وليد: سمعت أخي خالد أنك تنكر وقوع عذاب القبر.
خالد: نعم صحيح، وعذاب القبر لم يثبت صريحا في القرآن الكريم، والسنة أخبارها في عذاب القبر آحادية، لا تصلح في العقائد، وأدلة الكتاب تقول إن الناس في قبورهم نائمون.
وليد: ما الدليل من القرآن الكريم على عدم وقوع عذاب القبر؟
خالد: قال تعالى في سورة يس: (قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52))، والمرقد هو محل الرقاد، والرقاد هو النوم.
وليد: وعليه، فهمتَ أن المرقد هو محل النوم، فيلزم أن يكون فيه نوم، هل هذا صحيح؟
خالد: نعم، وهذا واضح أن المرقد هو مكان النوم.
وليد: لو ذهبنا إلى محل مفروشات فيه غرف نوم، فهل يلزم من كونها غرفة نوم، أن الناس قد ناموا فيها؟
خالد: لا يلزم من تسميتها غرفة نوم أن الناس قد ناموا فيها فعلا!
وليد: افترض أنه قد سأل عنك أخوك فقال أين خالد؟ فقالت أمك: خالد في غرفة النوم! فهل يلزم من ذلك أنك نائم؛ لأنك في غرفة النوم؟
خالد: لا!
وليد: يعني يحتمل أنك نائم، وكذلك ليس بالضرورة أن تكون نائما.
خالد: نعم، هذان احتمالان النوم، والوجود دون نوم.
وليد: ألا يحتمل قوله تعالى في الآية: “مرقدنا” كما احتمل وجودك في غرفة النوم، حيث لا يلزم النوم من وجودك في غرفة النوم أنك نائم، وكذلك لا يلزم من وجودك في المرقد أنك راقد؟! وكما قلنا في غرفة النوم في محال المفروشات.
خالد: نعم يحتمل أن المرقد فيه الرقود، الوجود كما قلنا في غرفة النوم، وأنا لا أحب أن أكون متناقضا، وأقفِزَ قــفْـزَ الجنادب من رأي إلى نقيضه، وأنا باحث عن الحق، ولست معاندا!
وليد: حسنا، إذن في قوله تعالى “مرقدنا” احتمال أن الميت نائم فيه، ومحتمل أيضا أنه موجود، ولا يلزم النوم والرقود، وهذا الاحتمال نسميه المتشابه، أي له وجهان محتملان.
خالد: صحيح، قوله تعالى “مرقدنا” محتمل للرقود وأيضا للوجود دون الرُّقود (النوم)، كما قلنا في غرفة النوم.
وليد: علينا أن نبحث عن المُحْكَم المرجِّح لأحد الاحتمالين، ويمكن أن يكون الترجيح من السنة.
خالد: السنة أخبار آحاد عارضت القرآن الكريم، والقرآن الكريم يقول “مرقدنا”، فكيف تقدم السنة على القرآن الكريم؟!
وليد: عليك أخي خالد أن تتحقق من وقوع التعارض بشروطه بين الكتاب والسنة، فهل ما ورد في السنة من العذاب والنعيم في القبور معارض للقرآن، أم أن ما في القرآن كان محتملا أي متشابها، كما سبق واتفقنا، ولا يعارض ما صرحت به السنة؟.
خالد: نعم ما جاء في القرآن متشابه ومحتمل، وقد أسمعني كثير من الإخوة من الأدلة المحتملة لعذاب القبر في القرآن.
وليد: أرجو أن تأتيني بالأمثلة؟
خالد: قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)، سورة غافر، وقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 21 ) سورة السجدة.
وليد: نعم، فهاتان الآيتان لا تدلان صراحة على عذاب القبر ونعيمه، بل تدلان على عذاب القبر بالاحتمال وليس بالقطع، فالواو في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) لا تعني الترتيب بالضرورة، وكذلك في قوله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى) يَحتمل عذاب القبر، والعذاب في الدنيا بالإهلاك كقوم عاد وثمود، وكليهما، فهناك إشارات ليست قاطعة في وقوع العذاب، ولكنها محتمِلة.
خالد: كيف نؤمن بعذاب القبر والآيات محتملة ومتشابهة، وهل نحن نتبع المتشابه، أليس الذين يتبعون المتشابه، هم الذين في قلوبهم زيغ.
وليد: إذن، سلمنا جميعا بأن الآيات الكريمة تدل على عذاب القبر باحتمال، وليس بالقطع، هل هذا صحيح.
خالد: نعم، والآيات محتملة وهي من المتشابه.
وليد: جميل، ونحن جميعا نؤمن بحجية السنة، أليس هذا صحيحا؟
خالد: بلى.
وليد: : فمنها ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مــرّ بقبرين فقال: إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة.
خالد: هذا لا يعني وقوع العذاب على الجسد، فقد يكون واقعا على الروح فقط، ويكون العذاب في القبر كما يعذَّب النائم بالأحلام المزعجة.
وليد: حسنا، وماذا تقول في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في صحيح البخاري في رجل سرق شَمْلة (كساء من الصوف)، ثم قُـتِل الرجل، فقال الصحابة رضي الله عنهم: إنه شهيد: فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ.
وأيضا ماذا تقول في حديث أنس رضي الله عنه في صحيح البخاري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ، وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الكَافِرُ – أَوِ المُنَافِقُ – فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ “، فهل الضرب بالمطرقة من حديد تسمعها الخلائق ما عدا الثقلين، هو نوم وحلم، أم هو حقيقة، إلا إذا كان الناس يسمعون ضرب النائم أثناء الحلم، والأحاديث في هذا كثيرة بلغت حدَّ التواتر المعنوي.
خالد: نعم، ما تسمعه الخلائق حقيقة واقعة على الجسد، وليس عذابا معنويا، ولكن هذا ثابت في السنة، وليس في القرآن، والقرآن قطعي الثبوت بخلاف السنة فهي في مجْمَلها أحاديث آحاد ظنية الثبوت.
وليد: أرجو ملاحظة أننا لسنا أمام تعارض بين الكتاب والسنة، حتى نسلك مسلك الترجيح بين المتواتر والظني، لأن العذاب كما سلمنا جميعا ثابت في الآيات باحتمال وإجمال، فهي متشابهة، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج، فجاءت السنة مبينة وشارحة لأركان الإسلام المجملة في القرآن لا معارضة لها، وكذلك في عذاب القبر، فقد أشارت إليه الآيات الكريمة إليه إجمالا، وجاءت السنة مبينة للمتشابه، وهو الذي أشار إليه القرآن لعذاب القبر دون تصريح، يعني ذلك أن القرآن لم يـَـــنْـفِ عذاب القبر، بل جاء عذاب القبر فيه باحتمال كما سلمنا ابتداء، فليست السنة تُـثْبِت ما نفاه القرآن، بل هي مبينة لما أجمله القرآن الكريم.
خالد: كأنك تريد أن تقول إنه لا تعارض بين الكتاب والسنة، لأن ما جاءت به السنة من أدلة عذاب القبر هو من المحكم المبيِّن لما تشابه في القرآن الكريم، كما جاءت السنة شارحة للصلاة والصوم.
وليد: نعم، فمحل البحث هو دلالات الألفاظ، وليس الأسانيد وطرق الثبوت متواترة أم ظنية، ولا بد من حمل المتشابه والمجمل في القرآن الكريم، على المحكم في السنة كما فعلنا في الصلاة الصوم، وهذا ليس ترجيحا باعتبار السند، لأنه يجب العمل بالكتاب والسنة جميعا، وإن فائدة التواتر في القرآن، والظني في السنة تظهران في طرق الترجيح، عند التعارض، وليس عند المتشابه في القرآن الذي بينته السنة، فلا مدخل للترجيح بالسند هنا، بل المدخل هنا هو باب دِلالات الألفاظ، والعلاقة بين المحكم والمتشابه، وقد فسرنا ما جاء متشابها في الكتاب بما جاءنا من الحق المُحْكم في السنة.
خالد: على فرض أن أحدهم لا يؤمن بحجية السنة، ولكنه يؤمن بحجية القرآن فقط، فسيبقى عذاب القبر عنده محتملا، لا يثبت.
وليد: بما أنه يؤمن بحجية القرآن فقط، فعليه أن يسمع كلام القرآن فيه:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150)أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151)سورة النساء، فهذا هو القرآن ينطق عليه بالحق، فماذا يقول؟
خالد: الآية صريحة فيمن يفرقون بين الله ورسله عند من يسمون أنفسهم قرآنيين، ولكن القرآن الذي يزعمون أنهم يحتجون به يلعنهم.
وليد: كان عليك أن تبدأ من حيث انتهت الأمة، وهو الإجماع على وقوع عذاب القبر، فهو حجة قاطعة، بنيت على دلالات الكتاب والسنة، والمشكلة أن الناس يذهبون إلى النصوص الشرعية متجاهلين، الإجماعات التي هي علامة فارقة لأهل السنة والجماعة، ولا يجوز الاجتهاد في محل الإجماع، لأن المجتهد إذا خالف الإجماع، فاجتهاده هَدْر لا قيمة له، وإن وافق الإجماع، فهو تحصيل حاصل وعبث، وعليه؛ فمنع الاجتهاد في مواطن الإجماع هو حماية لجهود المجتهدين من الهَدْر، وحماية للمجتمع من الاستنزاف والاضطراب، فيما لا فائدة منه.
خالد: إن إتاحة النص الشرعي للعامة، ولمن هب ودب كان سببا للفوضى الدينية، وإن الإجماع دليل قاطع، ولو التزم أهل السنة والجماعة بأصولهم لما استطاع الضالون أن يخترقوهم بهذه الأفكار المنحرفة، المخالفة لأصول أهل السنة والجماعة، فكل أمة لها ثوابت تحترمها، وعلى المسلمين أن يحترموا ثوابتهم، فالإجماع للاعتماد والظني للاجتهاد.
قال ابن أبي الأصبَغ الأندلسي -رحمه الله- في معالم الأصول:
والاجتهاد إنما يكون في كل ما دليله مظنون
أما الذي فيه الدليل القاطعْ فَهْو كما جاء ولا منازعْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق