق الرسمي باسم الحق المتحدث الرسمي نيابة عن السماء؟.

ليست الصورة على هذا النحو، فمفاهيم العصمة خاصة بالشيعة فقط، وجميع هذه الجماعات تؤكد على نسبية الصواب والخطأ  في الاجتهادات الفقهية، وأنه لا يوجد على وجه الأرض الآن نبي معصوم، يأخذ منه فلا يرد عليه، وإن كل مجتهد عرضة للخطأ والصواب، وأن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك من هو ناطق باسم الحق أو متحدث باسم السماء إلا الرسل، وقد ختموا  بمحمد صلى الله  عليه وسلم ولا نبي بعده وقد انتقل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وبقي بين أيدينا الكتاب والسنة يجتهد الناس في فهمهما، وهم في ذلك بين مصيب مأجور مرتين أو مخطئ مأجور مرة واحدة، مادام قد التزم في اجتهاده بالأطر المقررة شرعًا للاجتهاد المعتبر.

ومن ناحية أخرى فإن الاختلافات القائمة بين هذه الجماعات توشك أن تنحصر في أساليب التغيير ووسائل الإصلاح وهو اختلاف خطط وبرامج وليس اختلاف أيديولوجيات وعقائد،ولا يخفى أن التعددية في مجال الخطط والبرامج حتمية بل لا يتصور غيرها، لأن هذه الخطط هي جهد بشري في إقامة الدين،لا قداسة لأفكاره ولا عصمة لرجاله،والأصل فيما كان كذلك هو تعدد الاجتهادات وتنوع الأطروحات.

ولكن الخلل إنما ينشأ من الخلط بين ما كان من مسائل النظر ومجاري الاجتهاد وبين ما هو من مواضع الإجماع والأدلة القاطعة، فإذا اعتبرت بعض الظنيات ومسائل الاجتهاد من القطعيات ومواضع الإجماع نشأت أحادية النظرة، وحل التهارج والتعصب محل التراحم والتكامل، وهذا هو مكمن الخلل لدي بعض هذه الجماعات، ولو هدوا إلى إعادة ترتيب الأوراق، والفصل بين القطعيات وبين الظينات، وجعلوا من الأولى فقط معاقد الولاء والبراء، وتغافروا فيما وراء ذلك من المسائل الاجتهادية لانتفي هذا التشرذم وتحول التعدد إلى  ظاهرة إيجابية.

 لقد وصل التنازع بين هذه الجماعات إلى حد التكفير، فأصبحت كل جماعة تحبس الإسلام في دائرة المنتسبين إليها، فمن تبعهم فقد دخل في الإسلام، ومن خرج عنهم فقد خرج عن الإسلام.

إطلاق الأمر على هذا النحو مبالغة ظالمة. فلا يوجد بين هذه الجماعات من يعتقد هذا الفهم إلا قلة شاذة حددت بقية الجماعات منها موقفها في وقت مبكر لخروجها عن الجادة، أما بقية الجماعات فهم يقولون تصريحًا ودون أدنى مواربة نحن جماعة من المسلمين ونتمنى أن نصل بالأمة إلى جماعة المسلمين، أي نحن جماعة دعوة ونتمنى أن يثمر جهادنا إقامة دولة الإسلام التي تجمع كلمة الأمة كلها على إقامة الدين وتطبيق الشريعة، فالتنازع شيء والتكفير شيء آخر. ولقد وجد التنازع بين الصحابة ولم يكن يكفر بعضهم بعضًا، فليس التكفير نتيجة حتمية للتنازع ولا سببا وحيدًا له، وفرق بين من يقول نحن جماعة المسلمين وبين من يقول نحن جماعة من المسلمين.

 ولكن من يفارق جماعة من هذه الجماعات يتهمونه بالكفر والخروج من الملة؟.

لا يفعل ذلك إلا من يعتقد أنه هو وحده جماعة المسلمين، وهؤلاء كما ذكرت لك قلة مارقة، و إن كان الإعلام الظلوم يحاول تكثيف الأضواء حولها ليجعل منها واجهة وعنوانًا لكل هذه الجماعات، أما بقية الجماعات فلا يعتقدون ذلك فيمن خرج عنهم، بل هو كما يخرج المستقيل من أي عمل خيري عجز عن القيام بأعبائه، أو التكيف بأوضاعه، أو اضطرته ظروفه إلى تركه إلى موقع آخر، ولقد فصلت إحدى الجماعات الكبرى بعض المنتسبين إليها في وقت من الأوقات لعدم قدرتهم على أن يضبطوا أنفسهم بأنظمة الجماعة ولم تثرب عليهم بتفسيق ولا تكفير، ودعت لهم أن يوفقهم الله لخدمة الإسلام في موقع آخر([274]).

 ولكن من الناحية العملية كيف يتسنى لمن انتسب لجماعة من هذه الجماعات أن يخرج عليها وقد كبلته بعهود ومواثيق مغلظة، كما كان يفعل طغاة الخلفاء عندما يؤكدون بيعتهم بجميع أيمان المسلمين حتى يضمنوا الولاء لهم وعدم الخروج عليهم،حتى أفتى الإمام مالك ببطلان هذه البيعات لقيامها على الإكراه وتعرض بسبب ذلك لما تعرض له من البلاء؟.

البيعة لا تعدو أن تكون التزامًا بالطاعة على أساس ميثاق ينظم هذه الطاعة،ويحدد الحقوق والواجبات المتبادلة، ولا يحل الإخلال بها دون مقتضى لأن الأصل في العهود في الإسلام هو الوفاء ولو كانت مع المشركين أو على عرض من أعراض الدنيا كما قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾([275])، فكيف إذا كانت مع المسلمين وعلى عمل من أعمال الآخرة؟.

ولكن هذه البيعة يمكن التقايل منها عند الاقتضاء، ويحب أن ينص في نظام الجماعة على كيفية الانسحاب من عضويتها كما ينص على كيفية الانتساب إليها،كما يمكن عند الضرورات التحلل منها بكفارة يمين لأنها في حكم النذر- لأنها التزام بطاعة وهذه حقيقة النذر- والنذور يتحلل منها عند الضرورات بكفارة يمين.

***

 

 


السلطان المطلق

تتناقل الصحف ويتحدث الثقات عن الممارسات الإرهابية التي تتم داخل هذه الجماعات، والسلطات المطلقة التي يمارسها أمراؤها على المنتسبين إليها الأمر الذي يعني تمحور هذه الجماعات حول شخصية الزعيم الذي يصبح هو المصدر الوحيد للتشريع والتفكير، وتتمركز في يديه جميع الصلاحيات، فتهدر بجواره جميع الطاقات وتتعطل جميع العقول، ويتحول الجميع من حوله إلى مجرد جنود وأتباع، لا يملكون إلا الانقياد الأعمى والطاعة المطلقة، وهذا هو السبب في تكرار أغلاط كثير من الجماعات دون أدنى محاولة للاستفادة والتجديد؟.

أولًا: بئس مطية الرجل زعموا!! فليس كل ما يقال أو تتناقله أجهزة الإعلام يكون من الحقائق المسلمة، خاصة إذا جاء من جهات عرفت بعدائها لهذه الجماعات، ومن ناحية أخرى فقد تمهد في بديهيات العقائد أن الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله وحده، وأن التزام الطاعة المطلقة لغيره إشراك بالله وردة عن الإسلام، فلا طاعة إلا لمن إذن الله بطاعته، ولم يأذن الله إلا بطاعة مقيدة، فطاعة أولي الأمر لا تكون إلا فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة، فإذا أمر الأمير بطاعة فذاك،وإلا فلا حرمة لأمره ولا سمع له ولا طاعة.

 والمصدر الوحيد للتشريع هو الله جل وعلا وحده، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([276])، ومن جعل لنفسه شيئًا من ذلك فقد أشرك، فقد اتفقت الأمة كلها على أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، والشورى صفة ملازمة لجماعة المسلمين  قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾([277])، ومن حق الأمة أن تقيد أمراءها بذلك في عقد البيعة، حتى إذا لم يلتزموا بها كانت الأمة في حل من بيعتهم، ولها أن تعدل بهم إلى الحق أو أن تعدل عنهم إلى غيرهم.

أما ما تتحدث عنه من إلغاء الطاقات وتعطيل العقول والتمحور حول شخصية الزعيم فهذا أمر لا تعرفه إلا الأنظمة الدكتاتورية العلمانية  التي تتعبد للطواغيت من دون الله، ولا تعرفه الجماعات الإسلامية التي قامت ابتداء للكفر بالطواغيت وتجريد التوحيد والاتباع لله وحده، فكيف تكفر بطاغوت علماني وتتعبد لطاغوت آخر يتولى قهرها ويصادر حقوقها باسم الإسلام؟

أما تكرار الأخطاء فهو لا يعني بالضرورة تأليه الزعيم أو التعبد للقائد، بل قد يكون مرده إن وجد إلى فشل في التخطيط، أو قصور في المتابعة، أو ضعف في التنسيق،أو كيد و تآمر من قبل الخصوم، ولهذا أرجو أن نكون موضوعيين في حديثنا عن الآخرين. فبالعدل قامت السماوات والأرض. 

 إن هذه الجماعات تلجأ في سبيل إرهاب الأتباع وحملهم على عدم الخروج عليها إلى الاستدلال ببعض الأحاديث التي توهم بأن طاعة الأمراء من أصول الإيمان، وأن الخروج على الجماعات خروج عن الإسلام، ويظل هذا السيف مسلطًا على كل من تسول لهم أنفسهم معصية الأمير أو الخروج عن الجماعة أو حتى مجرد التفكير في ذلك؟.

الجماعة أيها العزيز قد يقصد بها المنهج أو الدعوة، وقد يقصد بها الدولة أو الكيان السياسي القائم على هذه الدعوة ومن الأمثلة على الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الفرق: «وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا الجماعة»، وفي رواية: «ما أنا عليه وأصحابي»، ففسر الجماعة هنا بالمنهج أو الدعوة التي بلغها النبي صلي الله عليه وسلم وحملها أصحابه من بعده.

ومن الأمثلة على الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه»، رواه البخاري فالجماعة هنا كيان عضوي قائم، وهذا الخارج يريد أن يفرقه فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك  دمه.

والخارج عن الجماعة بالمعنى الأول قد يكون مبتدعًا إذا تحزب على أصل كلي يخالف أصول أهل السنة كما خرجت الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية على جماعة المسلمين ببدع كليه في الدين، وهذا خروج بدعة وفسق وليس خروج كفر وردة عن الإسلام، وقد يكون الخارج مرتدًا عن الإسلام إذا كان خروجه عن أصل الدين بتكذيب شيء من المعلوم من الدين بالضرورة أو رده، سواء  أكان ذلك مع إعلان المنابذة له بالكلية كالذي يفارق ملة الإسلام إلى ملة أخرى، أو مع بقاء الانتساب إليه زورًا وبهتانًا كالقاديانية والنصيرية والدروز وأمثالهم من الفرق المرتدة، فهذا خروج كفر وردة.

وكذلك الخارج عن الإطار السياسي لجماعة المسلمين، قد يكون باغيًا إذا كان خروجه طلبًا للملك ومنازعة في السلطان بتأويل سائغ أو غير سائغ، وهذا له حكم البغاة، فيجب أن يبدأ التعامل معه بالحوار ومحاولة الإصلاح وذلك بإزالة شبهه ورفع المظالم التي حملته على هذا الخروج إن وجدت، وينتهي بمقاتلته حتى يفيء إلى أمر الله كما جاء النص على ذلك في سورة الحجرات في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ﴾([278])، وهو في جميع الأحوال من المسلمين المتأويلين، ولقد كان علي رضي الله تعالى عنه أيام حنين يجمع القتلى من الفريقين ويصلي عليهما ويقول: إخوانكم بغوا عليكم!.

وقد يكون الخارج كافرا إذا كان خروجه موالاة لأعداء الإسلام، وانحيازًا إلى معسكر الكافرين، ونبذًا لجماعة المسلمين كالذين ارتدوا عن الإسلام في أيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وسلوا السيف على جماعة المسلمين.

وإذا كان ذلك كذلك كان إطلاق القول بأن الخروج عن الجماعة خروج من الإسلام، وإن القوم يستخدمون ذلك لإرهاب الذين يفكرون في الخروج نوعًا من المجازفات والإطلاقات الفاحشة التي ينبغي أن يتورع عنها الموضوعيون والمنصفون، لأن هذا الخروج إن كان رجوعًا عن بعض المفاهيم التي تحملها هذه الجماعات بتأول سائغ أو غير سائغ فأقصى ما يقال عنه إنه بدعة، وإن صاحبه صاحب بدعة، كما خرجت الخوارج أو المعتزلة على جماعة المسلمين، وإن كان انحيازًا إلى جماعة أخرى فهو نوع من الاجتهاد في اختيار الخندق الذي يستوعب طاقاته ويوظف ملكاته، وله أن يشترط ذلك لنفسه من البداية، وهو في ظل مفاهيم التخصص والتنوع بين هذه الجماعات اجتهاد مقبول، وإن كان خروجه تركًا للعمل الإسلامي العام، واكتفاء بممارسة الشعائر الفردية فقصارى ما ينسب إلى صاحبه أنه من القاعدين من المؤمنين غير أولى الضرر، فعليه إثم القعود عن الجهاد الواجب، وله أجر ما يأتي به من بقية الأعمال، ثم تنصب الموازين يوم القيامة فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، ومن خفت موازينه فأمه هاوية.

فأين الخروج الذي يعتبر كفرًا وخروجًا من الإسلام؟، اللهم إلا إذا كان مفارقة لأصل الإسلام أو إنكارًا لمعلوم من الدين بالضرورة، وصاحب هذا الموقف يعد مرتدًا عن الإسلام بموقفه هذا ولو لم ينتسب إلى جماعة قط، أو يخرج من جماعة قط، لأن هذا الموقف بذاته هو الردة!.

أما ما ذكرت عن طاعة الأمراء، فالأمراء بشر من البشر، إن أمروا بطاعة فقد وجبت الطاعة، وإن أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وإن تنازعنا معهم في شيء رددنا الأمر إلى الله والرسول، والمخالفة في المسائل الاجتهادية مكفولة ما لم تتحول إلى إرهاب مسلح وخروج بالسيف على جماعة المسلمين، والقضاء الإسلامي الرشيد صمام أمن بين الحاكم وبين المواطنين، فماذا تنقم من كل ذلك أيها العزيز؟.

ولهذا فإنني أوصي دائمًا بالتحقق من هذه الإطلاقات التي تنسب لفريق من المؤمنين حتى لا نكون ممن قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾([279]).

 ولكن ألا تؤدي هذه الجماعات إلى تشرذم المؤمنين وتفرق كلمتهم عندما يتحزب كل فريق من الأمة لجماعة من هذه الجماعات، فيحل التحاسد والتآكل محل التعاون والتكامل؟.

لقد ذكرت لك من قبل أن هذا التعدد إن كان تعدد تخصص وتنوع تتكامل به الجهود فهو تعدد مقبول محمود، وإن كان تعدد تنازع وتحاسد كهذا الذي تقول فهو تفرق محرم مذموم، وفصلت لك القول في ذلك تفصيلًا، فالتعدد ليس دائمًا ذريعة إلى التحاسد والتآكل، بل قد يكون كذلك وقد لا يكون،  فإن كان ذريعة إلى ذلك فهو ممنوع، و إلا فهو مشروع، والذرائع تأخذ حكم المقاصد حلا وحرمة.

وبعد، فغريب أمركم أيها السادة الأجلاء! ألستم تنادون بالتعددية السياسية، وتدعون إلى إطلاق حرية تكوين الأحزاب وإلغاء القوانين التي تقيد هذه الحريات، وتعتبرون ذلك سمة من سمات التحضر، وعلامة من علامات الرشد في مسيرة الحياة السياسية، فما بالكم لا يتسع تسامحكم السياسي ليشمل التعددية في مجال الجماعات الإسلامية؟ وما هو المعيار الذي تقومون على أساسـه كلًا من الآحـادية والتعدد؟، إننا نرى منكم الإشادة بالشيء ونقيضه عندما تتعاملون مع هذه الجماعات الإسلامية!.

إن قال قائل منهم: نجمع كلمة الأمة حول أهل الحل والعقد فيها من العلماء  والخبراء في شتى التخصصات بدلًا من الحياة الحزبية وما تتضمنه من المهاترات السياسية ملأتم الدنيا ضجيجًا وعويلًا وتباكيًا على الحرية المطاردة والأفواه المكممة وأحادية النظرة وديكتاتورية السلطة في ظل هذا التوجه!!.

وإن قال آخر بإطلاق الحرية في تكوين الأحزاب السياسية على أن تلـتزم بالمرجعية الإسلامية العليا أنغضتم رؤوسكم،  ونأيتم بجانبكم، وتشاكيتم من التشرذم والتهارج وتمزق الصفوف، فماذا تريدون على وجه التحديد؟

 سيدي! إننا نؤمن بالتعددية وننحني لها إلى أبعد حدود على أن تكون على الساحة السياسية!! لأن التعددية في مجال الأحزاب السياسية تعددية حضارية تقر بالرأي والرأي الآخر، ولا مجال فيها لتكفير ولا تفسيق ولا لحرمان من الجنة ولا لإرهاب باسم الدين؟.

ولكنكم جميعًا متفقون على الالتزام بجملة من القواعد الكلية التي تمثل الحدود الدنيا للمشروعية، والتي يعني انتهاكها خروجًا على مقتضى الولاء للوطن، وانتهاكًا لمبادئ العدالة وقواعد القانون الطبيعي  وهذا الإطار قد يضيق أو يتسع بحسب نوع العقيدة السياسية التي تدين بها البلاد، ولكنه لا يخلو منه نظام، ولا ينفك عنه مكان، أليس كذلك؟.

ألم ينص الدستور المصري على سبيل المثال في مادته الخامسة بعد تعديلها في 30/4/1980، على أن «يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب، وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية في المجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور»، فاعتبر مقومات المجتمع ومبادئه الأساسية  بمثابة المشروعية العليا لهذه التعدديه، ولم يطلق القول بتعديدية مطلقة؟.

  بلى.

هذه القواعد الكلية أو المبادئ والمقومات الأساسية  التي تمثل عندكم إطارا للشرعية هي التي تقابل عندنا ما نسميه  بالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، والتي من دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض ومن نازع فيها تكذيبًا أو ردًا كان من أهل الضلالة، وهي تمثل الحد الأدنى الذي يسمح من داخله بتفاوت المناهج، وتنوع الأساليب، وتعدد الأطروحات، على أن يلتزم الجميع بهذا الإطار الذي يمثل حدا أدنى للشرعية، ويعتبر الخروج عليه انتهاكًا لهذه الشرعية  وخروجًا على المبادئ العليا للدولة الإسلامية.

وإن كنا نعتبر الخروج عن هذا الإطار ردة عن الإسلام أو ابتداعًا كليًا في الدين فأنتم تعتبرونه خيانة عظمى وتأمرا على أمن الدولة، كلاهما يمثل خروجا على العقيدة الأساسية للدولة، وكلاهما يعتبر انتهاكًا للشرعية، وكلاهما يعرض صاحبه للعقاب والمساءلة.

وأما داخل هذا الإطار فالأصل هو القبول بتعدد الاجتهادات، وليس لأحد أن يجتهد في مسألة ويقول إن هذا حكم الله، بل هو فهمه من النصوص الذي قد يخطيء وقد يصيب، ولا مجال في هذه الدائرة لتكفير أو تفسيق أو تبديع، وهذا التفاوت يعد رحمة بالأمة، وتوسعة عليها، وعاملا من عوامل خلود هذه الشريعة، ومرونتها وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان  ومكان.

هلا زودتني ببعض هذه الأمثلة التي تمثل الحدود الدنيا للمشروعية في الدولة الإسلامية؟

القرآن والسنة الصحيحة هما الحجة القاطعة والحكم الأعلى في الدولة الإسلامية، فكل طعن في القرآن أ والسنة تكذيبًا أو ردًا يعد انتهاكا لهذه الشرعية، فلا يجوز مثلا في الدولة الإسلامية لأحد أن يدعى النبوة ولا لغيره أن يتبعه على ذلك بدعوى الحرية الدينية، وقد قال تعالى:﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾([280])، ولا يسمح في الدولة الإسلامية بإباحة الزنا أو الترخيص ببيوت دعارة أو إنشاء مصانع للخمور بدعوى الحرية الشخصية، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا([281])، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْـمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾([282])، وهكذا فإن القطعيات والمعلوم بالضرورة من الدين هي التي تمثل إطار الشرعية، ولا يسمح بانتهاكها مهما كانت الدعاوي  والشعارات!.

وهذه الحدود تنطلق من الإقرار بأن الإسلام هو دين الأمة، فإن الإقرار بذلك يقتضي أن تمثل مبادئه إطار المشروعية العليا في دار الإسلام، وأن كل ما تعارض معها يكون باطلًا مهما كان مصدره، ومهما كان حجم انتشاره زمانًا أو مكانًا، فإن كلمة الله أعلى،وحرمة شعائره وشرائعه أكبر وأقدس. فهل لديك على ذلك من اعتراض أيها العزيز؟

 الذي أخافه ويخافه كل غيور على حريات الشعوب أن يتحول هذا الإطار إلى لعبة في يد الحكام، فكل ما يوافق أهواءهم أدخلوه في هذا الإطار، واتهموا مخالفه بالردة والزندقة، وكان السياف والنطع له بالمرصاد!!، وإن تجاوزوا معه اكتفوا باتهامه بالإفساد في الأرض، وفي حد الحرابة ما يذهب عنه وساوس الحرية، ويحول دون أن تمتد عدواها إلى الآخرين!، هذا الذي ننقمه ولا نريد أن ترجع الأمة إلى لعنته مهما كان المقابل أيها العزيز؟.

مواضع الإجماع محكمة في الدين، ومحكمات الشريعة جلية ومتميزة لا مجال فيها للبس أو  اختلاط، ولا يزال أهل العلم يفرقون بين الشرع المحكم الذي تنتصر له سيوف المسلمين، ويعتبر الخروج عليه خروجًا على الدين، وبين الشرع المؤول الذي يؤخذ منه ويرد باعتباره جهدًا بشريًا في فهم نصوص الكتاب والسنة، ولا يزال الأئمة ينهون الناس عن تقليدهم فيه بغير بينة. ويقولون: فقهنا هذا رأي فمن جاءنا بخير منه قبلناه، فإذا كان هذا هو موقف الأئمة المجتهدين فكيف بآراء الحكام والسلاطين؟.

قد يستطيع الحاكم أن يقهر خصومه وأن ينكل بهم بسيف السلطة الغاشم، وقد يصطنع لمظاهرته على ذلك بطانة مأجورة من علماء السوء، ولكن الثقات العدول من أهل العلم وهم الذين كانوا يمثلون أهل الحل والعقد يومئذ  لا يزالون لهذه الممارسات بالمرصاد يسقطون عنها أقنعة الشرعية الزائفة، ويفتون الأمة ببطلانها وعدم التزام الطاعة لأصحابها، ويقررون حق الأمة في مقاومتها بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم، وهذا ثابت مسطور في تاريخ الأئمة الأعلام، وما فتوى مالك بن أنس ببطلان أيمان البيعة ببعيد. ومن قبله فتوى أبى حنيفة في الخروج على أئمة الجور، ومناصرته لزيد بن على  وحمل المال إليه  وفتياه الناس سرا بوجوب نصرته، والقتال معه، حتى قال الأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف فلم نحتمله!.

وإننا نستطيع أن نخطوا خطوة إلى الأمام، وأن نضيف لبنة أخرى إلى هذا الصرح الشامخ العتيد توفر للأمة مزيدًا من الضمانات، ويقف بها أهل الحل والعقد سدًا منيعًا في وجه هذه التجاوزات، وذلك بصياغة هذه الكليات القطعية في الدين صياغة حاسمة ويتم تضمينها مع غيرها من أصول الحكم ومبادئه الأساسية في وثيقة دستورية تحدد حقوق الأمة وواجباتها ولا تعقد البيعة ابتداء للحكام إلا على ذلك. وتعتبر هذه الوثيقة قيدًا على بيعتهم، ويمثل الالتزام بها شرطًا في استدامة ولايتهم، فنكون بهذا قد حمينا الشرعية من العنف، وحمينا حقوق الأمة من الانتهاك، وأثرينا الفكر السياسي الإسلامي بهذه الإضافات الراشدة بدلا من الكفر بالنظام الإسلامي كله وشن الغارة عليه وعلى تاريخه من أجل هذه التخوفات!.

 وهل تمارس هذه الجماعات مبدأ تقييد السلطة، وعدم إطلاق البيعة في علاقاتها مع أمرائها ؟، أم أنها تقاد خلفهم كما يقاد القطيع؟!.

إن الواقع العملي لهذه الجماعات يشهد رشدًا كبيرًا في هذا الأمر، فقد أصبحت مجالس الشورى  وهيئات أهل الحل والعقد هي التي ترسم المسار وتتخذ القرار، وليس الزعيم الأوحد كما يرجف المرجفون، ولا تزال الساحة واعدة بكثير من النضج والرشد إن شاء الله.

ومن ناحية أخرى فسواء أكان هذا المسلك أو ذاك فإن الحق أحق أن يتبع، والخطأ يجب أن يصحح، والعوج لابد أن يقوم من تحت أي عباءة خرج، وإلى أي فريق انتسب، فإن الحق قديم لا يغيره شيء، وإذا بذلت النصيحة على وجهها وأقيمت بها الحجج من أهلها، فإن الله عز وجل يفتح لها مغاليق القلوب،ويبقى الإسلام دائمًا حجة على تصرفات العباد  ولا تكون أبدًا أغلاط البشر حجة على الإسلام بحال من الأحوال!.

***

 

التعددية الدينية والتشرذم

 ولكن لا أزال أستشعر كثيرًا من الفوارق بين الساحة السياسية التي تقبل بطبيعتها تعدد البرامج وتعدد الأحزاب باعتبارها تدور في إطار البشرية البحتة وبين الساحة الدينية التي أرى أنها لا يصح أن تكون مجالًا لهذه المزايدات والمناورات، والتي يجب أن تصان عن التشرذم والاختلافات، حتى يبقى للدين قدسيته وللشريعة حرمتها في نفوس الناس، لا أزال أتصور أن الساحة الدينية لا تقبل بطبيعتها التعددية لأن الدين واحد، والديان واحد، والكتاب واحد، والرسول واحد، والقبلة واحدة، فكيف تنتج كل هذه الوحدة أشكالًا متباينة من المفاهيم والتصورات؟.

يذكرني هذا بالحوار الذي دار بين المأمون وبين رجل ارتد في عهده عن الإسلام، فلما مثل بين يدي المأمون أراد أن يعذر إلى الله بشأنه، وأن يستتيبه قبل أن يقيم عليه الحد قائلًا له: لأن استحييك بحق أحب إلى من أن أقتلك بحق، ولأن أقيلك بالبراءة أحب إلى من أن أقتلك بالتهمة، ثم سأله عن الشيء الذي أوحشه من الإسلام حتى حمله على مفارقته، فقال المرتد: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم.

قال المأمون: لنا اختلافان:

أحدهما: كالاختلاف في الآذان، وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعه، وتخفيف من المحنة. فمن أذن مثنى، وأقام مثنى لم يأثم، ومن أذن مثنى وأقام فرادى لم يحب  «لم يأثم»، لا يتعايرون، ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانًا، وتشهد عليه تبيانًا.

والاختلاف الآخر: كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا، حتى أنكرت من أجله هذا الكتاب فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقًا على تأويله، كما يكون متفقًا على تنزيله، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغة  لا اختلاف في تأويل ألفاظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئًا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل،وليس على هذا بنى الله الدنيا.

 قال المرتد: أشهد أن الله واحد، لا ند له ولا ولد، وأن المسيح عبده وأن محمدًا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقا([283]).

والذي نخلص إليه أن كثيرا من الخلاف في الفروع والمسائل الاجتهادية مقصود للشارع، وغايته التوسعة على الأمة  ورفع الحرج عنها، فإذا ضاق عليه الأمر في مذهب التمست السعة في مذهب آخر وفقا لما ترجحه الأدلة وتقتضيه المصلحة، وليس هذا من جنس التفرق المذموم والمشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾([284])، فقد وقع مثله ممن كتب لهم محض الرحمة وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان أهل هذا الاختلاف خارجين عن دائرة الرحمة لما وقع مثله من الصحابة، بل إن إمام دار الهجرة مالك بن أنس عندما أتيح له أن يكون كتابه «الموطأ» المرجع الرسمي في الدولة الإسلامية على يد ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم أبو جعفر المنصور وابنه المهدي وحفيده هارون الرشيد رفض ذلك حتى لا يحبس الناس في مذهب واحد، وقد تفرق الصحابة في الأمصار، ولدى كل واحد منهم من العلم ما لا يوجد لدي الآخر ونزع الناس عما ألفوه أمر عسير!!.

فليس هنالك تلازم بين الاختلاف في الفروع وبين التشرذم، إنما يأتي التشرذم من التعصب أو التطرف الذي نناقشه في هذا الحوار، وهو مصادرة بقية الاجتهادات أو تجاوز الحدود الشرعية في التعامل مع المخالف، وهو الأمر الذي اتفق السلف والأئمة على رده.

أما ما ذكرت من المزايدات والمناورات فإنه يصح في الساحة السياسية التي تعتمد على اجتهادات بشرية بحتة، ولكن ذلك تضيق دائرته إلى حد كبير في المجالات الفقهية التي تعتمد على الرجوع إلى النصوص والاستهداء بنور الوحي المعصوم، والتي يستشعر كل طرف فيها أنه مسئول أمام ربه عن تحقيق مقصود الشارع وأن لا يسعى في إبطال هذا المقصود بتحيل أو بتأويل، وأنه إن فعل كان فيه شبه من اليهود الذين أبطلوا بالحيل مقاصد شريعتهم، وله نصيب مما وعدوا به بحسب جرأته على ربه ومراغمته لمقاصد شريعته.

أما ما ذكرت من قدسية الدين وحرمة الشريعة فإن هذا يتحقق باتفاق الأمة كلها على الثوابت والمعلوم بالضرورة من الدين، كما يتحقق بتحري مقصود الشارع في الظنيات وموارد الاجتهاد، وأن يبذل كل واحد من الأمة جهده للتعرف على الحكم الشرعي في هذه المسائل ليحمل نفسه على الاستقامة عليه، وإن اتفاق الجميع على تحري مقصود الشارع والالتزام به يجعل هذا الخلاف راجعا في الحقيقة إلى معنى الوفاق.

إن حقيقة التكليف إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لمولاه، وهذا يتحقق بالكف عن الاسترسال مع الهوى وتحكيم العقل المجرد، والدخول تحت طاعة التكليف، وإسلام النفس لأمر الله عز وجل تقلبها شرائعه يمنة ويسرة كما أراد الله، وتكون معها كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد، بهذا القدر يتحقق معنى العبودية، وسواء عليه أأخطأ بعد ذلك أم أصاب، لأن جوهر التزام الطاعة لأمر الله عز وجل وهو الخروج عن داعية الهوى قد تحقق بمجرد التحاكم إلى الشرع والتحري لمعرفة حكم الله باجتهاد أو تقليد سائغ، وداخل هذا الإطار يستوي المصيب والمخطئ في العذر، وينفرد المصيب بأجرين والمخطئ بأجر واحد، ولهذا كان من تحاكم إلى الشرع فأخطأ خير ممن تحاكم إلى الهوى فأصاب.

 كيف تتأتى هذه الصورة الأخيرة؟

قد تعرض مثلا قضية سرقة على قاض مسلم فيردها إلى الشرع ثم يخطئ في تحقيق المناط فلا يقطع يد السارق ويقضي له بالبراءة لشبهة رآها معتبرة وهي في الحقيقة غير معتبرة، وقد ترفع القضية نفسها إلى قاض آخر فيجتهد بعقله أنه لا يقطع دابر السرقة عن المجتمع إلا عقوبة غليظة رادعة فيسلمه اجتهاده الشخصي إلى قطع يد السارق فيقطعه، من حيث الظاهر نرى أن الأول قد أخطأ وأن الثاني قد أصاب  ولكن خطأ الأول الذي تحاكم إلى الشرع خير من صواب الثاني الذي تحاكم إلى الهوى، ولهذا قالوا: من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ وإن أصاب.

***

 


التطرف والجنائز

 يصادر كثير من المتطرفين حق المصابين في التعبير عن وفائهم لمن رحلوا إلى الدار الآخرة، وذلك بالمنع من إحياء ذكرى الأربعين، أو ذهاب النساء إلى زيارة المقابر في أيام الأعياد لمآنسة الميت وتوزيع الصدقات المعتادة في مثل هذه الزيارات ويضيقون حتى على استئجار المقرئين لقراءة القرآن في ليالي العزاء، زاعمين أن ذلك من المحرمات، إلى غير ذلك من المواقف الإرهابية الشاذة التي تزيد لوعة المصابين، وتحرم الموتى من الرحمات التي تزف إليهم في هذه المناسبات، فكيف ترى الموقف الشرعي السديد في ذلك كله، وأين موقف هذه المعاني في ميزان الاعتدال أو التطرف؟

لا خلاف بين أهل العلم على انتفاع الموتى بالدعاء و بالصدقات، وقد ثبتت في ذلك النصوص الصحيحة الصريحة، وانعقد عليه إجماع أهل العلم، وليس هذا هو محل النزاع أيها العزيز، ومن أراد أن يبر ميته فهذه الأبواب مفتوحة على مصراعيها لمن شاء.

إحياء ذكرى الأربعين:

أما ما ذكرت من إقامة مأتم الأربعين فهو بدعة سيئة فرعونية الأصل لا أصل لها في الدين، فهي لم تكن في عهد النبوة ولا في عهود الصحابة والتابعين، ولم تكن معروفة عن جماهير المسلمين إلى وقت قريب، وفيها من إضاعة الأموال، وتجديد الحزن على الميت ما يؤكد نكارتها ويدعو إلى نبذها، وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى في هذا الصدد عام 1947م تبين بدعية هذا العمل وتدعو الأمة إلى الابتعاد عنه.

ومما هو جدير بالذكر أن مفتي مصر الأسبق الشيخ حسنين مخلوف - رحمه الله - كان قد أصيب بفقد ولده رحمه الله وتساءل الناس من أصدقائه عن ليلة الأربعين المعتاد إحياؤها فأخبرهم بأن إحياءها على هذا النحو بدعة مذمومة لا أصل لها في الدين، وأنه مكتف فيها وفي غيرها من الأيام بما بينه وبين ربه من عمل يرجو ثوابه لمن افتقده، وقد نشر ذلك بجريدة الأهرام في27/7/1947 ثم حررت بعد ذلك فتوى في بيان بدعية هذا الإحياء وسجلت بدار الإفتاء برقم 377 بتاريخ 14/8/1947م ونشرت الأهرام خلاصتها في 12/8/1947م.

ومما هو جدير بالذكر أن المسئولين في السعودية لم يقيموا هذا الاحتفال للملك عبد العزيز إتباعا للسنة  ولما علم الملك سعود بما اعتزم عليه بعض المسلمين في سورية من إقامة مأتم الأربعين في المفوضية السعودية أبى ذلك، وأعلن أنه لا يجوز شرعا بل هو بدعة، وأنه لا يرضي أن تقوم للبدعة قائمة باسم والده، ونقل ذلك مفتي مصر الأسبق الشيخ حسنين مخلوف في كتابه فتاوى شرعية([285]).

كما أفتى بذلك الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية ونبه على أنها بدعة منكرة لا أصل لها في الإسلام، وأنها فرعونية الأصل كانت من تقاليد قدماء المصريين، وحذر المسلمين من العمل بها، وذلك في عدد من الفتاوى والتي نشرت في مجلة الدعوة السعودية وفي غيرها من المجلات العلمية([286]).

زيارة النساء للقبور:

وأما زيارة النساء للقبور فهي من مسائل الاجتهاد، وأهل العلم فيها ما بين مانع ومجيز:

 فأجازها الجمهور شريطة ألا يقترن بها فتنة كالتبرج، أو محرم كالندب والتعديد والنياحة ونحوه، ومن أدلتهم على ذلك:

  ما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر، فقال لها: «اتقي الله واصبري»، ولم ينكر عليها الزيارة، وما رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أن جبريل قال له: «إن الله يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفري لهم»، قالت عائشة: كيف أقول يا رسول الله؟، قال: «قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين المسلمين... الحديث».

وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالموت»، ولحاجة النساء إلى الموعظة كالرجال بل أشد.

 ومنعها بعض أهل العلم لحديث: «لعن الله زوارات القبور»([287])، واللعن لا يكون إلا على أمر محرم  ولأنها ذريعة إلى محرم كالندب والنياحة ونحوه لرقة الدين وغلبة العاطفة عند النساء.

وجمع الجمهور بين الأمرين بأن النهي محمول على ما اقترن بمحرم كالنياحة والندب ونحوه، فيكون المقصود بالنهي هذه المحرمات لا الزيارة في ذاتها، وممن أشار إلى هذا الجمع القسطلاني في الإرشاد، والنووي في المجموع، وابن عابدين في رد المحتار، وقيل أن أحاديث النهي منسوخة أو محمولة على المكثرات من الزيارة، والقدر المحكم عند الجميع هو المنع من هذه الزيارة إذا اقترنت بفتنة أو محرم، ولهذا ذكر البدر العيني في العمدة أن زيارة القبور مكروهة للنساء بل حرام في هذا الزمان لاسيما نساء مصر لأن خروجهن على وجه الفساد والفتنة.

وإذا كانت الفتنة أو المحرمات المقارنة لهذه الزيارة هي علة النهي فإن الحكم يدور معها وجودا وعدما، فينهي عنها إذا خشي اقترانها بهذه المحرمات، ويرخص فيها إذا أمنت.

ومما هو جدير بالذكر أن هذا هو الذي اعتمدته الفتوى الرسمية الصادرة من دار الإفتاء في هذا الصدد المشار إليها آنفًا.

ولسنا في هذا المقام بصدد الترجيح بين الآراء في  مثل هذه المسائل الاجتهادية، ولكن قصدنا إلى بيان أن النهي عن زيارة القبور إذا اقترنت بالفتن أو المحرمات قول متوجه، بل هو قول الجمهور، بل هو الذي   نصت عليه الفتوى الرسمية الصادرة من دار الإفتاء المشار إليها سابقا، فكيف يتهم من يعتمد على هذا كله بالغلو والتطرف؟!.

الاستئجار على قراءة القرآن:

   أما الاستئجار على قراءة القرآن للميت فالجمهور على المنع منها وعدم استفادة الميت بها، لأن القراءة التي اختلف في وصول ثوابها إلى الميت وقال الجمهور بوصول ثوابها إنما هي القراءة تطوعا بدون أجر، أما الاستئجار على ذلك فهو غير جائز عند الجميع، إذ ليس هناك ثواب لهذا الذي   قرأ بأجر ابتداء حتى يثور البحث عن مدى إمكانية وصوله إلى الميت ومما هو جدير بالذكر أن المنع من الاستئجار على قراءة القرآن في المآتم وغيرها وتأثيم القارئ والدافع قد صدرت به عدة فتاوى رسمية، منها الفتوى الصادرة عام 1917م([288])، وكان المفتي يومها فضيلة الشيخ محمد بخيت وكان ذلك بمناسبة خلاف نشأ بين قارئ للقرآن في أحد المآتم وبين صاحب المأتم حول مقدار الأجرة، فاستعرض رحمه الله أقوال أئمة أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين في المنع من أخد الأجرة على مجرد التلاوة، وأفتى بتأثيم القارئ والدافع على السواء، ومنها الفتوى الصادرة عام 1942 وكان المفتي يومها الشيخ عبد المجيد سليم([289]).

كما أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية بعدم شرعية القراءة إذا كانت بأجر، وعدم استفادة الميت بها([290]).

 وعلى هذا فإن المنع من إقامة مأتم الأربعين، ومن زيارة النساء للقبور إذا خشي اقترانها بمحرم كالندب والتعديد أو فتنة كالتبرج ونحوه، و المنع من الاستئجار على قراءة القرآن في المآتم هو الرأي الشرعي المعتبر الذي   قال به جمهور أهل العلم وأفتت به دار الإفتاء، فلا يصح نسبة من قال بذلك إلى التطرف

***

 


التطرف في الوسط الطبي

يتحرج كثير من المتطرفين من دراسة الطب ومنهم من يفتي بتحريمها، لما تتضمنه هذه الدراسة من تشريح جثث الموتى الأمر الذي يتنافى بزعمهم مع حرمة الموتى، ومنهم من يتحرج   من التخصص في طب أمراض النساء لما يترتب عليه من التعامل الدائم مع عورات النساء، رغم ما هو معروف من أن التشريح ضرورة علمية لا علاقة لها بانتهاك حرمة الميت،وإن كشف العورات عند الطبيب من المباحات، فكيف ترون هذه المواقف الإرهابية المتعسفة؟.

التشريح:

لا منازعة في أن للإنسان  حرمة يجب أن تصان له حيًا كان أو ميتًا، فقد ورد في بعض النصوص «كسر عظم الميت ككسره حيًا»([291])، وإن كرامة المؤمن التعجيل بدفنه ومواراة سوء ته، بل إن تكفينه ودفنه من الحقوق الواجبة التي تقدم نفقتها على الديون الواجبة، فإن لم يكن له مال فمن بيت المال.

ولكن الشريعة من ناحية أخرى قد أمرت بالتداوي وحثت عليه، وأمرت بإقامة العدل بين الناس وألزمت به، فكل من الطب والقضاء من فروض الكفايات، وقد أصبح من المقدمات الضرورية لتعلم الطب التعرف على تفاصيل الجسم الإنسان ي ودراسته دراسة تشريحية دقيقة، ومن مقتضيات إقامة العدل في بعض الجرائم تشريح جثة القتيل لمعرفة أسباب الوفاة حتى لا يدان بريء أو يفلت مجرم من العقوبة، ولما كان من القواعد المقررة في الشريعة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإن مبنى الشريعة تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، فإن الموازنة بين ما في التشريح من مفسدة انتهاك حرمة الجثة وبين ما يترتب عليه من مصلحة العلاج وإقامة العدل بين الناس، تقضى برجحان هذه المصالح على مفسدة انتهاك الجثة، ولما كان الأمر كذلك كان الراجح أنه إذا تعين التشريح وسيلة إلى تحقيق هذه المصالح فهو مشروع بل لا يبعد القول بوجوبه باعتبار أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، على أن يبقى معلومًا أن هذا الترخص يستند إلى أحكام الضرورة، والضرورة يجب أن تقدر بقدرها،  وأن لا يتوسع فيها على قدر الحاجة، وأن يسعى في إزالتها بحسب الإمكان.

وقد نص كثر من الفقهاء على جواز شق بطن الميت لإخراج ما ابتلعه في بطنه من مال ولو كان قليلًا حتى قدره بعض المالكية بنصاب القطع في السرقة وهو ربع دينار، ولا وجه للمقارنة بين المصالح المترتبة على التشريح والمصلحة المترتبة على استخراج ربع دينار ابتلعه الميت قبل موته، فإذا ترخصنا في هذه الأخيرة فإن التشريح أولى بالترخص بلا نزاع.ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية قد أصدرت عدة فتاوى رسمية بمشروعية التشريح رعاية لهذه الضرورات وذلك منذ عام 1937م، وممن أفتى بذلك من المفتين الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ حسنين مخلوف([292]).

وحملوا النص الوارد في أن كسر عظم الميت ككسره حيا على أن ذلك إذا لم يكن الكسر لحاجة ماسة   أو لمصلحة راجحة. على أننا نذكر أنه إذا أمكن الاستعاضة عن تشريح أجساد الموتى ببعض الأجساد الصناعية وكانت تحقق نفس الغرض تعين المنع من التشريح لانتفاء الضرورة في هذه الحالة ورجع إلى أصله من الحرمة.

من هذا العرض يتبين لنا أن المسألة من موارد الاجتهاد، وإن كان الواضح فيها هو الترخص بقدر الحاجة، ويبقى الرأي الآخر نوعًا من الاحتياط.

والورع يجوز لشخص أن يلزم نفسه به إذا قدر انتفاء الضرورة التي يستند إليها في هذا الترخص نظرا للكثرة الكاثرة في عدد الأطباء والتي تجاوزت الحاجة أضعافًا مضاعفة، ولكن ليس له أن يحمل على ذلك الآخرين، فإن شنع عليهم أو صادر اجتهاداتهم فقد جنح إلى الغلو والتطرف.

التخصص في أمراض النساء للرجال:

أما الكشف على عورات النساء عند المعالجة فلا يخفى أن الأصل هو حرمة النظر إلى عورات النساء وخاصة العورات المغلظة،وإن إباحة النظر عند التطبيب يستثنى من هذا الأصل، وقد ازدهرت دراسة الطب في هذا العصر وكثر الراغبون فيها من الجنسين،وأصبحت مطمحًا لكثير من الدارسين والدارسات  فيتعين في هذه الحالة أن ترسم السياسة الطبية بحيث يستقل النساء بالتخصص في طب النساء في المستقبل، ولا حاجة لدخول الرجال في هذا المجال،وإلى أن يتم ذلك فلا بأس بمزاولة هذه المهنة للرجال للضرورة، على أن الورع يقتضي في كثير من البلاد التحوط والبعد عن هذا التخصص بالنسبة للرجال لوجود البديل و انتفاء الضرورة، فمن أخذ نفسه به فما هو عليه بملوم، ومن حث على ذلك غيره فما هو بملوم كذلك، لأنه يحث على تصحيح أوضاع خاطئة، لاسيما مع وفرة الأعداد من كلا الصنفين، لكنه لا ينبغي أن ينكر على من  يرى الترخص في ذلك استنادًا إلى قاعدة الضرورة  أو المصلحة الراجحة.

ومن غرائب ما شاهدناه في واقعنا المعاصر أن جامعة تقر الفصل بين الطلبة والطالبات في كلياتها وتخصص لكل منهما مستشفى للتعليم  والعلاج كانت توكل إدارة المستشفى الخاصة بالطالبات إلى رجل في الوقت الذي توكل إلى زوجته إدارة المستشفى الخاص بالرجال،  ولله في خلقه شئون!.

***

 


التطرف والعبادات

 يبالغ كثير من المتطرفين في التشدد في أداء كثير من العبادات، من ذلك على سبيل المثال إنكارهم على الجهر بالنية عند افتتاح الصلاة، وإطالة الانتظار بين الآذان والإقامة بصورة تدعو إلى الملل وتنفر من العبادة، وإطالة القراءة في الصلاة حتى أوشك الناس أن يهجروا الصلاة في مساجدهم، فإن ذهبت تجادلهم في ذلك أجابوك بأنها السنة! رغم ما نعلمه من أمر السنة بالتخفيف رعاية لمصالح المواطنين المرضى والضعفاء فكيف ترى هذه التشددات؟ ألا تقر أنها من قبيل التنطع في الدين؟

الجهر بالنية:

أما الجهر بالنية في الصلاة فلا يوجد في  حديث صحيح أو حسن أو ضعيف أو موضوع، ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال بمشروعيته حتى نقل عن بعض أهل العلم أنه قال: إننا نمهل القائلين بالجهر بالنية في الصلاة عمر نوح حتى يأتونا بدليل يدل على ذلك من أدلة الشرع المطهر.

 نعم قد وقع النزاع في التلفظ بالنية سرًا، وأهل العلم فيه على قولين: منهم من استحب التلفظ بها وهم طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وأحمد ومنهم من أنكر ذلك وهو الظاهر الذي تؤيده الأدلة.

فكيف يكون من أنكر الجهر بالنية متنطعًا في الدين، وهو الأمر الذي يوافق الأصل المعهود عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين والأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين؟.

الانتظار الممل!!:

أما إطالة المدة بين الآذان والإقامة فإنها تحدد  في ضوء المقصود من الأذان، فالأذان إعلام بدخول الوقت حتى يتأهب الناس للصلاة بقضاء الحاجة والوضوء والذهاب إلى المسجد،فالمدة التي يقضي فيها الرجل حاجته ويتوضأ ويذهب إلى المسجد هي المقياس العدل لهذه المدة،ويستحسن الاتفاق على ذلك ببرنامج زمني يكون معلومًا للكافة حتى لا يحدث نزاع، لقد رأينا في بعض المناطق جدولًا يبين وقت الأذان و وقت الإقامة لكل صلاة، وأصبح هذا شائعًا معروفًا لدى الكافة، وأصطلح الناس عليه، فمن أراد أن يبكر بالمجيء إلى المسجد لينال فضيلة انتظار الصلاة ويتمكن من أداء السنة فبها ونعمت ولا يزال العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، ومن أراد أن يأتي على ميعاد الإقامة مباشرة وسعه ذلك والأمر في ذلك واسع.

تطويل القراءة:

أما إطالة القراءة في الصلاة فلا يخفى أن الأصل فيمن صلى بالناس أن يخفف فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة وأن من صلى منفردا فليطول لنفسه ما شاء، وقد صرحت بذلك السنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم،فقد روى البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم و الكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء»، وأخرج عن أبي قتادة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه»، وعندما شكا إليه رجل أنه يتأخر عن صلاة الفجر مما يطيل فيها فلان غضب صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا وقال: «يا أيـها الناس إن منكم منفرين!! فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة».

ولقد عنون المحدثون بهذا المعنى في كتبهم وعقدوا له أبوابًا خاصة، فقد عنون البخاري فقال: (باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)، وعنون مسلم فقال: (باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام)، وعنون الترمذي فقال: (باب ما جاء إذ أم أحدكم بالناس فليخفف)، وعنون أبو داود فقال: (باب في تخفيف الصلاة)، وعنون النسائي فقال: (ما على الإمام من التخفيف).

إلا أن هذا التخفيف أمر نسبي، و كما يستهدي فيه بطاقات الناس وقدراتهم يجب أن يستهدي فيه قبل ذلك بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، فإن هذا هو معيار التخفيف، و إلا فما كان للنبي صلى الله عليه  وسلم أن ينهى أصحابه عن أمر ثم يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، فالذي فعله صلى الله عليه وسلم هو التخفيف الذي أمر به، وقد كان يمكن أن تكون صلاته صلى الله عليه وسلم أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، وقد روي النسائي وغيره عن ابن عمر قوله: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات»، فعلم أن قراءة الصافات من التخفيف الذي أمر به. وكان صلى الله عليه وسلم يطيل قراءة الظهر أحيانًا حتى قال أبو سعيد: «كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ، ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الركعة الأولى مما يطيلها»([293]).

ولا منازعة في ضرورة التدرج بالناس وسوقهم إلى الله برفق، لأن الرجل قد يفعل المفضول بل قد يترك السنة أحيانًا رعاية لمصلحة التأليف واجتماع الكلمة، وهذه حكمة الدعوة التي يرزقها الله من يشاء من عباده، وإنما قصدنا أن ننبه على المفهوم الصحيح للأحاديث الواردة  في التخفيف وأنه لا يرجع فيه فقط إلى ما يشتهيه المأمومون، بل لابد فيه من مراجعة هديه صلى الله عليه وسلم كذلك لنتعرف على حقيقة التخفيف المقصود في هذه الأحاديث، لاسيما إذا عرفنا أن مورد حديث: «أفتان أنت يا معاذ » وتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقرأ في العشاء سورة والشمس وضحاها وسورة الأعلى وسورة الغاشية كان بعد أن قرأ بهم في العشاء سورة البقرة وهي نحو من جزءين ونصف جزء([294])، وأن الموازنة بينهما هي الحكمة التي يفيض الله بها على من يشاء من عباده!.

صلاة العيد في الخلاء:

 من البدع التي أشاعها المتطرفون في هذا العصر بدعة الخروج إلى الخلاء لصلاة العيد وهو الأمر الذي لا عهد لنا به من قبل، ولا وجه لقبوله عقلا لما هو مقرر من أن المساجد هي بيوت الله  وهي أفضل الأماكن لأداء الشعائر، فما تعليقكم على هذه التقليعة الجديدة؟.

صلاة العيد في الخلاء هي السنة  الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لأداة صلاة العيد بالمصلى خارج المدينة، ولم يصل العيد بالمسجد إلا مرة لعذر المطر، وهو مما تلقته الأمة بالقبول، وتتابع المسلمين على العمل به على مدار القرون، ولقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى رسمية في عهد الشيخ حسن مأمون تبين أن ذلك هو السنة عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد([295])، كما أقرت ذلك وزارة الأوقاف مؤخرًا، وحددت الأماكن التي تؤدى فيها هذه الصلاة في الخلاء.

فكيف يجترئ مسلم على تسمية هذه السنة التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده  والمسلمون في مختلف القرون وأفتى بها ثلاثة من الأئمة وصدرت بها الفتاوى الرسمية، كيف يجرؤ على تسميتها تقليعة ؟ ونسبة أصحابها إلى التطرف والابتداع؟! .

أما كون هذا من السنن المهجورة  فما أكثر ما هجر الناس من شرائع الإسلام في هذا العصر؟!.

ولا ينبغي لعاقل أن يجعل من شيوع المخالفات دليلا على مشروعيتها، ولا من هجر السنة دليلا على بدعيتها فإن هذا القول حري بأن ينتهي بأصحابه إلى دين آخر لا صلة له بالإسلام !!.

أما ما تذكر من أن صلاة العيد بالخلاء لا وجه لقبولها عقلا فإن هذا القول هو الذي لا وجه لقبوله لا عقلا ولا شرعا وذلك لما يلي:

 أولًا:  أن العبادات توقيفية لا مدخل فيها للقياس ولا لاستحسانات العقول.

وثانيًا: لأن أداء هذه الشعيرة بالخلاء لا يتعارض مع العقل بل العكس هو الصحيح فإن من سنة العيد أن يشهده الجميع رجالًا وأطفالًا ونساء، حتى الحيض من النساء يشهدن الخير ودعوة المسلمين وإن كن يعتزلن المصلى، والمساجد لا تتسع لمثل هذا الجمع الحاشد، ولا مكان فيها للحيض، ويجب أن تصان عن ضجيج الأطفال وعبثهم، فاجتماع الناس في مكان مفتوح يتسع للجميع، ويجد فيه الأطفال والنساء مجالًا للمشاركة في فرحة هذا اليوم هو الذي تستحسنه العقول إن كان للعقول مدخل في هذه المجالات.

 

استعمال المسبحة.

 يشن المتطرفون الغارة على استعمال المسبحة في الذكر، ويرون ذلك نوعًا من الابتداع في الدين، رغم شيوع استخدامها بين العلماء وأكابر المتخصصين في العلوم الشرعية فكيف ترى هذا التشدد؟ وما علاقته بقضية التطرف؟.

الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعقد التسبيح بأصابعه، وقال للنساء: «سبحن بالأصابع فإنهن مسئولات مستنطقات»، كما ورد إقراره صلى الله عليه وسلم على التسبيح بالحصى، فقد كان من الصحابة من يعد التسبيح بالنوى والحصى، ولقد رأى    صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى فأقرها على ذلك.

أما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز على هيئة السبحة المعروفة فهو موضع نظر بين أهل العلم. فمنهم من منعه باعتبار أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه  وسلم ولا كان معروفا في زمانه، بالإضافة إلى ورود بعض الآثار عن بعض الصحابة في الإنكار عليه، كالذي روي عن ابن مسعود أنه رأى امرأة تسبح به فقطعه وألقاها، ومنهم من أجازه قياسًا على التسبيح بالحصى، علاوة على بعض الآثار التي أوردوها في فضل المسبحة وإن كانت جميعًا لا تخلو من مقال  وقد أفرد السيوطي فصلا في كتابه الحاوي لبيان مشروعية السبحة وفضلها.

وممن رخص في استعمالها إذا دعت إلـيها الحـاجة وتجرد التسـبيح بها عن الرياء، شيخ الإسلام ابن تيـمية فقـال: «وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه، فمن الناس من كرهه ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيها النية فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد أو نحو ذلك، فهذا إما رياء للناس أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائىن من غير حاجة: الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة».

وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية فتوى رقم: 2329، في 18/12/1388هـ تنصح فيها بتجنب السبحة، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عقد التسبيح بالأصابع لعدم ورود دليل من الشرع يدل على مشروعيتها.

وإذا كانت المسألة على هذا النحو فالأمر فيها واسع من ظهر له رجحان أحد القولين باجتهاد أو تقليد سائغ عمل به ولم ينكر عليه، ومن ظهر له رجحان القول الآخر عمل به ولم ينكر عليه، فلا حرج في المسائل الاجتهادية في ترجيح أحد الرأيين عملًا به، ودعوة إليه، ونقدًا لحجة من خالفه، وإنما الحرج في مصادرة بقية الاجتهادات، ورفعها إلى مصاف القطعيات، والتثريب على المخالف بالهجر والتبديع ونحوه، فهذا الذي ينسب به أصحابه إلى التطرف.

معركة حول الأذان:

 وماذا عن المعارك التي يثيرونها دائمًا في القرى الأرياف حول زيادة الصلاة والسلام على رسول الله في أعقاب الأذان؟!.

الثابت في كتب السنة أن الأذان ألفاظ محددة أولها: الله أكبر. وآخرها: لا إله إلا الله، والأصل في العبادات هو التوقيف، وأن الزيادة فيها بدعة  وإحداث في الدين، وهذه الزيادة إن كان يقولها المؤذن بصوت منخفض فذلك مشروع للمؤذن وغيره، لدخول المؤذن في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل مايقول ثم صلوا علي»، أما إن كان يقولها بصوت مرتفع كالأذان فهذا هو موضع النزاع. ولا دليل يدل على مشروعية هذه الزيادة، و هي من بدع الأذان إذ لم تكن معروفة في الامة إلى أواخر القرن الثامن بلا نزاع.

وقد استحدثت هذه الزيادة  لأول مرة سنة 791هـ، في أيام السلطان الناصر في عشاء ليلة  الاثنين فقط، وفي يوم الجمعة، ثم في كل الأوقات ما عدا المغرب في كل الأيام.

ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية قد أصدرت فتوى في عهد الشيخ محمد عبده في تاريخ 14 رمضان 1331هـ، نصت فيها على بدعية هذه الزيادة، كما ينص على بدعيتها كذلك علماء الحرمين الشريفين، وهاهم المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها يؤمون الحرمين الشريفين حاجين ومعتمرين وزائرين  ولا يسمعون في أذانهم هذه الزيادة.

ولكن الذي   يوصى به هؤلاء الشباب وكل من انتصب للدعوة إلى الله أن يعلموا أن اقتلاع الناس عن العادات والمألوفات أمر عسير، وأنه يحتاج إلى روية وسعة صدر وجميل صبر  وأن يعلموا أنه إذا كان حق العلم البيان فإن حق الدعوة التدرج وترتيب الأولويات، لاسيما إذا كان هناك من البدع والمخالفات ما هو أخطر من هذه البدعة، فقد تقرر في الشريعة وترجح لدى كل العقول أنه إذا تزاحمت المفاسد بدئ بدفع أعظمها، وإذا تعارضت المصالح بدئ بتحقيق أكملها  وأن الداعية قد يترك السنة أحيانًا لمصلحة تأليف القلوب، فإن رعاية أصل التأليف أولى من رعاية مثل هذه الفروع، ولهذا كان ابن مسعود يتم  الصلاة في السفرخلف عثمان رضي الله عنه  رغم إنكاره عليه في ذلك، واعتقاده أن السنة هي القصر ولكنه يتم خلفه ويقول: «الخلاف شر» ولأهل العلم في هذا المقام مقالات هامة ترجع كلها إلى أصل جامع، وهو أن المفضول قد يصير فاضلًا لمصلحة راجحة، وقد يسكت الرجل على الإنكار على بعض المنكرات حذرًا مما قد يفضي احتسابه عليها من منكرات أشد، أو رغبة في تأليف القلوب، ودفعًا للخصام والشر، ولذلك ترك  النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء البيت على قواعد ابراهيم  لما في بقائه من دفع الفتن وتأليف القلوب.

فالذي ينكر على هؤلاء إذن أيها العزيز ليس هو هذا الرأي الفقهي في ذاته  فقد رأيت وجهه  ورجحانه، ولكن ما قد يقع من بعضهم من مغالاة في الإنكار على المخالف إنكارًا لا يعتبر فيه بالمال، ولا يوازن فيه بين المفسدة المستدفعة والمصلحة المستجلبة ولا يتدرج مع الناس في حملهم على تغير مألوفاتهم وعوائدهم،  وهذا مرده إلى ضعف الخبرة وقلة التجربة، وغياب أهل البصيرة من العلماء عن مواقع التوجيه والريادة، ليأخذوا بيد هذه الطاقات الشابة، ويستثمروا إمكاناتها ويحسنوا توجيهها  ليجددوا بها الدين علمًا وعملًا،  ويطهروا بها المجتمع مما ران عليه من خرافة وجهل، ورقة في الدين وضعف في اليقين.

إن فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد هو فقه هذه المرحلة التي انتقض فيها كثير من عرى الإسلام، ودرس فيها كثير من آثار النبوة. وهو من دقائق الفقه وأغواره التي لا مدخل فيها للعامة  ولا لأشباه العامة، بل يتعين الرجوع فيها إلى الربانيين من أهل العلم الذين فقهوا مقاصد الشريعة، وخبروا واقع الأمة وما يجري فيها ومايراد لها،  ليتعرفوا على درجات المصالح والمفاسد، وليحققوا في مايقع بينها من التعارض قاعدة الشريعة الكلية: تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وهو مورد صعب بل هو مزلة أقدام ومدحضة أفهام، والمعصوم من عصمه الله عزوجل.

***


التطرف وهلال رمضان

 يثير فريق من المتطرفين عددًا من الزوابع كل ما أقبل علينا شهر رمضان، وتجدهم مولعين بمخالفة ما تعلنه دار الإفتاء عن ثبوت شهر رمضان، أو عن ثبوت هلال العيد فتارة يفطرون والناس صائمون، وتارة يحدث العكس فيصومون والناس مفطرون بدعوى عدم ثبوت الهلال لديهم  وأن أجهزة الدولة الرسمية لاتقبل شهادتها في هذه القضية لعدم عدالتها وتأثر قراراتها بالأهواء السياسية. وقد يتجاوز الأمر حدود الموقف الفردي إلى المجاهرة بذلك واستفزاز مشاعر الناس بطريقة تدعو إلى البلبلة وتثير الفتن، فأين هذا كله في ميزان التطرف والاعتدال؟.

وجوب صوم رمضان بشهود الهلال أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا إذا غامت السماء وتعذرت رؤية الهلال مما نطقت به النصوص الصريحة وانعقد عليه إجماع المسلمين، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾([296])، وقال صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا»، وهذا القدر من المتفق عليه ولكن تطبيقه يثيرمسألتين كلتاهما من موارد الاجتهاد:

المسألة الأولي: هل الخطاب الوارد في النصوص هو خطاب لمجموع الأمة بحيث إذا رؤي الهلال في أي جزء من أجزائها فقد لزم الصوم بقية المسلمين؟ أما أن لكل بلد رؤية، والخطاب متوجه إلى أهل كل محلة على حده؟ خلاف بين العلماء.

فاختلاف المطالع حقيقة في ذاته، ولكن اعتبار هذه الاختلاف، وترتيب الأحكام عليه صومًا أو فطرًا هو موضع النظر والاجتهاد، والذي رجحه ابن قدامة في المغني وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى أن رؤية الهلال في بلد رؤية لجميعها، فإذا رآه أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، والاعتبار في ذلك ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد، فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد مسافة أصلًا، وقد ناقش رحمه الله القائلين بأن لكل بلد رؤية وتساءل عن الضابط المعتبر في هذا الخلاف: هل هو مسافة القصر كما قال بعضهم  ومعلوم أن مسافة القصر لا تعلق لها بالهلال، أم هو اختلاف الأقاليم والبلاد بحيث من كان في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر ويتنسك، وآخر بينه وبينه رمية سهم، لايفعل شيئًا من ذلك وهذا ليس من دين المسلمين، لم يبق إذن إلا أن يقال: إن الاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد، فإن شهد شاهد بعد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الإقليم قريب أو بعيد وجب الصوم.

وبهذا يمكن فهم عدم اعتداد ابن عباس رضي الله تعالى عنه برؤية معاوية في الشام لأنها بلغته في وقت لا يفيد، لأن ذلك كان بعد مضي اليوم الأول فلا يثبت في حقهم ولا قضاء عليهم، لأن صوم الناس هو اليوم الذي   يصومونه، ولم يكن عليهم الصيام في هذا اليوم لعدم بلوغ الخبر إليهم في حينه.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فالـصواب فـي هذا ـ والـله أعـلم - ما دل علـيه قوله صـلى الله عليه وسـلـم: «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون»([297])، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد، وجب الصوم، وكذلك إذا شهد برؤية نهار تلك الليلة إلى الغروب، فعليهم إمساك ما بقي، سواء أكان من إقليم أو إقليمين.

والاعتبار ببلوغ العلم بالرؤية في وقت يفيد، فأما إذا بلغتهم الرؤية بعد غروب الشمس، فالمستقبل يجب صومه بكل حال، لكن اليوم الماضي: هل يجب قضاؤه؟ فإنه قد يبلغهم في أثناء الشهر أنه رؤي بإقليم آخر، ولم ير قريبًا منهم، الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب، وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول فهو كما رؤي في بلدهم، ولم يبلغهم.

وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول فلا قضاء عليهم، لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه، ولا يمكن أن يصوموا إلا الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال،  وهذا لم يكن يمكنهم فيه بلوغه، فلم يكن يوم صومهم، وكذلك في الفطر والنسك([298]).

ومماهو جدير بالذكر أن المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد بالقاهرة في جمادى الآخر عام 6831 هـ الموافق سبتمبر 6691 م قد قرر قريبًا من هذا الذي قرره شيخ الإسلام في توصياته، فقد جاء في توصيات وقررات الفترة الثانية لهذا المؤتمر مايلى:

 «يرى المؤتمر أنه لا عبرة باختلاف المطالع وإن تباعدت الأقاليم متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة»([299]).

ولئن كان اختلاف المطالع في هذه الأمة قد ظل معتبرًا على مدى هذه القرون المتطاولة ولم يحدث أن توحدت الأمة كلها في صومها أو فطرها  من قبل - وهو لاشك باب من أبواب التوسعة- فإن مرد هذا كما لا يخفى إلى تنائي الديار وتباعد الأقطار، وعدم وجود وسائل المواصلات التي تنقل الأخبار بين المسلمين على النحو الذي عرفته البشرية في هذه الأيام، وعلى هذا فإن ترك هذه المسألة مرحليًا لعلماء كل بلد يفتون فيها بما يرونه أرجح في النظر كما أوصى بذلك قرار المجمع الفقهي المنعقد بمكة المكرمة الصادر في ربيع الآخر عام 1401هـ لا يتنافي مع السعي لاجتماع كلمة الأمة في ذلك،  وقد زالت المبررات التي، ترخص أهل العلم بسببها في هذا التباين.

والأصل أن يحكم القضاة أو المفتون في كل بلد بثبوت الهلال ليصبح الإلزام به عامًا في هذا البلد سواء بالنسبة لمن رآه أو بالنسبة لمن لم يره، وعلى أهل كل محلة أن يتبعوا ما يقرره علماؤهم في هذا المقام - كما أوصى بذلك كل من مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والمجمع الفقهي بمكة المكرمة -، ولا وجه للطعن في عدالتهم أو القدح في شهادتهم لاسيما مع انتفاء المصلحة في التدليس في هذا الأمر([300]). 

المسألة الثانية: ما هو الهلال أو الشهر الذي علق الشارع على شهوده أحكام الصوم والفطر ونحوه؟، هل هو اسم لما ظهر في السماء وإن لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر؟، أم أن الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟، خلاف بين أهل العلم.

فمن قال بالأول أوجب الصوم على من رأى الهلال وحده، لأن تلك الليلة هي من رمضان في نفس الأمر وإن لم يعلم ذلك غيره، ومن قال بالثاني قال لا يصوم إلا مع الناس، لأن الشهر هو ما اشتهر لا ما رآه فرد أو قليل من الناس، والهلال هو مايستهل به الناس لا ما انفرد برؤيته فرد منهم، وحيث لم يثبت ذلك فإن ميقات الصوم لم يدخل بعد.

وقد رجح هذا الثاني كثير من أهل العلم اعتبارًا لقوله صلي الله عليه وسلم: «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون»، أي أن المسلم يصوم مع الجماعة ومعظم الناس، واعتبارًا بهلال ذي الحجة، إذ لم يقل أحد من أهل العلم بأن من انفرد برؤية هلال ذي الحجة انفرد أيضا بالوقوف بعرفة  وكان له وحده ميقات إفاضة،  ورمى، ونحر، وتحلل ونحوه وهذه المسألة من تلك.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن انفرد برؤية هلال رمضان أو هلال شوال دون بقية الجماعة ثلاث مذاهب: الأول: أنه يصوم احتياطًا ولا يفطر إلا مع الناس شريطة ألا يستعلن بصومه، وألا يدعو الناس إليه منعًا للفتنة وهو المشهور عن مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة. والثاني: أن يصوم ويفطر سرًا وهو مذهب الشافعي. والثالث: أن يصوم ويفطر مع الناس ورجح رحمه الله هذا المذهب الأخير.

ومما هو جدير بالذكر أن المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية المشار إليه سلفًا قد نص في هذه المسألة على ما يلي: «خبر الواحد ملزم له ولمن يثق به، أما إلزام الكافة فلا يكون إلا بعد ثبوت الرؤية عند من خصصته الدولة الإسلامية للنظر في ذلك»([301]).

وعلى هذا فإن هؤلاءالذين تذكر عنهم أن هم مولعون بمخالفة الجماعة ليس لهم أن يستعلنوا بهذه المخالفة بالإجماع، ولكن هل لهم أن يعملوا في خاصة أنفسهم بهذه الرؤية التي تفردوا بها عن الجماعة أم لا؟، مسألة اجتهادية، ذكر أهل العلم فيها ثلاثة اجتهادات - كما سبق - فقيل أنه يصوم ويفطر سرًا لأن الميقات قد تحقق بالنسبة له، وقيل يعمل بها في الصوم احتياطًا ولا يفطر إلا مع الناس، وقيل لا يعمل بها لا صومًا ولا فطرًا، بل يكون صومه مع الناس وفطره مع الناس، وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما سبق، وأشار إليه الحديث: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون»، وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد فلا يضيق فيها على المخالف، ولا ينسب بسبب ترجيحه لأحد هذه الآراء إلى التطرف أو الغلو.

ومن ناحية أخرى فإننا نؤكد على ماسبق أن ذكرناه من أن ترك الأمر في مسألة اعتبار اختلاف المطالع مرحليًا إلى علماء كل بلد لا يتنافى مع السعي لجمع كلمة الأمة في هذا الأمر صومًا وفطرًا، بحيث إذا ظهر الهلال في أحدها تم إشاعة العلم به على مستوى عامة الأمة، واتخذ ما يلزم لذلك من وسائل البلاغ والاستفاضة، ولتكن مكة المكرمة وهي مهبط الوحي الأول، وفيها بيت الله الحرام، هي ذلك المكان الذي ينطلق منه السعي إلى وحدة الكلمة، فتزود بالمراصد اللازمة ويتواصى الناس فيها بترائي الهلال، فإذا ثبت رؤيته فيها ثبوتًا شرعيًا تم اشاعة العلم به على مستوى مجموع الأمة، ولا يستثنى من ذلك بطبيعة الحال إلا البلاد التي لا تشترك معنا في جزء من الليل فهذه لها أحكامها الخاصة، وبذلك يستشعر المسلمون معنى الأمة الواحدة، ويتجدد في نفوسهم الحنين إلى إعادة وحدتهم الغاربة وعزتهم السليبة!.

إخراج القيمة في زكاة الفطر.

 يتشدد كثير من المتطرفين في المنع من إخراج زكاة الفطر بالقيمة والإصرار على إخراجها طعامًا، ويفتي بعضهم بعدم إجزائها إذا خرجت نقدًا، رغم ما تعلمون من تبدل الظروف، وأنه قد أصبح الأنفع للفقير-  خاصة في المدن - أن يأخذها نقدًا ليشتري بها خبزًا وطعامًا وكساءًا ونحوه، لا سيما وأنه لا يوجد في المدن مخابز خاصة في المنازل لإعداد الخبز، وإنما يعتمد الجميع على ما يشتري من المخابز العامة، وأن الفقير إن أخذها طعامًا ذهب ليبيعها ويأخذ مقابلها نقدًا وهو يبيعها بأقل مما أشتريت به فيقع هذا النفص على كاهل الفقير، ويكون الأحظى له أن يأخذها نقدًا، فهل ترى وجهًا لهذا التشدد أم أنه يلحق بقضية التطرف؟.

الأصل في زكاة الفطر إخراجها طعامًا لما صح من حديث عمر: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل عبد وحر صغير وكبير»، وما صح من قول أبى سعيد الخدري: «كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من زبيب»، واختلف أهل العلم في إخراج القيمة؛ فمنع من ذلك الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد، وأوجبوا إخراج الوارد عينًا إتباعًا للنصوص الواردة في تحديد الشارع لها، وأجاز أبو حنيفة إخراج القيمة، وجعل المزكى بالخيار بين إخراج العين الواجبة عليه أو إخراج قيمتها، لأن المعتبر حصول الغنى، والغنى يحصل بالقيمة كما يحصل بالعين، بل ذهب بعض الأحناف إلى أن أداء القيمة أفضل لأنه أدفع لحاجة الفقير وأكثر نفعًا له، فيستطيع أن يشترى بها في الحال ما يحتاج إليه، وقد تكون حاجته إلى غير الطعام كالثياب ونحوها...، ومنهم من اعتبر الأنفع للفقير مطلقًا، فإن كان الأنفع له القيمة كانت القيمة أفضل، وإن كان الأنفع له الطعام كان الطعام أفضل، وهذا يختلف باختلاف البلاد والأزمان. ولهذا قال محمد بن سلمة:«أيام السعة دفع القيمة أحب إلى، وأيام الشدة دفع الحنطة أحب إلى»، وقال الشيخ محمود شلتوت: «والذي استحسنته وأختاره لنفسي أني إذا كنت في المدينة أخرجت القيمة، وإذا كنت في القرية بعثت بالتمر والزبيب والبر والأرز ونحوها»([302]).

ومما هو جدير بالذكر أن الأصناف التي  وردت في حديث الصدقة كانت تجوز في زمن البعثة جواز الدنانير والدراهم فاجتمع فيها الوصفان الطعمية والثمنية.

 أما في زماننا هذا فقد تخلف عنها وصف الثمنية، ولابد أن يكون هذا الاختلاف موضع اعتبار عند الاختيار والترجيح.

هذا والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية جواز إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل، والمنع منها لغير حاجة ولا مصلحة راجحة.

 قال رحمه الله بعد أن ذكر خلاف الأئمة في هذا الشأن: والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه... إلى أن قال: وأما إخراج القيمة للحاجة أوالمصلحة أو العدل فلا بأس به([303]).

والخلاصة أن هذه المسألة من موارد الاجتهاد، فالأئمة الثلاثة على المنع من إخراج القيمة، وأبو حنيفة وأحمد في أحد الروايتين([304]) على جواز ذلك، وقيد ابن تيمية جواز إخراج القيمة بالحاجة أو المصلحة الراجحة، ومسائل

الاجتهاد لا يضيق فيها على المخالف، من عمل فيها بأحد القولين لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل فيها بالقول الآخر لم ينكر عليه ولم يهجر، وينبغي أن يسعنا ما وسع سلفنا فيه الخلاف، وغاية الأمر فيمن سئل في ذلك أن يقول: المسألة خلافية والراجح عندنا - إن كان من أهل الترجيح - هو كذا، والله أعلم بالصواب، فالتضييق على المخالف في هذه المسائل خطأ، ومصادرة بقية الاراء وتسفيه أصحابها تطرف، والله أعلم.

***


التطرف في عالم الطيران

 لقد امتدت لوثة التطرف الديني إلى عالم الطيران، فنقلت إلينا الصحف مؤخرًا أنباء امتناع بعض الطيارين عن الإقلاع بطائراتهم حتى يرفع ما فيها من الخمور لكيلا يدخلوا فيمن لعنوا في بعض المرويات بسبب حمل الخمر أوالإعانة على شربها!! فما تعليقكم على هذا التمرد العجيب؟.

تحريم الخمر واعتبارها من الكبائر من المعلوم في دين الإسلام بالضرورة، ولم تقصر الشريعة الإثم واللعنة على شارب الخمر فحسب، بل لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها كما صح الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم([305])، وذلك كما لعن في الربا آكله ومؤكله وشاهديه وكاتبه، فكل مااتصل بالخمر صناعة أو تجارة أو إعانة فهو ملعون، واللعن هو الطرد من رحمة الله عزوجل، وكفى به خيبة وخسرانًا.

هذا بالإضافة إلى النصوص العامة التي تنهى عن التعاون على الإثم والعدوان وعلى الركون إلى الذين ظلموا أنفسهم، والتي يتقرر بمجموعها أن من حق المسلم بل من واجبه أن يمتنع عن الإتيان بأي فعل يتضمن إعانة على معصية الله عزوجل.

ومن ناحية أخرى فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أمهات الفرائض في الإسلام، وقد أوجبته الشريعة على الكفاية فإن قام به البعض وحصلت بقيامهم به الكفاية سقط عن الباقين، وإلا أثم الجميع، ولا يخفى ارتباط وجوبه بالقدرة كغيره من سائر التكاليف، ولهذا يجب على السلطان من الأمر والنهي ما لا يجب على غيره لاجتماع كثير من السلطات والصلاحيات في يده، وقد تمهد في فقه الإنكار أن من عجز عن إزالة المنكر فليزل هو عنه وليعتزل مواقعه مالم تعارض ذلك ضرورة ملحة أو مصلحة راجحة، وبناء على ماتقدم به فإن هؤلاء الطيارين قد أحسنوا صنعًا بما قاموا به من الامتناع عن الاقلاع بهذه الطائرات التي تنقل الخمور قيامًا بما أوجبه الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ناحية ونجاة من لعنة الله وسخطه من ناحية أخرى.

إن الطيار هو قائد الطائرة وهو  الذي يقلها بما فيها ومن فيها ليحلق بها في أجواء الفضاء، فهو أصدق من ينطبق عليه وصف - وحاملها - بالإضافة إلى انطباق هذا الوصف كذلك على شركة الطيران وعلى ملاحي الطائرة الذين يقومون بتقديم هذا الخبث، فإذا أعفينا الطيار من المسئولية وهو المسئول الأول عن الطائرة مدة تحليقها في الجو فغيره أولى بالإعفاء، وقد نجد من يقول بحصر المسئولية عن تقديم الخمر في البارات على الممول صاحب المحل فحسب وإعفاء كافة العاملين في إعدادها وتقديمها إلى السكارى. وهو الأمر الذي لم يقل به مسلم  قط.

أما ما يقال من أن ذلك سيلحق أضرارًا بالشركة بسبب تأخير الإقلاع، وأضرارًا بالركاب بسبب تأخير رحلتهم ونحوه فهو لا ينهض مبررًا للمشاركة في هذه الجريمة، فالشركة وإن كنا لا نحب أن تلحق بها الخسائر باعتبارها جزءًا من الاقتصاد الوطني ولكنها آثمة بإقرارها لهذا المنكر على متن طائراتها، وما يلحقها من الضرر بسبب التأخير فإنما مرده في الحقيقة إلى جرأتها على هذا المنكر، وعدم مبالاتها بحدود الله، وهي تحمل شعار دولة تنتسب إلى الإسلام، وينبغي أن ترجع باللوم على نفسها، وأن تطهر أعمالها من فعل هذه المنكرات التي تنجم عنها مثل  هذه الأضرار.

أما الركاب فلا يخفى أنهم لا ذنب لهم في هذه المسألة، إلا أن مثل هذا الضرر قد يحتمل مثله في سبيل الانتصار لحدود الله والغضب لانتهاك حرماته، وهذا هو الشأن في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفريضة الجهاد بصفة عامة، فقد يلحق العامة بعض الأضرار بسببها، ألا ترى أنه في أيام الجهاد تتعطل بعض الواردات وتندر بعض السلع، وتشتد بعض الاجراءات، وقد تغلق بعض المدارس والجامعات لظروف المعركة، وكل هذا مما يحتمل لإقامة مصلحة الجهاد التي هي أعظم من  كل هذه المفاسد.

ومع هذا فإننا نوصي هؤلاء أن يعلموا الشركة سلفًا بموقفهم هذا حتى تدبر البديل إن أبت الانقياد لحكم الله بتجنب هذه المسكرات، فتبوء هي بالإثم، ولا يمتد الضرر إلى بقية المسافرين([306]).


التطرف والأعمال المهنية

يعارض عامة المتطرفين في الاشتغال في بعض الأعمال المهنية التي اتفق الحس العام على قبولها في المجتمع مثل العمل في مجال تصفيف شعر النساء ومشاغل الخياطة الخاصة بالنساء ونحوه متعللين بأن ذلك يتضمن التلبس بالحرام أو الإعانة على معصية، ويتشددون في ذلك تشددًا بالغًا رغم مسيس الحاجة إلى هذه الأعمال، واستقبال العرف العام لها بغير إنكار، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله احسن، فما تعليقكم على هذا الشذوذ؟.

الحلاقة والكوافير:

لا حرج في العمل في مهنة الحلاقة وتصفيف الشعر إن كانت من الرجال للرجال أو النساء للنساء،  فللرجل أن يقوم بهذه الأعمال لرجل مثله أو لطفل صغير، شريطة أن يتجنب النمص وهو إزالة شعر الحاجب لما صح من لعنه صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك أو يطلب أن يفعل به ذلك، وهو حكم عام يستوي فيه الرجال والنساء، قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله النامصة والمتنمصة»، وأن يجتنب التشبه بالنساء لما صح من لعنه صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، ويجوز للمرأة أن تقوم بهذه الأعمال لامرأة  مثلها على أن تتجنب الحلق لأن الحلق مثلة، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وأن تتجنب التشبه بالرجال فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن المرأة الرجلة وهي التي تتشبه بالرجال، و أن تتجنب التشبه بالكافرات لنهيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهن، وبيانه أن من تشبه بقوم فهو منهم، وأن تتجنب النمص لما صح من لعن فاعله والمفعول به ذلك بإذنه كما سبق.

أما تصفيف الرجل لشعر المرأة كهذا الذي يحدث في بلادنا من كوافير النساء أو العكس بأن تقوم المرأة بحلاقة شعر الرجل على النحو الذي يحدث في ديار الكفر في المجتمعات الغربية فهذا الذي لا سبيل إلى حله ولا وجه للقول بمشروعيته، فقد أمر الله المؤمنين بغض أبصارهم، وأمر المؤمنات بغض أبصارهن، ونبهت السنة أن العين تزني وزناها النظر، وأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وأن الرجل على أوسع المذاهب وأكثرها ترخصًا لا يحل له أن ينظر من المرأة إلا إلى الوجه والكفين، وأن الخلوة بالأجنبية من المحرمات، والذي يتحصل من ذلك كله حرمة العمل في هذه المهنة من أحد الجنسين للآخر إلا إذا كان محرمًا لما تستلزمه من الكشف على العورات والفتنة بها نظرًا ولمسًا، وإذا كانت الشريعة قد حرمت النظر إلى الأجنبية فكيف بمس جسدها، والتفنن في تجميلها، مع ما يستتبعه العمل في هذه المهنة من التحمير والتطريف ووضع الأصباغ الجمالية ونحوه، فكيف يليق برجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتي بحل هذه المهنة أو ينسب المعارضين فيها إلى التطرف؟.

 ومما هو جدير بالذكر أن دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ جاد الحق كانت قد أصدرت فتوى رسمية بتحريم العمل في هذه المهنة بالنسبة للرجال جاء فيها: ولما كان الرجل الذي يقوم بتصفيف الشعر لغير زوجة له أو لغير محرم منه إنما يمس جزءًا من جسدها وجب ستره، وحرم الله النظر إليه وبالتالي حرم مسه، كان هذا العمل محرمًا على الرجال وكل عمل محرم يكون كسبه محرمًا، مع أن تحري الكسب الحلال من الواجبات التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في القرآن الكريم([307]).

كما أصدرت فتوى أخرى في عهد الشيخ محمد خاطر بعدم جواز ذهاب المرأة إلى مصفف الشعر لأن شعر المرأة عورة لا يجوز كشفه، ولا نظر الأجنبي إليه، فضلًا عن أن يمسه ويصففه مصفف الشعر جاء فيها: «إنه لا يجوز شرعًا للرجل أن يبيح لزوجته أن تذهب إلى مصفف الشعر أصلًا لأن شعر المرأة عورة لا يجوز كشفه ولا نظر الأجنبي إليه - فضلًا عن أن يمسه ويصففه مصفف  لها - فإن فعلت هذا فقد اقترفت إثمًا كبيرًا وهذا إذا كان مصفف الشعر رجلًا»([308]).

حياكة ملابس النساء:

أما بالنسبة لمهنة الخياطة فالأصل فيها الجواز مع الالتزام بالقواعد الشرعية العامة من عدم الخلوة بالأجنبية، أو عدم مس جزء مما حرم عليه النظر إليه، وعدم الإعانة على معصية ونحوه.

  ماذا تقصد بعدم الإعانة على معصية؟.

أقصد أنه لا يجوز تفصيل الملابس القصيرة لمن علم أنها ستتبرج بها من النساء، فهناك من الملابس ماهو مخصص للاستعمال خارج المنزل،  فهذا النوع من الملابس لا يجوز تفصيل القصير منه لأنه يمثل إعانة مباشرة على معصية الله أما ما كان يستخدم داخل البيت وخارجه فالأمر فيه أوسع، وإن كان الورع تركه بالنسبة للمتبرجات، أما الملابس الخاصة بالمنزل فلا حرج فيها على الإطلاق.

فهناك إذن ثلاثة الأنواع من الملابس: ماكان خاصًا بالاستخدام خارج المنزل، وما كان خاصًا بالاستخدام داخله وما كان مشترك الاستعمال بين الداخل والخارج.  فالأول لا تجوز حياكته إلا إذا كان سابغًا ساترًا للعورة، والثاني تجوز حياكته في جميع الأحوال، والثالث إن كان لامرأة محجبة فهو جائز بلا نزاع لما يغلب على الظن من استخدامه في حدود المباح، وإن كان لامرأة متبرجة فهو من المتشابهات لا يضيق فيه ضيق النوع الأول، فقد يستخدم في حدود المشروع، ولا يطلق القول بجوازه إطلاق النوع الثاني، فقد يستخدم الاستخدام الحرام، والعبرة فيه لما غلب على الظن، ومن قوي على تركه فذلك الورع الذي يستبرئ به لعرضه ودينه!!([309]).

أما ما سميته بالحس العام أو العرف العام وقبوله المطلق لهذه الأعمال فلا يخفى عليك أن الحس العام ليس مصدرًا من مصادر التشريع، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والمشروعية العليا في دار الإسلام للكتاب والسنة لا غير.

وكم من أمور قبلها العرف العام في هذا العصر أو هكذا يتوهم الناس وهي من مساخط الله جل وعلا، أرأيت إلى المحاكم الوضعية والملاهي الليلية وسائر المنكرات التي جاهر بها الناس في واقعنا المعاصر؟، إن أرتال البشر يمرون عليها مصبحين وبالليل، وكثرة الإمساس تفقد الإحساس كما يقولون، فهل يعني سكوت الناس عن هذه المنكرات قبولهم لها؟ وهل يعني قبولهم لها تحولها من دائرة الحرمة إلى دائرة الإباحة؟.

أما ما ذكرت من أن ما يراه المسلمون حسنًا فهو عند الله أحسن فإنه مشروط بعدم مصادمة الشرع، أما إذا فسدت هذه الرؤية وأصبح الناس يرون المعروف منكرًا والمنكر معروفًا فهل يعني هذا تبدل حقائق الشرع؟ أو أن الحلال والحرام تابع لأهواء البشر؟!.

 إن الأمر إذن بالغ التعقيد والصعوبة!

ولهذا كان القابض على دينه في هذا الزمن كالقابض على الجمر، وكان للمتمسك بمثل ما تمسك به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجر خمسين منهم، ومع ذلك فإنه ليسير على من يسره الله عليه كما قال تعالى:﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾([310]).

العطر المسكر:

يذهب كثير من المتطرفين إلى القول بحرمة كافة البرفانات التي تحتوي على نسبة من الكحول بحجة أن ذلك يدخلها في دائرة الخمر المحرمة، رغم أن هذه العطور لم تجعل لتكون شرابًا، ولابد لها من الكحول لإصلاحها وإعدادها على الوضع المناسب للاستعمال المعاصر؟، فما تقولون في مثل هذه المقولات المتخلفة؟.

هذه المسألة من مسائل الاجتهاد، فمن أهل العلم من ذهب إلى القول بحرمة استخدام هذه العطور إذا بلغت نسبة الكحول فيها درجة الإسكار، لأن كل مسكر خمر وكل خمر حرام، والأصل في الخمر هو الاجتناب وهو أشمل من مجرد الشرب، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْـمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([311]).

ومن أهل العلم من قصر التحريم على ما كان ذريعة إلى السكر وهو الشرب عن طريق الفم، أو التعاطي عن طريق الأنف ونحوه، أما بقية الاستخدامات الأخرى للخمر كاستخدامها في الوقود أو إصلاح بعض العطور  فهي على أصلها من الحل لاسيما عند من يرجحون القول بطهارة الخمر وأن نجاستها معنوية.

فالمسألة إذن من موارد الاجتهاد أو من المتشابهات، ليست من الحلال البين ولا من الحرام البين، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن أخذ بالعزائم وتورع فقد أحسن وما هو على ذلك بملوم، وإن ندب غيره إلى ذلك خروجًا من الخلاف فقد أحسن كذلك، ولكن شريطة ألا يصادر بقية  الاجتهادات، وألا يفرض رأيه على الآخرين لأنه لا إنكار في موارد الاجتهاد، ولا يقدح في دين المخالف ولا يقع في عرضه بذلك.

أما من تجاوز ذلك إلى الطعن في الآخرين، والتثريب عليهم بالهجر والإنكار باليد ونحوه في مثل هذه المسائل فهذا الذي قد غلا في دينه وصحت نسبته إلى التطرف.

أما الحكم بنجاسة هذه العطور فهي مسألة اجتهادية كذلك، والأرجح فيها أن نجاستها معنوية كنجاسة الأصنام والكفار وليست نجاسة حسية، فلا يجب غسل ما أصاب البدن أو الثوب منها، والله أعلم.

وأما القول بأنه لابد من الكحول لإصلاح العطور وتهيئتها للاستعمال فهو موضع نظر، إذ لم يتعين الكحول وسيلة لذلك وفي غيره من المواد بدائل ومنادح، ولقد قدمت بعض المحال الإسلامية نماذج من الطيب الخالي من الكحول يلبي الحاجة ويحقق الغرض المنشود بعيدًا عن هذه المتشابهات.

ومما هو جدير بالذكر أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية قد استفتيت في مدى شرعية الروائح العطرية المسماة بالكولونيا المشتملة على مادة الكحول فأجابت بما يلي: «استعمال الروائح العطرية المسماة - بالكولونيا - المشتملة على مادة الكحول لا يجوز، لأنه ثبت لدينا بقول أهل الخبرة من الأطباء أنها مسكرة لما فيها من مادة السبيرتو المعروفة، ولذلك يحرم استعمالها على الرجال والنساء، أما الوضوء فلا ينتقض بها، وأما الصلاة ففي صحتها نظر، لأن الجمهور يرون نجاسة المسكر، ويرون أن من صلى متلبسًا بالنجاسة ذاكرًا عامدًا لم تصح صلاته وذهب بعض أهل العلم إلى عدم تنجيس المسكر، بذلك يعلم أن من صلى وهي في ثيابه أو بعض بدنه ناسيًا أو جاهلًا حكمها أو معتقدًا طهارتها فصلاته صحيحة، والأحوط غسل ما أصاب البدن والثوب منها خروجًا من خلاف العلماء، فإن وجد من الكولونيا نوع لا يسكر لم يحرم استعماله لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والله ولي التوفيق»([312]).

وقد سئل الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية، الشيخ عبد العزيزبن باز عن حكم التطيب بالكولونيا وعن أثرها في الوضوء، فأجاب: «الطيب المعروف بالكولونيا لا يخلو من المادة المعرفة (بالسبرتو)، وهي مادة مسكرة حسب إفادة الأطباء، فالواجب ترك استعماله والاعتياض عنه بالأطياب السليمة.. أما الوضوء منه فلا يجب.. ولا يجب غسل ما أصاب البدن منه لأنه ليس هناك دليل واضح على نجاسته، والله ولي التوفيق»([313]).



([1]) سورة الحجر: 9.

([2]) وطرف كل شيء منتهاه، والتطريف أن يرد الرجل عن أخريات أصحابه فيحوطهم من أطرافهم، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالتلبينة»، وكان إذا اشتكى أحدهم لم تنزل حتى يأتي على أحد طرفيه أي حتي يفيق من علته أو يموت [راجع لسان العرب لابن منظور 9/217].

([3]) يقول الأستاذ حامد سليمان في مقالة له بمجلة آخر ساعة تحت عنوان المتطرفون ما هم: «إن هناك فهمًا مغلوطًا لكلمة التطرف بعد أن أصبحت تقتصر على الجماعات التي تنحو إلى الغلو في فهم أحكام الدين .. والتزمت في تفسيرها .. واستخدام القوة في تنفيذها .. وهذا الفهم المنقوص في رأيي .. يمثل نصف الحقيقة وليس الحقيقة كلها .. ذلك أنه إذا كانت فضائل الدين تقف في الوسط .. وإذا كان (الغلو في الفهم) يعني تطرفًا موجبًا، فإن (التفريط في الفهم) يعني تطرفًا سالبًا، يجب أيضًا أن نهتم به ونلقي الأضواء عليه .. لأن أثره على الدولة والمجتمع قد يكون أشد فتكًا».

إلى أن قال: ولتنشيط الذاكرة فقط .. علينا أن نقارن بين (موقفنا العام) من شاب يرتدي جلبابًا ويطيل لحيته إلى ما فوق (السرة) وفتاة ترتدي الشيبونيز .. وتقصر فستان إلى ما فوق الركبة .. سنلاحظ .. هجوم شديد على الأول .. وتعنيف لفكره .. وسخرية من رجعيته وتزمته وتغاض تام عن الثانية .. والدفاع عن (حريتها) في ارتداء ما تراه .. في مواجهة بعض الناقدين لها .. صحيح أن الأول (تطرف) في فهمه للدين .. ولكن الثانية (فرطت) في تنفيذ تعاليم دينها .. وتحدت تقاليد مجتمعها .. وهذا نوع من التطرف أيضًا كان لابد من مواجهته .. على الأقل حتى لا يفرز لنا –كرد فعل- حادث – متطرفين مغالين في تطبيق تعاليم الدين .. يعطون لأنفسهم حق النهي عن هذا المنكر بالقوة .. ما دامت السلطة المنوط بها هذا الحق غائبة أو نائمة أو متجاهلة لهذا التفريط وهذه الاستهانة .. بحجة أن هذا التصرف هو جزء من (الحريات الشخصية) التي لا يجب التدخل فيها .. بعد أن خضعت هذه السلطات لعملية غسيل مخ (غربي) تم خلالها تمامًا تحويلها إلى مخلوق (علماني) عزلت فيه شئون الدولة .. عن تعاليم الدين وحتى لا تتهم بالتخلف!!.

هذا ولا يخفى أن ارتداء الجلباب وإعفاء اللحية ليس من التطرف في شيء، فاللحية أدنى أحوالها أن تكون سنة وكثير من أهل العلم يرفعها إلى مرتبة الواجب، والجلباب أدنى أحواله أن يكون من المباحات وقد يرتقى إلى مستوى المندوبات عند بعض أهل العلم لما يتضمنه من التحوط في ستر العورة، فكيف يصنف ذلك على أنه من التطرف؟!.

([4]) حديث صحيح: راجع صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 2680.

([5]) ومن هذا النوع أيضًا ورع الوسوسة أو الورع الفاسد كالذي حكى عن بعض المتنطعين أنه رفض بيع آلة الحراثة للفلاحين حتى لا يستعينون بها على الزرع الذي قد يباع إلى الظلمة، وقد يجر ذلك إلى أن لا يباع لهم الطعام حتى لا يتقوون به على هذه الزراعة، وأن يمنعوا من السقاية من الماء العام لنفس الغرض ونحوه، فإن مثل هذه المبالغات فضلًا عن تضييقها على أصحابها قد تفضي إلى زهادة الناس في الدين وتركه كله.

([6]) سورة الأحزاب: 36.

ومما هو جدير بالذكر أن فضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور محمد سيد طنطاوي سئل عن رؤيته لقضية التطرف، فأجاب: «التطرف له مفهوم وهو المغالاة أو الزيادة عما جاء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مغالاة تأباها جميع الأديان، حتى التطرف في العبادات بمعنى أن نكلف أنفسنا فوق ما كلفنا به .. هذا التطرف في العبادات نهى عنه الرسول الكريم وهناك حديث جامع يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، أي فهو مردود على صاحبه».

ثم أورد فضيلته ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه أن ثلاثة من الصحابه أتوا إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها أي عدوها قليلة، وقال أحدهم: وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟، وقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج، فبلغ النبي ذلك؛ فاستدعاهم، وقال لهم: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟»، قالوا: نعم، وما نريد إلا الخير يا رسول الله، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: «ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

ثم عقب فضيلته على ذلك بقوله: «هذا الحديث الصحيح، أخذ منه العلماء أن التزيد في دين الله حرام، كما أن النقص أيضًا حرام، والأمر المطلوب إنما هو التوسط: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، فأنا لا أؤيد التطرف بحال من الأحوال لأنه يتنافى مع شريعة الإسلام التي جاءت باليسر والسماحة، والقرآن الكريم كثيرًا ما يعبر عن اليسر، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ويقول تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾[النساء: 28]، ويقول جل شأنه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج: 78]، فالتطرف بهذا المعنى نحن لا نرتضيه ولا نؤيده، وإنما نريد من أبنائنا ومن شبابنا ومن نسائنا أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وفي سلوكه وفي قوله وفعله، وأن يتأدبوا بأدب الإسلام، الذي بينه لنا القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمـَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل: 125]». =

= ولكننا ومن أجل أن نضع الأمور في نصابها الصحيح علينا أن نقول أن المحافظة على الصلاة ليست تطرفًا، والمحافظة على فرائض الإسلام ليس تطرفًا، والتزام المرأة بالزي الإسلامي ليس تطرفًا، وإطلاق اللحية ليس تطرفًا، إنما التطرف الذي أقصده هو ما كان خارجًا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [مجلة حواء: 21 إبريل 1989م].

([7]) متفق عليه.

([8]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 7520.

([9])  المرجع السابق، حديث رقم: 7521.

([10]) رواه البخاري ومسلم.

([11] ) رواه الدار قطني، وغيره، [جامع العلوم والحكم)، ص: 242].

([12])  المرجع السابق: [راجع صفحة 12 من هذا البحث].

([13]) ومن مقالات من مضى من أهل العلم نذكر:

مقالة شيخ الإسلام ابن تيمية: «والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وإن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد» [مجموع فتاوى ابن تيمية: 20/204].

وقوله في موضع آخر: «وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقيلد شخص ببعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم» [مجموع فتاوى ابن تيمية: 20/208-209].

ويقول ابن القيم رحمه الله: «وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلًا منهم يقلده في جميع أقواله، فلم يسقط منها شيئا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم» [أعلام الموقعين لابن القيم: 2/208].

ويقول ابن أمير حاج في شرحه على التحرير للكمال بن الهمام: «وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك (يعني الالتزام بمذهب معين) بل لا يصح للعامي مذهب، ولو تمذهب به إنما المذهب يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا حنفي أو شافعي وغير ذلك لم يصركذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله، يوضحه أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جدًا عن سيرة إمامه وعلمه بطريقه، فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ عن المعنى، ومن هنا اشتهر قول العلماء العامي لا مذهب له، وأن مذهبه مذهب مفتيه» [نقلًا عن كتاب الفقه الإسلامي لشيخ الأزهر: 167-168].

فتوى الشيخ مخلوف: «الحق الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنه لا يجب عليه ذلك، بل له أن يعمل في مسألة بقول أبي حنيفة مثلًا، وفي أخرى بقول مجتهد آخر للقطع بأن المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة ومن بعدهم كانوا يستفتون مرة واحدًا، ومرة غيره، غير ملتزمين مفتيًا واحدًا، وعلى ذلك لو التزم مذهبًا معين كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي لا يلزمه تقليده في كل مسألة، وقد اختار ذلك الآمدي وابن الحاجب والكمال بن الهمام في تحريره، والرافعي وغيره، لأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب واحد معين من الأئمة فيقلده في دينه، فيأخذ كل ما يأتي ويذر، دون غيره» [فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف: 1/65-66].

فتوى الشيخ الشعراوي: «أما الالتزام بهذه المذاهب فالذي له قدرة على فهم كل النصوص له أن لا يتقيد بمذهب، ولكن بما يهتدي إليه من النص فيرجح ما يرجحه ما دام أهلًا للاجتهاد، وعنده أدوات الاجتهاد من علم بالقرآن وعلم بالسنة، ولكن من لا قدرة له على ذلك فيقلد من يثق في علمه .. ومذهبه مذهب مفتيه» [فتاوى الشعراوي: 10:1 ص: 476].

([14]) الفقه الإسلامي مرونته وتطوره: الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، 166.

فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة: «على المسلم أن يتبع ما جاء عن الله ورسوله إذا كان يستطيع أخذ الأحكام بنفسه، وإذا كان لا يستطيع ذلك سأل أهل العلم فيما أشكل عليه من أمر دينه، ويتحرى أعلم من يتحصل عليه من أهل العلم ليسأله مشافهة أو كتابة، ولا يجوز للمسلم أن يقلد مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، ولا أشباههم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم، وأما انتسابه إلى بعض المذاهب الأربعة المشهورة فلا حرج فيها إذا لم يتعصب للمذهب الذي انتسب إليه، ولم يخالف الدليل من أجله» [نقلًا عن: فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: 62].

([15]) فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة: «على المسلم أن يتبع ما جاء عن الله ورسوله إذا كان يستطيع أخذ الأحكام بنفسه، وإذا كان لا يستطيع ذلك سأل أهل العلم فيما أشكل عليه من أمر دينه، ويتحرى أعلم من يتحصل عليه من أهل العلم ليسأله مشافهة أو كتابة، ولا يجوز للمسلم أن يقلد مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، ولا أشباههم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم، وأما انتسابه إلى بعض المذاهب الأربعة المشهورة فلا حرج فيها إذا لم يتعصب للمذهب الذي انتسب إليه، ولم يخالف الدليل من أجله» [نقلًا عن: فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: 62].

([16]) يقول الآمدي في الأحكام: «العامي ومن ليس له أهليه في الاجتهاد وإن كان محصلًا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع المجتهدين والأخذ بفتواهم عند المحققين من الأصوليين».

([17])  يقول ابن القيم رحمه الله: «ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته في العلم» [أعلام الموقعين لابن القيم: 4/161].

وقال في موضع أخر: «ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري» [المرجع السابق: 4/170].

ويقول الشيخ محمد عبده في معرض حديثه عمن لم تسمح له حاله بالتلقي المباشر من الكتاب والسنة: «فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده للفهم الصواب من الكتاب والسنة فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما، وله بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال» [الإسلام دين العلم والمدنية: للشيخ محمد عبده: 99].

([18]) قال الآمدي في الأحكام: «وأما الإجماع فإنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية ، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعًا على جواز اتباع العامة للمجتهد مطلقًا» [الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 4/226].

وفي المعتمد لأبي حسين البصري: «والدليل على ذلك إجماع الأمة قبل حدوث المخالف، فإن الصحابة ومن بعدهم كانوا يفتون العامة في غامض الفقه، ولا يعرفونهم أدلتهم ولا ينهونهم عن ذلك، ولا يلزنموهم سؤالهم إياهم، ولا ينكرون عليهم اقتصارهم على مجرد أقاويلهم» [المعتمد لأبي الحسين البصري: 2/934-935].

بل يذهب الشاطبي في الموافقات إلى أبعد من هذا، فيقول: «فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم البته، وقد قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمقلد غير عالم فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشرع» [الموافقات: للشاطبي: 4/292-293].

([19]) سورة طه: 44.

([20]) سورة يوسف: 40.

([21]) سورة التوبة: 31.

([22]) سورة النساء: 65.

([23]) رواة البخاري.

([24]) راجع: مجمع البحوث الإسلامية تاريخه وتطوره: 439-440.

([25]) راجع: قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى لعام 1398 هـ حتى الدورة الثامنة عام 1405 هـ (56).

([26]) نقلًا عن كتاب: حرمات لا حقوق: للمستشار على جريشة: 140.

([27]) سورة طه: 123-126.

([28]) سورة المائدة: 66.

([29]) سورة  الطلاق: 8-9.

([30]) سورة يوسف: 111.

([31]) سورة الأنعام: 114.

([32]) ويقول ابن القيم رحمه الله: «وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإن حاجتهم إلى من يبلغ عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به» [نقلًا عن كتاب الأحزاب السياسية: لصفي الرحمن المباركفوري، ص: 20].

([33]) سورة يوسف: 40.

([34]) سورة الأنعام: 114.

([35]) سورة التوبة: 31.

([36]) سورة الأنعام: 121.

([37]) يقول ابن كثير في تفسيرها: «إن أطعتموهم إنكم لمشركون، أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك» [تفسير ابن كثير 2/171].

([38]) سورة الأعراف: 54.

([39]) سورة طه: 50.

([40]) سورة الشعراء: 78.

([41]) سورة الأعلى: 2-3.

([42]) سورة القمر: 50.

([43]) سورة يس: 82.

([44]) سورة السجدة: 24.

([45]) سورة غافر: 29.

([46]) ومما هو جدير بالذكر أن التقرير الذي أعدته اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإسلامية بالأزهر قد جاء فيه أن القوانين الوضعية المطبقة حاليًا تتضمن أقسامًا ثلاثة:

أ- قسم منها مصدره الشريعة الإسلامية الغراء ومطابق لأحكامها فلا حاجة بنا حاليًا لإعادة تقنينه.

ب- قسم آخر لا يخالف رأيًا مقطوعًا به حكم فيها ولا حاجة بنا بالتالي حاليًا لإعادة تقنينه كذلك.

ج- وقسم ثالث وأخير ينقسم بدوره إلى فرعين:

أولهما: يقتضي الحكم بعدم مشروعيته مزيدًا من البحث والتروي، ويتعين من ثم بحثه بحثًا مستفيضًا قبل القطع فيه برأي.

وثانيهما: مقطوع بأنه مخالفة صريحة واضحة للقواعد الأساسية للشريعة الإسلامية قولًا واحدًا وتأتي على رأس القائمة في هذا القسم الحدود الشرعية والربا «ربا الجاهلية» وعقود الغرر.

([47]) يقول الأستاذ «شبرل» عميد كلية الحقوق بجامعة «فينا» في مؤتمر الحقوق سنة 1937م: «إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلم، إليها إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة» [شريعة الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي: 98].

وفي أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في كلية الحقوق بجامعة باريس 1950م، وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية لم يملك أحد الحضور إلا أن يعرب عن دهشته قائلًا: أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلوحه أساسًا تشريعيًا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشتها، مما يثبت خلاف ذلك تمامًا، براهين النصوص والمبادئ.

وفي الختام وضع المؤتمرون بالإجماع هذا التقرير الذي نترجمه فيما يلي: «بناء على الفائدة المتحققة من المباحثات التي عرضت أثناء (أسبوع الفقه الإسلامي) وما جرى حولها من المناقشات التي نخلص منها بوضوح

1. إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة (حقوقية تشريعية) لا يمارى فيها.

2. إن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات، ومن الأصول الحقوقية وهي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها.

بناء على ما تقدم يعلنون رغبتهم في أن يظل أسبوع الفقه الإسلامي يتابع أعماله سنة فسنة، ويكلفون مكتب المؤتمر وضع قائمة بالموضوعات التي أظهرت المناقشات ضرورة جعلها أساسًا للبحث في الدورة القادمة» [شريعة الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي: 101].

ولا نريد أن نستطرد في إيراد هذه الشهادات حتى لا يتشعب بنا الحديث، وحسبنا شهادة الله في القرآن ﴿لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْـمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [النساء: 166]، ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].

[48])) الأحكام السلطانية: 5.

([49]) يقول التفتازاني في متن مقاصد الطالبين: «إنها رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم».

ويذكر الرازي: «أنها رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص».

ويقول الجويني: «الإمامة رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة  والعامة في مهمات الدين والدنيا».

ويقول ابن خلدون في المقدمة: «هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به».

([50]) سورة النساء: 59.

([51]) يقول العز بن عبد السلام: «لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، إلا أن يكره  إنسانًا على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه .. وقد تجب طاعته لا لكونه آمرًا بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع، ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانًا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه فهل له فعله نظرًا إلى رأي الآمر أو يمتنع نظرًا إلى رأي المأمور؟ فيه خلاف، وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به، فإن كان مما ينقض حكمه فلا سمع ولا طاعة، وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع» [قواعد الأحكام: 2/157-158].

ويبين العز بن عبد السلام وجه تفرد الله جل وعلا بهذه الطاعة فيقول: «وتفرد الإله بالطاعة لإختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعًا أولى من البعض، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله، وكذلك لا حكم إلا له فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة، فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة، ولا أن يقلد أحدًا لم يأمر بتقليده، كالمجتهد في تقليد المجتهد، أو في تقليد الصحابة، وفي هذه المسائل اختلاف بين العلماء، ويرد على من خالف ذلك بقوله عز وجل ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾[يوسف: 40]، ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي إلى الحكم» (قواعد الأحكام: 2/158).

([52]) سورة الأحقاف: 20.

([53]) سورة آل عمران: 110.

([54]) سورة المائدة: 78-79.

([55]) تفسير ابن كثير: 2/82.

([56]) أخرجه مسلم.

([57] ) قال النووي رحمه الله: «قال العلماء ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، والله أعلم» [صحيح مسلم بشرح النووي: 2/23].

قال القرطبي رحمه الله: «أجمع المسلمون فيما ذكره ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بالتغيير إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، قال والأحاديث في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا ولكنها مقيدة بالاستطاعة» [القرطبي: 4/48].

وقال إمام الحرمين رحمه الله: «ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله، ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان» [صحيح مسلم بشرح النووي: 2/25].

ويشير الغزالي إلى هذا المعنى في بيانه لشروط المحتسب فيقول: «الشرط الرابع: كونه مأذونًا من جهة الإمام والوالي، فقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية الحسبة، وهذا الاشتراط فاسد، فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكرًا فسكت عليه عصى، إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له» [إحياء علوم الدين: 2/342].

قال القاضي عياض رحمه الله: «هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولًا كان أو فعلًا، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه» [صحيح مسلم بشرح النووي: 2/25].

ويقول ابن العربي: «إنما يبدأ باللسان والبيان، فإن لم يمكن فباليد يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه عنه، وبجذبه منه، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فيتركه، وذلك إنما هو للسطان» [أحكام القرآن لابن عربي: 1/293].

([58]) يذكر الغزالي في الإحياء أن ما فيه الحسبة: «كل منكر موجود في الحال، ظاهر للمحتسب بغير تجسس، معلوم كونه منكرًا بغير اجتهاد» [إحياء علوم الدين: 2/352].

ويقول ابن تيمية: «وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة» [مجموع الفتاوى: 24/173].

ويجعل السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر هذا المعنى قاعدة من قواعد الفقه الكلية فيقول: «لا ينكر المختلف فيه إنما ينكر المجمع عليه، ويستثنى صورًا ينكر فيها المختلف فيه:

أحدها: أن يكون هذا المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطء المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء.

الثاني: أن يترافع فيه لحاكم فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ، إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده.

الثالث: أن يكون للمنكر فيه حق كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح» [الأشباه والنظائر: 158].

([59]) قال ابن العربي تعليقًا على حديث من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده: «وإنما يبدأ باللسان والبيان، فإن لم يمكن فباليد يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه عنه، وبجذبه منه، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فيتركه، وذلك إنما هو للسلطان لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجًا إلى الفتنة، وآيلًا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن يقوى المنكر مثل أن يرى عدوًا يقتل عدوًا فينزعه عنه ولا يستطيع إلا بدفعه، ويتحقق أنه لو تركه قتله، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال، وليخرج السلاح» [أحكام القرآن لابن العربي: 1/293].

قال القاضي عياض: «ويغلظ على التمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرًا أشد مما غيره لكون جانبه محميًا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرًا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده واقتصر على القول باللسان، والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء المحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى» [صحيح مسلم بشرح النووي: 2/25].

وقال إمام الحرمين رحمه الله: «ويسوغ لأحد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان» [صحيح مسلم بشرح النووي: 2/25].

([60]) صحيح الجامع الصغير، حديث: 3675.

([61]) المرجع السابق، حديث: 1100.

([62]) قال الغزالي في الإحياء: «وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على تغيير المنكر أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه، فإن علم أنه يضر معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفاقه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم، لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر، وليس ذلك من القدرة في شيء» [إحياء علوم الدين: 2/347- 348].

([63]) سورة لقمان: 17.

([64]) إحياء علوم الدين: 2/347- 348.

([65]) قال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله، والمدهن فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذونا، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعًا» [رواه البخاري من حديث النعمان بن البشير].

([66])  صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 1974.

([67]) المرجع السابق، حديث رقم: 1973.

([68]) هذه الأحاديث رواها البخاري في الصحيح.

([69]) فيصل التفرقة للغزالي.

([70]) يقول الشاطبي: «ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلًا على ما في الباطن فإن كان الظاهر منخرمًا على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حكم على الباطن بذلك أيضًا، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدًا، والأدلة على صحته كثيرة جدًا، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة» [الموافقات للشاطبي: 1/233].

([71]) سورة النساء: 48.

([72]) سورة الحجرات: 7.

([73]) سورة الأنعام: 82.

([74]) أخرجه البخاري.

([75]) أخرجه البخاري، عن ابن عباس.

([76]) فتح الباري: 1/84.

قال أحمد بن حنبل: «ومن مات من أهل القبلة موحدًا يصلى عليه، ويستغفر له ولا تترك الصلاة عليه، لذنب أذنبه صغيرًا كان أو كبيرًا، وأمره إلى الله عز وجل» [شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/164].

وقال في موضع آخر: «ومن لقيه مصرًا غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» [المرجع السابق: 1/162].

وقال على ابن المديني: «ومن لقيه مصرًا غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له».

وقال أبو زرعة: «ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل» [المرجع السابق: 1/169].

([77]) سورة النساء: 48.

([78]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 2687.

([79]) سورة المطففين: 14.

([80]) سورة التوبة: 105.

([81]) سورة النساء: 94.

([82]) قال الشافعي في الأم: «والإقرار بالإيمان وجهان، فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدعي أنه دين نبوة وكتاب فإذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ فقد أقر بالإيمان، ومتى رجع عنه قتل، ومن كان على دين اليهودية أو النصرانية فهؤلاء يدعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما، وقد بدلوا منه وقد أخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بترك الإيمان به واتباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله.

فقد قيل لي أن فيهم من هو مقيم على دينه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويقول لم يبعث إلينا، فإن كان فيهم أحد هكذا، فقال أحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول وأن دين محمد حق أو فرض وأبرأ مما خالف دين محمد صلى الله عليه وسلم، أو خالف دين الإسلام، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان فإن رجع عنه استتيب فإن تاب وإلا قتل، وإن كانت طائفة تعرف ألا تقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا عند الإسلام أو تزعم أن من أقر بنبوته لزمه الإسلام فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان فإن رجعوا عنه استتيبوا وإلا قتلوا» [الأم للشافعي: 6/158- 159].

وقال القاضي عياض: «اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبيرًا عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بهذا مشركوا العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، فلذلك جاء الحديث الآخر وأني رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة» [صحيح مسلم بشرح النووي: 1/206- 207].

([83]) سورة النساء: 94.

([84]) سورة آل عمران: 154.

([85]) سورة آل عمران: 154.

([86]) سورة المائدة: 50.

([87]) سورة الجاثية: 18.

([88]) سورة القصص: 50.

([89]) سورة الأحزاب: 33.

([90]) يقول ابن كثير رحمه الله: «والتبرج أنها تلقى الخمار على رأسها ولا تشده فيوارى قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج» [تفسير ابن كثير: 3/483].

([91]) سورة الفتح: 26.

([92]) سورة المائدة: 50.

([93]) سورة الأحزاب: 33.

([94]) سورة الفتح: 26.

([95]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 1724.

([96]) يقول الشيخ رشيد رضا في المنار بعد أن تحدث عما يشيع بين العامة من تعلق بالأضرحة والتعاويذ والتمائم ونحوه: «لهذا يمكننا أن نقول: أن الجاهلية اليوم أشد من الجاهلية والضالين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم» [المنار: 1/27].

ويقول في موضع آخر: «إن المسلمين مشوا وراء الأمم كلها في العلم حتى سقطوا في جاهلية أشد من الجاهلية الأولى» [المنار: 1/250].

([97]) سورة الأعراف: 54.

([98]) سورة الأحزاب: 36.

([99]) سورة النساء: 65.

([100]) فتح الباري: 13/339.

([101]) راجع الفتاوى للشيخ محمد متولي الشعراوي: 1-10/226.

([102]) راجع فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف: 2/142.

([103]) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين للشيخ مصطفى صبري: 4/281.

ويذكر الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي بمكة المكرمة أن من مراحل الدعوة إلى الله: «التصدي لدعوى (فصل الدين عن الدولة)، أو (الدين عن السياسة)، بإبطالها، والبيان للناس جهارًا بأن السياسة عصب الدين، وأن الدين لا يمكن له القيام والانتشار وحفظ بيضته إلا بقوة تدين به، وإن هذه الدعوة الآثمة (فصل الدين عن السياسة) في حقيقتها (عزل للدين عن الحياة) ووأد للناس وهم أحياء، وما حقيقة وصل الدين بالسياسة إلا الدعوة إلى الله، وإقامة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على مد الإسلام، وجزر الكفر والكافرين وقهر الفسقة عن المحارم والتهارش حماية لحرمات المسلمين وأوطانهم واستقرار أمنهم، ليكونوا يدًا على من سواهم عونًا على من ناوأهم، وبالجملة ليعيش المسلمون في ظل حماية إسلامية لا في ظل أعدائهم من المشركين والملحدين.

ولن يقوم هذا الدين ولن تتحقق غاياته في الحكم والقضاء ومجالات الحياة كافة إلا بمن يحمل راية التوحيد يصدع الكفر والكافرين، ويقوم عوج الفسقة والمائلين عن الصراط المستقيم، وهذا لا يتأتي إلا بسلطان (ذي شوكة) يدين بالإسلام وعالم يجهر بالبيان، فإذا اجتمع اللسان والسنان من تحتهما جيل الجهاد في دائرة الإسلام كانت الضمانة العظمى لنصرته ونشر الدعوة إليه، وبناء حياة الأمة على هدي الكتاب والسنة، وهذا التلاحم بين الدين والدولة هو حقيقة الوفاء بين الذين آمنوا بربهم سبحانه وتعالى للتجارة معه بيع النفس والمال والولد في سبيله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[ الصف: 10-11]، [حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية: للشيخ بكر أبو زيد: 72-73].

([104]) سورة الحج: 18.

([105]) يقول الدكتور فتزجرالد: «ليس الإسلام دين فحسب ولكنه نظام سياسي أيضًا، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر».

ويقول الأستاذ نيللنو: «لقد أسس محمد في وقت واحد: دينًا ودولة وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته».

ويقو الدكتور شاخت: «على أن الإسلام يعني أكثر من دين: إنه يمثل أيضًا نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معًا».

ويقول الأستاذ جب: «عندئذ صار واضحًا أن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به» [النظريات السياسية الإسلامية: للدكتور ضياء الدين الريس: 28،29].

([106]) ومن عبارته في هذا المقام: «وكم نشعر بظلمة التاريخ وظلمه، كلما حاولنا أن نبحث جيدًا فيما رواه لنا التاريخ عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر فلقبوا (بالمرتدين)، وفي حروبهم تلك التي لقبوها (حروب الردة)» [الإسلام وأصول الحكم: للشيخ على عبد الرازق: 97].

([107]) ويتسأل: أليس من الظلم ظلمهم؟، أليس من الكفر تكفيرهم؟، أليس من الاستبداد حرمانهم من التعبير عن آرائهم ومشاعرهم؟!!.

([108]) وفي حديث أجراه معه الأستاذ أحمد السيوفي المحرر بجريدة الشعب نشر بعددها رقم: 285، في 21/5/1985م، قال الأستاذ خالد محمد خالد: «في رأيي أن الأستاذ فرج فودة قد واجه نفس المأزق الفكري الذي واجهته منذ خمسة وثلاثين عامًا حين ارتأيت يومئذ، وناديت بفصل الدين عن الدولة، وهذا المأزق تمثل في نقطتي ضعف تعرض لهما تفكيري في ذلك العهد البعيد، كما أصيب بهما تفكيره اليوم:

النقطة الأولى: جهلنا الفارق بين الحكومة الدينية والحكومة الإسلامية، ثم تأثرنا الشديد بما قرأناه عن الحكومة الدينية التي كانت تهيمن عليها الكنيسة.

أما نقطة الضعف الثانية في المأزق الفكري الذي واجهه في كتابه، كما واجهته أنا سنة 1950م، فهو أنه جعل بعض المواقف المشجوبة لبعض الذين حكموا تحت راية الإسلام جعل هذه المواقف مصدر تفكيره وأعجب ما تورط فيه الدكتور فرج فودة أنه جعل كل مسالب ومآسي تطبيق الشريعة في السودان مصدرًا لتفكيره ولأحكامه، لا موضعًا للتفكير، كما ينبغي أن تكون».

([109]) راجع في هذه الآثار: أعلام الموقعين لابن القيم: 2/172-175.

([110]) يقول الشاطبي في الموافقات: «إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليدًا له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتدًا بها لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتًا، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين» [الموافقات: 4/170-171].

ويقول الحافظ الذهبي في ترجمة إمام الأئمة ابن خزيمة سنة 311 هـ رحمه الله تعالى: «وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة .. ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه» [سير أعلام النبلاء: 14/374].

([111]) سورة الأعراف: 96.

[112])) راجع جريدة الوفد الصادرة بتاريخ: 6/1/1989م.

([113]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 1724.

([114]) سورة المائدة: 51.

([115]) سورة النساء: 65.

([116]) سورة المائدة: 44.

ويحضرني في هذا المقام كلمة للكاتب الإسلامي عصام العطار يقول فيها: «نحن لم ندخل التاريخ بأبي جهل وأبي لهب، ولكن دخلنا بمحمد وأبي بكر، ولم نفتح الفتوح بالبسوس وداحس والغبراء، ولكن فتحناها ببدر والقادسية واليرموك، ولم نحكم الدنيا بالمعلقات السبعه، ولكن حكمناها بالقرآن المجيد، ولم نحمل إلى الناس رسالة اللات والعزى، ولكن حملنا إليهم رسالة الواحد القهار .. من أجل ذلك نرفض الدعوة إلى القومية ونبذ العالمانية ونطالب الخلافة الإسلامية .. اللهم هل بلغت الله فاشهد» [مؤامرة فصل الدين عن الدولة لمحمد كاظم حبيب: 132-133].

([117]) سورة الأنبياء: 92.

([118]) سورة آل عمران: 103.

([119] ) راجع مجموع فتاوى ابن تيمية: 11/17، 10/370،82.

[120])) فتح الباري شرح صحيح البخاري: 5/330.

([121]) المرجع السابق: 10/353.

([122]) المرجع السابق.

([123]) الاعتصام للشاطبي: 2/8-9.

([124]) الزواجر للحافظ ابن حجر الهيتمي: 194.

([125]) يقول رحمه الله: «إن الطواف لم يشرع إلا حول البيت المعظم تعبدًا لله سبحانه وطاعة، فلم يرد عن الشارع في الكتاب أو السنة نص في الطواف حول غيره، ولم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، وتابعي التابعين، وهم خير القرون أن طاف أحد منهم حول قبر عند زيارته، فلا يجوز الطواف حول القبور، ويجب التزام آداب الزيارة عند حصولها حتى تقع على الوجه المشروع، ولا تقترن بمحرم أو مكروه من الأعمال، كما لا يجوز تقبيل المقاصير والشبابيك، والأبواب، والقباب، والأعتاب، والتمسح بها في الأضرحة والمشاهد، وكل ذلك من أعمال الجاهلية التي يعتقد العامة أنها من باب العبادة أو المبالغة فيها، يتقربون إلى الله ويرجون المثوبة عليها، وما هي في شيء منها، إذ أن العبادة إنما تكون بما شرعه الله وحده في كتابه أو سنة رسوله، وليس للعباد أن يشرعوا فيها ما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم»[فتاوى شرعية: للشيخ حسنين مخلوف: 2/40-41].

([126])مسند أحمد: 6/277.

([127]) سورة الفتح: 25.

([128]) راجع الزواجر للهيثمي: 194،219.

([129]) جاء في المغني لابن قدامة: «ولا يجوز اتخاذ السرج على القبورلقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليها المساجد والسرج" رواه أبو داود والنسائي ولفظة: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أبيح لم يعلن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام» [المغني: لابن قدامه: 2/383].

ويقول ابن عابدين في الحاشية: «أما لو نذر زيتًا لإيقاد قنديل فوق ضريح الشيخ أو المنارة كما يفعل النساء من نذر الزيت لسيدي عبد القادر ويوقد في المنارة جهة المشرق فهو باطل».

([130]) يقول ابن قدامة: «لا يصح نذر الشمع والزيت وأشباهه للأماكن التي فيها قبور، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين عليها المساجد والسرج» [المغني لابن قدامة: 2/383].

ويقول صاحب سبل السلام: «وأما النذر المعروف في هذه الأزمنة على القبور فلا كلام في تحريمه والذي يقبضه يأكل سحتًا».

وجاء في الدر المختار: «واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام تقربًا إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام ما لم يقصدوا صرفها لفقراء الأنام، وقد ابتلي الناس بذلك ولاسيما في هذه الأعصار، وقد بسطه العلامة قاسم في شرح درر البحار، ولقد قال الإمام محمد: لو كانت العوام عبيدي لأعتقتهم وأسقطت ولائي وذلك لأنهم لا يهتدون، فالكل بهم يتعيرون» [حاشية ابن عابدين: 2/439-440].

وعلق ابن عابدين على ذلك في الحاشية فقال: «ولا يخفى على ذوي الأفهام أن مراد الإمام بهذا الكلام إنما هو ذم العوام، والتباعد عن نسبتهم إليه بأي وجه يرام، ولو بإسقاط الولاء الثابت الانبرام، وذلك بسبب جهلهم العام، وتغييرهم لكثير من الأحكام، وتقربهم بما هو باطل وحرام، فهم كالأنعام يتعير بهم الأعلام، ويتبرءون من شنائعهم العظام كما هو أدب الأنبياء الكرام حيث يتبرءون من الأباعد والأرحام بمخالفتهم الملك العلام فافهم ما ذكرناه والسلام» [حاشية ابن عابدين: 2/440].

وعقد ابن عابدين في حاشيته (مطلبًا في بيان بطلان النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام من ذهب أو فضة أو طعام أو شمع ونحوه، وبين انعقاد الإجماع على حرمته، وأنه لا ينعقد ولا تشتغل الذمة به وأنه حرام وسحت).

([131]) يقول الشيخ عبد المجيد سليم في الفتوى الصادرة بتاريخ 25/12/1944م: «مما ذكر يتبين أن نذر العوام لأرباب الأضرحة والتصدق لهم تقربًا إليهم وهو ما يقصده هؤلاء الجهلة - مما ينذرونه أو يتصدقون به حرام بإجماع المسلمين، والمال المنذور أو المتصدق به يجب رده لصاحبه إن علم، فإن لم يعلم فهو من قبيل المال الضائع الذي لا يعلم له مستحق فيصرف في مصالح المسلمين» [مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 122].

ويقول الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي الأسبق: «وصحيح أنك إذا سألت أحد هؤلاء الضالين إن كان يعقتد ألوهية من يقدم القربان إليه استعاذ بالله، واستنكر نسبة الكفر إليه والألوهية لوليه، ولكن أذلك نافعهم بشيء؟ أذلك منقذهم من شائبة الشرك، بل العصيان؟ ما أشبه ما يقدمون من قربان، وما ينذرون من نذر وما يعتقدون من الأضرحه وساكنيها، بما كان يصنع المشركون في الجاهلية، وما يغني عنهم نفي الشرك عنهم بألسنتهم وأفعالهم تنبئ عما يعتقدون من أن هؤلاء الأولياء لهم نافعون، ولأعدائهم ضارون!!» [نقلًا عن: المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية: 1/249].

ويقول الشيخ حسنين مخلوف: «ولا يجوز أن ينذر للولي نفسه كأن يقول: نذرت لفلان كذا، فإن فعل ذلك كان نذرًا باطلًا لا يوفي به» [فتاوى شرعية: 2/42].

ويقول الشيخ عبد الجليل شلبي: «ومن المحاولات الفاشلة قول بعض المعظمين لبعض القبور دون بعض: إن العامي إذا نذر لصاحب الضريح فإنه يقصد النذر لله، ويرد عليه بأنه ثبت بالتجربة المكررة أن العوام إذا قلت لهم: لا تجعلوا النذر إلا لله، ولا تجعلوه لصاحب القبر فإن أحدًا منهم لا يقبل، ويمكن لمن يرتاب في هذا أن يجرب ذلك مع بعض العوام في بلده أو غيره، فإنه سيجد ما لا يسره» [المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية: 336].

([132]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 6841.

([133]) صحيح مسلم بشرح النووي: 7/36.

([134]) ويقول ابن قدامة الحنبلي في المغني: «ويكره البناء على القبر وتجصيصه والكتابة عليه لما روى مسلم في صحيحه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه زاد الترمذي وأن يكتب عليه، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ولأن ذلك من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه» [المغني لابن قدامة: 2/382].

ويقول النووي الشافعي في المجموع: «قال الشافعي والأصحاب: يكره أن يجصص القبر، وأن يكتب عليه اسم صاحبه، أو غير ذلك، وأن يبنى عليه، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو داود وجماهير العلماء» [المجموع شرح المهذب للنووي: 5/298].

وفي المدونة للإمام مالك: «وقال مالك: أكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة التي يبنى عليها (ابن لهيعة) عن بكر بن سوادة، قال: إن القبور لتسوى بالأرض (ابن وهب)، عن ابن لهيعة  عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي زمعة البلوي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أن يصنع ذلك بقبره إذا مات (قال سحنون) فهذه آثار في تسويتها فكيف بمن يريد أن يبني عليها» [المدونة للإمام مالك: 1/189].

وفي حاشية ابن عابدين: «وأما البناء عليه فلم أر من اختار جوازه، وفي شرح المنية عن منة المفتي: المختار أنه لا يكره التطيين، وعن أبي حنيفة: يكره أن يبنى عليه بناء من بيت أو قبة أو نحو ذلك، لما روى جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها"» [حاشية ابن عابدين: 2/237].

([135]) جاء في نص هذه الفتوى: «اعلم أنه يحرم رفع البناء على القبر ولو للزينة، ويكره للإحكام بعد الدفن، بل تكره الزيادة العظيمة من التراب على القبر لأنه بمنزلة البناء، وهو منهي عنه، لما في صحيح مسلم عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه"» [انتهى من الدر المختار وحاشية رد المحتار].

وفي الفتاوى الهندية: «وإذا أوصى بأن يطين قبره أو توضع على قبره قبة، فالوصية باطلة إلا أن يكون في موضع يحتاج التطيين لخوف سبع أو نحوه، أهـ، وبناء على ذلك فإن وضع التركيبتين لا يجوز شرعًا، ومتى يكون ذلك بطل شرط الواقفة شراءهما بالمبلغ الذي عينته، ووجب صرف هذا المبلغ إلى الفقراء، وهذا إذ لم يكن في حجة الوقف التي لم يرسلها المستفتي إلينا ما يقضى بصرفه في جهة أخرى غير الفقراء، والله أعلم» [مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 169].

([136]) أخرجه أبو داوود.

([137]) أخرج البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: فيسقون» [فتح الباري: 2/494].

([138]) «ومن ذهب إلى مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة العز بن عبد السلام، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه» [راجع مجموع فتاوى ابن تيمية: 1/140].

وممن أطلق القول بالجواز الشوكاني في الدر النضيد (5/12)، والألوسي في روح المعاني (6/128).

([139] ) اقتضاء الصراط المستقيم: 327.

([140]) فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف: 2/40-41.

وفي فتوى أخرى حول آداب زيارة القبور يقول: «ومن آداب الزيارة أن يزورها الإنسان قائمًا، مستدبر القبلة، مستقبلًا بوجهه الميت، وأن يسلم على أهل القبور، ولا يمسح القبر ولا يمسه، فضلًا عن أن يقبله، ويدعو عندهم لهم قائمًا بما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من الدعاء عند الزيارة، وأن ينصرف عقب ذلك» [راجع فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف: 2/308].

وفي فتوى ثالثة نشرت عام 1950م، حول بدعة المحمل، وما كان يجري عليه بعض الناس من تقبيل مقود الجمل جاء فيها: «فما شرع الطواف سبع مرات إلا حول بيت الله العظيم، ومن ثم لا يجوز الطواف حول غيره من بيت أو قبر، وما شرع التقبيل إلا للحجر الأسود تعبدًا لله تعالى في الطواف بالبيت، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور من الله بتقبيله لما قبله، ولما قبله أحد من الناس، كما بين ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حديثه المشهور، ولذلك لم يشرع تقبيل غيره من أحجار الكعبة، ولا تقبيل شيء من المسجد الحرام، فيجب أن يقتصر التقبيل على ما شرع فيه، ولا يجوز فيه القياس والتنظير، لأن الأمور التعبدية التي لا تدرك العقول سرها ليست موضعًا للقياس عليها كما بينه أئمة الأصول، ولو ساغ القياس والتنظير في هذا لجاز تقبيل كل شيء في المسجد الحرام بحجة تعظيمه، كالحطيم وبئر زمزم ومقام إبراهيم، مع أن شيئًا من ذلك لا يجوز، ولهذا لا يجوز تقبيل مقود الجمل الذي لا ميزة له على سائر الجمال إلا أنه يحمل الهودج المعروف» [راجع فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف: 1/154].

([141]) سورة الكهف: 21.

([142]) فتح الباري لابن حجر: 3/200.

([143]) صحيح مسلم بشرح النووي: 5/11.

([144]) متفق عليه.

([145]) متفق عليه.

([146]) رواه مسلم.

([147]) رواه أحمد، وأبو يعلي، وأبو نعيم، وغيرهم.

([148]) الزواجر لابن حجر الهيتمي: 194.

([149]) ويقول ابن قدامة في المغني: «ولايجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر مثل ما صنعوا (متفق عليه).

وقالت عائشة: إنما يبرز قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئلا يتخذ مسجدًا، ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها» [المغني لابن قدامة: 2/383].

وكره مالك رحمه الله: «المسجد على القبور، وإذا بني مسجد على مقبرة دائرة ليصلى فيه، فلا بأس به، وكره مالك الدفن في المسجد» [عمدة القاري للبدر العيني: 8/136].

وقال الشافعي في الأم: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقى دينان بأرض العرب» [الأم للشافعي: 1/278].

وفي المجموع للنووي: «واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهورًا بالصلاح أو غيره لعموم الأحاديث، قال الشافعي والأصحاب، وتكره الصلاة إلى القبور سواء كان الميت صالحًا أو غيره، قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام أبو الحسن الزعفراني رحمه الله: ولا يصلى إلى قبر ولا عنده تبركًا به واعظامًا له للأحاديث والله أعلم» [المجموع للنووي: 5/316].

([150]) مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 109-110.

([151]) مجلة منبر الإسلام: رمضان 1410هـ.

([152]) الأم للشافعي: 1/278.

([153]) سورة الكهف: 21.

([154]) سورة الأنعام: 90.

([155]) سورة المائدة: 48.

([156]) قال الشافعي رحمه الله: «وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره والله تعالى أعلم أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجدًا ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد، فكره والله أعلم لئلا يوطأ، فكره والله أعلم لأن مستودع الموتى من الأرض ليس بأنظف الأرض، وغيره من الأرض أنظف» [الأم للشافعي: 1/278].

وقال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم: «قال العلماء إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه والافتنان به، وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية» [صحيح مسلم بشرح النووي: 5/13].

وقال في المجموع: «وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس» [المجموع للنووي: 5/314].

وقال البدر العيني في عمدة القاري: «ومما يستفاد منه أن قوله إنما هذا من باب قطع الذريعة لئلا يعبد قبره الجهال كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم» [عمدة القاري: 8/135-136].

([157]) سورة الأنعام: 116.

([158]) إغاثة اللهفان لابن القيم: 1/170.

([159]) الباعث لأبي شامة: 122.

([160]) قال الشافعي رحمه الله: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى، أو يصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء» [الأم للشافعي: 1/278].

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر، فأجاب: «اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"، وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد بني بعد القبر، فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل، فإنه منهي عنه» [مجموع الفتاوى: 22/194].

وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية بعدم الصلاة في هذه المساجد: «إلا أن الذي يفهم من كلامه أن من خشي فوات الوقت فإنه يصلى فيه لأن مراعاة الوقت مقدمة على جميع الواجبات».

واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد: «فقيل لا تصح بحال وعليه الإعادة، وقيل تصح مع الإساءة، وقد نسبه ابن قدامة في المغني إلى الجمهور، مالك وابي حنيفة والشافعي، واختار ابن قدامة عدم الصحة ووجوب الإعادة، وروى عن بعض الحنابلة التفريق بين من كان عالمًا بالنهي عن الصلاة في هذا الموضع، وهذا لا تصح صلاته، ومن كان جاهلًا، ففيه روايتان بالصح وعدمه» [المغني لابن قدامة: 1/353].

([161]) يقول الخطابي رحمه الله: «وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرًا أو قولًا يدخله شرك» [راجع فتح المجيد: 131].

([162]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 1632.

([163]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 4147، وقال صلى الله عليه وسلم: «العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر»، حديث رقم: 4144.

([164]) سورة الشورى: 11.

([165]) سورة النجم: 36-38.

([166]) سورة الإسراء: 15.

([167]) سورة النور: 31.

([168]) سورة الأحزاب: 59.

([169]) أخرجه البخاري.

([170]) أخرجه أبو داود، والبيهقي، وابن ماجه، والدار قطني.

([171]) أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

([172]) يقول الغزالي: «فإذا خرجت أي المرأة- فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول أن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفين الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقب أو منعوا من الخروج إلا لضرورة» [إحياء علوم الدين للغزالي: 1/738-739].

وقال الحافظ بن حجر: «إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال» [فتح الباري: 9/337].

وقال ابن تيمية: «كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الحرة تحتجب والأمة تبرز» [تفسير سورة النور: 56].

([173]) جريدة مايو 12 نوفمبر 1988م.

([174]) فتح الباري: 13/204.

([175]) المرجع السابق: 9/420.

([176]) أخرجه النسائي، باب بيعة النساء.

([177]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 5045.

([178]) فتح الباري: 13/204.

([179]) راجع: فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: 302.

([180])  الفتاوى للشيخ الشعراوي: 157.

([181]) سورة هود: 121-123.

([182]) متفق عليه.

([183]) رواه البخاري، في باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم.

([184]) أخرجه الترمذي، باب: كراهية الدخول على المغيبات.

([185]) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية.

([186]) سورة البقرة: 219.

([187]) ولقد جاء في فتوى الدكتور يوسف القرضاوي: «إن (التليفزيون) كالراديو وكالصحيفة وكالمجلة، كل هذه الأشياء أدوات ووسائل لغايات ومقاصد، لا تستطيع أن تقول: هي خير، ولا تستطيع أن تقول: هي شر، كما لا تستطيع أن تقول: إنها حلال، أو إنها حرام، ولكنها بحسب ما توجه إليه، وبحسب ما تتضمنه من برامج ومن أشياء، كالسيف، فهو في يد المجاهد أداة من أدوات الجهاد، وهو في يد قاطع الطريق أداة من أدوات الإجرام، فالشيء بحسب استعماله، والوسائل دائمًا بحسب مقاصدها، ممكن أن يكون (التليفزيون) من أعظم أدوات البناء والتعمير الفكري والروحي، والنفسي والأخلاقي والاجتماعي، و(الراديو)، و(الصحيفة) كذلك، وممكن أيضًا أن يكون من أعظم أدوات التخريب والإفساد، فهذا راجع إلى نوعية ما يتضمنه من مناهج وبرامج مؤثرات»[فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي: 694].

وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بشأن التليفزيون، مايلي: «... وأما التليفزيون فآلة لا يتعلق بها في نفسها حكم، وإنما يتعلق الحكم باستعمالها، فإن استعملت في محرم كالغناء الماجن، وإظهار صور فاتنة، وتهريج وكذب، وافتراء وإلحاد، وقلب للحقائق وإثارة الفتن، إلى أمثال ذلك؛ فذلك حرام، وإن استعمل في الخير كقراءة القرآن، وإبانة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر، إلى أمثال ذلك؛ فذلك جائز، وإن استعمل فيهما فالحكم التحريم إن تساوى الأمران أو غلب جانب الشر فيه».

([188]) فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: ص 460.

([189]) الفتاوى للشيخ الشعراوي: 161.

([190]) يقول شيخ الأزهر في معرض حديثه عن هذه القضية لجريدة الوفد: «وإذا كانت قد وقعت حوادث في بعض الجامعات بسبب الرغبة في إقامة أحفال غنائية وموسيقية فإنه ينبغي مراجعة برامج هذه المناسبات، وأن تدور في نطاق ما أباحه الإسلام حتى لا تصبح دور العلم مكان للعبث بالحرمات، والجرأة على المحرمات وإن كان الأولى أن تنزه دور العلم من جامعات ومدارس عن أن تكون مكانًا لمثل هذه الأحفال الغنائية والموسيقية التي لا تخلو غالبًا من مخالفات لقواعد الأخلاق التي أمر بها الإسلام، حيث تطغى في تلك الأحفال النزوات والرغبات على كل القيود والحدود .. وهذا كما سبق من باب سد الذرائع ووضع القدوة الحسنة للطلاب والطالبات، وبهذا نصون مجتمعات الشباب عن كل المتاعب والمصاعب» [نقلًا عن كتاب حقيقة العالمانية: للدكتور يحيي هاشم: 391].

([191]) مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 47-48.

([192]) المرجع السابق: 49.

([193]) صدرت هذه الفتوى بتاريخ 7 من شعبان 1376هـ، الموافق 9 من مارس 1957م، راجع مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 263-268.

([194]) فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف: 2/57.

([195]) أخرجه البخاري، ومسلم.

([196]) فتح الباري: 9/191.

([197]) صحيح مسلم بشح النووي: 9/202.

([198]) فتح الباري: 9/194.

([199]) سورة الروم: 21.

([200]) راجع مجلة منبر الإسلام: عدد شعبان 1410هـ، ص: 97.

([201]) رواه البخاري.

([202]) رواه أبو داود والنسائي، وانظر الفتح (10/527) وآداب الزفاف للألباني، ص 170.

([203]) صحيح مسلم بشرح النووي: 14/88.

([204]) صحيح الجامع الصغير، رقم: 86.

([205]) صحيح مسلم بشرح النووي: 14/93.

([206]) سورة نوح: 23.

([207]) صحيح مسلم بشرح النووي: 14/ 81-82.

([208]) مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 174-175.

([209]) سورة الأنعام: 68.

([210]) سورة هود: 113.

([211]) سورة المجادلة: 22.

([212]) سورة الممتحنة: 7.

([213]) سورة المائدة: 67.

([214]) سورة البقرة: 159.

([215]) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.

([216]) سورة المائدة: 94.

([217]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: 147.

([218]) راجع تفسير المنار لمحمد رشيد رضا: 406-409.

([219]) سورة النساء: 105.

([220]) سورة المائدة: 2.

([221]) فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: 470.

([222]) سورة المائدة: 5.

([223]) مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 378-381.

([224]) فقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم هذه اللحوم المستوردة، فأجاب: «إذا كانت اللحوم المذكورة مستوردة من بلاد أهل الكتاب حل أكلها ما لم تعلم ما يدل على حرمتها لقول الله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ الآية.

وكون بعض المجازر في بعض بلاد أهل الكتاب تذبح ذبحًا غير شرعي لا يوجب ذلك تحريم الذبائح المستوردة من بلاد أهل الكتاب حتى تعلم أن تلك الذبيحة المعينة من المجزرة التي تذبح ذبحًا غير شرعي، لأن الأصل الحل والسلامة حتى يعلم ما يقتضي خلاف ذلك» [فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: 365].

([225]) الفتاوى للشيخ الشعرواي: 31.

([226]) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 1/374-376.

([227]) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لا أعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار»، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئة إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.

وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدًا في مرضه صلوا قيامًا أمرهم بالقعود، وقال: «لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضًا»، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.

وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليه بحسب الإمكان فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة: فإنه يدفع أعظم الفسادين بإلتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما» [مجموعة الفتاوى: 1/375-376].

([228]) سورة البقرة: 275.

([229]) نشرت جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 17/11/1990م، لأحد محلليها الاقتصاديين تحت عنوان: (المديونية العالمية)، ما يلي: «تمثل الديون العسكرية لأمريكا نموذجًا لعدم العدالة في الشروط والقيود تم قبولها بحكم أن الدين معدوم معدوم، فقيمتها الإجمالية الأصلية 455 مليون دولار وعلى الرغم من سداد مصر لأكثر من نصف قيمتها 230 مليون دولار فإن الباقي المستحق للساد يبلغ نحو 7100 مليون دولار وحتى هذا القدر لا يحق لمصر سداده لو افترضنا ندرتها على السداد الفوري لأن الدين يجب أن يستمر قائمًا حتى عام 2006 بقيمة إجمالية 21 مليار دولار وهو ما يجب على مصر أن تسددها حتى لو رغبت في السداد الفوري وهو نموذج من الديون إلغاؤه لا يقبل الكثير من المط والتطويل».

([230]) فقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم في أموال خديجة قبل البعثة، وكان العباس يضارب بأمواله بعد البعثة ويشترط على العامل شروطًا لضمان صيانة المال فبلغ شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجازه،  فالمضاربة مما تعامل به الناس في الجاهلية، وتعامل به المسلمون في زمن النبوة، ولا يزال الناس يتعاملون به في شتي الأعصار والأمصار بغير نكير، وهذا إجماع متعين لأنه نقل عن كافة بعد كافة إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه بذلك.

([231]) الشرح الكبير لأبي الفرج ابن قدامة: 5/116.

([232]) سورة آل عمران: 130.

([233]) راجع مجمع البحوث الإسلامية تاريخه وتطوره: 378-379.

([234]) وذلك كالفتوى الصادرة في 14 مارس 1979م، والتي نصت على أن أذون الخزانة وسندات التنمية التي تصدرها الدولة بمعدل ثابت من باب القرض بفائدة، وقد حرمت الشريعة القروض ذات الفائدة المحدودة أيًا كان المقرض أو المقترض لأنها من الربا المحرم شرعًا بالكتاب والسنة والإجماع.

وكالفتوى الصادرة في 9 من ديسمبر 1979م، وفيها النص على تحريم فوائد شهادات الاستثمار وفوائد التوفير والإيداع بفائدة.

وكالفتوى الصادرة في 10 من يناير 1980م، بشأن إباحة الشهادات ذات الجوائز وفيها التأكيد على تحريم الفائدة على الأنواع الأخرى لشهادات الاستثمار وعلى فوائد التوفير.

وكالفتوى الصادرة في 22 يناير 1980م، وفيها النص على عدم التفريط في حرمة التعامل بالربا بين الأفراد والجماعات أو بين الأفراد والدولة.

([235]) جاء في المغني: «ويجوز استعارة الدراهم والدنانير ليزن بها، فإن استعارها لينفقها فهذا قرض، وهو قول أصحاب الرأي، وقيل ليس هذا جائزًا، ولا تكون العارية في الدنانير، وليس له أن يشتري بها شيئًا، ولنا أن هذا معنى القرض فانعقد القرض به كما لو صرح به» [المغني لابن قدامة: 5/359].

وفي المبسوط للسرخسي: «عارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض، لأن الإعارة إذن في الانتفاع، ولا يتأتى الانتفاع بالنقود إلا باستهلاكها عينًا، فيصير مأذونًا في ذلك» [المبسوط للسرخسي: 11/145].

([236]) أحكام القرآن للجصاص: 2/184.

([237]) سورة النور: 33.

([238]) سورة التوبة: 91.

([239]) راجع كتاب فوائد البنوك هي الربا الحرام، للشيخ القرضاوي، ص: 103، وكتاب لا يا شيخ شعراوي، لمحمد جلال، ص: 53.

([240]) راجع تفسير القرآن الكريم الأجزاء العشرة الأولى، للشيخ محمود شلتوت: 150-152.

([241]) رواه الجماعة إلا البخاري.

([242]) راجع قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي: 43-52.

([243]) جاء في قرارات المؤتمر الثاني لمجمع البحوث ما يلي:

أ- التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمنين لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات: أمر مشروع وهو من التعاون على البر.

ب- نظام المعاشات الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى كل هذا من الأعمال الجائزة.

([244]) جاء في نص هذا القرار ما يلي: كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم 51، وتاريخ 4/4/1397 هـ، من جواز التأمين التعاوني بدلًا عن التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفا للأدلة الآتية:

الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة، ولا ربحًا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.

الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل، وربا النسيئة فليس عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.

الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.

الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشىء هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابل أجر معين. [قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي: 48].

([245]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 2073.

([246]) قال العز بن عبد السلام، في كتابه قواعد الأحكام، تحت عنوان: (فصل في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة): «لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم، وإذا تعذر قيامهم بذلك، وأمكن القيام بها ممن يصلح لذلك من الآحاد بأن وجد شيئًا من مال المصالح، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العادل أن يصرفه فيه، بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح، فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها، ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها، لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها، ولأثم أئمة الجور بذلك وضمنوه، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها، وإن وجد أموالًا مغصوبة، فإن عرف مالكيها فليردها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتهم بحيث يئس من معرفتهم صرفها في المصالح العامة أولاها فأولاها، وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قال: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وهذا بر وتقوى: وقال صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة»، فإذا جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف، مع كون المصلحة خاصة، فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى، ولاسيما غلبة الظلمة للحقوق، ولاشك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها، ويصرفونها إلى غير مستحقيها، ويحتمل أن يجب ذلك على من ظفر به كمن وجد اللقطة في مضيعة، وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به، إن كان من جنسه، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه، مع أن هذه المصلحة خاصة؛ فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى.

وقد خير بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه في مصارفه، وبين أن يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل يصرف ذلك في مصارفه، وينبغي أن يتقيد بما ذكره بعض الأصحاب بوقت يتوقع فيه ظهور إمام عادل، وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعين على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه، لما في إبقائه من التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه، ولاسيما إن كانت الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها [قواعد الأحكام: 821-823].

([247]) سورة النساء: 60-61.

([248]) سورة النساء: 60-61.

([249]) يقول الشيخ يوسف القرضاوي بعد أن ساق الأحاديث الواردة في لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه: «وهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة هي التي تعذب ضمائر المتدينين الذين يعملون في مصارف أو شركات لا يخلو عملهم فيها من المشاركة في كتابة الربا وفوائد الربا، غير أن وضع الربا لم يعد يتعلق بموظف في بنك أو كاتب في شركة، إنه يدخل في تركيب نظامنا الاقتصادي وجهازنا المالي كله، وأصبح البلاء به عامًا كما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره» (رواه أبو داود، وابن ماجه).

ومثل هذا الوضع لا يغير فيه ولا ينقص منه امتناع موظف عن تسلم عمله في بنك أو شركة، وإنما يغيره اقتناع الشعب الذي أصبح أمره بيده وحكمه لنفسه بفساد هذا النظام المنقول عن الرأسمالية المستغلة، ومحاولة تغييره بالتدرج والأناة، حتى لا تحدث هزة اقتصادية تجلب الكوارث على البلاد والعباد، والإسلام لا يأبى هذا التدرج في علاج هذه المشكلة الخطيرة، فيسير على هذه السنة في تحريم الربا ابتداء كما سار عليها في تحريم الخمر وغيرها.

والمهم هو الاقتناع والإرادة، وإذا صدق العزم وضح السبيل، وعلى كل مسلم غيور أن يعمل بقلبه ولسانه وطاقته بالوسائل المشروعة لتطوير نظامنا الاقتصادي، حتى يتفق وتعاليم الإسلام، وليس هذا ببعيد ففي دول العالم دول تعد بمئات الملايين لا تأخذ بنظام الربا، تلك هي الدول الشيوعية.

ولو أننا حظرنا على كل مسلم أن يشتغل في البنوك لكانت النتيجة أن يسيطر غير المسلمين من اليهود وغيرهم على أعمال البنوك وما شاكلها وفي هذا على الإسلام وأهله ما فيه.

على أن أعمال البنوك ليست كلها ربوية فأكثرها حلال طيب لا حرمة فيه، مثل السمسرة والإيداع وغيرها، وأقل أعمالها هو الحرام، فلا بأس أن يقبله المسلم وإن لم يرض عنه حتى يتغير هذا الوضع المالي إلى وضع يرضي دينه وضميره، على أن يكون في أثناء ذلك متقنًا عمله مؤديًا واجبه نحو نفسه وربه وأمته، منتظرًا المثوبة على حسن نيته: «إنما لكل امرئ ما نوى».

وقبل أن نختم فتوانا هذه لا ننسى ضرورة العيش، أو الحاجة التي تنزل – عند الفقهاء – منزلة الضنك التي تفرض على صاحب السؤال قبول هذا العمل كوسيلة للتعيش والارتزاق والله تعالى يقول: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173] [فتاوى معاصرة، للدكتور يوسف القرضاوي: 610-611].

ويقول الشيخ علي حامد في مجلة الأزهر الصادرة في شعبان 1410 هـ: «إن البنوك لا يغير نظامها امتناع موظف عن العمل بها، وإنما يغيره اقتناع الشعب كله بالنظام الصحيح للتعامل السليم، وإذا صدق العزم وضح السبيل، وإن واجب على كل مسلم أن يعمل قدر طاقته وبالوسائل المشروعة على تطوير المعاملات حتى تتفق وتعاليم الإسلام ولو قلنا إن العمل بالبنوك لا يجوز، لسيطر غير المسلمين على أعمال البنوك والشركات، وفي نفس الوقت ألا نغفل ضرورات الحياة، وهذه الضرورات تفرض على صاحب السؤال قبول هذا العمل وإن لم يرض عنه كوسيلة للعيش والرزق والله جل وعلا يقول: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[البقرة: 173].

([250]) مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: ص 188، وكان المفتي يومها هو الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله.

([251]) وهي الفتوى رقم 2828 بتاريخ 18/2/1400 هـ، وهذا نصها: «البنوك التي تتعامل بالربا لا يجوز للمسلم أن يكون حارسًا لها لأن هذا من التعاون عن الإثم والعدوان، وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2]، وأغلب أحوال البنوك التعامل بالربا، وينبغي لك أن تبحث عن طريق حلال من طرق طلب الرزق غير هذا الطريق» [فتاوى اللجنة الدائمة: 74].

كما استفتي في هذا الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالمملكة العربية السعودية، الشيخ عبد العزيز بن باز؛ فأجاب: «العمل في البنوك الربوية لا يجوز لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، قال هم سواء (رواه مسلم في صحيحه)، ولما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَهَ إِنَّ اللَهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[المائدة: 2]، وقد كرر هذا المعنى حفظه الله في أربع فتاوى متتالية [راجع الفتاوى، الجزء الأول: 141-143].

([252]) رواه ابن جرير الطبري: 2/266-267، عن يزيد بن أبي حبيب مرسلًا، وحسنه الألباني على هامش فقه السيرة للغزالي: 389، نقلًا عن كتاب وجوب إعفاء اللحية للكندهلوي: ص 38.

([253]) حاشية ابن عابدين.

وقد سئل فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي، مفتي الديار المصرية هذا السؤال: (هل إعفاء اللحية من السنة، وحلقها حرام؟)؛ فأجاب فضيلته بما يلي: «إن اللحية من سنن الفطرة، ومن الأمور التي حببنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أعفوا اللحى وقصوا الشوارب»، هذا الحديث من السنن التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وساق فضيلته قصة نبي الله موسى مع أخيه هارون عندما أخذ بلحيته ورأسه، وما كان من قول هارون ﴿يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي﴾[طه: 94]، ثم علق على ذلك بقوله: إن جميع الأنبياء مذ أن بعثهم الله تعالى من عهد أبينا آدم إلى خاتم النبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يسيرون على هذا النهج، وهو إعفاء اللحية» [جريدة اللواء الإسلامي، الصادرة في: 20/6/1988م].

([254]) وممن ذهب إلى اعتبارها من سنن العادات الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: أصول الفقه، ص: 106.

([255]) سورة النحل: 106.

([256]) ولقد جاء في نص فتوى فضيلته، ما يلي: «لما كان ذلك: كان إطلاق الأفراد المجندين اللحى اتباعًا لسنة الإسلام فلا يؤاخذون على ذلك في ذاته، ولا ينبغي إجبارهم على إزالتها، أو عقابهم بسبب إطلاقها إذ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وهم متبعون لسنة عملية جرى بها الإسلام.

ولما كانوا في إطلاقهم اللحى مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجز أن يؤثموا أو يعاقبوا، بل إن الصالح العام ترغيب الأفراد المجندين وغيرهم في الالتزام بأحكام الدين، فرائضه وسننه، لما في هذا من حفز في همتهم، ودفعهم لتحمل المشاق، والالتزام عن طيب نفس حيث يعملون بإيمان وإخلاص.

وتبعًا لهذا: لا يعتبر امتناع الأفراد الذين أطلقوا اللحى عن إزالتها رافضين عمدًا لأوامر عسكرية، لأنه بافتراض وجود هذه الأوامر فإنها فيما يبدو لا تتصل من قريب أو بعيد بمهمة الأفراد، أو تقلل من جهدهم، وإنما قد تكسبهم سمات وخشونة الرجال، وهذا ما تتطلبه المهام المنوطة بهم» [مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 520].

([257]) أخرجه البخاري.

([258]) رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن حبان

وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الإزار إلى نصف الساق فلما رأي شدة ذلك على المسلمين، قال: إلى الكعبين، لا خير فيم أسفل من ذلك» (رواه أحمد)، وعن ابن عمر، قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: «يا عبد الله، ارفع إزارك»؛ فرفعته، ثم قال: «زد»؛ فزدت، فما زلت اتحراها بعد، فقال بعض القوم إلى أين؟، فقال: أنصاف الساقين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكذب».

([259]) فتح الباري لابن حجر: 10/256.

([260]) صحيح مسلم بشرح النووي: 14/60.

([261]) أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

([262]) الكبائر للذهبي: 260.

([263]) وقد قال الحافظ بن حجر في الفتح بعد أن ساق هذه الأحاديث: «وفي هذه الأحاديث أن الإزار للخيلاء كبيرة، أما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضًا، لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء» [فتح الباري: 1/263].

وقال النووي: «فالمستحب نصف الساقين، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين، فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم، وإلا فمنع تنزيه، وأما الأحاديث المطلقة بأن تحت الكعبين في النار فالمراد بها ما كان للخيلاء، لأنه مطلق فوجب حمله على المقيد، والله أعلم» [صحيح مسلم بشرح النووي: 14/62-63].

وقال ابن العربي: «لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه».

ولو ذهبنا نستقرئ مقالات أهل العلم لأعجزنا الحصر.

([264]) جاء في حيثيات بعض الأحكام: «إن المحكمة وهي تتناول تلك الدعوى بحكمها وما أحاط بها من ظروف وملابسات، ووقائع بدأت بحفل صاخب أقامه المتهم الأول، بدأ من غروب الشمس وامتد إلى مطلعها، تتقارع فيه كئوس الخمر بين أيدي سكارى تمايلت رؤوسهم وتراقصت أجسادهم على أنعام المتهم الأول، وانتهاء بانفراد المتهم السعودي بالقتيلة في حجرة مغلقة ثالثهما فيها الشيطان، وسقوطها بكيفية لا يعلمها إلا الله، والسيد الطبيب الشرعي القائم بالتشريح» [مجلة منبر الإسلام، الصادرة في: يناير 1990].

([265]) يقول أحمد عبد المعطي حجازي، في جريدة الأهرام، الصادرة بتاريخ: 25/5/1988م: «ولكن تجربة هؤلاء السادة مع رقص البالية ما تكون، فمن حقهم أن يشاهدوه، ومن حقهم أن يقاطعوه، لكن ليس من حقهم أن يستنبطوا من تجربتهم الشخصية حكمًا يعممونه على الناس في آخر القرن العشرين، وليس من حقهم أن يصموا هذا الفن الرفيع بما وصموه به منتهين إلى تحريمه، وليس في الرقص حرام وحلال، بل فيه ترفع وتبذل وركاكة وإتقان ... إلى أن يقول: ونحن قد نفهم أن يدافع هؤلاء السادة عن القيمة الأخلاقية في الفن، ويطلبوا منه تهذيب النفوس والأرواح، فهذا مطلب أناس كثيرين، منهم فنانون وفيهم نقاد، يجعلون القيمة الأخلاقية مقياسًا من مقاييسهم الفنية ذاتها، فإذا افتقدوها في عمل فني وصفوه بالشكلية وعدم المسئولية، أما تحريمه وتحليله فغير مقبول، حتى من وجهة نظر دينية مستنيرة، لأن الفن ليس أمرًا من أمور الدين، وإن لم يتناقض معه، إذ هو أيضًا نشاط روحي له قوانينه التي تنظمه بعيدًا عن الدين، كما أن للعلم قوانينه، وللطب قوانينه، فليس لعلماء الدين سلطة على الفن، كما لا سلطة لهم على العلم ... ثم يقول: فإذا طبقنا على بقية الفنون ما طبقه العرب على فن الشعر، قلنا إن الدين لا علاقة له بالرقص، أو التصوير، أو التمثيل، أو الموسيقى، فلا يحق لأحد أن يقيسها بمقياس الحلال والحرام حتى ولو صورت أفعالًا لا تتفق مع تعاليم الدين، لأن هذا التصوير ليس فعلًا، بل هو فن يقاس بمقاييس جمالية»

([266]) يقول مفتي الجمهورية، الدكتور محمد سيد طنطاوي، في حديثه بجريدة النور: في 5 من ذي القعدة 1407هـ: «أما بالنسبة للتمثيل فإن قصد به تجسيم الأخطاء لتجنبها، وتمجيد الفضائل للاستمساك بها، وضرب الأمثال والعبر بطريق فني، فإذا حقق التمثيل هذا الهدف الجليل سواء أكان تمثيلًا سينمائيًا أو مسرحيًا في حدود الآداب العامة، والذوق السليم، والابتعاد عن إثارة الغرائز، وكشف العورات، والخروج من الوقار والحياء، فإنه لا يوجد في الدين حسب ما نفهم، والله أعلم ما يمنع من هذا التمثيل، أما إذا تضمن التمثيل إثارة للغرائز، أو تهجمًا على العقائد، أو تطاولًا على الفضائل، أو تحبيبًا في الرذائل، أو عرضًا لا يجوز عرضه، أو ابداؤه أو كشفه، فإن التمثيل في الوضع هذا يكون حرامًا، لأنه يؤدي إلى الفساد أو الشر، وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، والله سبحانه وتعالى أعلم» [حقيقة العلمانية: 383-384].

([267]) مجموع الفتاوى، ج: 34، كتاب الحدود.

([268]) وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن جماعة يتخذون لهم رأسًا، ويسمون حزبًا، ويدعون إلى بعض الأشياء، فقال: «الأحزاب التي أهلها مجتمعون على ما أمر الله به ورسوله، من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا زادوا في ذلك، ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله»[جامع الرسائل والمسائل: 1/152-153].

([269]) سورة المائدة: 2.

([270]) سورة الحجرات: 10.

([271]) صحيح سنن الترمذي: 2/307، حديث رقم: 2037.

([272]) سورة آل عمران: 103.

([273]) سورة الأنفال: 46.

([274]) راجع، كتاب دعاة لا قضاة، للهضيبي: 185-186.

([275]) سورة التوبة: 7.

([276]) سورة يوسف: 40.

([277]) سورة الشورى: 38.

([278]) سورة الحجرات: 9.

([279]) سورة الأحزاب: 58.

([280]) سورة الأحزاب: 40.

([281]) سورة الإسراء: 32.

([282]) سورة المائدة: 90.

([283]) تهافت قبل السقوط، لعبد المجيد صبح: 22.

([284]) سورة هود: 118-119.

([285]) راجع كتاب فتاوى شرعية، لحسنين مخلوف: 2/40.

([286]) ومن هذه الفتاوى العديدة نسوق نص هذه الفتوى: سئل حفظه الله ما أصل الذكرى الأربعينية؟، وهل هناك دليل على مشروعية التأبين؟.

فأجاب: الأصل فيها أنها عادة فرعونية قبل الإسلام، ثم انتشرت عنهم وسرت في غيرهم، وهي بدعة منكرة لا أصل لها في الإسلام يردها ما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»، [راجع كتاب: فتاوى إسلامية لمجموعة من العلماء: 176].

([287]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 5109.

([288]) راجع مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 145-147.

ومما جاء في نهاية الفتوى: «ومن ذلك يعلم أن قول المتقدمين والمتأخرين على عدم جواز الاستئجار على قراءة القرآن المجردة عن التعليم وعدم جواز أخذ الأجرة عليها، فلا يستحق القارئ أجرة إذا استؤجر لمجرد تلاوة القرآن، ولا يحل له أخذ الأجرة على ذلك، كما لا يحل للمعطي أن يعطيه، والله أعلم».

([289]) المرجع السابق: 161.

([290]) ونص هذه الفتوى كما يلى: «نشاهد في كثير من بلاد المسلمين استئجار قارئ يقرأ القرآن، فهل يجوز للقارئ أن يأخذ أجرًا على قراءته، وهل يأثم من يدفع له الأجر على ذلك؟.

الجواب: قراءة القرآن عبادة محضة وقربه يتقرب بها العبد إلى ربه، والأصل فيها وفي أمثالها من العبادات المحضة أن يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة الله، وطلبًا للمثوبة عنده، لا يبتغي بها من المخلوق جزاء ولا شكورًا، ولهذا لم يعرف عن السلف الصالح استئجار قوم يقرأون القرآن للأمات أو في الولائم والحفلات، ولم يؤثر عن أحد من أئمة الدين أنه أمر بذلك، أو رخص فيه، ولم يعرف أيضًا عن أحد منهم أنه أخذ أجرة على تلاوة القرآن، بل كانوا يتلونه رغبة فيما عند الله سبحانه وتعاىل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن أن يسأل الله به وحذره من سؤال الناس، روى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين أنه مر على قارئ يقرأ ثم سأل، فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن يسألون به الناس»، وأما أخذ الأجرة على تعليمه أو الرقيه به ونحو ذلك مما نفعه متد لغير القارئ فقد دلت الأحاديث الصحيحة على جوازه، لحديث أبي سعيد في أخذه قطيعًا من الغنم جعلًا على شفاء من رقاه بسورة الفاتحة، وحديث سهل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أمرأة لرجل بتعليمه إياها مما معه من القرآن الكريم، فمن أخذ أجرًا على نفس التلاوة أو استأجر جماعة لتلاوة القرآن فهو مخالف للسنة ولما أجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين»، [فتاوى إسلامية، لمجموعة من العلماء، ص: 23].

([291]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 4478.

([292]) راجع في فتوى الشيخ عبد المجيد سليم، مختصر فتاى دار الإفتاء، ص 193-195، وفي بقية الفتاوى، كتاب فتاوى شرعية، للشيخ حسنين مخلوف، 2/31-34.

ومما جاء في نص الفتوى الرسمية التي أصدرها الشيخ عبد المجيد سليم، قوله: «والذي يقتضيه النظر الدقيق في قواعد الشريعة وروحها أنه إذا كانت هناك مصلحة راجحة في شق البطن وتشريح الجثة من إثبات حق القتيل قبل المتهم أو تبرئة هذا المتهم من تهمة القتل بالسم مثلًا، فإنه يجوز الشق والتشريح، ولا ينافي هذا ما جاء في الحديث الشريف من قوله عليه الصلاة والسلام: «كسر عظم الميت ككسره حيًا»، فإن الظاهر أن معنى هذا الحديث أن للميت حرمة كحرمة الحي فلا يتعدى عليه بكسر عظم أو شق بطن أو غير ذلك، لغير مصلحة راجحة، أو حاجة ماسة، ويؤيد ذلك ما نقلناه عن السيوطي في بيان سبب الحديث، فإنه ظاهر أن الحفار الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن كسر العظم كان يريد الكسر بدون أن تكون هناك مصلحة في ذلك، ولا حاجة ماسة إليه، وما قلناه يتفق مع معنى الحديث الشريف وقواعد الدين الإسلامي القويم، فإنها مبنية على رعاية المصالح الراجحة، وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة تفويتها أشد من الضرر».

ويقول الشيخ يوسف الدجوي: «ليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع، وقد يظن ظان أن ذلك محرم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي، وحثت على إكرامه، وأمرت بعدم إيذائه، ولكن العارف بروح الشريعة، ومما تتوخاه من المصالح، وترمي إليه من الغايات، يعلم أنها توازن دائمًا بين المصلحة والمفسدة، فتجعل الحكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح، فيجب إذا أن يكون نظرنا بعيدًا متمشيًا مع المصلحة الراججة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة».

وإذا نقول: «من نظر إلى أن التشريح قد يكون ضروريًا في بعض الظروف، كما إذا اتهم شخص بالجناية على آخر، وقد يبرأ من التهمة عندما يظهر التشريح أن ذلك الآخر غير مجني عليه، وقد يجنى على رجل ثم يلقي بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية، إلى غير ذلك مما هو معروف، فضلًا عما في التشريح من تقدم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها، وينقذ كثيرًا ممن أشرف على الهلكة، أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه، فهو يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، إلى غير ذلك مما لاداعي للإطالة فيه».

نقول: «من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يفتي بالجواز تقديمًا للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيًا لكرامته».

على أن هذا أولى بكثير فيما نراه، مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم: «من أن الميت إذا ابتلع مالًا شق بطنه لإخراجه منه ولو كان مالًا قليلًا، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة أي ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وكلام الشافعية قريب من هذا، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في تقدير المال الذي يبتلعه، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيلتك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل، فهو قياس أولوي فيما نراه».

([293]) أخرجه مسلم.

([294]) أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: «أقبل رجل بناضحين- وقد جنح الليل- فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذ نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ أفتان أنت - أو أفاتن- (ثلاث مرارًا) فلو لا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة »، [فتح الباري: 2/200].

([295]) عرض على دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ حسن مأمون هذا السؤال: هل تأدية صلاة العيد في المسجد أفضل أم في الخلاء؟ فأجاب فضيلته بما يلي: إن الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد سنة في مذهب الحنفية وإن وسعهم المسجد الجامع هو الصحيح، فقد نقل ابن عابدين عن الخانية: والخلاصة- السنة أن يخرج الإمام إلى الجبانة ويستخلف غيره ليصلي في المصر بالضعفاء بناء على أن صلاة العيدين في موضعين جائزة بالاتفاق، وإن لم يستخلف فله ذلك- أما المالكية فيقولون يندب فعلها بالصحراء ولا يسن، ويكره فعلها في المسجد من غير عذر إلا بمكة، فالأفضل فعلها بالمسجد الحرام لشرف البقعة ومشاهدة البيت- أما الحنابلة فيقولون يسن صلاة العيد بالصحراء بشرط أن تكون قريبة من البنيان عرفا فإن بعدت عن البنيان عرفا فلا تصح صلاة العيد فيها رأسًا. ويكره صلاتها في المسجد بدون عذر إلا لمن بمكة فإنهم يصلونها في المسجد الحرام. ومذهب الشافعية أن صلاتها في المسجد أفضل لشرفه إلا لعذر كضيقه فيكره فيه للزحام، وحينئذ يسن الخروج للصحراء، وبهذا يعلم الجواب عن السؤال- وأن صلاة العيد في المسجد أفضل عند الشافعية  وفي الخلاء أفضل في المذاهب الثلاثة على التفصيل السابق والله أعلم. [مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 162 ] .

 

([296]) سورة البقرة: 185.

([297]) صحيح الجامع الصغير، بغير (وفطركم يوم تفطرون)، حديث رقم: 3807.

([298]) راجع مجموعة الفتاوى: 25/105-106.

([299]) مجمع البحوث الإسلامية .. تاريخه وتطوره، ص: 391.

([300]) وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على من يترددون في قبول حكم من فوض إليه إثبات الهلال تشككًا في عدالته فقال: «فإن قيل: قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرًا، لرده شهادة العدول، إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم، وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى.

قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهدًا مصيبًا كان أو مخطئًا أو مفرطًا، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: في الأئمة:  «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم»، فخطؤه وتفريطه عليه، لا على المسلمين الذين لم يفرطوا، ولم يخطئوا. [مجموع الفتاوى: 25/206].

([301]) مجمع البحوث الإسلامية .. تاريخه وتطوره، ص: 391.

([302]) فتاوى الشيخ محمود شلتوت: 156.

([303]) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام: 25/82-83.

([304])  جاء في الإنصاف: وعن الإمام أحمد، رواية بجواز إخراج القيمة مطلقًا أو عند الحاجة: 30/65.

([305]) صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 5091.

([306])ومما هو جدير بالذكر أن فضيلة مفتي مصر الدكتور محمد سيد طنطاوي قد استفتي في قضية تتعلق بالتحقيق مع أحد الطيارين وهو مدحت القداح  بسبب امتناعه عن الاقلاع بالطائرة حتى يزال ما بها من الخمر مما ترتب عليه بعض الأضرار بسبب تأخر الرحلة فأجاب فضيلته بما يلي: إن دار الإفتاء تشكر الطيار على غيرته الدينية، والشريعة تعطيه حق النصح وإبداء الرأي واستنكار تحميل الخمور وكل ما هو محرم شرعًا، ولكن تأخير الطائرة عن موعدها يترتب عليه ضرر كبير لجهات متعددة وبصفته موظف بمصر للطيران فهو يملك حق النصح والإرشاد فإذا أخذ برأيه فمرحبًا، وإذا لم يؤخذ به كانت المسئولية على قيادات المؤسسة، وناشد المفتي النيابة الإدارية حفظ التحقيق مع الطيار لغيرته على دينه، فأمرالمستشار رفعت عبد المنعم رئيس هيئة النيابة الإدارية بحفظ التحقيق، [جريدة الأهرام: 15/6/1995م].

([307]) وقد صدرت هذه الفتوى في 17 صفر 1402هـ، الموافق 13 ديسمبر 1981م، [راجع مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية:  558].

([308]) وقد صدرت هذه الفتوى بتاريخ 30 اكتوبر 1970م، [راجع مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 260].

 

([309]) وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية على الحرير المحض هل يجوز للخياط خياطته للرجال؟، وعن حكم أجرته في هذه الحال؟؛ فأجاب بقوله: «لا يجوز خياطة الحرير لمن يلبس لباسًا محرمًا مثل لباس الرجل للحرير المصمت في غير حال الحرب ولغير التداوي فإن هذا من الإعانة على الإثم والعدوان»، وقد سئل عمن يخيط للنصارى سبر حرير فيه صليب ذهب؛ «فأفتى بحرمته لما فيه من الإعانة على معصية الله» [مجموع الفتاوى: 22/139-141]، وفي المجموع للنووي، «قال أصحابنا: يكره بيع العصير لمن عرف باتخاذ الخمر، والتمر لمن عرف باتخاذ النبيذ، والسلاح لمن عرف بالعصيان بالسلاح، فإن تحقق اتخاذه لذلك خمرًا ونبيذًا، وأنه يعصي بهذا السلاح ففي تحريمه وجهان»، [ المجموع للنووي: 9/390] ، وفي بلغة السالك: «كذلك يمنع بيع كل شيء علم أن المشتري قصد به أمرًا لا يجوز، كبيع جارية لأهل الفساد، أو مملوك، أو بيع أرض لتتخذ كنيسة أو خمارة، أو خشبة لمن يتخذها صليبًا، أو عنبًا لمن يعصره خمرًا، أو آلة حرب للحربيين، وكذا كل ما فيه قوة لأهل الحرب» [ بلغة السالك لأقرب المسالك: 2/7] ، وجاء في المحلى لابن حزم: «ولا يحل بيع شيء ممن يوقن أنه يعصى الله به أو فيه وهو مفسوخ أبدًا، كبيع كل شيء ينبذ أو يعصر ممن يوقن أنه يعمله خمرًا، و كبيع الدراهم الردىئة ممن يوقن أنه يدلس بها، وكبيع الغلمان ممن يوقن أنه يفسق بهم أو يخصيهم، وكبيع المملوك ممن يوقن أنه يسيء ملكته، أو كبيع السلاح أو الخيل ممن يوقن أنه يعدو بها على المسلمين، أو كبيع الحرير ممن يوقن أنه يلبسه وهكذا في كل شيء لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2]، والبيوع التي ذكرنا تعاون ظاهر على الإثم والعدوان بلا تطويل، وفسخها تعاون على البر والتقوى، فإن لم يوقن بشيء من ذلك فالبيع صحيح، لأنه لم يعن على إثم، فإن عصى المشتري الله تعالى بعد ذلك فعليه»، [ المحلى لابن حزم: 9/653-654].

([310]) سورة البقرة: 45-46.

([311]) سورة المائدة: 90.

([312]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة بالسعودية: 150.

([313]) الفتاوى، للشيخ عبد العزيز بن باز: 1/258.

  وهذا وقد فرقت دار الإفتاء المصرية في أحد فتاويها الرسمية بين الكحول المستخرج من العنب فأطلقت القول بحرمته، وبين ماكان مستخرجًا من غيره كالقصب والتمر ونحوه فأجرت فيه الخلاف الوارد عند الحنفية في الأشربة المحرمة غير الخمر من حيث التحريم والتغليظ والتخفيف والطهارة ونحوه، [مختصر فتاوى دار الإفتاء المصرية: 133].