معنى "الدهر" في القرآن والحديث :
أول ما أبدأ به هو ذكر الآية : وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (الجاثية/24).
هذه الآية تبين بوضوح أن الدهر ليس هو الله إذ لو كان الدهر هو الله لكان الذين قالوا ذلك مؤمنين بالله وأنه هو الذي يميت الخلق، لا تعاقب الأيام والسنين، وهم يكونون بذلك من العلماء ولا يظنون ظناً. وآية أخرى تبين أن الدهر هو الزمان أو برهة منه : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا). (الإنسان: 1).
أما كلام المفسرين فهو واضح أيضاً في أن الدهر هو الزمان. ففي جامع البيان للطبري جاء ما يلي: "وقوله: (وما يهلكنا إلا الدهر) يقول الله: ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مر الليالي والأيام وطول العمر، إنكاراً منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم.
وذكر في قراءة عبد الله أنها : "وما يهلكنا إلا دهر يمر".
وفي تفسير الجلالين : "وقالوا (أي منكروا البعث (ما هي) أي الحياة (إلا حياتنا) التي في (الدنيا نموت ونحيا) أي يموت بعض ويحيا بعض بأن يولدوا (وما يهلكنا إلا الدهر) مرور الزمان قال تعالى (وما لهم بذلك) المقول (من علم إن) ما (هم إلا يظنون)". والأمثلة من هذا النوع كثيرة.
والآيتان السابقتان ذكرهما تبدوان أنهما ليستا بحاجة إلى تأويل يصرف معناهما عن ظاهره البين الواضح، غير أن المشكل هنا هو في فهم أو تأويل الحديث الذي ورد في النهي عن سب الدهر على اعتبار أن الدهر هو الله تعالى.
إن من يفهم من الحديث أنه يعني بالدهر الله يترتب على فهمه هذا مخالفة معنى الدهر في كتاب الله الكريم. ولزمه أن يُدرج اسم الدهر في أسماء الله الحسنى فيقول عند ذكر الدهر ما يجله وما يعظمه كأن يقول : سبحان الدهر أو جل الدهر أو تعالى الدهر، وهذا مالم يرد منه شيء حتى عند أولئك الذين فهموا أن الدهر هو الله.
أما الذين أوّلوا الحديث بالمعنى الذي يوضح أن القدر والمشيئة فيما يحل بالناس من حوادث خلال الدهر أو العمر الذي يعيشونه فهو من تدبير الله وبعلمه، وعلى هذا فلا يجوز ذم الدهر، فكلام طيب، لكني أرغب في إيضاحه وإيضاح ما يمكن أن يتعلق به لتتضح الأمور أكثر فأكثر. فمن أقبل على المعاصي راغباً بها غير مُكرَه عليها إكراهاً ملزماً ثم يأخذ بعد ذلك يوَّجه اللوم إلى الزمان، وأن الزمان أجبره أو زيَّن له ففعل ما فعل قاصداً بذلك إعفاء نفسه من المسئولية عن أعماله، وأن زمانه أو أهل زمانه أغلبهم هكذا، فإنه لا يقبل منه ذلك عند ربه ــ إلا إذا أراد ربه أن يعفو عنه لأسباب يعلمها ــ وليس له على الله من حجة يحتج بها:
نعيب زماننا والعيب فينا = وما لزماننا عيب سوانا
ويحضرني الآن سؤال :
هذا الذي ذم زمانه موهما نفسه بتبرئتها مما ألمت به من ذنوب هل يكون، بالضرورة قد تعرض لذات الله العلية ..؟.
حاش لله أن يلحق ذاته أي نقص.
أجيب بأنه لا يحق لنا أن نتهمه بأنه تعرض لذات الله بذم او لوم إنما هو يلوم الزمان وهو مخطيء في لومه.
وبالمقابل نجد من الناس الملاحدة في عصرنا، كما وجد من قبلنا في عصورهم، من لا يؤمن بالله القدير المدبر لكل ما خلق وأبدع، فينفي أن المميت هو الله إنما هو الكبر والهرم، ومنهم من يظن أنه لابد وأن يجيء يوم يستطيع فيه العلم الطبيعي منح الخلود للخلق، وأن المسألة تتعلق بالوقت فحسب، ولذلك سمعنا عن بعضهم من أوصى بتجميد جسمه بعد مماته حتي يأتي الزمن الذي يتمكن فيه العلماء من إعادته إلى الحياة. هؤلاء الملاحدة الذين أطلق عليهم فيما مضى الدهرية هم، فيما أظن، من عناهم معنى الحديث لا غيرهم، ويكون القصد من الحديث هو نهي أولئك عن الإلحاد في أسماء الله.
ونجد من الناس، ومنهم كثير من الشعراء، قد ذكروا الدهر في أشعارهم يعنون به مجرد الزمن فحسب، ومثال على ذلك ببيت روي عن أبي بكر الصديق يقول فيه :
سَأَتبَعُ هَديَهُ مادُمتُ حَيّاً = طَوالَ الدَهرِ ما سَجَعَ الحَمامُ
وبيت ثان يظهر من معناه أنه يصنف الدهر ( أهل الدهر ) إلى صنفين اثنين، صنف ثبت على الحق، وآخر زلّ عنه :
وكذاك الدهر في أصنافه = قدم زلت وأخرى ثبتت.
وعن معاوية :
قَدْ عِشْتُ في الدّهرِ ألواناً علَى خُلُقٍ = شَتّى وقاسَيْتُ فيه اللِّينَ والطَّبَعَا
فهاهو يعني بالدهر العمر. ولا يقتصر الأمر على اعتبار الدهر أنه الزمان فحسب بل إنه الزمان المذموم أحياناً، لذا نجد أبياتاً تذم الدهر، وهي منسوبة لرجال عرف عنهم العلم والصلاح :
فكم أمةٍ قد غرها الدهر قبلنا = وهاتيك منها مقفرات ديارها (ابن حزم الظاهري).
واطَّرحِ الهَمَّ إلى حِينِهِ إنْ عَضَّ هَذا الدَّهْرُ يَوْماً بنابْ (الإمام الشوكاني).
وهذا للشافعي وما أدراك ما الشافعي :
فَمَن عَرَفَ الدَهرَ الخَؤونَ وَصَرفَهُ = تَصَبَّرَ لِلبَلوى وَلَم يُظهِرِ الشَكوى
والشريف الرضي:
أَرى الدَهرَ غَصّاباً لِما لَيسَ حَقَّهُ = فَلا عَجَبٌ أَن يَستَرِدَّ العَوارِيا
وها هو الشيخ عبد الغني النابلسي (ت 1143 هـ )، وكان من أقطاب التصوف في عصره :
ولا تبت من كدور الدهر منقبضاً = فإنما الدهر ميال إلى العوج.
وإن قال قائل : إن ما نسب من هذا الشعر في ذم الدهر إلى من سبق ذكرهم ربما كان منحولاً، فلعمري ما هو قوله في أبيات مصطفى صادق الرافعي، العالم بالدين واللغة والأدب والتاريخ، والمنافح عن الدين واللغة ضد من هم كانوا خصومهما أو ضد من ضلت بهم السبل ؟
وهذه أبيات للرافعي :
فتنبهَ الدهرُ الخؤونُ = وغاظهُ ما كنتُ أصنعْ
لغيري الدهرُ سلمُ = وعندي الدهرُ حربُ
عثرت في مدارها الأيامُ = أم هوَ الدهرُ هكذا والأنامُ
إنني لعلى يقين في أن من ضربتُ أشعارَهم مثلاً قد علموا بالحديث المذكور في البخاري وفي مسلم وفي غيرهما من كتب الحديث، ويمكنني القول أن فهمهم للحديث انحصر في التشنيع على الملاحدة الذين ينكرون هيمنة الله على خلقه، أو أن الحديث يعني الذين كانوا يعتقدون أن الإنسان مجبور على أفعاله، خيرها وشرها، فهم لا ينسبون الشر إلى أنفسهم وكأنهم يعفون أنفسهم من تبعة أعمالهم المذمومة. أما الذي يذم الدهر باعتبار انحراف أهله عن جادة الصواب، وأنه لقي منهم ما لقي، أو قلة وفاء، أو غير ذلك فلا يكون قد ارتكب محرماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق