الرد على شُبهات القائلين بعدم جواز الإحتفال بالمولد النبوى الشريف.
------------------
/ قولهم : المالكيه لا يُجيزون الإحتفال بالمولد النبوى الشريف وينقلون رأى الفاكهانى وطرفاً من مقالة إبن حاج ليوهمو القارئ أن المُعتمد والمشهور بمذهب الساده المالكيه عدم جواز الإحتفال بالمولد النبوى الشريف .
يُجاب عليهم : هذا ليس بالحق وإليكم الدليل : قال الشيخ عبد الرحمن الجزيرى فى كتابه الفقه على المذاهب الأربعه كتاب الصيام والإعتكاف مبحث الصوم المكروه ناقلاً قول المالكيه الراجح في الصوم المكروه : (( .... ويُكره سرد الصوم وتتابعه لمن يُضعفه ذلك عن عمل أفضل من الصوم ، ويُكره أيضا صوم يوم المولد النبوى لأنه شبيه بالأعياد .... )) وبهذا تعلم أخى القارئ أن المشهور والمُعتمد عند الساده المالكيه تمييز يوم ميلاد النبى وأنه عندهم كالأعياد ، وأن رأى الشاطبى والفاكهانى من عُلماء المالكيه يمثلون فيه أنفسهم لا مذهبهم فالمعتمد فى المذهب غير ما ذهبو هم إليه كما نقل لك الجزيرى رحمه الله وليس ما أرادوا أن يُوهموك به لينتصروا لرأيهم الضعيف فــأفـهـم .
رد الحافظ جلال الدين السيوطى على الفاكهانى وإبن حاج
ولتكتمل لديك الصوره إليك ردّ الحافظ السيوطى كاملاً من الحاوى للفتاوى / رسالة حسن المقصد فى عمل المولد على جزئين ( أ ، ب ) وفيه رد على من يمنع الإحتفال بالمولد بدعوى وجود إختلاط ، وبدعوى أن يوم مولد النبى الكريم هو يوم موته وإنتقاله الى الرفيق الأعلى : قال السيد جلال الدين السيوطى رحمه الله تعالى :
( ( أ ) وقد إدعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة وألف في ذلك كتابا سماه المورد في الكلام على عمل المولد، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفاً حرفاً ، قال رحمه الله: الحمد لله الذي هدانا لإ تباع سيد المرسلين وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين أحمده على ما من به من أنوار اليقين وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم الدين ، أما بعد فإنه تكررّ سؤال جماعة من المُباركين عن الإجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا فقلت وبالله التوفيق : ( 1 ) لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة و لا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو (2 ) بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس إعتني بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما وليس بواجب إجماعا ( 3 ) ولا مندوباً لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون فيما علمت وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ( 4 ) ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين أحدهما أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الإجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئاً من الآثام وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين الأمكنة ، ( 5 ) والثاني أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف وقد قال العلماء أخذ المال بالجاه كأخذه بالسيف لا سيما أن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات إما مختلطات بهن أو مشرفات والرقص بالتثني والانعطاف والإستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد غافلات عن قوله تعالى : ( إن ربك لبالمرصاد ) وهذا الذي لا يختلف في تحريمه إثنان ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المُنكرات المُحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدا ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فما أجازناه:
قد عرف المنكر وأستنكر المعروف في أيامنا الصعبة
جازوا عن الحق فما للذي * ساروا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقي * والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت * نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول لا يزال: الناس بخير ما تعجب من العجب، ( 6 ) هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسام وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه المذكور . إنتهى
وإليك مُلخص رد السيوطى عليه رحمه الله تعالى :
1 / أما قوله لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب و لا سنة ، فيقال عليه نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد إستخرج له إمام الحُفاظ أبو الفضل بن حجر أصلاً من السنة وأستخرجت له أنا أصلاً ثانياً وسيأتي ذكرها بعد هذا ....
2 / قوله بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس إعتني بها الأكالون ........
يقال عليه : قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم وقصد به التقرب إلى الله تعالى وحضر عنده فيه العُلماء والصُلحاء من غير نكير منهم وإرتضاه إبن دُحية وصنف له من أجله كتاباً فهؤلاء عُلماء مُتدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه
3 / وقوله ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون .......
يـقــــال عليـــــه إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص وتارة يكون بالقياس وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما
4 / وقوله ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الإبتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين .
كـــلام غيـر مُسلم لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه بل قد تكون أيضاً مُباحة ومندوبة وواجبة قال النووي في التهذيب الأسماء واللغات البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة أو في قواعد التحريم فهي محرمة أو الندب فمندوبة أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة، وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى أن قال وللبدع المندوبة أمثلة: منها إحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول ومنها التراويح والكلام في دقائق التصوف وفي الجدل، ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى، وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه
4/ قوله فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين أحدهما أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام و لا يقترفون شيئا من الآثام وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة .....إلى آخره لأن هذا القسم مما أحُدث وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي وهو من الإحسان الذي لم يُعهد في العصر الأول فان إطعام الطعام الخالي عن إقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة إبن عبد السلام ........
5/ وقوله والثاني أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف وقد قال العُلماء أخذ المال بالجاه كأخذه بالسيف لا سيما أن إنضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات إما مختلطات بهن أو مشرفات والرقص بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد غافلات عن قوله تعالى : (إن ربك لبالمرصاد) وهذا الذي لا يختلف في تحريمه إثنان ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المُنكرات المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون ....إلى آخره
هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المُحرمة التي ضُمت إليه لا من حيث الإجتماع لإظهار شعار المولد بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلاً لكانت قبيحة شنيعة و لا يلزم من ذلك ذم أصل الإجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليالي من رمضان عند إجتماع الناس لصلاة التراويح فهل يُتصور ذم الإجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها كلا بل نقول أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع وكذلك نقول أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقُربة وما ضُم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع .
6/ وقوله مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن ..
جـــوابه أن يقال أولاً أن ولادته أعظم النعم علينا ووفاته أعظم المصائب لنا والشريعة حثت على إظهار شكر النعم والصبر والسلوان والكتم عند المصائب وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة وهي إظهار شكر وفرح بالمولود و لم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته وقد قال إبن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث إتخذوا يوم عاشوراء مأتماً لأجل قتل الحُسين لم يأمر الله ولا رسوله بإتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف ممن هو دونهم.))
( ب ) أما نقلهم قول إبن حاج فإنه مبتور ليخدم مُرادهم وإليك قوله كاملاً وتعليق الحافظ السيوطى رحمه الله كما جاء فى الحاوى للفتاوى : قال السيوطى رحمه الله فى نفس المرجع السابق : ( وقد تكلم الإمام أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه المُدخل على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جداً، وحاصله مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما إحتوى عليه من مُحرمات ومُنكرات، وأنا أسوق كلامه فصلاً فصلاً قال: (فصل في المولد) ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد وقد إحتوى ذلك على بدع ومُحرمات جُملة فمن ذلك إستعمال المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشغلون أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومُحرمات ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه فكيف به إذا إنضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبين هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين وكان يجب أن يزاد فيه من العبادة والخير شكراً للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة وإن كان النبي لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم لأمته ورفقه بهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يُفرض على أمته رحمة منه بهم لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين (ذاك يوم ولدت فيه) فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها لقوله عليه السلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي) وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه ولد فيه فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به إتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات ألا ترى إلى قول إبن عباس كان رسول الله أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما إمتثله على قدر إستطاعتنا فان قال قائل قد إلتزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما ألتزمه مما قد علم ولم يلتزم في هذا الشهر ما ألتزمه في غيره فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يُريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفاً على أمته ورحمة بهم فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلاً في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم فعلى هذا تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويسكن له تعظيما لهذا الشهر الشريف وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر إحتراماً كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي وقد إرتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو وللعب بالدف والشبابة وغيرهما ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا بل يزعم بعضهم انه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس وهذا فيه وجوه من المفاسد ثم أنهم لم يقتصروا على ما ذكر بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر الخطر وهو أن يكون المغني شاباً لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لا يحصى وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم وهذه المفاسد مُركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوي به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين وإتباع السلف أولى ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم انتهى.
قال السيوطى رحمه الله : وحاصل ما ذكره أنه لم يذم المولد بل ذم ما يحتوي عليه من المُحرمات والمُنكرات وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يُخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات وهذا هو عمل المولد الذي إستحسناه فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خير وبر وقربة، وأما قوله آخراً إنه بدعة فإما أن يكون مناقضاً لما تقدم أو يحمل على انه بدعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نية المولد كما أشار إليه بقوله فهو بدعة بنفس نيته فقط وبقوله ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط ولم يكره عمل الطعام ودعاء الأخوان إليه وهذا إذا حقق النظر لا يجتمع مع أول كلامه لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى إذا أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا هو معنى نية المولد فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولا و أما مجرد فعل البر وما ذكر معه من غير نية أصلا فانه لا يكاد يتصور ولو تصور لم يكن عبادة ولا ثواب فيه إذ لا عمل إلا بنية ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف وهذا معنى نية المولد فهي نية مستحسنة بلا شك فتأمل، ثم قال ابن الحاج ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم ويريد أن يستردها ويستحي أن يطلبها بذاته فيعمل المولد حتى يكون ذلك سببا لأخذ ما اجتمع له عند الناس هذا فيه وجوه من المفاسد منها أنه يتصف بصفة النفاق وهو أن يظهر خلاف ما يبطن إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة وباطنه أنه يجمع به فضة، ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى انتهى، وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة لا من أصل عمل المولد. أنتهـى
والله نسأل أن يرحم ويرضى ويجزى عنا الإمام الهُمام والحافظ خاتمة الأعلام السيد الحافظ جلال الدين السيوطى أوسع رحمه وأتم رضى وأوفر جزاء على مادافع به عن حوذة الدين وإمام المُرسلين .