الاثنين، 11 سبتمبر 2023

حكم دعاء الختم في صلاة التراويح ؟!


  





بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام السلفي الحنفي رئيس القضاة في زمانه علي بن أبي العز رحمه الله تعالى: دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة: يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد؛ بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية، ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض. والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.

شرح العقيدة الطحاوية: 325

وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له، فقمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة. سير أعلام النبلاء 14/40.



 

المقدمــــــــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد

فإن دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح من المسائل المقرر استحبابها في مذهب الحنابلة فقد نص عليها الإمام أحمد رحمه الله فيما رواه بعض أصحابه عنه محتجاً بفعل أهل مكة، كما احتج أصحابه أيضاً بفعل أهل البصرة.

وقد أخذ بقوله هذا علماء المذهب على مر العصور. وبعد البحث لم أقف على خلاف في المذهب إلا ما آثاره الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله في رسالته المطبوعة عام 1408هـ بعنوان: مرويات دعاء ختم القرآن.

وقد انتهى فيها إلى عدم مشروعية هذا الدعاء في الصلاة محتجاً: بأنه ليس من دليل لهذه الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى سوى عمل التابعين في مكة والبصرة، وأنه منقطع الاتصال بعصر الصحابة رضي الله عنهم، وأن التابعين اختلفوا فقال مالك رحمه الله تعالى: ليس عليه عمل الناس فآل الأمر إلى قاعدة العبادات من وقفها على النص ومورده، ولا نص هنا فبقي الأمر على البراءة وعدم المشروعية اهـ ( ).

هذا خلاصة ما توصل إليه بعد دراسته مرويات دعاء ختم القرآن، وقد قرض هذه الرسالة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، بقوله: فقد قرأت الرسالة التي كتبها أخونا الشيخ بكر أبو زيد حول الدعاء عند ختم كتاب الله العزيز، فألفيته قد أجاد فيها وأفاد في بحث علمي رصين وما ذكره من أنه لا دليل على الدعاء عند ختم القرآن الكريم في الصلاة فإن الأمر عندي كما قال( ).

هذا أقدم ما وقفت عليه مكتوباً لدى متأخري الحنابلة في الرد على من قال باستحباب هذا الدعاء وقد كان لهذه الرسالة أثر ظاهر في كثرة المعترضين على رأي الحنابلة؛ بل وصل الأمر ببعض المعاصرين إلى القول بتبديع هذه العبادة.

ومن اللافت للانتباه كثرة الاعتراض من بعض المعاصرين على بعض أقوال الأئمة السابقين بل إن قلوبهم تشربت مقولة: إن أصحاب المذاهب لا يبحثون عن الدليل خصوصاً إذا لم تظهر لهم أدلة أقوالهم، مع أن الأجدر بهؤلاء محاولة الاستدلال لأقوال من سبق قبل الاعتراض عليها؛ لأنها أقوال توارثها أهل العلم على مر العصور، ولأن الناس توارثوها جيلاً بعد جيل؛ ولذا فلا ينبغي التسرع في الأخذ بأقوال المعترضين عليها؛ بل الواجب على من لم يقف على أدلتها التوقف في المسألة حتى يفتح الله عليه وبالأخص إذا لم يكن هناك دليل يصح الاحتجاج به على معارضة قول من سبق من أئمة الإسلام. وهذا المنهج هو الذي التزمت به فيما قمت به من دراسات سابقة والحمد لله.

ومن الملاحظ أن الشيخ بكر رحمه الله في هذه الرسالة قصر الأدلة على النص، وعلى المروي عن الصحابة رضي الله عنهم وهو ما وافقه عليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ومن المعلوم أن الأدلة ليست محصورة بالنص، بل هناك الاستدلال بالقياس والقواعد الفقهية، وبالمروي عن أهل القرون المفضلة على خلاف.

ولذا لو اقتصرنا في تصحيح أحكام التراويح على الأدلة التي يرى الشيخ بكر الاعتماد عليها لصحة القول بدعاء الختم؛ لاختلت أحكام صلاة التراويح؛ لأن جل أحكامها لم ترد في السنة، مع أن جمهور أهل العلم قرروا الأخذ بها ومن هذه الأحكام ما يلي:

1ـ أن صلاة التراويح تكون في أول الليل.

2ـ أن يكون عددها ثلاثاً وعشرين ركعة وقال المالكية ستاً وثلاثين بدون الوتر.

3ـ مشروعية ختم القرآن كاملاً: مرة أو مرتين أو ثلاثاً.

4ـ مشروعية الجلوس بين الترويحات.

5ـ مشروعية دعاء الختم فيها.

6ـ أن تصلى في جميع ليالي الشهر جماعة في المساجد.

7ـ قراءة بعض الشافعية قصار السور في الركعات الأول، وسورة الإخلاص في الركعة الثانية من كل شفع.

هذه الأحكام مروي بعضها عن الصحابة، وبعضها الآخر عن التابعين وتابعي التابعين من أهل مكة والبصرة، ولو اقتصرنا على ما جاء في السنة وعلى ما جاء عن الصحابة لقلنا ببدعية بعض هذه الأحكام، كالجلوس بين الترويحات، وصلاة ستٍ وثلاثين ركعة، وختم جميع القرآن، ودعاء الختم فيها، والاقتصار على قصار السور مع تكرير سورة الإخلاص، فهذه الأحكام لم ترد في السنة، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، وإنما رويت عن التابعين، وبعضها عن أتباع التابعين، ما عدا قراءة الشافعية فلم أقف على تاريخ العمل بها، وقد أخذ جمهور أهل العلم بغالب هذه الأحكام.

وبهذا يتضح لنا أن الشيخ خالف الأئمة في منهج الاستدلال، ومن المعلوم أن هناك مناهج مدونة في كتب الأصول لكيفية الاستدلال للمذاهب، ومع هذا فقد اعتبر الشيخ بكر خلاف مالك من أسباب ضعف قول الإمام أحمد، مع أن في قول مالك إشكالاً. ووجهه أن رأيه يشمل منع الدعاء خارج الصلاة، وهذا يخالف ما رجحه الشيخ بكر من مشروعية الدعاء خارج الصلاة لفعل أنس رضي الله عنه إلا أن الشيخ اقتصر على الاعتراض على رأي أحمد دون دراسة رأي الإمام مالك، ولذا لم يعترض عليه وهذا مما يوهن احتجاجه بهذه المخالفة.

ثم إن الظاهر أن الإمام مالكاً رحمه الله لو حفظ عن أنس وتابعي أهل مكة والبصرة كما حفظ الإمام أحمد لما خالف في هذه العبادة كما يفهم من كلامه، وهو ما سوف أبينه عند دراسة رأيه إن شاء الله تعالى.

ثم إن مخالفة الشيخ بكر للإمام أحمد تعود إلى الاختلاف في منهج الاستدلال بعمل أهل مكة والبصرة فهو يرى أن هذا الدعاء بحاجة إلى حجة، أما الإمام أحمد رحمه الله فهو يرى أن هذا العمل هو الحجة. وهذا ما ستكشفه هذه الدراسة أيضاً إن شاء الله تعالى، كما سأبين مجموعة من الأدلة على مشروعية ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله.

وقد خالف الشيخ ابن باز رحمه الله ما قرره الشيخ بكر فهو يرى مشروعية هذا الدعاء، ذكر هذا في جواب له على سؤال ورد عليه بهذا الخصوص، فقال: لم يزل السلف يختمون القرآن ويقرؤون دعاء الختمة في صلاة رمضان ثم قال رحمه الله: فالأقرب في مثل هذا أنه يقرأ لكن لا يطول على الناس، ويتحرى الدعوات المفيدة والجامعة مثل ما قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي × يستحب جوامع الدعاء ويدع ما سوى ذلك.

فالأفضل للإمام في دعاء ختم القرآن والقنوت تحري الكلمات الجامعة وعدم التطويل على الناس يقرأ (اللهم اهدنا فيمن هديت) الذي ورد في حديث الحسن في القنوت ويزيد معه ما يتيسر من الدعوات الطيبة كما زاد عمر ولا يتكلف ولا يطول على الناس ولا يشق عليهم، وهكذا في دعاء ختم القرآن يدعو بما يتيسر من الدعوات الجامعة، يبدأ ذلك بحمد الله والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام ويختم فيما يتيسر من صلاة الليل أو في الوتر ولا يطول على الناس تطويلاً يضرهم ويشق عليهم.

وهذا معروف عن السلف تلقاه الخلف عن السلف، وهكذا كان مشائخنا مع تحريهم للسنة وعنايتهم بها يفعلون ذلك، تلقاه آخرهم عن أولهم ولا يخفى على أئمة الدعوة ممن يتحرى السنة ويحرص عليها. فالحاصل أن هذا لا بأس به إن شاء الله ولا حرج فيه بل هو مستحب لما فيه من تحري إجابة الدعاء بعد تلاوة كتاب الله عز وجل، وكان أنس رضي الله عنه إذا أكمل القرآن جمع أهله ودعا في خارج الصلاة، فهكذا في الصلاة فالباب واحد؛ لأن الدعاء مشروع في الصلاة وخارجها وجنس الدعاء مما يشرع في الصلاة فليس بمستنكر.

ومعلوم أن الدعاء في الصلاة مطلوب عند قراءة آية العذاب وعند آية الرحمة، يدعو الإنسان عندها كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل، فهذا مثل ذلك مشروع بعد ختم القرآن، وإنما الكلام إذا كان في داخل الصلاة، أما في خارج الصلاة فلا أعلم نزاعاً في أنه مستحب الدعاء بعد ختم القرآن، لكن في الصلاة هو الذي حصل فيه الإثارة الآن و( ) البحث فلا أعلم عن السلف أن أحداً أنكر هذا في داخل الصلاة كما أني لا أعلم أحداً أنكره خارج الصلاة، هذا هو الذي يعتمد عليه في أنه أمر معلوم عند السلف قد درج عليه أولهم وآخرهم، فمن قال إنه منكر فعليه الدليل، وليس( ) على من فعل ما فعله السلف، وإنما إقامة الدليل على ما أنكره وقال إنه منكر أو إنه بدعة، هذا ما درج عليه سلف الأمة وساروا عليه وتلقاه خلفهم عن سلفهم وفيهم العلماء والأخيار والمحدثون، وجنس الدعاء في الصلاة معروف من النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل فينبغي أن يكون هذا من جنس ذاك( ).

ونظراً إلى أن كلام الشيخ هذا لم يقنع كثيراً من طلاب العلم، فمازال بعضهم يبدع من دعا في الصلاة؛ لذا رأيت أن الحاجة قائمة للبحث عن الدليل، فكتبت هذه الرسالة.

وبعد الوقوف على رأي الشيخين ابن باز وابن عثيمين في هذه المسألة ظهر اختلاف قولهما، كما أن الناظر في فقههما يظهر له كثير من المسائل التي وقع فيها خلاف بينهما، فلو أن أحداً تصدى لجمع ما اختلفا فيه ثم عقد موازنة بين أدلتهما لظهر له أي القولين أقرب للأخذ بالدليل وأيهما أصوب في التعليل. والله الهادي إلى سواء السبيل.

هذا وقد وضعت هذا البحث وفق الخطة الآتية:

1ـ المقدمة.

2ـ التمهيد، وذكرت فيه خمسة أمور.

3ـ المبحث الأول: القول بمشروعية دعاء ختم القرآن.

4ـ المبحث الثاني: القول بعدم مشروعية دعاء ختم القرآن.

5ـ الترجيح.

6ـ الخاتمة في موضع دعاء الختم من صلاة التراويح.

7ـ فهرس الموضوعات.

وفي ختام هذه المقدمة، أشكر الله تعالى على عظيم فضله وجزيل نعمه التي تفضل بها عليَّ سبحانه وتعالى: ثم أشكر أخي في الله جاري وصديقي صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور أبا عبدالعزيز حمد ابن عبدالعزيز الخضيري، القاضي في محكمة الاستئناف بالرياض، على ما تفضل به عليَّ من مراجع وأفكار قيمة وتصويبات حسنة؛ كانت من أسباب توفر المادة العلمية وتصحيحها.

كما أشكر أخي في الله صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم ابن علي الحسن، عضو هيئة التدريس بقسم القرآن وعلومه في جامعة الإمام ، على ما قام به من تصحيح لهذا البحث وإبداء الملحوظات القيمة فجزاهما الله عني وعن قراء هذا البحث خيراً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

أ.د. إبراهيم بن محمد الصبيحي

 






 




التمهيـد 

أولاً: منشأ الخلاف في دعاء الختم في التراويح

بعد البحث عن حكم دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح، لم أقف لأئمة المذاهب إلا على نصين: أحدهما للإمام مالك رحمه الله، فهو يرى عدم مشروعية دعاء الختم مطلقاً، لا داخل الصلاة ولا خارجها، أما النص الثاني فهو للإمام أحمد رحمه الله، فهو يرى مشروعية دعاء الختم في صلاة التراويح وغيرها، وعمدة الإمام مالك أنه لم يعلم أحداً من أهل العلم سبق إلى العمل به، أما عمدة الإمام أحمد فهو وقوفه على عمل أهل مكة داخل الصلاة وصحة السند عن أنس خارج الصلاة. هذا كل ما وقفت عليه من أدلتهما، أما بقية الأئمة المتبوعين فلم أقف لهم على كلام في حكم هذا الدعاء.

وبإمعان النظر في أصل المسألة نجد أن هذا الدعاء مبني على حكم ختم القرآن في صلاة التراويح، الذي اختلف فيه العلماء على عدة أقوال:

القول الأول: يرى الإمام مالك رحمه الله عدم مشروعية ختم القرآن في صلاة التراويح؛ بل يقرأ الإمام ما شاء من غير التزام أحزاب محددة، قال القرافي رحمه الله: «وروي أن الناس كانوا يقومون في زمن عمر ثلاثاً وعشرين ركعة، واختاره أبو حنيفة وابن حنبل، وكانوا يصلون إلى قريب الفجر، وكره مالك إحياء الليل كله إتباعاً للسنة، وهو محمول على من يواظبه، قال ابن رشد: لا اختلاف في أن الكثير من الصلاة أفضل من القليل، وقال مالك رحمه الله أيضاً: وكُره الدعاء والخطب والقصص ليلة الختم، لترك السلف إياه، والصلاة في رمضان أفضل من مذاكرة العلم، لأنه عمل السلف، وروي عن مالك العلم أفضل، لأنه فرض على الكفاية، وفي الكتاب يكره إذا دخل إمام آخر أن يقرأ إلا من حيث وقف الأول، ليتسنى نظم المصحف، قال وليس ختم القرآن من سنة القيام. وقال أيضاً: ويجوز أن يؤم من المصحف في النافلة، ويكره في الفريضة. وبه قال الشافعية، وأبطل الحنفية الصلاة بالنظر في المصحف»( ).

القول الثاني: لم أقف على رأي الحنفية في مشروعية دعاء الختم في التراويح إلا أنهم يرون مشروعية ختم قراءة القرآن في صلاة التراويح، وأقل ما يقرأ الإمام ختمة في الشهر، ولو ختم ثلاثاً لكان أفضل.

قال السرخسي رحمه الله: واختلف فيه مشايخنا رحمهم الله تعالى، قال بعضهم يقرأ مقدار ما يقرأ في المغرب تحقيقاً لمعنى التخفيف؛ لأن النوافل يحسن أن تكون أخف من الفرائض وهذا شيء مستحسن لما فيه من درك الختم والختم سنة في التراويح، وقال بعضهم في كل ركعة من عشرين آية إلى ثلاثين آية، أصله ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه دعا ثلاثة من الأئمة واستقرأهم، فأمر أحدهم أن يقرأ في كل ركعة ثلاثين آية، وأمر الآخر أن يقرأ في كل ركعة خمساً وعشرين آية، وأمر الثالث أن يقرأ في كل ركعة عشرين آية.

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الإمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات ونحوها وهو الأحسن لأن السنة في التراويح الختم مرة، وبما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى بختم القرآن مرة، فيها لأن عدد ركعات التراويح في جميع الشهر ستمائة وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء، فإذا قرأ في كل ركعة عشر آيات يحصل الختم فيها ولو كان كما حكي عن عمر رضي الله عنه لوقع الختم مرتين أو ثلاثاً.

قال القاضي الإمام المحسن المروزي رحمه الله تعالى: الأفضل عندي أن يختم في كل عشر مرة، وذلك أن يقرأ في كل ركعة ثلاثين آية أو نحوها، كما أمر به عمر رضي الله عنه أحد الأئمة الثلاثة؛ ولأن كل عشر مخصوص بفضيلة على حدة، كما جاءت به السنة، وبه نطق الحديث وهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فيحسن أن يختم في كل عشر؛ ولأن التثليث يستحب في كل شيء فكذا في الختم.

وحكى عن القاضي الإمام عماد الدين رحمه الله تعالى أن مشايخ بخارى جعلوا القرآن خمسمائة وأربعين ركوعاً وعلموا الختم بها ليقع الختم في الليلة السابعة والعشرين رجاء أن ينالوا فضيلة ليلة القدر، إذ الأخبار قد كثرت بأنها ليلة السابع والعشرين من رمضان وفي غير هذه البلدة المصاحف معلمة بالآيات وإنما سموه ركوعاً على تقدير أنها تقرأ في كل ركعة( ).

القول الثالث: يرى الحنابلة مشروعية دعاء الختم في صلاة التراويح وخارجها كما يرون ختم القرآن في صلاة التراويح قال ابن قدامة رحمه الله: قال أحمد رحمه الله: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار، والأمر على ما يحتمله الناس.

وقال القاضي: لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر؛ ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة؛ كراهية ا لمشقة على من خلفه. والتقدير بحال الناس أولى؛ فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه، كان أفضل. كما روى أبو ذر، قال: قمنا مع النبي × حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. يعني السحور.

وقد كان السلف يطيلون الصلاة، حتى قال بعضهم: كانوا إذا انصرفوا يستعجلون خدمهم بالطعام مخافة طلوع الفجر، وكان القاري يقرأ بالمائتين( ).

القول الرابع: لم أقف على رأي للشافعية في دعاء الختم في التراويح إلا أنه قد نص بعض مجتهدي الشافعية كأبي عبيد والبيهقي على استحباب دعاء الختم خارج الصلاة ( ) ومع ذلك فلم أقف على رأي أوائل أئمتهم في حكم ختم القرآن في صلاة التراويح أيضاً ، وأقدم نص وقفت عليه يدل على استحباب ختم القرآن في صلاة التراويح، ما قاله الإمام العمراني رحمه الله المتوفى سنة 489هـ: في حكم الانفراد في صلاة التراويح وهو قوله: ومن أصحابنا من قال: إن كان الرجل يحفظ القرآن، وكان إذا تخلف عن المسجد والجماعة لم تختل الجماعة بتخلفه، ولم يتعطل المسجد، فصلاته في بيته أفضل من صلاته في المسجد( ).

وقول الشيخ الدميري رحمه الله المتوفى سنة 808هـ: وختم القرآن فيها أفضل من قراءة سورة الإخلاص( ).

وقول الشيخ الشربيني رحمه الله المتوفى سنة 977هـ: وفعلها بالقرآن في جميع الشهر أفضل من تكرير سورة الإخلاص( ).

فهذه النقول تفيد أن لبعض الشافعية في حكم القراءة في صلاة التراويح قولين أحدهما: استحباب ختم القرآن في الصلاة، وثانيهما: استحباب الاقتصار على تكرار سورة الإخلاص في الصلاة كلها، ولهم قول ثالث أيضاً:

فقد حضرت صلاة التراويح في أحد المساجد الكبار في جاكرتا فكان الإمام وهو شافعي المذهب يقرأ في الركعات الأول من كل تسليمة من قصار السور، أما الركعات التالية لها فيقرأ سورة الإخلاص، يكررها في كل ركعة ثانية، وقد أفادني أحد الإخوة أن أئمة مساجد الشافعية بمدينة تعز من أرض اليمن كانوا يلتزمون بهذه الصفة، كما أفادني أخ آخر أن بعض مساجد الشافعية في الأحساء يلتزمون بهذه الصفة أيضاً في جميع ليالي رمضان.

وبعد البحث لم أقف على ما استدلوا به لمشروعية هذه القراءة، وهم بهذا يخالفون المروي عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يقرؤون المئين في الركعة الواحدة تارة، وتارة أخرى يقرؤون ما هو أقل من ذلك؛ بل كانوا أحياناً يتوكؤن على العُصي من طول القراءة، كما أنني لم أقف على زمن إحداث هذه الصفة من القراءة والله اعلم.

القول الخامس: جاء عن الزيدية أن صلاة التراويح جماعة، بدعة. وقد رد عليهم الإمام الشوكاني رحمه الله بقوله: أما صلاة التراويح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى في ليالي رمضان وائتم به جماعة من الصحابة وعلم بهم فترك ذلك مخافة أن تُفترض عليهم.

وهذا ثابت في أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما. وبهذا يتقرر أن صلاة النوافل في ليالي رمضان جماعة سنة لا بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتركها إلا لذلك العذر، وثبت أيضاً عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي ورجاله رجال الصحيح عن أبي ذر قال: «صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يُصل بنا حتى مضي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلثا الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا يا رسول الله: لو نفَّلتنا بقية ليلتنا هذه فقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة، ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث الشهر، فصلى بنا في ا لثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح. قلت له وما الفلاح؟ قال السحور».

ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم في النافلة في ليالي رمضان جماعة. فكيف تكون الجماعة بدعة كما قال المصنف. ولم يقع من عمر إلا أنه لما خرج إلى المسجد فوجد الناس أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أولى ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب».

فقد كانت الجماعة موجودة في المسجد بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل أن يجمعهم عمر وبهذا كله تعرف أن التجميع في النوافل في ليالي رمضان سنة لا بدعة( ).

فنقل الشوكاني عن الزيدية تبديع الاجتماع لصلاة التراويح يشعر بتبديعهم لدعاء الختم.

القول السادس: لا يرى الروافض مشروعية صلاة التراويح فضلاً عن دعاء الختم. قال السرخسي رحمه الله: والأمة أجمعت على مشروعيتها وجوازها ولم ينكرها أحد من أهل العلم إلا الروافض لا بارك الله فيهم( ).

والفرق بين رأيي الزيدية والروافض: أن الزيدية يرونها فراداً، بخلاف الرافضة فلا يرونها لا جماعة ولا فراداً.

النتيجــــة

هذا كل ما وقفت عليه من كلام أوائل أئمة المذاهب وبعرضه تبين لنا أن الخلاف في مسألة دعاء ختم القرآن لم يرد النص عليه من الأئمة إلا من الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله. وأن خلافهما مبني على مدى صحة الوقوف على رأي السلف فيه، كما أنه مبني أيضاً على الخلاف في ختم القرآن. أما الحنفية وإن كانوا يرون ختم القرآن إلا أنهم لم ينصوا على رأيهم في الدعاء، ولذلك لا يصح أن يعد سكوتهم عنه مخالفاً لمن قال بمشروعيته. وأما الشافعية فإن متأخريهم مختلفون في ختم القرآن، ومع هذا فليس لإمامهم رحمه الله رأي محفوظ، لا في الختم ولا في دعائه. وبهذا تحرر لنا أن الخلاف في دعاء الختم محصور بين المالكية والحنابلة؛ لأنه لا يصح أن ينسب إلى ساكت قول.

وستأتي دراسة هذا الخلاف وبيان أي الرأيين أرجح فيما بعد إن شاء الله تعالى.

 

ثانياً: حكم تبديع دعاء ختم القرآن

بعد طول البحث لم أقف على قول لأحد المفتين السابقين يصف فيه دعاء الختم في الصلاة بأنه بدعة، أما قول الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى بأن ما أحدثه الناس في أعقاب الختم فقال مالك: ليس ختم القرآن بسنة لقيام رمضان.

وقال مالك في المدونة: الأمر في رمضان: الصلاة، وليس بالقصص بالدعاء( ).

فتأملوا رحمكم الله فقد نهى مالك أن يقص أحد في رمضان بالدعاء، وحكى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء.

وروى محمد بن أحمد في «المستخرجة» عن ابن القاسم، قال: «سئل مالك عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو؟ فقال: ما سمعت أنه يُدعى عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس».

وهذه المسألة ذكرها ابن شعبان عن مالك أيضاً في «مختصر ما ليس في المختصر»، وذكرها الشيخ أبو الحسن القابسي بالقيروان في «الكتاب الممهد»، وقد كانت القيروان دار العلم بالمغرب، ولم يكن في عصره من فقهاء المغرب أعلم منه.

وأعظم من هذه مسألة قالها مالك في «مختصر ما ليس في المختصر» قال مالك: «لا بأس أن يجتمع القوم في القراءة عند من يُقرئهم أو يفتح على كل واحد منهم فيما يقرأ»، قال: «ويُكره الدعاء بعد فراغهم»، وهذا غاية ما يكون في إنكار الأمور المحدثة.

وقال: وروى ابن القاسم أيضاً عن مالك: «أن أبا سلمة بن عبدالرحمن رأى رجلاً قائماً عند المنبر يدعو ويرفع يديه، فأنكر، وقال: لا تقلص تقليص اليهود».

قال مالك: «التقليص: رفع الصوت بالدعاء ورفع اليدين».

وروى ابن القاسم أيضاً قال: «سئل مالك عما يعمل الناس من الدعاء حين يدخلون المسجد وحين يخرجون ووقوفهم عند ذلك؟ فقال: هذا من البدع، وأنكر ذلك إنكاراً شديداً».

قال بعض أصحابنا: إنما عنى بهذا: الوقوف للدعاء، فأما الدعاء عند دخوله وخروجه ماشياً فحسن جائز، وقد وردت فيه آثار عن رسول الله ×.

قال: «وسئل عن التكبير خلف الصلوات بأرض العدو؟ فقال: ما سمعته، إنما هو شيء أحدثه المسوِّدة. قيل له: إن بعض البلدان يكبرون دبر المغرب والصبح؟ فقال: هذا مما أحدثوه».

وسئل مالك عن الرجل يدعو خلف الصلاة قائماً؟ فقال: «ليس بصواب، ولا أحب لأحد أن يفعله»( ).

هكذا قرر الطرطوشي رأي الإمام مالك رحمه الله وحجة مالك عدم عمل أهل المدينة، ثم إن الظاهر أن القصص والدعاء والخطب بعد الختم تختلف عن دعاء أهل مكة والبصرة، لأن الظاهر أن هذه الأمور تفعل بعد الانتهاء من الصلاة، فهي أشبه ما تكون بالكلمات التي يلقيها الدعاة بعد الانتهاء من صلاة التراويح. هذا ما يفهم من قول الإمام مالك في المدونة: إن الأمر في رمضان الصلاة وليس القصص والدعاء. 

أما دعاء الختم فهو جزء من الصلاة أشبه ما يكون بالقنوت في الفرائض عند وجود سببه وختم القرآن من أسباب استجابة الدعاء عند غير مالك. فلا يكون بدعة لأن له أصلاً يقاس عليه، ثم إن جنس الدعاء قبل الركوع أو بعده مشروع في صلاة الوتر أيضاً، فالإيتار من أسباب الدعاء.

ثم إن مالكاً لم يسمع بأن أهل مكة يفعلونه إذ لو علمه لقال به. هذا ما يفهم من كلامه رحمه الله تعالى، ثم لو قلنا بأن مالكاً رحمه الله يقصد إنكار الدعاء عند الختم داخل الصلاة وخارجها، فإن قوله يدل على أنه لا يرى مشروعيته وهذا لا يصل إلى حد التبديع، والله أعلم.

وقال الإمام أبو شامة الشافعي ت 665هـ رحمه الله تعالى: وابتدع بعضهم أيضاً جمع آيات السجدات يقرأ بها في ليلة ختم القرآن وصلاة التراويح ويسبح بالمأمومين في جميعها.

وابتدع آخرون سرد جميع ما في القرآن من آيات الدعاء في آخر ركعة من التراويح بعد قراءة سورة الناس، فيطول الركعة الثانية على الأولى نحواً من تطويله بقراءة الأنعام، مع اختراعه لهذه البدعة( ).

ومن المعلوم أن ما أنكره أبو شامة رحمه الله يختلف عن دعاء ختم القرآن. ولذا فلا يصح أن ينسب إلى هذا الإمام القول بتبديع ختم القرآن في الصلاة المعروف لدى الحنابلة، لأن في جمع هذه الآيات ثم قراءتها دفعة واحدة مخالفة لنظم القرآن. وهو لا يجوز. ثم إن الظاهر أن هذا العمل خاص بالشافعية، ولم أقف على ذكر له عند غيرهم.

وبهذا تحرر لنا أنه لم يقل أحد من السابقين بتبديع دعاء ختم القرآن فيما يظهر لي؛ لأن الثابت لدى المالكية إنما هو القول بعدم مشروعيته دون تبديعه، ولم ينتشر القول بالتبديع فيما أعلم إلا لدى المعاصرين وسببه عدم اقتناعهم بما ذكره الحنابلة من دليل، ومع هذا فقد وجد لدى بعض المعاصرين من الحنابلة إلقاء المواعظ حينما يصلون ثلاث تسليمات من صلاة القيام، وذلك إما بقراءة من أحد كتب الوعظ وإما أن يلقي أحد الدعاة موعظة شفوية أمام المصلين بعد الانتهاء من بعض التسليمات أو بعد صلاة التراويح، وفي هذا إشكال على رأي الإمام مالك رحمه الله؛ لأن الأمر عنده في رمضان إنما هي الصلاة وليس بالقصص والدعاء كما قال. ولم أدر من أحدث هذا الأمر، ولا متى أحدث علماً أن متقدمي الحنابلة لم يذكروه من مستحبات صلاة التراويح وصلاة القيام، ثم إن هذا العمل ليس له أصل يقاس عليه حسب ما وقفت عليه، إلا مجرد محبة الخير للمستمعين.

ثم إن مما أحدث في هذا الزمن عدم متابعة الإمام حينما يصلي التسليمة التي سيدعو فيها دعاء ختم القرآن؛ بل يجلسون بين الصفوف تارة أو يخرجون من المسجد تارة أخرى، بحجة أن هذا الدعاء بدعة وأن التسليمة التي سيدعو فيها الإمام لا يجوز متابعته فيها؛ بل إن أحد الأشخاص دعا المأمومين إلى الانصراف من الصلاة إذا بدأ الإمام في هذا الدعاء، وفي ظني أن هذا التصرف من الوقوع في المنهي عنه، وذلك لثلاثة أمور:

أحدها: أنهم تقربوا إلى الله بترك ما يحبه الله من الصلاة مع الإمام حتى ينصرف، وثانيها: أنهم خالفوا السنة الواردة في الأمر بمتابعة الأئمة، كقوله ×: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه»، ولقوله ×: «إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون». فالنبي × أمرنا بمتابعة الأئمة إذا صلوا جلوساً حتى ولو كنا قادرين على القيام، ثم إن في عملهم هذا مخالفة للصحابة رضي الله عنهم حينما أتموا مع عثمان رضي الله عنه في السفر ولم ينصرفوا عن متابعته أو يجلسوا بعد قيامه للثالثة، بل لم يدعوا الناس إلى مخالفته، حتى إن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان يتم وهو يصلي بأصحابه منفرداً عن عثمان رضي الله عنه، فلما قيل له في ذلك: قال الخلاف شر.

وثالثاً: أنهم خالفوا إجماع السلف على وجوب متابعة الأئمة في الصلاة، قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للعقيدة الطحاوية: وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة: يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد؛ بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية، ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.

يروى عن أبي يوسف: أنه لما حج مع هارون الرشيد، فاحتجم الخليفة، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضا، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليت خلفه؟ قال: سبحان الله! أمير المؤمنين. يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع، وحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري، أن رسول الله × قال: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم، نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه، لا على المأموم.

والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظوراً اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يُطلق من الحنفية والشافعية والحنابلة أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح إقتداؤه به!! فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد( ).

وفي الختام فإنني أنصح هؤلاء الإخوة الذين يخالفون أئمتهم في الصلاة للسلامة مما اعتبروه بدعة، أن ينتبهوا إلى أنهم بهذه المخالفة وقعوا في البدعة لمخالفتهم نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كما قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله تعالى، فالواجب على الحريصين على سلامة عباداتهم من البدع أن يعنوا بفقه سلف الأمة فإنهم الحجة في فهم الشريعة، ونظراً لكثرة المبدعين من المعاصرين لهذا الدعاء فقد رأيت أن من الواجب إعادة النظر والبحث عن الأدلة التي يمكن أن يُستدل بها للقول في مشروعية هذا الدعاء، والله الهادي إلى الصواب.

 

ثالثاً: حكم التبديع في مسائل الخلاف

وضعت العرب كلمة بديع للمدح لا للذم. ولذا مدح الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه بديع السموات والأرض لأن معناه في لغة العرب الاتصاف بالإيجاد على غير مثال سابق وقد اتصف الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف. إلا أن النبي × ذم كل بدعة، بل اعتبرها ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فالواجب تحديد مراد النبي × من هذه البدعة المذمومة حتى لا تتعارض السنة مع القرآن. وأفضل دليل يحدد مراد النبي × من هذا الذم قوله ×: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فهذا الحديث بين أن المراد ببدعة الضلالة هي البدعة في الدين. وليس النهي عن كل بدعة. يؤكد ذلك قوله ×: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». فالنهي عن البدعة السيئة يرجع إلى أصل عظيم في الإسلام وهو أن الأصل فيه الاتباع وليس الابتداع.

وبناء على هذا فالواجب تحديد الفرق بين الاتباع والابتداع وبين السنة الحسنة والسنة السيئة، وبين البدعة المذمومة والبدعة الحسنة.

وأول من بين أن من البدع بدعة حسنة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حينما حكم على الاجتماع على إمام واحد في صلاة التراويح بأنها بدعة حسنة، وذلك أنه جمع الناس على إمامين إمام للرجال وإمام للنساء وحدد لهم صلاة ثلاث وعشرين ركعة، كما حدد لهم وقت صلاة التراويح، وذلك بفعلها بعد صلاة العشاء مباشرة كما حدد لهم مقدار ما يقرأه الإمام، كما أمرهم بفعلها في المساجد شهراً كاملاً علماً أن الأصل الأخذ بآخر الأمرين من فعل رسول الله ×، وهو ترك فعلها ولذلك لم يأمر بها أبو بكر رضي الله عنه، فبهذا الاعتبار اعتبرها بدعة حسنة، وهو يتفق مع قوله × من سن في الإسلام سنة حسنة. فهذه الصلاة من السنة الحسنة.

وقد جاء الفقهاء فيما بعد فحددوا بدعة الضلالة بأنها كل أمر خالف الدين أو كل أمر ليس له أصل من الأدلة المعتبرة شرعاً. وقد اختلف الأئمة في هذه الأدلة كاختلافهم في الاحتجاج  بمفهوم المخالفة، كما اختلفوا في كيفية التوفيق بين الأدلة المتعارضة كاختلافهم في التوفيق بين الأفعال والأقوال وفي مخالفة الصحابي لما روى، واختلافهم في كيفية الاستدلال بالألفاظ وبناء على هذا الاختلاف فقد تميزت المدارس الفقهية في الإسلام لتعدد أصولها الفقهية.

وقد بينت في مقدمة رسالة الصيام ومفطراته الطبية أن الواجب على من أراد النظر في مسائل الخلاف أن يعرف أصول كل إمام حتى لا يكون ترجيحه تبعاً لما يهواه، أو تقليداً لمن يركن إليه من أهل العلم. خصوصاً في المسائل التي قررها أهل العلم أنه لا يجوز فيها إلزام مجتهد بقول مجتهد آخر، لأن من اجتهد وهو مدرك لأسباب الاجتهاد فإنه مأجور أجراً واحداً إن كان مخطأ، أو أجرين إن كان مصيباً، ولذا لا يجوز أن نعتبر هذا الخطأ الذي يؤجر عليه من البدع، لأن المبتدع مأزور مطلقاً وليس بمأجور، بخلاف من أخطأ، وسبب الفرق بينهما أن خطأ المجتهد مبني على اجتهاده في متابعة الشرع فهو يرى أن ما قرره موافق للشرع وليس مخالفاً له، وقد يكون هو المصيب عند الله تعالى ومن خطَّأه هو المخطئ؛ لأنه لا يعلم الحق في بعض مسائل الخلاف إلا الله تعالى، بخلاف المبتدع فهو لم يبذل الجهد لموافقة الشرع فقد اخترع عبادة لم يأت بها الشرع بل قد خالفها الشرع.

وقد بين الأئمة حدود البدعة المذمومة شرعاً فقال الإمام ابن العربي رحمه الله: بعدما ذكر أن مطرفاً قال: سمعت مالكاً يقول التوقيت في المسح على الخفين بدعة. فقال: أما قول مطرف إنه بدعة فقد أبعد فيه النجعة لما صح عن صاحب الشريعة، وإنما غايته إن استقام له أن يقول: خطأ، فإن المسائل المجتهد فيها من أحكام أفعال المكلفين منزل: خطأ وصواب في قول، وإنما تكون البدعة والسنة والضلال والهدى والكفر والإيمان في مسائل العقائد المتعلقة بالله العظيم وصفاته العليا وأحكامه المرضية في تصاريف الأقدار( ). 

وقال الإمام ابن الأثير رحمه الله: في أسماء الله تعالى «البديع» هو الخالق المخترع لا عن مثال سابق ثم قال: وفي حديث عمر رضي الله عنه في قيام رمضان «نعمت البدعة هذه» البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله × فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي × قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها» وقال في ضده «ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله ×.

ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه. لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، لأن النبي × لم يسنها لهم، وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر رضي الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة، وهي على الحقيقة سنة، لقوله × «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وقوله «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر «كل محدثة بدعة» إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة. وأكثر ما يستعمل عرفاً في الذم ( ).  

وبهذا يتقرر أن البدعة هي ما خالف قائلها أصول الشريعة كمخالفة الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما إذا كانت تلك الأقوال لها أصل شرعي وقد قال بها أصحاب القرون المفضلة فلا يجوز أن توصف بأنها بدعة كالقول بمشروعية دعاء ختم القرآن فإن له أصل يرجع إليه كالقياس على مشروعية القنوت في الفرائض إذا وجد السبب وكمشروعية الدعاء في الصلاة عند قراءة آية رحمة والاستعاذة عند قراءة آية عذاب. بل هناك أدلة أخرى سوف أعرضها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

 

رابعاً: حكم الترجيح بعدم الدليل 

مما يلحظ على بعض المعاصرين الترجيح بين أقوال الأئمة بعدم وقوفهم على دليل المخالف. وهذا أمر مشكل، لأن الأصل في مثل هذه الحالة التوقف في المسألة، لأن عدم العلم بالدليل ليس علماً بالدليل.

ومع هذا فكثيراً ما ضعفوا أقوالاً لأصحاب المذاهب لعدم معرفتهم بالدليل حتى انتشر التندر على المذاهب الفقهية بمثل هذه المسائل بين صغار الطلبة، ولذا أعرض بعضهم عن الإفادة من دواوين الفقه بحجة عدم عملها بالدليل؛ بل يرون أنها مبنية على التقليد، إلا أنه بعد الدراسة المتأنية وإمعان النظر في نصوص الكتاب والسنة ومنهج السلف في الاستدلال للأحكام نجد أن الدليل موجود، لكن خفي على هذا المعترض استنباطه، أو وجه الاستدلال به، وسبب هذا ضعف البحث عن الدليل، أو أنه حصر الأدلة في ظواهر نصوص الكتاب والسنة، أو عدم التنبه إلى وجه الاستدلال بها، وقد جاء في صحيح السنة قوله ×: «رب حامل فقه ليس بفقيه» وبعد العناية بالبحث عن الدليل وقفت على مجموعة من المسائل كان دليل الترجيح فيها لدى بعض المعاصرين عدم وجود الدليل، مع أن الدليل موجود تارة في الكتاب وتارة في السنة المطهرة، وتارة في صحيح القياس أو في القواعد الفقهية. وإليك أمثلة لهذا:

1-ترجيح القول بعدم اعتبار إزالة شعر البدن من محظورات الإحرام لعدم الدليل مع أن الدليل موجود في قوله تعالى: ﮋ ﮬ  ﮭ  ﮮ  ﮊ ( ).

2-ترجيح القول بأن للمسافر أن يقصر ويفطر ما لم يرجع إلى وطنه لعدم الدليل مع أن الدليل موجود في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﮋ ﮞ  ﮟ  ﮠ  ﮡ ﮊ فالله تعالى أمر بالإتمام حال الاطمئنان، ولم يأمر به حال الاستيطان، والفرق بين الأمرين معلوم في اللغة إلا أنهم اعتبروا وجوب الإتمام في حال الاستيطان لا حال الاطمئنان فخالفوا الدليل.

3-ترجيح القول بأنه لا يشرع صلاة ركعتين لمن أراد الإحرام مع أن الدليل موجود وهو قوله ×: «أتاني الليلة آت من ربي فقال إن الله يقرئك السلام ويقول: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة»، ووجه الاستدلال بالحديث أن الله تعالى أمر نبيه × أن يصلي فيه بعد أن صلى فيه الفريضة، بدليل أنه × صلى فيه العصر والمغرب والعشاء ثم جاء الأمر فدل هذا على أن الأمر بالصلاة ليس من أجل الوادي إنما هو من أجل الدخول في الإحرام، ولذا جاء الأمر بالجمع بين الصلاة والقول.

4-تبديع تكرار المكي العمرة من الحل كالتنعيم لعدم الدليل وهذا خلاف دلالة قوله ×: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» فالحديث لم يحدد زمناً فاصلاً بين العمرتين، ثم إنه عام لأهل مكة وغيرهم، ولا مخصص له فوجب حمله على العموم.

5-ترجيح جواز تقديم السعي على الطواف لعدم الدليل على المنع، مع أن الدليل موجود وهو قوله × لعائشة لما حاضت: «افعلي ما يفعله الحاج غير ألا تطوفي في البيت»، إلا أنها لم تطف ولم تسع وأقرها النبي ×. والسبب في عدم سعيها أنه وقع بين الأمر والنهي، فالسعي لا يشترط له الطهارة، فيصح من الحائض، ولذا فلم تمتنع عن فعله إلا لوجوب الترتيب.

6-ترجيح جواز المسح على المخرق لعدم الدليل مع أن الدليل موجود وذلك أن النبي × أذن بالمسح على الخفاف إلا أن هذا الإذن جاء مطلقاً، فيحتمل جواز المسح على المخرق، كما يحتمل عدم جواز المسح عليه، لكن يترجح عدم جواز المسح على المخرق لمجيء هذا الإطلاق في الإثبات فيجب حمله على الكمال وهو عدم التخريق وقد قرر هذه القاعدة آل تيمية في المسودة.

7-ترجيح أن مدة المسح تبدأ من المسح لا من الحدث لعدم الدليل على أن المدة تبدأ من الحدث، وهذا القول منقوض، لأنه يلزم منه الدور في الاستدلال وذلك أنهم جعلوا وجود المسح شرطاً لابتداء المدة، كما جعلوا وجود المدة شرطاً لصحة المسح فحصل بهذا الدور، ووجهه أنهم جعلوا كل شرط شرطاً للآخر. وهو ممتنع عقلاً، فلا يجوز شرعاً.

8-ترجيح جواز دفع الزكاة لمدارس تحفيظ القرآن ولأوقافها لعدم وجود الدليل المخصص لعموم قوله تعالى: ﮋ ﮬ  ﮭ  ﮮ  ﮊ فقالوا إن سبيل الله تعالى عام لكل القرب، ولا دليل على التخصيص بينما الدليل جاء في نفس الآية، وهو قوله تعالى:     ﮋﮥ  ﮦ  ﮊ فدلت الآية بمفهومها على عدم جواز صرف الزكاة للعاملين على غيرها، فهو الدليل المخصص لعموم في سبيل الله.

9-قال أحدهم يجوز الإحرام بالتنورة؛ لأنها يطلق عليها اسم وزرة ولا دليل على التفريق بين إزار وإزار، وهذا غير صحيح بل الدليل موجود في نهيه × عن لبس السراويل، ووجه الاستدلال بالحديث أن التنورة من سراويل النساء في الجاهلية والإسلام، كما هو معروف في اللغة. وسبب المخالفة في هذا عدم معرفة اسمها عند العرب، وقد أطلقوا عليها اسم النقبة، والنقبة من سراويل النساء كما في المخصص لابن سيدة رحمه الله ( ).

ومع هذا فلم أقف على من قال بجواز لبسها من الأئمة السابقين ولذا فهذا القول من محدثات الأمور.

10-ترجيح أن جدة ميقات لمن مر بالميقات، وهذا خلاف قوله × حينما وقت المواقيت: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة»، فهذا الحديث يدل على وجوب الإحرام من أول ميقات يمر عليه مريد الإحرام أو يحاذيه.

إن هذه الأمثلة وغيرها توجب علينا إعادة النظر في ترجيحات المعاصرين وبالأخص إذا كان الترجيح لديهم بسبب عدم الوقوف على الدليل، كما توجب علينا البحث عن أدلة الأئمة السابقين من أصحاب القرون المفضلة والتابعين لهم بإحسان، لما علم من رسوخ أقدامهم في العلم، ولما علم من ضياع بعض كتبهم، ولأن هذا المعترض عليهم ليس له من دليل إلا عدم العلم بالدليل.

فمقتضى الديانة والنصح للنفس والإخوان: البحث في نصوص الكتاب والسنة عن الأدلة التي بها يظهر الحق، ولئلا تكون الدعوة للعمل بالكتاب والسنة مجرد أقوال بلا أفعال، وحتى لا نجعل أقوال من تطمئن إليه نفوسنا أو من تم التعلم على يديه مقدمة على أقوال أئمة الإسلام بلا حجة، بل لمجرد عدم معرفة الحجة، كما لا يجوز لنا أن نعطل عقولنا وما منحنا الله من نعمة الفهم لمجرد عدم مخالفة من اعتمد المعاصرون على أقوالهم إذ لو فعلنا هذا لوقعنا بالتقليد المذموم والمتفق على النهي عنه.

وإن من الملاحظ لدى بعض المعاصرين نشوء انتماء من نوع جديد، وهو التسليم المطلق لأقوال شيوخهم ولمن تطمئن إليه نفوسهم من أفراد العلماء، بينما كان الانتماء لدى جمهور الأمة إنما هو للمدارس الفقهية المؤصلة، والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

خامساً: القياس في العبادات

من المستفيض لدى كثير من الأصوليين والفقهاء المعاصرين عدم جواز القياس في العبادات بل لقد رأيت من المعاصرين من يرد أقوال العلماء ويضعفها إذا كانت مبنية على الاستدلال بالقياس.

فهمني هذا الأمر لما أراه من كثرة قياس أصحاب المذاهب الفقهية من المالكية والشافعية والحنابلة مما دعاني إلى جمع بعض كلام الأصوليين في هذا الموضوع ولأن من أهم الأدلة على مشروعية دعاء ختم القرآن القياس على القنوت في الفرائض حين النوازل ومنعاً من الاعتراض على هذا القياس فقد عقدت هذا العنوان.

قال الإمام أحمد: لا يستغني أحد عن القياس ( ).

وقال الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى في مشروعية القياس في العبادات وغيرها: الفقهاء من عصر النبي × إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، ثم قال: وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس، لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل لها.

وبعد إيراد ابن القيم لما قاله الإمام المزني أورد مجموعة من الأقيسة في العبادات وغيرها تدل على أن القياس في العبادات أمر مقرر لدى علماء الإسلام ( ).

وإن من أدلة مشروعية هذا القياس قوله × لعمر رضي الله عنه حين سأله عن القبلة للصائم: أرأيت لو تمضمضت بماء.

قال أبو الخطاب رحمه الله فشبه × قبلة الصائم من غير إيلاج بالماء في الفم من غير ازدراد، وأجرى حكم أحدهما على الآخر في عدم نقض وفساد الصوم ( ).

وقال الشوكاني رحمه الله وقد استدل بمن قال بالقياس أيضاً بما ثبت عن النبي × من القياسات كقوله: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ عنه قالت: نعم قال: فدين الله أحق أن يقضى، وقوله لرجل سأله فقال أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليها فقال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر قال: نعم قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر وقال لمن أنكر ولده الذي جاءت به امرأته أسود: هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال فهل فيها من أورق قال نعم قال فمن أين. قال لعله نزعه عرق قال: وهذا لعله نزعه عرق، وقال لعمر وقد قبل امرأته وهو صائم: أرأيت لو تمضمضت بماء وقال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهذه الأحاديث ثابتة في دواوين الإسلام وقد وقع منه × قياسات كثيرة حتى صنف الناصح الحنبلي جزءاً في أقيسته × ( ).

فقياسه × في هذه الأحاديث جاء في العبادات وغيرها مما يدل على مشروعية هذا النوع من القياس وهو ما ذهب إليه الجمهور ( ) إلا أنه خالف في ذلك الحنفية كما تدل عليه عباراتهم في كتب الأصول قال الشيخ محمد منظور إلهي حفظه الله تعالى: والحنفية لم ينصوا على منعهم للقياس في العبادات إلا ما نسب إلى الكرخي من أنه ذهب إلى عدم جواز إثبات أصول العبادات بالقياس وأنه حكاه عن أبي حنيفة رحمه الله.

ولكن يمكن أن يتوصل إلى أن مذهبهم منع إجراء القياس في العبادات من خلال عباراتهم في كتبهم وموقفهم من إجرائه في مسائل شبيهة بمسألة العبادات، مثل التقديرات والحدود والكفارات.

قال النسفي: ولا مدخل للرأي في معرفة ما هو طاعة الله، ولهذا لا يجوز إثبات أصل العبادات بالرأي ( ).

وقد اشترط من أجاز القياس وجود علته، لأن ما لا يدرك فيه المعنى المناسب للقياس فلا خلاف في عدم جوازه، لأنه فقد ركناً من أهم أركان القياس وهو العلة فما لا تدرك علته فلا قياس فيه كعدد ركعات الصلوات ( ).

قلت: أما إذا كانت العلة معروفة فيجب القياس وذلك مثل قوله ×: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب. فمن لم يستطع الصلاة على جنب كمن به شلل رباعي فهل يقال بسقوط الصلاة، أو أنه يجب أن يصلي بحسب حاله، فإن استطاع أن يصلي إيماءً برأسه فليفعل فإن لم يستطع حرك حواجب عينيه لأن مدار التكليف هي الاستطاعة.

ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه الشافعية من مشروعية صلاة ذات الأسباب في أوقات النهي بحجة وجود السبب خلافاً لمذهب الجمهور.

كما أن من شروط صحة القياس ألا يخالف نصاً أو إجماعاً. فإن خالف نصاً فلا يصح القياس كقول المالكية إذا كان السهو في الصلاة عن نقص فسجود السهو قبل السلام، وإن كان عن زيادة فبعد السلام لئلا تجتمع زيادتان في الصلاة كذا عللوا.

ووجه عدم صحته أنه مخالف لقول النبي × عن الصلاة: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وسجود السهو جزء من الصلاة فالأصل فيه أن يكون قبل التحلل منها بالسلام. إلا ما خصه الدليل، وهو سجود من سلم عن نقص فيكون بعد السلام. وكذا من بني على غالب ظنه فبعد السلام أيضاً وما عدى ذلك فكله قبل السلام إعمالاً للسنن، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وقد ذهب الحنفية إلى أن السجود كله بعد السلام وخالفهم الشافعية فقالوا كله قبل السلام ( )، وقد ترجح قول الإمام أحمد لما فيه من إعمال السنن. وترك القياس لوجود النص والله أعلم وأحكم.

وقد قصدت من إيراد كلام هؤلاء الأئمة هنا كشف ما اشتهر ووقر في قلوب الفقهاء المعاصرين من أنه لا قياس في العبادات وإلا فموضع بحثه في كتب الأصول، فقد اعتنوا بهذا النوع من القياس، فذكروا شروط صحته، والحالات التي يصح فيها القياس في العبادات، فمن أراد الاستزادة فليراجعها، ومن أمثل من كتب في هذا فضيلة الشيخ محمد منظور إلهي في بحثه القيم والنفيس: القياس في العبادات، نشر مكتبة الرشد في الرياض عام 1424هـ.

والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.



 






المبحث الأول

القول بمشروعية دعاء ختم القرآن

 

مشروعية دعاء ختم القرآن خارج الصلاة أمر معروف في الأمة منذ الصدر الأول، فهو ثابت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وبعض سلف الأمة، ثم توارث أهل مكة عملياً الدعاء في الصلاة بعد ختم القرآن دون نكير ولعل الموضوعات التالية تبين حقيقة هذه العبادة وصحة القول بمشروعيتها.

مواضع دعاء ختم القرآن

امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بإنزال القرآن الكريم رحمة بهم وهداية للبشرية إلى طريق الحق والصواب، وقد عظم الله قدره فأمر بصيام شهره الذي أنزله فيه، وسن لنا نبينا محمد × قيام لياليه، كما جعل الله لخاتمه دعوة مستجابة، فعلى من تلاه التعرض لنفحات الله سبحانه وتعالى عند ختم تلاوته، وتتحقق هذه الختمة( ) في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول: أن يكون الخاتم في غير صلاة، فيستحب له جمع أهله والدعوة لمن حضر، وهذا ما كان يفعله أنس بن مالك رضي الله عنه( ) وطائفة من السلف( ).

وقد اعتنى الإمام البيهقي رحمه الله في بيان فضل تعظيم القرآن فعده الشعبة التاسعة عشرة من شعب الإيمان وعقد لهذا فصولاً بلغت ثلاثة وسبعين فصلاً. اشتمل عليها آخر الجزء الرابع وكامل الجزء الخامس من كتاب شعب الإيمان وقد تحدث في الفصل السابع منها في قطع القراءة بحمد الله على ما أنعم عليه بالقرآن، فتحدث عن الدعاء عند ختم القرآن وجمع الأهل فأورد ما صح من الموقوف، وما ورد من المرفوع مع تضعيفه له كما ذكر بعض أقوال التابعين وتجمعهم عند ختم القرآن ثم قال: وقد روي عن النبي × في دعاء الختم حديث منقطع بإسناد ضعيف، وقد تساهل أهل الحديث في قبول ما ورد من الدعوات وفضائل الأعمال متى ما لم تكن من رواية من يعرف بوضع الحديث أو الكذب في الرواية ( ).

وقد علق المحقق على قول البيهقي هذا فقال: بل في قبول الضعيف خلاف معروف.

كما ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله بعض الآثار المروية في دعاء ختم القرآن خارج الصلاة ( ).

الموضع الثاني: أن يكون الخاتم يصلي وحده منفرداً عن الناس فيشرع له الدعاء عند الختم، وقد ذهب إلى هذا الإمام النووي رحمه الله( ).

الموضع الثالث: أن يكون الخاتم إماماً للناس في صلاة التراويح، فيشرع له الدعاء عند الختم كما يشرع للمأمومين التأمين خلفه، وإلى هذا ذهب الحنابلة ومنهم ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله وقد سبقهم إلى العمل به علماء مكة والبصرة زمن أتباع التابعين الذين أدركهم الإمام أحمد على هذا العمل. وهو مروي عن عثمان رضي الله عنه، ولذا قيل: ويروى عن أهل المدينة في هذا شيئاً، وحجة الحنابلة أن عليه العمل بمكة والبصرة( ).

أدلة دعاء ختم القرآن في الصلاة

بعد النظر وبذل الجهد فيما يمكن أن يستدل به لمشروعية ختم القرآن الكريم يسر الله سبحانه وتعالى لي الوقوف على مجموعة من الأدلة أعرضها فيما يلي:

الدليل الأول: عمل تابعي التابعين من أهل مكة والبصرة وفيهم كثير من علماء الحديث والتفسير والفقه وتلاميذهم المشهود لهم بالفضل كسفيان بن عيينة رحمه الله. ثم إنهم أبعد ما يكونون عن البدعة؛ لما عرف عنهم من نكيرهم على كل مبتدع؛ ولأن النبي × قد زكى قرنهم، فالواجب حسن الظن بما روي عنهم، وأقل الأحوال أن يحمل عملهم على أنهم أخذوه عمن قبلهم ثم إن المحدثين جعلوا الحديث: مرفوعاً وموقوفاً ومقطوعاً. فاعتبروا المقطوع وهو ما ينسب للتابعين من أقسام الحديث، لأن بعض أهل العلم يحتج به. وهذا أمر ظاهر لدى المفسرين بل إن الإمام مالكاً رحمه الله يرى الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وهو عمل التابعين وأتباعهم؛ لأنه لم يدرك الصحابة رضي الله عنهم، كما أن الإمام أحمد احتج بختم أهل مكة والبصرة. فالمسألة تعود إلى أصل فقهي وهو الخلاف في حكم الاحتجاج بالحديث المقطوع، وكذا الخلاف في دخول أقوال أتباع التابعين في أنواع الحديث.

قال الزركشي رحمه الله: وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل المنع وحكوه عن شعبة، لكن عمل المفسرين على خلافه، فقد حكوا في كتبهم أقوالهم، لأن غالبها تلقوها من الصحابة رضي الله عنهم( ).

وقال السخاوي رحمه الله: ثم إن شيخنا أدرج في المقطوع ما جاء عمن دون التابعي( ).

وقال السخاوي رحمه الله في موضع آخر: إذا علم هذا فقد ألحق ابن العربي بالصحابة في ذلك ما يجيء عن التابعين أيضاً مما لا مجال للاجتهاد فيه، فنص على أنه يكون في حكم المرفوع، وادعى أنه مذهب مالك، وقال السخاوي رحمه الله أيضاً: وبهذا الحكم يجاب عمن اعترض في إدخال المقطوع والموقوف في علوم الحديث( ).

هذا الخلاف إنما هو في الاحتجاج بالأقوال. أما حينما يتفق تابعو تابعي مكة والبصرة على مشروعية العمل فإنه أقوى من الاحتجاج بقول أحدهم، لأن هذا من عمل بعض أهل الإيمان الذين لم يخالفهم فيه أحد( ). فدل هذا على مشروعيته، ثم إن ما فعله أتباع التابعين من أهل مكة والبصرة يعد من الحديث المقطوع وهو حجة عند بعض المحدثين. هذا ما يدل عليه احتجاج الإمام أحمد رحمه الله وهو ما نص عليه الإمام ابن العربي رحمه الله في المقطوع عن التابعين ثم هو المتفق مع ظاهر مذهب الإمام مالك رحمه الله؛ حيث كان يحتج بعمل أهل المدينة، والفرق بين احتجاج الإمامين، أن مالكاً يحتج في بعض الأحوال بعمل أهل المدينة ولو خالف الحديث المرفوع، أما احتجاج أحمد بعمل أهل مكة فهو فيما لم يرد في مخالفته حديث مرفوع ولا موقوف؛ ولذا فاحتجاج أحمد أخص.

وبناء على هذا فلا يحتاج هذا الدعاء إلى دليل بل إن ثبوت هذا الفعل عن السلف هو الدليل، ولذا فلا يصح أن يعد من البدع ولا من أسباب الضلال.

يؤكد هذا أن الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن دليل هذا الدعاء أجاب بأنه أدرك أهل مكة يفعلونه وفيهم سفيان بن عيينة، فاعتبر ثبوت هذا عن أهل مكة هو الدليل، ولذا لم يورد دليلاً آخر على مشروعيته، كما أن السائل اكتفى باحتجاج الإمام أحمد بعمل أهل مكة ولم يطلب المزيد من الأدلة.

كما يؤكد هذا أيضاً ما رواه أبو داود رحمه الله أن الإمام أحمد قال: ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله × إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدت عن رسول الله × لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله × فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله × الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله ×، فإذا لم أجد فعن التابعين وعن تابعي التابعين، وما بلغني عن رسول الله × حديثٌ بعمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة( ).

هذا هو منهج الإمام أحمد وطريقة استدلاله على مشروعية دعاء ختم القرآن وهو يختلف عن منهج المعاصرين الذين طلبوا الدليل على مشروعية عمل أهل مكة، ولذا اعترضوا عليه لعدم ثبوت الدليل من الكتاب والسنة، وفي التفريق بين المنهجين يتضح أنه لا يمكن التقاء الرأيين ولذا فالواجب على المعاصرين أن يعرفوا طريقة استدلال الإمام أحمد حتى لا يقعوا في تبديع السلف بلا حجة. بل لعدم قناعتهم بحجة من قال به من خيار الأمة، بل الواجب في مثل هذا أن يتوقفوا في الحكم لا أن يبدعوا؛ لأن كل مجتهد مأجور أصاب أو أخطأ، وصاحب البدعة مأزور غير مأجور.

ومما يؤكد صحة استدلال الإمام أحمد رحمه الله بعمل أهل مكة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: ومتى كانت عامة من أهل العلم في دهر بالبلدان على شيء وعامة قبلهم، قيل يحفظ عن فلان وفلان كذا، ولم نعلم لهم مخالفاً نأخذ به ولا نزعم أنه قول الناس كلهم، ثم قال: هذا قول من حفظت عنه من أهل العلم نصاً أو استدلالاً( ).

فإذا كانت طريقة الإمام أحمد في الاستدلال بعمل أهل مكة متفقة مع طريقة شيخه الشافعي وطريقة من حفظ عنهم الشافعي من أهل العلم، إما نصاً أو استدلالاً، فلا يصح الطعن في هذا المنهج لأنه قد تتابع عليه أهل العلم، الذين يجب الاحتجاج بمناهجهم في فهم الشريعة والاستدلال لها. 

وقد عقد ابن حزم رحمه الله فصلاً تحدث فيه عن أسباب اختلاف الأئمة ومما جاء فيه قوله: فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار، وزاد تفرق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة( ) تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي × أثر حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي × موجود عند صاحب آخر في بلد آخر.

وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني، كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي × في بعض الأوقات وحضور غيره، ثم مغيب الذي حضر أمس، وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه، هذا معلوم ببديهة العقل.

وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره وجهله عمر وابن مسعود، فقالا: لا يتيمم الجنب، ولو لم يجد الماء شهرين، وكان حكم المسح عند علي وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم، وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة، وهم مدنيون، وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وجهله أبو موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وعند أبي سعيد وأبي وجهله عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف، عند ابن عباس وأم سليم، وجهله عمر وزيد بن ثابت وكان حكم تحريم المتعة والحمر الأهلية عند علي وغيره، وجهله ابن عباس، وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب، عند ابن عباس وعمر، فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر، فأجلاهم، وكان علم الكلالة عند بعضهم، ولم يعلمه عمر، وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر، وجهله سمرة، وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة؛ وجهله أبو بكر وعمر، وكان حكم أخذ الجزية من المجوس؛ وأن لا يقدم على بلد فيه الطاعون، عند عبدالرحمن بن عوف، وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم، وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان، وجهله عمر.

ومثل هذا كثير جداً، فمضى الصحابة على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاويهم، لا تقليداً لهم ولكن لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار؛ كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم، واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم وهو موجود عند غيرهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي × أجرين ومأجور فيما خفي عنه أجراً واحداً( ).

فيرى هذا الإمام أن ما ثبت عن أتباع التابعين هو من الاجتهاد الذي يؤجر صاحبه، فهو كاجتهاد الصحابة رضي الله عنهم وكاجتهاد شيوخهم التابعين، وليس ما تفردوا به عمن قبلهم من البدع؛ لأن البدعة لا يؤجر صاحبها، وهذا الحكم يجري على دعاء ختم القرآن.

وقال الشيخ الشريف حاتم العوني ـ وفقه الله ـ مستدلاً للقول برجحان القول بمشروعية ختم القرآن: فدعاء الختم في الصلاة عند الإمام أحمد من باب السنن المشهورة المستفيضة التي حفظها أهل مكة في زمن أتباع التابعين( ).

الدليل الثاني: القياس على أدعية القنوت في الصلاة:

لقد ورد عن النبي × أنه كان يقنت في الفروض والوتر فقال سائر الفقهاء بمشروعية القنوت في الصلوات المفروضة على خلاف بينهم في سبب القنوت، وفي أي الصلوات يشرع هذا القنوت.

وعقد الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتاب اختلاف الحديث: باب القنوت في الصلوات كلها ثم أورد جملة من الأحاديث الدالة على فعل النبي × للقنوت في الفرائض كلها ثم تركه لذلك إلا في صلاة الصبح ثم قال: فأما ما روى أنس بن مالك من ترك القنوت فالله أعلم ما أراد، فأما الذي أرى بالدلالة فإنه ترك القنوت في أربع صلوات دون الصبح كما قالت عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر»، تعني: ثلاث صلوات دون المغرب والصبح.

وترك القنوت في الصلوات سوى الصبح لا يقال له ناسخ، إنما يقال الناسخ والمنسوخ ما اختلف، فأما القنوت في غير الصبح فمباح أن يقنت وأن يدع، لأن رسول الله × لم يقنت في غير الصبح قبل قتل أهل بئر معونة، ولم يقنت بعد قتل أهل بئر معونة في غير الصبح ( )، فدل على أن ذلك دعاء كالدعاء المباح في الصلاة لا ناسخ ولا منسوخ ( ). 

وأوسع ما وقفت عليه قول ابن حزم رحمه الله حينما قال: القنوت فعل حسن وهو بعد الركوع في آخر ركعة من كل صلاة فرض الصبح وغير الصبح وفي الوتر فمن تركه فلا شيء عليه في ذلك.

ثم قال: فإن قال ذلك قبل الركوع لم تبطل صلاته بذلك. ثم أورد جملة من الأحاديث الدالة على ذلك محتجاً بها، ومنها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي × كان لا يصلي صلاة إلا قنت فيها( ).

قلت: لقد اختلف في هذا الحديث في رفعه ووقفه كما اختلف في لفظه إلا أن له شواهد كالقنوت في صلاة المغرب والعشاء والفجر.

وقال في موضع آخر: من قنت قبل الركوع فلم يأت بالمختار ولم تبطل صلاته، لأنه ذكر لله تعالى( ).

وبناء على هذا فإن دعاء ختم القرآن في الصلاة هو من جنس الصلاة كما أنه من الأعمال التي لها سبب وهو حصول الختم، فشرع لوجود سببه كالأدعية في الصلوات إذا وجد سببها فهو من باب القياس على الأدعية ذات السبب ووجه هذا القياس أن القنوت إذا كان مشروعاً في الفرائض حال وجود السبب، فمشروعيته في النفل إذا وجد سببه من باب أولى.

يؤكد هذا ما ورد عن النبي × أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب استعاذ، كما أن الأصل في الصلاة في اللغة أنها الدعاء فالدعاء من جنس الصلاة، كما نص بعض أهل العلم على ذلك، وبناء على هذا فدعاء الختم هو من جنس الصلاة؛ فلا ابتداع في القيام به، وإنني لأعجب ممن يبادر إلى فعل دعاء القنوت في صلوات الفرائض كلها أو بعضها لمجرد وجود سبب في أدنى الأرض، ثم ينكر على من قام بدعاء ختم القرآن في النوافل دون الفرائض لوجود السبب أثناء أداء الصلاة التي تم ختم القرآن الكريم فيها، فأين هم عن النظر في القياس فإن قالوا: لا قياس في العبادات قلنا: ما من إمام إلا وهو يقيس في العبادات، وقد سبق الحديث عن حكم هذا النوع من القياس في التمهيد.

الدليل الثالث: عدم إنكار الأئمة دعاء الختم:

إن المتتبع لكلام أئمة الإسلام لا يقف على إنكارهم لدعاء ختم القرآن أثناء الصلاة كما لا يجد لهم قولاً بمشروعيته إلا الحنابلة، إلا أن بعضهم سجل رأيه في أن لختم القرآن خارج الصلاة دعوة مستجابة، وهذا لا يعد خلافاً لمن قال بمشروعيته أثناء الصلاة. أما إنكار مالك رحمه فسيأتي الجواب عنه، ومع ذلك فهو مبني على عدم وقوفه على قائل به، وقد ثبت عن أنس كما ثبت فعله عن أهل مكة والبصرة فمالك رحمه الله لم يطلع على ذلك، ولو اطلع عليه لأجاب عنه أو أخذ به رحمه الله.

إن سكوت الأئمة لا يعتبر دليلاً للقبول وليس من أدلة الرد ولذا قال به بعض متأخري الشافعية والحنفية والمالكية مع أن أئمة مذاهبهم لم يقولوا به مطلقاً.

وقد ذكر الشيخ بكر رحمه الله أن قولهم هذا في مطلق الدعاء أما في الصلاة فلم يرَ من ذكره منهم سوى النووي رحمه الله في حق المنفرد ( ).

الدليل الرابع: الاحتجاج بما عليه العمل:

إن توارث العمل لدى بعض المسلمين من القرون المفضلة وما بعدها أمر يحتج به علماء الحديث والفقه، فهذا الإمام الترمذي يستشهد بعمل الناس أو بعضهم على تقوية الحديث كما هو ظاهر في سننه رحمه الله.

وكذا نجد الفقهاء يحتجون بذلك كما هو مذهب الإمام مالك في عمل أهل المدينة، وكما هو رأي الإمام أحمد في عمل أهل مكة والبصرة في دعاء ختم القرآن.

بل إن هناك بعض الأحكام من الفروع الفقهية لو طلبنا الدليل لها من المرفوع لم نجده أو هو موجود لكنه ضعيف. وأقوى الحجج على مشروعيتها هو العمل المتوارث لدى المسلمين قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: بعد ذكره الأئمة الذين يقتدى بهم: ثم بسواد الناس ودهمائهم وعوامهم في كل مصر وفي كل عصر، فإن من أمارات الحق إطباق قلوبهم على الرضاء به ( ). ومن هذا الأمور ما يلي:

1ـ إن كثيراً من أحكام التراويح لم يرد لها دليل خاص، بل دليلها توارث أهل العلم العمل بها، كاستحباب الفصل بين كل أربع ركعات بجلسة خفيفة، وقد سميت بصلاة التراويح لهذه الجلسة. قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: في أثناء ذكره لأحكام صلاة التراويح: ومنها الانتظار بعد كل ترويحتين، وهو مستحب هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها إنما سميت بهذا الاسم لمعنى الاستراحة، وأنها مأخوذة عن السلف وأهل الحرمين فإن أهل مكة يطوفون سبعاً بين كل ترويحتين كما حكينا عن مالك رحمه الله تعالى ولو استراح إمام بعد خمس ترويحات، قال بعض الناس لا بأس به وهذا ليس بشيء لما فيه من المخالفة لأهل الحرمين والصحيح هو الانتظار والاستراحة بين كل ترويحتين على ما حكينا( ).

وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن عدد صلاة التراويح ست وثلاثون، وزعم أن الأمر قديم، وتعلق بفعل أهل المدينة.

وقال بعض أهل العلم إنما فعل هذا أهل المدينة؛ لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة يطوفون سبعاً بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات ( ).

ومن المعلوم أن طواف أهل مكة سبعاً بعد كل ترويحتين إنما حدث في زمن التابعين وقت ولاية خالد القسري على مكة لبني أمية. كما ذكر ابن فهد في تاريخه، وسيأتي بيان سبب هذا الطواف فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقد سبق في المقدمة ذكر مجموعة من أحكام التراويح لم يرد دليلها في السنة، إنما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أو عن التابعين أو عن أتباع التابعين، وقد أقرها جمهور أهل العلم، ودليلهم توارث أهل العلم العمل بها، والله أعلم.

2ـ حدود عرفة: توارث المسلمون حدود عرفة بعلاماتها الموجودة ومنها التي تفصل بينها وبين وادي عرنة ونمرة فمن وقف داخل هذه العلامات فحجه صحيح بخلاف من وقف خارجها، إلا أننا نجد قولاً للشيخ عبدالله الجبرين رحمه الله يرى فيه أن نمرة داخلة في حدود عرفة، وكذلك عرنة وأن واديها أيضاً من عرفة وأقوى الحجج التي يرد بها على الشيخ أن عمل المسلمين عبر التاريخ جرى على اعتبار هذه العلامات هي حدود عرفة( ) فهي تفصل بينها وبين عرنة ونمرة، ولا يجوز مخالفتهم.

3ـ حدود المزدلفة: توارث المسلمون عبر التاريخ حدود مزدلفة بعلاماتها الموجودة اليوم إلا أن الدكتور عبدالعزيز الحميدي وفقه الله يرى أن حدود المزدلفة من جهة عرفة تبدأ بعلامات حدود الحرم فهو يرى أن المزدلفة تمتد أيضاً ما يقرب من خمسة كيلوات وقد كتب رسالة في هذا( )وأقوى الحجج في الرد عليه أن هذه الأنصاب الموجودة اليوم متوارثة عن المسلمين السابقين، فلا يجوز مخالفتها.

4ـ وجود المحاريب للمساجد: جرت عادة المسلمين وضع محاريب ومنائر للمساجد إلا أن جماعة جهيمان الهالكة في عام 1400هـ أنكروا على علمائنا وضع المحاريب للمساجد حتى بنوا مسجداً بلا محراب، كما أن أحد الأئمة وضع في المحراب دواليب حتى يخفي وجوده، وإن أقوى الأدلة في اعتبار المحاريب أنه موروث من عمل المسلمين، فلا يجوز إنكارها.

5ـ يصلي المسلمون خلف الأئمة في الحرم وهم مستديرون على البيت ولو بحث أحد عن الدليل من المرفوع أو الموقوف لم يجده، لأنه عمل محدث في زمن التابعين ( ) ودليله الوحيد أنه من عمل المسلمين على مر العصور، فلا يجوز إنكاره.

6ـ توارث بعض المسلمين ختم القرآن في قيام رمضان، وأنكره الإمام مالك رحمه لله والحجة في صحة ذلك أن هذا من عمل بعض أهل الإسلام مع أنه لم يثبت فيه حديث مرفوع.

7ـ اختلف العلماء في عدد صلاة التراويح ومن حججهم في ترجيح عدد على عدد أنه الذي أدركوا عليه عمل الناس.

فقال الإمام الترمذي راوياً الخلاف في ذلك بعد ذكره حديث رقم 803: واختلف أهل العلم في قيام رمضان، فرأى بعضهم أن يُصلى إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة. وأكثر أهل العلم على ما روي عن علي وعمر وغيرهما من أصحاب النبي × عشرين ركعة.

وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي رحمه الله. وقال الشافعي: وهكذا أدركت ببلدنا بمكة، يصلون عشرين ركعة. وقال أحمد: روي في هذا ألوان لم يقض فيه بشيء، وقال إسحاق: بل نختار إحدى وأربعين ركعة على ما روي عن أبي بن كعب، واختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان، واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئاً ( ).

إن هذه الأمور مما لا يصح إنكارها على المسلمين ولا تبديع من قال بها لأنها مما ارتضاه وعمل به أهل الإسلام وهي من السنن التي نقلت عملياً فتكون داخلة في عموم قول النبي ×: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها .... الحديث»، وقد سبق في أثناء الدليل الأول ذكر قول الإمام الشافعي: ومتى كانت عامة من أهل العلم في دهر بالبلدان على شيء وعامة قبلهم، ثم قال: ولم نعلم لهم مخالفاً ونأخذ به، ولا نزعم أنه قول الناس كلهم، ثم قال: وهذا قول من حفظت عنه من أهل العلم .. إلخ. فهذا منهج سلف الأمة فلا يجوز مخالفته لمجرد معارضة بعض المعاصرين حينما أشكل عليهم فهم منهج الأئمة السابقين، والله أعلم.

الدليل الخامس: ما روي عن عثمان رضي الله عنه من أنه كان يدعو عند ختم القرآن هكذا يذكره فقهاء الحنابلة من غير إسناد لكن عمل أتباع التابعين من أهل مكة والبصرة يعطي الطمأنينة إلى قبول هذا المروى عنه رضي الله عنه، فيغني النقل العملي عن وجود إسناده، لما علم من أن عمل الناس أو بعضهم بالحديث يقويه كما هو منهج الإمام الترمذي رحمه الله في كتابه السنن حيث كان يذكر بعد إيراده للأحاديث أن العمل عليها عند بعض أهل العلم أو كلهم.  إن هذا المنهج يعطي الطمأنينة لقبول الحديث ( ) لكونه ورد العمل به. والله أعلم.

ثم إن المتأمل في إنكار بعض المعاصرين من الحنابلة على إمام مذهبهم ليتساءل عن هذا الإنكار كيف يقول به من وقف على أنه من عمل أئمة مكة والبصرة في عصر الإمام مع إن هؤلاء المنكرين والمبدعين لم يقفوا على علم أو حجة خفيت على إمامهم، ولذا فالواجب في مثل هذه الحالة أن يتوقفوا لا أن ينكروا أو يبدعوا على من سبقوهم في الإيمان والتقوى من أهل القرون المفضلة من غير برهان.

إن تعظيم قدر السلف والاحتجاج لهم لا الاعتراض على أقوالهم وتبديعها هو الأمر الواجب على من ينتسب إلى مذهبهم ما لم تظهر له مخالفتهم للكتاب أو السنة أو الإجماع، ونحن لا ندعي العصمة لهم بل نحسن الظن بهم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

 







المبحث الثاني

القول بعدم مشروعية دعاء ختم القرآن

 

نص أقوال من لا يرى مشروعية الدعاء

لا يرى الإمام مالك رحمه الله الدعاء عند ختم القرآن مطلقاً لا في الصلاة ولا خارجها؛ فقد سئل رحمه الله عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو فقال: ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس، وقال أيضاً: يكره الدعاء بعد فراغهم.

وقال أيضاً: ليس ختم القرآن في رمضان بسنة للقيام ( ).

وقد ذهب بعض المعاصرين إلى عدم مشروعية هذا الدعاء، فقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: والخلاصة: أنه ليس من دليل لهذه الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى سوى عمل التابعين في مكة والبصرة. وأنه منقطع الاتصال بعصر الصحابة رضي الله عنهم. وأن التابعين اختلفوا فقال مالك رحمه الله تعالى: ليس عليه عمل الناس. فآل الأمر إلى قاعدة العبادات من وقفها على النص ومورده، ولا نص هنا فبقى الأمر على البراءة وعدم المشروعية والله أعلم.

وقال أيضاً: إن أمراً تعبدياً وهو الدعاء في الصلاة لختم القرآن قبل الركوع، أو بعده، من إمام، أو منفرد لم يثبت فيه شيء عن النبي × بل لم يرو فيه شيء ولا عن صحابته رضي الله عنهم ثم تُعمر به المحاريب .. الخ.

وقال أيضاً: إن أمراً شأنه كذلك لا يتعبد به إلا بنص ثابت في سنده ودلالته، والنص في هذا عن النبي × أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم لم يحصل بعد التتبع البالغ( ).

وقال أيضاً: ومذهب الجمهور من أهل العلم؛ الاحتجاج بما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فقط، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صحة أصول مذهب أهل المدينة، مع الأخذ في الاعتبار بما هو مقرر في أصول الحديث والفقه من أن الصحابي إذا رأى خلاف ما روى فالعبرة بروايته لا برأيه( ).

وقال الشيخ سليمان العلوان وفقه الله  في موقع أهل الحديث الإلكتروني: والدعاء: عند ختم القرآن له حالتان:

الأولى: في الصلاة فهذا بدعة فإن العبادات مبناها على الشرع والاتباع وليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه الله أو سنه نبينا محمد ×، ودون ذلك ابتداع في الدين قال ×: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام وشيخ الإسلام في الاقتضاء قاعدة عظيمة المنفعة في التفريق بين البدعة وغيرها، وهي أن ما وجد سببه وقام مقتضاه في عهد النبي × وعصر الصحابة ولم يقع منهم فعل لذلك مع عدم المانع من الفعل فإنه بدعة كالأذان للعيدين والاستسقاء ونحو ذلك.

ودعاء الختمة في الصلاة من ذلك فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقومون في رمضان ليلاً طويلاً ويتكئون على العصى من طول القيام فهم في هذه الحالة يختمون القرآن أكثر من مرة ولم ينقل عن أحد منهم دعاء بعد الختمة.

وقد قال الإمام مالك رحمه الله: ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن وما هو من عمل الناس. ذكر ذلك عنه ابن الحاج في المدخل....الخ

الدراســــة

هذه النقول هي كل ما وقفت عليه مما له أثر في القول بعدم مشروعية الدعاء، وللإجابة عن هذا أقول:

أولاً: دراسة رأي الإمام مالك رحمه الله:

أ-قوله: ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن:

جواب: إن عدم سماعه رحمه الله ليس حجة على من ثبت لديه صحة الدعاء عند الختم فقد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه ومن المعلوم أن المثبت مقدم على النافي، كما أن عدم العلم ليس علماً بالعدم.

ب-قوله: وما هو من عمل الناس:

جواب: لم يثبت لديه أنه من عمل الناس، ولذا لم يقل به، وعدم علمه لا يصح أن يعارض به قول من ثبت لديه أنه من عمل بعض الناس كما روى الإمام أحمد رحمه الله أنه من عمل أهل مكة والبصرة.

ثم إن مفهوم هذه الجملة يدل على أن الأصل لديه قبول دعاء الختمة لو كانت من عمل الناس؛ لأنه رحمه الله يعتبر عمل أهل المدينة وحدهم حجة ولو لم يوافقهم كل الناس. ولعل هذه الجملة مثل قول الأئمة إذا ثبت الحديث فهو مذهبي، وبناء على هذا فلا يعد رأي مالك مخالفاً لما قال به الإمام أحمد رحمهما الله.

ثانياً: دراسة رأي الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:

أ-قوله: وأنه منقطع الاتصال بعصر الصحابة رضي الله عنهم.

جواب: هذه العبارة مشكل فهمها، فإن أراد بها أنه لم يرو العمل به عن الصحابة رضي الله عنهم أثناء الصلاة فصحيح، وإن أراد بها عدم احتمال تأسي أتباع التابعين ببعض الصحابة فالجزم فيه غير صحيح، لما عرف عنهم من تتلمذهم على بعض تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم وأخذهم العلم والعمل عنهم، مع تزكية النبي × لهم، حيث إنهم من القرون المفضلة، ثم إن ما ينسب إلى عثمان يمنع أن يظن أن هذه الختمة من اختراع أتباع التابعين وأنه ليس لهم سلف من الصحابة.

صحيح أنه لم يثبت إسناد ما روي عن عثمان رضي الله عنه لكن عمل بعض تلاميذ تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم؛ خصوصاً من أهل البصرة، الذين عرف عنهم موالاتهم لعثمان رضي الله عنه يدل على أن له أصلاً يشعر بصحة نسبته لعثمان رضي الله عنه ويكون طريق ثبوته النقل العملي لا النقل عن طريق الإسناد، والله أعلم.

ب-قوله: وأن التابعين اختلفوا فقال مالك: ليس عليه عمل الناس:

جواب: لم تثبت مخالفة أتباع التابعين إلا عن مالك رحمه الله وليس لمالك حجة إلا عدم العلم، وهذه ليست بحجة، لأنه ثبت عن أنس رضي الله عنه دعاء الختم في غير الصلاة ومع ذلك لم يطلع عليه الإمام رحمه الله، ثم إن مقولته تدل على أنه لم يعلم بأنه من عمل بعض الناس، وقد ثبت عند غيره أنه عمل أهل مكة والبصرة فزال التمسك برأي مالك رحمه الله.

جـ ـ قوله: فآل الأمر إلى قاعدة العبادات من وقفها على النص ومورده. ولا نص هنا فيبقى الأمر على البراءة وعدم المشروعية.

جواب: لم يحدد مراده من قوله: ومورده. كما يشكل على هذا قوله: ولا نص. لما علم من دلالة كلمة: النص لدى الأصوليين.

ومن المعلوم أن العبادات تثبت بالنص وغيره، كالقياس والأحاديث الموقوفة والمقطوعة على خلاف. ولا ينكر القياس في العبادات إلا طائفة من العلماء أما الجمهور فيقولون بالقياس، وقد قاسوا في العبادات كثيراً، كالقول بجواز صلاة الكسوف بعد العصر بناء على قاعدة: صحة صلاة ذوات الأسباب في وقت النهي.

ثم إن الأصل في الصلاة أنها أقوال وأفعال ونيات. ومن الأقوال الدعاء فدل هذا على أن دعاء ختم القرآن من جنس الصلاة.

ثم إن فعل أتباع التابعين يعتبر من أنواع الحديث عند المحدثين وهو ما يعرف بالمقطوع فهو حجه عند بعضهم كالإمام أحمد ومالك في أحوال وليس في كل حال.

وهذا الإمام مالك لو ثبت لديه أنه من عمل الناس لقال به كما يدل عليه مفهوم مقولته فبناء على هذا فإنه يشكل حصر الدليل بالنص ومورده.

يؤكد هذا أن الإمام مالكاً لم يشترط ثبوت النص ولا مورده للقول بدعاء ختم القرآن، بل اشترط ثبوت العمل به. إلا أن الشيخ بكراً أكثر تشدداً، فلم يوافق مالك على هذا الشرط؛ بل خالفه فيما يصلح أن يكون دليلاً. وبهذا يكون الشيخ بكر لم يسبق إلى هذا الشرط، مع أنه وافقه على عدم المشروعية، وخالفه فيما يصلح أن يكون دليلاً.

د-قوله: إن أمراً تعبدياً لم يثبت فيه عن النبي × ولا عن صحابته ثم تعمر فيه المحاريب.

جواب: لقد عمرت بهذا الدعاء محاريب أتباع التابعين بمكة والبصرة من غير نكير بينهم، ثم إنهم ممن يتأسى بهم فهم تلاميذ تلاميذ صحابة رسول الله × كما أنهم أبعد الناس عن البدعة لقربهم من زمن النبوة، فالاتباع لديهم ظاهر والبدعة منكرة، وكلما بزغت بدعة صاحوا بصاحبها وحذروا منه، فكيف تعمر محاربيهم بهذا الدعاء البدعي وهم ساكتون، ثم إنهم ممن زكاهم رسول الله ×؛ فلا يجوز سلب هذه التزكية عنهم، واعتبار أعمالهم كأعمال القرون المتأخرة؛ بل هم القدوة ولهم الإمامة رحمهم الله: وقد قال الله لنا في شأنهم وشأن غيرهم ﮋ ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ      ﭘ     ﭙ  ﭚ  ﭛ  ﭜ  ﮊ، ثم إنه عمل جماعي لم ينكره أحد ممن كان موجوداً بمكة والبصرة زمن فعله وليس مجرد رأي لأحدهم لم يطلع عليه أحد، والله أعلم.

هـ-قوله: إن أمراً شأنه كذلك لا يتعبد به إلا بنص ثابت في سنده ودلالته.

جواب: لقد نص بعض المحدثين على الاحتجاج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشروط ذكروها كما هو رأي الإمام أحمد وغيره ولم يشترطوا صحة السند ولا ثبوته خلافا لما قرره رحمه الله.

والسبب في ذلك أن الدليل إذا ثبت في مشروعية أصل العبادة فيصح التساهل في الاحتجاج بفضلها، وقد ثبت الدليل على مشروعية دعاء القنوت في الفرائض والنوافل معاً كما صح الدليل على مشروعية الدعاء لمن قرأ آية رحمة، والاستعاذة لمن قرأ آية عذاب، كما ثبت الدليل من فعل أنس رضي الله عنه أن لمن ختم القرآن دعوة مستجابة، ولذلك كان يدعو ويجمع أهله عليه ومثل هذا لا يقال بالرأي، فبهذا يصح الاحتجاج على دعاء الختم بالحديث المحتمل للثبوت خلافاً لما قرره الشيخ رحمه الله.

و – قوله: ومذهب الجمهور من أهل العلم الاحتجاج بما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فقط، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

جواب: من المقرر لدى الأصوليين أنه لا يُلزم مجتهد بقول مجتهد آخر، ولذا فإن احتجاج الإمام أحمد بعمل أهل مكة والبصرة مع أنه ليس فيهم أحد من الصحابة رضي الله عنهم. لا يصح إضعافه بناء على أنه خلاف مذهب الجمهور؛ لأن الخلاف في حكم الاحتجاج بالمقطوع وارد كما سبق بيانه في الدليل الأول.

والشيخ لم يناقش وجه استدلال الإمام أحمد بعمل أهل مكة والبصرة، ولذا لم يناقش حكم الاحتجاج بعمل أهل مكة. هل هو حجة أو هو أمر يحتاج إلى حجة. أما إلزام الحنابلة بما قرره ابن تيمية فلا يصح، ومع هذا فإن ابن تيمية رحمه الله يرى مشروعية هذا الدعاء.

وهو ما قرره تلميذه ابن القيم، ومع هذا فلم يناقش الشيخ بكر رأي الشيخين، فصار الموضوع بحاجة إلى إعادة الدراسة، والله الموفق.

ز ـ قوله: ومع الأخذ في الاعتبار بما هو مقرر في أصول الحديث والفقه من أن الصحابي إذا رأى خلاف ما روى فالعبرة بروايته لا برأيه.

جواب: هكذا أطلق ما نسبه للأصوليين من أن العبرة بما روى الصحابي لا بما رأى، وهذا غير صحيح، بل في المسألة تفصيل جاء بيانه في كتاب المسودة لآل تيمية ص116( )، وخلاصته: أن هذا الخلاف يعود إلى أربع مسائل، ومن أبرزها أن الراوي إذا خالف الرواية الصريحة فالعبرة بما روى، بخلاف ما إذا كان الحديث يحتمل التأويل فيجب حمل كلام الصحابي على أنه تفسير لروايته.

ولعل الشيخ تابع ابن القيم في هذا، فقد ذكر في إعلام الموقعين (3/40) مجموعة من الأحاديث وحملها على أن العبرة فيها بالرواية وليس بالرأي، مع أنها متنوعة، فمنها ما يحتمل التأويل ومنها ما لا يحتمل التأويل.

والواجب في مثلها التفصيل في التوفيق بين الأحاديث التي خالفها رواتها، وقد ذكرت هذا في رسالة: الطلاق البدعي.

تنبيه: ذكر الشيخ أن مالكاً من التابعين، والصواب أنه من أتباع التابعين؛ لأن ولادته بعد موت آخر الصحابة وهو أنس بن مالك رضي الله عنه.

الاعتراض على رأي الشيخ سليمان العلوان الوارد في ملتقى أهل الحديث:

1ـ قوله: فهذه بدعة، فإن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، وليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرع الله أو سنه نبينا محمد ×... الخ.

جواب: إن تبديع دعاء ختم القرآن بناء على هذه القاعدة خطأ، لم يحالف قائله الصواب لأن الخلاف فيه قائم على الاختلاف في هذا الدعاء هل هو من الشرع والاتباع أو هو من الضلال والابتداع. ولم يورد هذا المخالف الدليل على أنه ليس من الشرع بل نهاية احتجاجه أنه لم يقف على دليل من قال: إنه من الشرع فحكم ببدعيته ثم احتج بهذه القاعدة التي لا خلاف فيها.

والمنهج العلمي أن يبحث عن دليل السلف القائلين بشرعيته، فيبطله إن استطاع، وإن لم يقتنع به فليتوقف؛ لا أن يحكم ببدعيته؛ لأنهم سبقونا إلى الإيمان والعمل الصالح وهم أسلم الناس من البدع ومحدثات الأمور، وقد أدبنا الله تعالى بقوله: ﮋ ﯯ  ﯰ  ﯱ  ﯲ  ﯳ  ﯴ  ﯵﯶﮊ( )، وبقوله: ﮋ ﮣ  ﮤ  ﮥ  ﮦ  ﮧ  ﮨ  ﮩﮪ ﮊ( ).

ورحم الله الإمام الشافعي حينما قال في حق الصحابة: وإن قال واحد منهم ولم يخالف غيره أُخذ بقوله؛ فإنهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعدل وأمر استدرك به علم أو استنبط به قياس، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من اتباعنا لأنفسنا( ).

قلت: ونحن نقول مثل ما قال هذا الإمام في حق أئمة أتباع التابعين بمكة والبصرة، وهو ما ارتضاه الإمام أحمد لنفسه ولمن يقتدي به، ويعمل بفتواه.

أما دليل القائلين به فمبناه على حكم الاحتجاج بنوع من أنواع الحديث وهو المقطوع وهو قول التابعي وفعله، وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا قول تابعي التابعي.

قلت: إن احتجاج الإمام أحمد رحمه الله بعمل أهل مكة والبصرة، وقوله: فيهم سفيان بن عيينة رحمه الله وهو من أتباع التابعين يدل على احتجاجه بالمقطوع الذي هذه صفته، خصوصاً وأن هذا قد عرف بين أهل مكة والبصرة؛ فهو اتفاق من أهل المصرين.

والإمام مالك رحمه الله كان يحتج بعمل أهل المدينة؛ لأن اتفاقهم على العمل أقوى عنده من الاحتجاج بالرواية المرفوعة في حالات كثيرة، ؛ لأن هذا النقل العملي يدل على اتفاقهم على ذلك.

وبناء على هذا فإن دعاء الختم من أنس رضي الله عنه وكذا ما روي عن بعض أتباع التابعين قد أخذ حكم الحديث المرفوع بناء على ما قرره ابن العربي، ولا يأخذ حكم المبتدعات في الدين( )، والله أعلم.

2ـ قوله: ولم ينقل عن أحد منهم دعاء بعد الختم.

جواب: لقد نقل عن أنس بسند صحيح أنه كان يختم في غير الصلاة، كما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يختم داخل الصلاة، إلا أنه لم يوجد له إسناد، لكن عمل أهل مكة والبصرة يدل على أنه مروي عن الصحابة؛ لأنه يبعد أن يخترعوه من أنفسهم؛ كيف وقد فضلهم النبي × على من بعدهم. ثم إنه عمل أقل أحواله أن يكون من عمل أتباع التابعين المروي عن الصحابة رضي الله عنهم. لأننا إن لم نقل بهذا لزم منه القول ببدعيته. وهذا لا يجوز القول به في حق سلف الأمة وخيارها وقد اعتبره من اطلع عليه ممن جاء بعدهم من الأعمال الفاضلة كما هو موقف إمام أهل السنة، وقامع البدعة.

فالواجب أن نحسن الظن بهؤلاء السادة لا أن يأتي أحد من أهل القرون المفضولة فيُبدِّع بعض أعمال أهل القرون الفاضلة، الذين عرف عنهم صدق الاتباع ومحاربة الابتداع.

3ـ قوله: وقد قال الإمام مالك رحمه الله: ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن.... الخ.

جواب: قرر الإمام مالك رحمه: حكمين أحدهما، عدم مشروعية دعاء الختم، والثاني: عدم مشروعية ختم القرآن في قيام الليل.

فأخذ المنكرون للدعاء بالرأي الأول، ولم يأخذوا بالرأي الثاني، بل لم يناقشوه أصلاً، ولا أدري لماذا فرقوا بين الرأيين فوافقوا الإمام مالك في عدم مشروعية دعاء الختم، ولم يوافقوه في حكم قراءة الختمة في صلاة القيام.

ثم خالفوا الإمام أحمد في هذا الدعاء، ووافقوه في ختم القرآن كاملاً في قيام الليل، وقد سبق توجيه قول الإمام مالك هذا، وبيان أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، ولذا لا يصح تقديم قول من لم يعلم على قول من علم.

4ـ قوله: فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقومون في رمضان ليلاً طويلاً ويتكئون على العصي من طول القيام فهم في هذه الحالة يختمون القرآن أكثر من مرة، ولم ينقل عن أحد منهم دعاء بعد الختمة.

جواب: يرى الإمام مالك رحمه الله أنه لا يسن في رمضان ختم القرآن كاملاً في صلاة القيام، فهل خفيت عليه هذه الختمات المنسوبة للصحابة رضي الله عنهم؟ أم إن في ثبوتها عن الصحابة شيئاً، إن الأمر يحتاج إلى مزيد بحث، وقد أرسل ما نسبه إلى الصحابة رضي الله عنهم من غير إيراد إسناده؛ خصوصاً وأن هذه الختمات المنسوبة للصحابة في قيام الليل، قد خفيت على الإمام مالك رحمه الله؛ لأنه قرر عدم سنية الختم في القيام، ولو ثبت عنده ختم الصحابة لقراءة القرآن كاملاً في صلاة القيام لقال به، والله أعلم.

5- قوله: ولم ينقل عن أحد منهم دعاء بعد الختمة.

جواب: هذا صحيح ، فلم ينقل إلا عن عثمان رضي الله عنه بغير سند كما أنه لم ينقل عن أحد منهم أيضاً نهيه عن الدعاء بعد الختمة، ولذا لا يصح اعتبار عدم ثبوت الختم عنهم. كنهيهم عن الختم، كما لا يصح الاحتجاج بعدم ورود الدعاء عنهم على عدم المشروعية.

وأقرب الأمرين ثبوتاً عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون؛ لأن بعض أتباع التابعين ثبت عنهم فعل ذلك وهم من أقرب الناس زمناً للصحابة رضي الله عنهم بعد شيوخهم التابعين كما أنهم أبعد الناس عن الابتداع، ولذا اعتبر الإمام ابن العربي رحمه الله أن عمل التابعين الذي لا مجال للاجتهاد فيه يأخذ حكم المرفوع، لأنهم يُعدون من القرون المفضلة، ولذا فإن حسن الظن بأتباع التابعين بمكة والبصرة واعتقاد إمامتهم في الدين، وحرصهم على الإتباع وبعدهم عن الإبتداع يرجح اعتبار هذا العمل مأثوراً أيضاً عمن سبقهم، والأمر على ما قال ابن حزم رحمه الله: وهو أن أتباع التابعين أخذوا علمهم عن التابعين وأن التابعين أخذوا علمهم عن الصحابة رضي الله عنهم، فكل واحد مجتهد مأجور، كما يؤكد هذا احتجاج الإمام أحمد رحمه الله بعملهم.

6ـ قوله: وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام وشيخ الإسلام في الاقتضاء قاعدة عظيمة المنفعة في التفريق بين البدعة وغيرها، وهي أن ما وجد سببه وقام مقتضاه في عهد رسول الله × وعهد الصحابة... الخ.

جواب: إن قول النبي ×: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، يغني عن هذه القاعدة التي يصعب تصورها حتى على المحتج بها على أن دعاء الختمة بدعة. يؤكد هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية ممن يقرر هذه القاعدة؛ لكنه لم يقل ببدعية هذا الدعاء؛ بل ظاهر قوله يدل على أنه يقول باستحباب ختم القرآن( )، وقد أقر ابن القيم هذا الدعاء واعتمده( )، فهل ذهل ابن تيمية عن الإفادة منها؟ أو أنه لا يرى صحة الاحتجاج بها على اعتبار دعاء الختم من البدع؟ هذا هو الصواب، وإنني أتساءل كيف يعتبر ما أثر عن السلف أو بعضهم وهو ما عمل به من نصر الله بهم الحق، من البدع وليس من الدين؟!

وقد عرَّف الإمام الشافعي رحمه الله البدعة بقوله: المحدثات ضربان: أحدهما ما حدث يخالف كتاباً أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة( )، والله المستعان.

7ـ استمعت إلى أحد المقاطع باليوتيوب بصوت سليمان العلوان ، وهو يقول: إن دعاء ختم القرآن في الصلاة بدعة، وأن بعض الناس حينما يسأل عن حكم الاحتفال بمولد النبي × يقول بدعة؛ لأنه لم يفعله النبي ×، وأنت فعلك هل فعله النبي ×، ما الفرق بين بدعة المولد، وبدعة دعاء ختم القرآن؟ لا فرق، فالنبي × لم يفعل لا هذا ولا هذا، وإن كنت تقول: إن هذا فَعَله بعض العلماء فذاك أيضاً فَعَله بعض العلماء، كابن حجر وغيره، فالقضية ليست قضية احتجاج بأقاويل العلماء والقضية قضية احتجاج بالسنة، فالعبادات مبناها على التوقيف. ثم قال في آخر المقطع: فإذا شرع الإمام في ذلك فعلى الإنسان أن يفارقه على هذا الحالة.

جواب: إن في التسوية بين هاتين العبادتين إشكالاً؛ لأن دعاء ختم القرآن خارج الصلاة، ورد عن بعض الصحابة وبعض التابعين، كما ثبت العمل به داخل الصلاة عن أتباع التابعين بمكة والبصرة، وهو منسوب لعثمان رضي الله عنه، فهو قول من يحتج بقولهم على خلاف في ذلك. ثم إن اختلاف أتباع التابعين كاختلاف الصحابة والتابعين؛ بأن كل مجتهد منهم مأجور أصاب أو أخطأ، كما قال ابن حزم رحمه الله، فالقول بمشروعيته داخل الصلاة أخذ به أئمة كبار، كالإمام أحمد رحمه الله قبل الركوع، والإمام ابن المبارك في السجود، ثم إن أصل الدعاء في الصلاة مشروع كدعاء القنوت في الفرض والوتر، كما أن معنى الصلاة في اللغة هي الدعاء، فدعاء الختم هو من جنس الصلاة.

وبناء على هذا فلا تصح التسوية بينه وبين الاحتفال بالمولد الذي اخترعه أصحاب القرون المفضولة؛ بل هو من أعمال الصوفية؛ بل يقال بأن أول من فعله الفاطميون العبيديون الذين هم شر من الرافضة وكان هذا الإحداث في القرن الخامس الهجري، ولذا فلا يصح أن يستدل له بما ثبت لدعاء الختم من الأدلة.

إن تشبيه دعاء ختم القرآن في الصلاة، ببدعة الاحتفال بالمولد هو من تشبيه الحق بالباطل، وقد صليت بمسجد من مساجد دمشق حرسها الله أثناء رحلتي عام 1399هـ( )، فأقيم الاحتفال بالمولد إما على الطريقة الشاذلية أو الطريقة القادرية، لا أفرق بينهما، فسمعت الألفاظ المنكرة شرعاً، كما شاهدت الحركات التي لم يرد بمثلها الشرع، فكيف يصح هذا التشبيه بما روي أصله خارج الصلاة عن أحد صحابة رسول الله × كما قام به بعض سادات علماء الأمة من أتباع التابعين، ورضيه إمام أهل السنة والجماعة، ثم إنه من جنس ما ورد فعله في الصلاة، وقد عكس بعض المتصوفة هذا الاستدلال، فقالوا: على من قال بدعاء ختم القرآن أن يقول بمشروعية المولد؛ لأن كلاً منهما لم يرد فيه سنة، والله المستعان.

إن إعطاء هاتين العبادتين حكماً واحداً، قول منكر وعلى من قال به، إعادة النظر والرجوع عنه، وإن أقرب الأعمال شبهاً بدعاء ختم القرآن: ما قام به الأمير خالد القسري من إدارة الصفوف حول الكعبة أثناء الصلاة. فقد ذكر ابن فهد رحمه الله: في حوادث سنة 93هـ وهي السنة التي ولي فيها خالد إمارة مكة بعض أعمال خالد فقال: وقد فعل خالد بن عبد الله القسري بمكة المشرفة أفعالاً من غير معرفة للسَّنة التي فعلها فيها، فأحببت ذكر ذلك هنا لئلا يخلو منه هذا الكتاب:

فمن ذلك أن الناس كانوا يقومون قيام شهر رمضان في أعلى المسجد؛ تُركز حربة خلف المقام بربوة فيصلي الإمام خلف الحربة والناس وراءه، فمن أراد صلى مع الإمام، ومن أراد طاف وركع خلف المقام. فلما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة لعبد الملك بن مروان وحضر شهر رمضان أمر خالد الأئمة أن يتقدموا فيصلوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة؛ وذلك أن الناس ضاق عليهم أعلى المسجد فأدارهم حول الكعبة، فقيل له يمتنع بذلك الناس من الطواف. قال: فأنا آمرهم يطوفون بين كل ترويحتين سبعاً؛ فأمرهم ففصلوا بين كل ترويحتين (بطواف سبع) فقيل له: فإنه يكون في مؤخر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف الطائفين من مُصلٍّ وغيره فيتهيأ للصلاة. فأمر عبيد الكعبة أن يكبروا حول الكعبة ويرفعوا أصواتهم في الطواف بالتكبير وإذا بلغوا الحَجْر يقولون: سبحان الله والحمد لله والله أكبر. فإذا بلغوه في الطواف السادس سكتوا؛ فَصَلوا بين التكبير بسكتة، فيكون ذلك إعلاماً للناس أن الطواف على انقضاء، فيتهيأ من في الجِجْر ومن في جوانب المسجد من مُصلٍّ وغيره فيخفف صلاته، ثم يعود الطائفون بالتكبير حتى يفرغوا من السبع. ثم يقوم مناد فينادي: الصلاة رحمكم الله. ولا تنقضي صلاتهم حتى يطلع الفجر، وكان على جبل أبي قبيس رئية يرقب طلوع الفجر للمسحرين، فإذا بان له نادى: أمسكوا رحمكم الله.

وكان عطاء بن رباح، وعمرو بن دينار ونظراؤهم من العلماء يحضرون ذلك فلا ينكرونه( ).

ومن المعلوم أن إدارة الصفوف بقيت إلى يومنا من غير إنكار وإنها من السنن الحسنة التي أحدثت في الإسلام، فهي لم تكن موجودة زمن النبي × ولا زمن أصحابه، وكذا دعاء الختم بقي بمكة إلى يومنا، وبناء على هذا فإنه يلزم من قال ببدعية دعاء ختم القرآن داخل الصلاة وتحريمه أن يقول ببدعية إدارة الصفوف حول الكعبة؛ لأنها كلها من أعمال التابعين أو تابعيهم، وإن لم يسو بينهما في الحكم فقد تناقض، فعلى من يتولى الفتيا أن يعتني بدلالة الأحكام، حتى يستقيم أمره، وتصح فتواه.

وقد قام ابن جماعة رحمه الله بدراسة أحكام الصفوف المدارة حول الكعبة في كتابه المفيد هداية السالك ص941، وذكر ابن فهد أيضاً أن من أعمال خالد القسري: أن الرجال والنساء كانوا يطوفون معاً مختلطين حتى ولي مكة خالد لعبد الملك ففرق بين الرجال والنساء في الطواف، فأجلس عند كل ركن حرساً معهم السياط، فيفرقون بين الرجال والنساء، وهو أول من فرق بينهما( ).

8- قوله: فإذا شرع الإمام في ذلك فعلى الإنسان أن يفارقه على هذه الحالة.

جواب: إن منهج علماء السنة والجماعة الدعوة إلى الائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف، وهذا أحد ساداتهم وهو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما علم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أتم الصلاة بمنى استرجع، ثم أتم الصلاة بأصحابه فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر. فلم يدع إلى مخالفة عثمان رضي الله عنه فضلاً عن أن يدعو إلى مفارقته في الصلاة.

كما نص الأئمة على أنه لا يجوز مفارقة أئمة الصلاة بسبب الخلاف في المسائل الاجتهادية، كالاختلاف في نواقض الوضوء مثلاً.

فلا يجوز للحنابلة أن يفارقوا أئمة الصلاة من المالكية والشافعية والحنفية إذا صلوا بعد ما أكلوا لحم الجزور ولم يتوضؤا مع أن الحنابلة يرون انتقاض الوضوء من لحم الجزور.

كما لا يجوز لأتباع المذاهب أن يتخلفوا عن الصلاة خلف الأئمة من الحنفية؛ لأنهم لا يرون انتقاض الوضوء من مس النساء ولو بشهوة، وها نحن كنا نصلي خلف الشيخين الإمامين عبدالعزيز ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله مع أنهما يريان رأي الحنفية في حكم الوضوء من مس النساء بشهوة، ومن المعلوم ضعف هذا القول عند جمهور العلماء، لمخالفته ظاهر القرآن.

ولم تكن الدعوة منتشرة إلى مفارقة الأئمة في الصلاة بسبب الخلاف الفقهي إلا حينما ضعفت الأمة ودب بينها الخلاف، حتى تكلم بعضهم في حكم نكاح الشافعي من الحنفية أو نكاح الحنفية من سائر المذاهب.

إنني أنصح إخواني بأن يتقوا الله في أمر عامة المسلمين، فقد ذم الله الفرقة، ودعا عباده إلى الاعتصام بالكتاب والسنة ونبذ الخلاف.

وإنني أسأل هل يريد من المصلين في الحرمين الشريفين وغيرهما من المساجد أن ينفضوا من الصلاة خلف الأئمة بعد أن يبدؤوا بدعاء الختم؟ وهل أحد سبقه إلى الدعوة لمثل هذا؟.

قال ابن تيمية رحمه الله: وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد يتبعه المأموم فيه، وإن كان هو لا يراه، مثل القنوت في الفجر ووصل الوتر وإذا ائتم من يرى القنوت بمن لا يراه تبعه ولا يتركه( ).

وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطا مغفوراً له، قمنا عليه، وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة. ا.هـ ( ).

وقد أوردت في مبحث تبديع دعاء ختم القرآن ما قاله الإمام ابن أبي العز رحمه الله من وجوب متابعة الأئمة في الصلاة ولأهميته وشدة الحاجة إليه فقد رأيت إيراده هنا مرة أخرى فقال رحمه الله تعالى: وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن وليّ الأمر وإمام الصلاة، والحاكم وأمير الحرب، وعامل الصدقة: يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه، في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف، أعظم من أمر المسائل الجزئية ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض، يروى عن أبي يوسف: أنه لما حج مع هارون الرشيد، فاحتجم الخليفة، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليت خلفه( )؟ قال: سبحان الله! أمير المؤمنين. يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع، وحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري، أن رسول الله × قال: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم، نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه، لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظوراً اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يُطلق من الحنفية والشافعية والحنابلة أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح إقتداؤه به!! فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد( ).

وقد سبق أن استشهدت بقوله ×: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، وبقوله ×: فإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين، فوجب بهذا متابعة الإمام مع قدرة المأموم على القيام وترك ركن من أعظم أركان الصلاة.

وإن من الآثار السيئة لمثل هذه الدعوة أن بعض المأمومين المعاصرين يعمد إلى التقرب إلى الله تعالى بمفارقة الأئمة الذين يصلون صلاة التراويح ثلاثاً وعشرين ركعة بعدما يصلي معهم عشر ركعات. بحجة أن الزيادة على هذا العدد بدعة لا يجوز فعلها مع أن هذا خلاف ما جاء في كتاب الله تعالى من مدح المكثرين من قيام الليل، كما أن منهم من يعمد إلى مفارقة الأئمة إذا أرادوا أن يصلوا التسليمة التي يدعوا بها دعاء ختم القرآن محتجين بنفس الحجة السابقة، وربما يجلس أحدهم وسط الصف وهذا ما نشاهده أحياناً أثناء دعاء الختم في الحرمين الشريفين. وربما أمن بعضهم على دعاء الإمام مع أنه غير متابع له في الصلاة. وفي هذا مخالفة لما قرره أئمة سلف الأمة، كما أنهم خالفوا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة كما قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله. بل إنهم فروا مما زعموا أنه بدعة، فوقعوا في عمل أهل البدع وهو مفارقة الأئمة في مسائل الخلاف، ومع هذا فإن الذين يجلسون وسط الصف قد وقعوا في مخالفة سنة أخرى حيث قطعوا الصف مع أنه منهي عن فعله.

وإنني بهذه المناسبة سوف أذكر أثراً سيئاً وجد في أمة الإسلام وهو أن مدينة الري بأرض خراسان كانت من المدن العظيمة لأهل السنة والجماعة وانتسب إليها جم غفير من الفقهاء والمحدثين والمفسرين باسم الرازي. وكانت هذه المدينة تضم ثلاث طوائف وهم الشافعية والحنفية والشيعة فقامت حروب عظيمة بين الشافعية والحنفية حتى أنهكت كل طائفة الأخرى، فلما وهنوا انقضت على بقيتهم الرافضة فأبادوا خضراءهم، وذهبت ريحهم. وكان الشيعة يسكنون في وقت قوة أهل السنة في حي فقير اسمه «طهران» فلما قامت دولة الشيعة صارت طهران هي العاصمة وصارت الري حياً فقيراً منسياً( ).

ومن المعلوم أن كل عواصم العالم فيها مسجد أو مساجد لأهل السنة والجماعة إلا طهران، وكل هذا بسبب الخلاف فعلى الشباب أن يأخذوا العظة والعبرة من السابقين فلا ينفخوا في كير الفرقة والفتنة حتى لا تقع المصائب في مجتمعاتهم والله الهادي إلى الصواب. 

9- تنبيه: لقد رأيت في موقع أهل الحديث في الإنترنت مقالة عن المسح على الخفين كتبها الشيخ سليمان وجاء فيها: وأما تقييد كلام النبي × بكلام بعض الفقهاء الذين هم بشر يخطئون ويصيبون فهذا أمر لا يجوز.

جواب: لقد أجبت عن هذا في رسالتي مسائل المسح على الخفين ص108، وبينت أن كلام الفقهاء مستنبط من حديث رسول الله × وليس تقييداً لكلامه × بكلامهم، والمقصود من هذا التنبيه نصيحة الإخوان وحثهم على عدم التسرع في توجيه النقد للسلف والاعتراض عليهم أو تبديع عمل من أعمالهم بلا حجة؛ بل لمجرد عدم معرفة الحجة للأئمة الأخيار، ثم إن تقييد كلام النبي × بكلام الفقهاء لو ثبت لوجب تفسيق من تعمد القول به، فكيف يجوز إطلاق هذا الحكم على فقهاء الأمة المعاصرين والسابقين، والله الهادي إلى سواء السبيل.

التـرجيـــــح

إن الدعاء في الصلاة مشروع إذا ورد سببه. ومن هذه الأسباب ختم القرآن الكريم ولذا كان علماء مكة والبصرة يفعلونه لورود سببه، ولم ينكره أحد إلا الإمام مالك وقد سبق الجواب عنه ولذا فلا يصح أن ينسب فعلهم إلى البدعة بل هو ذكر لله تعالى ففعله حسن وتركه لا إثم فيه.

وأشبه شيء بهذا الدعاء صلاة ذات الأسباب في أوقات النهي، فقال بها الشافعية، وخالفهم الجمهور، ولا يصح أن يوصف هذا القول بأنه بدعة؛ لأن النبي × لم يفعله؛ بل إن الدليل عليه هو القياس، وعمل أتباع التابعين.

ومن المعلوم أن الله تعالى يحب الذاكرين له كثيراً ولذا شرع الذكر لأسباب كثيرة كدخول الخلاء والخروج منه ودخول المسجد والخروج منه، بل أمر الله بالذكر في كل حال فضلاً عن تغير الأحوال.

إلا أن بعض الفقهاء المعاصرين قد يفوتهم هذا القياس فربما نهوا عن بعض الأذكار لكونهم لم يقفوا على دليل خاص بهذا الذكر فمن ذلك نهي أحدهم عن الاستعاذة بعد التثاؤب بحجة عدم ورود دليل له يخصه، ولو قاسه على سائر الأذكار لورود السبب لما أنكر هذا، يؤكده أن الناظر في دلالة قول الله تعالى: ﮋﭽ  ﭾ  ﭿ    ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮊ ( ).

وفي قول النبي ×: «التثاؤب من الشيطان»( ). يجد الدليل على ذلك. وقد روى ابن أبي شيبة رحمه الله عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: التثاؤب في الصلاة والعطاس من الشيطان، فتعوذوا بالله منه ( ).

وقد بحثت كثيراً في كتب الأذكار فلم أقف على كلام لأهل العلم في حكم هذا الذكر إلا هذا القول المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه إلا أني سألت بعض عوام الناس من أهل البلدان هل الناس لديكم يستعيذون عند التثاؤب؟ فأجابوا بنعم، فعمل الناس هذا ينزل على دلالة الآية والحديث.

ومع هذا فإن القياس مما يصعب الاحتجاج به؛ لأنه يحتاج إلى جمع الأشباه والنظائر، ثم سبر وجه الشبه الذي يمكن على ضوئه إلحاق حكم ما لم يرد فيه دليل بما ورد فيه الدليل كمسألة دعاء ختم القرآن كما يحصل الخطأ في القياس من وجه آخر، وهو أن يقاس ما لا يصح فيه القياس؛ ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله إن القياس من الأبواب التي يكثر فيها الخطأ( ).

ومن ذلك ما سبق ذكره في مبحث القياس في العبادات من أنه لا يصح القياس إذا خالف نصاً، وقد مثلت لهذا بقول بعض المعاصرين: إن كان السهو في الصلاة عن نقص فيكون السجود قبل السلام، وإن كان عن زيادة فيكون السجود بعد السلام. ووجه مخالفته للنص، أن النبي × قال عن الصلاة: تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فالأصل في السجود أن يكون قبل السلام، إلا ما ورد استثنائه في السنة.

ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس يؤخر الصلاة على الميت إلى ما بعد صلاة العصر مع إمكان الصلاة عليه قبل صلاة العصر كمن يموت ليلاً أو ضحى أو بعد الظهر مثلاً إلا أن الجنائز تجمع أمام المصلين ثم لا يصلى عليها إلا بعد صلاة العصر بحجة أن صلاة الجنائز يجوز فعلها في وقت النهي لأنها من ذوات الأسباب.

وهذا العمل في ظني محل إشكال لأن صلاة الجنائز لا تكون من ذوات الأسباب إلا إذا لم يتمكن الناس من الصلاة عليها إلا بعد الصلاة كمن يموت مثلاً بعد العصر أو لم يتمكن أهله من تهيئته للصلاة عليه إلا بعد الفراغ من الصلاة أما أن يعمد الناس إلى تأخير الصلاة عليه حتى الانتهاء من صلاة العصر بحجة كثرة المصلين عليه فهذه ليست بحجة تجيز الصلاة عليه في وقت النهي لإمكان أن يصلوا على الجنائز قبل إقامة الصلاة لئلا يخالفوا نهي النبي × فيصلوا عليه بعد العصر بلا دليل لا من السنة ولا من القياس الصحيح؛ لأن وقت النهي لا يبدأ إلا بعد صلاة العصر.

وقد حكى الإمام ابن قدامة رحمه الله عدم الخلاف في جواز الصلاة على الجنازة بعد العصر( ) إلا أن هذا الإجماع محمول على من لم يتمكن أهله من الصلاة عليه إلا بعد العصر أو الفجر لا لمن تعمد أهله تأخير الصلاة عليه إلى وقت النهي. 

وسبب هذا الإشكال الخطأ في القياس، وما مثل من تعمد تأخير صلاة الجنازة إلى ما بعد العصر إلا كمن يؤخر صلاة الكسوف إلى ما بعد صلاة العصر أيضاً كأن تنكسف الشمس بعد صلاة الظهر مثلاً فيؤخروا صلاة الكسوف فلا يصلوها إلا بعد العصر بحجة كثرة المصلين لاجتماعهم لصلاة العصر علما أن صلاة الكسوف لا تكون من ذوات الأسباب إلا إذا كسفت بعد الانتهاء من صلاة العصر. ومن المعلوم أن تعمد تأخير الصلاتين خلاف السنة ؛ لأن كلاً منهما مأمور بالمبادرة إلى فعلهما، كما يشملها النهي عن صلاتهما بعد العصر.

وقد أدركت الناس قبل وجود ثلاجات الموتى يبادرون إلى صلاة الجنائز بمجرد تجهيزها ولا ينتظرون تجمع الناس من البلدان البعيدة. إتباعاً لحث النبي × على الإسراع بدفن الموتى ولأنه يمكن من فاتته الصلاة عليه قبل الدفن أن يصلي عليه بعد الدفن. والله أعلم وأحكم.

 

الخاتمـــــــة 

في موضع دعاء الختم من صلاة التراويح

يستحب للأئمة أن يختموا قراءة القرآن في صلاة التراويح، فإذا انتهى الإمام من قراءة سورة الناس دعا قبل الركوع لئلا يفصل القراءة عن الدعاء بعبادة الركوع والتكبير والتسبيح والتسميع والتحميد، ولأن أنساً رضي الله عنه كان يدعو بعدما يختم مباشرة من غير فصل، ولذا كان يحضر أهله قبل الختم. 

ثم إذا انتهى الإمام من صلاة التراويح قام فصلى صلاة الوتر فيقرأ في الأولى بسبح والثانية بالكافرون والثالثة بسورة الإخلاص، ثم يدعو مرة أخرى في وتره. هكذا نص عليه الإمام أحمد، وقد سئل أندعو مرتين فقال: نعم إن الله لا يمل حتى تملوا( )، وسبب تكرار الدعاء لتعدد سببه.

إلا أن بعض المعاصرين جعل ختمته في صلاة الوتر حتى يكون الدعاء في قنوت الوتر محافظة منهم على هذا الدعاء وأملاً في السلامة من الأخذ بهذا الدعاء المختلف فيه.

إلا أنهم أخلوا بقراءة صلاة الوتر حيث خالفوا السنة فلم يقرؤوا سبح والكافرون وسورة الإخلاص( ) بل قرؤا في الوتر سوراً لم يكن النبي × يقرؤها في الشفع والوتر كل هذا من أجل أن يختموا في الوتر حتى يحصل لهم هذا الدعاء المستحب. وفي هذا من الإشكال ما ترى، فهم يرون أن للخاتم دعوة مستجابة فيتحرونها بهذا الدعاء، مع أنهم لا يرون فعلها في صلاة التراويح بل في صلاة الوتر، فخالفوا سنة القراءة لهذه الصلاة.

ومما يستحب العناية به قراءة القرآن كاملاً في صلاة التراويح حتى يسمعه من لا يستطيع قراءته كعوام المسلمين فيحصل الثواب لجميع المأمومين مرتين أحدهما سماع القرآن كاملاً في صلاة التراويح والثانية فضيلة حضور دعاء الختام، إلا أن بعض الأئمة يواصلون القراءة في الصلوات الجهرية حتى يتمكنوا من ختم القرآن وفي هذا مخالفة لجمهور السلف، فالأولى التقيد بما روي عن عمر رضي الله عنه من كيفية القراءة، ومما ينبغي عناية الأئمة به في دعاء الختم الإكثار من الأدعية الواردة في الكتاب والسنة، وجوامع الأدعية، وأن يجتنبوا الأدعية المتكلفة والمصنوعة، وألا يكون التطويل في الدعاء مراداً لذاته بل من أجل سؤال الله خيري الدنيا والآخرة ودفع البلايا والرزايا عن المؤمنين. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

كتبــــه

أ.د. إبراهيم بن محمد الصبيحي

27/12/1435هـ

 

فهرس الموضوعات

المقدمة 5

خطة البحث 12

التمهيد

أولاً: منشأ الخلاف في الدعاء في التراويح 16

ثانياً: حكم تبديع دعاء ختم القرآن 26

ثالثاً: حكم التبديع في مسائل الخلاف 34

رابعاً: حكم الترجيح بعدم الدليل 39

خامساً: القياس في العبادات 45

المبحث الأول

القول بمشروعية دعاء ختم القرآن

مواضع دعاء ختم القرآن 52

أدلة دعاء ختم القرآن في الصلاة 55

الدليل الأول: عمل تابعي التابعين من أهل مكة 55

الدليل الثاني: القياس على أدعية القنوت 63

الدليل الثالث: عدم إنكار الأئمة لدعاء الختم 66

الدليل الرابع: الاحتجاج بما عليه العمل 67

الدليل الخامس: ما روي عن عثمان رضي الله عنه 73

المبحث الثاني

القول بعدم مشروعية دعاء ختم القرآن

نص أقوال من لا يرى مشروعية الدعاء 76

الدراســـــة

أولاً: دراسة رأي الإمام مالك 79

ثانياً: دراسة رأي الشيخ بكر أبو زيد 80

ثالثاً: الاعتراض على رأي الشيخ سليمان 86

الترجيح 104

الخاتمة في موضع دعاء الختم من صلاة التراويح 109

فهرس الموضوعات 111

------

 ح    إبراهيم بن محمد الصبيحي، 1436هـ

  فـهـرســة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

الصبيحي، إبراهيم محمد

دعاء الختم في صلاة التراويح. / إبراهيم محمد الصبيحي.

الرياض، 1436هـ

  112ص ؛  17 × 24 سم

   ردمك: 1-8580-01-603-978

   1ـ صلاة التراويح 2- الأدعية والأذكار أ. العنوان

   ديوي 212,93 6452/1436



رقم الإيداع: 6452/1436

ردمك: 1-8580-01-603-978



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف




 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق