السبت، 15 يوليو 2023

الخلع لا يقع ضد إرادة الزوج

 

الخلع لا يقع ضد إرادة الزوج
لا خلاف على أن الخلع تشريع إسلامى أصيل، لكن الذي يحدث الآن أن الخلع يقع دون موافقة الزوج، فيكفي أن تحضر الزوجة إلى المحكمة، وتقرر أمام القاضي أنها تبغض الحياة مع زوجها، فيصدر لها حكم بالخلع في خلال شهور قليلة. ومن ينظر إلى الروايات المتعلقة بالخلع لن يجد فيها ما يفيد بأن ثابت بن قيس كان متمسكا بالبقاء مع زوجته. ولو كان حريصا على البقاء معها لأخذ يجادل الرسول عليه الصلاة والسلام، مظهرا حبه لها وحرصه على عدم هدم الأسرة، مثلما فعلت خولة بنت ثعلبة، التى ظاهرها زوجها، فاشتكت لرسول الله عليه السلام، وظلت تجادله حتى نزل القرآن مؤيدا لها.
ولو رأى الرسول عليه الصلاة والسلام من ثابت بن قيس حرصا على التمسك بزوجته لحاول بقوة الإصلاح بينهما، فقد كان الرسول يحرص على عمار البيوت، مثلما حاول الإصلاح بين بريرة جارية عائشة وزوجها الذي كان يبكي على فراقها: روى البخارى [أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعبَّاسٍ: «يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا» فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَاجَعْتِهِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ» قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ].
بيد أن الرواة لم ينقلوا لنا أى إشارة مماثلة على تمسك ثابت بن قيس بزوجته، بل إن هناك من الروايات ما يفيد خلاف ذلك؛ فقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لثابت بن قيس: (خذ بعض مالها وفارقها)، فرد عليه: (ويصلح ذلك يا رسول الله)، فقال: (نعم). قال: (فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذهما وفارقها). ونلاحظ فى هذه الرواية أن ثابت بن قيس كان تركيزه منصبا على إجراءات الفراق، لا على الفراق نفسه، إذ تراه يسأل ما إذا كان استرداد بعض المهر حلالا أم حراما، كما كان حريصا على استرداد المهر كاملا، وهذا يجعل المرء يعتقد أن ثابت بن قيس كان راضيا بالفراق. ورغم أن الرواية الأخيرة مختلف في صحتها، إلا أنها تقدم دليلا متوسطا على ما نذهب إليه.
وإذا عدنا إلى رواية البخارى – وهي أصح الروايات- لوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لثابت: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة". ولو كان من الجائز شرعا للحاكم أن يجبر الزوج على الخلع لوجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ المهر من الزوجة، ويعطيه لثابت بن قيس، ويخبره بأنه قد حكم بفراقهما وأنها لم تعد زوجته. ولكن الرواية تظهر أن رأى ثابت لم يكن تحصيل حاصل. إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لثابت: "طلقها" لا بد أن يفهم منه أن الزوج لم يفقد سلطة الطلاق، إذ ما الحاجة لأن يطلقها ثابت ما دام لها الحق الكامل فى أن تفارقه رغم أنفه؟ ولماذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لثابت: " خذ الحديقة وهي طالق"، أو: "خذ الحديقة وهي لم تعد لك زوجا"،"، أو غير ذلك من الألفاظ التى تدل على أن الزوج لا يملك من الأمر شيئا؟
وقد فهم البعض من قول الرسول عليه السلام: (اقبل الحديقة، وطلقها) أن هذا إلزام لثابت بن قيس بأن يفارق زوجته، لكن نحن لا نرى الأمر كذلك، فمن الجائز جدا أن تفهم هذه العبارة على أنها نصيحة أو مشورة، فقد يقول الرجل لصديقه: (اسمع كلامى)، وهو لا يقصد أن يلزمه، أو يجبره على طاعته، بل يريد أن ينصحه، ويشير عليه بما فيه مصلحته.
إذن قصة ثابت بن قيس لا تعبر عن حالة عامة، ولكن عن حالة خاصة، ألا وهي حالة الزوجة التى تريد الفراق، وزوجها يوافق مقابل استرداد المهر. أما الزوجة التى تريد الفراق، بينما يرفضه الزوج، فقصة ثابت بن قيس لا تقول عنها شيئا، ولا يصح الاستشهاد بها.
ويلوح لنا أن هناك سببا، دفع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن يكلم ثابت بن قيس بلهجة بدت للبعض على أنها إلزام له بفراق زوجته، وذلك حين قال له: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة". لقد كان ثابت بن قيس مقربا من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يلقب بخطيب رسول الله كما ذكر البخارى، أي أنه كان يلعب نفس الدور الذي يقوم به اليوم الصحفيون المقربون من الرؤساء والملوك. ودور ثابت بن قيس يناظر دور حسان بن ثابت الذي كان يلقب بشاعر الرسول. وكانت زوجة ثابت بن قيس هي جميلة ابنة زعيم المنافقين عبد الله بن أُبى بن سلول كما ذكرت بعض الروايات. معنى هذا أن الخلاف العائلى المحدود بين ثابت بن قيس وزوجته يمكن أن يتطور، وينفخ فيه الخبثاء، فيتم تصويره على أنه خلاف بين رجل موال لزعيم المسلمين وابنة زعيم المعارضة السياسية (المنافقين)، فتنشب الفتنة، إذ ما أسهل أن يقال أن محمدا يحرض صاحبه ثابت بن قيس كي يسىء معاملة زوجته، نكاية في أبيها وأهلها، أو أن الرسول يسكت على سوء المعاملة، وكأنه يرضى عنه. وقد يترتب على هذه الفتنة أن تشعر الزوجة بالنفور من الرسول اعتقادا منها بأنه لو شاء لحمل زوجها على حسن معاملتها كما يردد المنافقون حولها. وقد يتطور ذلك إلى ارتدادها عن الإسلام. وليس هذا ببعيد، فقد سمعنا في هذا العصر عن نساء أوربيات اعتنقن الإسلام، وتزوجن من رجال مسلمين، فلما حدثت خلافات زوجية ارتددن عن الإسلام.
حقا نحن لا نعرف هل كان عبد الله بن أُبى حيا وقت طلاق ابنته أم لا، كما نعرف أن الزوجة وأخاها كانا مؤمنين مخلصين، لكن من المؤكد أن أغلب أقارب الزوجة كانوا منافقين، فما كان لعبد بن أُبى أن يتمتع بكل هذه الجرأة في معارضة الرسول سياسيا وعسكريا (كما في غزوة أحد حين انسحب بثلث الجيش) لو لم يكن يحظى بالدعم من أهله وعشيرته.
وعلى ذلك فاللهجة التي كلم بها الرسول عليه السلام ثابت بن قيس كى يطلق زوجته لا تعنى بالضرورة أن كل الأزواج لا خيار لهم إن طلبت نساؤهم الخلع. ومن المحتمل أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد رأى أن طلاق المرأة ضرورة لوأد أزمة سياسية في مهدها، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
من كتاب (المرأة المسلمة: قيود بلا إهانات). تأليف دكتور (محمد سعيد المكاوي)- التحميل من على فوله بوك ومكتبة نور وموقع أرشيف وموقع كتوباتي