مفهوم التبرك وبعض أدلة مشروعيته (الجزء الثاني)
الحمد لله رب العالمين الصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
فقد سبق الحديث في القسم الأول من موضوع التبرك أن تحدثنا عن معنى التبرك وأصله في القرآن والسنة ونقلنا الأدلة حول ذلك وذكرنا أقوال العلماء رحمهم الله تعالى وتبرك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بالنبي ﷺ وتعرضنا لذكر بعض الآيات في التبرك مع أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى، وبعض الأدلة أيضاً حول التبرك بما شرب فيه أو مسه ﷺ والتبرك بشعره وظفره ونعله وعرقه وجبته وبردته ﷺ ونتابع في ذكر مشروعية التبرك وعمل السلف رحمهم الله تعالى على ذلك وإقرارهم...ومن ذلك:
تبرك النبي ﷺ بتربة المدينة ومواضع الأنبياء:
عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ: النَّبِيُّ ﷺ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا «بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا. متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. (صحيح مسلم: 2194)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما رجع رسولُ الله ﷺ من تبوك، تلقاه رجال من المتخلِّفين من المؤمنين، فأثاروا غُباراً، فَخَمَّرَ بعضُ من كان مع النبيِّ ﷺ أنْفَه، فأزال رسولُ الله ﷺ اللِّثَام عن وجهه، وقال: والذي نفسي بيده: إن في غُبارها شفاء من كل داء (جامع الأصول لابن الأثير: 6962)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ؛ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ قَالَ:
عَدَلَ إِلَيَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَأَنَا نَازِلٌ تَحْتَ سَرْحَةٍ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. فَقَالَ: مَا أَنْزَلَكَ تَحْتَ هذِهِ السَّرْحَةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَدْتُ ظِلَّهَا. فَقَالَ: هَلْ غَيْرُ ذلِكَ؟ فَقُلْتُ: لاَ. مَا أَنْزَلَنِي إِلاَّ ذلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ مِنْ مِنًى. وَنَفَخَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ. فَإِنَّ هُنَاكَ وَادِياً يُقَالُ لَهُ السُّرَرُ ، بِهِ سَرْحَةٌ سُرَّ تَحْتَهَا سَبْعُونَ نَبِيّاً (موطأ الإمام مالك: 1602)
(حديث صحيح)، يقول العلامة الزرقاني رحمه الله تعالى: وفيه التبرك بمواضع النبيين (شرح الزرقاني: 2/ 601).
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء عليهم السلام والصالحين رحمهم الله تعالى ومقاماتهم ومساكنهم، وإلى هذا قصد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بحديثه هذا، والله أعلم. (التمهيد: 13/97)
ولقد ثبت أن النبي ﷺ في رحلة الإسراء والمعراج قد صلى في بعض الأماكن تبركاً بأصحابها:
فروى النسائي في (المجتبى) حديث الإسراء والمعراج بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه في كتاب الصلاة باب فرض الصلاة وفيه:
«...فَسِرْتُ فَقَالَ جبريل عليه السلام: انْزِلْ فَصَلِّ فَفَعَلْتُ. فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ. فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ…» إلى آخر الحديث. (سنن النسائي: 450)
يقول الإمام السنْدي رحمه الله تعالى في الحاشية: صليت بطور سيناء وَهَذَا أصل كَبِير فِي تتبع آثَار الصَّالِحين والتبرك بهَا وَالْعِبَادَة فِيهَا (حاشية السندي: 1/ 222) أ.هـ.
التبرك بالنبي ﷺ بعد وفاته:
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الصحابي الجليل سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه: «مزود أبي هريرة (والمزود هو وعاء الزاد)
قال حماد بن زيد : حدثنا المهاجر مولى آل أبي بكرة، عن أبي العالية رحمهم الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله ﷺ بتمرات، فقلت: ادع لي فيهن يا رسول الله ﷺ بالبركة. فقبضهن، ثم دعا فيهن بالبركة، ثم قال: خذهن فاجعلهن في مزود، فإذا أردت أن تأخذ منهن، فأدخل يدك، فخذ ولا تنثرهن نثرا.
فقال: فحملتُ من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونطعم، وكان المزود معلقا بحقوي، (أي خصري) لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع» أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. (سير أعلام النبلاء: 2/ 630) (أخرجه الإمام أحمد: (8628) وابن حبان في صحيحه: (6532) واسحاق بن راهويه في مسنده: (3))
وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى أيضاً في معجم الشيوخ: عن نافع رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يكره مسّ قبر النبي ﷺ. قلت (القائل الإمام الذهبي رحمه الله تعالى): كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب. وقد سئل أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى عن مسّ القبر النبوي وتقبيله فلم ير بذلك بأساً. رواه عنه ولده عبد الله بن أحمد رحمهما الله تعالى (معجم الشيوخ الكبير للذهبي:1/ 73)
فإن قيل وهل ورد بذلك أحاديث قلنا نعم عدة أحاديث:
الحديث الأول:
عن داود بن أبي صالح رحمه الله تعالى، قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، جئت رسول الله ﷺ ولم آت الحجر، سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله (مسند الإمام أحمد: 23585)
وهو مروي في مستدرك الحاكم والطبراني في الكبير، وهو صحيح بمجموع طرقه، صححه الحاكم وأقره الذهبي في التلخيص وصححه السيوطي وحسّنه السبكي والصالح الدمشقي والمناوي وغيرهم.
الحديث الثاني:
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رحمه الله تعالى قال: «رأيت أسامة رضي الله عنه يصلي عند قبر رسول الله ﷺ، فخرج مروان بن الحكم فقال: تصلي عند قبره؟ قال إني أحبه فقال له قولا قبيحا…» الحديث. (الأحاديث المختارة لضياء الدين المقدسي: 1318)
رواه ابن حبان في صحيحه ترتيب ابن بلبان برقم 5694 رجاله رجال الصحيحين وفيه محمد بن إسحاق صرح بالتحديث كما يظهر، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8 / 64 وقال: رجاله ثقات ولفظه " رأيت أسامة بن زيد عند حجرة عائشة يدعو.... ورواه الطبراني وأحمد في مسنده بألفاظ متقاربة.
الحديث الثالث: أخرج الحاكم في مستدركه عن علي بن الحسين عن أبيه رضي الله عنهم: «أن فاطمة رضي الله عنها بنت النبي ﷺ
كَانَتْ «تَزُورُ قَبْرَ عَمِّهَا حَمْزَةَ كُلَّ جُمُعَةٍ فَتُصَلِّي وَتَبْكِي عِنْدَهُ» قال الإمام الحاكم: هَذَا الْحَدِيثُ رُوَاتُهُ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ. (المستدرك للحاكم: 1396)
فهو حديث صحيح، وهو تبرك بعم رسول الله ﷺ.
وإليك هذا الكلام العجيب المهم في تعليل ذلك، يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: «… فَإِنْ قِيلِ: فَهَلا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ؟ قِيلَ: لأَنَّهُمْ عَايَنُوهُ حَيًّا وَتَمَلَّوْا بِهِ وَقَبَّلُوا يَدَهُ وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وُضُوئِهِ وَاقْتَسَمُوا شَعْرَهُ الْمُطَهَّرَ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ، وَكَانَ إِذَا تَنَخَّمَ لا تَكَادُ نُخَامَتُهُ تَقَعُ إِلا فِي يَدِ رَجُلٍ فَيُدَلِّكُ بِهَا وَجْهَهُ، وَنَحْنُ فَلَمَّا لَمْ يَصِحْ لَنَا مِثْلُ هَذَا النَّصِيبِ الأَوْفَرِ تَرَامَيْنَا عَلَى قَبْرِهِ بِالالْتِزَامِ وَالتَّبْجِيلِ وَالاسْتِلامِ وَالتَّقْبِيلِ، أَلا تَرَى كَيْفَ فَعَلَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ؟ كَانَ يُقَبِّلُ يَدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَيَضَعُهَا عَلَى وَجْهِهِ وَيَقُولُ: يَدٌ مَسَّتْ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذِهِ الأُمُورُ لا يُحَرِّكُهَا مِنَ الْمُسْلِمِ إِلا فَرْطُ حُبِّهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، إِذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِنَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَمِنْ أَمْوَالِهِ، وَمِنَ الْجَنَّةِ وَحُورِهَا، بَلْ خَلْقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَكْثَرَ مِنْ حُبِّ أَنْفُسِهِمْ. انتهى كلام الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى (معجم الشيوخ الكبير للذهبي:1/ 73)
مشروعية التبرك بالصالحين:
والنصوص في إثبات التبرك كثيرة جداً وقد فهم منها السادة الفقهاء والأئمة الأعلام جواز التبرك بالسادة الصالحين رضي الله عنهم.
ومن يقول إن التبرك خاص برسول الله ﷺ وخاص بحياته فقد أبعد النجعة وفارق الحجة ولم يخضع للحق الذي درج عليه الأئمة والسلف كيف لا وقد
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْعَثُ إِلَى الْمَطَاهِرِ، فَيُؤْتَى بِالْمَاءِ، فَيَشْرَبُهُ، يَرْجُو بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. ((المعجم الأوسط: 794) (وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 2534))
قال العلامة الهيثمي رحمه الله تعالى: رجاله موثقون (مجمع الزوائد: 1/ 214)
ومما جاء عن العلماء في مشروعية التبرّك بالصالحين ما نقله الحافظ ضياء الدين المقدسي الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى قال: سمعت الحافظ أبا موسى ابن الحافظ عبد الغني رحمهما الله تعالى يحدث عن رجل بدمياط قال: كنت يوما عند الحافظ (عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى) فقلت في نفسي: كنت أشتهي لو أن الحافظ يعطيني الثوب الذي يلي جسده حتى أكفن فيه فلما أردت القيام قال: لا تبرح. فلما انصرف الجماعة خلع ثوبه الذي يلي جسده وأعطانيه. وَبَقِيَ الثَّوْب عِنْدنَا، كُلُّ مَنْ مَرِضَ تركوه عليه فيعافى. (سير أعلام النبلاء: 16/ 33)
وقال ابن أبي يعلى رحمه الله تعالى في طبقات الحنابلة: أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادي رحمهم الله تعالى، أحد الفقهاء العقلاء والمناظرين والأذكياء، مات بآمد سنة سبع أو ثمان وستين وأربع مائة، وقبره هناك يقصد ويتبرك به. (طبقات الحنابلة: 2/ 234) انتهى.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى في المقصد الأرشد والعلامة العليمي الحنبلي في المنهج الأحمد في ترجمة علي بن محمد رحمه الله تعالى المذكور: وقبره هناك مقصود بالزيارة. انتهى. (المقصد الأرشد: 2/253)
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في التبرك بآثار الصالحين: ومنها التبرك بالصالحين وآثارهم والصلاة في المواضع التي صلوا بها وطلب التبريك منهم (شرح النووي على صحيح مسلم:5/ 161)
وجاء في دليل الطالب: وسُنّ أن يحمد الله إذا فرغ، ويقول الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، ويدعو لصاحب الطعام، ويفضل منه شيئا لا سيما إن كان ممن يتبرك بفضلته (دليل الطالب: 1/252)
وفي الإنصاف للمرداوي رحمه الله تعالى: قال ابن الزاغوني رحمه الله تعالى وغيره: وليأت المنبر فيتبرك به تبركا بمن كان يرتقي عليه . (الإنصاف للمرداوي: 4/ 54)
وفيه أيضا: ويستحب للضيف أن يفضل شيئا لا سيما إن كان ممن يتبرك بفضلته أو كان ثم حاجة (الإنصاف للمرداوي: 8/ 333)
وفي المغني: ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، وقد روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي ﷺ: «لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر (المغني لابن قدامة: 2/380)
ينبغي أن نعلم أن التبرك ليس هو إلا توسلاً إلى الله سبحانه وتعالى بذلك المتبرَّك به سواء أكان أثراً أو مكاناً أو شخصاً.
أما الأعيان فلاعتقاد فضلها وقربها من الله سبحانه وتعالى مع اعتقاد عجزها عن جلب خير أو دفع شر إلا بإذن الله، وأما الآثار فلأنها منسوبة إلى تلك الأعيان فهي مشرفة بشرفها ومكرمة ومعظمة ومحبوبة لأجلها، وأما الأمكنة فلا فضل لها لذاتها من حيث هي أمكنة وإنما لما يحل فيها ويقع من خير وبر كالصلاة والصيام وجميع أنواع العبادات مما يقوم به عباد الله الصالحون، إذ تتنزل فيها الرحمات وتحضرها الملائكة وتغشاها السكينة وهذه هي البركة التي تطلب من الله في الأماكن المقصود لذلك.
وهذه البركة تطلب بالتعرض لها في أماكنها بالتوجه إلى الله تعالى ودعائه واستغفاره وتذكر ما وقع في تلك الأماكن من حوادث عظيمة ومناسبات كريمة تحرك النفوس وتبعث فيها الهمة والنشاط للتشبه بأهلها أهل الفلاح والصلاح، وقد ذكرنا بعض النصوص المقتبسة في مقالنا السابق وكذا بمقالنا هنا ولم نحصر الأدلة في هذا الجمع إذ النصوص كثيرة ومستفيضة،
وقد بينا أنه قد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتبركون بآثاره ﷺ وهذا التبرك ليس له إلا معنى واحد ألا وهو التوسل بآثاره ﷺ إلى الله تعالى لأن التوسل يقع على وجوه كثيرة لا على وجه واحد، أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا يتوسلون به؟
وهل يصح أن يتوسل بالفرع ولا يصح بالأصل؟
وهل يصح أن يتوسل بالأثر الذي ما شرف ولا عظم وكرم إلا بسبب صاحبه محمد ﷺ، ثم يقول قائل: إنه لا يصح أن يتوسل به؟
ولماذا كان الدفن بقرب رسول الله ﷺ أهم شيء وأحب شيء إلى عمر رضي الله عنه؟
ليس لذلك تفسير إلا التوسل بالنبي ﷺ بعد وفاته بالتبرك بالقرب منه.
ولماذا قطعت أم سليم رضي الله عنها فم القربة التي شرب منها رسول الله ﷺ ثم يقول أنس رضي الله عنه فهو عندنا.
وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون لأخذ شعرة واحدة من شعر رأسه لما حلقه.
وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تحتفظ بجبة رسول الله ﷺ وتقول: فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها، وهذا خاتم رسول الله ﷺ يحتفظ به بعده أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ثم يسقط منه في البئر، وكل هذه الأحاديث ثابتة وصحيحة.
وقد روى الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في دلائل النبوة والحاكم رحمه الله تعالى في مستدركه وغيرهما أن خالد بن الوليد رضي الله عنه فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، وَإِذَا هِيَ قَلَنْسُوَةٌ خَلِقَةٌ، فَقَالَ خَالِدٌ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعْرِهِ، فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ، فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ؟. أي ببركة شعر النبي ﷺ. (المستدرك للحاكم: 5299) دلائل النبوة للبيهقي: 6/ 249)
قال الحافظ البوصيري رواه أبو يعلى بسند صحيح وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه ورجالهما رجال الصحيح، ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ورواه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية.
وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى
عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا (صحيح مسلم: 2069)
وذكر الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
أنه كان يتحرى الصلاة في الأماكن التي كان يصلي فيها رسول الله ﷺ. (صحيح البخاري: 483)
قال العلامة القسطلاني رحمه الله تعالى ونقله الحافظ الزبيدي في الإتحاف: إنما كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي في هذه المواضع للتبرك (إرشاد الساري: 1/464)
وروى البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله أنه قال:
جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺيَعُودُنِي، وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَعَقَلْتُ. (صحيح البخاري: 194)
وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال:
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ (صحيح البخاري: 187)
وفي رواية عنده:
وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَاكَ الوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ. (صحيح البخاري: 376)
وقال أبو موسى رضي الله عنه:
دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: -أي بلال وأبو موسى رضي الله عنهما- «اِشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا (صحيح البخاري: 187)
وفي رواية مسلم: ثم قال
"اِشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا، وَأَبْشِرَا» فَأَخَذَا الْقَدَحَ، فَفَعَلَا مَا أَمَرَهُمَا بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَنَادَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا مِمَّا فِي إِنَائِكُمَا فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً (صحيح مسلم: 2497). اهـ
وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن البيهقي:.....
فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ...إلخ (صحيح البخاري: 2731)
وروى الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى وغيره عن نافع رحمه الله تعالى قال:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَتَبَّعُ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَكُلُّ مَنْزِلٍ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْزِلُ فِيهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجِيءُ بِالْمَاءِ، فَيَصُبُّهُ فِي أَصْلِ السمرة كي لا تيبس ". اهـ (صحيح ابن حبان: 7074)
وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: بَاب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ ﷺ وَآنِيَتِهِ وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَلَا أَسْقِيكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِيُّ ﷺفِيهِ. اهـ (صحيح البخاري: 7/ 113)
ثم تبع الصحابة في خُطتهم في التبرك بآثاره ﷺ من أسعده الله وتوارد ذلك الخلف عن السلف واستمر ذلك إلى هذا الوقت.
فعن ثابت رحمه الله تعالى قال:
كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَانِي فَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَآخُذُ يَدَيْهِ فَأُقَبِّلُهُمَا، وَأَقُولُ: بِأَبِي هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ اللَّتَيْنِ مَسَّتَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ: بِأَبِي هَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. (مسند أبي يعلى: 3491)
قال العلامة الهيثمي رحمه الله تعالى: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ. (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 9 325)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء: قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ رحمهما الله تعالى: رَأَيْتُ أَبِي يَأْخُذُ شَعرةً مِن شَعرِ النَّبِيِّ ﷺ فَيَضَعُهَا عَلَى فِيْهِ يُقبِّلُهَا.
وَأَحسِبُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَيَغْمِسُهَا فِي المَاءِ وَيَشرَبُه يَسْتَشفِي بِهِ.
ورَأَيْتُهُ أَخذَ قَصْعَةَ النَّبِيِّ ﷺ فَغَسلهَا فِي حُبِّ المَاءِ، ثُمَّ شَرِبَ فِيْهَا، وَرَأَيْتُهُ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ يَسْتَشفِي بِهِ، وَيَمسحُ بِهِ يَدَيْهِ وَوَجهَه.
قُلْتُ (الذهبي): أَيْنَ المُتَنَطِّعُ المُنْكِرُ عَلَى أَحْمَدَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ سَأَلَ أَبَاهُ عَمَّنْ يَلمَسُ رُمَّانَةَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَمَسُّ الحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ، فَقَالَ: لاَ أَرَى بِذَلِكَ بَأْساً.
أَعَاذنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنْ رَأْيِ الخَوَارِجِ وَمِنَ البِدَعِ. انتهى كلام الذهبي. (سير أعلام النبلاء: 11/ 212)
ونقل البهوتي الحنبلي رحمه الله تعالى في كشاف القناع عن إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى وهو من علماء السلف أنه قال: يستحب تقبيل حجرة النبي ﷺ. (كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/151)
وروى الإمام البخاري رحمه الله تعالى
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ رحمه الله تعالى، قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ رحمه الله تعالى: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ ﷺ أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ» فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (صحيح البخاري: 170)اهـ
وذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتاب تهذيب الأسماء واللغات: وأوصى عمر بن عبد العزيز أن يدفن معه شيء كان عنده من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وأظفار من أظفاره وقال: إذا مت فاجعلوه في كفني. ففعلوا ذلك. (تهذيب الأسماء واللغات: 2/24)
هذا وموضوع التبرك بحث طويل منثور في طيات كتب الأئمة وقد كانوا أحرص الأمة على اتباع سيدنا محمد ﷺ فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ولا يسع المؤمن المحب المتبع لهذا الهدي إلا أن يترامى على هذا الهدي امتثالاً واتباعا واقتداء، وفي هذا القدر كفاية لكل مسترشد وسائل، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.