السبت، 29 مارس 2025

قال الترمذي في «العلل الكبير»:

 قال الترمذي في «العلل الكبير»: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيلٍ، قَالَ: "رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بنَ إِبْرَاهِيمَ وَالحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثهِ، وَهُوَ مُقَارِبُ الحَدِيثِ".

وقال في «الجامع»: "وَعَبْدُاللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيلٍ هُوَ صَدُوقٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
وسَمِعْت مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ، يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ، وَالحُمَيْدِيُّ، يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَبْدِاللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ".
قلت: تفرد بهذا النقل عن البخاري الترمذي! ولم يذكر البخاري هذا في ترجمة «عبدالله بن محمد بن عقيل»!
وقد نقل الترمذي هذا القول أيضاً عن البخاري في «عمرو بن شعيب»!
قال في «العلل الكبير»: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ حَدِيثِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُنَادِيًا: «أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»؟
فَقَالَ: "ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: "رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَعَلِيَّ بنَ عَبْدِاللَّهِ، وَالحُمَيْدِيَّ، وَإِسْحَاقَ بنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، وَشُعَيْبٌ قَدْ سَمِعَ مِنَ جَدِّهِ".
وقال في «الجامع»: "قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَذَكَرَ غَيْرَهُمَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ".
وهذا القول قاله البخاري في ترجمة «عمرو بن شعيب»: "ورأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبدالله، والحميدي، وإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يحتجون بحديث عَمْرو بن شعيب، عَنْ أَبِيهِ".
وجاء في رواية ابن فارس: "عن أبيه عن جدّه".
قال ابن عساكر: "وزاد ابن سهل - وروايته أكمل -: فقال: عن أبيه، وزاد: قال أبو عبدالله: فَمَنِ النَّاسُ بَعْدَهُم".
ونقل الذهبي هذا في «السير» ثم قال: "قُلْتُ: أَسْتَبْعِدُ صُدُوْرَ هَذِهِ الأَلْفَاظِ مِنَ البُخَارِيِّ، أَخَافُ أَنْ يَكُوْنَ أَبُو عِيْسَى وَهِمَ. وَإِلاَّ فَالبُخَارِيُّ لاَ يُعَرِّجُ عَلَى عَمْرٍو، أَفَتَرَاهُ يَقُوْلُ: فَمَنِ النَّاسُ بَعْدَهُم، ثُمَّ لاَ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْلاً وَلاَ مُتَابَعَةً؟".
وقال في «الميزان»: "قلت: ومع هذا القول فما احتج به البخاري في جامعه".
قلت: قد ثبت هذا عن البخاري كما أورده هو في «تاريخه»، لكن لم يثبت هذا فيما نقله الترمذي في «عبدالله بن محمد بن عقيل»! وما أراه إلا وهماً منه! والصواب أن البخاري قاله في «عمرو بن شعيب» لا في «ابن عقيل»! والله أعلم.
كل التفاعلات:
٧١

«الدُّرُ الحَسَن» في رواية هِشامِ بنِ حسّان عن الحَسن.

 «الدُّرُ الحَسَن» في رواية هِشامِ بنِ حسّان عن الحَسن.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن الاه، وبعد:
فإنه ليس أضرّ على العلم ممن تقحّمه ممن لا يعرفه على حقيقته! فينظر في كتب أهل العلم فيختار ما يؤيد رأيه، ويترك ما يخالفه دون فهم ووعي!
وإن خير العلم ما نقلته كله ثم جمعت بينه أو رجّحت ما وجدت فيه من تناقض وِفق المنهج السديد الذي لا يعرفه إلا من خَبره.
وهذا الكلام الذي أريد أن أُعقّب عليه هو ظاهرة منتشرة الآن، وخاصة على صفحات الفيسبوك، وليس صاحبه هو المقصود بعينه!
في تلك الحرب الطاحنة حول صدقة الفطر نشرت - كما نشر غيري - أثر الحسن البصري في جواز إخراج النقد في صدقة الفطر؛ لإثبات صحة ما نُقل عن الحسن لا لتأييد رأي على آخر! فتأييد مذهب ما شيء، وإثبات ما نُقل عن بعض التابعين شيء آخر.
وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثوري، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: «لاَ بَأْسَ أَنْ تُعْطَى الدَّرَاهِمُ فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ».
وهذا إسناد صحيح.
ورواه الإمام الحافظ ابنُ زَنْجُوْيَةَ في كتاب «الأموال» عن مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الفِريابي، عن سفيان، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: «إِذَا أَعْطَى الدِّرْهَمَ مِنْ زَكَاةِ الفِطْرِ أَجْزَأَ عَنْهُ».
قَالَ سُفْيَانُ: "إِذَا أَعْطَى قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَجْزَأَ عَنْهُ".
ثم قال ابن زَنْجُويه: "القِيمَةُ تُجْزِي فِي الطَّعَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالطَّعَامُ أَفْضَلُ".
لكن من الطبيعي أن من يرى عدم إجزاء النقد في صدقة الفطر من الطبيعي أن يُضعّف هذا الأثر! وهذا ما كان! فقد انبرى لتضعيفه بعض من ينشرون على الفيس.
فضعّفوه بأن رواية هشام بن حسّان عن الحسن فيها كلام وهي ضعيفة!
واحتجوا بقول من تكلّم في روايته عن الحسن من أهل العلم كما سيأتي بيانه.
فمن قرأ الكلام سلّم له! أو على أقل الأحوال صار عنده رِيبة حول هذا الأثر!
لكن هل من الأمانة العلمية أن ينشر من يتكلم في الأثر كلام من تكلموا في رواية هشام عن الحسن، ولا يلتفتوا إلى ما يناقض تلك الأقوال!
فأين الأمانة؟!
هشام بن حسان البصري الإمام الحافظ الحجة (ت 148هـ على الصحيح) من كِبار محدثي البصرة، وحديثه مُحتجٌ به في كلّ الكتب.
وحديثه المرفوع عن الحسن على قلته في الكتب الستة، وروى له البخاري ومسلم في «صحيحهما» عن الحسن خمسة أحاديث.
وله في «مصنف ابن أبي شيبة» أكثر من (500) رواية عن الحسن غالبها من الآثار وفتاوى الحسن.
وروى عَبْدُالرَّزَّاقِ في «مصنفه» عنه عَنِ الحَسَنِ أكثر من (100) رواية غالبها من فتاوى الحسن أيضاً.
وقد احتج بها أهل العلم في كتبهم، وكان ابن حجر يقول إذا أتى بروايته عن الحسن: "وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنِ الحَسَنِ".
فعلى رأي من يُضعّف روايته عن الحسن سيضعّف هذه الآثار كلها! فهل يقول بذلك رجل عاقل؟ بَله طالب حديث!!
*من تكلَّم في رواية هشام عن الحسن!
روى صَالح بن أَحْمدَ بنِ حنبلٍ في «مسائله عن أبيه - رواية أَبُي عوَانَة الإسفرائيني» (178). ويعقوب الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/256) عن سلمةَ بنِ شَبيبٍ النيسابوريّ. وابن عَدي في «الكامل» (10/345) (17657) عن إسحاق بن إبراهيم بن يونُس، عن الأثرم. ثلاثتهم (صالح، وسلمة، والأثرم) عن أحمد بن حنبل.
والعُقيلي في «الضعفاء» (4/335) عن مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغ، عن الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ الحُلْوَانِيّ الخَلاّل.
كلاهما (أحمد، والحسن بن علي) عن عَفانَ بنِ مُسْلِمٍ الصفّار، قال: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - هو: ابن معاذٍ العنبريّ -، قَالَ: قَالَ الْأَشْعَثُ - هو أبو هانئ أشعث بن عَبدالملك الحُمْراني البصري -: "ما رأيتُ هِشَامًا عِنْدَ الحَسَنِ قَطُّ".
قال فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَمْرًا - هو: ابن عُبيد - يَقُولُ هَذَا، فَأَنْتَ إِنْ قُلْتَهُ قَوَّيْتَهُ عَلَيْهِ أَوْ صُدِّقَ أَوْ نَحْوَ هَذَا! قَالَ: "لَا أَقُولُ هَذَا، وَلَا أَعُود لهَذَا".
وفي رواية الحُلْوَانِيّ: "قَالَ مُعَاذٌ: قَالَ عَمْرُو بنُ عُبَيْدٍ: لَمْ أَرَ هِشَامًا عِنْدَ الحَسَنِ قَطُّ، وَلَا جَاءَ مَعَنَا عِنْدَ الحَسَنِ قَطُّ، قَالَ: فَقَالَ أشعثُ يَوْمًا: مَا رَأَيْتُ هِشَامًا عِنْدَ الحَسَنِ، وَلَا، وَلَا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا هَانِئٍ، إِنَّ عَمْرَو بنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ هَذَا فِي هِشَامٍ، وَهِشَامٌ صَاحِبُ سُنَّةٍ، فَإِنْ أَنْتَ أَيْضًا قُلْتَ هَذَا كُنْتَ قَدْ أَعَنْتَ عَمْرًا عَلَيْهِ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ".
وروى العُقيلي في «الضعفاء» (4/335) عن مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى، عن صَالِحِ بنِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ، عن عَلِيِّ بنِ المدينيّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَرْعَرَةَ بنَ البِرِنْدِ الشَّامِيَّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبَّادَ بنَ مَنْصُورٍ، قُلْتُ: يَا أَبَا سَلَمَةَ تَعْرِفُ الْأَشْعَثَ مَوْلَى آلِ حُمران؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: كَانَ يُقَاعِدُ الحَسَنَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا. قُلْتُ: هِشَامُ بنُ حَسَّانَ القُرْدُوسِيُّ؟ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ عِنْدَهُ قَطُّ".
قَالَ عَرْعَرَةُ: فَأَخْبَرْتُ بِذَاكَ جَرِيرَ بنَ حَازِمٍ بَعْدَ مَوْتِ عَبَّادٍ، فَقَالَ لِي جَرِيرٌ: "قَاعَدْتُ الحَسَنَ سَبْعَ سِنِينَ، مَا رَأَيْتُ هِشَامًا عِنْدَهُ قَطُّ".
فَقُلْتُ: يَا أَبَا النَّضْرِ: قَدْ حَدَّثَنَا عَنِ الحَسَنِ بِأَشْيَاءَ وَرَوَيْنَاهَا عنه، عَمَّنْ تَرَاهُ أَخَذَهَا؟ قَالَ: "أُرَاهُ أَخَذَهَا عَنْ حَوْشَبٍ".
ثم روى من طريق إِبراهيم بن مُحَمد بن عَرعَرَةَ، قال: حدثني جدّي عرعرة بن البرند، قال: ذَكَرت لجَرير بن حازِم هِشام بن حَسان، قال: "ما رَأَيتُه عِند الحَسن قَط"، قُلتُ: فَأَشعَثُ، قال: "ما أَتَيت الحَسن قَطُّ إِلاَّ رَأَيتُه عِندَهُ".
ثم روى من طريق وهب بن جَرير، عن أَبيه، قال: "جَلَست إِلى الحَسن سَبع سِنين، سنةً منها لَم أؤخر منها يَومًا واحِدًا، أَصُوم وأَذهَب إِلَيه، ما رَأَيت هِشامًا عِندَه قَطُّ".
قلت: فهذا أشعث الحمراني، وعمرو بن عبيد، وعبّاد بن منصور، وجرير بن حازم، وهم من أصحاب الحسن شهدوا أنهم لم يروا هشام بن حسان عند الحسن قط!
وقال جرير بأن ما رواه هشام عن الحسن إنما أخذه من حوشب، وهو: ابن مسلم الثقفي، وكان عابداً من كبار أصحاب الحسن.
ولا شك أن هؤلاء صادقون فيما قالوه، لكن هشاماً كان جاراً للحسن لسنوات طويلة! فهل يُعقل أنه لم يسمع منه؟!
روى ابن مُحرز في «تاريخ ابن معين - روايته» (935)، وعباس الدوري في «تاريخ ابن معين - روايته» (4/219) (4051) عن يَحْيَى بن مَعِيْنٍ.
والبخاري في «تاريخه الكبير» (8/197)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/55) عن أبيه، كلاهما (البخاري، وأبو حاتم) عن عَمرو بن عليٍّ الفلاّس.
كلاهما (ابن معين، والفلاس) عن سَعِيْدِ بنِ عَامِرٍ الضُّبَعِيِّ: سَمِعَ هِشَاماً يَقُوْلُ: "جَاوَرْتُ الحَسَنَ عَشْرَ سِنِيْنَ". وعند ابن محرز: "عشر حِجج".
وفي رواية الدوري: "قَالَ: جَاوَرت الحسن أَو قَالَ: جالست الحسن عشر سِنِين".
قلت: الصواب: "جاورت" لا "جالست"، وكأنها تصحيف من الأولى، والله أعلم.
قال عبدالله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (2/38) (1480): سُئِلَ أبي عَن مُبارك والرَّبِيعِ بن صُبَيْحٍ؟ فَقَالَ: "مَا أقربهما. مُبارك وَهِشَام جَالِسا الحسن جَمِيعًا عشر سِنِين، وَكَانَ المُبَارك يُدَلس".
قلت: كذا قال أحمد إنه جالسه عشر سنين! فكأنه اعتمد على رواية فيها: "جالست" لا "جاورت"! والأقرب للصواب أنه جاوره.
وقد ثبت سماع هشام من الحسن.
رَوَى: مَخْلَدُ بنُ الحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانٍ، قَالَ: "مَا كَتَبتُ لِلْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ حَدِيْثاً قَطُّ، إِلاَّ حَدِيْثَ الأَعمَاقِ، لأَنَّهُ طَالَ عَلَيَّ، فَكَتَبتُه، فَلَمَّا حَفِظتُه مَحَوتُه". [تهذيب الكمال: (30/186)، سير أعلام النبلاء: (6/357)].
ورواه الرامهرمزي في «المُحدِّث الفاصل» من طريق مُحَمَّدِ بنِ مَرْزُوقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَدَّتِي أَمَةَ المَلَكِ بِنْتِ هِشَامِ بنِ حَسَّانَ تَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي هِشَامَ بنَ حَسَّانَ يَقُولُ: «مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَاقِ، فَلَمَّا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ».
ورواه من طريق ابنِ أَبِي الزَّرَدِ، عن سَعِيدِ بنِ عَامِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: «مَا كَتَبْتُ عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَاقِ فَلَمَّا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ».
قلت: هذا يدلّ على أنه سمع من الحسن، ولم يكن يكتب عنه، وإنما كان يحفظ.
وقد روى عَبْدُالعَزِيْزِ بنُ أَبِي رِزْمَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ المُغِيْرَةِ المَرْوَزِيِّ، قال: قُلْتُ لِهِشَامِ بنِ حَسَّانٍ: أَخْرِجْ إِلَيَّ بَعْضَ كُتُبِكَ.
قَالَ: "لَيْسَ لِي كُتبٌ".
قال الذهبي مُعقباً: "يَعْنِي: كَانَ يَحْفَظُ، وَقَلَّمَا كَتَبَ". [سير أعلام النبلاء: (6/357)].
وقد أثبت البخاري سماع هشام من الحسن.
فقال في «التاريخ الكبير» (8/197) (2689): "هشام بن حسان أَبُو عَبْداللَّه القردوسي البَصْرِيّ: سَمِعَ الحَسَن، وعطاء. وقَالَ عمرو بن علي: حدثنا سَعِيد بن عامر، قَالَ: سمعت هشاماً قَالَ: جاورت الحَسَن عشر سنين".
وقَالَ الْبُخَارِيُّ: وحدّثني عَمرو الْفَلاسُ، قال: "كَانَ يَحْيَى وعَبدالرحمن يُحَدِّثَانِ عَنْ هِشَامٍ عَنِ الحَسَنِ".
وقيل إنّ سماع هشام من الحسن لما كان صغيراً = يعني أنه لم يتقن روايته عن الحسن!
روى نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، قال: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُوْلُ: "لَقَدْ أَتَى هِشَامٌ أَمراً عَظِيْماً بِرَاوَيتِه عَنِ الحَسَنِ".
قِيْلَ لِنُعَيْمٍ: لِمَ؟
قَالَ: "لأَنَّهُ كَانَ صَغِيْراً". [الجرح والتعديل: (1/43)، (9/54)].
فتعقّبه الذهبي، فقال: "قُلْتُ: هَذَا فِيْهِ نَظَرٌ، بَلْ كَانَ كَبِيْراً.
وَقَدْ جَاءَ أَيْضاً عَنْ نُعَيْمِ بنِ حَمَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: "كَانَ هِشَامٌ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيْثِ الحَسَنِ".
فَهَذَا أَصَحُّ. [سير أعلام النبلاء: (6/357)].
قلت: هناك زيادة في هذا النص في كتاب ابن أبي حاتم، ولا بدّ منه ليستقيم ما نقله نُعيم عن ابن عيينة، فهو الذي روى كلا النصين.
قال عبدالرحمن ابن أبي حاتم: حدّثنا علي بن الحسن الهسنجاني، قال: حدثنا نُعيم بن حمادٍ، قال: قال سفيان - يعني: ابن عيينة -: "كان هشام أعلم بحديث الحسن من عمرو بن دينار؛ لأن عمرو بن دينار لم يسمع من الحسن إلا بعد ما كَبر".
قلت: فهذا التقديم من ابن عيينة مُقيد فهشام أعلم بحديث الحسن من عمرو بن دينار لا مُطلقاً، وابن عيينة نفسه ذمّ رواية هشام عن الحسن.
لكن لا نشك أن هشام بن حسان سمع من الحسن، وكان جاره لسنوات طويلة، فلا يُعقل أن يكون جاره ولا يسمع منه!
وجمعاً بين أقوال من نفى رؤية هشام عند الحسن، وبين كلام هشام نفسه ومن أثبت سماعه من الحسن نقول بأن إمامَي أهل البصرة كانا الحسن وابن سيرين، ومَاتَ ابنُ سِيرِينَ بَعْدَ الحَسَنِ بِمِائَةِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ عشرٍ وَمِائَةٍ.
فكان بعض الطلبة يلازم أحدهما، ويستغني عن الآخر لتعلقه بشيخه، وهذا يحدث عند بعض طلبة العلم، فكان هشام قد لازم ابن سيرين حتى قال ابن سيرين: "هشام منّا أهل البيت".
ومن هنا لم يكن هشام بن حسان يذهب لمجلس الحسن الذي فيه أشعث الحُمراني، وعمرو بن عُبيد، وغيرهما، ولهذا نفوا أن يكونوا رأوه في مجلس الحسن.
وكَانَ أشعث بن عَبدالمَلِك الحُمراني إذا أتى الحسن يقول لَهُ: "يَا أبا هانئ: أنشر بزك - أي: هات مسائلك".
وهذا كان في بداية الطلب لهؤلاء من الحسن، فيظهر أن هشاماً ذهب بعد تلك السنين لما جاور الحسن إلى مجلسه وسمع منه، ومعلوم أن عمرو بن عبيد قد ترك مجلس الحسن واعتزله لما تأثر بأهل الاعتزال!
وكان أشعث يَمر بعَمْرو بن عُبَيد ولا يُسلِّم عليه، وكان يقول: "لا تأت عَمْرو بن عُبَيد، فإن الناس ينهون عنه".
فيكون سماع هشام من الحسن بعد أن تشبّع أؤلئك من حديث الحسن، ويؤيد ذلك أن ما يرويه هشام عن الحسن من أحاديث مسندة قليلة بالنسبة لما يرويه عن ابن سيرين، وغالب ما يرويه عنه من فتاويه وأقواله، وكأنه بعد أن تشبّع من حديث ابن سيرين وفتاويه صار يذهب للحسن ويسأله ويسمع منه.
ويُحتمل أن هشاماً كان يذهب للحسن في أوقات لم يكن أشعث وأصحابه عنده، وذهابه إليه كان قليلاً، ثم بعد ذلك أتقن المسائل عنه، والله أعلم.
وقد روى ابن أبي شيبة، وعبدالرزاق في «مصنفيهما» لهِشَامٍ عَنِ الحَسَنِ ما يقرب من (570) رأياً وفتوى، وكان أحياناً يقرنه بمحمد بن سيرين.
وله في الكتب مئات الروايات من أقوال الحسن البصري ومواعظه.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: "أَشْعَثُ الحُمْرَانِيُّ كَانَ صَاحِبَ سُنَّةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِمَسَائِلِ الحَسَنِ الدِّقَاقِ، هُوَ مِنْ بَابَةِ هِشَامِ بنِ حَسَّانٍ". [سير أعلام النبلاء: (6/280)].
قلت: يعني الإمام أحمد أنه مثل هشام بن حسان في معرفة مسائل الحسن، وهذا يعني قبول أحمد لما يرويه هشام عن الحسن من هذه المسائل الدِّقاق.
فهل نسقط كل هذه الآثار كما يفعل بعض من لا يُحسن النظر في مسائل الحديث!
نعم، قد تكلّم بعض أهل العلم في رواية هشام عن الحسن، وكأنهم يقصدون ما حدّث به عنه مرفوعاً؛ لأنه لم يلازمه منذ بداية طلبه!
قال أَبُو الحَسَنِ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ البَرَاءِ: أَخبرنا عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، قال: "أَحَادِيثُ هِشَامٍ عَنِ الحَسَنِ عَامَّتُهَا تَدُورُ عَلَى حَوْشَبٍ، وَأَمَّا أَحَادِيثُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ فَصِحَاحٌ". [علل ابن المديني: (83)].
وقَالَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ الخَلاَّلُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ عَبْدِاللَّهِ بنِ المَدِيْنِيّ، يَقُولُ: "كَانَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، وَكِبارُ أَصْحَابُنَا يُثْبِتُونَ هِشَامَ بنَ حَسَّانَ، وَكَانَ يَحْيَى يُضَعِّفُ حَدِيثَهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَرَوْنَ أَنَّهُ أَخَذَ حَدِيثَ الحَسَنِ عَنْ حَوْشَبٍ". [الضعفاء للعقيلي: (4/334)].
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابنِ عُلَيَّةَ، قَالَ: "كُنَّا لاَ نَعدُّ هِشَامَ بنَ حَسَّانٍ فِي الحَسَنِ شَيْئاً". [الجرح والتعديل: (9/56)].
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: زَعَمَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: كَانَ شُعْبَةُ يَتَّقِي حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُحَمَّدٍ، وَالحَسَنِ. [ضعفاء العقيلي: (4/334)].
قلت: هذا التضعيف لرواية هشام عن الحسن يبدو لي - والله أعلم - لأنه لم يتقنها إذا قلنا إن سماعه منه كان متأخراً، أو كان صغيراً كما قال نُعيم بن حماد! وكأنه عني بالمسائل لا بالحديث المرفوع، وتضعيفهم لروايته عن الحسن متجهة لحديثه المرفوع لا للمسائل والآثار - وإن كنت أخالف ذلك؛ لأن غالب تلك الأحاديث إنما الإشكال فيها في سماع الحسن من بعض الصحابة! لا أنه لم يتقن تلك الروايات!
وقد صرّح بعض أهل العلم إن حديثه الذي يرويه عن الحسن إنما أخذه من حَوْشَبِ بنِ مُسْلِمٍ الثقفيِّ - وكان ثقةً من كبار أصحاب الحسن - = يعني أنه لم يسمع من الحسن وإنما أخذها من غيره وأرسلها!
قَالَ عَلِيُّ بن المدينيّ: "قَالَ بَعْضُهُمْ: كُتُبُ هِشَامِ بنِ حَسَّانٍ أَخَذَهَا مِنْ حَوْشَبٍ" [المعرفة والتاريخ: (2/53)].
وقال أبو عبيدٍ الآجري في «سؤالاته لأبي داود» (405): سألت أبا دَاوُد عَن هِشَام بن حَسَّان؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا تكلّموا فِي حَدِيثه عَن الحَسَن وعطاء؛ لأنه كَانَ يُرسل، وكانوا يرون أَنَّهُ أخذ كتب حَوْشَب".
قلت: يعني أنه لم يسمع هذه الأحاديث من الحسن، وإنما أخذ ما كتبه حوشب بن مسلم فحدّث عن الحسن دون ذكر حوشب! وهذا بعيد عن مثل هشام!
والذي أراه أنه ربما أخذ ما كتبه حوشب عن الحسن فقرأه على الحسن أو عَرضَه عليه ثم حدّث به = يعني هو سمع من الحسن.
ويؤيد ذلك أن المسائل التي رواها هشام عن الحسن كثيرة جداً، ولم يسمعها لما كان أصحاب الحسن يسمعون منه، ولهذا نفوا رؤيتهم له عنده، وهذا الكم من المسائل يحتاج لسنوات لسماعه، فإذا كان موجوداً في كتاب أو كتب ثم يقرأه على الحسن أو يجيزه به فهذا أسهل، فيكون حقيقة أخذ هذه المسائل وبعض الأحاديث من كتب حوشب.
ويؤيد ذلك أيضاً أن حوشب بن مسلم لا يوجد له رواية كثيرة عن الحسن، فكأنه لم يُحدِّث بما عنده كله، وكان عابداً زاهداً لم ينشغل كثيراً بالتحديث.
وقد سمع منه طبقة من توفوا بعد سنة (175هـ) كزِيَادِ بنِ الرَّبِيعَ اليَحْمَدِيِّ أَبي خِدَاشٍ البَصْرِيّ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وجَعْفَرِ بنِ سُلَيْمَانَ أَبي سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيّ البَصْرِيّ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ. ونُوح بن قَيس بن رَبَاح الحُدَّاني أَبي رَوحٍ البَصري، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. ومسلم بن إبراهيم الفراهيدي البصري الحافظ، تُوُفّي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وقد قارب التّسعين.
وهِشَامُ بنُ حَسَّانٍ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وأربعين ومائةٍ، فلو كان أخذ كتب حوشب دون سماعها من الحسن لعَرف ذلك أهل البصرة، وما كان ليجرؤ أن يُحدِّث منها وهو لم يسمعها أو يعرضها على الحسن، والله أعلم.
وقد روى هشام عن حوشب فيما ذكر ابن سعد في «طبقاته» (7/200).
وقد ذكره أبو نُعيم في «الحلية» في الزهّاد العُبّاد، وساق له عن الحسن ثمانية مواعظ، وثلاثة أحاديث مرسلة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وترجم له البخاري في «تاريخه» (3/100) (347) فقال: "حوشب أَبُو بشر، عَنِ الحَسَن، يُعدُّ فِي البَصْرِيّين، روى عنهُ: جَعْفَر بن سُلَيْمَان. وقال نوح بن قيس: حدثنا حوشب بن مُسْلِم الثقفي مولى الحجاج، عَنِ الحَسَن عَنِ الزبير. وقال مُسْلِم: حدثنا زياد بن الربيع: حدثنا حوشب بن مُسْلِم، عَنِ الحَسَن: «أَنَّهُ أمر بِغُسْلِ العِيدين».
فهذه المواعظ والمسائل كانت في كتبه، وحدّث منها قليلاً.
وترجم له مسلمٌ في «الكنى» (1/122) (314): "أبو بكر حوشب بن مسلم عن الحسن، روى عنه: جعفر بن سليمان".
ثم قال بعد (1/140) (389): "أبو بشر حوشب بن مسلم الثقفي عن الحسن، روى عنه: جعفر بن سليمان".
قلت: كأنه تحرّف في إسناد اعتمده مسلم! تحرفت «بشر» إلى «بكر» فذكره في كلا الكنيتين، وهو خطأ! والصواب أنه «أبو بشر».
وقال ابن حبان في «الثقات» (6/243) (7554): "حَوْشَب أَبُو بشر، وَكَانَ من العباد مِمَّن يَقصّ، يروي عَن الحسن، عِداده فِي أهل البَصْرَة. روى عَنهُ: جَعْفَر بن سُلَيْمَان الضبعِي، وغالب القطَّان".
ثم قال (7555): "حَوْشَب بن مُسلم الثَّقَفِيّ مولى الحجَّاج بن يُوسُف من أهل البَصْرَة، يروي عَن الحسن، روى عَنهُ: نوح بن قيس، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم - أَحْسبهُ الأول - وَكَانَ يَبِيع الطيالسة بِالبَصْرَةِ".
قلت: نعم، هو الأول بلا شك أو رَيب.
ومما يؤيد أن هشاماً ربما أخذ عن الحسن من كتب حوشب أنه تُكلِّم في حفظه؛ وذلك قد يكون راجعاً لأنه أخذ كتب حوشب وعرضها على الحسن، ثم حدّث منها، فلم يضبط ما فيها من حديث مرفوع!
روى شُعَيْبُ بنُ حَرْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: "لَوْ حَابَيْتُ أَحَداً لَحَابَيْتُ هِشَامَ بنَ حَسَّانٍ، كَانَ خَتَنِي، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ". [الكامل: (1/201)، (10/343)].
وقال الآجري في «سؤالاته لأبي داود» (487): وسمعت أبا دَاوُد يَقُول: "قَالَ شُعْبَة: لو حَابَيْتُ أحدًا حابَيت هشام بن حَسَّان - وَكَانَ قريبه".
وقالَ يَحْيَى بنُ آدَمَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بنُ نَافِعٍ القُرَشِيُّ - مَوْلًى لِآلِ عُمَرَ - أَبُو شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ لِي شُعْبَةُ: "عَلَيْكَ بِحَجَّاجِ بنِ أَرْطَاةَ، وَمُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُمَا حَافِظَانِ، وَاكْتُمْ عَلَيَّ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ فِي خَالِدٍ، وَهِشَامٍ". [الجرح والتعديل: (3/155)، ضعفاء العقيلي: (2/4)، الكامل: (2/524)].
وقال يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بنُ عَبَّادٍ، قَالَ: "أَرَادَ شُعْبَةُ أَنْ يَضَعَ فِي خَالِدٍ الحَذَّاءِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَنَا وَحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ فَقُلْنَا لَهُ: مَا لَكَ؟ أَجُنِنْتَ؟ أَنْتَ أَعْلَمُ! وَتَهَدَّدْنَاهُ فَأَمْسَكَ". [ضعفاء العقيلي: (2/4)].
قال الذهبي في «الميزان» (4/296) مُتعقباً قول شعبة: "قلت: هذا قولٌ مطروحٌ، وليس شعبة بمعصوم من الخطأ في اجتهاده، وهذه زلة من عالم، فإن خالداً الحذاء وهشام بن حسان ثقتان ثبتان، والآخران فالجمهور على أنه لا يحتج بهما، فهذا هدبة بن خالد يقول عنك يا شعبة: إنك ترى الإرجاء، نسأل الله التوبة".
وقال في «السير» (6/191): "قُلْتُ: هَذَا الاجْتِهَادُ مِنْ شُعْبَةَ مَرْدُوْدٌ، لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ خَالِدٌ وَهِشَامٌ مُحْتَجٌّ بِهِمَا فِي «الصَّحِيْحَيْنِ»، هُمَا أَوْثَقُ بِكَثِيْرٍ مِنْ حَجَّاجٍ، وَابنِ إِسْحَاقَ، بَلْ ضَعْفُ هَذَيْنِ ظَاهِرٌ، وَلَمْ يُترَكَا".
وقال في «تاريخه» (3/1000): "قلت: بل هذان أَوْثَقُ بِكَثِيرٍ مِنْ حَجَّاجٍ، وَابنِ إِسْحَاقَ، وَلَمْ يُتَابِعْ شُعْبَةُ عَلَى هَذِهِ القَوْلَةِ أَحَدٌ".
قلت: قد وقع هشام في بعض الأوهام في حديثه، وهذا يَحدث لكل أحد، وروايته عن ابن سيرين متقنة، وهو أعلم الناس به، لكنه ربما وهم في حديثه عن الحسن من أجل أنه لم يسمع منه المسند إلا القليل، وربما لأنه عرض كتب حوشب عليه، ورواية الحسن عن بعض الصحابة مرسلة، فلا دخل لهشام في ذلك.
قال سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ: ذُكِرَ لأَيُّوْبَ وَيَحْيَى بن عَتيقٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبِيْدَةَ عَمَّا يَنْقِضُ الوُضُوْءَ، قَالَ: «الحَدَثُ، وَأَذَى المُسْلِمِ».
فَأَنكَرُوا قَوْلَهُ: «وَأَذَى المُسْلِمِ».
وقال ابن عون عَن مُحَمَّد قَالَ: سَأَلت عبيدة عَمَّا ينْقض الوضُوء، فَقَالَ: «الحَدث». [العلل ومعرفة الرجال: (2/174)].
وقال حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ: "كَانَ هِشَامٌ يَرْفَعُ حَدِيْثَ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُوْل فِيْهَا: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَذَكَرتُ ذَلِكَ لأَيُّوْبَ، فَقَالَ: قُلْ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّداً لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُهَا، فَلاَ تَرفَعْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَنْحُو بِهَا بِالرَّفعِ. فَذَكَرتُ ذَلِكَ لِهِشَامٍ، فَتَرَكَ الرَّفعَ". [ضعفاء العقيلي: (4/336)].
وقال عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ المُبَارَكِ العَيْشِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بنِ حَبِيْبٍ، قَالَ: رُبَّمَا سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ حَسَّانٍ يَقُوْلُ: "سَمِعْتُ عَطَاءً"، وَأَجِيْءُ بَعْدُ، فَيَقُوْلُ: "حَدَّثَنِي الثَّوْرِيُّ، وَقَيْسٌ، عَنْ عَطَاءٍ هُوَ ذَاكَ بِعَيْنِه"!
قُلْتُ لَهُ: اثْبُتْ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَصَاحَ بِي! [الجرح والتعديل: (9/56)].
قال الذهبي: "قُلْتُ: عَطَاءٌ هُوَ: ابنُ السَّائِبِ، وَيَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ عَطَاءَ بنَ أَبِي رَبَاحٍ. وَقَوْلُهُ: «وَقَيْسٌ» وَهْمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ - فِيْمَا أَرَى - عَنْ قَيْسٍ، وَهُوَ: ابنُ سَعْدٍ المَكِّيِّ".
قلت: هو سعد بن قيس المكي عن عطاء بن أبي رباح، فقد أخرج مسلمٌ في «صحيحه» (478) قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، قال: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بنُ بَشِيرٍ، قال: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بنُ حَسَّانَ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: «اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ».
فهشام له بعض الأوهام حتى في روايته عن ابن سيرين الذي هو أوثق الناس فيه، وله أوهام في روايته كذلك عن الحسن.
وقد ثبت أن هشام بن حسان سمع من الحسن سواءًا سمع منه مباشرة أم أخذ ما كتبه حوشب بن مسلم وعرضه على الحسن وسمع بعض ذلك منه.
قال ابن حجر في «الفتح» (1/448) في رواية هشام عن عطاء والحسن: "قلت: احْتج بِهِ الْأَئِمَّة، لَكِن مَا أخرجُوا لَهُ عَن عَطاء شَيْئاً، وَأما حَدِيثه عَن عِكْرِمَة فَأخْرج البُخَارِيّ مِنْهُ يَسِيراَ توبع فِي بعضه، وَأما حَدِيثه عَن الحسن البَصْرِيّ فَفِي الكتب السِّتَّة. وَقد قَالَ عَبْدُاللَّهِ بنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: «مَا يكَاد يُنكر عَلَيْهِ أحد شَيْئاً إِلَّا وجدت غَيْرَهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، إِمَّا أَيُّوبُ وَإِمَّا عَوْف»".
قلت: روى له البخاري عن الحسن حديثاً واحداً قد توبع عليه، ورى له مسلم حديثين واحداً قد توبع عليه، وواحداً في الشواهد.
- أخرج البخاري في «صحيحه» (9/64) (7150) قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنِ الحَسَنِ، أَنَّ عُبَيْدَاللَّهِ بنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».
قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ، قال: أَخْبَرَنَا حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ، قَالَ: زَائِدَةُ ذَكَرَهُ: عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: أَتَيْنَا مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ نَعُودُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا عُبَيْدُاللَّهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ».
وأخرجه مسلمٌ في «صحيحه» (1/126) (142) قال: وَحَدَّثَنِي القَاسِمُ بنُ زَكَرِيَّاءَ، قال: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ - يَعْنِي الجُعْفِيَّ -، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: قَالَ الحَسَنُ: كُنَّا عِنْدَ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ نَعُودُهُ، فَجَاءَ عُبَيْدُاللهِ بنُ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا.
- وأخرج مسلم في «صحيحه» (3/1268) (1648) قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلَا بِآبَائِكُمْ».
- وأخرج أيضاً (3/1480) (1854) قال: حَدَّثَنَا هَدَّابُ بنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ، قال: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بنُ يَحْيَى، قال: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ ضَبَّةَ بنِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا».
وحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ المِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي غَسَّانَ، قال: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ: ابنُ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيُّ -، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قال: حَدَّثَنَا الحَسَنُ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ العَنَزِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»، أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ.
وحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ العَتَكِيُّ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابنَ زَيْدٍ -، قال: حَدَّثَنَا المُعَلَّى بنُ زِيَادٍ، وَهِشَامٌ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ ضَبَّةَ بنِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: «فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ».
وَحَدَّثَنَاهُ حَسَنُ بنُ الرَّبِيعِ البَجَلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا ابنُ المُبَارَكِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ ضَبَّةَ بنِ مِحْصَنٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلَّا قَوْلَهُ: «وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» لَمْ يَذْكُرْهُ.
قلت: فهشام قد تُوبع على بعض رواياته عن الحسن، وقد ثبت سماعه منه.
والخلاصة أن هشام بن حسّان قد سمع من الحسن، لكنه لم يسمع كثيراً منه، ولهذا نجد أن حديثه المرفوع عنه ليس كثيراً.
فتضعيف ما يرويه هشام عن الحسن بأنه لم يسمع منه لا يصح! وأقصى ما قيل في ذلك أنه أخذ كتب حوشب بن مسلم عن الحسن!
فإن ثبت ذلك فقد علمنا الواسطة، وهو حوشب وهو ثقة، لكن لا يُظنّ بهشام أنه يأخذ كتب حوشب ويُحدّث منها دون ذكره!
والأقرب أنه ربما أخذ ما كتبه حوشب - وهو قرينه - وعَرَض ما كتب على الحسن وخاصة هذه الآثار الكثيرة جداً، وسمع منه بعض ذلك.
فالأصل قبول رواية هشام عن الحسن ما لم يتبيّن لنا أنه أخطأ أو وهم فيها! والكلام فيها قد يكون في رواية الحسن عن بعض الصحابة مما تكلّم فيه أهل النقد كروايته عن ابن عباس، وسَمُرة، وأبي هريرة، وجابر!
والآثار والموقوفات التي رواها هشام عن الحسن قبلها أهل العلم واحتجوا بها، ولا يدخلها الوهم والخطأ غالباً خاصة أنه قرن كثيراً منها بقول محمد بن سيرين = مما يعني أنه سمع رأي الحسن فيها وضبطه.
وإن كان أخذها من كتب حوشب، فحوشب ثقة من كبار أصحاب الحسن وروايته عنه مقبولة، على أننا نرى أنه إن كان أخذها من كتب حوشب لا بدّ أن يكون عرضها على الحسن، وحينها يكون تحديثه بها عن الحسن لا غُبار عليه، والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وكتب: د. خالد الحايك
الأول من شهر شوّال لسنة 1444هـ.

«تَكحيلُ العُيُون» فِي بيانِ حالِ «عُمرَ بنِ هَارون».

 «تَكحيلُ العُيُون» فِي بيانِ حالِ «عُمرَ بنِ هَارون».

كَان عَطاء بن أبي رَباحٍ يَكره أن تُعطى الدَّراهم فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ! = يعني هناك من كان يُفتي بها في زمانه!
فقد أورد ابن أبي شيبة في الباب الذي ذكره "فِي إِعْطَاءِ الدِّرْهَمِ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ" أثر عطاءٍ، فقالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: «أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعْطِيَ فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ وَرِقًا».
فطالما أن عطاءً كان يكره إعطاء الدراهم في صدقة الفطر، فلماذا أورد ابن أبي شيبة هذا الأثر فيمن كان يُعطي الدراهم في زكاة الفطر؟!
قلت:
فِي الصِّحَاحِ: "الوَرِقُ: الدَّرَاهِمُ المَضْرُوبَةُ".
وبحسب هذا الأثر فقد كان عطاء بن أبي رباح الإمام الفقيه مفتي مكة في زمانه كان يكره إعطاء الدراهم في زكاة الفطر = وهذا يعني أن مسألة إعطاء الدراهم في زكاة الفطر مسألة قديمة، وكان هناك من يُفتي بها، وهذا هو وجه إيراد ابن أبي شيبة هذا الأثر في هذا الباب = فكأنه يقول: طالما أن عطاءً كره هذا فهناك من لم يكن يكرهه، وكانوا يجيزونها.
فهذه المسألة قديمة، فعطاء ولد في خلافة عثمان سنة (27هـ) أو (30هـ)، وسمع من بعض الصحابة كابن عباس، وجابر بن عبدالله، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وابن الزبير، وعائشة - رضي الله عنهم -، وكبار التابعين كعروة بن الزبير، ومُجاهد، وعُبيد بن عُمير، وغيرهم، وانتهت إليه الفتوى في الحَرَم.
فالمسألة طُرقت في زمن عطاء، وكانت وفاته على الأرجح سنة (114هـ).
وقد روى ابنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ في صدقة الفطر قَالَ: "مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ".
فهو يرى إخراجها من الطعام، وقد كره إخراجها من الدراهم في مقابل مَنْ لمْ يَرَ بذلك بأساً.
والكراهة لا تعني الحُرمة أو المنع.
وانظر إلى هذا الخلاف: "أنه كان يكره"... فلم يُشنِّع على من لم يكن يكره ذلك، ولم يُبدّعه أو يُفسّقه! أو يقول: "هذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم" ونحو ذلك!
وكم من مسألة قال فيها بعض التابعين بأنه لا بأس بها، وخالفهم آخرون وقالوا بكراهتها!
ورأي عطاء لا شك أنه في مقابل من يُعتد بهم في الفتوى، وإلا لم يلتفت إلى هذه المسألة، ولولا أن بعض الأئمة قالوا بها في زمانه لم يُقل رأيه.
وَقَدْ كَانَ بِمَكَّةَ مَعَ عَطَاءٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِيْنَ من أئمة الفتوى: مُجَاهِدٌ، وَطَاوُوْسٌ، وَعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، وَابنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ المَكِّيُّ، وَآخَرُوْنَ.
فقد يكون من أجاز ذلك بعض فقهاء مكة، وقد يكون غيرهم كما ثبت عن الحسن في البصرة، وكما أخبر أبو إسحاق السبيعي أنه أدرك من يفعل ذلك في الكوفة.
فقد روى ابن زنجويه في «الأموال» في باب «الرُّخْصَةُ فِي إِخْرَاجِ الدَّرَاهِمِ بِالقِيمَةِ» عن مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ الرُّومِيُّ، عن زُهَيْرٍ أَبي خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الهَمْدَانِيِّ قَالَ: «كَانُوا يُعْطُونَ فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ بِحِسَابِ مَا يُقَوَّمُ مِنَ الوَرِقِ».
وروى عن مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الفِريابي، عن سفيان، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: «إِذَا أَعْطَى الدِّرْهَمَ مِنْ زَكَاةِ الفِطْرِ أَجْزَأَ عَنْهُ».
قَالَ سُفْيَانُ: "إِذَا أَعْطَى قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَجْزَأَ عَنْهُ".
ثم قال ابن زنجويه: "القِيمَةُ تُجْزِي فِي الطَّعَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالطَّعَامُ أَفْضَلُ".
*حالُ الأثر!
ولما رأيناه في هذا الزمان من الهجموم على الآثار وتضعيفها بأدنى شيء! فسيخرج علينا بعضهم ويقول: هذا الأثر لا يصح! فهو من رواية عمر وهو: ابن هارون البلخي، وهو متروك الحديث، بل ومُتّهم!
فأقول:
قال يَحْيَى بن مَعِيْنٍ: "لَيْسَ هو ثِقَةٌ".
وقال مرة: "لَيْسَ بِشَيْءٍ".
وقال مرة: "عُمَر بن هارون، كَذَّابٌ، قَدِمَ مَكَّة، وقد مات جَعفَر بن محمد، فَحَدَّثَ عنه".
وَقَالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ حِبَّانَ: وَجَدتُ بِخَطِّ جَدِّي، قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: "عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ البَلْخِيُّ: كَذَّابٌ، خَبِيثٌ، لَيْسَ حَدِيْثُهُ بِشَيْءٍ، قَدْ كَتَبتُ عَنْهُ، وَبِتُّ عَلَى بَابِهِ بِبَابِ الكُوْفَةِ، وَذَهَبْنَا مَعَهُ إِلَى النَّهْرَوَانِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا أَمرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَرَّقْتُ حَدِيْثَهُ كُلَّهُ، مَا عِنْدِي عَنْهُ كَلِمَةٌ، إِلاَّ أَحَادِيْثُ عَلَى ظَهْرِ دَفْتَرٍ خَرَّقْتُهَا كُلَّهَا".
قُلْتُ لأَبِي زَكَرِيَّا: مَا تَبَيَّنَ لَكُم مِنْ أَمرِهِ؟
قَالَ: "قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ - وَلَمْ أَسْمَعْه مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَشْهُوْرٌ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ - قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا، فَحَدَّثَنَا عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، فَنَظَرْنَا إِلَى مَوْلِدِهِ، وَإِلَى خُرُوْجِه إِلَى مَكَّةَ، فَإِذَا جَعْفَرٌ قَدْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوْجِهِ".
وقال يَحْيَى بنِ المُغِيْرَةِ الرَّازِيِّ: "سَمِعْتُ ابنَ المُبَارَكِ يَغْمِزُ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ فِي سَمَاعِه مِنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَرْوِي عَنْهُ نَحْوَ سِتِّيْنَ حَدِيْثاً".
وقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُلْتُ لأَبِي: إِنَّ أَبَا سَعِيْدٍ الأَشَجَّ حَدَّثَنَا عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُوْنَ، فَقَالَ: "هُوَ ضَعِيْفُ الحَدِيْثِ، بَخَسَهُ ابنُ المُبَارَكِ بَخْسَةً"، فَقَالَ: "يَرْوِي عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ قَدِمْتُ قَبْلَ قُدُوْمِهِ، فَكَانَ جَعْفَرٌ قَدْ تُوُفِّيَ".
قال الذهبي معلقاً على هذا في «السير»: "قُلْتُ: هَذَا مُنْقَطِعٌ عَنِ ابنِ المُبَارَكِ، ولا يَصِحُّ، فَقَدْ قَدِمَ ابنُ المُبَارَكِ وَحَجَّ قَبْلَ مَوْتِ جَعْفَرٍ بِسَنَوَاتٍ".
قلت: فحاصل اتهامه بأنه روى عن جعفر بن محمد، وجعفر كان قد توفي قبل دخول عمر مكة!
وابن المبارك من أقران عمر بن هارون، وكان مولد ابن المبارك سنة (118هـ)، ورحل سنة (141هـ) لطلب العلم والجهاد والحج، وكان موت جعفر الصادق سنة (148هـ).
والظاهر أنه دخل مكة قبل وفاة جعفر الصادق، ومما يدلّ على ذلك أنه سمع من ابن جُريج في مكة، وقد صاهره، وابن جُريج توفي سنة (150هـ)، وقيل إنه لزمه اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً ولهذا أكثر عَنْهُ.
لكن قال الذهبي في مدة إقامته في مكة: "مَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ، هَذَا إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ نَحْوَ سَنَةٍ".
وقَالَ الخَطِيْبُ: وَذَكَرَ مُسْلِمُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ البَلْخِيُّ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ تَزَوَّجَ أُمَّ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ، فَمِنْ هُنَالِكَ أَكْثَرَ السَّمَاعَ مِنْهُ.
وَقَالَ ابنُ عَدِيٍّ: يُقَالُ: إِنَّهُ لَقِيَ ابنَ جُرَيْجٍ، وَكَانَ حَسَنَ الوَجْهِ، فَسَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَلَكَ أُخْتٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهِ، فَقَالَ: لَعَلَّ هَذَا الحُسْنَ يَكُوْنُ فِي أُخْتِهِ كَمَا هُوَ فِي أَخِيْهَا. فَتَفَرَّدَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُه.
قلت: وعلى فرض إنه قد أقام بمكة سنة واحدة يُستبعد أن يكون ذلك قبل وفاة ابن جريج بسنتين وكان جعفر الصادق قد توفي؛ لأنه إما أن ابن جريج تزوج أم هارون أو أخته - وإن كنت أميل إلى أنه تزوج أمه -.
وابن جريج وُلد بعد سنة سبعين، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ المِائَةَ، واستبعد الذهبي ذلك، فقال: "وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ بَلْ وَلا جَاوَزَ الثَّمَانِينَ".
وعلى فرض أنه لم يكن قد جاوز الثمانين فكان قد جاوز السبعين بلا شك، ويستبعد أن يكون تزوج أم عمر أو أخته في أواخر عمره وهو قد جاوز السبعين!
والذي أراه أنه دخل مكة قبل سنة (140هـ) = أي قبل وفاة جعفر الصادق بسنوات، وحينها يكون قد سمع منه، والله أعلم.
قال عَبْدُاللَّه بنُ سُلَيْمَان بن الأشعث ابن أبي داود: حَدَّثَنَا سَعِيْدُ بنُ زَنْجَلَ البلخيّ، قَالَ: سَمِعْ صَاحِباً لَنَا - يُقَالُ لَهُ: بُور بن الفَضْلِ -، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ، وَذَكَرَ عُمَرَ بنَ هَارُوْن، فقال: "كان عُمَر عندنا أحسن أخذاً للحديث من ابن المبارك".
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ: "عمر بن هارون البلخي أبو حفص الثقفي كَانَ كَثِيْرَ السَّمَاعِ. رَوَى عَنْهُ: عَفَّانُ، وَقُتَيْبَةُ بن سعيدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ من أهل الحديث. وَيُقَالُ: إِنَّ مُرْجِئَةَ بَلْخَ كَانُوا يَقَعُوْنَ فِيْهِ، وَكَانَ أَبُو رَجَاءٍ - يَعْنِي: قُتَيْبَة - يُطْرِيهِ، وَيُوَثِّقُهُ"
وقال أَبو رَجَاءٍ قُتيبة بن سعيد البلخي: "كتبت عَنْ عمر بن هارون وحده أكثر من ثلاثين ألفاً".
وقال قتيبة: "كَانَ عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ شَدِيْداً عَلَى المُرْجِئَةِ، وَيَذكُرُ مَسَاوِئَهُم وَبَلاَيَاهُم، فَكَانَتْ بَيْنَهُم عَدَاوَةٌ لِذَلِكَ. وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالقِرَاءاتِ، وَكَانَ القُرَّاءُ يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِ، وَيَخْتَلِفُوْنَ إِلَيْهِ فِي حُرُوْفِ القُرْآنِ".
وقال قتيبة: سَأَلْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بنَ مَهْدِيٍّ، فَقُلْتُ: إِنَّ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ قَدْ أَكْثَرْنَا عَنْهُ، وَبَلَغَنَا أَنَّكَ تَذْكُرُهُ!
قَالَ: "أَعُوذُ بِاللهِ، مَا قُلْتُ فِيْهِ إِلاَّ خَيْراً".
قُلْتُ: "بَلَغَنَا أَنَّكَ قُلْتَ: رَوَى عَنْ فُلاَنٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ"!
قَالَ: "يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا قُلْتُ أَنَا ذَا قَطُّ، وَلَوْ رَوَى مَا كَانَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ".
وقَالَ أبو بكرٍ المَرُّوْذِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِاللهِ أحمد بن حنبل عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُوْنَ البلخي، فَقَالَ: "مَا أَقدِرُ أَنْ أَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، كَتَبْتُ عَنْهُ حَدِيْثاً كَثِيْراً".
فَقِيْلَ لَهُ: قَدْ كَانَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَعَ ابنِ مَهْدِيٍّ؟
قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهِ"!
فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ مَنْ يَحكِي عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِم عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ البَصْرَةَ وَهُوَ شَابٌّ، فَذَاكَرَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَكَتَبَ عَنْهُ ثَلاَثَةَ أَحَادِيْثَ:
مِنْهَا: حَدِيْثٌ عَنْ يَحْيَى بنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بنِ عَبْدِاللهِ الحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عَمْرٍو فِي شُرْبِ العَصِيْرِ.
وَمِنْهَا: عَنْ عَبْدِالمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الحَفَّارِ يَنْسَى الفَأْسَ فِي القَبْرِ، وَحَدِيْثٌ آخَرُ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ زَمَانٍ، قَدِمَ، فَأَتَى رَجُلٌ عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّكَ كَتَبْتَ عَنْ هَذَا أَشْيَاءَ! فَأَعْطَاهُ الرُّقعَةَ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيْثِ يَحْيَى بنِ أَبِي عَمْرٍو، فَقَالَ: "لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئاً، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي الحَدَاثَةِ".
وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيْثِ عَبْدِالمَلِكِ، فَقَالَ: "لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ، إِنَّمَا حَدَّثَنِيْهِ فُلاَنٌ، عَنْهُ"، فَأَتَى الرَّجُلُ ابنَ مَهْدِيٍّ، فَأَخْبَرَهُ، فَنَالَ مِنْهُ، وَتَكَلَّمَ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ: "كَانَ أَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ. وَرَوَى عَنِ: الأَوْزَاعِيِّ".
قِيْلَ لَهُ: فَتَرْوِي عَنْهُ؟
فَقَالَ: "قَدْ كُنْتُ رَوَيتُ عَنْهُ شَيْئاً".
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُوْلُ: "عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ لاَ أَرْوِي عَنْهُ، وَقَدْ أَكْثَرتُ عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ ابنُ مَهْدِيٍّ يَقُوْلُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيْمَةٌ عِنْدِي، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي بِأَحَادِيْثَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَرَّةً أُخْرَى، حَدَّثَنِي بِهَا عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أُوْلِئَكَ، فَتَرَكْتُ حَدِيْثَهُ".
قلت: قد تقدّم أن قتيبة بن سعيد سأل ابن مهدي عن كلامه في عمر بن هارون فنفى أن يكون قد تكلّم فيه.
والإمام أحمد لم يسمع هذه من ابن مهدي، وإنما نُقلت له وبلغته! وكأن كلام ابن مهدي في عمر كان منتشراً، وقد سبق ما نقله ابن معين عن ابن مَهْدِيٍّ، وقال: "وَلَمْ أَسْمَعْه مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَشْهُوْرٌ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ"!
ولهذا سأل قتيبة عبدالرحمن نفسه عن كلامه فيه، فنفاه، وهذا يدفع كل ما نُقل عن ابن مهدي فيه، فنفي ابن مهدي يُقدَّم على ما نُقل عنه من طرق مجهولة!
فابن معين، وأحمد قد نقلا عن ابن مهدي كلامه في عمر ولم يسمعا ذلك من ابن مهدي، وإنما نُقل ذلك إليهم، وكان ذلك مشهوراً عنه، لكن ابن مهدي قد نفى كلّ ذلك كما نقل عنه قتيبة.
وعليه فتكون مسألة اتهامه وتكذيبه قد سقطت، ولا دليل عليها!
وعمر بن هارون (128 - 194هـ) من أقران ابن مهدي (135 - 198هـ)، وقد التقيا، ولم يتهمه ابن مهدي، لكن يبدو أنه لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيْمَةٌ عِنْده كما نقل عنه الإمام أحمد.
وكأن البخاري لم يعبأ باتهام عمر، واكتفى بقوله: "عُمَرُ بنُ هَارُونَ البَلْخِيُّ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ".
وقال الترمذي: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يعني: البخاري - عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُونَ؟ فَقَالَ: "هُوَ مُقَارِبُ الحَدِيثِ، وَكَانَ عَلِيُّ بنُ عَبْدِاللَّهِ يَحْكِي عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ فِيهِ شَيْئًاً. وَكَانَ قُتَيْبَةُ يَحْكِي عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ".
قلت: ما حكاه ابن المديني عن ابن مهدي هو ما كان مشتهراً بين الناس، وما نقله قتيبة هو ما سمعه من ابن مهدي، وهو الذي يُقدّم.
وقال عَبْدالرَّحْمَن بن يُوسُف بن خراش، قَالَ: "عُمَر بن هارون البلخي، قَالَ ابن المبارك: هو كذاب".
قلت: لم يُصرّح ابن المبارك بهذا، وكأن ابن خراش بناه على ما تقدم من أن ابن المبارك طعن في سماعه من جعفر بن محمد! وقد رددنا ذلك.
والظاهر أن كلّ من تكلّم فيه تبع ابن معين في اتهامه له!
قال صالح جزرة: "كان كذاباً"!
ورَوَى أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ زُنَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ هَارُوْنَ: "أَلْقَيْتُ مِنْ حَدِيْثِي سَبْعِيْنَ أَلْفاً: لأَبِي جُزْءٍ عِشْرِيْنَ أَلْفاً، وَلِعُثْمَانَ البُرِّيِّ كَذَا وَكَذَا".
فَقَالَ: يَا أَبَا غَسَّانَ! مَا كَانَ حَالُهُ؟
قَالَ: "قَالَ بَهْزٌ: أَرَى يَحْيَى بنَ سَعِيْدٍ حَسَدَهُ! فَقَالَ: أَكْثَرَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ!" مَنْ لَزِمَ رَجُلاً اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً، لاَ يُرِيْدُ أَنْ يُكْثِرَ عَنْهُ!".
قلت: لا أظن يحيى القطان يحسده! وإنما تكلّم فيه لتفرده عن ابن جريج!
نعم، إكثاره عنه لملازمته لا غُبار عليه، لكنه ينفرد عنه وعن غيره بالمنكرات!
قال الخليلي: "عُمَرُ بنُ هَارُونَ البَلْخِيُّ سَمِعَ مَالِكًا، وَالثَّوْرِيَّ، وَكُبَرَاءَ العِرَاقِ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وَيَتَفَرَّدُ بِأَحَادِيثَ عَنْ سُفْيَانَ، وَغَيْرِهِ، لَكِنَّ الْأَجِلَّاءَ رَوَوْا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَغَيْرِهِمَا، قَدِيمُ المَوْتِ، وَرَوَى عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ حَدِيثًا لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، مُسْنَدًا وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ".
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ ابنُ حِبَّانَ: "كَانَ مِمَّنْ يَرْوِي عَنِ الثِّقَاتِ المُعْضِلاَتِ، وَيَدَّعِي شُيُوْخاً لَمْ يَرَهُم. وَكَانَ ابنُ مَهْدِيٍّ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيْهِ".
قلت: لم يثبت أنه ادّعى شيوخاً لم يرهم! وهَذِهِ رِوَايَةُ قُتَيْبَةَ عَنِ ابنِ مَهْدِيٍّ.
قَالَ ابنُ حِبَّانَ: "قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو السَّوِيْقِيُّ: شَهِدتُ عُمَرَ بنَ هَارُوْنَ بِبَغْدَادَ وَهُوَ يُحَدِّثُهُم، فَسُئِلَ عَنْ حَدِيْثٍ لابْنِ جُرَيْجٍ، رَوَاهُ عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، لَمْ يُشَارَكْ فِيْهِ، فَحَدَّثَهُم بِهِ، فَرَأَيتُهُم مَزَّقُوا عَلَيْهِ الكُتُبَ".
قلت: هو غير متقن للحديث، وكان يَهم كثيراً.
ثُمَّ قَالَ ابنُ حِبَّانَ: "كَانَ صَاحِبَ سُنَّةٍ، وَفَضْلٍ، وَسَخَاءٍ، وَكَانَ أَهْلُ بَلَدِهِ يُبْغِضُونَهُ لِتَعَصُّبِهِ فِي السُّنَّةِ، وَذَبِّهِ عَنْهَا، وَلَكِنْ كَانَ شَأْنُهُ فِي الحَدِيْثِ مَا وَصَفْتُ، وَالمَنَاكِيْرُ فِي حَدِيْثِهِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ فِيْهِ.
وَقَدْ حَسَّنَ القَوْلَ فِيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوْخِنَا، كَانَ يَصِلُهُم فِي كُلِّ سَنَةٍ بِصِلاَتٍ كَبِيْرَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ، وغيرها، وَيَبْعَثُهَا إِلَيْهِم مِنْ بَلْخَ إِلَى بَغْدَادَ فِي كُلِّ سَنَةٍ".
قلت: نعم، في حديثه مناكير ينفرد بها، ولهذا تركوا حديثه.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُوْسَى الرازي - وقِيْلَ لَهُ: لِمَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بنِ هَارُوْنَ؟ فَقَالَ: "النَّاسُ تَرَكُوا حَدِيْثَهُ".
وقال شعيب بن رجاء المكتب الرازي: سمعتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُوْسَى يقول: "كَتَبتُ عَنْ عمر بن هارون مثل ذي - يعني: حُزْمَةً -، فلا أُحَدِّثُ عَنْهُ بِشَيْءٍ".
وقال ابن سعد في "تسمية الفقهاء والمحدّثين من أهل خراسان": "عمر بن هارون البلخي".
وقال: "عمر بن هارون البلخي: روى عن ابن جريج وغيره، قد كتب الناس عنه كتاباً كثيراً، وتركوا حديثه".
وَقَالَ صَالِحٌ جَزَرَةُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الحَافِظُ: "مَتْرُوْكُ الحَدِيْثِ".
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الجَوْزَجَانِيُّ: "لَمْ يَقنَعِ النَّاسُ بِحَدِيْثِهِ".
وقال عبدالله بن علي بن عبدالله المديني: سألت أبي عن عمر بن هارون البلخي، فَضَعَّفَهُ جِدّاً.
وَقَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ: "فِيْهِ ضَعْفٌ".
وَقَالَ العِجلي، والدَّارَقُطْنِيُّ: "ضَعِيْفٌ".
وقال البيهقي: "ليس بالقوي".
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: "لاَ شَيْءَ، حَدَّثَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ بِالمَنَاكِيْرِ".
وذكره أبو العرب، والبخاري، والعقيلي، وابن شاهين، والبلخي، والدولابي، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة وأبو إسحاق الحربي، وأبو علي الطوسي في جملة الضعفاء.
وَقَالَ الترمذي فِي «جَامِعِهِ» - وروى له حديثاً -: سَمِعْتُ مُحَمَّداً يَقُوْلُ: "مُقَارَبُ الحَدِيْثِ، لاَ أَعْرِفُ لَهُ حَدِيْثاً لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، إِلاَّ هَذَا... وَرَأَيْتُ مُحَمَّداً حَسَنَ الرَّأْيِ فِيْهِ".
قال الذهبي في «السير»: "قُلْتُ: مِمَّنْ قَوَّى أَمرَهُ: ابنُ خُزَيْمَةَ، فَرَوَى لَهُ فِي «المُخْتَصَرِ» حَدِيْثاً فِي البَسْمَلَةِ".
وقال أيضاً: "إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ سَيِّئُ الحِفْظِ، فَلَمْ يَرْوه حُجَّةً وَلاَ عُمدَةً".
وقال في «الميزان»: "وكان من أوعية العلم على ضعّفه وكثرة مناكيره، وما أظنه ممن يتعمد الباطل".
قلت: وخلاصة أمره أنه ضعيف، وينفرد بالمناكير عن الثقات، ولم يثبت أنه كان يكذب!
وكأن سبب ضعّفه أنه كان معتنياً بالقراءات فلم يبذل نفسه للحديث فصار سيء الحفظ، ووقع في حديثه المنكرات.
فلا يُحتج به فيما انفرد به في الأحاديث المسندة، وأما الآثار والموقوفات فتُقبل منه إن لم تكن منكرة، وخاصة فيما يرويه عن ابن جريج، فهو قد لازمه؛ لأن ابن جريج تزوج أمّه، وكانت أُمَّهُ تُعِيْنُهُ عَلَى الكِتَابِ.
وقيل إنه تَزَوَّجَ بِأُخْتِهِ، فَتَفَرَّدَ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُه.
فما يرويه عن ابن جريج من آثار وفتاوى فيُحتمل منه ويُقبل ولا يُرد مثل الأحاديث المرفوعة.
وقد روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» روايات كثيرة من فتاوى عطاء وغيره عن عُمَرَ بنِ هَارُونَ.
فروى عنه عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وروى كذلك عنه عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، وعُبَيْدِاللهِ بنِ يَزِيدَ وغيرهم.
روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» في باب «بِأَي صَاعٍ يُعْطَى فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ؟» عن عُمَرَ بنِ هارونَ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: «إِنْ أَعْطَيْتَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْزَأَ عَنْك، وَإِنْ أَعْطَيْتَ بِالمُدِّ الَّذِي تَقُوتُ بِهِ أَهْلَك أَجْزَأَ عَنْك».
ورواه عن مُحَمَّدِ بنِ بَكْرٍ البُرْساني، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: «أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تُعْطِيَ بِمِكْيَالِكَ اليَوْمَ بِمِكْيَالٍ تَأْخُذُ بِهِ وَتَقْتَاتُ بِهِ».
قلت: فهذه الآثار والفتاوى التي يرويها عُمر بن هارون لا شذوذ ولا نكارة فيها، وهي مقبولة، ويحتج بها أهل العلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وكتب: د. خالد الحايك.
29 رمضان 1444هـ.

صدقة الفِطر والحرب الطاحنة!

 صدقة الفِطر والحرب الطاحنة!

رأيت كثيراً من المنشورات والسجال حول إخراج صدقة الفطر طعاماً أو قيمة ومالاً... ولا شك أن المناقشة العلمية أمر جيد ومطلوب.. وكم فرحت حقيقة بالدعوة إلى التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وهذا هو الأصل.
لكن مما ساءني - حقيقة - أن بعض هذه المنشورات تكاد تُخرج من يقول بجواز إخراج القيمة أو المال من المِلة! وتُصوّره بأنه لا يريد السنة وكأنه يحاربها! وهو كاره لها!!!
وهذه - والله - مصيبة عظيمة!
وكذلك طريقة الكتابة المستفزة في ذلك! مثل قول بعضهم - هداهم الله -: "خدعوكم فاحذروا"، وأمثالها! وكأن الأمر قد دُبِر بليل!
فهل الأمر مبني على قصد الخداع؟ ومخالفة السنة أم أنه الاجتهاد لعدة اعتبارات؟!
وكذلك قول بعضهم: "لا يوجد في المسألة خلاف"! لا تسمعوا لهم، وغير ذلك.
وأكبر تلك المصائب كيفية التعامل مع ما رُوي في ذلك من آثار!!
طريقة جديدة في التضعيف!
فلا بدّ لكل إنسان أن يعرف حجمه، ويقف عند ما يعرفه!
فبعض الإخوة - هداهم الله - تقرأ منشوره ولا يعرف رأسه من رجليه، وكله أخطاء نحوية وإملائية، ثم تجده يُنصب نفسه للحكم على الآثار ولا بضاعة عنده في ذلك؟!
واعجباه!!!
قد ترجم الإمام ابن أبي شيبة في كتابه العظيم "المصنف" بابا "فِي إِعْطَاءِ الدِّرْهَمِ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ".
وابن أبي شيبة توفي سنة (235هـ)، ونقل ذلك عن عُمَرَ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ، والحَسَنِ البصري.
فهل يُظن بهما مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما من كبار الفقهاء!
والحسن وما أدراك من الحسن!
نعم، هو قول له اجتهد فيه، فيمكنك مخالفته أو تقليده، فلا حرج عليك.
وابن أبي شيبة ينقل لك خلافاً هنا، فكيف نقول بأن المسألة لا خلاف فيها؟!
وأكثر شيء غاظني هو حكم كثير منهم على ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيّ بأنه لا يصح عنه، وأنه ضعيف!!
قال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زُهَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ: "أَدْرَكْتُهُمْ وَهُمْ يُعْطُونَ، فِي صَدَقَةِ رَمَضَانَ الدَّرَاهِمَ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ".
فهذا الخبر ضعّفوه بسبب: أن أبا إسحاق السبيعي اختلط، وزهير بن معاوية سمع منه بعد الاختلاط!
فعلى منهجهم هذا عليهم أن يضعفوا كل الروايات التي في "الصحيحين" وهي تربو على الثلاثين لزهير عن أبي إسحاق!
ثم هل فعلاً اختلط السبيعي الاختلاط الفاحش الذي من يحدث عنه في اختلاطه يترك حديثه؟
السبيعي مات وعمره (96) سنة، فطبيعي أن يتغير حفظه أو ينسى بسبب العمر.
فهو لم يختلط الاختلاط الذي يخشى منه، ولهذا قال الإمام الذهبي: "من أئمة التابعين بالكوفة وأثباتهم إلا أنه شاخ ونسي ولم يختلط".
ثم هذا الذي يرويه عنه زهير، ما هو؟
هو قول له يُخبر عن شيء عاصره، فهل المختلط - على فرض اختلاطه - يؤثر هذا على ما أخبر به هنا؟! وكيف يختلط في ذلك؟
وهنا مسألة مهمة، وهي: إن التعامل مع الآثار تختلف عن التعامل مع الأحاديث المرفوعة!
فمنهج إعمال سيف الجرح فيهما سواء بسواء يُهدر لنا مئات بل آلاف الآثار والأقوال عن الصحابة والتابعين! وهذا لا يقول به أهل العلم.
فأبو إسحاق – وقد ولد سنة 33 هجرية في خلافة عثمان – يُخبر أنه "أدركهم" من هم؟
لا شك أنهم بقية الصحابة الذين كانوا في زمانه وكبار التابعين، فهو قد رأى علياً، وسمع من البراء بن عازب، وزيد بن أرقم، والنعمان بن بشير، وعَمْرِو بنِ الحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِي جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ.
وسمع من كبار التابعين كسعيد بن جبير، وحارثة بن وهب الخزاعي، والشعبي، وعَبْداللَّهِ بن يزيد الخطمي، وعَبْدالرحمن بن الأسود ابن يزيد النخعي، وغيرهم.
وروى زُهَيْرٌ أيضاً قَالَ: حدثنا أبو إسحاق، قال: "كنت كثير المجالسة لرافع بن خديج رضي الله عَنْهُ، وكنت أجالس عَبْداللَّه بن عُمَر، ورأيت نساء النبي صلى الله عليه وعليهن وسلم حججن فِي زمن المغيرة فِي هوادج عليها الطيالسة، ورأيت الحارث بن أَبِي ربيعة والأسود".
فهل نرد ما رواه زهير عنه هنا بحجة الاختلاط؟!
فأبو إسحاق يُخبر أنه أدركهم وَهُمْ يُعْطُونَ، فِي صَدَقَةِ رَمَضَانَ الدَّرَاهِمَ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ، فإن لم يكن الذين أدركهم هم بقايا الصحابة وكبار التابعين، فمن إذن؟!
وعلى العموم فهذه المسألة فيها خلاف شاء من شاء وأبى من أبى، والأصل فيها إخراج الطعام.
وحقيقة نحن نواجه مشكلة كبيرة في زماننا بالنظر إلى مجتمعاتهم قديما، فقديما الفقراء في مناطقهم يعرفون عندهم، لكن في مدننا الكبيرة وهذا العالم الكبير، فزكوات عشرات الملايين هذه كيف نخرجها طعاما؟!
نعم قد يستطيع بعض الناس فعل ذلك، لكن الأغلبية لا تستطيع، ولهذا يستسهلون إخراج المال لبعض الجهات!
والأصل أن يكون هناك عمل مؤسسي لثقات لا أي مؤسسة أو جمعية، تقوم على جمع المال من الناس ثم شراء الطعام وتوزيعه حتى خارج حدود البلد الواحد.
والكلام على هذه المسألة يطول.
وأسأل الله أن يتقبل من الجميع.

هل هناك إجماع على وجوب «صدقة الفطر»!

 هل هناك إجماع على وجوب «صدقة الفطر»!

مِن المعلوم عند الناس أن هناك إجماع على فرضية «صدقة الفطر»، والأحاديث في ذلك في «الصحيحين»، وغيرهما.
وهناك من أهل العلم من يقول بأن «صدقة الفطر» ليست بواجبة، وأن فرضيتها قد نُسخت، ومن هؤلاء: إِبْرَاهِيمُ بن إسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ المُتكلّم (ت 218هـ)، وَأَبو بَكْرٍ عبدالرحمن بنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ المتكلّم المُعتزلي شيخ إبراهيم بن عُلية، وكلاهما من الفقهاء.
وهؤلاء من أهل البدع، ومن أهل العلم من لم يَعتد بخلافهم.
ففي قوله تعالى في قصة موسى: {قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: (26)] قال الشوكاني في «فتح القدير» (4/195): "أَيِ: اسْتَأْجِرْهُ لِيَرْعَى لَنَا الغَنَمَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةً. وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى جَوَازِهَا وَمَشْرُوعِيَّتِهَا جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْأَصَمَّ فَإِنَّهُ عَنْ سَمَاعِ أَدِلَّتِهَا أَصَمٌّ".
لكن ابن حزم يعتد بخلاف أهل البدع، فإذا خالفوا انتقض الإجماع! ومَال إلى ذلك ابن حجر.
قال ابن حزم في «مراتب الإجماع»: "ولسنا نخرج من جملَة العلمَاء من ثبتَتْ عَدَالَته وبحثه عَن حُدُود الفتيا وإن كَانَ مُخَالفاً لنحلتنا، بل نعتد بِخِلَافِهِ كَسَائِر العلمَاء وَلَا فرق كعمرو بن عُبيد، وَمُحَمّد بن إسحاق، وَقَتَادَة بن دَعامة السدُوسِي، وشَبابة بن سوّار، وَالحسن بن حييّ، وَجَابِر بن زيد، ونظرائهم، وإن كَانَ فيهم القدري والشيعي والإباضي والمرجىء؛ لأَنهم كَانُوا أهل علم وَفضل وَخير واجتهاد رَحِمهم الله، وَغلط هَؤُلَاءِ بِمَا خالفونا فِيهِ كغلط سَائِر العلمَاء فِي التَّحْرِيم والتحليل وَلَا فرق".
قلت: والإجماع قد انخرم بغير هؤلاء، فقد نُقل عن أَشْهَبَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أهل الظَّاهِر، وابن اللَّبَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
قال العيني في «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (9/108): "ثمَّ اعْلَم أَن العلمَاء اخْتلفُوا فِي صَدَقَة الفطر: هَل هِيَ فرض أَو وَاجِبَة أَو سنة أَو فعل خير مَنْدُوب إِلَيْهِ؟ فَقَالَت طَائِفَة: هِيَ فرض وهم الثَّلَاثَة المذكورون هُنَا: الشَّافِعِي، وَمَالك وَأحمد، وَقَالَ أَصْحَابنَا: هِيَ وَاجِبَة، وَقَالَت طَائِفَة: هِيَ سنة، وَهُوَ قَول مَالك فِي رِوَايَة ذكرهَا صَاحب الذَّخِيرَة، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ فعل خير قد كَانَت وَاجِبَة ثمَّ نسخت".
وأشار إلى هذا الاختلاف ابن حزم في «مراتب الإجماع»، قال: "وَوجدنَا الإجماع يقتسم طرفِي الأقوال فِي الْأَغْلَب وَالْأَكْثَر من المسَائِل وَبَين هذَيْن الطَّرفَيْنِ وسائط فِيهَا كثر التَّنَازُع، وَفِي بحرها سبح المخالفون، فأحد الطَّرفَيْنِ هُوَ: مَا اتفق جَمِيع العلمَاء على وُجُوبه أَو على تَحْرِيمه أَو على أَنه مُبَاح لَا حرَام وَلَا وَاجِب فسمينا هَذَا الْقسم: الإجماع اللَّازِم.
والطرف الثَّانِي هُوَ: مَا اتّفق جَمِيع العلمَاء على أَن من فعله أَو اجتنبه فقد أدّى مَا عَلَيْهِ من فعل أَو اجْتِنَاب أَو لم يَأْثَم فسمينا هَذَا القسم: الإجماع المجازي عبارَة اشتققناها لكل صنف من صفته الخَاصَّة بِهِ ليقرب بهَا التفاهم بَين المعلم والمتعلم والمناظرين على سَبِيل طلب الحَقِيقَة إن شَاءَ الله وَمَا توفيقنا إلا بِاللَّه.
وَبَين هذَيْن الطَّرفَيْنِ أَشْيَاء قَالَ بعض الْعلمَاء: هِيَ حرَام، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: لَيست حَرَامًا، لَكِنَّهَا حَلَال، وَقَالَ قوم مِنْهُم: هِيَ وَاجِبَة، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: لَيست بواجبة لَكِنَّهَا مُبَاحَة وكرهها بَعضهم واستحبها بَعضهم.
فَهَذِهِ مسَائِل من الأحكام والعبادات لَا سَبِيل إلى وجود مُسَمّى الإجماع لَا فِي جوامعها وَلَا فِي أفرادها.
وَنحن ممثلون مِنْهَا مِثَالاً، وَذَلِكَ: مثل زَكَاة الفطر، فَإِن قوماً قَالُوا: هِيَ فرض، وَقوم قَالُوا: لَيست فرضاً، وَقَالَ قوم: هِيَ مَنْسُوخَة" انتهى.
وقال ابن رُشد في «بداية المجتهد» (1/223): "فأما زكاة الفطر، فإن الجمهور على أنها فرض، وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنة، وبه قال أهل العراق.
وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة وسبب اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك، وذلك بأنه ثبت من حديث عبدالله بن عمر أنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر، أو عبد، ذكر، أو أنثى من المسلمين».
وظاهر هذا يقتضي الوجوب على مذهب من يقلد الصاحب في فهم الوجوب أو الندب من أمره عليه الصلاة والسلام إذا لم يحد لنا لفظه.
وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي المشهور، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع»، فذهب الجمهور إلى أن هذه الزكاة داخلة تحت الزكاة المفروضة، وذهب الغير إلى أنها غير داخلة".
وقال ابن عبدالبر في «التمهيد» (14/321): "اخْتَلَفُوا في زكاة الفطر هَلْ هِيَ فَرْضٌ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ أَوْ فِعْلُ خَيْرٍ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ! فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ فَرْضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ ابنُ عُمَرَ، وَقَالَ قَائِلُونَ هِيَ سَنَةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ فِعْلُ خَيْرٍ وَقَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَتْ، روي هذا القول عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ".
ثم قال: "وَذَكَرَ أَبُو التَّمَّامِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: زَكَاةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ العِلْمِ كُلُّهُمْ إِلَّا بَعْضَ أَهْلِ العِرَاقِ فَإِنَّهُ قَالَ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. واخْتَلَفَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ: أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ دَاوُدَ بنِ عَلِيٍّ فِيهَا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَالْآخِرُ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ".
قلت: واستدل لمن لا يراها فرضاً أو أنها منسوخة بما رواه قَيْسُ بنُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ، وَأَمَرَنَا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ».
وفي رواية: «أُمِرْنَا بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ وَكُنَّا نَصُومُهُ، وَأُمِرْنَا بِنِصْفِ صَاعٍ كُلُّ إِنْسَانٍ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، أَو ذَكَرٍ أَو أُنْثَى، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ، وَكُنَّا نُخْرِجُهُ».
*تخريج الحديث، والكلام عليه:
أخرجه عبدالرزاق في «مصنفه» (3/322) (5801). وأحمد في «مسنده» (39/259) (23840) عن يَزِيدَ بنِ هَارُونَ. والبزار في «مسنده» (9/198) (3746) عن عَمْرِو بنِ عَلِيٍّ الفلاّس، عن يَحْيَى القطان. وابن زنجويه في «الأموال» (3/1239) (2363) عن حُمَيْدٍ، عن مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الفِريابيّ. والطبراني في «المعجم الكبير» (18/349) (887) عن عَلِيِّ بنِ عَبْدِالعَزِيزِ البغوي، عن أَبي نُعَيْمٍ الفضلِ بنِ دُكينٍ. والبيهقي في «السنن الكبير» (4/269) (7671) من طريق أَبي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ، عن يَعْلَى بنِ عُبَيْدٍ.
وأحمد في «مسنده» (39/262) (23843). وابن أبي شيبة في «مصنفه» (6/229) (9458) [ورواه أبو يعلى في «مسنده» (3/24) (1434) عن أَبي بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ]. والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/381) (636) عن أَبي كُرَيْبٍ، وابنِ وَكِيعٍ. وابن خزيمة في «صحيحه» (2/1152) (2394)، والحاكم في «المستدرك» (1/568) (1491) من طريق مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللَّهِ الحَضْرَمِيّ مُطيّن، كلاهما (ابن خزيمة، ومُطيّن) عن جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيّ. والنسائي في «السنن الكبرى» (3/39) (2298) عن مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ المُبَارَكِ المخرميّ. وابن ماجه في «سننه» (3/40) (1828) عن عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ الطنافسيّ. كلهم (أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو كُريب، وابن وكيع، وجعفر الثعلبي، ومحمد بن عبدالله المخرمي، وعليّ بن محمد الطنافسي) عن وَكِيعٍ.
كلهم (عبدالرزاق، ويزيد بن هارون، ويحيى القطان، والفريابي، وأَبُو نُعَيْمٍ، ويَعْلَى بن عُبَيْدٍ، ووكيع) عن سفيانَ الثَّوْرِيِّ.
والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/74) (3281) عن ابنِ مَرْزُوقٍ، عن رَوْحِ بنِ عُبَادَةَ، عن شُعْبَةَ.
كلاهما (الثوري، وشعبة) عَنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ الكوفيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي القَاسِمُ بنُ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ عَرِيب بنِ حُمَيْدٍ الهَمْدَانِيِّ، قَالَ: سَأَلْنَا سَعْدَ بنَ قَيْسِ بنِ عُبَادَ عَنْ صَدَقَةِ الفِطْرِ، فَذكره.
كذا رواه سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ، عن القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الهَمْدَانِيِّ، عن سَعْدِ بنِ قَيْسِ بنِ عُبَادَة.
وخالفه الحَكَمُ بنُ عُتَيْبَةَ، فرواه عَنِ القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ أَبي مَيْسَرَةَ الهَمْدَانِيّ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ.
أخرجه أَبُو دَاوُدَ الطيالسي في «مسنده» (2/536) (1307). والبزار في «مسنده» (9/198) (3745)، والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/381) (638) كلاهما (البزار، والطبري) عن مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى، عن مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ غُندر. وابن أبي خيثمة في «تاريخه» (1/391) (1473) عن أَبي عُبَيْدٍ، والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/382) (639) عن عَلِيِّ بنِ سَهْلٍ الرَّمْلِيّ، كلاهما (أبو عبيد، والرملي) عن حَجَّاجِ بنِ مُحَمَّدٍ الأَعْوَر. والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/381) (637) عن ابنِ وَكِيعٍ، عن أَبِيه. والنسائي في «السنن الكبرى» (3/38) (2297) عن إِسْمَاعِيلَ بنِ مَسْعُودٍ البَصْرِيّ، عن يَزِيدَ بنِ زُرَيْعٍ. والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/75) (3282) عن عَلِيِّ بنِ شَيْبَةَ، عن رَوْحِ بنِ عُبادةَ. و(3283) عن ابنِ مَرْزُوقٍ، عن سَعِيدِ بنِ عَامِرٍ. وفي «شرح مشكل الآثار» (6/36) (2258) عن بَكَّارِ بنِ قُتَيْبَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بنِ مَرْزُوقٍ، وَعَلِيِّ بنِ شَيْبَةَ، جَميعاً عن رَوْحِ بنِ عُبَادَةَ. و(2260) عن بَكَّارٍ، عن وَهْبِ بنِ جَرِيرٍ. كلهم (الطيالسي، وغُندر، وحجاج، ووكيع، ويزيد بن زريع، وروحٌ، وسعيد بن عامر، ووهب بن جرير) عن شُعْبَةَ.
والطبراني في «المعجم الكبير» (18/349) (888) عن مُعَاذِ بنِ المُثَنَّى، عن مُسَدَّدٍ، عن حُصَيْنِ بنِ نَمِرٍ، عن محمدِ بنِ عبدالرحمن بنِ أَبِي لَيْلَى.
كلاهما (شعبة، وابن أبي ليلى) عَنِ الحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ.
وخالفهما مَنْصُورُ بن المعتمر فرواه عَنِ الحَكَمِ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ!
أخرجه أَبُو العَبَّاسِ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوبَ الأًصم في «حديثه - الجزء الثالث» (53) عن مُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ المُنَادِي، عن أَبي بَدْرٍ، عن زَائِدَة بنِ قُدامة، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ.
وأخرجه البيهقي في «الخلافيات» (4/446) (3440) عن أَبي عَبْدِاللَّهِ الحَافِظ الحاكم النيسابوري، عن أَبي العَبَّاسِ الأصمّ.
قال البيهقي: "هَذَا مُرْسَلٌ، الحَكَمُ لَمْ يُدْرِكْ قَيْسَ بنَ سَعْدٍ، وَرَوَاهُ القَاسِمُ بنُ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الهَمْدَانِيِّ، عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ المِقْدَارِ".
قلت: قصّر فيه منصور، ورواية شعبة وابن أبي ليلى أولى، ويُحتمل أن الاختلاف من الحكم نفسه، كان يصله أحياناً، ويقصر به أحياناً، والله أعلم.
قال الحاكم - بعد أن روى حديث ابن عمر في صدقة الفطر، ثم حديث قيس - قال في حديث قيس: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُهُ بِإِزَاءِ حَدِيثِ أَبِي عَمَّارٍ، فَإِنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَهَذَا عَلَى الوُجُوبِ".
وقَالَ البيهقي: "وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِهَا؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ آخَرَ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الفِطْرِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهَا فَرْضًا فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا".
وقد رجّح النسائي رواية الحكم، فقال كما في «السنن الصغرى» (5/49) - بعد أن ساق الروايتين -: "وَسَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ خَالَفَ الحَكَمَ فِي إِسْنَادِهِ، وَالحَكَمُ أَثْبَتُ مِنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ".
قلت: كلاهما من الثقات الأثبات، ولا أرى وجهاً لترجيح الحكم على سلمة، بل قَال عَبْدالرَّحْمَنِ بن مهدي: "لم يكن بالكوفة أثبت من أربعة: مَنْصُور، وأبي حصين، وسلمة بن كهيل، وعَمْرو بن مرة".
فلم يذكر الحكم بن عتيبة، وذكر فيهم سلمة = ومقتضى ذلك ترجيح سلمة على الحكم.
ثم إن الاختلاف بينهما يسير، فأبو عمّار، وعَمْرو بن شُرَحْبِيلَ كلاهما ثقة، وقد يكون القَاسِم بن مُخَيْمِرَةَ سمع الحديث من كليهما.
*ترجمة أبي عمّار وحاله:
فأبو عمّار هو: عَرِيب - بفتح أوله، وكسر الراء، بعدها تحتانية، ثم موحدة -، ابن حُميد الهمداني الكوفيّ، روى عن علي بن أبي طالب، وحذيفة، وَعَمَّارٍ، وَقَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، وعمرو بن شرحبيل، وغيرهم. روى عنه: أبو إسحاق السبيعيّ الهمداني، وطلحة بن مصرِّف، والأعمش وغيرهم.
قال ابن أبي خيثمة: سألت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن أبي عمار، فقالا: "اسمه: عريب بن حميد، وهو كوفي ثقة". [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: (7/32)].
وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/283) (4854): "عريب بن حميد بن عمار الهَمدَانِي، من أهل الكُوفَة، يَرْوِي المَرَاسِيل. رَوَى عَنْهُ: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، وَالقَاسِم بن مخيمرة. كُنْيَتُهُ: أَبُو عمّار الفائشي".
قلت: حديثه قليل، ولم أجده روى حديثاً مرسلاً!
وقال ابن حجر في «التقريب» (4573): "كوفي ثقة".
وذكره الذهبي في «تاريخه» (2/900) (144) في طبقة من مات ما بين سنة (71 - 80]، ثم أعاده في الطبقة التي تليها (2/980) (108) فيمن مات ما بين سنة (81 - 90).
فالذهبي مُتردد في أي طبقة هو، فأورده في كلا الطبقتين.
وقد قال المزي في نسبته: "الدُّهْنِيُّ الهَمْدَانِيُّ"!
فتعقبه مغلطاي في «إكماله» (9/235) فقال: "وأما قوله: «الهمداني الدهني» فوهمٌ لا شك فيه، أنَّى يجتمع دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغَوْث بن النَبْت بن مالك بن زَيْدِ بنِ كَهْلانَ مع هَمْدَان بن مالك بن زيد بن أَوْسَلَةَ بن رَبيعةَ بن الخَيَارِ بنِ مَالِكِ بنِ زيدِ بنِ كَهلان؟ وإن قلنا: تصحفت عليه الدُّهني بالضم من الدِّهني بالكسر، فكذلك أيضاً لأن المكسور الدال في الأزد، وفي غافق، وفي عبد القيس.
وذكره أيضاً عمران بن محمد بن عمران الهمداني في الطبقة الأولى من رجال همدان النازلين بالكوفة، ونسبه فائشياً كما ذكره أبو حاتم ابن حبان، وهو الصواب، والله تعالى أعلم" انتهى.
قلت: الفَائِشي، أو الفَايِشي - بِفَتْح الفَاء وَسُكُون الْألف وَكسر اليَاء المُثَنَّاة من تحهتها وَفِي آخرهَا شين مُعْجمَة - نِسْبَة إِلَى فايش.
قَالَ السمعاني في «الأنساب» (10/144): "وظني أَنه بطن من هَمدَان، ينْسب إِلَيْهِ خلق كثير، مِنْهُم: أَبُو بكر عبدالرَّحْمَن بن يزِيد الفايشي الهَمدَانِي، كُوفِي يروي عَن عَليّ. روى عَنهُ: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي. قتل يَوْم الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ".
قال ابن الأثير في «اللباب في تهذيب الأنساب» (2/410): "قلت: هُوَ من هَمدَان لَا شكّ فِيهِ، وَهُوَ: فايش بن الجابر بن عبدالله بن قادم بن زيد بن عريب بن جشم بن حاشد بن جشم بن حيران بن نوف ابن هَمدَان".
*ترجمة عمرو بن شُرحبيل وحاله:
وعَمْرُو بنُ شُرَحْبِيلَ أَبُو مَيْسَرَةَ الهَمْدَانِيُّ الكُوْفِيُّ. حَدَّثَ عَنْ: عُمَرَ - مرسل -، وَعَلِيٍّ، وَابنِ مَسْعُوْدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ إِمَامَ مَسْجِدِ بَنِي وَادْعَةَ، وكان مِنَ العُبَّادِ الأَوْلِيَاءِ.
حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالقَاسِمُ بنُ مُخَيْمَرَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السبيعي الهمداني، وَمُحَمَّدُ بنُ المُنْتَشِرِ، وأبو عمّار الهمداني، ومسروق بن الأجدع الهمداني - وهو من أقرانهما - وغيرهم، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَصْحَابِ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُودٍ، وشهد صفين مع علي - رضي الله عنه -، وأخرج له الجماعة إلا ابن ماجه.
وثّقه ابن معين وغيره.
مات سنة اثنتين أو ثلاث وستين.
وذكره البخاري في فصل «من مات ما بين السبعين إلى الثمانين».
والراوي عنهما: القَاسِمُ بنُ مُخَيْمِرَةَ كوفي همداني أيضاً، وهو ثقة.
وقيس بن سعد بن عُبادة كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأَمِيرِ، وقد صَحِبَ عليّا، وشهد معه مشاهده، وتوفي سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ستين في آخر خلافة معاوية بالمدينة.
*الحكم على الحديث:
والخلاصة أن الحديث صحيح لا علّة فيه، وإسناده همدانيون ثقات، وفيه تصريح التابعي بسماعه من قيس بسؤاله أو سؤال غيره عن صدقة الفطر.
وقد روى ابن زنجويه في «الأموال» (3/1240) (2364) قال: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الفضلُ بن دُكَينٍ، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ بنِ مُصرِّف، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كَانَتِ الفِطْرَةُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ نُؤْمَرْ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ، وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلُوهَا».
*رد النووي للحديث!
وقد ضعّف النووي هذا الحديث بجهالة حال أبي عمّار! فقال في «المجموع شرح المهذب» (6/104): "فَهَذَا الحَدِيثُ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي عَمَّارٍ، وَلَا يُعْلَمُ حَالُهُ فِي الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَإِنْ صَحَّ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ الفِطْرَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْأَمْرُ بِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْقَاطِهَا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ وُجُوبِهَا، وَقَوْلُهُ: «لَمْ يَأْمُرْنَا» لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ سَبَقَ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَكْرَارِهِ. قَالَ البَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهَا ابنُ الْمُنْذِرِ فِي الْأَشْرَافِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الرِّوَايَةِ عَنْ ابنِ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ وَإِنْ كَانَ الْأَصَمُّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ".
قلت: أبو عمار ثقة كما مر بيان حاله.
*كلام ابن حجر في نقض الإجماع!
قال البخاري في «صحيحه»: "«بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ»، وَرَأَى أَبُو العَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ، وَابنُ سِيرِينَ: «صَدَقَةَ الفِطْرِ فَرِيضَةً»".
قال ابن حجر في «الفتح» (3/367): "وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهِمْ صَرَّحُوا بِفَرْضِيَّتِهَا، وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَ ابن المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ الحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِالوُجُوبِ دُونَ الفَرْضِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ، وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بنَ عُلَيَّةَ وَأَبَا بَكْرِ بنَ كَيْسَانَ الْأَصَمَّ قَالَا: إِنَّ وُجُوبَهَا نُسِخَ! وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ»، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضٍ آخَرَ. وَنَقَلَ المَالِكِيَّةُ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أهل الظَّاهِر، وابن اللَّبَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: «فَرَضَ» فِي الحَدِيث بِمَعْنى قدر".
قلت: أشار ابن حجر إلى أن الحديث تُعقّب بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، ولم يذكر المتعقّب، وهذا مردود، فرجاله معروفون مشهورون، وابن حجر قد ثبت الحديث وصححه، فإنه قال قبل هذا: "وَثَبت عِنْد أَحْمد، وابن خُزَيْمَة أَيْضًا، وَالنَّسَائِيّ، وابن مَاجَهْ، وَالحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ»، إِسْنَاده صَحِيح رِجَاله رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا أَبَا عَمَّارٍ الرَّاوِي لَهُ عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ وَهُوَ كُوفِيٌّ اسْمُهُ: عَريب - بِالمُهْمَلَةِ المفتوحة - بن حُميد، وَقد وَثَّقَهُ أَحْمد وابن مَعِينٍ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ صَدَقَةِ الفِطْرِ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ".
وقال العيني تعقيباً على نقل ابن المنذر للإجماع: "قلت: فِيهِ نظر لما ذكرنَا من الِاخْتِلَاف فِيهَا".
وقال الطوفي الحنبلي في «شرح مختصر الروضة» (1/277) - وهو يتحدث عن الفرض والواجب -: "قُلْتُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا، وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُ بَيْنَ الفَرْضِ وَالوَاجِبِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيِّ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الفِطْرِ»، وَأَنَا مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ، وَقَيْسُ بنُ سَعْدٍ يَدْفَعُ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَهَذَا فَرْقٌ مِنْهُ بَيْنَهُمَا".
قلت: أحمد لا يُفرِّق بين الواجب والفرض، وكأنه كان يرى وجوب وفرضية صدقة الفطر لحديث ابن عمر، ثم لم يجترئ أن يقول إنها فرض لحديث قيس بن سعد، ولو كان يُفرّق بين الفرض والواجب لما اتجه احتجاجه بحديث قيس؛ لأنه ليس فيه ما يدل على الفرض أو الواجب الدائم بل يدلّ صراحة على عدمه.
وحديث قيس لا يُعارض حديث ابن عمر ولا الأحاديث الأخرى في صدقة الفطر، ففيه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم = يعني فرض عليهم كما في حديث ابن عمر، وهذا يدفع تأويل من أوّل الفرض هنا بمعنى التقدير! لكنه بيّن في حديثه أن هذا الفرض أو الأمر كان قبل فرض الزكاة، فلما فُرضت الزكاة لم يأمرهم ولم ينههم، ثم أخبر إنهم كانوا يخرجونها كما كانوا قبل فرض الزكاة، وهذا يؤيد ما جاء عن الصحابة من إخراجها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء.
وقيس كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعترض على ما قاله في حديثه إنه ربما فهم هذا! وهذا الفهم ليس مُلزماً! وإنما هو يُخبر عن حالة عايشها.
وإنما فرض النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة عندما كان كثير من المسلمين من الفقراء، ولم يكن هناك تعامل واسع بالدراهم أو توفر الكثير منها، فكان التركيز على ما هو موجود من قوت الناس، ففرضها لسدّ حاجات الفقراء.
فإن كان هناك من يرى سُنية صدقة الفطر فلا حرج حينها بإخراجها نقداً.
والقصد من هذا هو بيان الاختلاف بين أهل العلم في مشروعية صدقة الفطر، والبحث فيها يطول، وقد رد بعض أهل العلم على من لا يرى وجوبها، وسنزيد ذلك بياناً بإذن الله في وقت لاحق.
والحمد لله أولاً وآخراً.
وكتب: د. خالد الحايك
28 رمضان 1444هـ.