بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يا ربّ لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك ، اللهم صلِّ على سيّدنا محمد وعلـى آل محمد ،
كما صلّيت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على
محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .
أما بعد :
فإنه ليحزّ في
قلبي ، أن أرى مسلمين ملتزمين بمنهج الإسلام - فيما يزعمون ويدّعون - وإنّهم لأبرد
مـن الثلج ، فـي عدم الإلتفات إلى ما يُخطط للإسلام ؛ من تشويه وتدمير ، من قِبَل
خصومه ، وما يُحاك ضدّه في الظلام .
ورضوا لأنفسهم أن
يكونوا مع الخوالف ، علماً أنه لا يُلتمس منهم إلّا الشيء القليل المريح ، في نصرة
الإسلام ، والدفاع عنه .
فلا يُستدعون إلى
خوض المعارك ، وتحمّل غبارها ، والتعرض لدَوس سنابك الخيل في أراضي نائية ، بعيدة
عن الأهل والوطن .
بل يُدعون إلى
جلسة مريحة ، بعيدة عن التعب والصخاب ، يرتشفون الشاي والعصائر ، ويتناولون ما لذّ
وطاب من الفواكه ، سويعات قليلة ، ثم يرجعون إلى بيوتهم سالمين غانمين .
هذا هو جلّ ما
يُرتجى منهم ، من الجهاد في سبيل الله ، في عصرنا هذا .
ومع هذا فيتقاعسون
، ويتحاججون بتبريراتٍ واهية ، وأعذارٍ داحضة ، فيغيبون ويتخلّفون !
ولا يظننّ ظانٍّ
أنّني أفضّل نفسـي عليهم ، وأدّعي أنّني من المجاهدين في سبيل الله ، والقائمين
على أمر الدّين .
بل أعتبر نفسي من
الذين قصدهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، بقوله :
أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَة
وَأَكرَهُ مَن تِجارَتُهُ المَعاصي وَلَو كُنّا سَواءً في البِضاعَة
ولقـد أردّتُ بمـا أمليتُ ، أن أذكّر نفسي وإخوتي ، بما تنتظرنا من أيّام
عصيبة بعـد رحيلنا ومغادرتنا لهذه الدّنيـا ، إذا لـم نلحق بالركب ، ونقوم – حسـب
طاقاتنا وقدراتنا – بواجبنا ، الملقاة على أكتافنا ؛ من بذل الجهود في الدفاع عن
ديننا الحقّ ، والذود عنه أمام خصومه وحاقديه .
فإن
كان ما كتبته حقّاً وصواباً ، فذلك من محض فضل الله تعالى عليّ ، أسأله تعالى أن
يتقبّله منّي ، ويجعله في ميزان حسناتي يوم نلقاه ، وأن ينفعني به ، وينفع قارئه
بكرمه وجوده .
وإن كان باطلاً
وخطأً فمن نفسي ومن الشيطان ، أسأل الله تعالى أن يغفر لي ويتوب عليّ ، إنه سميعٌ
بصير ، وبالإجابة جدير .
عبد الكريم علي عباس
الإثنين 17 رجب
1442 هـ
1 آذار 2021 م
قصة أهل القرية !
في إحدى قرى بلد إسلامي ، كان أهلها يشكون من
الفقر وقلة ذات يد ، بحيث أنهم استنجدوا بأهل الغنى واليسار من خلال إعلان أعلنوه
؛ أنّ أحد أهل القرية تبرّع بأرضٍ له ليُبنى عليه مسجد جامـع ، ولكنّ أهـل القرية
لا يستطيعون بناءه لفقرهم وعوزهم ، وقد مرّت عليهم سبعة سنين والأرض المتبرعة كما
هي بدون بناء .
حتى جـاءهم رجلٌ ، في يوم من الأيّام فقال :
لقد رأيت الإعلان ، وأنا رجل أعمال ، أعمل فـي الخليـج ، فكـم تحتـاجون لبنـاء
الجامـع ؟ قـالوا لـه : نحتاج مائتا وخمسون الفاً ( 250000 ) .
فأعطاهم ثلاث مائـة ألف ( 300000 ) ، وقـال :
أبنوا الجامع حتى وإن لم أكن حاضراً ، لأنني يجب أن أسافر إلى الخليج ، حيث طلبوا
مني عدد من الأيدي العاملة لتشغيلهم هناك .
فقالوا له راجياً : ولماذا لا تأخذ من أهل
القرية ، فلدينا كثير من أيدي العاملة ، عاطلة عن العمل ، ومن كلّ نوع من الأعمال
التي تريدها ؟
فقال : حسناً إجمعوا لي مائتي ( 200 ) شخص
منهم ، ومع كلّ واحدٍ جواز سفر له مع خمسة آلاف لتكاليف السفر ، وليفتح حساب في
البنك لكي يأتيه راتبه كلّ شهر ، بالإضافة إلى الأوراق الصحية ؛ وهي مهمة جدّاً ، وسأعود الأسبوع القادم لأخذها ، لكي أقوم
بالإجراءات المطلوبة للسفر بهم إلى الخليج .
وعاد بعد أسبوع ليجد ما طلبه منهم ؛ فقد
جمعوا مائتي جواز سفر مع مليون ؛ حيث جاء كل واحد منهم بخمسة آلاف .
فأخذ المال الذي جمعوه ؛ المليون ، وذهب ،
وانقطع خبره !
فقـاموا يتّصلون به فلا جواب ! ومن ثم اشتكوا
عليه عند الشرطة ، فوجدوه نصّاباً !
والمشكلة العظيمة ليست في أن واحداً من
النصّابين استطاع خداع أهل قرية بكاملها !
ولا في أنه أخذ منهم مبلغ سبعمائة ألف (
700000 ) ، حيث أعطاهم ثلاثمائة ألف وأخذ مليون !
ولكنّ المشكلة العظيمة والكبيرة ، والتي تخزي
أهل هذه القرية هي : أنّهم كانوا يدّعون أنهم فقراء لا مال عندهم لكي يبنوا الجامع
، فبقيت الأرض هكذا سبعة سنوات ، يزعمون أنهم لا يستطيعون القيام ببناء الجامع ،
وهو لا يحتاج منهم أكثر من مائتي وخمسين ألف ( 250000 ) باعترافهم !
ولكنّهم من أجل مصالحهم الشخصية الدنيوية
استطاعوا أن يجمعوا مليوناً خلال أسبوع ! !
وفوق هذا يريدون من الله تعالى أن يكرمهم !
لا تقُل لا أستطيع
وهكذا المسلم ، لو أراد أن يقوم بأمرٍ ما –
وهو من ضمن التكاليف الشرعية – لاستطاع ذلك ، ولا يعرقله شيء !
ولكن كما قيل :
لا تقُل لا أستطيع أن أفعل ، ولكن قُل : لا
أريد أن أفعل !
فالمسلم الذي يتكاسل ، ويخدع نفسه بأعذارٍ
واهية للهروب من تكاليف الدّين ، يعلم جيّداً أنه غير صادق في تبريراته ، وفوق ذلك
أنّ الله تعالى عليم بذات صدره ، ومطّلعٌ على خفايا نفسه !
ولهذا جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم ،
ينهى الله تعالى فيها الإنسان عامة ، والمسلم خاصة عن ظلمه لنفسه ؛ حيث يحرمها من
الخير الكثير الذي تستطيع نفسه أن تعمله ، ولكن صاحبها يحرمها منه بتبريرات
وأعذارٍ واهية كاذبة !
لا يكلّف الله نفساً إلّا
وسعها
فالله سبحانه وتعالى عندما كلّف الإنسان
بالقيام بمهمة الخلافة في الأرض ، لم يكلّفه بشيء خارج قدراته أو فوق طاقاته ، بل
ما من أمرٍ أو نهيٍ جاءه من الله تعالى إلّا وهو من ضمن وسعه ، وهو قادر على
تنفيذه لو أراد ذلك !
فالآية الكريمة تكذّب كلّ من ادّعى أن تكاليف
الشرع خارج وسعه وفوق طاقاته وقدراته . وتثبت أنّ بوسع الإنسان أن يقوم بدوره على
أتم وجه ، إن حاول وبادر وشرع في تطبيق الأوامر واجتناب النواهي . وأهل القرية
أوضح مثال على ذلك !
ولهذا نرى أن الله تعالى قد نبّهنا على أن لا
ننخدع بتلك الوساوس الشيطانية فنزعم أنّ طاقاتنا وقدراتنا محدودة ، وهي لا تستطيع
أن تفي بما هو مطلوبٌ منّا ، فنتكاسل ونتعاجز ، وبالتالي نقوم – في اللاشعور –
بتثبيط أنفسنا والقعود والتخلف عن قافلة الدعاة السائرة على الطريق .
ولفت تعالى إنتباهنا إلى أنّ النفس الأمّارة
بالسوء تأمرنا بالشر ، فحثّنا على مخالفتها :
يقول الله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [1]
.
كما أنّ الله تعالى ضرب لنا أمثلة عن
المنافقين في كذبهم وادّعاءاتهم أنّ الأوامر فوق طاقاتهم وقدراتهم : ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) [2]
.
أي : إنّهم يزعمون أنّ تخلّفهم هو لعدم علمهم للقتال وإلّا لقاتلوا ،
وهم يعلمون علم اليقين أنّ ادعائهم هذا كذب مفضوح !
ويقول تعالى عنهم أيضاً : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ
اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ
حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) [3]
.
حيث كان مبرّرهم هو عدم قدرتهم على الجهاد في
الحَرّ وهم كاذبون !
فهذه الآيات الكريمة وأمثالها ، هي كلّها
تنبيهات وتحذيرات لنا لئلّا ننخدع بهواجس النفس الخدّاعة ، وألّا نتّبع خطوات
الشيطان ، في تهوين قدراتنا وطاقاتنا .
لماذا هذا التكاسل ؟
لا يأتي الضعف والتكاسل في عملٍ ما إلّا من
عدم أو قلة الإيمان بذلك العمل ، أو من الشعور بعدم جدواه .
فلو أن أهل تلك القرية الظالم لنفسها ، كانوا
يؤمنون بالأجر العظيم فـي بناء الجامع ، والثواب الذي يحصدونه من صلاة الجماعة -
والذي يثقل ميزان حسناتهم يوم القيامة ، وينقذهم من العذاب ، ويفرش لهم طريقاً إلى
جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد الآبدين - لما تثاقلوا في بناءه سبع
سنوات ، بينما جمعوا مليوناً – أربعة أضعاف تكاليف بناء الجامع – في مدة أسبوع ! !
وجمعهم لهذا المبلغ الضخم خلال أسبوع ،
وإخفاقهم في جمع رُبعه خلال سبع سنوات ، لدليل قاطع على كذبهم في ادّعاء عجزهم
وعدم تمكّنهم من تحقيق ما يحبّون ! !
وهكذا المسلم الذي يسوّغ لنفسه التملص من
الواجبات الملقاة على عاتقه ، بذرائع واهية ، هو مخادع لنفسه ، غير صادق معها .
فالخاسر يتحجج في عجزه بالقدر ، بينما المسلم
الصادق يقول : أنا قضاء الله وقدره !
قال [ فيلسوف وشاعر الإسلام
المرحوم محمد إقبال : " المسلم الضعيف يعتذر دائمًـا بالقضاء والقدر ، وأما المؤمن
القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يُرد ". ] .
يقول الله تعالى : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ) [4]
.
بأيديكم ! أيديكم هي قضاء الله وقدره !
وكما نعلم جميعاً أنّ الله تعالى إذا أراد
نصر دينه ، أو أراد أيّ شيء ، فإنّما أمره له كُن ، فيكون ، ولا رادّ لأمره ولا
معقٍّب لحكمه :
يقول الله تعالى : ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ
أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [5]
.
ويقول تعالى : ( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) [6]
.
ويقول سبحانه : ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [7]
.
فإرادة الله تعالى وحكمته
أرادت نصر دينه عن طريق المؤمنين ، ومفتاح تغيير الواقع أعطاه سبحانه وتعالى إلى
الخليفة في الأرض ، فقال عزّ وجلّ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم ) [8]
.
ويقول تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [9]
.
فهذه هي حكمة الله تعالى ،
وهو تعالى قد وهب للإنسان حرّية الإختيار : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا . إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) [10]
.
ويقـول تعالـى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر ) [11]
.
فكما أنّ المفسدين قد مَلَؤُا
الأرض بفسادهم ، ينبغي كذلك على المؤمنين المصلحين أن يصلحوا ما أفسده أولئك .
يقول تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) [12]
ويقول الله تعالى على لسان نبيّ الله شعيب
عليه السلام : ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ ) [13]
.
وكل ذلك الفساد والصلاح لا يضرّ الله تعالى
ولا ينفعه ، بل عاقبتهما تعود على الخليفة في الأرض !
يقول الله تعالى في الحديث القدسي : ( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا
ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي
لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى
أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا،
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ
كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي
شَيْئًا . . .
يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ
أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا،
فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَه ) [14]
.
فالتكاليف التي وردت في الشرع ، تدور بين
واجب أو مندوبٍ أو حرامٍ أو مكروهٍ أو مباح .
وكلّ تلك التكاليف في مقدور الإنسان ، وليست
خارج أو فوق طاقته ، فلا عذر للمسلم في التكاسل والتخلف والقعود عن أداء مهمته !
يقـول الله تعالى ، كما أوردنا الآية الكريمة
سابقاً : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا ) [15]
.
ويقول تعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا
آتَاهَا ) [16]
.
تعريف التكاليف
ويحسن بنا أن نعرّف التكاليف والمصطلحات التي
أوردناها ، حتى نكون على بيّنة من أمرنا .
قال الدكتور عبد الكريم زيدان ، رحمه الله :
[
الواجب شرعاً : هو ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم ، بحيث يُذَم تاركه
ومع الذم العقاب ، ويُمدح فاعله ومع المدح الثواب . . .
المندوب : هو ما طلب الشارع فعله من غير
إلزام ، بحيث يُمدح فاعله ويُثاب ، ولا يُذم تاركه ولا يعاقَب ، وقد يلحقه اللوم
والعتاب على ترك بعض أنواع المندوب . . .
الحرام : هو ما طلب الشارع الكف عنه على وجه
الحتم والإلزام ، فيكون تاركه مأجوراً مطيعاً ، وفاعله آثماً عاصياً . . .
المكروه : هو ما كان تركه أَولى من فعله ، أو
هو ما طلب الشارع من المكلف تركه ، لا على وجه الحتم والإلزام . . .
المباح : هو ما خيَّر الشارع المكلف بين فعله
وتركه ، ولا مدح ولا ذم على الفعل والترك ، ويقال له : الحلال ] [17]
.
نعمة الله علينا
يقول الله تعالى : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار ) [18]
.
ويقـول سبحـانه : ( وَإِنْ
تَعُـدُّوا نِعْمَـةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَـا إِنَّ اللّـَهَ لَغَفُـورٌ رَحِيــمٌ ) [19]
.
ومن أعظم نِعَـم الله علينا – نحن معشر
المسلمين – أنه خلقنا تعالى في هذا العصر ! ولم يخلقنا في عصر النبيّ r ، أو عصر
الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، والتابعين ، ومَن بعدهم رحمهم الله تعالى ! !
وقد يعجب البعض من هذا القول ويستغربه !
فأقول : حنانَيك لا تستعجل !
1 - لقد
فرّ بعض الصحابة الكرام في معركة أُحُد ، على جلالة قدرهم ، وعظيم إيمانهم ، وهم
مع رسول الله r ، يقول
تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيم ) [20]
.
2 - ويقول
تعالى عنهم : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمّ ) [21]
.
3 - ويقول
تعالى : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ
مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيم ) [22]
.
مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ ! !
4
- ويقول تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ
جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا .
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا . وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا . وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ) [23]
5 - ( عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ
أَبِيهِ ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أَدْرَكْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ ،
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ ؟
لَقَدْ رَأَيْتُنَا
مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ ،
وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ
اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ » فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ،
ثُمَّ قَالَ : « أَلَا
رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟
» فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَ : « أَلَا رَجُلٌ
يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ » ،
فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ،
فَقَالَ : « قُمْ يَا
حُذَيْفَةُ ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ » ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ
دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ ، . . .
فَلَمَّا أَتَيْتُهُ
فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ ، وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ
يُصَلِّي فِيهَا ، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ ، فَلَمَّا
أَصْبَحْتُ قَالَ : « قُمْ يَا نَوْمَانُ » [24] .
6 - [ روى
مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة
تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبـه
فوالله لولا الله أني أراقبـــه لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة : كم أكثر ما تصبر
المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر ، أو أربعة أشهر ، فقال عمر : لا أحبس أحداً من
الجيوش أكثر من ذلك ] [25]
.
7 - عن [ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ
أَبَا الْوَلِيدِ ، يَقُولُ :
" غَزَوْتُ أَنَا وَإِبْرَاهِيمُ ، وَمَعِي فَرَسَانِ وَهُوَ
عَلَى رِجْلَيْهِ ،
قَالَ : فَأَرَدْتُهُ أَنْ يَرْكَبَ ، فَأَبَى ، فَحَلَفْتُ ،
قَالَ : فَرَكِبَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى السَّرْجِ ، قَالَ : قَدْ أَبْرَرْتُ
يَمِينَكَ ، ثُمَّ نَزَلَ ،
قَالَ : فَسِرْنَا فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ مِيلًا
وَهُوَ عَلَى رِجْلَيْهِ ، فَلَمَّا نَزَلْنَا أَتَى الْبَحْرَ فَأَنْقَعَ رِجْلَيْهِ
، ثُمَّ أَتَى فَاسْتَلْقَى وَرَفَعَ رِجْلَيْهِ عَلَى الْحَائِطِ ، فَهَذَا أَشَدُّ
شَيْءٍ رَأَيْتُهُ صَنَعَ " ] ( [26]
) .
وعن [ أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ :
" غَزَا مَعَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ ، غَزَاتَيْنِ
، كُلُّ وَاحِدَةٍ أَشَدُّ مِنَ الْأُخْرَى , غَزَاةُ عَبَّاسٍ الْأَنْطَاكِيِّ
، وَغَزَاةُ مِحْكَافٍ ،
فَلَـمْ يَـأْخُذْ سَهْمًـا ، وَلَا نَفْلًا ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَتَاعِ الرُّومِ ،
نَجِيءُ بِالطَّرَائِفِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالدَّجَاجِ
فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ ، وَيَقُولُ : هُوَ حَلَالٌ ، وَلَكِنِّي أَزْهَدُ
فِيهِ ،
كَانَ يَأْكُلُ مِمَّا حَمَلَ مَعَهُ ، وَكَانَ يَصُومُ
،
قَالَ : وَغَزَا عَلَى بِرْذَوْنٍ ثَمَنُهُ دِينَارٌ ، وَكَانَ
لَهُ حِمَارٌ فَعَارَضَ بِهِ ذَلِكَ الْبِرْذَوْنَ ،
وَكَـانَ لـَوْ أَعْطَيْتَهُ فَرَسًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِنْ فِضَّةٍ
مَا كَانَ قَبِلَهُ ، وَلَا يَقْبَلُ شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ ، وَغَزَا
فِي الْبَحْرِ غَزَاتَيْنِ لَمْ يَأْخُذْ سَهْمَهُ وَلَا يفْتَرِضُ ] ( [27]
) .
هـذه
الأمثلة السريعة والقليلة جدّاً ، هـي نماذج ، لا علـى التعيين ، بل جاءت عفو
الخاطر ، وهي قطرة من بحرٍ عظيم ، من معاناة وجهاد أولئك الغر الميامين ، في سبيل
نشر هذا الدّين ، ونصره .
جئتُ
بها كأمثلة لبيان نعمة الله تعالى ومِنّتِهِ علينا ، أن لم ترِد علينا تلك الظروف
الصعبة التي واجهت أولئك الأبطال فكانوا أهلاً لها !
فلقد
كان أحدهم يسيح في الأرض ، ويصول ويجول في سبيل الله ، فيغيب عن أهله أكثر من
ثلاثة أشهر ، وهو يقاتل أعتى الجيوش ، ويصارع طواغيت الأرض وجنودها ، وليس عنده
خبر عن زوجه وأولاده وأهله ، ولا توجد وسائل اتّصال !
أمّا
نحن ، فمع كلّ هذه الوسائل السهلة المتاحة لنا ، بحيث أحدنا – على سبيل المثال – عندما
يحج بيت الله الحرام ، يظل متّصلاً بأهله ، وهو يركب الطائرة ، وعندما يزور النبيّ
r ، وعند الطواف حول البيت ، وعند الوقوف في عرفات
، وفي مِنى ، و . . . إلى أن يرجع إلى بيته ، فهو على تواصلٍ دائمٍ مع أهله ؛ يعرف
أخبارهم أوّلاً بأوّل !
ومع كلّ
هذه التسهيلات ، وإلقاء الثقل العظيم عن كاهلنا ، والذي كان على عاتق أولئـك الصـالحين
من قبلنـا ، نجد كثيراً منّا يتعاجز عن أداء أهون الأمور والواجبات عليه ، بحجج
وتبريرات تافهة .
فبينمـا
نرى خصـوم الإسلام – بكافة أطيافهم – يعملون ليل نهار ، في سبيل باطلهم ، ولا
يبخلون بما لديهم من الغالي والنفيس ، والوقت والراحة ، من أجل نصر مبادئهم
الهدّامة المفسدة ، ولا يستحون في طرح أفكـارهم علـى الملأ – وعلـى سبيل المثال –
تقول إمرأة منهم – عبر وسائل الإعلام المرئية – بحيث يراها آلاف الناس إن لم يكن
يراها الملايين ، تقول بكلّ بجاحة : لماذا يجوز للرجل أن تكون له أربعة نساء ، ولا
يجوز للمرأة أن يكون له أربع رجال في آن واحد ؟ ؟ ! !
هذا
بينما نجد كثير من المسلمين – الذين ربّما لا يرضون بأقل من الفردوس الأعلى ،
ويستنكفون ولا يقبلون أن يوصفوا بعوام المسلمين ، بل هم من الخواص – نجدهم إذا
دُعي أحدهم لإجتماعٍ وجلسة هادئة ، بعيدة عن الحروب والقتال ، بل بعيدة عن الناس –
والذي من المفروض أن يخالطهم ويدعوهم إلى الإنضمام إلى جماعته التي تريد نصرة
الإسلام ، أمام كلّ تلك المحاربة والهجوم عليه – نجدهم يتكاسلون ويتخلّفون ويغيبون
بحجج وتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان !
وهي
جلسة هادئة – كما قلنا – للتذكرة وإنهاض الهِمَم للعمل من أجل إنقاذ أنفسهم من
الهلاك والعذاب والعيش الضنك في الدّنيا والآخرة ، والفوز والفلاح فيهما ، لا غير
، والمطلوب منهم هو ليس بذل الجهود والتعب ، وحتى لا يُطلب منهم التحدّث بل فقط
عليهم الإستماع ، مع تناول ما لذّ وطاب من العصائر والفواكه !
ومع
هذا يغيبون ولا يأتون ! !
وربّما
يشكون ويتذمّرون ويتساءلون : لماذا لا ينصرنا الله ، وجعلنا أذّلاء يحكمنا مَن لا
خلاق له ؟ !
في
حين هو نشط مقدام في سبيل مصالحه الشخصية الدّنيوية – كأصحاب القرية الذين ذكرناهم
في البداية – وكذلك في سبيل مرضاة زوجه ! !
ولا
يحسبنّ أولئك المتخلّفون ، أن الله تعالى يبارك في أعمالهم وفيما يسعون فيه !
وكان أبوهما صالحاً
أذكر
شيخاً حبيباً لنا ، كنّا ندعوه إلى إفطارٍ جماعيّ في رمضان – وهو إضافةً إلى ثواب إفطار الصائم ، فهو ملتقى وسبب في رؤية
بعض الشيوخ والأحبة بعضهم لبعض ، ممّا يزيد في المحبّة وتشحيذ الهِمَم – وكذلك
كنّا ندعوه للحضور في إحتفال مولد النبيّ r - وهو إظهار لمحبّة النبيّ r وتعريفه للناس وتذكيرهم به r ، وتكثير لسواد المسلمين - فكان يعتذر ولا يحضر
من أجل أن له أبناء متشاكسون يتعاركون فيما بينهم ويُحدثون مشاكل في غيابه ،
فحضوره بينهم يمنعهم من تلك المشاكل ، فلا يستطيع الغياب عنهم .
ولقد
توفّي رحمه الله ، وترك أبناءه من ورائه ! !
فمن
يمنع أبناءه الآن ؟ ! رحمة الله عليه وغفر له .
فلا
يظننّ ظانّ أنه هو مصدر حفظ لأهله أو هو مصدر رزق لهم ، أو هو مصدر سعادة لهم .
فلولا
حفظ الله تعالى وستره ورزقه وبركته ، لما كان للمسلم حياة طيبة ، ولا عاش في أمانٍ
ولا حفظٍ وستر !
وجميعنا
يعلم قصة سيّدنا موسى مع الخضر عليهما السلام ، حيث بعث الله تعالى رسوله موسى وهو
من أولي العزم ، مع نبيّه الخضر – في أرجح الآراء هو نبيّ ، والله أعلم – بعثهما
للقيام بعملٍ يحفظ به ما تركه أبو يتيمين لهما ، من بعد موته !
ولماذا
يخدمهما مبعوثين من عند الله تعالى ؟ !
والجواب
: أنّ أبوهما كان من الصالحين ، يسعى في رضوان الله تعالى ، فحفظ الله أولاده من
بعده !
يقول
الله تعالى : ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَه ) [28] .
ويقول
تعالى : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك ) [29] .
[ { وَكَانَ
أَبُوهُمَا صَالِحاً } يؤخذ من هذا : أن صلاح الآباء ، ينفع الأبناء ؛ حتى قيام
الساعة ] [30] .
[ أي : حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ،
لكونهما صغيرين عدما أباهما ، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما ] [31] .
قال
الأستاذ الكبير الشهيد سيّد قطب رحمه الله ، في تفسيره للآية الكريمة : ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّـاسِ مِنْ رَحْمَـةٍ فَـلَا
مُمْسِكَ لَهَـا وَمَا يُمْسِـكْ فَلَا مُرْسِـلَ لَـهُ مِـنْ بَعْدِه ) [32] .
قال
رحمه الله :
[ وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى
تنقلب هي بذاتها نقمة .
وما
من محنة - تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . .
ينام
الإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . وينام على الحرير - وقد أمسكت
عنه - فإذا هو شوك القتاد .
ويعالج
أعسر الأمور- برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر . ويعالج أيسر الأمور- وقد تخلت
رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر .
ويخوض
بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي
مهلكة وبوار !
ولا
ضيق مع رحمة الله . إنما الضيق في إمساكها دون سواه . لا ضيق ولو كان صاحبها في
غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك .
ولا
وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء . فمن داخل
النفس برحمة الله تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة . ومن داخل النفس مع
إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة !
هذا
الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب ، وتوصد جميع النوافذ ، وتسد جميع المسالك . .
فلا عليك . فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء . .
وهذا
الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع . وهو الضيق
والكرب والشدة والقلق والعناء !
هذا
الفيض يفتح ، ثم يضيق الرزق . ويضيق السكن . ويضيق العيش ، وتخشن الحياة ، ويشوك
المضجع . . فلا عليك . فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة .
وهذا
الفيض يمسك . ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء . فلا جدوى . وإنما هو الضنك والحرج
والشقاوة والبلاء ! المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان . .
تصبح
مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله . فإذا فتح الله أبواب رحمته
كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان .
يبسط
الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى
الآخرة .
ويمسك
رحمته ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان
ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .
ويمنح
الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة
للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله .
ويمسك
رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار !
ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي
نعمة وحياة طيبة ، والتذاذ بالحياة .
ويمسك
نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة
فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويدخر السوء ليوم الحساب !
ويعطي
الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار
الطيب الصالح من العمل والأثر .
ويمسك
الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ، ومصدر طغيان وبغي بهما ،
ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ،
ويدخر بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار !
والعلم
الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . .
مع الإمساك ومع الإرسال . .
وقليل
من المعرفة يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعل
الله فيه السعادة .
والجماعات
كالآحاد . والأمم كالأفراد . في كل أمر وفي كل وضع ، وفي كل حال . . ولا يصعب
القياس على هذه الأمثال !
ومن
رحمة الله أن تحس برحمة الله ! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك . ولكن شعورك
بوجودها هو الرحمة . ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة . وثقتك بها وتوقعها في
كل أمر هو الرحمة .
والعذاب
هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها . وهو عذاب لا يصبه الله على
مؤمن أبدا . « إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ » .
ورحمة
الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال . وجدها إبراهيم - عليه السّلام -
في النار .
ووجدها
يوسف - عليه السّلام - في الجب كما وجدها في السجن . ووجدها يونس - عليه السّلام -
في بطن الحوت في ظلمات ثلاث . ووجدها موسى - عليه السّلام - في اليم وهو طفل مجرد
من كل قوة ومن كل حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه .
ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور . فقال بعضهم لبعض : «
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ » ووجدها رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -
وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . .
ووجدها
كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها . منقطعا عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في
رحمة ، قاصدا باب الله وحده دون الأبواب .
ثم
إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . ومن ثم
فلا مخافة من أحد . ولا رجاء في أحد . ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء . ولا
خوف من فوت وسيلة ، ولا رجاء مع الوسيلة .
إنما
هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل . والأمر مباشرة
إلى الله . .
« وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » . . يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك
وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك .
« ما
يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها » . .
وما
بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه ، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا
التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام .
« وَما
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ » .
فلا
رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه . فما أحد بمرسل من رحمة الله ما
أمسكه الله .
أية
طمأنينة ؟ وأي قرار ؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية
في الضمير ؟ !
آية
واحدة ترسم للحياة صورة جديدة وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة وموازين لا
تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها . ذهبت أم جاءت . كبرت أم صغرت . جلت أم
هانت . كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء !
صورة
واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى
والقيم والاعتبارات . ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحون رحمة الله حين
يمسكها ، ولا يمسكونها حين يفتحها . .
« وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » . .
وهكذا
أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر
الإسلام .
الفئة
التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ، تنشئ في الأرض ما
شاء الله أن ينشئ من عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، ونظم وأوضاع . وتقر في الأرض ما
شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام .
الفئة
التي كانت قدرا من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع
الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات .
ذلك
أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن ، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها . .
وكفى . . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن ، وتعيش في
واقعها بها ، ولها . .
وما
يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ، قادرا على أن ينشئ بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو
وتثبت في الأرض - بإذن الله - ما يشاء
الله . . ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ، فتأخذها جدا ، وتتمثلها حقا . حقا
تحسه ، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار . . ] [33] .
إذن فهي
رحمة الله تعالى وبركاته ، إذا كانت مع أيّ شيء أو أمر ، فسيكون رَوحٌ ورَيحانٌ ،
وسعادةٌ وطُمَأْنينة ، وسببٌ في النجاة والفلاح ، في الدُّنيا والآخرة .
وإنّ
الله تعالى لا ينزل رحمته وبركاته ، إلّا على عباده الذين يسعون في مرضاته تعالى ،
ولو على حساب راحاتهم ومصالحهم الشخصية .
ولا
يظننّ أحدٌ أنّه هو مصدرُ رزق وسعادة أهله ، بحيث لولا هو لضاق عليهم الرزق ، ولضاقت
عليهم الأرض بما رحبت !
ولقد
ذكروا أنّ إمرأة مسلمة ذو عيال كثير ، جاؤوها بخبر استشهاد زوجها ، وهو الذي كان
معيلهم الوحيد ، فلم تضطرب ولم تجزع ، فسألوها عن سبب ذلك ، لاسيما أنّ زوجها هو
القيّم الوحيد عليهم ؟
فقالت
: عرفته أكّالاً ولم أعرفه رزّاقاً ، فلئن ذهب الأكّال ، فلقد بقي الرزّاق !
إنّها العقيدة في الله
[ قال له صاحبه – وهو يحاوره – يا أخي اسمح لي أن
أقول لك : إنني لم أعد أفهمك . . إنك تريد أن تقف في وجه التيار . . إنك تلقي
بنفسك إلى التهلكة بلا روية . . إنك تتصرف كما لو كنت تريد أن تتخلص من الحياة . .
قل لي
: لحساب من تعرِّض نفسك لكل هذا ؟ إنّ الشعب لم يبلغ درجة من الوعي تتابعك في
أهدافك وتدرك ما الذي أنت تريد . . وأنت تجابه قوى جارفة ، قوى تملك أن تشتري
دولاً وأمماً وشعوباً . قوى مدربة لها عملاء في كل مكان ، ولها أجهزتها التي مرنت
على العمل . . هذه القوى تملك أن تحيلك متهماً في أعين مواطنيك . .
تملك أن
تجردك من سمعتك ذاتها فتظهرك للناس خائناً ، وتجد ألف شاهد وألف جهاز من أجهزة
الدعاية تهتف بذلك ليل نهار . . إنك لست غنياً ، ولست فتياً ، فأنت رجل تدلف إلى
الكهولة . . وأنت لا تسـتند إلـى حزب أو هيئة تنفق عليك إذا انقطع رزقك ، أو تنفق
على أهلك إذا انقطع عنهم عونك لسبب من الأسباب . . يا أخي . إنني لم أعد أفهمك في
هذه الأيام !
كان
صاحبه يلقي عليه هذه العبارات ويقرعه بهذه النذر – في حماسة وفي حرارة وفي غضب وفي
إشفاق – فلم يترك له فرصة للحديث حتى انتهى واستراح وتطلع إلى الجواب !
وابتسم
صاحبنا وهو يقول :
يا اخي
، إنني أدرك هذه المخاوف كلها ، وأبصر هذه المخاطر جميعها . وأعلم أنك على صواب
فيما تقول ، وأقدر حرصك على شخص صديقك ، وزميل صباك . . ولكنـك يا أخـي ذكرت كل
شيء ونسيت الواحد الذي قد يعلل لك ما تراه . . ذكرت الشعب ، وذكرت المواطن ، وذكرت
الصحة ، وذكرت المال ، وذكرت القوى الجارفة التي تملك أن تشتري الأمم والدول
والشعوب ، أو تضللها ، بحيث لا تعرف الخونة من الشرفاء . . كل هذا صحيح . ولكنك
نسيت الله . .
قال
له صاحبه – وهو يحاوره – : لا يا سيدي لم أنس الله . ولكني أعرف أن محمد بن عبد
الله - r
- حين كان يواجه مثلما تواجه كان رسولاً من عند الله ، يتلقى الوحي ، ويتلقى
الإرشاد والتوجيه ، ويتلقى النصر والتأييد . ويتلقى خمسة آلاف من الملائكة مسومين
. . وأنت ماذا تكون ؟
وعاد
صاحبنا يبتسم في رضى . قال :
الآن
يا صديقي كدنا نلتقي . . إنني لست نبياً ولا رسولاً ، ولست أتلقى وحياً ولا ملائكة
. . ولكنني رجل يؤمن بالله . وكل من يؤمن بالله في هذه الأرض – في أي زمان وفي أي
مكان يملك أن ينتظر من الله – فيما عدا الوحي والملائكة – كل ما آتاه الله لرسوله
في هذا المجال ، ما دام يتبع خطاه ، والمؤمنون حيث كانوا ، هم أصحاب ذلك الميراث
الضخم ما داموا على هداه . .
هذا
الميراث الضخم يا صديقي مزيج من الابتلاء والعافية ، مزيج من الكفاح والنصر ، مزيج
من الضراء والسراء . ولكن العاقبة معروفة :
(( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور )) .
(( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ . وَلَقَدْ
كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ )) .
ولم
يدعه صاحبه يسترسل في تلاوة آيات أخرى من الكتاب الخالد .فأسكته باشارة من يده وهو
يقول :
-
فهمت . فهمت
. إذن أنت تريد أن تموت .
قال صاحبنا
:
لا يا
صديقي ، إنك لم تفهمني بعد . إنني ما أردت أن أموت . أؤكد لك ذلك ، إنني أريد أن
أحيا . أريد حياة طويلة . فأنا لم أشبع بعد من هذه الحياة : وأنا لم أتم إلا
القليل من الواجبات التي أرجو أن أوفق إلى النهوض بها . . . وأمر آخر ، إنني قد
بعدت فترة في حياتي عن الله . وإنني لأرجو أن أعيش حتى أنفق من عمري في قربه فترة
تعدل كفتي الميزان .
وأنا في النهاية لا أنسى أنني
رجل ذو أعباء .
واستعجله صاحبه مرة أخرى فأسكته
مقاطعاً .
أنا
لا يهمني شخصك ، فلتصنع به كيف شئت . ولكن تعنيني هذه الأعباء . إنك رجل لا تحتمل
صحتك الأذى . وموتك أقرب الأشياء . فماذا تترك لأهلك من رصيد ، ورصيدك الذي أعرفه
مجموعة أصفار .
قال صاحبنا في اطمئنان :
وماذا
يصنع أهلي هؤلاء إذا أنا مت على فراشي اللحظة كما يموت البعير ؟ والحياة كلها
أنفاس : نفس يدخل فلا يخرج ، ونفس يخرج فلا يدخل ! هل يتخذون لهم نفقاً في الأرض
أم سلماً في السماء ؟
(( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم ))
وأنا يا صديقي لا أريد – كما قلت – أن
أموت . . . ولكن الموت والحياة غيب من غيب الله . فلا يجوز أن يكونا في حساب أحد
يريد أن يؤدي واجباً ، أو يغيِّر منكراً ، أو يذهب حتى في تجارة ومعاش .
(( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ))
قال صاحبه فجأة :
اسمع أقص عليك حكاية وقعت ، تؤيدك فيما
تقول . . . في عام 1930 كانت هناك أزمة في عالم المدرسين ، أزمة عكسية . كان
المدرسون الذين يتخرجون في معاهد المعلمين لا يجدون لهم أماكن في الوزارة ولا في
التعليم الأهلي ، إلا القليل . وكان أصحاب المدارس الحرة يستغلون زيادة العرض على
الطلب ، فيعرضون على المدرسين شروطاً مجحفة ، منها ضآلة المرتبات ، وحرمان
المدرسين من مرتباتهم كلية في أشهر الصيف . . . وكان لنا زميل تعرفه – فلان – ذو
عيال ، لذلك كان مهموماً : ماذا يصنع بعياله في أشهر الصيف ، وهو لا يستطيع أن
يوفر شيئاً من مرتبه الضئيل في أثناء العام . . . ومرة كان يتملل وهو يعرض سبب
اكتئابه لرجل ريفي ساذج من بلدهم . وإذا هذا الرجل الريفي يسأل في استنكار وفي سذاجة
كذلك : وهو ربنا يا أخي كان مات ؟
وساد كليهما الصمت . . . صمت عميق . . .
صمت أو معنى لا تعبر عنه الكلمات . . .
وكنت حاضراً هذا الحوار . . . كنت أسمعه
عن كثب دون تجسس ولا فضول ، فلقد كان مسموعاً للقريبين في النادي الذي يضم مع
الصديقين كثيرين . . . وأدركني الصمت الذي شمل الصديقين . . حقاً . هل الله قد مات
؟ سبحانه وتعالى . . . الحي القيوم الذي لا يموت . . .
ثم راحت الخواطر تنهال علي : ترى من أين
يتلقى المكافحون القوة للكفاح ؟
من
تقدير الوطن وتكريم الشعب ؟ إنه سند غير مضمون . إن الشعوب أحياناً تكون في درجة
من الوعي لا تسمح لها بالتقدير . بل إنها أحياناً لتحطم من يريدون لها الخير ،
وتصفق للمهرجين .
من
الثقة بالنفس والاعتداد بالذات ؟ إنه سند غير مضمون كذلك . إن النفس لتنهار
أحياناً أمام الإغراء وأمام التهديد . فإذا ثبتت لهما فقد لا تثبت على تنكر الوطن
والشعب ، وعلى التلويث المزور الذي يمكن أن ينال أكرم الرجال .
إنه
لا بد من سند ثابت لا يتزعزع . لا بد من الارتكان إلى قوة أكبرمن قوى الأرض ، ليقف
المكافحون أمام التهديد ، ولا بد من جزاء أكبر من مطامع الأرض كلها ، ليقف
المكافحون أمام الإغراء ، ولا بد من صلة أوثق من صلات الأرض كلها ، ليقف المكافحون
أمام تنكر الشعوب والأوطان . . .
وعبثاً
يبحث المكافحون عن سند في هذه الأرض ، عبثاً يبحثون عن قوة في هذه الحياة .
إن
هنالك سنداً واحداً لا يتزعزع . إن هنالك قوة واحدة لا تهون . . .
إنها
العقيدة في الله . . . ] [34] .
مهمة المسلم في هذه الحياة
إنّ
المسلم ليدرك يقيناً ، أنّ حياته القصيرة التي يقضيها على هذه الأرض ، هي مجرد
رحلة عابرة ، يبتليه الله تعالى فيها بالخير والشر : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون ) [35] .
ويقول
تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً) [36]
ومن
أعظم الإبتلاء هي الدعوة إلى الله تعالى ، ونصرة دينه ، والصراع مع طواغيت الأرض ،
ورفع راية الإسلام في ربوع الأرض ، والحياة والموت في سبيل ذلك .
يقول
الله تعالى : ( انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُون ) [37] .
[ يقول تعالى لعباده المؤمنين - مهيجاً لهم على
النفير في سبيله فقال : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } أي : في العسر واليسر ،
والمنشط والمكره ، والحر والبرد ، وفي جميع الأحوال .
{ وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : ابذلوا جهدكم في ذلك ،
واستفرغوا وسعكم في المال والنفس ، وفي هذا دليل على أنه - كما يجب الجهاد في
النفس - يجب الجهاد في المال ، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك .
ثم
قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : الجهاد في النفس
والمال ، خير لكم من التقاعد عن ذلك ، لأن فيه رضا الله تعالى ، والفوز بالدرجات
العاليات عنده ، والنصر لدين الله ، والدخول في جملة جنده وحزبه ] [38] .
قال
الإمام القاسمي :
[ وثقالا لكثرتها . أو خفافا من السلاح وثقالا منه
. أو ركبانا ومشاة . أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا . واللفظ الكريم يعم ذلك
كله . والمراد حال سهولة النّفر وحال صعوبته .
وقد
روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .
ولما
كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه
الآية ، فقال ، أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بنيّ ! فقال بنوه
يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مات ، ومع أبي بكر
حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع الله عذر أحد ، ثم خرج
إلى الشام فقاتل حتى قتل .
وكان
أبو أيوب الأنصارى رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفا أو
ثقيلا ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا .
وقال
أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فصل عنها يريد الغزو، فقلت
له : قد أعذر الله إليك ، فقال: أتت علينا سورة البعوث انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالًا .
وعن
حيّان بن زيد قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص - فرأيت شيخا كبيرا
همّا ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت
إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال. فرفع حاجبيه فقال :
يا
ابن أخي ! استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده
الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله
عزّ وجلّ - روى ذلك كله ابن جرير - .
فرحم
الله تلك الأنفس الزكية ، وحيّاها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء
كلمته ، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .
ثم
رغّب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله، فقال :
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى
البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيرا ، وأنه خير في نفسه ،
أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال ] [39] .
أنواع الجهاد
بداية [ الْجِهَادُ :
الْمُبَالَغَةُ وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي الْحَرْبِ أَو اللِّسَانِ أَو مَا
أَطـاق مِـنْ شَيْءٍ . وَفِـي حَدِيثِ الْحَـسَنِ : لَا يَجْهَـدُ الرجلُ مـالَهُ
ثُمَّ يَقْعُدُ يسأَل النَّاسَ ؛
قَـالَ النَّضْـرُ : قَـوْلُـهُ
لَا يَجْهَـدُ مَـالَهُ أَي يُعْطِيـهِ وَيُفَرِّقُهُ جَمِيعَهُ هَاهُنَا
وَهَاهُنَا ] [40]
[ وَالْجُهْدُ الطَّاقَةُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ
لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ } [ التوبة
: 79 ] .
وَيُقَالُ
: إِنَّ الْمَجْهُودَ اللَّبَنُ الَّذِي أُخْرِجَ زُبْدُهُ ، وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ
يَكُونُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَنَصَبٍ .
قَالَ
الشَّمَّاخُ :
تُضْحِ وَقَدْ ضَمِنَتْ
ضَرَّاتُهَا غُرَقًا ... مِنْ
طَيِّبِ الطَّعْمِ حُلْوٍ غَيْرِ مَجْهُودِ ] [41] .
[ الجَهْدُ والجُهْدُ :
الطاقةُ. وقرئ :
( والذين
لا يجدون إلا جهدم ) * و * (جهدم) * . قال الفراء : الجهد بالضم الطاقةُ.
والجَهْدُ
بالفتح من قولك : اجْهَدْ جَهْدَكَ في هذا الأمر ، أي ابلُغ غايتك . ولا يقال
اجْهَدْ جُهْدَكَ .
والجَهْدُ
: المشقَّةُ . يقال : جَهَدَ دابته وأَجْهَدَها ، إذا حمل عليها في السير فوق
طاقتها .
وجَهَدَ
الرجل في كذا ، أي جَدَّ فيه وبالغ . وجَهَدْتُ اللبنَ فهو مَجْهودٌ ، أي أخرجت
زُبده كله .
وجَهَدْتُ
الطعامَ : اشتهيته . والجاهدُ : الشَهْوانُ
. وجُهِدَ الطعامُ وأُجْهِدَ ، أي اشْتُهِيَ . وجَهَدْتُ الطعامَ ، إذا
أكثرتَ من أكله .
ومرعَى
جهيدٌ : جَهَدَهُ المال .
وجهد
الرجل فهو مجهود ، من المشقةِ ، يقال أصابهم قُحوطٌ من المطر فجُهِدوا جَهْداً
شديداً .
وجَهِدَ
عيشهم بالكسر ، أي نَكِدَ واشتدَّ . والجَهادُ بالفتح : الأرضُ الصُلبةُ . وجاهَدَ
في سبيل الله مجاهدةً وجهاداً . والاجتهادُ والتَجاهُدُ : بذل الوُسعِ والمجهود] [42] .
إذن
نفهم من كلّ ما سبق ، أن الجهاد هو بذل جميع ما في الوسع من الجهد والطاقة .
ولا يظننّ ظانٌّ
أن الجهاد هو القتال فقط ، فالقتال هو نوع من أنواع الجهاد ، وليس جميع الجهاد .
قال الحافظ ابن
القيّم رحمه الله :
[ [ فَصْلٌ في مَرَاتِبُ
الْجِهَادِ ]
[ فَصْلٌ في
مَرَاتِبُ جِهَادِ النَّفْسِ ]
فَصْلٌ مَرَاتِبُ جِهَادِ النَّفْسِ
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ : جِهَادُ
النَّفْسِ ، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ ، وَجِهَادُ
الْمُنَافِقِينَ .
فَجِهَادُ النَّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا :
إِحْدَاهَا : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلُّمِ الْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ الَّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا
إِلَّا بِهِ ، وَمَتَى فَاتَهَا عِلْمُهُ شَقِيَتْ فِي الدَّارَيْنِ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ
عِلْمِهِ ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّهَا
لَمْ يَنْفَعْهَا .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ،
وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ ، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ ،
وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ .
الرَّابِعَةُ : أَنْ يُجَاهِدَهَا
عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ ،
وَيَتَحَمَّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ [43]
.
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ
صَارَ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ
الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى رَبَّانِيًّا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ
وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ ، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ فَذَاكَ
يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ .
[ فَصْلٌ في
مَرَاتِبُ جِهَادِ الشَّيْطَانِ ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا جِهَادُ الشَّيْطَانِ فَمَرْتَبَتَانِ ،
إِحْدَاهُمَا : جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَى الْعَبْدِ مِنَ الشُّبُهَاتِ
وَالشُّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ .
الثَّانِيَةُ : جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ
الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشَّهَوَاتِ ،
فَالْجِهَادُ الْأَوَّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ ،
وَالثَّانِي : يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ .
قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }
[ السجدة : 24 ] فَأَخْبَرَ
أَنَّ إِمَامَةَ الدِّينِ إِنَّمَا تُنَالُ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ ،
فَالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ ، وَالْيَقِينُ
يَدْفَعُ الشُّكُوكَ وَالشُّبُهَاتِ .
[ فَصْلٌ في
مَرَاتِبُ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ]
فَصْلٌ
وَأَمَّـا جِهَـادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَأَرْبَعُ
مَرَاتِبَ : بِالْقَلْبِ ، وَاللِّسَانِ ، وَالْمَالِ ، وَالنَّفْسِ ،
وَجِهَادُ الْكُفَّارِ أَخَصُّ بِالْيَدِ ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ
أَخَصُّ بِاللِّسَانِ .
[ فَصْلٌ في جِهَادُ أَرْبَابِ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ
وَالْمُنْكَرَاتِ ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا جِهَادُ أَرْبَابِ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ
وَالْمُنْكَرَاتِ فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ ،
الْأُولَى : بِالْيَدِ
إِذَا قَدَرَ ، فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إِلَى اللِّسَانِ ، فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ
بِقَلْبِهِ ،
فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَرْتَبَةً مِنَ
الْجِهَادِ ، وَ ( « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ
بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ » ) .
[ فَصْلٌ في
شَرْطُ الْجِهَادِ ]
فَصْلٌ
وَلَا يَتِمُّ الْجِهَادُ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ ، وَلَا
الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ ، وَالرَّاجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ
هُمُ الَّذِينَ قَامُوا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ البقرة :
218 ] .
وَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَفَرْضٌ
عَلَيْهِ هِجْرَتَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ :
هِجْرَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ
وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمَحَبَّةِ
وَالتَّوْبَةِ ،
وَهِجْرَةٌ إِلَى رَسُولِهِ بِالْمُتَابَعَةِ
وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ ، وَالتَّصْدِيقِ بِخَبَرِهِ ، وَتَقْدِيمِ أَمْرِهِ
وَخَبَرِهِ عَلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَخَبَرِهِ : ( « فَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَمَـنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَـى مَـا هَاجَرَ إِلَيْهِ » ) .
وَفَرَضَ عَلَيْهِ جِهَادَ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ
اللَّهِ ، وَجِهَادَ شَيْطَانِهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا يَنُوبُ
فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ .
وَأَمَّا جِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَقَدْ
يُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ الْأُمَّةِ إِذَا حَصَلَ مِنْهُمْ مَقْصُودُ الْجِهَادِ .
[ فَصْلٌ
أَكْمَلُ الْخَلْقِ مَنْ كَمَّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ ]
فَصْلٌ
وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَمَّلَ
مَرَاتِبَ الْجِهَادِ كُلَّهَا ، وَالْخَلْقُ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ
اللَّهِ تَفَاوُتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْجِهَادِ ،
وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ
عَلَى اللَّهِ خَاتِمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ ، فَإِنَّهُ كَمَّلَ مَرَاتِبَ
الْجِهَادِ ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ، وَشَرَعَ فِي الْجِهَادِ
مِنْ حِينَ بُعِثَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَإِنَّهُ
لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ : { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ الْمُدَّثِّرِ : 1 – 4 ] شَمَّرَ عَنْ سَاقِ الدَّعْوَةِ ، وَقَامَ فِي ذَاتِ
اللَّهِ أَتَمَّ قِيَامٍ ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَسِرًّا
وَجِهَارًا ،
وَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ }
[ الحجر : 94 ] فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِ
لَوْمَةُ لَائِمٍ ، فَدَعَا إِلَى اللَّهِ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالْحُرَّ
وَالْعَبْدَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ وَالْجِنَّ
وَالْإِنْسَ .
وَلَمَّا صَدَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَصَرَّحَ لِقَوْمِهِ
بِالدَّعْوَةِ ، وَنَادَاهُمْ بِسَبِّ آلِهَتِهِمْ ، وَعَيْبِ دِينِهِمْ ،
اشْتَدَّ أَذَاهُمْ لَهُ ، وَلِمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ،
وَنَالُوهُ وَنَالُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ
قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } [ فُصِّلَتْ
: 43 ]
وَقَالَ :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
} [ الأنعام : 112 ]
وَقَالَ :
{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذاريات : 52 – 53 ] .
فَعَزَّى سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ لَهُ
أُسْوَةً بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَعَزَّى أَتْبَاعَهُ
بِقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
وَقَوْلِهِ : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت
: 1 – 3 ] { أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ -
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ
اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ -
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي
الصَّالِحِينَ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ
فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا
مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [ الْعَنْكَبُوتِ : 3 – 10 ] .
فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ ،
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ ، فَإِنَّ النَّاسَ
إِذَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمِ الرُّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَقُولَ
أَحَدُهُمْ : آمَنَّا ، وَإِمَّا أَلَّا يَقُولَ ذَلِكَ ، بَلْ
يَسْتَمِرُّ عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْكُفْرِ ،
فَمَنْ قَالَ : آمَنَّا امْتَحَنَهُ رَبُّهُ
وَابْتَلَاهُ وَفَتَنَهُ ، وَالْفِتْنَةُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ
لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ ،
وَمَنْ لَمْ يَقُلْ آمَنَّا فَلَا يَحْسِبْ أَنَّهُ
يُعْجِزُ اللَّهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطْوِي
الْمَرَاحِلَ فِي يَدَيْهِ .
وَكَيْفَ يَفِرُّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ . . .
إِذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ
فَمَنْ آمَنَ بِالرُّسُلِ وَأَطَاعَهُمْ عَادَاهُ
أَعْدَاؤُهُمْ وَآذَوْهُ فَابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ ،
وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْهُمْ عُوقِبَ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَحَصَلَ لَهُ مَا يُؤْلِمُهُ ، وَكَانَ هَذَا
الْمُؤْلِمُ لَهُ أَعْظَمَ أَلَمًا وَأَدْوَمَ مِنْ أَلَمِ اتِّبَاعِهِمْ ،
فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلِّ نَفْسٍ
آمَنَتْ أَوْ رَغِبَتْ عَنِ الْإِيمَانِ ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ يَحْصُلُ لَهُ
الْأَلَمُ فِي الدُّنْيَا ابْتِدَاءً ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَالْمُعْرِضُ عَنِ الْإِيمَانِ تَحْصُلُ لَهُ اللَّذَّةُ
ابْتِدَاءً ، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْأَلَمِ الدَّائِمِ .
وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيُّمَا
أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ ، أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلَى ؟ فَقَالَ : لَا يُمَكَّنُ
حَتَّى يُبْتَلَى ،
وَاللَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنَ
الرُّسُلِ ، فَلَمَّا صَبَرُوا مَكَّنَهُمْ ، فَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ
يَخْلُصُ مِنَ الْأَلَمِ الْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ
فِي الْعُقُولِ ،
فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرًّا
عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ ،
وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ
الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرِّ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا ؟
قِيلَ : الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ .
والنَّفْسُ مُوَكَّلَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
{ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ
الْآخِرَةَ } [ القيامة : 20 ] { إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ
وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } [ الإنسان :
27 ] ،
وَهَذَا يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ
مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ ، لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النَّاسِ ، وَالنَّاسُ
لَهُمْ إِرَادَاتٌ وَتَصَوُّرَاتٌ ، فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ
عَلَيْهَا ، فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ آذَوْهُ وَعَذَّبُوهُ ، وَإِنْ وَافَقَهُمْ
، حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ ، تَارَةً مِنْهُمْ وَتَارَةً مِنْ
غَيْرِهِمْ ،
كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلَّ بَيْنَ قَوْمٍ
فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ فُجُورِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إِلَّا
بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ ، أَوْ سُكُوتِهِ عَنْهُمْ ، فَإِنْ وَافَقَهُمْ أَوْ
سَكَتَ عَنْهُمْ سَلِمَ مِنْ شَرِّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ يَتَسَلَّطُونَ
عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابْتِدَاءً
لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَخَالَفَهُمْ ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ فَلَا بُدَّ أَنْ
يُهَانَ وَيُعَاقَبَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِمْ ،
فَالْحَزْمُ كُلُّ الْحَزْمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا
قَالَتْ عائشة أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لمعاوية : ( مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ
النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ
لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) .
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ رَأَى هَذَا
كَثِيرًا ، فِيمَنْ يُعِينُ الرُّؤَسَاءَ عَلَى أَغْرَاضِهِمِ الْفَاسِدَةِ ،
وَفِيمَنْ يُعِينُ أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمْ ،
فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وَوَقَاهُ شَرَّ نَفْسِهِ امْتَنَعَ
مِنَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ ، وَصَبَرَ عَلَى عُدْوَانِهِمْ ،
ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا كَانَتْ
لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَمَنِ ابْتُلِيَ
مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَصَالِحِي الْوُلَاةِ وَالتُّجَّارِ ،
وَغَيْرِهِمْ .
وَلَمَّا كَانَ الْأَلَمُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ الْبَتَّةَ
، عَزَّى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَنِ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ
الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرِّ ، بِقَوْلِهِ : { مَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ]
فَضَرَبَ لِمُدَّةِ هَذَا الْأَلَمِ أَجَلًا ، لَا بُدَّ
أَنْ يَأْتِيَ ، وَهُوَ يَوْمُ لِقَائِهِ ، فَيَلْتَذَّ الْعَبْدُ أَعْظَمَ
اللَّذَّةِ بِمَا تَحَمَّلَ مِنَ الْأَلَمِ مِنْ أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ ،
وَتَكُونُ لَذَّتُهُ وَسُرُورُهُ وَابْتِهَاجُهُ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ مِنَ
الْأَلَمِ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ،
وَأَكَّدَ هَذَا الْعَزَاءَ وَالتَّسْلِيَةَ بِرَجَاءِ
لِقَائِهِ لِيَحْمِلَ الْعَبْدُ اشْتِيَاقَهُ إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ
عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْأَلَمِ الْعَاجِلِ ، بَلْ رُبَّمَا غَيَّبَهُ
الشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ ،
وَلِهَذَا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَبَّهُ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِهِ ، فَقَالَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي
رَوَاهُ أحمد وَابْنُ حِبَّانَ : ( « اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ
الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ ، أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ
خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ، وَأَسْأَلُكَ
خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي
الْغَضَبِ وَالرِّضَى ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ،
وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ
، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ
بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَأَسْأَلُكَ
الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَلَا فِتْنَةٍ
مُضِلَّةٍ ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً
مُهْتَدِينَ » ) .
فَالشَّوْقُ يَحْمِلُ الْمُشْتَاقَ عَلَى الْجِدِّ فِي السَّيْرِ
إِلَى مَحْبُوبِهِ ، وَيُقَرِّبُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ ، وَيَطْوِي لَهُ الْبَعِيدَ
، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ وَالْمَشَاقَّ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ
أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ ،
وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ
هُمَا السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ
الْأَقْوَالِ ، عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ
لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَيَشْكُرُهَا وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيُحِبُّ الْمُنْعِمَ
عَلَيْهِ ، فَتَصْلُحُ عِنْدَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ ، وَيَصْلُحُ بِهَا كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا
أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ } [ الْأَنْعَامِ
: 53 ] ، فَإِذَا فَاتَتِ
الْعَبْدَ نَعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبِّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ : { أَلَيْسَ
اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [الأنعام: 53] .
ثُمَّ عَزَّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ ، وَهُوَ
أَنَّ جِهَادَهُمْ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَثَمَرَتُهُ عَائِدَةٌ
عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ، وَمَصْلَحَةُ هَذَا
الْجِهَادِ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ لَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، ثُمَّ أَخْبَرَ
أَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ .
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الدَّاخِلِ فِي الْإِيمَانِ
بِلَا بَصِيرَةٍ ، وَأَنَّهُ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
لَهُ كَعَذَابِ اللَّهِ ، وَهِيَ أَذَاهُمْ لَهُ ، وَنَيْلُهُمْ إِيَّاهُ
بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ الَّذِي لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ الرُّسُلُ
وَأَتْبَاعُهُمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ ، جَعَلَ ذَلِكَ فِي فِرَارِهِ مِنْهُمْ
وَتَرْكِهِ السَّبَبَ الَّذِي نَالَهُ كَعَذَابِ اللَّهِ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ
الْمُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ ، فَالْمُؤْمِنُونَ لِكَمَالِ بَصِيرَتِهِمْ فَرُّوا
مِنْ أَلَمِ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَتَحَمَّلُوا مَا فِيهِ مِنَ
الْأَلَمِ الزَّائِلِ الْمُفَارِقِ عَنْ قَرِيبٍ ، وَهَذَا لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ
فَرَّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ
وَمُتَابَعَتِهِمْ ، فَفَرَّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِهِمْ إِلَى أَلَمِ عَذَابِ
اللَّهِ ، فَجَعَلَ أَلَمَ فِتْنَةِ النَّاسِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ
أَلَمِ عَذَابِ اللَّهِ ، وَغُبِنَ كُلَّ الْغَبْنِ إِذِ اسْتَجَارَ مِنَ
الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ ، وَفَرَّ مِنْ أَلَمِ سَاعَةٍ إِلَى أَلَمِ الْأَبَدِ ،
وَإِذَا نَصَرَ اللَّهُ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ قَالَ : إِنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ ،
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ صَدْرُهُ مِنَ النِّفَاقِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ
حِكْمَتُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ النُّفُوسَ وَيَبْتَلِيَهَا ،
فَيُظْهِرُ بِالِامْتِحَانِ طَيِّبَهَا مِنْ خَبِيثِهَا ، وَمَنْ يَصْلُحُ
لِمُوَالَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ ، وَلِيُمَحِّصَ النُّفُوسَ
الَّتِي تَصْلُحُ لَهُ ، وَيُخَلِّصَهَا بِكِيرِ الِامْتِحَانِ ، كَالذَّهَبِ
الَّذِي لَا يَخْلُصُ وَلَا يَصْفُو مِنْ غِشِّهِ إِلَّا بِالِامْتِحَانِ ،
إِذِ النَّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ ،
وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مِنَ الْخُبْثِ مَا يَحْتَاجُ
خُرُوجُهُ إِلَى السَّبْكِ وَالتَّصْفِيَةِ ، فَإِنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الدَّارِ
وَإِلَّا فَفِي كِيرِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا هُذِّبَ الْعَبْدُ وَنُقِّيَ أُذِنَ
لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ ] [44] .
إذن فالقتال ضد
الطغاة المعتدين باليد ، هو نوع من أنواع الجهاد ، وليس هو الجهاد الوحيد ، وإن
جاءت كلمة الجهاد في القرآن الكريم بمعنى
القتال غالباً .
ولكن جاء في
القرآن الكريم أيضاً : ( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُم ) [45] .
بل أصرح من ذلك
وأوضح ، ما جاء في القرآن المكي ، الذي نزل في بدايات الدعوة في مكة – حيث لم يكن
القتال قد فُرِض بعد : ( وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
نَذِيرًا . فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ
بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) [46] .
[ يخبر تعالى عن نفوذ
مشيئته وأنه لو شاء لبعث في كل قرية نذيرا ، أي : رسولا ينذرهم ويحذرهم فمشيئته
غير قاصرة عن ذلك ، ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد - يا محمد - أن أرسلك إلى
جميعهم أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم .
{ فَلا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ } في ترك شيء مما أرسلت به بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت
به .
{ وَجَاهِدْهُمْ
} بالقرآن { جِهَادًا كَبِيرًا } أي :
لا
تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل إلا بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب
والجراءة ما رأيت فابذل جهدك واستفرغ وسعك ، ولا تيأس من هدايتهم ولا تترك إبلاغهم
لأهوائهم ] [47] .
[ ( فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
الفاء
للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر ، وقد أمره تعالى بأمرين :
الأمر
الأول - ألا تطع الكافرين ؛ لأنه منذر لهم ،
والطاعة تكون بتخاذله في الدعوة ، وممالأتهم فيما يعبدون ، وذلك مستحيل أن يكون من
محمد المبعوث رحمة للعالمين والذي جاء لإصلاحهم ، فلا يصح أن يعود إلى مداهنتهم في
الحق ،
وإنما
ذلك أمر لأتباعه - صلى الله عليه وسلم - من بعده ، ومن هم معه في حال حياته ، وذكر
الكافرين بالاسم الظاهر لبيان أن طاعتهم طاعة للكفر ، فكان ذلك تأكيد النفي ببيان
سببه .
والأمر
الثاني – جهادهم ، والجهاد بذل الجهد في مقاومة ضلالهم ، وبيان الحق الذي يدعو
إليه ، والإصرار عليه ،
والجهاد
كان في مكة بالصبر على الدعوة إلى الإيمان ، والأذى في سبيلها ، والاستهزاء
والسخرية بها ، وألا يني عن الإعلام بها لمن لم يكن يعلم ،
وقد
حقق النبي وأصحابه ذلك في مكة ، فقد صبروا وصابروا ، وتعرض النبي - صلى الله عليه
وسلم - للقبائل بعد أن ذهب إلى الطائف وردوه ردا منكرا ، تعرض للقبائل في موسم
الحج ، حتى كان الأوس والخزرج من أهل يثرب ، إذ وجدوا فيه منجاتهم مما هم فيه من
عداء بينهم ، وحرب مع اليهود ، فهاجر إليهم ، فكانوا له أنصارا ، وكان الجهاد
بالمنازلة بعد الجهاد بالمصابرة .
ووصف
اللَّه تعالى المطلوب بأنه جهاد كبير ، لأن المصابرة أمر عظيم ، وبها قام المسلمون
، وتكونت الخلية الأولى من أهل الوحدانية . وحملوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم
- عبء الجهاد في دوره الثاني ، وكان الجهاد كبيرا ؛ لأنه كان في كل أدوراه بالصبر ،
وقوله
: ( بِهِ ) أي القرآن ببيانه والتمسك به ، فإنه في ذاته قوة ، وإنه بهذا يشير إلى
وجوب الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيلها والمصابرة ، وهو أمر كبير إلا على
الخاشعين ، وإن كبر الجهاد ليس بكثرة المقتولين ، وإنما كبره يكون بالصبر عليه ،
وإرادة اللَّه تعالى فيه ، وتحمل الأذى والرضا بالأذى ، ما دام يوصل إلى الغاية ،
وهي أن تكون كلمة اللَّه تعالى هي العليا ] [48] .
قال
الحافظ ابن تيمية رحمه الله :
[ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي
حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ
دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ] [49] .
[ و " الْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ
الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَق ] [50] .
عَنْ أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - عنِ النَّبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم قال : « أفضلُ الجهادِ
كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائرٍ " [51] .
وعن النبيّ r : سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه
، فقتله [52]
.
فكلّ جُهدٍ يُبذل في سبيل الله ، من أجل رفع راية
الإسلام ، وإعلاء كلمة الله تعالى فهو جهاد .
[ في
كتابِ الله عز وجل عشراتُ الآيات في فضلِ الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى أنَّ عائشة
رضي الله عنها لمَّا قرأتْ كتاب الله بتدبرٍ انتبهت لذلك ؛ فقالتْ: يا رسول الله !
نرى الجهادَ أفضلَ العملِ ؛ أفلا نجاهدُ ؟ قال : " لا ، لكِنَّ ( وفي رواية :
لَكُنَّ ) أفضلَ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ " أخرجه البخاري.
لقد ضلَّ كثيرٌ من المسلمين في هذا العصرِ في حين قصروا الجهاد
في سبيل الله تعالى على جهادِ السيف ، ألم يقرأ هؤلاء قولَ ربِّنا سبحانه : "فَلَا
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا " الفرقان : 52
. عن ابن عباس رضي الله عنهما : " وَجَاهِدْهُمْ بِهِ " قال : بالقُرآنِ
.
قال الإمام القرطبي رحمه الله : " وَجَاهِدْهُمْ بِهِ
" قال ابن عباس : بالقرآن . وقال ابن زيد : بالإسلام . وقيل : بالسيف ، وهذا فيه
بُعدٌ ؛ لأنَّ السورةَ مكيَّةً ، نزلت قبلَ الأمرِ بالقتالِ .
وقال ابن القيم رحمه الله يقول : هذا جهادٌ لهم بالقرآنِ
، وهو أكبرُ الجهادَين .
إنَّ الجهاد بالكلمةِ من أعظمِ أنواعِ الجهادِ في سبيل الله
، فلقد صحَّ عن طارق بن شهابٍ – وله رؤيةٌ ، أنَّ رجلا سألَ النبيَّ صلى الله عليه
وسلم وقد وضعَ رجلَه في الغْرزِ: أيُّ الجهادِ أفضلُ ؟ قال : " كلمةُ حقٍّ عند
سلطانٍ جائرٍ " . أخرجه أحمد بإسناد صحيح .
إنك لو نظرت في حياة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لرأيت
عددًا كبيرًا منهم لم يحاربْ ؛ إنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يحارب قومَه بالسيف
ولم يقاتلهم أبدًا ، فهل تراه لم يكن من المجاهدين ؟
وقُلْ مثلَ هذا في نوحٍ ، وعيسى ، ولوطٍ ، وشعيبٍ ، ويحيى
عليهم السلام ، لم يحـاربْ أحـدٌ منهـم قومَه ، فهل تجترئ على القولِ : إنَّهم عليهم
السلام لم يكونوا مجاهدين ؟ ! لا والله ، لقد كانوا شيوخَ المجاهدين وقادَتهم وقدوتَهم
،
لقد جاهدوا أعظمَ الجهادِ ، وصدعوا بكلمة الحقِّ في وجه الطُّغاة
المتجبرين ، ونشروا دينَ الله عزَّ وجلَّ في الخافقين ، وصبَروا على أذى العُتاة المجرمين
.
من جميل ما استدلَّ به العلماء على أنَّ الجهادَ لا يكون
بالسَّيف فحسب قولُه تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
" التوبة : 7 .
قال ابن القيم رحمه الله : لم يكنِ المنافقون يقاتلون المسلمينَ
، بل كانوا معهم في الظَّاهرِ ، وربَّما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم ، ومعَ هذا قال
تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ "
، ومعلوم أنَّ جهادَ المنافقين بالحجَّةِ والقرآنِ .
والمقصودُ أنَّ " سبيلَ الله " هي : الجهادُ ،
وطلبُ العلمِ ، ودعوةُ الخلقِ به إلى الله. ولهذا قال معاذ - رضى الله عنه - : عليكم
بطلبِ العلمِ ؛ فإنَّ تعلُّمَه لله خشيةٌ ، ومدارستَه عبادةٌ ، ومذاكرتَه تسبيحٌ ،
والبحثَ عنه جهادٌ .
ألم تقرأ قول الله تعالى : " الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ " التوبة : 20
.
وتأمَّل في كلام ربِّنا لقد قدم الجهاد بالمالِ على الجهاد
بالنفس ، إنَّ الذي يسخر أموالَه لنشر دعوة الله عز وجل في ربوع المعمورة داخلٌ في
المجاهدين في سبيل بأموالهم ، وأي جهاد أعظم من ذلك ؟
إن جهاد من ينتسبون إلى الإسلام ويطعنون فيه في خفاء ، ويلبسون
على عامة المسلمين دينهم ؛ لهو من أعظم الجهاد في سبيل الله .
إن جهاد الكافرين الذين يقذفون بشبهاتهم على الإسلام يريدون
هدمَه بكل سبيل ممكن ، ويدسون في دين الله سمومهم ؛ لهو من أعظم الجهاد في سبيل الله
.
كان ابن القيم رحمه الله يقول : إنَّ تبليغَ سنَّتِه - صلى
الله عليه وسلم - إلى الأمَّةِ أفضلُ من تبليغِ السِّهامِ إلى نحورِ العدوِّ ؛ لأنَّ
ذلك التبليغَ يفعلُه كثيرٌ من النَّاسِ ، وأمَّا تبليغُ السُّننِ فلا تقومُ به إلا
ورَثةُ الأنبياءِ وخلفاؤهم في أمَمِهم .
بل إنَّ من أعظم الجهاد في سبيل الله جهادُ النفسِ على طاعة
الله عز وجل ، ولا يظنَّ من لم يستطعْ مقاومةَ شهوتِه ولذَّتِه أنَّ في استطاعتِه أن
يُجاهدَ أعداءَ الله بالسيف .
صحَّ عن فَضالةَ
بنِ عُبَيدٍ - رضي الله عنه – قالَ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" المُجاهدُ من جاهدَ نفسَه في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ " . أخرجه أحمد بإسناد
حسن .
قال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : جاءَ رجلٌ إلى
النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - ، فاستأذنَه في الجهادِ ، فقال : " أحيٌّ والداك
؟ " قالَ : نعم ، قالَ : " ففيهِما فجاهِد" . أخرجه الشيخان .
هل خطر ببالك يومًا أنَّ برَّك بوالديك من الجهادِ في سبيل
الله عزَّ وجلَّ ؟
ألا تعلم أنَّ استيقاظَك من نومك لصلاة الفجرِ في المسجد
من الجهادِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ ؟
ولا يعني كلامنا هذا إبطال الجهاد في سبيل الله عز وجل بالسيف
، وإنما أردنا بيان أنَّ هذا أحدُ أنواع الجهاد في سبيلِ الله ، وأنَّ مفهومَ الجهادِ
في الإسلامِ أشملُ من هذا،
فالجهاد في الإسلام لا يكون بالنفس فحسب ، بل يكون بالنفس
والقلب واللسان والمال ] [53] .
فضل الجهاد
هناك أحاديث كثيرة مباركة ، تتحدّث عن الجهاد ، ولكن
كلّها تعني القتال في سبيل الله [54]
.
فعلى سبيل المثال :
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
« مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ، وَلَهُ
مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ
إِلَى الدُّنْيَا ، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ » [55]
.
وأنا هنا لا أتحدّث عن هذا النوع من الجهاد ، بل غرضي هو
بيان الأنواع الأخرى .
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : « رِبَاطُ
يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ، وَمَوْضِعُ
سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا ،
وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ
مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا » [56]
.
وعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : « جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَأَلْسِنَتِكُمْ » [57]
.
ونعيد
بعض ما ذكرناه سابقاً :
( فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ
بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )
عَنْ أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - عنِ النَّبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم قال : « أفضلُ الجهادِ
كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائرٍة " [58] .
وعن النبيّ r : سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه
، فقتله [59]
.
صحَّ عن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ - رضي الله عنه – قالَ : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المُجاهدُ من جاهدَ نفسَه في سبيلِ الله
عزَّ وجلَّ " . أخرجه أحمد بإسناد حسن .
قال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : جاءَ رجلٌ إلى
النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - ، فاستأذنَه في الجهادِ ، فقال : " أحيٌّ والداك
؟ " قالَ : نعم ، قالَ : " ففيهِما فجاهِد" . أخرجه الشيخان .
[ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي
حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ وَمِنْ
دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ] [60] .
[ و " الْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ
الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَق ] [61] .
" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
" التوبة : 7 .
قال ابن القيم رحمه الله : لم يكنِ المنافقون يقاتلون المسلمينَ
، بل كانوا معهم في الظَّاهرِ ، وربَّما كانوا يقاتلون عدوَّهم معهم ، ومعَ هذا قال
تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ "
، ومعلوم أنَّ جهادَ المنافقين بالحجَّةِ والقرآنِ .
فالجهاد
أعم من القتال ، فكل قتال في سبيل الله جهاد ، وليس كلّ جهاد قتال .
فهناك
جهاد النفس ، والدّنيا ، والشيطان ، والمنافقين ، وجهاد ردّ شبهات خصوم الإسلام
بالحجة والبرهان ، وجهاد تبليغ رسالة الإسلام ، وجهاد بذل كلّ ما في الوسع من
المال والراحة والفكر والنشاط ، في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة الله تعالى ، وجهاد
برّ الوالدين ، وجهاد الحج ولاسيما للنساء ، و . . . و . . . إلخ .
فالْجِهَادَ هو كلّ ما يؤدّي إلى حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ وَمِنْ دَفْعِ
مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، كما قال
الحافظ ابن تيمية رحمه الله .
و
هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعُ مَا يَكْرَهُهُ الْحَق .
فالله سبحانه
وتعالى يحثُّ المسلمين على القتال في سبيله ، سواء قُتِلوا أو ماتوا فهما سِيّان .
فالأمران في سبيل
الله :
يقول الله تعالى :
( وَلَئِنْ
قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ . وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى
اللَّهِ تُحْشَرُون ) [62] .
[ أنه ذكر أن الموت قد
يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة
والهداية يحب الشيء لَا يحبه إلا لله تعالى ، وكان الله ورسوله أحب إليه من نفسه ،
فإن من يكون كذلك يعيش لله وفى سبيل الله ويموت في سبيل الله ] [63] .
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ ؟ » قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللهِ ، مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، قَالَ : « إِنَّ
شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ » ،
قَالُوا : فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : « مَنْ
قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ
شَهِيدٌ ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ مَاتَ فِي
الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ » ، قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ : أَشْهَدُ عَلَى أَبِيكَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : « وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ» [64]
.
مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ
مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ .
وهذا الفضل للجهاد
في سبيل الله ، ليس من أجل أنّ الله تعالى ينتفع به ، أو يضرّه عدمه ، تعالى الله
وتبارك وعزّ وجلّ عن ذلك .
بل هو
كلّه من أجل مصلحة الإنسان .
يقول
الله تعالى : ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ
لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) [65] .
ويقول
سبحانه : ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين ) [66]
.
ويقول
تعالى : ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز ) [67] .
وكما
ذكرنا قوله تعالى ، في الحديث القدسيّ : ( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا
ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي
لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى
قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا
عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا
عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . . .
يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ
أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا ،
فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا
نَفْسَه ) [68]
اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِه
[ يخبر تعالى بلطفه
بعباده ليعرفوه ويحبوه ، ويتعرضوا للطفه وكرمه ، واللطف من أوصافه تعالى معناه :
الذي يدرك الضمائر والسرائر ، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين - إلى ما فيه
الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون .
فمن
لطفه بعبده المؤمن ، أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله ، بما يسر له من
الأسباب الداعية إلى ذلك ، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيزاعه تعالى
لملائكته الكرام ، أن يثبتوا عباده المؤمنين ، ويحثوهم على الخير ، ويلقوا في
قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه .
ومن
لطفه أن أمر المؤمنين ، بالعبادات الاجتماعية ، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث
هممهم ، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه ، واقتداء بعضهم ببعض
ومن
لطفه ، أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي ، حتى إنه تعالى إذا
علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا ، تقطع عبده عن
طاعته ، أو تحمله على الغفلة عنه ، أو على معصية صرفها عنه ، وقدر عليه رزقه،
ولهذا قال هنا : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَهُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } الذي له القوة كلها ، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين
إلا به ، الذي دانت له جميع الأشياء ] [69] .
فالله تعالى يحبّ الخير لعباده المؤمنين :
قال رسول الله r : " لَلَّهُ أَشَدُّ
فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ
مَهْلِكَةٍ ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ
وَشَرَابُهُ ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ ، فَطَلَبَهَا حَتَّى
أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ، ثُمَّ قَالَ : أَرْجِعُ إِلَى
مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ ، فَوَضَعَ
رَأْسَهُ عَلَى
سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ
وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَاللهُ
أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ
هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ " [70]
.
وهو لطيف
ورحيم حتى بعباده غير المؤمنين ، فيُمهلهم ويرزقهم ، ويفسح لهم الآجال ،
ويُخوِّفهم ليتوبوا ويرجعوا إلى الحق ، فإذا رجعوا وتابوا ، تاب عليهم وكفّر عنهم
سيّئاتهم !
يقول
تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ
النَّعِيم ) [71]
.
ولقد ذكر
تعالى في كتابه العزيز ، عدة موبقات وكبائر الذنوب ، إن فعلها الإنسان ثم تاب عنها
، فسوف يتوب عليه ويرحمه ويُحسن إليه أكثر !
يقول
تعالى ، بعد ذكر تلك الموبقات والكبائر : (
إِلَّا
مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) [72]
.
ولهذا
فالله تعالى يخوّف عباده ، ويدعوهم لإنقاذ أنفسهم من العذاب الأبدي في الآخرة
والفوز بالجنة الخالدة . فيُرهبهم ويرغّبهم :
يقول
تعالى : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ . لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ
ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُون ) [73] .
الترهيب والترغيب
ومن
الترهيب والترغيب ذكر النار والجنة في القرآن العظيم ، وفي سنة رسول الله r .
أذكر
أولاً الآيات الكريمة التي تتحدّث عن النّار ، بدون أيّ تفسير ، فهي واضحة بيّنة
بنفسها ، لا تحتاج إلى تفسير وبيان ، وقد ذكرها الله تعالى لترهيب عباده حتى
يجتنبوها ، وينقذوا أنفسهم منها :
نبدأ
من يوم القيامة :
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى
فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُون ) [74] .
( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا
كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) [75] .
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا
رَبِّي نَسْفًا . فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا . لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا
أَمْتًا . يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ
الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا . يَوْمَئِذٍ لَا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا
. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْمًا . وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ
ظُلْمًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ
ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) [76] .
( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ
هَلْ مِنْ مَزِيد ) [77] .
( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً . تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
. لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ . لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ
جُوعٍ ) [78] .
( إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا . وَطَعَامًا ذَا
غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ) [79] .
( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ .
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ . فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ .
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ . هَذَا
نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) [80] .
( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ .
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ . فَإِنَّهُـمْ لَآكِلُونَ مِنْهَـا
فَمَالِئُونَ مِنْهَـا الْبُطُونَ . ثُـمَّ إِنَّ لَهُـمْ عَلَيْهَـا لَشَوْبًـا
مِـنْ حَمِيمٍ ) [81] .
( وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . مِنْ
وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ
يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ
وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) [82] .
( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُم ) [83] .
( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ
نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ . يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ . وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلَّمَا أَرَادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق ) [84] .
( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ
بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) [85] .
( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّار ) [86] .
( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَوَاشٍ ) [87] .
( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ
تَحْتِهِمْ ظُلَل ) [88] .
( انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ .
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ . لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ
اللَّهَبِ . إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ . كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ .
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ . هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ . وَلَا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ . هَذَا
يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ . فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ
فَكِيدُونِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) [89] .
( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ
مِنْ سَبِيل ) [90] .
( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ
صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون ) [91] .
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا
يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا
كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ . وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) [92] .
( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا
وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا
فَإِنَّا ظَالِمُونَ . قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ . إِنَّهُ كَانَ
فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ . فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى
أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ . إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ . قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ . قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ . وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُون ) [93] .
( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ
يُسْحَبُونَ . فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ . ثُمَّ قِيلَ
لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا
عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
الْكَافِرِينَ . ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ . ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين ) [94] .
( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ
فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه ) [95] .
( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا
حِسَابِيَهْ . يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ .
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه ) [96]
تلك
كانت بعض الآيات المباركة ، التي خوَّف الله تعالى بها عباده ، ليتوبوا ويرجعوا
إلى الحقّ ، ولا يتمادوا في الضلال .
ولقد
خوَّف رسول الله r الناس أيضاً ، وأنذرهم ، ليُنقذوا أنفسهم من الهلاك يوم القيامة .
فمما
جاء في بعض الأحاديث الشريفة في ذلك ، ما يلي :
( قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ
يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَيْنَ
الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ . ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ
بِشِمَالِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ " ) [97]
( « تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ ، حَتَّى تَكُونَ
مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ » - قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ : فَوَاللهِ مَا
أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي
تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ –
قَالَ : « فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ
أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى
حَقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا » قَالَ :
وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ ) [98] .
( يُؤْتَى
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا ) [99]
.
( نَارُكُمْ
هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا ، مِنْ حَرِّ
جَهَنَّمَ » قَالُوا : وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً ، يَا رَسُولَ اللهِ
قَالَ : « فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا ،
كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا ) [100]
.
( عَـنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ ، قَـالَ : كُنَّـا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : « تَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ » قَالَ : قُلْنَا : اللهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ ، قَالَ : « هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ
خَرِيفًا ، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا
» ) [101]
.
( يُؤْتَـى
بِأَنْعَـمِ أَهْلِ الدُّنْيَـا مِـنْ أَهْـلِ النَّـارِ يَـوْمَ الْقِيَـامَـةِ ،
فَيُصْبَغُ فِـي النَّـارِ صَبْغَـةً ، ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ
رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا ،
وَاللهِ يَا رَبِّ ) [102]
.
( إِنَّ
أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ ، عَلَى أَخْمَصِ
قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي المِرْجَلُ
وَالقُمْقُمُ ) [103]
.
( إِنَّ
أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ،
يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا
أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا ) [104]
.
( عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل
عمران : 102 ] " وَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ
الزَّقُّومِ قَطَرَتْ فِي الْأَرْضِ لَأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا
مَعِيشَتَهُمْ ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرُهُ ؟ " ) [105]
.
( عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :
إِنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الحَمِيمُ حَتَّى
يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلِتُ مَا فِي جَوْفِهِ ، حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ
وَهُوَ الصَّهْرُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ . . .
هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ) [106]
.
( قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ، إِنَّ عَلَى
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ
طِينَةِ الْخَبَالِ » قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟
قَالَ : « عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ » أَوْ «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ » ) [107]
.
[ يقول محمد بن كعب : لأهل النار خمس
دعوات يجيبهم الله عز وجل في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً
يقولون : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى
خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) ( غافر :11 )
فيقول الله تعالي مجيبا لهم : ( ذَلِكُمْ
بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر : 12 )
ثم يقولون : ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ) ( السجدة : 12 )
فيجيبهم الله تعالي : ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ
مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ )( ابراهيم : 44 )
فيقولون : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ
صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل ) ( فاطر : 37 ) فيجبهم الله تعالي : ( أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا
فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) ( فاطر :37 )
ثم يقولون : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا
فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) (المؤمنون : 106 - 107 )
فيجيبهم الله تعالي : ( اخْسَأُوا فِيهَا
وَلا تُكَلِّمُونِ ) ( المؤمنون : 108 )
فلا يتكلمون فيها بعدها أبداً وذلك
غاية شدة العذاب ] [108]
.
( قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُجَاءُ بِالْمَوْتِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ - زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ :
فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ –
فَيُقَالُ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَشْرَئِبُّونَ
وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، هَذَا الْمَوْتُ ،
قَالَ : وَيُقَالُ : يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ
تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ : نَعَمْ ،
هَذَا الْمَوْتُ ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ ، قَالَ : ثُمَّ يُقَالُ :
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ
فَلَا مَوْتَ " قَالَ : ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [ مريم : 39 ] وَأَشَارَ
بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا " ) [109]
.
وتلك كانت كوكبة من أحاديث رسول الله r ، عن كُرَب
يوم القيامة ، حذَّر منها الناس ، لعلّهم يتأهبون لها فينجون !
الجنة
وهناك آيات كريمة كثيرة ، وأحاديث نبوية مباركة ، تحدّثت عن
الجنة ، ترغيباً لهم ، لكي يدفعهم الشوق إليها ، فيعملون لها . منها :
( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ
مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا . يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ
شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا . وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا
قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً
وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . مُتَّكِئِينَ
فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا . وَدَانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا . وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا . قَوَارِيرَ مِنْ
فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا . وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلًا . عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا . وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا .
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا . عَالِيَهُمْ ثِيَـابُ
سُـنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْـتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ
رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا . إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ
سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) [110]
.
( إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ .
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ . فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ . فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ . عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ . يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ . بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ . لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ
عَنْهَا يُنْزَفُونَ . وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ . كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَكْنُون ) [111]
.
( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا . حَدَائِقَ
وَأَعْنَابًا . وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا . وَكَأْسًا دِهَاقًا . لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا . جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ) [112]
.
( إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ
أَحْسَنَ عَمَلًا . أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ
ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى
الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) [113]
.
(
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . عَلَى
الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ .
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ . خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ . وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ . عَيْنًا
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) [114]
.
(وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا
عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا
مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ
دَانٍ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِنَّ قَاصِـرَاتُ
الطَّرْفِ لَـمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُـمْ وَلَا جَـانٌّ . فَبِأَيِّ
آلَاءِ رَبِّكُمَـا تُكَذِّبَـانِ . كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا
الْإِحْسَانُ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . وَمِنْ دُونِهِمَا
جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَـا تُكَذِّبَـانِ . مُدْهَامَّتَانِ .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ
حِسَانٌ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي
الْخِيَامِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَان ) [115]
.
ومن الأحاديث النبوية ، في ذلك :
( قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا
عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : « لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةٌ
مِنْ فِضَّةٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ
أَوِ الْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلْهَا يَنْعَمْ ،
فَلَا يَبْؤُسُ ، وَيَخْلُدْ لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُه ) [116]
.
(
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله
عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ فِي
الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا ، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا
" فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ ،
قَالَ
: " لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ
وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَدَامَ
الصِّيَامَ وَصَلَّى للهِ بِاللَّيْلِ
وَالنَّاسُ نِيَامٌ " ) [117]
.
( إِنَّ
أَهْـلَ الجَنَّـةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الغُرَفَ فِـي الجَنَّـةِ ، كَمَـا
تَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ فِي السَّمَاء
) [118]
.
( إِنَّ
فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ
يَقْطَعُهَا ) [119]
.
( أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى
صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ، لاَ يَبْصُقُونَ فِيهَا ، وَلاَ
يَمْتَخِطُونَ ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ ،
أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ ،
وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ ، يُرَى مُخُّ
سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ
وَلاَ تَبَاغُضَ ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً
وَعَشِيًّا ) [120]
.
( لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ غَدْوَةٌ
، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ
الجَنَّةِ ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا فِيهَا ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى
أَهْلِ الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا ،
وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ) [121]
.
( إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً
مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا ، لِلْمُؤْمِنِ
فِيهَا أَهْلُونَ ، يَطُوفُ عَلَيْهِمِ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ
بَعْضًا ) [122]
.
( يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ
كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجِمَاعِ " ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَوَيُطِيقُ
ذَلِكَ ؟ ، قَالَ : " يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ ) [123]
.
( إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ
خُرُوجًا مِنْهَا ، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ
النَّارِ كَبْوًا ، فَيَقُولُ اللَّهُ : اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ ،
فَيَأْتِيهَا ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى ، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ :
يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى ، فَيَقُولُ : اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ ،
فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ : يَا
رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى ، فَيَقُولُ : اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ ، فَإِنَّ
لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا – أَوْ : إِنَّ لَكَ مِثْلَ
عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي – أَوْ : تَضْحَكُ
مِنِّي - وَأَنْتَ المَلِكُ " فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، وَكَانَ يَقُولُ : «
ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَة ) [124]
.
( سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، قَالَ
: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ،
فَيُقَالُ لَهُ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، كَيْفَ وَقَدْ
نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ ،
فَيُقَالُ لَهُ : أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ
مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ ، فَيَقُولُ :
لَكَ ذَلِكَ ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَقَالَ فِي
الْخَامِسَةِ : رَضِيتُ رَبِّ ، فَيَقُولُ : هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ،
وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ، فَيَقُولُ : رَضِيتُ رَبِّ ،
قَالَ : رَبِّ ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً ؟ قَالَ :
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي ، وَخَتَمْتُ
عَلَيْهَا ، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى
قَلْبِ بَشَرٍ " ، قَالَ : وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ :
" { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة
: 17 ] الْآيَةَ ) [125]
.
( آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ ، فَهْوَ
يَمْشِي مَرَّةً ، وَيَكْبُو مَرَّةً ، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً ، فَإِذَا
مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي
مِنْكِ ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ،
فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ،
أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، وَأَشْرَبَ مِنْ
مَائِهَا ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا ابْنَ آدَمَ ، لَعَلِّي إِنَّ
أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا ، فَيَقُولُ : لَا ، يَا رَبِّ ،
وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا ، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ
يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ، فَيَسْتَظِلُّ
بِظِلِّهَا ، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ،
ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ
الْأُولَى ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ
مَائِهَا ، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا ، فَيَقُولُ :
يَا ابْنَ آدَمَ ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا ،
فَيَقُولُ : لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا ،
فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا ، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ
يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ
بِظِلِّهَا ، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ،
ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ
هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، أَدْنِنِي مِنْ
هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا ، لَا أَسْأَلُكَ
غَيْرَهَا ، فَيَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا
تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا ، قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ
غَيْرَهَا ، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا ،
فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ،
فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، أَدْخِلْنِيهَا ، فَيَقُولُ : يَا ابْنَ
آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا
وَمِثْلَهَا مَعَهَا ؟ قَالَ : يَا رَبِّ ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ ؟ " ،
فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ : أَلَا
تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ فَقَالُوا : مِمَّ تَضْحَكُ ، قَالَ : هَكَذَا ضَحِكَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : مِمَّ تَضْحَكُ يَا
رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ
قَالَ : أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : إِنِّي
لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ ) [126]
.
( تَلَا رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ : { لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس
: 26 ] ، قَالَ :
" إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ
الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ، نَادَى مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ،
إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ ،
فَيَقُولُونَ : وَمَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ اللَّهُ مَوَازِينَنَا ،
وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِنَا مِنْ النَّارِ ؟
قَالَ
: فَيَكْشِفُ الحِجَابَ ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ، فَوَاللَّهِ مَا أَعَطَاهُمْ
اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ ، يَعْنِي إِلَيْهِ ، وَلَا
أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ ) [127]
.
( إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ
لِأَهْلِ الجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الجَنَّةِ ؟ فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا
وَسَعْدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ
نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ،
فَيَقُولُ : أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ،
قَالُوا : يَا رَبِّ ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ
عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ) [128]
.
( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ،
قَالَ : يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟
فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ،
وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا
شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ) [129]
.
[ قال الإمام الشافعي
رضي الله عنه في مسنده حدثنا إبراهيم بن محمد . . .
قال
النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل وما يوم المزيد ؟
قال :
إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك فإذا كان يوم القيامة أنزل الله
تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين وحف تلك
المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون فجلسوا من
ورائهم على تلك الكثب
فيقول
الله تبارك وتعالى : أنا ربكم قد صدقتم وعدي فسلوني أعطكم
فيقولون
: ربنا نسألك رضوانك
فيقول
: قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد
فهم
يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير . . .
وروى
أبو نعيم من حديث شيبان بن خيبر بن فرقد عن الحسن عن أبي برزة الأسلمي عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال :
"
إن أهل الجنة ليغدون في حلة ويروحون في أخرى كغدو أحدكم ورواحه إلى ملك من ملوك
الدنيا كذلك يغدون ويروحون إلى زيارة ربهم عز وجل وذلك لهم بمقادير ومعالم يعلمون
تلك الساعة التي يأتون فيها ربهم عز وجل
"
قال :
وروى جعفر بن حسن بن فرقد عن أبيه مثله وذكر أبو نعيم أيضا من حديث أبي إسحاق عن
الحارث عن علي قال :
إذا
سكن أهل الجنة الجنة أتاهم ملك فيقول لهم إن الله تبارك وتعالى يأمركم إن تزوروه
فيجتمعون فيأمر الله تبارك وتعالى داود عليه السلام فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل
ثم يوضع مائدة الخلد "
قالوا
: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما مائدة الخلد ؟
قال :
زاوية من زواياه أوسع مما بين المشرق
والمغرب فيطعمون ثم يسقون ثم يكسون فيقولون لم يبق إلا النظر في وجه ربنا عز وجل
فيتجلى لهم فيخرون سجدا فيقال لهم : لستم في دار عمل إنما أنتم في دار جزاء ] [130] .
كلّ هذا الترغيب
والترهيب من أجل أن يهتدي الإنسان ، ويستقيم على صراط الحق في الدنيا ، ويلتزم بما
أنزله الله تعالى منهجاً للحياة .
والله تعالى لا
ينفعه ولا يضرّه اهتدائهم ولا ضلالهم : ( قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) [131]
.
فحريّ بالإنسان أن
يستعد لذلك اليوم ، قبل أن يغادر هذه الحياة – الفرصة الوحيدة – بدون رجعة ،
يغادرها إلى هناك !
فكيف بالمؤمن ،
الذي آمن بالله وكتابه واليوم الآخر ؟ !
ولقد خلق الله
تعالى الموت والحياة – كما هو معلوم – على هذه الأرض ، للإبتلاء والإختبار ، ليتميّز الخبيث من الطيّب
.
وهو تعالى عالم
الغيب والشهادة ، يعلم ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف سيكون : ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ
وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ) [132]
.
( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ
مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مُبِين ) [133]
.
ولكنه سبحانه
وتعالى ، لا يريد أن يحاسب الإنسان إلّا على ما اقترفت يداه في عالم الواقع : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) [134]
.
ولقد شاء سبحانه ،
أن تجري الأمور في هذه الحياة ، على وفق عالم الأسباب ؛ كلّ سببٍ يؤدّي إلى نتيجته
.
فلو أنّ ملحداً –
وهو مَن لا يؤمن بالله خالقه ، ولا يؤمن برسله ، ولا كُتُبه ، ولا باليوم الآخر –
كان سبّاحاً ماهراً ، فهو يستطيع أن يشق عباب الأنهار سباحة .
بينما لو كان هناك
رجلاً صالحاً ، يقيم الليل ، ويصوم النهار ، ويسير على منهج الإسلام ، ملتزماً بما
أمر الله تعالى ، ونهى عنه ، ولكنّه لا يجيد السباحة ، فقد يغرق في بركة ماء !
والله تعالى ، لا
يُغرِق الملحد لإلحاده ، ولا يُنجي المؤمن بسبب إيمانه ، طالما أنه لم يأخذ
بالأسباب .
الأخذ بالأسباب
نعيد بعض الآيات
التي ذكرناها سابقاً ، وهي تؤكّد ما قلناه :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم ) [135]
.
( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) [136]
.
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم ) [137]
.
( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [138]
.
( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر ) [139]
.
( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُم ) [140]
.
( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك ) [141]
.
( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة ) [142]
.
ومن الأحاديث
النبوية الشريفة :
( لو أنكم توكلتم
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماساً ، وتعود بطانا ) [143]
.
[ في هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب،
حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها ] [144]
.
( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ
مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ
، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَز ) [145]
.
( وَفِرَّ
مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَد ) [146]
.
( عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ :
كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ » ) [147]
.
( قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ ؟ قال : " اعقلها وتوكل ) [148]
.
[ ولقد أرشدنا
النبي صلى اله عليه وسلم في أحاديث كثيرة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله
تعالى ، كما نبه صلى الله عليه وسلم على عدم تعارضها . .
إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى ، وهو الأمر
الذي خلق له العبيد ، وأرسلت به الرسل ، وأنزلت لأجله الكتب ، وبه قامت السماوات والأرض
، وله وجدت الجنة والنار ، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية .
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها
وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها ، وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين
:
الأمر الأول : الاعتماد عليها ، والتوكل عليها ، والثقة بها ورجاؤها
وخوفها ، فهذا شرك يرقُّ ويغلظ وبين ذلك .
ــ الأمر الثاني : ترك ما أمر الله به من الأسباب ، وهذا أيضاً قد يكون
كفراً وظلما وبين ذلك ، بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر ، ويتوكل على
الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله ، سبق بها علمه ، وحكمه ، وأن السبب لا
يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يقضي ولا يحكم ، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له
به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم ،
فيأتي بالأسباب إتيان ما لا يرى النجاة
والفرج والوصول إلا بها ، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحاً
ولا توصله إلى المقصود ، فيجرد عزمه للقيام بها حرصاً وإجتهاداً ، ويفرغ قلبه من الاعتماد
عليها والركون إليها تجريداً للتوكل وإعتماداً على الله وحده .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح ، حيث
يقول : “ احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ” .
فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان :
ــ النوع الأول : تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها .
ــ النوع الثاني : وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها .
فالدين كله ظاهره وباطنه وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية .
إن القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين ، وهذا من قلة العلم
بسنة الله في خلقه وأمره ، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب ، وشرع للعباد أسباباً
ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة ،
فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه ، وأن
المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط . . .
فعلى مستوى السنة الفعلية ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ظاهر في الحرب بين درعين
، ولبس على رأسه المغفر ، وأقعد الرماة في الشعب ، وخندق حول المدينة ، وأذن في الهجرة
إلى الحبشة وإلى المدينة ، وهاجر هو وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادّخر لأهله قوتهم
، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك ،
ومع كل ذلك لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مال إلى شيء من الأسباب
غفلة مقدار طرفة عين . . .
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب ، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة ،
ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته ، ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من
باب استكمال اتخاذ الأسباب .
وإن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب ، واتخذ كل الوسائل ، ولكنه
في الوقت نفسه مع الله ، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح ، وهنا يُستجاب الدعاء ] [149]
.
لا تحقرنّ من المعروف شيئا
وبما أنّ الأخذ
بالأسباب مطلوب ، ولهذا حثّ الشرع على الأخذ بها وإن ظنّ صاحبها أنها قليلة وصغيرة
لا تنفع !
يقول الله تعالى :
( وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا
كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ
اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) [150]
.
ويقول تعالى :
( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ ) [151]
.
بل تحقير الحسنات
، وتصغير الأعمال الصالحة ، مهما كانت قليلة ، فهو من صفات المنافقين !
يقول الله تعالى :
( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [152]
.
[ فإنهم جمعوا في
كلامهم هذا بين عدة محاذير . . .
ومنها
: أن من أطاع الله وتطوع بخصلة من خصال الخير، فإن الذي ينبغي هو إعانته ، وتنشيطه
على عمله ، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم ، وعابوهم عليه . . .
ومنها : أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة : " الله
غني عن صدقة هذا " كلام مقصوده باطل ، فإن الله غني عن
صدقة المتصدق بالقليل والكثير ، بل وغني عن أهل السماوات والأرض ،
ولكنه
تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه ، فالله - وإن كان غنيا عنهم - فهم فقراء
إليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو
ظاهر بين ، ولهذا كان جزاؤهم أن سخر الله منهم ، ولهم عذاب أليم ] [153]
.
ولقد جاء في
أحاديث كثيرة عن النبيّ r
، يحثُّ فيها ويشجّع على الأعمال الصالحة ، وإن كان صاحبها يراها قليلة . منها :
( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا ، وَلَوْ
أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْق ) [154]
.
( لَا تَحْقِرَنَّ مِـنَ الْمَعْرُوفِ شَـيْئًـا فَـإنْ
لَـمْ تجـد فلايـن النـاس ووجهـك إليهـم منبسط ) [155]
.
( الْكَلِمَةُ
الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خطوة تخطوها إلى المسجد صدقة ) [156]
.
( اتَّقُوا
النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فبكلمة طيبة ) [157]
.
( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا
وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ
تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ ) [158]
.
( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ
أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ فَإِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ
مَاءَهَا وَاغْرِفْ لجيرانك منها ) [159]
.
( يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ ، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ
لِجَارَتِهَا ، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ ) [160]
.
( الْإِيمَانُ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ،
وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ )
[161]
.
( لَيْسَ مِنْ
نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ
الشَّمْسُ » ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ
نَتَصَدَّقُ بِهَا ؟ ، فَقَالَ : « إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ : التَّسْبِيحُ
، وَالتَّحْمِيدُ ، وَالتَّكْبِيرُ ، وَالتَّهْلِيلُ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَتُسْمِعُ
الْأَصَمَّ ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى ، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ ،
وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ ، وَتَحْمِلُ
بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى
نَفْسِكَ ) [162]
.
( بَيْنَا
رَجُلٌ يَمْشِي ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ ، فَنَزَلَ بِئْرًا ، فَشَرِبَ مِنْهَا
، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ ،
فَقَالَ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي ، فَمَلَأَ خُفَّهُ،
ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ، ثُمَّ رَقِيَ ، فَسَقَى الكَلْبَ ، فَشَكَرَ اللَّهُ
لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ " ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ لَنَا فِي
البَهَائِمِ أَجْرًا ؟ قَالَ : « فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» ) [163]
.
( بَيْنَمَا
كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ
مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ
لَهَا بِه ) [164]
.
( غُفِرَ
لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ ، مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ ، قَالَ :
كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا ، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا ،
فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ ) [165]
.
( أَنَّ رَجُلًا
زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ ، عَلَى
مَدْرَجَتِهِ ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ ، قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ
: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ
نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لَا ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ ، قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ
كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ) [166]
.
( الخَيْلُ
لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ،
فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ : فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ، فَأَطَالَ بِهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ
فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ المَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ ،
وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا، فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ
كَانَتْ آثَارُهَا ، وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ
بِنَهَرٍ ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ
لَهُ ، فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ ،
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ
يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا ، فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ ،
وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً
لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ ، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ "
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ الحُمُرِ ، فَقَالَ : " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ
إِلَّا هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة
: 8 ] " ) [167]
.
[ ( أجر)
ثواب. ( ستر ) لحاله وفقره . ( وزر ) إثم وثقل . ( سبيل الله ) أعدها للجهاد .
( فأطال
بها في مرج ) شدها بحبل طويل يربط طرفه برجلها والطرف الآخر بوتد وتترك ترعى وهو
الطيل . والمرج الأرض الواسعة ذات الكلأ والماء. ( روضة ) أرض ذات خضرة .
( فاستنت
) أفلتت ومرحت . ( شرفا ) ما ارتفع من الأرض . ( أرواثها ) جمع روث وهو ما تلقيه
الدواب من فضلات . ( ولم يرد أن يسقي ) أي لم يقصد سقيها ومع ذلك يكون له هذا
الأجر فلو قصد هذا لكان أجره أعظم .
( تغنيا
) استغناء عن الناس بطلب نتاجها . ( تعففا ) عن سؤالهم بما يعمله ويكتسبه على
ظهورها . ( حق الله في رقابها ) أي يؤدي زكاتها إن كان أعدها للتجارة .
( ولا
ظهورها ) أي لا يحمل عليها فوق ما تطيق ولا يمتنع عن الإعانة بركوبها أو الحمل
عليها في سبيل الله تعالى وهو الجهاد .
( فخرا
) لأجل التفاخر بها . ( رياء ) مراءاة للناس . ( نواء ) معاداة .
( الجامعة
) العامة الشاملة . ( الفاذة ) المنفردة في معناها . ( مثقال ) وزن . (ذرة )
النملة الصغيرة . وقيل ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ويمكن تفسيرها بما يعرف
الآن أنها الجزء الذي لا يتجزأ ] [168]
.
( عن عبد الله
بنِ مسعود أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم – قال : " إياكم ومُحَقَّراتَ
الذنوب ، فإنهن يجتَمعْن على الرجل حتى يُهْلِكْنَه "، وِإن رسول الله - صلي
الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً ، كمثلَ قوم نزلوا أرضَ فلاةٍ فحَضر صنِيعُ القوم ،
فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعُود ، والرجلُ يجيء بالعُود ، حتى جمعوا سَواَداً،
فأجَّجُوا ناراً ، وأنْضَجُوا ما قَذَفُوا فيها
) [169]
.
[ أَنَّ
مِسْكِينًا اسْتَطْعَمَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ
، فَقَالَتْ لِإِنْسَانٍ : " خُذْ
حَبَّةً ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهَا ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَعْجَبُ ،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : « أَتَعْجَبُ كَمْ تَرَى فِي هَذِهِ الْحَبَّةِ مِنْ
مِثْقَالِ ذَرَّة ] [170]
.
ملخص ما قيل
1 – إنّ الإنسان إذا أراد شيئاً – في دائرة التكاليف –
فهو يستطيع أن يفعله إن شاء ذلك ، ولا تنفعه مبرراته التي يخدعه بها الشيطان !
2 – إنّ الله تعالى كلّف المسلم أن يجاهد في سبيله بكل
جهوده وطاقاته ، بالقلب واللسان والقلم ، والمال ، واليد والجنان بشروطه وظوابطه .
يجاهد النفس ، والدّنيا ، والشيطان ، والمنافق ، والملحد
، والكافر المعتدي المحارب باليد .
3 – الموت والحياة – في هذه الدّنيا – إبتلاء واختبار ،
فالدّنيا ساحة الفتن والإبتلاء ، وعلى المسلم عبورها واجتيازها بامتياز .
4 – إن الحياة على هذه الأرض ، تقوم على الأسباب
والمسبّبات ، ولذلك على المسلم أن يأخذ بالأسباب في جهاده ولا يهملها ، وإلّا
تعرّض للمساءلة والحساب .
5 - إنّ الله
تعالى حثّ عباده على العمل الصالح والجهاد في سبيله ، بكلّ ما أوتوا من قوة
واستطاعة ، وأن لا يدّخروا جهداً في ذلك ، مع استغنائه عنهم ، فهو غنيٌّ عن العالمين
، ولكن كلّ ذلك من أجل سعادتهم وفلاحهم هُم .
6 – والإسلام يأمر ويوجّه بعدم احتقار المعروف والعمل
الصالح ، مهما كان قليلاً أو صغيراً فـي عيـن صاحبه ، فقد تكون حسنة واحدة مـن
مثقال ذرّة ، تثقل ميزان الحسنات ، فتنقذ صاحبها من النّار ، وتزحزحه عنها ،
وتدخله جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبد الآبدين .
7 – وهذه الدّنيا التي ملأها الطواغيت والفسّاق فساداً ،
يستطيع المصلحون إصلاحها ، وبثّ الخير في ربوعها ، إن حاولوا وجاهدوا .
لماذا المفسدون أفسدوها ، وهم معهم الشيطان ، ولا يستطيع
المصلحون إصلاحها وهم معهم الرحمن ؟ !
صحيح أنّ الإصلاح أصعب من الإفساد ، ومؤيّدوه أقلّ من
مؤيّدي الإفساد ، وهذه هي سنن الحياة دائماً ، فالبناء أشدّ وأتعب من الهدم ، ولكن
هذا هو الإختبار والإبتلاء ، والعاقبة للتقوى !
فالإصلاح صعب ، وشديد ، وعسير ، ومُرهِق ، وربّما – بل
في أكثر الأحيان – لا يتحقّق في جيلٍ واحد ، ولكنّه رُغم ذلك ليس مستحيلاً ، إضافة
إلى أنّ المصلحين يأخذون أجرهم كاملاً غير منقوص ، وإن لم يروا الإصلاح الذي
جاهدوا من أجله بأعينهم .
عندما بايع النبيّ r الأنصار – قبل الهجرة إليهم – وهم ضعفاء في
الأرض ، على نصرته لنشر الإسلام ، لم يعِدُهم – لا هم ولا المهاجرين – بأجرٍ مقابل
نصرتهم سوى الجنّة .
والجنّة مضمونة للمجاهد في سبيل الله ، وإن قُتِل ولم
يرَ النصر المادي والغلَبَة على أعدائه من الطواغيت والمفسدين .
( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) [171]
.
( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ
لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) [172]
.
ولقد استشهد سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ومصب بن
عمير ، وسعد بن معاذ ، رضي الله عنهم ، ولم يروا دولة الإسلام بأعينهم ، بينما
الخليفة هارون الرشيد رحمه الله ، تحدّى الغمام عندما لم يمطر فوق بغداد ، تحدّاه أينما
يمطر فسوف يأتيه خراجه ، وذلك لسعة دولة الإسلام ، التي يحكمها ، وترامي أطرافها .
وأين هارون الرشيد ، من أولئك الشهداء العظام ، الذين لم
يروا ثمرة جهادهم في هذه الدّنيا ؟ !
الخطوة الأولى
إنّ إنجاز كلّ عملٍ عظيم ، يبدأ من الشروع فيه بتمهيد
ممكن ميسور ، ثم يُتوغّل ويولج فيه ، بتدرّجٍ
مستمر ، نحو الأعظم والأصعب .
يقول المثل الصيني : طريق ألف ميل يبدأ بخطوة واحدة .
فالخطوة الأولى هي الأهم ، وتحتاج إلى إرادة قوية من
صاحبها ، بشرط أن يكون على الصراط المستقيم .
ثم العزيمة الراسخة في الإستمرار ، فمَن سار على الدرب
وصل .
ولا ينبغي احتقار العمل القليل ، والخطوة الأولى ،
والبداية اليسيرة ، فهي التي توصل إلى الغاية المنشودة ، بالحرص والتواصل
والإستمرار .
فالذي يؤدّي العمل القليل ، وهو حريص على التبرّع
والإحسان ، فسيتمكّن من الإنعام والسخاء بالأكثر والأكبر والأعظم ، حين يُطلب منه
، لأنه تعوّد على البِرّ ، ونما عنده غريزة البذل والعطاء !
والذي يتكاسل عن الجود بالقليل ، بمبررات شتى ، فبالأولى
لا يستطيع منح الأكثر .
ونأخذ حكمة واحدة ، من الحِكَم الكثيرة التي يحتويها قول
رسول الله r : تبسّمك في وجه أخيك صدقة .
فلقد أراد رسول الله r أن لا ينضب منبع الخير في داخل النفوس ، بل
رامَ أن يتدفّق ويرفد البشرية بمنبت العطاء .
فإذا ما تعوّد صاحبه على أن يهب القليل ، فلسوف يمنح
ويغدق الكثير إذا حان وقته .
حيث إذا اقتصر الصدقات على الأموال والماديات ، فحينها
لا يستطيع منحها إلّا الأغنياء ، وعندها ستغيض منابع الخير في نفوس الفقراء ،
فيتوقّفون عن العطاء القليل بله الكثير !
[ والرسول الكريم يريد أن " يعودنا
" على الخير، لا أن " يعرفنا " إياه فحسب .
" وعلى كل امرئ صدقة.. ".
إنه يريد كلاً منا أن تتحرك نفسه بالخير .
يريد أن يستثير تلك الحركة الداخلية التي تمد يدها بالعطاء . والحياة عادة .
والعادة تعدى من نفس إلى نفس . بل تعدى من شعور إلى شعور في باطن النفس !
حين تتعود النفس أن تستيقظ ، أن تنهض من
سباتها وتتحرك ، وتمد يدها من الداخل بعمل أو شعور . حين يحدث هذا مرة ، فسوف يحدث
مرة بعد مرة . وستتعدد صور الإعطاء حتى تشمل من النفس أوسع نطاق . . حتى تشمل في
الواقع كل تصرف وكل شعور .
وتبدو حكمة الرسول في توسيع مدى الخير ،
وتعديد صوره وأشكاله ، وتبسيطها كذلك حتى تصبح في متناول كل إنسان !
فلو كانت " الصدقة " أو الخير
قاصراً على المحسوسات والأموال ، فسيعجز عنها كثير من أفراد البشرية ، وتبقى
ينابيع ثرة في باطن النفوس ، لا يستثمرها أحد ، ولا يستنبط من معينها الغزير .
ولكن اليد الحكيمة الماهرة تعرف كيف تسيل
الخير من هذه النفوس . لمسات رفيقة حانية من هنا ومن هناك تفتح المغلق وتبعث
المكنون .
والرسول الكريم يلطف في معاملة البشرية
كالأب الحنون يلطف مع أولاده ، وهو يخطو معهم خطوة خطوة في الطريق . إنه ييسر لهم
الأمر . ويوحي إليهم أنه في مقدورهم بلا تعب ولا مشقة . وحينئذ يصنعونه ولو كان
فيه مشقة ! !
تلك أفضل وسائل التربية وأحبها إلى النفوس .
وهي ليست ضحكاً على الناس ولا استدراجاً
لهم ! حاش لله !
إنها كلها حقيقة . فالخير نبع واحد داخل
النفس . وكل صوره صورة واحدة .
ولقد نظن ، لأول وهلة ، أن بعض هذه "
الصدقات " أهون من أن تكون صدقة . وأنها لا يجوز أن تدرج مع غيرها في سلك
يشمل الجميع .
وقد يكون أقرب شيء إلى هذا الظن قول الرسول
r : وتبسمك في وجه أخيك
صدقة . وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة .
ومع ذلك فجربها إذا أردت . أو تتبعها في
محيط الناس . .
إن تبسمك في وجه أخيك ، الذي يبدو لك هيناً
حتى ما يصح أن يوضع في الصدقات . . لهو أشق شيء على النفس التي لم تتعود الخير ولم
تتجه إليه !
هناك أناس لا يتبسمون أبداً ، ولا تنفرج
أساريرهم وهم يلقون غيرهم من الناس !
إنهم شريرون أو في نفوسهم مرض . وينابيع
الخير مغلقة في نفوسهم وعليها الأقفال .
وهناك ناس يبخلون عليك بقطرة من ماء !
الماء الحقيقي لا على سبيل المجاز !
إن المسألة ليست البسمة ولا نقطة الماء .
إنها الإعطاء . إنها الحركة التي تتم في داخل النفس . إنها فتح القفل المغلق . أو
تحرك اليد النفسية وانبساطها إلى الأمام . .
عملية واحدة في جميع الحالات . . إما أن
توجد ، فتقدر النفس على الخير . تقدر على الإعطاء والمودة . وإما ألا توجد ،
فيستوي الهين والعظيم ، وتغلق النفس عن جميع الصدقات .
* * *
والرسول المربي لا يريد أن يعرفنا بمنابع
الخير فحسب ، ولا أن يعودنا على الخير فحسب . ولكني ألمح من وراء تعديد الصدقات ،
وتبسيطها حتى تصبح في متناول الجميع ، معنى آخر . .
الإعطاء حركة إيجابية . ولذلك قيمة كبرى في
تربية النفوس .
فالنفس التي تتعود الشعور بالإيجابية نفس
حية متحركة فاعلة . بعكس النفس التي تتعود السلبية فهي نفس منكمشة منحسرة ضئيلة .
والرسول r يريد للمسلم أن يكون قوة
إيجابية فاعلة ، ويكره له أن يكون قوة سلبية حسيرة .
والشعور والسلوك صنوان في عالم النفس ،
كلاهما يكمل الآخر ويزيد في قوته .
ومن هنا حرص الرسول r على أن يصف حتى الأعمال
الصغيرة والهينة بأنها صدقة . بأنها إعطاء .
مرة أخرى كالأب مع أبنائه . .
فأنت حين توحي لطفلك أن الدور الذي قام به
في العمل دور هام ومثمر ، وقد أدى إلى نتيجة ، فإنك تشجعه على مزيد من العمل ومزيد
من الإنتاج . أما إذا رحت تصغر من شأنه ، وتشعره أن أعماله تافهة بالقياس إلى
المطلوب منه ، فإنك تشجعه على الانحسار داخل نفسه ، والانصراف عن كل عمل يحتاج إلى
مجهود .
والرسول يشجع الناس على الإحساس بإيجابيتهم
، حتى في الأعمال التي قد تبدو صغيرة في ظاهرها ، ليحسوا أن كيانهم يتحقق في عالم
الواقع ، في عالم السلوك . فيزيدهم ذلك إقبالاً على العمل في ميدان الخير ،
ويشجعهم على الصعود باستمرار] [173]
.
فالمسلم الذي يستهين بالجلسات ، التي تُعقد – من قِبَل
إخوانٌ له ، بايعوا على نصرة الإسلام ، بالغالي والنفيس ، وهم يصارعون الطغيان
والفساد ، بحسب طاقاتهم وجهودهم – لمناقشة ومداولة أمور الإسلام ، ويراها غير
مجدية ، فهو بالأحرى سيكون موقفه سلبيّاً خاملاً ومتخاذلاً ، في الأمور الأكبر
والأصعب والأجهد !
علماً أنه – في هذه الجلسات المتباعدة ، والتي قد تكون
شهرياً – لا يُرسل إلى القتال والحرب ، ضد العتاة والمتجبّرين ، والطغاة والمفسدين
، بعيداً عن أهله وأولاده ، ومصالحه وتجارته .
بل هو فقط يجلس يستمع إلى تذكرة إيمانية ، وشحذ الهِمَم
، والنهوض بالتكاليف الشرعية ، حسب طاقته واستطاعته ، ليجتاز الإبتلاء والإمتحان –
في هذه الدّنيا ؛ الفرصة الوحيدة – فينجو بنفسه وأهله من الهلاك في الآخرة ،
والفلاح والفوز بجنّة عرضها السموات والأرض ، تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها
، أبد الآبدين !
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُون ) [174]
.
( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) [175]
.
( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) [176]
.
فالذي لا يتكاتف مع إخوانه ، ولا يشجّعهم ، ولا يتعاون
معهم ، في نصرة الإسلام بأهون وأيسر الأمور ، فكيف يُنتظَر منه أن ينصر الإسلام في
الأمور العظام ؟ !
فكيف إذا شتم الناس عِرضه – في سبيل الإسلام – أو ضربوه
، أو سُجِن ، أو خسر أمواله ووظيفته ، أو شُوِّهَ سمعته من قِبَل أعداء الإسلام ،
أو اضطر للإبتعاد عن أهله وأولاده وأمواله في سبيل الله ؟ ؟ ! !
إنّ ظلام الليل يبدو من بدايته !
فالذي لا يهب القليل ، فهو بالكثير أبخل !
خاتمة
1 – كلّ إنسانٍ يدخل قبره وحده ، حاملاً أعماله معه ، لا
أحد يرافقه ؛ لا مال ولا جاه ، ولا أهل ولا أولاد ، ولا يواجه هناك إلّا ما قدّم !
( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ
ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُم ) [177]
.
2 – هذه الحياة – علـى وجه هذه الأرض – هي الفرصة
الوحيدة ، التي لا تتكرر ، في تحديد المصير الأبدي للإنسان ، فإذا غادرها فلن يعود
إليها أبداً !
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ
هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) [178]
.
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ .
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير ) [179]
.
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [180]
.
3 – إنّ الله تعالى غنيّ عن العالمين ، والنّاس هم
الفقراء إلى رحمته وفضله وكرمه . فمن نكل عن نصرة الإسلام ، وانقلب على عقبيه ،
فلن يضرّ إلّا نفسه !
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) [181]
.
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُـمْ
وَيُحِبُّونَـــهُ أَذِلَّــــةٍ عَلَـى الْمُؤْمِنِيـنَ أَعِزَّةٍ عَلَـى الْكَـافِرِيـنَ
يُجَـاهِدُونَ فِـي سَـبِيـلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم ) [182]
.
فليتقدّم مَن شاء ، وليتأخّر مَن شاء !
4 – المسـلم كثير بإخوانه ، وهو ضعيف وقليل لوحده ،
فالإسلام – دين الله تعالى – سيكون وسيبقى بدونه ، وهو لا شيء من دون الإسلام .
ولا يحسبنّ أحدٌ أن الإسلام قائمٌ على أكتافه ، بل هو
كَلٌّ ومحمول على أكتاف الإسلام .
فمن وجد أنّ الإسلام قد ضمّه ، وهو دائرٌ في فلكه ، فليحمد الله تعالى ، ومَن وجد غير ذلك فلا
يلومنّ إلّا نفسه !
( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [183]
.
( يَا
عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا
نَفْعِي ، فَتَنْفَعُونِي ،
يَا
عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا
عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي
شَيْئًا ،
يَا
عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا
عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . . .
يَا
عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ
إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ
، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ) [184]
.
( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُون ) [185]
.
5 – إنّ المفسدين كافة يعملون ليل نهار ، في سبيل نصرة
باطلهم ، ويتكاتفون فيما بينهم من أجل نشر ضلالهم ، ولا يبخلون بشيء من أجل الوصول
إلى أهدافهم ، ولا يدّخرون ما في وسعهم ، ولا يضنّون بأموالهم ولا براحتهم !
فإن لم ينهض المسلمون لنصرة الحق ، وإعلاء راية الإسلام
، ونشره في الخافقين ، وإن لم يتعاونوا فيما بينهم ، في صراعهم لأولئك المنحرفين ،
فسيكون مصير البلاد والعباد في مهب الريح !
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ) [186]
.
[ فإن لم يتجمع
المؤمنون ليترابطوا ويكونوا على قلب رجل واحد ، فالكفار يتجمعون بطبيعة كفرهم
ومعاداتهم للإسلام . وإن لم يتجمع المسلمون بالترابط نجد قول الحق تحذيراً لهم من
هذا :
{ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال :
73 ] .
فسبحانه يريد لنا أن نعلم أننا إن لم نعش كمسلمين متحدين
ننحاز لبعضنا البعض في جماعة متضامنة ، وتآلف وإيمان ، إن لم نفعل ذلك فسوف تكون
هناك فتنة شديدة وفساد كبير . لماذا ؟ .
لأن المؤمنين إن لم يتجمعوا ذابوا مع الكافرين ، وستوجد
ذبذبة واختلال في التوازن الإيماني جيلاً بعد جيل .
ولو حدث مثل هذا الذوبان ، سيتربى الأولاد والأطفال في
مجتمع يختلط فيه الكفر بالإيمان ، فيأخذوا من هذا ، ويأخذوا من ذاك ، فلا يتعرفون
على قيم دينهم الأصيلة ، وقد يضعف المسلمون أمام إغراء الدنيا فيتبعون الكافرين .
ولكن إن عاش المسـلمون متضامنين متعاونين تكون هنـاك
وقاية من أمراض الكفر ، وكذلك لا يجتريءعليهم خصومهم .
أما إذا لم يتجمعوا ولم يتحدوا فقد يتجرأ عليهم الخصوم
ويصبحون قلة هنا ، وقلة هناك وتضيع هيبتهم ، ولكن إذا اتحدوا كانوا أقوياء ، ليس
فقط بإيمانهم ، ولكن بقدرتهم الإيمانية التي تجذب غير المسلمين لأهذا الدين .
وينشأ الفساد الكبير حين لا يتضامن المسلمون مع بعضهم
البعض فيجتريء عليهم غير المسلمين ويصبحون أذلةً وهم أغلبيةٌ ، ولا يهابهم أحد مع
كثرة عددهم ، ولا يكونون أسوة سلوكية . بل يكونون أسوة سيئة للإسلام . ويقول الحق
سبحانه وتعالى :
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الأنفال : 73 ] .
فهل هذا توجيه من الله جل جلاله لهم ، أو إخبار بواقع
حالهم ؟
لقد طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يكونوا
أولياء بعض ، ولكن هل قوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ
بَعْضٍ } هو طلب للكافرين ، كما هو طلب من الله للمؤمنين ؟ نقول : لا ، لأن الذين
كفروا لا يقرأون كلام الله عَزَّ وَجَلَّ ، وإذا قرأوه لا يعملون به .
إذن فهذا إخبار بواقع كوني للكافرين . فعندما يطلب الله
سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض ، فهذا تشريع يطلب الله لأن يحرص
عليه المؤمنون ، أما إذا قال إن الكفار بعضهم أولياء بعض . فهذا إخبار بواقع كوني
لهم ] [187]
.
6 – وأخيراً : لا يستهِن أحدٌ بالجهاد في سبيل الله
تعالى ، مهما كان يرى العمل الصالح المبذول قليلاً في عينه ، فرُبّ عمل صالح ضئيل
يُبارك الله تعالى فيه ، فيكثره وينميه :
قال رسول الله r : ( مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ
كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ، وَإِنَّ اللَّهَ
يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ
فَلُوَّهُ [188] ،
حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ ) [189]
.
ثم ألم يصح عن سلمان الفارسي t بدخول رجلٌ الجنّة في ذباب ؟ !
حيث قال t : ( دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ
، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ .
قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟
قَالَ : مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ
لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا ، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا
: قَرِّبْ ! قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ ، فَقَالُوا لَهُ : قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا
! فَقَرَّبَ ذُبَابًا ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ .
قَالَ : فَدَخَلَ النَّارَ .
وَقَـالُـوا لِلْآخَرِ : قَرِّبْ وَلَوْ
ذُبَابًا ! قَالَ : مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
، قَالَ : فَضَرَبُوا عُنُقَهُ ، قَالَ : فَدَخَلَ الْجَنَّةَ ) [190]
.
هذا ولقد أعذر مَن أنذر !
وآخر دعوانا أن الحمد
لله ربّ العالمين
الفهرست
المواضيع
الصفحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة
................................................................. 1
قصة أهل القرية
! ........................................................ 3
لا تقُل لا
أستطيع
......................................................... 4
لا يكلّف الله
نفساً إلّا وسعها ................................................ 4
لماذا هذا التكاسل
؟
....................................................... 6
تعريف
التكاليف
......................................................... 9
نعمة الله
علينا
........................................................... 10
وكان أبوهما
صالحاً
...................................................... 14
إنها البعقيدة في
الله
........................................................ 19
مهمة المسلم في
هذه الحياة
............................................... 22
أنواع الجهاد
........................................................ 24
فضل الجهاد
.......................................................... 34
الله لطيف
بعباده ........................................................... 38
الترغيب
والترهيب
...................................................... 39
الجنة
................................................................. 46
الأخذ
بالأسباب
............................................................. 52
لا تحقرنّ من
المعروف شيئا
............................................ 55
ملخص ما قيل
......................................................... 58
الخطوة
الأولى
............................................................ 60
خاتمة ................................................................... 65
الفهرست
..................................................................... 69
[1] التغابن : 16 .
[2] آل عمران : 167 .
[3] التوبة : 81 .
[4] التوبة : 14 .
[5] المائدة : 17 .
[6] الشعراء : 4 .
[7] محمد : 4 .
[8] الرعد : 11 .
[9] الأنفال : 53 .
[10] الإنسان : 2 – 3 .
[11] الكهف : 29 .
[12] الروم : 41 .
[13] هود : 88 .
[14] صحيح مسلم .
[15] البقرة : 286 .
[16] الطلاق : 7 .
[17] أنظر : الوجيز في أصول الفقه . ص
31 – 44 .
[18] إبراهيم : 34 .
[19] النحل : 18 .
[20] آل عمران : 155 .
[21] آل عمران : 153 .
[22] التوبة : 117 .
[23] الأحزاب : 9 – 13 .
[24] صحيح مسلم .
[25] إسلام ويب - رقم الفتوى : 10254 .
[28] الكهف : 77 .
[29] الكهف : 82 .
[30] أوضح
التفاسير : محمد محمد عبد اللطيف بن الخطيب .
[32] فاطر : 2 .
[33] في ظلال القرآن ( 5 / 2922 – 2924
) .
[34] دراسات إسلامية – سيد قطب . ص 141
– 146 .
[35] الأنبياء : 35 .
[36] الملك : 2 .
[37] التوبة : 41 .
[38] تفسير السعدي . ص 338 .
[39] محسن التأويل ( 5 / 420 – 421 ) .
[40]
لسان العرب – إبن منظور ( 3 / 135 ) .
[41] معجم مقاييس
اللغة - إبن فارس ( 1 / 486 – 487 ) .
[42] الصحاح تاج
اللغة وصحاح العربية - الجوهري ( 2 / 460 – 461 ) .
[43]
أظنّ أنه رحمه الله تعالى ، قد أخذ هذا الكلام من قوله تعالى : ( وَالْعَصْرِ . إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) .
[44] زاد المعاد في هدي خير العباد ( 3
/ 9 – 17 ) .
[45] التوبة : 41 .
[46] الفرقان : 51 - 52 .
[47] تفسير السعدي . ص 584 .
[48] زهرة التفاسير- محمد أبو زهرة (
10 / 5297 ) .
[49]
مجموع الفتاوى ( 10 / 191 ) .
[50]
مجموع الفتاوى ( 10 / 192 – 193 ) .
[51] رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسنٌ .
[52] رواه الحاكم - وصححه – والخطيب .
[53] أعظم الجهاد في سبيل الله – أبو
حاتم سعيد القاضي .
[54] وليس هنا مجال التحدّث عن كيفيته ،
وشروطه .
[55] متفق عليه ، واللفظ للبخاري .
[56] متفق عليه .
[57] رواه أبو داود ، والنسائي ،
بإسنادٍ صحيح .
[58] رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسنٌ .
[59] رواه الحاكم - وصححه – والخطيب .
[60]
مجموع الفتاوى – ابن تيمية ( 10 / 191 ) .
[61]
مجموع الفتاوى ( 10 / 192 – 193 ) .
[62] آل عمران : 157 – 158 .
[63] زهرة التفاسير ( 3 / 1472 ) .
[64] صحيح مسلم .
[65]
العنكبوت : 6 .
[66] البقرة : 251 .
[67] الحج : 40 .
[68] صحيح مسلم .
[69] تفسير السعدي . ص 756 .
[70] صحيح مسلم .
[71] المائدة : 65 .
[72] الفرقان : 70 .
[73] الزمر :
15 – 16 .
[74] الزمر : 68 .
[75] المعارج : 43 .
[76] طه : 105 – 112 .
[77] ق : 30 .
[78] الغاشية : 4 – 7 .
[79] المزمل : 12 – 13 .
[80] الواقعة : 51 – 56 .
[81] الصافات : 64 – 67 .
[82] إبراهيم : 15 – 17 .
[83] محمد : 15 .
[84] الحج : 19 – 22 .
[85] الكهف : 29 .
[86] إبراهيم : 49 – 50 .
[87] الأعراف : 41 .
[88] الزمر : 16 .
[89] المرسلات
: 29 – 40 .
[90] غافر : 11 .
[91] السجدة : 12 .
[92] فاطر : 36 – 37 .
[93] المؤمنون : 106 – 117 .
[94] غافر : 71 – 76 .
[95] الحاقة : 30 – 32 .
[96] الحاقة : 25 – 29 .
[97] متفق عليه ، واللفظ لمسلم .
[98] صحيح مسلم .
[99] صحيح مسلم .
[100] متفق عليه .
[101] صحيح مسلم .
[102] صحيح مسلم .
[103] متفق عليه .
[104] صحيح مسلم .
[105] إسـناده
صحيح . وأخرجـه الترمذي ( 2767 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11054 ) من
طريق شعبة ، بهذا الإسناد وهو في " مسند أحمد " ( 2735 ) ، و " صحيح
ابن حبان " ( 7470 ) . ( سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط ( 5 / 376 ) ) .
[106] الجامع الكبير - سنن الترمذي . المحقق:
بشار عواد معروف ( 4 / 286 ) .
[107] صحيح مسلم .
[108] الجنة والنار في الكتاب والسنة .
بدون إسم . النت .
[109] صحيح مسلم .
[110] الإنسان : 5 – 22 .
[111] الصافات : 40 – 49 .
[112] النبأ : 31 – 36 .
[113] الكهف : 30 – 31 .
[114] المطففين : 22 – 28 .
[115]
الرحمن : 46 – 76 .
[116] مسند أحمد . تحقيق : أحمد محمد
شاكر ( 8 / 138 ) . وابن حبان في صحيحه . وغيرهما . وهو حديث صحيح .
[117] مسند أحمد ، والترمذي ، وهو صحيح .
[118] متفق عليه .
[119] رواه الشيخان .
[120] متفق عليه .
[121] صحيح البخاري .
[122] صحيح مسلم .
[123] رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن
حبان في صحيحه ، وهو صحيح .
[124] متفق عليه .
[125] صحيح مسلم .
[126] صحيح مسلم .
[127] الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ،
وابن حبان في صحيحه . وهو صحيح .
[128] متفق عليه .
[129] صحيح مسلم .
[130] حادي
الأرواح إلى بلاد الأفراح – إبن القيّم . ص 267 – 268 .
[131] يونس : 108 .
[132] التغابن : 4 .
[133] الأنعام : 59 .
[134] الإسراء : 15 .
[135]
النساء : 71 .
[136] الروم : 41 .
[137] آل عمران : 165 .
[138] الرعد : 11 .
[139] الكهف : 29 .
[140] التوبة : 14 .
[141] النساء : 79 .
[142] الأنفال : 60 .
[143] الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن
صحيح . وابن ماجه ، ومسند أحمد ، وصحيح ابن حبان .
[144] سنة الأخذ بالأسباب في السنة
النبوية – علي الصلابي .
[145] صحيح مسلم .
[146] صحيح البخاري .
[147] صحيح مسلم .
[148] صحيح ابن حبان – تحقيق : شعيب
الأرنؤوط ، وقال : حديث حسن ،
يعقوب
بن عبد الله : هو يعقوب بن عمرو بن عبد الله ، ذكره المؤلف في " الثقات "
7/640 ، وروى عنه اثنان ، وباقي رجاله ثقات .
وأخرجه الحاكم في " المستدرك " 3/623 ،
والقضاعي في " مسند الشهاب " " 633 " من طريقين عن حاتم بن
إسماعيل ، بهذا الإسناد ، بلفظ ، " قيدها وتوكل "، قال الذهبي : سنده
جيد .
وأورده
الهيثمي في " المجمع " 10/303 ، وقال : رواه الطبراني من طرق ، ورجال
أحدها رجال الصحيح ، غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري ، وهو ثقة .
وأورده أيضاً 10/291 ، وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، وفي أحدهما عمرو بن عبد
الله بن أمية الضمري ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات .
وفي
الباب عن أنس عند الترمذي " 2517 " في صفة القيامة ، و5/762 في آخر
كتابه " العلل " الملحق بسننه ،
والبيهقي
في " التوكل " ص 12 ، وسنده ضعيف ، فيه المغيرة بن أبي قرة السدوسي ،
قال الحافظ : مستور . ونقل الترمذي عن يحيى القطان قوله : وهذا عندي حديث منكر .
ثم قال الترمذي : وهذا حديث غريب من حديث أنس ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقد
روي عن عمرو بن أمية الضمري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ( 2 / 510 ) .
[149] سنة الأخذ بالأسباب في السنة
النبوية – علي الصلابي .
[150] التوبة : 121 .
[151] الزلزلة : 7 .
[152] التوبة : 79 .
[153] تفسير السعدي . ص 345 .
[154] صحيح مسلم .
[155] صحيح ابن حبان – تحقيق : شعيب
الأرنؤوط ، وقال : حديث صحيح ( 2 / 214 ) .
[156] صحيح ابن حبان – تحقيق : شعيب الأرنؤوط . وقال :
إسناده صحيح على شرط الشيخين ( 2 / 219 )
[157] صحيح ابن حبان . تحقيق : شعيب الأرنؤوط . وقال :
إسناده صحيح على شرط البخاري ( 2 / 220 )
[158] صحيح ابن حبان – تحقيق : شعيب الأرنؤوط . وقال :
إسناده صحيح ( 2 / 281 ) .
[159] صحيح ابن حبان – تحقيق : شعيب
الأرنؤوط . وقال : حديث صحيح ( 2 / 282 ) .
[160] متفق عليه .
[161] صحيح مسلم .
[162] صحيح ابن حبان – تحقيق : شعيب
الأرنؤوط .
[163] صحيح البخاري .
[164] متفق عليه .
[165] صحيح البخاري . ( مومسة ) زانية أو
هي المجاهرة بالفجور ( مصطفى البغا ) .
[166] صحيح مسلم .
[167] متفق عليه .
[168] مصطفى البغا ( 3 / 113 ) .
[169] مسند أحمد بن حنبل – تحقيق : أحمد
محمد شاكر .
[170] موطأ الإمام مالك . صححه ورقمه
وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي ( 2 / 997 ) .
[171] آل عمران : 157 .
[172] آل عمران : 169 – 171 .
[173] قبسات من الرسول – محمد قطب . ص 60
– 61 .
[174] التحريم : 6 .
[175] المائدة : 2 .
[176] آل عمران : 104 .
[177] الأنعام : 94 .
[178] المؤمنون : 99 – 100 .
[179] فاطر : 5 – 6 .
[180] آل عمران : 185 .
[181] فاطر : 15 – 17 .
[182] المائدة : 54 .
[183] التوبة : 39 – 40 .
[184] صحيح مسلم .
[185] الأنفال : 26 .
[186] الأنفال : 73 .
[187] تفسير الشعراوي ( 8 / 4822 – 4824
) .
[188] الفلو: وهو
الصغير من الخيل ، يفصل عن أمه ، والجمع أفلاء ؛ مثل عدو وأعداء .
[189] متفق عليه ، واللفظ للبخاري .
[190] رواه الإمام أحمد في "الزهد" وأبو نعيم في حلية
الأولياء . قالوا
: قد يكون أخذه سلمان الفارسي t عن أهل
الكتاب ، والله أعلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق