الثلاثاء، 16 مايو 2017

ما هو حكم الاجتماع في المناسبات الدينية التاريخية كالمولد النبوي والهجرة النبوية وذكرى غزوة بدر و ...؟!

مفهوم الاجتماع
جرت عادتنا أن نجتمع لإحياء جملة من المناسبات التاريخية كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان والهجرة النبوية وذكرى نزول القرآن وذكرى غزوة بدر ، وفي اعتبارنا أن هذا الأمر عادي لا صلة له بالدين فلا يوصف بأنه مشروع أو سنة كما أنه ليس معارضاً لأصل من أصول الدين لأن الخطر هو في اعتقاد مشروعية شيء ليس بمشروع ، وعندي أن أمثال هذه الأمور العادية العرفية لا يقال فيها أكثر من أنها محبوبة للشارع أو مبغوضة وأظن أن هذا القدر متفق عليه ، ويدعي البعض أن هذه المناسبات التي يجتمع الناس لإحيائها ينقصها التوقيت المضبوط المتفق عليه ، فيقول : إن الناس تعودوا أن يجتمعوا ليلة السابع والعشرين لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج ، وأن يجتمعوا ليلة الاثني عشر من ربيع الأول لإحياء ذكرى المولد النبوي مع أن العلماء اختلفوا في تعيين وقت هاتين الحادثتين بالضبط ، وأنا أقول : إن عدم الاتفاق على تعيين الوقت لا يؤثر لأننا لا نعتقد مشروعية تحديد الاجتماع بوقت مخصوص بل الأمر عادي كما أسلفنا والذي يهمنا هو اغتنام فرصة الاجتماع وكسب ذلك لتوجيهه إلى الخير فهذه الليلة قد اجتمع الناس فيها بشكل فظيع وعظيم وسواء أخطأوا التوقيت أم أصابوا ، فإن مجرد اجتماعهم هذا على ذكر الله ومحبة رسول الله كاف في استجلاب رحمة الله وفضله .
إني أعتقد تمام الاعتقاد أن اجتماع هؤلاء الناس ما دام أنه لله وفي الله فإنه  مقبول عند الله ولو أخطأوا في التوقيت ، وأضرب لذلك مثلاً لتقريب القضية للأذهان برجل دعا إلى وليمة في يوم معين فجاء بعض المدعوين في غير وقت الدعوة ظناً منهم أنه هو الوقت فهل ترى أن صاحب الوليمة يطردهم ويردهم بجفوة وغلظة ويصد عنهم ويقول لهم : ارجعوا وانصرفوا عني فليس هذا هو وقت الوليمة الذي دعوتكم إليه وحددته لكم ، أو ترى أنه يقابلهم بالحسنى ويشكرهم على قدومهم ويفتح لهم بابه ويطلب منهم الدخول ثم يطلب منهم الرجوع مرة أخرى في الوقت المحدد ؟ هذا الذي أتصوره وهو اللائق بفضل الله وكرمه .
ونحن إذا اجتمعنا للإسراء والمعراج أو للمولد النبوي ولأي ذكرى من الذكريات التاريخية لا يهمنا تعيين الوقت بالضبط لأنه إن كان موافقاً للصواب في الواقع ونفس الأمر فالحمد لله ، وإن كان غير ذلك فإن الله لا يردنا ولا يغلق      بابه عنا .
فاغتنام فرصة الاجتماع بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى والتعرض لنفحاته وخيراته وبركاته هو أجل من فائدة الذكرى نفسها عندي ، واغتنام اجتماع الناس بتذكيرهم وإرشادهم ونصحهم وتوجيههم إلى الخير هو أولى من صدهم وردهم والإنكار على اجتماعهم بما لا طائل تحته إذ المشاهد أن ذلك لا ينفع ولا  يفيد وأن الناس يزيد إقبالهم ويعم تمسكهم كلما زاد الإنكار عليهم أو اشتد حتى كان الناهي لهم عن ذلك آمر لهم بفعله من حيث لا يشعر .
إن العقلاء من أرباب الفكر والدعوة يتمنون بكل قلوبهم أن يجدوا مكاناً   يجتمع فيه الناس ليبثوا فيهم آراءهم ويكسبوهم إلى صفهم ، ولذلك تراهم يرتادون الحدائق والنوادي والأماكن العامة التي يكثر فيها اجتماع الناس ليصنعوا بهم        ما يريدون ، ونحن نرى الأمة تجتمع في مناسبات متعددة برغبة وهمة وحرص فما هو الواجب علينا نحوهم ؟ .
إن الاشتغال بالإنكار والأخذ والرد في حكم اجتماعهم وما إلى ذلك هو    عبث بل وحمق وجهالة لأننا نضيع كنزاً عظيماً ونفوت فرصة لا يمكن أن يجود  الزمان بها إلا في مثل هذه المناسبات .
فلنغتنم هذه المجامع الكبرى .
]  ]  ]


مفهوم المولد النبوي
يخطئ كثير من الناس في فهمهم لحقيقة المولد النبوي الذي ندعو إليه     ونشجع عليه فيتصورون تصورات فاسدة يبنون عليها مسائل طويلة ومناقشات عريضة يضيعون بها أوقاتهم وأوقات القراء وهي كلها هباء لأنها مبنية على تصورات كما قلنا فاسدة .
وقد كتبنا عن المولد النبوي كثيراً وتحدثنا عنه في الإذاعة والمجامع العامة مراراً  بما يظهر معه وضوح مفهومنا عن المولد الشريف .
إننا نقول وقد قلنا من قبل : إن الاجتماع لأجل المولد النبوي الشريف         ما هو إلا أمر عادي وليس من العبادة في شيء وهذا ما نعتقده وندين الله تعالى به .
وليتصور من شاء ما يتصور لأن الإنسان هو المصدق فيما يقوله عن نفسه وحقيقة معتقده لا غيره .
ونحن نقول في كل محفل ومجمع ومناسبة : إن هذا الاجتماع بهذه الكيفية أمر عادي ليس من العبادة في شيء فهل يبقى بعد هذا إنكار لمنكر واعتراض لمعترض لكن المصيبة الكبرى في عدم الفهم ولهذا يقول الإمام الشافعي :
ما جادلت عالماً إلا غلبته ولا جادلت جاهلاً إلا غلبني . إن أقل الطلاب     علماً يعلم الفرق بين العادة والعبادة وحقيقة هذه وتلك فإذا قال القائل : هذه   عبادة مشروعة بكيفيتها نقول له : أين الدليل ؟ وإذا قال : هذه عادة نقول له : إصنع ما تشاء لأن الخطر كل الخطر والبلاء الذي نخشاه كلنا هو أن يلبس ثوب العبادة لفعل مبتدع غير مشرع بل من اجتهاد البشر ، وهذا ما لا نرضاه بل     نحاربه ونحذر منه ، والحاصل أن الاجتماع لأجل المولد النبوي  أمر عادي ولكنه من العادات الخيرة الصالحة التي تشتمل على منافع كثيرة وفوائد تعود على الناس   بفضل وفير لأنها مطلوبة شرعاً بأفرادها ، ومن التصورات الفاسدة التي تقع في  أذهان بعض الناس هي أنهم يظنون أننا ندعو إلى الاحتفال بالمولد في ليلة مخصوصة دون سائر العام وما درى هذا المغفل أن الاجتماعات تعقد لأجل المولد النبوي في مكة والمدينة بشكل منقطع النظير في كل أيام العام وفي كل مناسبة تحدث يفرح     بها صاحبها ولا يكاد يمر يوم أو ليلة بمكة والمدينة إلا ويحصل فيه اجتماع للمولد النبوي علم هذا من علمه وجهله من جهله ، فمن زعم أننا نذكر النبي r في      ليلة واحدة فقط ونهجره ونغفل عنه ثلاثمائة وتسعة وخمسين ليلة فقد افترى إثماً  عظيماً وكذب كذباً مبيناً ، وهذه مجالس المولد النبوي تنعقد بفضل الله تعالى في   جميع ليالي السنة ولا يكاد يمر يوم أو ليلة إلا وهنا مجلس وهناك محفل ، ونحن    ننادي بأن تخصيص الاجتماع بليلة واحدة دون غيرها هو الجفوة الكبرى للرسول r ، ولذلك فإن الناس بحمد الله يستجيبون لهذا النداء بكل إقبال ورغبة .
ومن زعم بأننا نخصص الاحتفال به r في المدينة المنورة فهو جاهل أو    متجاهل عن الحقيقة ، وما لنا إلا أن ندعو الله له بأن ينور بصيرته ويكشف عنه حجاب الجهل ليرى أن ذلك ليس خاصاً بالمدينة المنورة ولا بليلة مخصوصة في     شهر مخصوص ، بل هو عام في الزمان والمكان .
وليس يصح في الأذهان شيء   ::   إذا احتاج النهار إلى دليل
والحاصل أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين لأن ذكره r والتعلق به يجب أن يكون في كل   حين ويجب أن تملأ به النفوس ، فنعم : إن في شهر ولادته يكون الداعي أقوى  لإقبال لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض، فيتذكرون بالحاضر الماضي وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .
وإن هذه الاجتماعات ، هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله وهي فرصة       ذهبية ينبغي أن لا تفوت ، بل يجب على الدعاة والعلماء أن يذكروا الأمة بالنبي r بأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته ومعاملته وعباداته ، وأن ينصحوهم ويرشدوهم    إلى الخير والفلاح ويحذروهم من البلاء والبدع والشر والفتن .
وإننا دائماً بفضل الله ندعو إلى ذلك ونشارك في ذلك ونقول للناس : ليس المقصود من هذه الاجتماعات مجرد الاجتماعات والمظاهر بل إن هذه وسيلة شريفة إلى غاية شريفة وهي كذا وكذا ومن لم يستفد شيئاً لدينه فهو محروم من خيرات  المولد الشريف ، ولا نحب أن نطيل بذكر الأدلة والمسوغات التي استنبطناها في    هذا الموضوع ، إذ لنا رسالة خاصة لذلك بعنوان : حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، غير أننا سنخص قصة عتق ثويبة بالذكر لكثرة الكلام حولها :
]  ]  ]
قصة عتق ثويبة
يذكر العلماء في كتب الحديث والسيرة قصة عتق أبي لهب لجاريته ثويبة لما أخبرته بولادة النبي r وأن العباس بن عبد المطلب رأى أبا لهب في النوم بعد     وفاته فسأله عن حاله فقال : لم ألق خيراً بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي    ثويبة وإنه ليخفف عليَّ في كل يوم الاثنين .
قلت : هذا الخبر رواه جملة من أئمة الحديث والسير مثل الإمام عبد الرزاق الصنعاني والإمام البخاري والحافظ ابن حجر والحافظ ابن كثير والحافظ البيهقي  وابن هشام والسهيلي والحافظ البغوي وابن الديبع والأشخر والعامري ، وسأبين ذلك بالتفصيل .
فأما الإمام عبد الرزاق الصنعاني فقد رواه في المصنف (ج7 ص478) ، وأما الإمام البخاري فقد رواه في صحيحه بإسناده إلى عروة بن الزبير مرسلاً في كتاب النكاح باب } وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ { ، وأما ابن حجر فقد ذكره في الفتح وقال : إنه رواه الاسماعيلي من طريق الذهلي عن أبي اليمان ، ورواه عبد الرزاق عن معمر وقال : وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ، لكنه مخالف لظاهر القرآن ، قال الله تعالى : } وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ   فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً { ، وأجيب أولاً بأن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به ، وعلى تقدير أن يكون موصولاً فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به ، وسلم مخصوصاً من      ذلك دليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفف عنه فنقل من الغمرات إلى  الضحضاح ، وقال البيهقي : ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون  لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة ، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات .
وأما عياض فقال : انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا    يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ، وإن كان بعضهم أشد عذاباً من بعض .   قلت : وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي ، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر ، وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه ؟ وقال القرطبي :  هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه ، وقال ابن المنير في الحاشية : هنا قضيتان : إحداهما محال وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره ، لأن شرط الطاعة أن  تقع بقصد صحيح ، وهذا مفقود من الكافر .
الثانية : إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلاً من الله تعالى وهذا لا يحيله  العقل ، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة ، ويجوز              أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب ، والمتبع في ذلك التوقيف   نفياً وإثباتاً .
قلت : وتتمة هذا أن يقع التفضيل المذكور إكراماً لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك . والله أعلم . اهـ (فتح الباري ج9 ص145) .
وأما الحافظ ابن كثير فقد رواه في البداية والنهاية ، وقال معلقاً : لأنه لما   بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته ، فجوزي بذلك لذلك . اهـ من السيرة النبوية لابن كثير (ج1 ص224) .
وأما الحافظ عبد الرحمن بن الديبع الشيباني صاحب جامع الأصول فقد رواه في سيرته وقال معلقاً : ((قلت : فتخفيف العذاب عنه إنما هو كرامة للنبي r         كما خفف عن أبي طالب لا لأجل العتق ، لقوله تعالى : } وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { . اهـ من حدائق الأنوار في السيرة (ج1 ص134) .
وأما الحافظ البغوي فقد رواه في شرح السنة (ج9 ص76) .
وأما الإمام الأشخر فقد رواه في بهجة المحافل ، وقال شارحه العامري : قيل : هذا خاص به إكراماً له r كما خفف عن أبي طالب بسببه ، وقيل : لا مانع        من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خيراً . اهـ من شرح البهجة (ج1 ص41) .
وأما السهيلي فقد رواه في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام وقال بعد نقل الخبر : فنفعه ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن  رسول الله r فهو أهون أهل النار عذاباً ، وقد تقدم في باب أبي طالب أن          هذا النفع إنما هو نقصان من العذاب ، وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف      أي : لا يجده في ميزانه ولا يدخل به جنة . اهـ الروض الأنف (ج5 ص192) .

]  ]  ]













حاصل البحث
والحاصل أن هذه القصة مشهورة في كتب الأحاديث وفي كتب السير ،   ونقلها حفاظ معتبرون معتمدون ، ويكفي في توثيقها كون البخاري نقلها في  صحيحه المتفق على جلالته ومكانته ، وكل ما فيه من المسند صحيح بلا كلام .
 حتى المعلقات والمرسلات فإنها لا تخرج عن دائرة المقبول ولا تصل إلى   المردود وهذا يعرفه أهل العلم المشتغلون بالحديث والمصطلح والذين يعرفون معنى المعلق والمرسل ويعرفون حكمها إذا جاءت في الصحيح .
فانظر إن شئت ذلك في كتب المصطلح كألفية السيوطي والعراقي وشروحها وتدريب الراوي فإنهم تعرضوا لهذه المسألة وبينوا قيمة ما في الصحيح من المعلق والمرسل وأن ذلك مقبول عند المحققين .
ثم إن هذه المسألة من المناقب والفضائل والكرامات التي يذكرها العلماء في كتب الخصائص والسير ويتساهلون في نقلها ولا يشترطون فيها الصحيح بالمعنى المصطلح عليه ، ولو ذهبنا إلى اشتراط هذا الشرط الشاذ لما أمكن لنا ذكر شيء   من سيرة النبي r قبل البعثة وبعد البعثة مع أنك تجد كتب الحفاظ الذين         عليهم العمدة وعلى صنيعهم المعول ، والذين منهم عرفنا ما يجوز وما لا يجوز ذكره من الحديث الضعيف نجد كتبهم مملوءة بالمقطوعات والمراسيل وما أخذ عن     الكهان وأشباههم في خصائص رسول الله r لأن ذلك مما يجوز ذكره في هذا     المقام .
أما قول من قال : إن هذا الخبر يعارض قوله تعالى  } وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ   فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً { فهذا قول مردود بما قاله العلماء ونقلناه عنهم سابقاً .
وتحرير الكلام في هذا المقام هو أن الآية تدل على أن أعمال الكفار             لا ينظر إليها وليس فيها أنهم سواء في العذاب ، وأنه لا يخفف عن بعضهم العذاب كما هو مقرر عند العلماء .
وكذلك الإجماع الذي حكاه عياض ، فإنه في عموم الكفار وليس فيه أن      الله تعالى لا يخفف العذاب عن بعضهم لأجل عمل عملوه ولهذا جعل الله تعالى   جهنم دركات ، والمنافقون في الدرك الأسفل منها .
ثم إن هذا الإجماع يرده النص الصحيح ، ولا يصح إجماع مع مخالفة النص   كما هو معلوم للطلبة .
وذلك إنه ثبت في الصحيح أن رسول الله e سئل: هل نفعت                  أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويدافع عنك ؟ فقال : وجدته في غمرات من   النار ، فأخرجته إلى ضحضاح منها ، الحديث .
فها هو أبو طالب قد نفعه دفاعه عن النبي e وأخرجه النبي e من          أجل ذلك من غمرات النار إلى ضحضاح منها .
 فالتخفيف عن أبي لهب من هذا الباب أيضا لا منكر فيه ، والحديث يدل    على أن الآية المذكورة فيمن لم يكن لهم عمل يوجب التخفيف . وكذلك الإجماع.
وفي حديث أبي طالب المذكور دلالة وأي دلالة على أن النبي e يتصرف    الآن وقبل يوم القيامة في أمور الآخرة ويشفع لمن تعلق به ودافع عنه .
وأما قول من قال : إن هذا الخبر رؤيا منام لا يثبت بها حكم ، فإن هذا    القائل - هداه الله للصواب - لا يفرق بين الأحكام الشرعية وغيرها .
أما الأحكام الشرعية فإن الخلاف واقع بين الفقهاء : هل يجوز أخذ      الأحكام وتصحيح الأخبار برؤيا رسول الله e في المنام أم لا ؟ .
وأما غيرها فإن الاعتماد على الرؤيا في هذا الباب لا شيء فيه مطلقاً .       وقد اعتمد عليها الحفاظ وذكروا ما جاء في رؤيا أهل الجاهلية قبل بعثة رسول الله e المنذرة بظهوره ، وأنه سيقضي على الشرك وما هم عليه من فساد . وكتب  السنة مملوءة بهذا .
وفي مقدمتها كتاب دلائل النبوة وعدوها من الإرهاصات التي لا مانع من الاستدلال في شأنها بالرؤيا ، ولولا ذلك لما ذكروها .
فقول القائل في شأن رؤيا العباس : إنها ليست بحجة ولا يثبت بها حكم       ولا خبر ، خروج عن عمل الأئمة من الحفاظ وغيرهم ، والمراد به التهويل لا غير ، وما هكذا يكون شان الباحث عن الحق والأمر لله .
وأما من قال : إن الرائي والمخبر هو العباس في حال الكفر ، والكفار           لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم فإن هذا قول مردود ، لا رائحة للعلم فيه ، وهو باطل ، ذلك لأنه لم يقل أحد أن الرؤيا من باب الشهادة مطلقاً ، وإنما هي بشارة لا غير فلا يشترط فيها دين ولا إيمان ، بل ذكر الله تعالى في القرآن معجزة يوسف عليه السلام عن رؤيا ملك مصر وهو وثني لا يعرف ديناً سماوياً مطلقاً ،   ومع ذلك جعل الله تعالى رؤيته المنامية من دلائل نبوة يوسف عليه السلام وفضله وقرنها بقصته ، ولو كان ذلك لا يدل على شيء لما ذكرها الله تعالى لأنها رؤيا  مشرك وثني لا فائدة فيها لا في التأييد ولا في الإنكار .
ولهذا ذكر العلماء أن الكافر يرى الله تعالى في المنام ويرى في ذلك ما فيه إنذار له وتوبيخ وتقريع .
والعجب كل العجب من قول القائل : إن العباس رأى ذلك في حال        كفره ، والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم ، فإن هذا القول يدل على عدم المعرفة بعلم الحديث إذ المقرر في المصطلح أن الصحابي أو غيره إذا تحمل الحديث في حال كفره ثم روى ذلك بعد إسلامه أخذ ذلك عنه ، وعمل به .
وانظر أمثلة ذلك في كتب المصطلح لتعرف بعد صاحب هذا القول عن العلم . وإنما الهوى هو الذي حمل المعترض على الدخول فيما لا يتقنه .


حكم زيارة القبر رسول الله صل الله عليه وسلم ؟؟!

زيارة القبر هي زيارة المسجد
في اعتبار الشيخ ابن تيمية
للشيخ ابن تيمية رأي نفيس جاء ضمن كلامه عن الزيارة ، فبعد أن تكلم    عن بدعية شد الرحل للقبر النبوي المحمدي وحده دون المسجد رجع فقال :
وهذا المعترض وأمثاله جعلوا السفر إلى قبور الأنبياء نوعاً من القربة ثم لما رأوا ما ذكره العلماء من استحباب زيارة قبر نبينا ظنوا أن سائر القبور يسافر إليها كما يسافر إليه ، فضلوا من وجوه :
أحدهما : أن السفر إليه إنما هو سفر إلى مسجده وهو مستحب بالنص  والإجماع .
الثاني : أن هذا السفر هو للمسجد في حياة الرسول وبعد دفنه وقبل      دخول الحجرة وبعد دخول الحجرة فيه ، فهو سفر إلى المسجد سواء كان القبر   هناك أو لم يكن ، فلا يجوز أن يشبه به السفر إلى قبر مجرد ……………
ثم قال : السادس : أن السفر إلى مسجده الذي يسمى السفر لزيارة       قبره هو ما أجمع عليه المسلمون جيلاً بعد جيل ، وأما السفر إلى سائر القبور     فلا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بل ولا عن أتباع التابعين .
ثم قال : والمقصود أن المسلمين ما زالوا يسافرون إلى مسجده ولا يسافرون   إلى قبور الأنبياء كقبر موسى وقبر الخليل عليهما السلام ، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه سافر إلى قبر الخليل مع كثرة مجيئهم إلى الشام وبيت المقدس ،      فكيف يجعل السفر إلى مسجد الرسول الذي يسميه بعض الناس زيارة لقبره مثل السفر إلى قبور الأنبياء ؟
فيستفاد من كلام الشيخ ابن تيمية فائدة مهمة جداً وهي أنه لا يتصور أبداً    أن يشد الزائر رحله قاصداً زيارة القبر وحده ، ثم لا يدخل إلى المسجد ويصلي فيه ليستفيد من بركاته ومضاعفة صلاته ، وروضة الجنة التي فيه ويقابله أنه لا يعقل    أبداً أن يشد الزائر رحله قاصداً زيارة المسجد وحده ثم لا يتوجه إلى الزيارة ولا  يقف بالقبر الشريف للسلام على النبي r وصاحبيه رضي الله عنهما .
ولذلك ترى الشيخ يشير في عبارته إلى هذا المعنى بقوله مثلاً : (فكيف       يجعل السفر إلى مسجد الرسول الذي يسميه بعض الناس زيارة) ؟ .
وبقوله : (إن السفر إليه إنما هو سفر إلى مسجده) .
وبقوله : (إن السفر إلى مسجده الذي يسمى السفر لزيارة قبره هو ما أجمع عليه المسلمون) .
فهذا الرأي الجيد النفيس يحل مشكلة كبرى فرقت بيننا معشر المسلمين  وبسببها كفر بعضنا بعضاً وأخرجه عن دائرة الإسلام ، ولو سلك من ادعى أنه   متبع للسلف مسلك ابن تيمية إمام السلف في عصره والتمس للناس العذر في مقاصدهم وحسن الظن بهم لسلم جمع غفير من دخول النار وفازوا بالجنة دار   القرار .
وهذا هو الحق الذي ندين الله به ونعتقده بكل صدق سواء صرحنا به أو        لم نصرح ، فلو قال الواحد منا : أنا مسافر لزيارة النبي r أو قبره فهو قاصد        في الجملة مسجده الشريف ، ولو قال : أنا مسافر لزيارة المسجد ، فهو قاصد في الجملة القبر ، غاية ما في الأمر أنه فاته التصريح بكل ما يقصده وينويه للارتباط الوثيق بين المسجد والقبر الذي هو في الحقيقة عبارة عن قصد النبي ذاته r ،      لأن المسافر لزيارة القبر إنما هو مسافر في الحقيقة إلى النبي نفسه r .
أما القبر حقيقة فلا يقصده ولا يتوجه إليه مسافر ، ونحن إنما نتوجه إليه r ونشد رحالنا لزيارته هو ونتقرب إلى الله بتلك الزيارة ، ولذلك فالواجب على المسلمين الزائرين أن يصححوا ألفاظهم ابتعاداً عن الشبهة ، ويقولوا : نحن نزور رسول الله ونشد الرحل إلى رسول الله r ، ومن هنا قال مالك : أكره للرجل      أن يقول : زرت قبر الرسول .
وفسره العلمـاء من أئمـة المالكيـة بأن ذلك من الأدب في التعبير اللفظي ،     
     ولو كان المسافر لزيارة القبر لا يقصد إلا زيارة القبر فقط لما رأيت هذا الازدحام الشديد على الروضة المشرفة .
ولما رأيت الناس يتسابقون ويتدافعون عند فتح أبواب المسجد النبوي حتى ليكاد يقتل بعضهم بعضاً ، وهؤلاء الذين يحرصون على الصلاة في المسجد   والمسابقة إلى الروضة هم الذين جاءوا لزيارة محمد بن عبد الله صلى الله عليه    وسلم ، وشدوا رحلهم إليه .
]  ]  ]
تـحقـيق مفـيد
تحقيق العلامة الشيخ عطية محمد سالم صاحب تكملة أضواء البيان
وقد ذكر هذه المسألة العلامة الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمدينة       المنورة في كتابه الذي تمم به التفسير المشهور المسمى بأضواء البيان للعلامة المفسر الشيخ محمد أمين الشنقيطي فقال :
وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري شيخ الإسلام معه في غيرها لما    كان لها محل ولا مجال .
ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ومحبة رسول الله r ،     فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام أي بلازم كلامه حينما قال :
لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة ، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة        عملاً بنص الحديث ، فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة ، لو حمل كلامه على النفي   بدل من النهي لكان موافقاً أي لا يتأتى ذلك لأنه رحمه الله لم يمنع زيارته r ولا السلام عليه ، بل يجعلها من الفضائل والقربات ، وإنما يلتزم بنص الحديث في     جعل شد الرحال إلى المسجد ولكل شيء ، ومنه السلام على رسول الله r كما صرح بذلك في كتبه . اهـ كلام الشيخ عطية في أضواء البيان (ج8 ص586).
ثم نقل من نصوص كلام ابن تيمية ما نقلناه عنه ثم قال :
فدل كلامه رحمه الله أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطان ، ومن        ادعى انفكاكهما عملياً فقد خالف الواقع ، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى        الخلاف وزال موجب النزاع والحمد لله رب العالمين ، وصرح في موضع آخر ص346 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب أحمد          أربعة أقوال ، الثالث منها : تقصر إلى قبر نبينا عليه الصلاة والسلام .
(أضواء البيان ج8 ص590) ، ثم قال الشيخ عطية :
وهذا غاية في التصريح منه رحمه الله أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين    الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء .
ثم قال في حق الجاهل : وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر         إلى القبر ، ثم إنه لابد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك ، وما فعله وهو     منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر .
(أنظر أضواء البيان ج8 ص590) .
وبه يظهر لك أن قاصد القبر على كل حال ليس بمحروم من الأجر والثواب فهل يقال في حقه : أنه مبتدع أو ضال أو مشرك ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .

]  ]  ]




الإمام مالك والزيارة
الإمام مالك هو من أشد الناس تعظيماً للجناب النبوي وهو الذي كان            لا يمشي في المدينة المنورة متنعلاً ولا راكباً ولا يقضي فيها حاجته احتراماً وتعظيماً وتكريماً لتراب المدينة الذي مشى عليه رسول الله r ، وها هو يخاطب أمير    المؤمنين المهدي لما جاء إلى المدينة في هذا الموضوع ويقول له : إنك تدخل الآن  المدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك وهم أولاد المهاجرين والأنصار فسلم عليهم فإنه ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة ، ولا خير من المدينة . فقال له : ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله ؟ قال : لأنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض غير قبر محمد r ، ومن قبر محمد عندهم فينبغي أن يعلم فضلهم .
(كذا في المدارك للقاضي عياض).
ومن شدة تعظيمه للمدينة أنه كره أن يقال : زرنا قبر النبي صلى الله عليه   وآله وسلم ، وكأنه أراد أن يقول القائل زرنا النبي r مباشرة دون لفظ القبر ،    لأن القبر مهجور بدليل قوله r : صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً .
قال الحافظ ابن حجر : إنه إنما كره اللفظ أدباً لا أصل الزيارة فإنها من     أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع . (فتح الباري شرح صحيح البخاري ج3 ص66) .
وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة وزرنا قبر النبي r لاستعمال الناس ذلك بعضهم لبعض ، أي فيما بينهم فكره   تسوية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع الناس أي عمومهم بهذا اللفظ ،     وأحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي r .
وأيضاً فإن الزيارة مباحة بين الناس وواجب شد المطي إلى قبره r يريد بالوجوب هنا وجوب ندب وترغيب وتأكيد لا وجوب فرض ، والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي r وأنه لو قال : زرنا النبي r            لم يكرهه لقوله r :
((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم    اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ..
فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك قطعاً للذريعة     وحسماً للباب .
قلت : ولو كان المقصود كراهية الزيارة لقال مالك : أكره للرجل أن يزور   قبر النبي r ، لكن ظاهر قوله : (أكره للرجل أن يقول الخ ..) على أن المقصود    هو كراهة التعبير بهذا اللفظ فقط .

]  ]  ]








استحباب زيارة النبي r عند الحنابلة وغيرهم
زيارة النبي r مشروعة وقد ذكرها كثير من علماء الأمة وأئمة السلف ، وتخصيص الحنابلة بالذكر المقصود منه رد فرية من زعم أن أئمة الحنابلة لا يقولون بذلك ، فاقتضى الأمر تخصيصهم بالذكر لرد هذه الفرية ، وإلا فإن كتب فقه المذاهب الإسلامية جميعها مشحونة ومملوءة بهذه المسألة فانظر إن شئت كتب     الفقه الحنفي ، وانظر إن شئت كتب الفقه المالكي ، وكتب الفقه الشافعي    والحنبلي ، وكتب الفقه الزيدي والإباضي والجعفري ، فإنك تجدهم قد عقدوا باباً مخصوصاً في الزيارة بعد أبواب المناسك .
]  ]  ]
كلام أئمة السلف في مشروعية زيارة
سيدنا رسول الله r وشد الرحل إلى قبره
1 القاضي عياض :
نذكر هنا كلام القاضي عياض في مشروعية الزيارة النبوية عند السلف ،      في شرحه للحديث الذي رواه مسلم عن ابن عمر عن النبي r قال :
((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها)) ..
قال القاضي عياض : وقوله r : وهو يأرز إلى المدينة معناه : أن الإيمان        أولاً وآخراً بهذه الصفة ، لأنه في أول الإسلام كان كل من خلص إيمانه وصح إسلامه أتى المدينة إما مهاجراً مستوطناً وإما متشوقاً إلى رؤية رسول الله r       ومتعلماً منه ومتقرباً ، ثم بعده هكذا في زمن الخلفاء كذلك ولأخذ سيرة العدل      منهم والاقتداء بجمهور الصحابة رضوان الله عليهم فيها ، ثم من بعدهم من       العلماء الذين كانوا سرج الوقتوأئمة الهدى لأخذ السنن المنتشرة بها عنهم ،      فكان كل ثابت الإيمان منشرح الصدر به يرحل إليها ثم بعد ذلك في كل وقت     إلى زماننا لزيارة قبر النبي r والتبرك بمشاهده وآثار أصحابه الكرام ، فلا يأتيها       إلا مؤمن .
هذا كلام القاضي عياض ، والله أعلم بالصواب اهـ . شرح صحيح مسلم للنووي ص177 .
2- الإمام النووي :
عقد الإمام الحافظ شرف الدين النووي صاحب شرح صحيح مسلم في    كتابه المعروف في المناسك المسمى بالإيضاح ، عقد فصلاً خاصاً عن الزيارة     النبوية ، قال فيه : إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله r لزيارة تربته r فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي .
(وانظر كلامه أيضاً في شرح صحيح مسلم عند الكلام على حديث لا تشد     الرحال (ج9 ص106) .
3- الإمام ابن حجر الهيثمي :
قال الحافظ ابن حجر الهيثمي في حاشيته على الإيضاح للنووي معلقاً على       قوله : (وقد روى البزار والدارقطني بإسنادهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله r :
((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) ..
      قال : رواه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه وصححه جماعة كعبد الحق         والتقي السبكي ، ولا ينافي ذلك قول الذهبي : طرقها كلها لينة ، يقوي بعضها بعضاً.
ورواه الدارقطني أيضاً والطبراني وابن السبكي وصححه بلفظ :
((من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) ..
وفي رواية :
((كان له حقاً على الله عز وجل أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) ..
والمراد بقوله : لا تحمله حاجة إلا زيارتي ، اجتناب قصد ما لا تعلق له    بالزيارة . أما ما يتعلـق بها من نحو قصد الاعتكـاف في المسجد النبـوي ، وكثرة العبادة فيه ، وزيارة الصحابة وغير ذلك مما يندب للزائر فعله ، فلا يضر قصده في حصول الشفاعة له ، فقد قال أصحابنا وغيرهم : يسن أن ينوي مع التقرب   بالزيارة التقرب بشد الرحل للمسجد النبوي والصلاة فيه كما ذكره المصنف .
ثم الحديث يشمل زيارته r حياً وميتاً ، ويشمل الذكر والأنثى الآتي من    قرب أو بعد ، فيستدل به على فضيلة شد الرحال لذلك ، وندب السفر للزيارة إذ للوسائل حكم المقاصد .
وقد أخرج أبو داود بسند صحيح :
((ما من أحد يسلم عليَّ إلا ردّ الله عليَّ روحي ، حتى أرد عليه السلام)).
فتأمل هذه الفضيلة العظيمة وهي رده r على المسلم عليه إذ هو r          حي في قبره كسائر الأنبياء لما ورد مرفوعاً : الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ، ومعنى رد روحه الشريفة ، رد القوة النطقية في ذلك الحين للرد عليه . اهـ .
(من الإيضاح ص488)
4- الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني :
قال ابن حجر في شرحه على البخاري عند قوله : (لا تشد الرحال إلا إلى   ثلاثة مساجد) . قوله : إلا إلى ثلاثة مساجد المستثنى منه محذوف ، فإما أن        يقدر عاماً فيصير : لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا لثلاثة . أو      أخص من ذلك ،  لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني ، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة   وهو : لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة ، فيبطل بذلك قول    من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين ، والله أعلم .
وقال السبكي الكبير : وقد التبس ذلك على بعضهم فزعم أن شد الرحال      إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع ، وهو خطأ ، لأن الاستثناء إنما يكون     من جنس المستثنى منه ، فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد       أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة ، وشد الرحال  إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكـان بل إلى من في ذلك المكـان ، والله أعلـم
اهـ . (فتح الباري ج3 ص66) .
5- الإمام الشيخ الكرماني شارح البخاري :
قال الشيخ الكرماني في شرحه على البخاري عند قوله : (إلا إلى ثلاثة       مساجد) : ولاستثناء مفرغ ، فإن قلت : فتقدير الكلام لا تشد الرحال إلى     موضع أو مكان فيلزم أن لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى ، حتى لا يجوز   السفر لزيارة إبراهيم الخليل عليه السلام ونحوه ، لأن المستثنى منه في المفرغ لابد   أن يقدر أعم العام .
قلت : المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعاً ووصفاً كما إذا قلت : ما رأيت   إلا زيداً ، كان تقديره : ما رأيت رجلاً أو أحداً إلا زيداً ، لا ما رأيت شيئاً أو  حيواناً إلا زيداً ، فههنا تقديره : لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة ، وقد وقع في    هذه المسألة في عصرنا مناظرات كثيرة في البلاد الشامية ، وصنف فيها رسائل      من الطرفين لسنا الآن لبيانها . اهـ . شرح الكرماني (ج7 ص12) .
6- الشيخ الإمام بدر الدين العيني :
قال الشيخ العيني في شرح البخاري : وحكى الرافعي عن القاضي             ابن كج أنه قال : إذا نذر أن يزور قبر النبي r فعندي أنه يلزمه الوفاء وجهاً    واحداً ، قال : ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان عندي . وقال القاضي   عياض ، وأبو محمد الجويني من الشافعية : أنه يحرم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لمقتضى النهي . وقال النووي : وهو غلط ، والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره . وقال الخطابي : لا تشد لفظه خبر ومعناه الإيجاب فيما نذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها    أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك حتى يشد الرحل له ويقطع المسافة إليه غير هذه الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فأما إذا نذر الصلاة في غيرها من البقاع فإن له الخيار في أن يأتيها أو يصليها في موضعه ولا يرحل إليها .
وقال شيخنـا زيـن الدين : من أحسن محامـل هذا الحديث أن المراد منـه

حكم المساجد فقط وأنه لا يشد الرحل إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة    فأما قصد غير المساجد من الرحلة في طلب العلم وفي التجارة والتنـزه وزيارة الصالحين والمشاهد وزيارة الإخوان ونحو ذلك فليس داخلاً في النهي ، وقد ورد  ذلك مصرحاً به في بعض طرق الحديث في مسند أحمد : حدثنا هاشم حدثنا        عبد الحميد حدثني شهر سمعت أبا الخدري رضي الله عنه وذكر عند صلاة في    الطور ، فقال : قال رسول الله r :
((لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)) ..
وإسناده حسن ، وشهر بن حوشب وثقه جماعة من الأئمة اهـ . (عمدة  القاري ج7 ص254) .
7- الشيخ أبو محمد ابن قدامة إمام الحنابلة صاحب كتاب المغني :
قال الشيخ أبو محمد موفق الدين عبد الله ابن قدامة : ويستحب زيارة قبر      النبي r لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله r :
((من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)) ..
وفي رواية :
((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) ..
رواه باللفظ الأول سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد         عن ابن عمر ، وقال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أن  النبي r قال :
((ما من أحد يسلم عليَّ عند قبري إلا رد الله عليَّ روحي حتى أردّ     عليه السلام)) ..
وإذا حج الذي لم يحج قط يعني من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق       المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد الطرق       ولا يتشاغل بغيره ، ويروى عن العتبي قال : كنت جالساً عند قبر النبي r       فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ! سمعت الله يقول : } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً  رَّحِيماً { وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ، ثم أنشد يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه    فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه     فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني فنمت فرأيت النبي r في النوم فقال :             يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له . اهـ
        (المغني لابن قدامة ج3 ص556) .
8- الشيخ أبو الفرج بن قدامة إمام الحنابلة وصاحب الشرح الكبير :
قال الشيخ شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة الحنبلي في كتابه  الشرح الكبير :
[ مسألة ] : فإذا فرغ من الحج استحب زيارة قبر النبي r وقبر          صاحبيه رضي الله عنهما .
ثم ذكر الشيخ ابن قدامة صيغة تقال عند السلام على النبي r وفيها أن     يقول : (اللهم إنك قلت وقولك الحق : } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً  رَّحِيماً { وقد أتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين برحمتك يا أرحم الراحمين) .
ثم قال : ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي r ولا تقبيله ، قال أحمد      رحمه الله : ما أعرف هذا ، قال الأثرم : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا      يمسون قبر النبي r ، يقومون من ناحية فيسلمون ، قال أبو عبد الله : وهكذا     كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ، قال : أما المنبر فقد جاء فيه ما رواه إبراهيم ابن عبد الله بن عبد القارئ إنه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي r من المنبر ثم يضعها على وجهه . اهـ . (الشرح الكبير ج3 ص495) .
9- الشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي :
قال الشيخ منصور بن يونس البهوتي في كتابه ((كشاف القناع عن متن الإقناع)) : فصل وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي r وقبري     صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لحديث الدارقطني عن ابن عمر قال :      قال رسول الله r :
((من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)) ..
وفي رواية :
((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) ..
رواه باللفظ الأول سعيد .
( تنبـيه ) :
قال ابن نصر الله : لازم استحباب زيارة قبره r استحباب شد الرحال      إليها ، لأن زيارته للحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحال ، فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته r . اهـ (كشاف القناع ج2 ص598) .
10- شيخ الإسلام محمد تقي الدين الفتوحي الحنبلي :
قال الشيخ الفتوحي : وسن زيارة قبر النبي r وقبر صاحبيه رضي الله       تعالى عنهما ، فيسلم عليه مستقبلاً له ، ثم يستقبل القبلة ، ويجعل الحجرة عن   يساره ، ويدعو ، ويحرم الطواف بها ، ويكره التمسح ورفع الصوت عندها .
11- الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي :
قال الشيخ مرعي بن يوسف في كتابه دليل الطالب : وسن زيارة قبر        النبي r وقبر صاحبيه رضوان الله عليهما ، وتستحب الصلاة في مسجده r      وهي بألف  صلاة ، وفي المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد الأقصى     بخمسمائة . اهـ (دليل الطالب ص88) .
12- الإمام شيخ الإسلام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي صاحب القاموس قال في كتابه : [الصلات والبشر] :
اعلم أن الصلاة على النبي r عند قبره آكد فيستحب إعمال المطي       لإدراك الفوز بهذا الشرف العظيم والمنصب الكريم ، قال القاضي ابن كج : [هو القاضي يوسف بن أحمد بن كج] فيما حكاه الرافعي : إذا نذر أن يزور قبر النبي r فعندي أن يلزمه الوفاء وجهاً واحداً ، ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان   عندي ، وقد علم أنه لا يلزمه بالنذر إلا العبادات .
ومن صرح باستحبابها وكونها سنة من أصحابنا الرافعي في أواخر باب     أعمال الحج ، والغزالي في الإحياء والبغوي في التهذيب والشيخ عز الدين           ابن عبد السلام في مناسكه وأبو عمرو بن الصلاح ، وأبو زكريا النووي رحمهم الله تعالى .
ومن الحنابلة : الشيخ موفق الدين ، والإمام أبو الفرج البغدادي وغيرهما .
ومن الحنفية : صاحب الاختيار في شرح المختار له ، عقد لها فصلاً وعدها    من أفضل المندوبات المستحبات .
وأما المالكية : فقد حكى القاضي عياض منهم الإجماع على ذلك ، وفي    كتاب تهذيب المطالب لعبد الحق الصقلي عن الشيخ أبي عمران المالكي أن زيارة    قبر النبي r واجبة ، قال عبد الحق : يعني من السنن الواجبة ، وفي كلام       العبدي المالكي في شرح الرسالة : أن المشي إلى المدينة لزيارة قبر الرسول r     أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس ، وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب تقتضي السفر للزيارة لأنهم استحبوا للحاج بعد الفراغ من الحج الزيارة ، ومن ضرورتها:السفر،وأما نفس الزيارة فالأدلة عليها كثيرة منها: قوله تعالى:}وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً  رَّحِيماً{ .
ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم حي ، وأن أعمال أمتـه معروضـة عليـه        
ثم ذكر الشيخ جملة من أحاديث الزيارة . انتهى من كتاب ((الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر)) تأليف شيخ الإسلام مجد الدين محمد بن يعقوب      الفيروز آبادي (ص147) .
13- الإمام الشيخ محمد بن علان الصديقي الشافعي شارح الأذكار :
قال معلقاً على قول النووي [فإن زيارته أفضل القربات وأنجح المساعي] : وكيف لا وقد وعد الزائر بوجوب شفاعته r وهي لا تجب إلا لأهل الإيمان ففي ذلك التبشير بالموت على الإيمان مع ما ينضم إلى ذلك بسماعه r سلام الزائر     من غير واسطة . أخرج أبو الشيخ : من صلى عليَّ عند قبري سمعته ، ومن صلى عليَّ بعيداً أعلمته . قال الحافظ : وينظر في سنده ، وأخرج أبو داود وغيره عن    أبي هريرة عنه r أنه قال :
((ما من أحد يسلم عليّ إلا ردّ الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام)) ..
قال الحافظ : حديث حسن أخرجه أحمد والبيهقي وغيرهما وأنبئت عن     الشيخ السبكي في شفاء السقام قال : اعتمد جماعة من الأئمة على هذا الحديث في استحباب زيارة قبره r وهو اعتماد صحيح لأن الزائر إذا سلم عليه وقع الرد   عليه من قرب وتلك فضيلة مطلوبة اهـ .
أقول ورده عليه كذلك بنفسه ولو لم يكن للزائر من القرى إلا هذا الخطاب لكان فيه الغنى ، كيف وفيه الشفاعة العظمى ومضاعفة الصلاة في ذلك الحرم  الأسنى ، وقد أورد جملة من الأحاديث في ذلك التقي السبكي في شفاء السقام ،  وابن حجر الهيثمي في الدر المنظم ، وتلميذه الفاكهي في حسن الاستشارة في    آداب الزيارة . اهـ من الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (ج5 ص31) .

]  ]  ]
الزيارة النبوية السلفية
ومعلوم أن المقصود بالزيارة هو الزيارة الشرعية وهي التي بينت السنة النبوية آدابها وما ينبغي أن يفعله الزائر .
قال الشيخ ابن تيمية مبينا الفرق بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل  الشرك : (فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم ، وهو مثل الصلاة على جنائزهم ، وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق ، ينذرون له ويسجدون له ويدعونه ويحبونه مثل ما يحبون الخالق ، فيكونون قد جعلوه لله نداً وسووه برب العالمين ، وقد نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم ، فقال تعالى (آل عمران آيتي : 79،80) : } مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{. وقال تعالى (الإسراء آيتي : 56،57) : } قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً {56} أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً{. قالت طائفة من السلف : كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير ويدعون الملائكة فأخبرهم تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال . اهـ (الجواب الباهر في زوار المقابر لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ص21) .
قلت : وهل زيارتنا لنبينا r إلا على هذا المنهج وبهذا الطريق السوي  والصراط المستقيم ؟ .
فالله يشهد وملائكته وحملة عرشه وأهل السماوات والأرض أننا في زيارتنا لسيدنا ومولانا رسول الله r لا نعتقد إلا أنه r بشر يوحى إليه ، من خيار       عبيد الله يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه ويتقرب إليه بالأعمال ، بل هو أشد الناس حرصاً على ذلك ، فهو أتقانا لله وأخوفنا من الله وأعلمنا بالله وأعرفنا به ،           لا نشبهه بالخالق ولا ننذر له ولا نسجد له ولا ندعوه ولا نجعله لله نداً ولا نسويه          برب  العالمين ، ونحبه كما أمر أكثر كم النفس والمال والولد .
]  ]  ]
الشيخ ابن القيم والزيارة النبوية
وقد ذكر الشيخ ابن القيم في قصيدته المعروفة بالنونية كيف تكون الزيارة وما هي الآداب المطلوبة فيها ، وكيف ينبغي أن يكون شعور الزائر وهو واقف أمام المواجهة الشريفة ، وما ذا ينبغي أن يحس به تجاه صاحب القبر وذكر في آخر      تلك الأبيات أن الزيارة بهذا الإحساس والشعور وبتلك الكيفية هي من أفضل الأعمال فقال :
فإذا أتينا المسجد النبـوي صلــ        ـينـا التحـيـة أولاً ثـنـتـان
بتمام أركان لها وخشوعهــــا        وحضور قلب فعل ذي الإحسـان
ثم انثنينـا للزيـارة نقصد الــ         ـقبر الشريف ولو على الأجفـان
فنقوم دون الـقبر وقفـة خاضع        متذلـل في السر والإعــــلان
فكأنـه في الـقبر حي ناطــق        فالواقفــون نواكـس الأذقــان
ملـكتهم تلك المهابة فاعتـرت         تلك القــوائم كثرة الرجفــان
وتفجرت تلك العيـون بمائهـا         ولطـالما غاضـت على الأزمــان
وأتى المسلـم بالسـلام بهيبـة         ووقــار ذي علــم وذي إيمان
لم يرفع الأصوات حول ضريحـه        كـلا ولم يسجـد على الأذقــان
كلا ولم ير طائفـاً بالقبر أســ        ـبوعـاً كأن القبـر بيت ثـــان
ثم انثنـى بدعائـه متوجـهـاً        للــه نحــو البـيت ذي الأركان
هذي زيارة من غدا متماسكـاً        بشريعـة الإســلام والإيمـــان
من أفضل الأعمال هاتيك الزيا        رة وهـي يـوم الحشر في الميــزان
(انظر النونية المشهورة لابن القيم) .
وتدبر قوله رحمه الله : (من أفضل الأعمال هاتيك الزيارة) فقد أعمى الله بصيرة  بعض من القراء عن قراءتها فأنكرها .
القبر النبوي الشريف
إن بعض الناس أصلحهم الله وهداهم إلى الصراط المستقيم ينظر إلى          القبر  النبوي المكرم من الزاوية القبورية فقط ولهذا فإنه لا غرابة في كل ما يقع في ذهنه من تصورات فاسدة ولا غرابة في كل ما يقع في قلبه من ظنون سيئة    بالمسلمين والزائرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقاصدين إليه والداعين عند قبره فتراه يقول : لا تشد الرحال إلى قبره r ، ولا يجوز الدعاء عند قبره ، بل     قد يصل به العنت إلى أن يقول : إن الدعاء عند قبره شرك أو كفر ، وإن     استقبال القبر بدعة أو ضلال ، وإن إكثار الوقوف والتردد على القبر شرك أو بدعة أو أن من قال : إن القبر أفضل البقاع وبما فيها الكعبة فقد أشرك أو ضل .      وهذا التكفير والتضليل هكذا بالكيل الجزاف دون تبصر أو تعقل مخالف لما عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين .
ونحن حينما نتكلم عن القبر أو عن زيارة القبر أو عن تفضيل القبر أو شد الرحال إلى القبر أو دعاء الله وسؤاله أمام القبر فإن المقصود الذي لا يختلف فيه   اثنان ولا ينتطح فيه عنزان إنما هو ساكن القبر وصاحباه ، ألا وهو سيد المرسلين والآخرين وأفضل مخلوقات الله أجمعين النبي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما هي قيمة القبر بدونه بل ما هي قيمة المسجد بدونه بل ما هي      قيمة المدينة المنورة بدونه بل ما هي قيمة المسلمين كلهم بدونه ، فإنهم لولاه ولولا رسالته والإيمان به ومحبته والإقرار بالشهادة التي لا تصح إلا به ما كانوا ولا قاموا ولا فازوا ولا نجوا .
ومن هنا فإن ابن عقيل الحنبلي لما سئل عن المفاضلة بين الحجرة والكعبة     فقال : إن أردت مجرد الحجرة فالكعبة أفضل ، وإن أردت وهو r فيها فلا والله    لا العرش وحملته ولا جنة عدن ولا الأفلاك الدائرة ، لأن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح . (كذا في بدائع الفوائد لابن القيم) .
هذا هو المقصود بالقبر وتفضيله وزيارته وشد الرحال إليه .
ومن هنـا أيضاً قال العلمـاء : إنه لا ينبغي أن يقـول : زرت الـقبر وإنما
زرت النبي r ([1]) ، وهذا ما قرره العلماء في تفسير قول الإمام مالك رحمه الله :  أكره للرجل أن يقول : زرنا قبر النبي r وذلك لأنه إنما يزور من يسمعه ويراه ويحس به ويعرفه ويرد عليه ، فالقضية ليست قضية قبر بل هي أكبر من ذلك    وأجل وأرفع من أن ينظر إليها من الزاوية القبورية ، فإذا نظرنا إلى القبر فقط دون النظر إلى من فيه وجدنا الأرواح الطاهرة التي تحف به من كل جانب ووجدنا   جسراً ملائكياً متصلاً ممتداً من الملأ الأعلى إلى قبر محمد r مواكب متصلة           لا تنقطع أعدادها وأمدادها لا يحصيها إلا الحق جل جلاله .
روى الدارمي في سننه : حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني       خالد هو ابن يزيد عن سعيد هو ابن أبي هلال عن نبيه بن وهب : أن كعباً       دخل على عائشة فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال كعب :        ما من يوم يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بقبر النبي صلى الله    عليه وآله وسلم يضربون بأجنحتهم ويصلون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يزفونه . كذا في سنن الدارمي ج1 ص44) .
قلت : وروى هذا الأثر أيضاً الحافظ إسماعيل القاضي بسنده وهو جيد في المتابعات والشواهد والمناقب وفضائل الأعمال .
وإذا نظرنا ما حول القبر من الروضة التي هي قطعة من الجنة والمنبر الذي     نال الشرف الأعلى بالحبيب r وسيكون يوم القيامة على حوضه العظيم وإلى  الجذع الذي حن إليه حنين الثكلى وسيكون يوم القيامة في جنة الخلد وسط  أشجارها ، وقد قيل : إنه دفن في موضعه بالمسجد فلا أظن أن عاقلاً حريصاً على الخير يتوقف عن الدعاء في هذه المواضع .

القبر النبوي والدعاء
ذكر العلماء رضي الله عنهم : أنه يستحب لمن زار النبي صلى الله عليه     وسلم أن يقف للدعاء فيسأل الله تعالى ما يشاء من الخير والفضل ولا يلزمه         أن يتوجه إلى القبلة ولا يكون في وقوفه ذلك مبتدعاً أو ضالاً أو مشركاً ، وقد نص العلماء على هذا الأمر ، بل قد ذهب بعضهم إلى القول بالاستحباب .
والأصل في هذا الباب هو ما جاء عن الإمام مالك بن أنس لما ناظره           أبو جعفر المنصور في المسجد النبوي ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ! لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوماً فقال : } لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ   فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ { الآية . وقد مدح قوماً فقال : } إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ  عِندَ رَسُولِ اللَّهِ { الآية . وذم قوماً فقال : } إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ { الآية . وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً ، فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبد الله ! أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله r ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو  وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله ، قال الله تعالى : } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ { الآية .
  وهذه القصة رواها القاضي عياض بسنده في كتابه المعروف بـ ((الشفا في التعريف بحقوق المصطفى))في باب من أبواب الزيارة ، وقد صرح كثير من العلماء بهذا .
قال الشيخ ابن تيمية : قال ابن وهب فيما يرويه عن مالك : إذا سلم على  النبي r يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر   بيده . اهـ (من اقتضاء الصراط المستقيم ص396) .
وصرح النووي رحمه الله في كتابه المعروف بالأذكار في أبواب الزيارة ،  وكذلك في الإيضاح في باب الزيارة ، وكذلك في المجموع (ج8 ص272) .
قال الخفاجي شارح الشفا : قال السبكي : صرح أصحابنا بأنه يستحب       أن يأتي القبر ويستقبله ويستدبر القبلة ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ،     ثم على الشيخين ثم يرجع إلى موقفه الأول ويقف فيدعو . اهـ شرح الشفا للخفاجي (ج3 ص398) .
]  ]  ]

رأي الشيخ ابن تيمية :
قال الشيخ ابن تيمية بعد نقل أقوال العلماء في هذا الموضوع :           [فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء ] .
هذه خلاصة ما يراه الشيخ ابن تيمية في هذا الموضوع وهو يدل دلالة    واضحة على أن من وقف أمام القبر يدعو الله تعالى ويسأله من فضله كما شرع    هو على أساس متين معتبر مؤيد بأقوال أئمة من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، ولو تأمل المنصف العاقل قول الشيخ ابن تيمية : [وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء] لفهم منها ما يطمئن قلبه ويقر عينه ويبشره بأن هؤلاء الذين يقفون بعد السلام على الرسول r للدعاء عند قبره ما زالوا على التوحيد ، ومن أهل الإيمان ، ولأن هذه المسألة متنازع فيها بين السلف والكلام مختلف بينهم بين الاستحباب وغيره ، فهل يصل الحال إلى القول بالشرك والضلال ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
]  ]  ]
تحليل كلام الشيخ ابن تيمية :
والمفهوم من كلام الشيخ ابن تيمية هو أن المنهي عنه حقيقة هو تحري      الدعاء عند القبور أو قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك ، أو تستشعر أن الدعاء عند القبر أجوب من غيره ، أما أن يدعو الله تعالى في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور فيدعو عندها أو أن يزور قبراً فيسلم على صاحبه ثم يدعو في مكانه ذلك فلا يلزمه أن يتحول إلى القبلة ولا يقال في حقه : إنه مشرك أو مبتدع. وإليك نصوص كلام الشيخ في هذا الموضوع . قال في اقتضاء الصراط المستقيم     في صفحة 336 : فمما يدخل في هذا قصد القبور للدعاء عندها أو لها فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين :
أحدهما : أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها ،      كمن يدعو الله تعالى في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور أو من يزورها فيسلـم عليهـا
ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فهذا ونحوه لا بأس به .
الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب        منه في غيره ، فهذا النوع منهي عنه : غما نهي تحريم أو تنزيه وهو إلى التحريم أقرب والفرق بين البابين ظاهر .
ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب أو كنيسة يرجو الإجابة بالدعاء في    تلك البقعة لكان هذا من العظائم بل لو قصد بيتاً أو حانوتاً في السوق ، أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها يرجو الإجابة بالدعاء عندها لكان هذا من المنكرات المحرمة إذ ليس للدعاء عندها فضل .
فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب بل هو أشد من بعضه لأن           النبي r نهى عن اتخاذها مساجد وعن اتخاذها عيداً وعن الصلاة عندها          بخلاف كثير من هذه المواضع .
ثم قال في صفحة 338 : إن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة    بالدعاء هناك رجاء أكثر نم رجائها في غير ذلك الموطن أمر لم يشرعه الله ولا    رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ، ولا ذكره أحد  من العلماء الصالحين المتقدمين .
ثم قال في صفحة 339 : ومن تأمل كتب الآثار وعرف حال السلف         تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم كما ذكرنا بعضه . اهـ (من اقتضاء الصراط المستقيم ص339) .
]  ]  ]

رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدعاء عند القبر
الدعاء عند القبر ليس بدعة ولا شركاً
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن قولهم في الاستسقاء :                   (لا بأس بالتوسل بالصالحين) وقول أحمد: [يتوسل بالنبي r خاصة] مع قولهم:      (إنه لا يستغاث بمخلوق) .
فقال : فالفرق ظاهر جداً وليس الكلام مما نحن فيه ، فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي r ، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك    ويكرهه ، فهذه المسألة من مسائل الفقه وإن كان الصواب عندنا قول الجمهور :
إنه مكروه ، فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد ، لكن إنكارنا  على من دعا لمخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى ويقصد القبر يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب فيه تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإعطاء الرغبات ، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً ، ولكن  يقول في دعائه : أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين ، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده لكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين ، فأين هذا مما    نحن فيه . (انتهى من فتاوى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في مجموع     المؤلفات القسم الثالث ص68 التي نشرتها جامعة الإمام محمد بن سعود       الإسلامية في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب) .

]  ]  ]




القبر النبوي والتبرك بالتمسح به أو الشباك وتقبيله
اعلم أنه ينبغي للزائر أن لا يقبل القبر الشريف ولا يمسحه بيديه ولا يلصق  بطنه وظهره بجداره أو بالحاجز المستور بالكسوة أو الشباك فإن كل ذلك مكروه لما فيه من استعمال خلاف الأدب في حضرته r ، وقصد التبرك لا ينفي الكراهة     لأنه جهل بما يليق من الأدب ولا اغترار بما يفعله أكثر العوام فإن الصواب الذي  قاله العلماء وأطبقوا على خلافه كما صرح به النووي في إيضاحه .
وأطال ابن حجر في المنح والجوهر في ترجيحه ، قال في الإحياء : مسّ    المشاهد وتقبيلها عادة اليهود والنصارى اهـ .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله ما معناه : اتبع طرق الهدى ولا يضرك       قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ، ومن خطر بباله     أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته ، لأن البركة إنما هي  فيما وافق الشرع وكيف ينبغي الفضل في مخالفة الصواب . اهـ .
   (من المجموع ج8 ص275).
رأي الإمام أحمد بن حنبل
وقد جاءت روايات عن الإمام أحمد في هذا الموضوع بعضها يفيد            جواز ذلك وبعضها يفيد التوقف في الحكم ، وبعضها يفيد التفريق بين المنبر النبوي وبين القبر ، وذلك بجواز الأول والتوقف في الثاني أو الإباحة ومهما كان ذلك الاختلاف فإنه لا يصل الحال بالحكم على فاعله بالكفر أو الضلال أو الخروج     عن الملة أو الابتداع في الدين غاية ما في الأمر أنه فعل ما هو مختلف فيه ، أو        ما هو مكروه ، والمقصود هو ألا يتخذ ذلك عادة حتى يغتر به العوام ويظنونه من مستلزمات الزيارة وآدابها ، وإليك كلام الإمام أحمد :
قال في خلاصة الوفا ما نصه : وفي كتاب العلل والسؤالات لعبد الله           ابن أحمد ابن حنبل قال : سألت أبي عن الرجل يمس قبر النبي r يتبرك بمسه     وتقبيلـه ويفعل بالمنبر مثل ذلك رجـاء ثواب الله تعالى ، فقـال : لا بأس به .
قال أبو بكر الأثرم : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر          النبي r يمس ويتمسح به ؟ فقال : ما أعرف هذا ، قلت له : فالمنبر ؟ فقال :       أما المنبر فنعم ، فقد جاء فيه ، قال أبو عبد الله : شيء يروونه عن ابن فديك عن   أبي ذئب عن ابن عمر [ أنه مسح على المنبر ] قال : ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة ، قلت : ويروون عن يحيى بن سعيد : أنه حين أراد الخروج إلى       العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه ، ثم قال : لعله عند الضرورة والشيء ، قيل لأبي عبد الله : إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر ، وقلت له : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون ، فقال أبو عبد الله : نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ، ثم قال أبو عبد الله : بأبي هو وأمي r .
قال الشيخ ابن تيمية :
فقد روى أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي r ويده ، ولم يرخصوا في التمسح بقبره ، وقد حكى بعض أصحابنا رواية في        مسح قبره لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له والفرق بين الموضعين ظاهر . اهـ اقتضاء الصراط المستقيم (ص367) ، ونقله ابن مفلح عن الإمام أحمد في الفروع (ج3/ ص524) .
]  ]  ]
القبر النبوي محفوظ من الشرك والوثنية
وقد حفظ الله تعالى هذا القبر المشرف بالحبيب الأعظم والنبي الأكرم r      فلا يقع عنده شرك ولا شيء من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله ، ولا يقع في ذهن أحد أنه وثن يعبد أو قبلة يتوجه إليها بالعبادة وذلك ببركة دعوة رسول    الله r حيث دعا بذلك فاستجاب الله دعاءه وحقق مطلوبه ، قال شيخ        الإسلام ابن تيمية : وفي موطأ مالك رضي الله عنه عن النبي r أنه قال :
((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ..
وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثناً كما اتخذ قبر غيره      بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة ، وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحداً من أن يدخل إليه ليدعو عنده ، ولا يصلي عنده ولا غير ذلك  مما يفعل عند قبر غيره ، لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه ، وهذا إنما يفعل خارجاً عن حجرته لا عند قبره وإلا فهو  ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلى      عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثناً ، فإنه في حياة عائشة   رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها ، ولم تكن تمكن أحداً أن يفعل عند قبره شيئاً مما نهى عنه ، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها       وبنى عليها حائط آخر ، كل ذلك صيانة له أن يتخذ بيته عيداً وقبره وثناً ، وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ولا يأتي إلى ما هناك إلا مسلم وكلهم  معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة ، فما  فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم ، بل فعلوه لئلا يتخذ وثناً يعبد ، ولا يتخذ بيته عيداً ، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم ، والقبر المكرم في   الحجرة إنما عليه بطحاء وهو الرمل الغليظ ليس عليه حجارة ولا خشب ، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره وهو r إنما نهى عن ذلك سداً للذريعة ، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يفضي ذلك إلى الشرك ، ودعا الله عز وجل أن لا يتخذ قبره وثناً يعبد فاستجاب الله دعاءه r ، فلم يكن مثل      الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحداً لا يدخل عند قبره البتة ، فإن من كان    قبله من الأنبياء إذا ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبياً ينهى عنها وهو r خاتم     الأنبياء لا نبي بعده فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة وعصم قبره المكرم أن   يتخذ وثناً فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك وكان   الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة وهو r قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة ، فلم     يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره r . اهـ .
(من الجواب الباهر في زوار المقابر ، ص13 للشيخ ابن تيمية) .

]  ]  ]


التردد على الآثار النبوية والمشاهد الدينية
والتبرك بزيارتها
كتب في هذا الموضوع الشيخ ابن تيمية كلاماً نفيساً جداً ، ونحن ننقل        منه هذه الفوائد المهمة .
فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا عليها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه وتعالى فيها لكنهم لم يتخذوها مساجد .
فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين :
أحدهما : النهي عن ذلك وكراهته ، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا    أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع مثل أن يكون النبي r قصدها      للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الاستطوانة.
وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك .
والقول الثاني : أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر [أنه      كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي r قد سلكها اتفاقاً لا قصداً] .
قال سندي الخواتيمي : سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد     يذهب إليها ترى ذلك ؟ قال : أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي r      أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى ، وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع  مواضع النبي r وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا وأكثروا فيه .
وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم : أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد     التي بالمدينة المنورة وغيرها يذهب إليها ؟ فقال : أما على حديث ابن أم مكتوم    (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجداً)، أو على ما كان يفعل ابن عمر : كان يتتبع مواضع سير النبي r حتى أنه رؤي   يصب في موضع ماء ، فسئل عن ذلك ، فقال : (كان النبي r يصب هاهنا       ماء) . قال : أما على هذا  فلا بأس . قال : ورخص فيه ثم قال : ولكن قد أفرط الناس جداً وأكثروا في هذا المعنى ، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده .
   رواهما الخلال في كتاب الأدب .
قال الشيخ ابن تيمية :
فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء  والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي           لا يتخذونه عيداً أو الكثير الذي يتخذونه عيداً كما تقدم .
وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة ، فإنه قد روى البخاري     في صحيحه عن موسى بن عقبة قال : رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي r يصلي في تلك الأمكنة ، قال موسى : وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك    الأمكنة] .
فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه .
وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال : (خرجنا معه في      حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ } أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ { ،            و } لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ { في الثانية ، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال : ما هذا ؟ قالوا مسجد صلى فيه رسول الله r فقال :
((هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم : اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من    عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض)) ..
فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي r عيداً ، وبين أن أهل    الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا .
قال الشيخ ابن تيمية : قد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان        المشاهد .
فقال محمد بن وضاح : كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان    تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قباء وأحداً ، ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ، ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها .
فهؤلاء كرهوها مطلقاً لحديث عمر رضي الله عنه هذا ولأن ذلك يشبه   الصلاة عند المقابر  إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً وإلى التشبه بأهل الكتاب ،    ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة ، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحداً منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي r ([2]2).
ثم قال : واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة من  المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها .
وأما أحمد : فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيداً      مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيراً لهن إلا إذا تبرجن ، وجمع بذلك بين     الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم . اهـ اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم (ص387) .
والحاصل الظاهر من كلام الإمام أحمد أنه يجيز التردد على الآثار والمشاهد والأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين ويرى أن تتبع ذلك والاعتناء به له أصل في السنة النبوية وهو ليس ببدعة ولا ضلالة فضلاً عن أن يكون شركاً أو كفراً ، لكنه انتقد الإفراط في ذلك والاشتغال به بصورة زائدة .
هذه خلاصة رأيه رضي الله تعالى عنه .
أما الشيخ ابن تيمية فقد فهم نم كلام أحمد التفصيل في هذا الأمر بين       القليل والكثير ، وفهم أن الكثير من ذلك هو المكروه عند أحمد وحكم عليه       بأنه مكروه فقط ولم يزد على القول بالكراهة شيئاً وقد بين ابن تيمية القدر الكثير الذي يصير به هذا التردد والتتبع للآثار النبوية مكروهاً ، وهو أن تتخذ تلك الأماكن والآثار عيداً يجتمعون عليه عندها ويحتفلون بها في أوقات مخصوصة .
ويفهم من كلام الشيخ ابن تيمية أيضأً أن الآثار التي ثبت أن               الأنبياء اتخذوها مسجداً أو صلوا فيها فإنها خارجة عن هذا التفصيل ، وينبني عليه  أن الأماكن والآثار التي ثبت أن الأنبياء صلوا فيها لها ميزة على غيرها وأنها تقصد للعبادة والصلاة ، وهذا صريح كلامه حين قال في أول البحث : [لكنهم             لم يتخذوها مساجد] ، وحين قال : (فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي    الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً والكثير الذي يتخذونه عيداً كما تقدم) . اهـ (من اقتضاء الصراط ص385) .
معنى العيد المنهي عنه في الحديث :
وقد حدد الشيخ ابن تيمية معنى العيد المنهي عنه في الحديث بقوله r :
((لا تتخذوا قبري عيداً)) ..
فقال :
وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه        رسول الله r بقوله :
((لا تتخذوا قبري عيداً)) ..
فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائداً بعود السنة أو الشهر         أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي      تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال : وقد أفرط الناس في هذا جداً وأكثروا ، وذكر   ما يفعل عند قبر الحسين .
وقال في موضع آخر : فأما اتخاذ قبورهم أعياداً فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين       هو اتخاذها عيداً كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين من أهل العلم في ذلك خلافاً     ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة ، فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي r أنه كائن في هذه الأمة . اهـ اقتضاء الصراط المستقيم (ص377) .
عقيدة المؤلف :
وهذا الذي ذكره الشيخ ابن تيمية هو عين ما نعتقده في هذا الموضوع     بفضل الله سبحانه وتعالى وهو ما ندعو إليه ونحث الناس عليه في كل مجال وفي     كل مناسبة إننا ننهاهم أن يتخذوا قبر النبي r أو الآثار والمشاهد عيداً وننهاهم     أن يخصوها بشيء من أنواع العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله سبحانه وتعالى ، وننهاهم أن يخصصوا لها يوماً يجتمعون فيه ويحتفلون به ، هذا ما نعتقده وندين الله   به ، لا من اليوم ولا من الأمس بل خلف عن سلف وأبناء عن آباء ، بفضل الله سبحانه وتعالى .
فالواجب علينا أن نلاحظ بعين الاعتبار هذه الأقوال والتحليلات العلمية الدقيقة التي تدل على حسن الفهم في تذوق العلم وأن لا نبادر إلى تكفير     المسلمين أو الحكم عليهم بالضلال والبدعة لمجرد تتبعهم للآثار النبوية واهتمامهم بالمقامات والمشاهد والأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين ، وأن نحسن الظن بهم وأن نعلم أن المقصود الأصلي هو الله سبحانه وتعالى ، وهذه كلها أسباب ووسائل تزيد في النفس الإيمان والاعتبار والادكار والارتباط بأصحابها وتاريخهم ، وهم القدوة الحسنة للبشر مع ما في ذلك من التعرض للنفحات والبركات المتنـزلة في أماكن الخير ومواطن الهدى لأن الأماكن التي كانت معمورة بأهل الخير والصلاح   لا تزال هي محل الرضا والرضوان ، والأماكن التي كانت معمورة بأهل الشر والفساد هي محل السخط والغضب ، ولذلك أمر r أصحابه أن لا يدخلوا ديار ثمود إلا وهم باكون ، وأن لا يشربوا من مائها ، بل أمرهم أن يهريقوا ما أخذوه ، وأن  لا يأكلوا ما طبخوه بها ، وكذلك أمرهم بالإسراع في المشي إذا دخلوا وادي محسر المعروف بوادي النار .
وقد فصلنا هذا الموضوع بعينه في مبحث خاص : بالتبرك بالآثار النبوية .
الاعتناء بالآثار والمشاهد
المحافظة على الآثار النبوية أصل عظيم وتراث كريم وتاريخ ، إنه تاريخ الأمة الذي تفخر به والذي يظهر به شرفها وشرف رجالها وأئمتها الذين بنوا مجدها وأقاموا عزها وصنعوا منها أمة قائدة رائدة في كل مجال ، ولذلك فإن إهمال هذه الآثار  إهدار لشواهد الحضارة الإسلامية الواقعية ومسخ لأصول طبيعية باقية من تراثنا الإسلامي وجناية على أعز ما تملكه الأمة في هذا المجال ، إنه هو وصمة في الجبين وقذاة في العين يعكر صفو الرؤية ويشوه الصورة ويفوت علينا خيراً عظيماً لا  يعوض ولا يدرك لأنه ستتغير معالمه وتنطمس رسومه ثم لا يبقى منه شيء ثم          لا يبقى من يعرف منه شيئاً .
فإن قيل إن بعض الناس يتخذها عيداً ويشرك بالله عندها بعبادتها دون الله      أو بالطواف حولها وربط الحبال وإلقاء الأوراق أو الذبح لها .
فنقول : إن ذلك كله لا نرضاه ولا نوافق عليه بل وننهى عنه ونحذر الناس   منه وهو من الجهل الذي يجب محاربته لأن هؤلاء يؤمنون بالله ويقرون له بالتوحيد ويشهدون أنه  لا إله إلا هو ولكنهم يخطئون العمل ويجهلون الصواب ، فالواجب تعليمهم وإرشادهم ولكن ذلك كله لا يدعو إلى إهمالها أو إزالتها ومحوها من   الوجود والاعتذار بتلك الحجج اعتذار بارد وتعليل عليل ليس بمقبول عند العلماء والعقلاء إذ يمكن إزالة تلك العوارض إذا وجدت بالمنع والمراقبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والخلق الحسن مع بقاء آثارنا والمحافظة عليها والاعتناء بها حفظاً لأصالة الأمة ووفاء للتاريخ وأداء للأمانة التي في أعناقنا والتي هي جزء أصيل من تاريخنا المجيد وتاريخ نبينا محمد r ، والمفكرون اليوم يحافظون على آثار بائدة لأمم ملعونة مسخوطة معذبة ممن سبقنا كقوم ثمود وعاد ، فهل يصح أن نحافظ على تلك الآثار ونعتني بها ونجاهد في     سبيل بقائها ونضيع آثار أشرف خلق الله الذي تشرفت به البلاد والعباد وأعز الله   به الأمة ورفعها وجعل لها المكانة العالية والرتبة السامية التي ما نالها نائل ولا وصل إليها واصل إلا بسبب الانتماء إلى الحظ السعيد والمجد التليد محمد بن عبد الله r.
اعتناء القرآن بآثار الأنبياء السابقين :
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز قصة تابوت بني إسرائيل الذي       جعله علامة صحة ملك طالوت عليهم فقال :
} وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ { .
هذا التابوت شأنه عظيم ومقامه كريم وكان عندهم يقدمونه بين أيديهم في حروبهم فيحصل لهم النصر ببركة التوسل إلى الله تعالى به وبما فيه ، فلا يقاتلون   أحداً  من أعدائهم إلا ويكون معهم هذا التابوت ، وقد أخبر الله تعالى في الآية عن محتوياته بأنه فيه سكينة إلهية وآثار نبوية وهي التي قال عنها : } وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ     آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ { ، وهذه البقية من تركة آل هارون هي عصا موسى وعصا هارون وثيابه والنعلان ولوحان من التوراة . كذا في تفسير ابن كثير (ج1 ص313) ، وفيه أيضاً طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء . انتهى من البداية والنهاية (ج2 ص8) .
وبسبب هذه الآثار العظيمة المنسوبة إلى أولئك المصطفين الأخيار من عباد     الله عظم الله قدر هذا التابوت ورفع شأنه وحفظه ورعاه برعايته الخاصة لما غلبوا بسبب معاصيهم ومخالفتهم إذ لم تتحقق أهليتهم للاحتفاظ به فعاقبهم الله تعالى   بأخذه وسلبه منهم ثم حفظه الله تعالى ثم رده إليهم ليكون علامة على صحة ملك طالوت عليهم ، وقد رده إليهم بالتعزيز والتكريم والتقدير إذ جاءت به الملائكة تحمله إليهم .
فأي عناية أعظم من هذه العناية بالآثار والاهتمام بها والمحافظة عليها وتنبيه العقول والأفهام إلى أهمية ذلك الأمر وجلالته وقيمته التاريخية والدينية والحضارية .
]  ]  ]
محافظة الخلفاء الراشدين على خاتم النبي r
روى الإمام البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : اتخذ      رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم خاتماً من ورق وكان في يده ثم كان بعد في    يد أبي بكر ثم كان بعد في يد عثمان حتى وقع بعد في بئر                          أريس نقشه محمد رسول الله .
رواه البخاري في الصحيح في كتاب اللباس باب خاتم الفضة ، قال        الحافظ ابن حجر : جاء في رواية النسائي : أنه التمس فلم يوجد ، وجاء في رواية ابن سعد : أنه كان في يد عثمان ست سنين . اهـ (فتح الباري ج10 ص313) .
قال العيني : وبئر أريس حديقة بقرب مسجد قباء . اهـ عمدة القاري   (ج22 ص31) . قلت : وهذه البئر صارت معروفة اليوم ببئر الخاتم وهو خاتم  رسول الله r الذي سقط فيها أيام خلافة عثمان وقد اجتهد ثلاثة أيام في   استخراجه بكا ما وجد سبيلاً فلم يلقه . (أنظر المغانم المطابة في معالم طابة      للفيروز آبادي ص26) .
]  ]  ]
محافظة الخلفاء الراشدين على حربة كانت عند النبي r
روى الإمام البخاري بسنده إلى الزبير رضي الله تعالى عنه قال : لقيت يوم   بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه وهو يكنى          أبا ذات الكرش فقال : أنا أبو ذات الكرش فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات ، قال هشام : فأخبرت أن الزبير قال : لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها ، قال عروة : فسأله إياها رسول الله       r فأعطاه ، فلما قبض رسول الله r أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها ،      فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر ، فأعطاه إياها ، فلما قبض عمر أخذها ، ثم  طلبها عثمان منه فأعطاه إياها ، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله
ابن الزبير ، فكانت عنده حتى قتل .
رواه البخاري في كتاب المغازي باب شهود الملائكة بدراً ، وقوله فحملت عليه بالعنزة . العنزة بفتح النون هي كالحربة ، وقال بعضهم : هي شبه العكاز .
وحاصل القصة هو أن الزبير قتل عبيدة بن سعيد بن العاص يوم بدر طعنه      في عينه بالعنزة فمات ، ثم طلب النبي r منه تلك العنزة عارية فأعطاه ، فلما     قبض r أخذها الزبير ثم طلبها أبو بكر من الزبير عارية فأعطاه وبقيت عنده إلى أن مات ثم رجعت إلى الزبير صاحبها الأول ثم طلبها عمر من الزبير فأعطاه وبقيت  عنده مدة حياته ثم رجعت إلى الزبير صاحبها الأول ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها فلما قتل عثمان وقعت عند عليّ فطلبها الزبير صاحبها الأول فكانت عنده حتى قتل. أنظر (الفتح ج7 ص314 ، وعمدة القاري ج17 ص107) .
ونحن نتساءل لماذا هذا الحرص العظيم والاهتمام بهذه الحربة والحراب كثيرة ، ولعل هناك ما هو أحسن منها وأجود وممن هذا الحرص ؟ إنه من الخلفاء الأربعة الراشدين المهتدين أئمة الدين وأركان التوحيد وأمناء الدين .
]  ]  ]
محافظة عمر بن الخطاب على ميزاب العباس
لأنه وضعه r
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر رضي الله عنه فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان ، فلما وافى الميزاب صب فيه من دم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه   ثم رجع فطرح ثيابه ولبس غيرها ، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس فقال : والله   إنه الموضع الذي وضعه رسول الله r ، فقال عمر للعباس : عزمت عليك لما  صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله r ففعل       ذلك العباس . كذا في الكنز (ج7 ص66) .
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة في كتابه المغني :
فصل : ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذ إلا بإذن أهله .
  وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يجوز إخراجها إلى الطريق لأن عمر رضي الله عنه اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزاباً إلى الطريق فقلعه ، فقال العباس : تقلعه وقد نصبه رسول الله r بيده ؟ فقال : والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه . اهـ من المغني لابن قدامة (4/554) .
ابن عمر لم يكن وحده مع الآثار
اشتهر ابن عمر رضي الله عنهما بتتبعه للآثار واعتنائه بها ومحافظته عليها ، قال الشيخ ابن تيمية : سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يأتي هذه المشاهد ،    فأجاب وذكر في جوابه : أن ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي r حتى أنه    رؤي يصب في موضع ماء ، فسئل عن ذلك ، فقال : كان النبي r يصب        هاهنا ماء .
وروى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال : رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي r يصلي في تلك الأمكنة ، قال موسى : وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة اهـ . اقتضاء الصراط المستقيم (ص385) .
ولكن لم ينفرد ابن عمر بهذا الأمر بل شاركه كثير من الصحابة رضي الله عنهم في التتبع للآثار والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا من قبل من فعل الخلفاء الراشدين والأئمة المهدين الذين جعل النبي r فعلهم سنة متبعة مستمدة من سنته وهديه وأمر بالتمسك بها والرجوع إليها ، ومعلوم أن سنتهم هي سنته لأنهم لا كلام ولا اجتهاد ولا نظر أمام كلامه الذي صح وثبت عنه r .
وذكرنا في مبحث التبرك بالآثار جملة صالحة من النصوص التي لها اتصال وثيق بهذا المبحث وبها ينجلي ويتضح كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بآثاره وفيهم ابن عمر وغيره ، والحق أن هذا البحث وذاك متصلان ونابعان من أصل واحد لأن التبرك بالآثار هو فرع المحافظة عليها والاعتناء بها إلا أن الثانية ألصق بالتاريخ والحضارة الاجتماعية والأولى أنسب للإيمان والمحبة والتعلق .
ابن عباس والآثار القديمة
لما أراد عبد الله بن الزبير هدم الكعبة جمع الصحابة فاستشارهم في ذلك فاقترح عليه ابن عباس أن لا يهدمها كلها وأن يصلح المواضع التي تحتاج إلى إصلاح فقط ليبقى الصالح على ما هو عليه محافظة على الحجارة القديمة التي كانت في العهد الأول عهد الإسلام عهد البعثة عهد النبي r .
  عن عطاء قال : لما احترق البيت (زمن يزيد بن معاوية) حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان . تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرّئهم (أو يَحْربهم) على أهل الشام . فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ! أشيروا عليَّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهي منها ؟ قال ابن عباس: فإني قد فُرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهي منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه وأحجاراً أسلم الناس عليها وبُعث عليها النبي  r .
(صحيح مسلم كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها شرح النووي ص92/94 ج9).


]  ]  ]

غيرة عمر على الآثار النبوية
وقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه شديد الغيرة على الآثار النبوية عظيم   العناية بها والحماية لها ، ولذلك لما رأى الناس مجتمعين على شجرة زعموا أنها    شجرة الرضوان التي حصلت عندها بيعة الرضوان وذكرها الله تعالى في كتابه بقوله  } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ { ، إذ كان رضي الله عنه يعرف حق المعرفة أن الشجرة غير معروفة ولا أحد يعلم مكانها فضلاً عن عينها وأن أصحابها الذين حضروها وشهدوها وبايعوا تحتها هم بأنفسهم لا يعرفونها فكيف بغيرهم بل قد صرحوا بذلك كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما إنه جاء في العام التالي لعام بيعة الرضوان ، قال : فبحثنا عن الشجرة فلم يقع    عليها رجلان .
قال المسيب والد سعيد : لقد رأيت الشجرة ثم أنسيتها بعد فلم أعرفها ، وقول طارق بن عبد الرحمن : طلعت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت : ما هذا     المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله r بيعة الرضوان فأتيت     سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة     قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم . وفي رواية  أنه قال : فعميت علينا . أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة    الحديبية ، وصحيح مسلم كتاب الإمارة باب استحباب متابعة الإمام .
أي لم يتفق رأي رجلين على شجرة واحدة بالتعيين ، فإذا كان هذا في      خلال سنة واحدة في عهد واحد ومع توافر وجود أصحاب الرضوان الذين حضروا عندها وبايعوا تحتها فما بالك بشجرة ظهرت في زمن عمر بعد سنوات عديدة .
اختلف العهد ومات أكثر من حضر الموقف ، واختلف الناس في تعيين   الشجرة المباركة التي تشرفت بالبيعة المحمدية ، وحصل عندها أعظم موقف         من مواقف التضحية والجهاد اهتزت له السموات والأرض ، وشهدته الملائكة  الكرام وسجله القرآن بقوله : } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً { الآية .
ثم كان عند هذه الشجرة المباركة الميمونة إعلان منقبة من أعظم مناقب وخصائص النبي الأعظم والرسول الأكرم r سجّلها القرآن بقوله : } إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ { الآية .
فعمر رضي الله عنه لم يقطعها ليمنع التبرك بالآثار أو لأنه لا يرى ذلك ولم    يقع ذلك المعنى في قلبه أصلا ولم يخطر على باله أبداً بدليل أنه رضي الله عنه ثبت  عنه التبرك وطلب التبرك بالآثار ونحوها كطلبه من أبي بكر العنزة التي كانت عند رسول الله r ومحافظته على خاتم رسول الله r وغير ذلك ، وكان رسول الله       r قد استعار تلك العنزة من الزبير كما في البخاري في باب شهود الملائكة بدراً  اهـ من المغازي . وفي نسخة القسطلاني (ج6 ص264) .
]  ]  ]
الاهتمام بالنعال النبوية والقيام بدراسة علمية لها
ومن الآثار النبوية التي نالت اهتمام العلماء وعنايتهم النعال النبوية ، بل  حظيت بدراسة عميقة ودقيقة عن صفتها ومثالها ولونها ، فكتبوا عنها البحوث المتخصصة وألفوا فيها الرسائل المستقلة .
والمقصود من ذلك كله هو صاحب النعال ، ألا وهو النبي الأعظم      والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم .
وإذا كنا نهتم بآثار العظماء وملابسهم وثيابهم ومتاعهم ونبذل في حصيلها  الغالي والرخيص ونقيم لها المتاحف الخاصة والخبراء المتخصصين فإنه r نفسي له الفداء أولى وأحق ، فلو بذلت المهج وحر الأموال في سبيل ذلك لكان رخيصاً  لأجله صلى الله عليه وسلم .
]  ]  ]
اهتمام المملكة بالآثار
ولقد وفق الله حكومتنا السنية إلى العناية بالآثار عناية عظيمة ، حرصاً على تراثنا المجيد ، وحفظاً لمعالم الحضارة الإسلامية التاريخية ، فجعلت لها دائرة خاصة تعتني وتهتم بها تسمى ( إدارة الآثار ) وأصدرت لها نظاماً خاصاً معتمداً بالمرسوم الملكي رقم م/26 /وتاريخ 23/1396 هـ([3]).
وأنشأت مجلساً خاصاً للنظر فيما يتعلق بهذا الموضوع يسمى ( المجلس     الأعلى للآثار ) وصدر قرار مجلس الوزارة رقم 235 وتاريخ 21/2/1398 هـ ، بتكوين أعضائه برئاسة وزير المعارف وعضوية مندوبين عن الداخلية والمالية والحج والأوقاف والإعلام والآثار .
وبين النظام أن الهدف من إنشاء المجلس الأعلى للآثار هو تجميع أكبر قدر     من الخبرات لضمان وصول دائرة الآثار إلى غايتها المرجوة .
المحافظة على الآثار :
جاء في المادة ( 6 ) من النظام : تتولى دائرة الآثار بالتعاون مع            الأجهزة الأخرى في الدولة كل في اختصاصه المحافظة على الآثار والمواقع الأثرية كما تتولى تقرير أثرية الأشياء والمباني التاريخية والمواقع وما يجب تسجيله من آثار ويعني تسجيل أثر ما إقرار الدولة بأهميته التاريخية أو الفنية وعملها على صيانته ودراسته وإظهاره بالمظهر اللائق وفقاً لأحكام هذا النظام .
]  ]  ]
المساجد وأماكن العبادة من أهم الآثار
وجاء في المادة ( 7 ) : الآثار نوعان : آثار ثابتة وآثار منقولة :
( أ ) الآثار الثابتة هي الآثار المتصلة بالأرض مثل الكهوف الطبيعية أو    المحفورة التي كانت مخصصة لحاجات الإنسان القديم ، والصخور التي رسم           أو حفر عليها الإنسان صوراً أو نقوشاً أو كتابات وكذلك أطلال المدن والمنشآت المطمورة في بطون التلال المتراكمة والأبنية التاريخية المنشأة لغايات مختلفة كالمساجد وأماكن العبادة الأخرى والقصور والبيوت في المشافي والقلاع والحصون والأسوار والملاعب والحمامات والمدافن والقنوات المشيدة والسدود وأطلال تلك المباني وما تصل بها كالأبواب والنوافذ والأعمدة والشرفات والسلالم والسقوف والأفاريز والتيجان وما شابه ذلك .
( ب ) الآثار المنقولة هي التي صنعت لتكون بطبيعتها منفصلة عن الأرض      أو عن المباني التاريخية والتي يمكن تغيير مكانها كالمنحوتات والمسكوكات والمنقوش والمخطوطات والمنسوجات والمصنوعات مهما كانت مادتها والغرض من صنعها ووجوه استعمالها .
الآثار ومشاريع الهدم والتخطيط :
جاء في النظام : التحذير من تغيير الآثار سواء من الأهالي أم من            تخطيط المدن تقول المادة ( 11 ) : يحظر اتلاف الآثار المنقولة أو الثابتة أو       تحويرها أو إلحاق الضرر بها أو تشويهها بالكتابة والنقش عليها أو تغيير معالمهما كما يحظر على الأهالي إلصاق الإعلانات أو وضع اللافتات في المناطق الأثرية وعلى  الأبنية التاريخية المسجلة .
وتقول المادة ( 12 ) : يتعين عند وضع مشروعات تخطيط المدن والقرى أو توسيعها أو تجميلها المحافظة على المناطق والمعالم الأثرية فيها ، ولا يجوز إقرار مشروعات التخطيط التي يوجد في نطاقها آثار ، إلا بعد اخذ موافقة دائرة الآثار عليها ، وعلى دائرة الآثار تحديد الأماكن التي يوجد فيها معالم أثرية وإحاطة جهاز تخطيط المدن علماً بذلك .
ومعلوم أن الآثار التي نص النظام على أن منها المساجد وأماكن العبادة    تشمل بالدرجة الأولى الآثار الدينية المنسوبة إلى النبي r أو أصحابه الكرام بل    هذه هي الآثار التي تستحق التكريم والتقديم ، وهي التي يفخر بها المؤمن ويعتز ،  وهي التي تذكر الأبناء بالآباء والخلف بالسلف .
الحجرة النبوية والمسجد الشريف
وقد أراد بعض المفتنين تغيير وضع الحجرة النبوية بإخراج القبر الشريف   المكرم من المسجد ، فلما سمع بذلك المرحوم الملك خالد بن عبد العزيز غضب   غضباً شديداً وثارت فيه الحمية الدينية وتكلم كلاماً رادعاً لصاحب ذلك الاقتراح الأثيم سمعه من كان حاضراً في المجلس ولعل بعضهم لا زال على قيد الحياة ، رحم  الله ذلك الملك الصالح وجعل موقفه هذا ذخيرة له عند الله ويداً بيضاء عند     رسوله سيدنا محمد r ينال به إن شاء الله شفاعته يوم القيامة .
وبارك في خليفته الملك فهد ونصر به الدين وحفظ به الديار والآثار والعباد والبلاد آمين يا رب العالمين .
]  ]  ]
فتوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب
في شان الحجرة النبوية
وقد نسب بعض أهل الفتنة والسوء إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب القول بإخراج الحجرة النبوية من المسجد ، فأنكر ذلك وتبرأ منه ، ومن قائله كما جاء في رسالته لأهل المجمعة التي يقول فيها : إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها :       ما هو من البهتان الظاهر وهي قوله : إني مبطل كتب المذاهب ، وقوله : إني أقول : إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ، وقوله : إني أدّعي الاجتهاد ، وقوله : إني خارج عن التقليد ، وقوله : إني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة ، وقوله :     إني أكفر من توسل بالصالحين ، وقوله : إني أكفر البوصيري لقوله : ياأكرم الخلق ، وقوله : إني أقول : لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها ، ولو أقدر على  الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب ، وقوله : إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله : إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم ،  وإني أكفر من يحلف بغير الله ، فهذه اثنتا عشرة مسألة ، جوابي فيها أن أقول :      } سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ { . انتهى من الرسائل الشخصية القسم الخامس  ص63 ، والدرر السنية ج1 ص52 .
القبة الخضراء في رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب

أما القبة الخضراء فقد نسب بعضهم إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب القول بإزالتها وهدمها ، ولكن الشيخ رحمه الله نفى ذلك بكل قوة وتبرأ منه واستنكر هذا القول أشد الإنكار في عدة مواضع من رسائله الموضع الأول في رسالته لأهل  القصيم التي يقول فيها :



فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على       ما نقول وكيل .
ثم  لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه  قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم ، والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ  أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي .
((فمنها)) قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة ، وإني أقول : إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ، وإني أدعي الاجتهاد ، وإني خارج عن التقليد ، وإني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة ، وإني أكفر من توسل بالصالحين ، وإني أكفر      البوصيري لقوله : يا أكرم الخلق ، وإني أقول : لو أقدر على هدم قبة رسول الله    r لهدمتها ، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب ، وإني أحرم زيارة قبر النبي r ، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما ، وإني أكفر   من حلف بغير الله ، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي ، وإني أحرق دلائل    الخيرات وروض الرياحين ، وأسميه روض الشياطين ، جوابي عن هذه المسائل        أن أقول : } سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ { .
[مجموعة مؤلفات الشيخ القسم الخامس الرسالة الأولى من الرسائل الشخصية  ص12 ، وهو في الدرر السنية الجزء الأول ص28] .
الموضع الثاني في رسالته إلى أهل العراق وهي رسالة أرسلها إلى السويدي     عالم من أهل العراق وكان قد أرسل له كتاباً وسأله عما يقوله الناس فيه ، فأجابه  بهذه الرسالة ، وفيها يقول في رد ما نسب إليه وتكذيبه منها : إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلاً عن أن يفتريه ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع      الناس إلا من اتبعني ، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ، ويا عجباً كيف يدخل   هذا في عقل عاقل هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون ، وكذلك   قولهم : إنه يقول : لو أقدر أهدم قبة النبي r لهدمتها ، وأما [دلائل الخيرات]      فله سبب وذلك أني أشرت على من قبِل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه  أجلّ من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجلّ من قراءة القرآن ، وأما إحراقه والنهي عن الصّلاة على النبي r بأي لفظ كان فهذا بهتان .
[مجموعة مؤلفات الشيخ القسم الخامس في الرسائل الشخصية  ص37 ،       الرسالة الخامسة وهو في الدّرر السنية الجزء الأول ص54] .
هذا الموقف من الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو عين الحكمة والصوّاب ، وهو السّياسة الشرعية التي يجب أن يتحلّى بها العلماء والمرشدون والمشائخ في أمرهم ونهيهم ووعظهم وإرشادهم .
وقد كان الشيخ رحمه الله حريصاً كل الحرص على نفي زعم المفترين وردّ    قول المفتنين الذين ألصقوا به هذا القول الشنيع ونسبوا إليه ذلك الرأي الفظيع  فتراه أنكرها في عدة مواطن لخطر المسالة ولما ينبني عليها من السوء والفتنة والشر الذي يجرّ إلى مصائب وبلايا ، نحن عنها في غنى فأين هذا ممّن ضاقت العلوم في    عينيه ولم يجد مسألة يكتب عنها أو بحثاً يقدمه إلا قضية القبّة الخضراء ، فما أتفه  عقلاً هذا منتهاه ، وما أسفه علماً ذلك مؤداه .
ولنا بحث خاص عن هذا الموضوع نسأل الله أن ييسر إتمامه ونشره بعونه وفضله .
المحافظة على الآثار النبوية من رسالة
جلالة الملك فهد بن عبد العزيز

وهنا موقف عظيم يستحق التسجيل للأمانة والتاريخ وهو أن جلالة الملك    فهد بن عبد العزيز لما اطلع على المخططات المرسومة لبناء توسعة مسجد قباء ورأى أن معالم المسجد الحالي القديمة ستزول داخل التوسعة الجديدة ، أمر جلالته       حفظه الله بإلغاء المخطط الموضوع وإعداد مخطط جديد يبقي على المنبر والمحراب والمعالم القديمة ، بحيث تمتد التوسعة من جانبي المسجد ومن خلفه ليتعرف     المسلمون جيلاً بعد جيل على الأماكن الأصلية والآثار النبوية الشريفة ، وقال  جلالته : من الخير أن نزيد في مساجد الله ولا نزيل .
وكان لهذه اللفتة السامية الكريمة من جلالته أعمق الأثر في نفوسنا بما فيها من دلالة الحفاظ على معالم التراث الإسلامي وتخليده .
وقد نشرت الجرائد السعودية بالتفصيل هذه المقابلة والحديث في الأعداد الصادرة يوم السبت 17 صفر 1405هـ مثل جريدة ((المدينة)) و ((الندوة)) .

]  ]  ]



([1]) أنظر الشفا للقاضي عياض .
([2]2) أنظر تعليق رقم 21 في الملحق آخر الكتاب .
([3]) أنظر المذكرة الخاصة بنظام الآثار الصادرة عن وزارة المالية والاقتصاد الوطني سنة 1399 .