يدَّعي البعض العلم والمعرفة؛ ومن ثم يسعون لتأسيس منطقه ومعلوماته الغريبة أصلاً ومرجعية من كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لعلم هذه النوعية من الأدعياء أن المقابل قليل المعرفة والثقافة، إضافة إلى ذلك استغلال العواطف مثل كراهية الشارع العربي المسلم للولايات المتحدة وأوروبا مثلاً، وذلك بسبب تعاملها مع الشارع المسلم وقضاياه سلباً بشكل العموم، ومن خلال هذا الغبش والعواطف يدخل صادق النية، وأيضاً خبيث المقصد والنية، وعدو الأمة تشكيكاً وشراً، وباستغلال الجهل والعاطفة استغلالاً وفهماً سلبياً، مشككاً بنصوص وصحة السُّنة النبوية.
من هذه الأمور التي يطرحها البعض من الفهلوية والسلفية المزورة، قولهم:
1- إن الكرة الأرضية ليست كروية!
وإن قلت لهم: هي كروية، يبادرونك بحجتهم: هل رأيتها أنت كروية أم أمريكا هي التي عرضت لك ذلك وقالت كروية؟!
2- الأرض والنجوم والكواكب ثابتة وغير متحركة!
وإن قلت لهم: إن الأرض والمجموعة الشمسية متحركة؛ يجيبك بتعالم وتذاكي الفهلوي: هل رأيتها متحركة؟ وهل رأيت أنت حركتها؟ إن أمريكا تضحك عليكم وتقول ذلك! وهي العدو الذي يريد المسلم تابعاً له بكل شيء!
يستشهد هؤلاء بأن القرآن العظيم يرفض هذه الكروية والحركة، وأيضاً عقلاً ومنطقاً حسب عقولهم مرفوضة تلك الكروية والحركة، ويدعي البعض أن السُّنة أيضاً مضطربة، كما سعى ويسعى د. عدنان إبراهيم أن يوهم مريديه من أجل رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري، الذي يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: “أتدري أين نذهب؟”، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، يوشك أن تسجد فلا يقبل منها، فتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم”.
هذا الحديث أيضاً أنكره إبراهيم بقصد التشكيك في البخاري لا بقصد عين الحديث هذا فقط!
من منطلق الحقائق العلمية كما حاول أن يدعي العلاَّمة المفكر إبراهيم! وادعى أن الشمس تغرب بحركة دائمة وتعود لتكوين الليل والنهار والفصول وما شابه، فلذلك هذه الحقيقة العلمية تتناقض مع ما قاله البخاري! وهي تغرب ولا تذهب، ولنا عليه رد بإذن الله تعالى بقصد أن نؤكد صحة ما رواه البخاري وانسجامه مع القرآن والعلوم الحديثة.
القرآن أكد حركة النجوم والكواكب وكروية الأرض، والسُّنة أيضاً أكدت حركة الشمس والمجموعة الشمسية، بل وحركة المجرة.
قال الله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88).
الغريب فعلاً وهو أقرب للسطحية والسخافة، قول البعض قولاً عكس مقاصد هذه الآية الكريمة ومضامينها العلمية التي تنتظر تطوير العلوم الإنسانية واكتشافات الإنسان لتكون ظاهرة كما ظهرت اليوم، حيث يقول بعضهم: لو كانت الأرض تتحرك لكان من المؤكد أن تكون الصين مثلاً اليوم في المشرق وبعد فترة يجب أن تكون في المغرب وهكذا! وهذا قول لا يقوله عاقل يرى ويتابع العلوم كيف تتطور وبتطورها هذا كيف أظهرت مضامين الآية الكريمة، ومضامينها العلمية التي من الضرورة تكون ضمنية قبل 1400 سنة.
وهذا القول فيه من السطحية والسذاجة لا أقول فيه سطحية علمية، بل هو سطحية بالثقافة الأولوية البديهية، وتصور وفكر فيه وما فيه من القشرية والسطحية المُبالغ فيها.
يتبع..
توقفنا في المقال السابق عند قول البعض في معرفة حركة الأرض وقولهم: لو كانت الأرض بالفعل تدور وتتحرك؛ فهذا يعني أن البلدان أماكنها ستتغير من شرق إلى غرب ومن أعلى إلى أسفل والعكس، وذلك حقيقة قمة الابتعاد عن الحقائق العلمية وقمة ضيق الأفق.
أبدأ بمثل مبسط أضربه لعل هذه النوعية تستوعب حركة المجموعة الشمسية والمجرة، التي أقرها القرآن الكريم والسُّنة النبوية كحركة، التي خاطبت العقول بمفردات حسب كسب العلم والمعرفة في كل عهد وزمان مجاراة لعقلية الإنسان المخلوق الضئيل ورحمة به من الخالق الرحمن الرحيم، عالم العلوم جميعها وخالقها.
مثال: سيارتان تتجهان تجاه المشرق، وكل منهما تسير بسرعة 100 كم في الساعة، ولكن الأولى تتقدم على الثانية بمسافة 10 كم ووزنهما واحد، والثانية خلفها بمسافة 10 كم ووزنها نفس وزن السابقة، وفي الشارع المقابل سيارتان تسير عكسهما، تسير الأولى بسرعة 120 كم في الساعة وهما متجهتان نحو الغرب، والشارعان اللذان تسير فيهما السيارات أيضاً متحركان، ويتحركان بشكل دائري وبكل ما عليهما من أحمال بسرعة 200 كم في الساعة، فماذا نستنتج يا ترى؟
1- السيارتان المتجهتان تجاه المشرق لا يمكن أن تلتقيا أو تتقاربا أو يحدث بينهما تصادم.
2- السيارتان المتجهتان تجاه الغرب لا يمكن أن تلتقيا أو تتقاربا أو يحدث بينهما تصادم.
٣- عدم الشعور بحركة ومسير الشارع ككتلة كبيرة.
٤- تلتقي السيارات المتضادات ذهاباً وإياباً في نقاط تتكرر مثل تكرار الليل والنهار.
٥- سرعة الشارع لو تغيرت اختلت حركة السيارات وتفلتت وانهار النظام.
فحركة الشارع هي حركة المجموعة الشمسية في ذراع أوريون في المجرة، ولا يمكن أن يقبل أن هناك جزءاً يتحرك والبقية ثابتة لا تتحرك، ويبقى النظام كما هو! والله تعالى يقول في كتابة العظيم مؤكداً ذلك: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40).
السؤال: يسبحون هل معناها ثابتون؟! أظن أن هذا جنون إن قلنا المعني بها ثابتون!
نعم الشمس والأرض والقمر والليل والنهار توقيتهما ثابت ودقيق قدره الله تعالى من خلال حركة الكل السابحة المتزنة الثابتة بسرعاتها حول نفسها وحول غيرها، والكل يتحرك ولو توقف أحدها اختل الكل وشاع الدمار! وحركة الأرض أشار إليها الله تعالى بقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88).
هنا نحذر من ينكر حركة الأرض ونقول له: إنك تضع كتاب الله تعالى العظيم في موقع أقل من مقامه العظيم.
لو جاءك إنسان وقال لك: هذا جبل سنام الثابت القوي سأجعل له قواعد وأعمدة وأوتاداً لتثبيته رغم ثباته فماذا تقول عنه؟! في أقل الأحوال تقول: إنه يجهل عمله وما يقول!
تخيل هذا القرآن العظيم كلام الله تعالى العظيم الأعظم يحدثنا أنه يدعم بالأوتاد ليثبت تنظيم حركة ما هو ثابت (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) (النبأ: 7)!
ما هكذا تورد الإبل يا أصحاب العقول، لا يميد إلا المتحرك في حال إهمال تنظيم توازنه! وخصوصاً إذا كان أغلب حجمه من الماء، فتكون حركته ليس من السهل السيطرة عليها من غير المثبتات للتوازن والسيطرة على الحركة المطلوبة، وهنا أخاطب عقول البشر وأحول أصحاب هذه العقول وأقول لهم: اسألوا سائقي التناكر الكبيرة التي تحمل الماء كيف هي حركتهم تحتاج إلى دقة وحذر وتثبيت، ولله المثل الأعلى.
الخلاصة: ليس من بلاغة القرآن العظيم وعظمته، وليس من علومه العظيمة التي تعبر عن علم العظيم الأعظم عز وجل، أن يقول: إنه يصنع الرواسي حتى لا يميد فيكم الثابت!
نختم هذه السطور بهذه الآية العظيمة التي تدل على الحركة الكلية المتكاملة بين المجموعة الشمسية سرعة وحركة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54).
يتبع..
تحدثنا فيما سبق حول ما ذكره القرآن الكريم في حركة الأرض وغيرها من المجموعة الشمسية، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء: 33).
نتحدث هنا حول تأكيد كروية الأرض في القرآن.
النصوص القرآنية أو في السُّنة النبوية فيها ما يبهر كل عصر حسب علمه وما توصل له، وهذا دليل عظمة الله تعالى في كتابه، والأدلة على ذلك كثيرة، منها مثلاً لحم الخنزير وتحريمه، حيث اكتشف العلم الحديث بعد أكثر من ألف سنة أن لحم الخنزير خطر، وذلك بسبب حمله الدودة الشريطية، ومن المؤكد أن هناك أسباباً أخرى سيكتشفها العلم مستقبلاً، فلذلك من علم من القرآن الكريم أمراً أو نهياً وجب عليه الالتزام به ولا يسأل عن السبب، الالتزام به إيماناً، أما إن ظهر السبب علمياً فأنعم وأكرم، وإن لم يظهر يجب إيماناً الالتزام بالنص القرآني أو السُّنة، ويجب تقديم العمل به كأولوية إيماناً وإلا كان هذا الإيمان مهلهلاً ومهزوزاً في فهم أمور الغيبيات، وهذا أمر خطير لا يخفى خطره على المؤمن.
نضرب أمثلة في الإعجاز القرآني، يقول الله تعالى في كتابه العظيم: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة: 4).
ويقول تعالى أيضاً: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة: 75).
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأنعام: 97).
قبل أن ندخل في تفاصيل كروية الأرض، نتحدث حول كيفية تقديم القرآن المعلومة حسب عقول البشرية وتطور علومها واكتشافاتها، فلذلك لا بد أن يخاطب الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة بحجته البلاغية والتشريعية والبيانية والعلمية والإعجازية.. إلخ، وهذا الكم العلمي العظيم المتنوع والمجموع في كتاب الله لا يمكن أن يُستوعب حتى ولو بعض منه في فترة زمنية محدودة وتنتهي، والعقول لا تستوعب ذلك مجتمعة، فلذلك نجد أن القرآن خاطب العقل البشري بتأنٍّ، وبألفاظ ومفردات تستوعب وتراعي العقول والعلوم حسب كل عصر، وهي معجزة لكل عصر دون الإخلال بإعجازها السابق للعقول والعلوم والحقائق العلمية السابقة التي توصل لها الإنسان، ونبدأ بالمثال الأول من كتاب الله تعالى وقوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) لو تحدثنا حولها قبل 1000 سنة مثلاً أو حتى قبل 150 سنة، لو تحدثنا عن “البصمة” لكان القول عبارة عن طلاسم وأقرب إلى النكران والخيال، ولا يمكن أن تستوعبها العقول، ولكن حينما تطور العلم وتم الفهم فيما سبق حينها.
إن الأصابع خلقها الله تعالى متنوعة الأحجام، وهي قمة في روعة الخَلْق وهو أحسن الخالقين، فهذا التفاوت بين أصابع اليد شكلاً وحجماً خوّل اليد أن تتنوع خدمتها للإنسان؛ أكلاً، وكتابة، ودفاعاً، وإمساكاً، وضرباً، وحياكة.. إلخ، فلو كانت الأصابع بحجم واحد أو بشكل واحد لاختلت خدمة اليد والكف أكثر مما نتصور، وهذا الفهم في العصور السابقة معجزة، وهو كذلك، ولكن مع مرور الزمن وتطور العلوم واكتشاف البصمة وأنها لا تتكرر في الإنسان، فكانت هذه المعلومة الأكثر إعجازاً ودقة دون أن تؤثر على معجزة العلوم السابقة بالنسبة لعلومهم وعقولهم واكتشافاتهم حينها، فالعقل المخلوق أقل من أن يدرك هذا المقياس، ونتوقع مستقبلاً اكتشاف ما هو أعظم من ذلك.
ولنتحدث عن آية أخرى في نفس المفهوم، قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة: 75)، حينما أقسم الله بمواقع النجوم بين في تلك العصور علماً إعجازياً لها وهو ظاهر بقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وسبحانه القائل ختاماً: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، كانت المعرفة حينها والمعجزة بفهم مواقع النجوم حيث المسير عليها ليلاً، ولكن لو دققنا بكلمة مواقع كأنها تشير إلى شيء كان موقعه هنا، وهذا بالفعل ما اكتشفه العلم الحديث، أن كثيراً من الأضواء التي تصل إلينا من النجوم هي ضوء انفجار هذا النجم أو ذاك وانعدامه الذي كان في هذا المكان والموقع للتو يصلكم الضوء بعد ملايين السنين بسبب المسافات البعيدة جداً.
يتبع..
بداية، نتساءل: إذا رأيت جسماً دائرياً من مسافات بعيدة مثل القمر والشمس، فهل يعني هذا أن شكل هذه الأجسام الدائرية مربعة، أو مستطيلة، أو شكلها معين أو مثلث مثلاً؟ أعتقد أنه من الجنون أن نقول ذلك، فهي دائرية شكلاً من المسافات البعيدة إذاً هي كروية بديهة، وخصوصاً إذا تأملنا في الآيات الآتية: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ {3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) (الانشقاق)، شكلها للعين دائري، وإذا مدت في نهاية الحياة تلقي ما فيها، وهو دليل أن لها سمكاً كبيراً، والسمك مع الدائري يعني يشكل شكلاً كروياً، والحجم الكروي السميك حينما يُمد طبيعياً يُضغط فيلقي ما في جوفه ويتخلى عنه من أجل الامتداد واتساع الحجم سطحياً.
وهذه آيات تؤكد كروية الأرض، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد: 3)، لو كانت الأرض ممدودة ومسطحة وغير كروية وهي ممدودة كما يتصورها أدعياء المسطحة والله لانتقدت العرب وأهل البلاغة القرآن، ولكنه سبحانه يتضمن معنى ضمنياً علمياً يحتاج إلى الزمن والوقت حتى يدركه الإنسان من خلال تجاربه واكتشافاته، وإن فهمها الإنسان في العصور السابقة فهماً ظاهرياً سطحياً ولكن مضمونها فيه العلم المختزل، فسبحان الله جعل الأرض أينما تكون فيها تراها ممدودة ومبسوطة، وهذه هي البلاغة والعظمة العلمية من الخالق التي يراعي فيها عقل المخلوق الناقص على مر العصور وتطور هذه العقول لتبهرها إلى قيام الساعة!
أما الآية الثانية ومثيلاتها أثبت الله تعالى فيها الحركة والكروية والخصوبة، قال: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق: 7)، اختزل الحركة والكروية إثباتاً بالمحسوس الملموس (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) حجة وإثباتاً للعقلاء، فمن ينفي الكروية والحركة يجب أن ينفي الخصوبة المقرونة بهما.
و”المد” هنا “مددناها” دليل الكروية، حيث المد الذي لا ينتهي كما أسلفنا، وقال: (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)، فالرواسي لا تكون إلا للجسم المتحرك حتى يتوازن بحركته ولا يتفلت بحركة غير متوازنة، وإن لم تصدقوا ذلك فلا تصدقوا أنها خصبة للزراعة والنبت الذي تحسونه وتلمسونه وتعايشونه، وهذا قمة الصغار عقلاً وعلماً وشعوراً.
البعض يدعي المعرفة القطعية الأكيدة، وأنه الذي اكتشف كذب العدو وضحك الأمريكيين على المسلمين بقولهم: “إن الأرض كروية وتتحرك”، وهي ثابتة! وغيرها من أقوال لا يأخذ بها حتى من كان له ولو شيء يسير من الفطنة والكياسة.
كروية الأرض تحدث عنها علماء المسلمين القدماء، بل حتى الحضارات القديمة ما قبل الميلاد تحدثت بذلك، قالت ذلك الحضارة البابلية في العراق، ومنهم أخذت اليونان هذه المعلومات، بل وأكدت اليونان أن جميع الأجرام كروية.
أيضاً العلماء والباحثون المسلمون من قال ذلك، قالها ابن رشد (ت 595هـ)، وهو من أكبر علماء الأندلس، وابن حزم أيضاً أكد أن هناك إجماعاً من علماء الأمة على كروية الأرض، وقد بين ذلك في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”، وأن من ينكر ذلك من العلماء هم قلة، وأكد ذلك بالدليل العلمي من القرآن والسُّنة النبوية، وقال رحمه الله تعالى حول قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزمر: 5)، وأشار إلى أن هذا البيان الواضح في تكوير بعضها على بعض وهو مأخوذ من تكوير العمامة “كور العمامة”.
وكذلك الإمام الذهبي ذكر وأكد ذلك، وقال: إن الأرض كروية، والإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى أكد ذلك وذكره في المنهاج.
يتبع..
لعلك تتساءل: لماذا ركزتُ على الموضوع الذي فيه كثير من التشعبات؟!
نعم، هذا الموضوع من الأمور الصعبة بالنسبة للشباب والمراهقين سناً وثقافة، ولكن من خلاله يدعي بعض الأدعياء بما لا نتوقعه من أجل التشكيك في السُّنة النبوية، ومن ثم في أقل الأحوال نقول: من الممكن التشكيك في معارف وعلوم القرآن الكريم، إذا لم يكن هو أصل المنطلق من أجل الترويج إلى الزندقة الإبراهيمية والعلمانية الكافرة التي تفصل الدين عن الحياة، لا عن الدستور كما يتصور البعض، أو فصل السياسة عن الدين.
من أخطر هؤلاء مَنْ تطرق لهذا الأمر تشكيكاً في صحيح البخاري د. عدنان إبراهيم، وذلك من خلال رواية تحدث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشمس وحركتها التي لا تتوقف، حيث حاول إبراهيم أن يخرّف الرواية مقابل العلوم الحديثة، رغم توافق الرواية توافقاً عجيباً مع الاكتشافات العلمية الحديثة، وهو يعلم ذلك!
فمن يتابع إبراهيم والمجموعة التي تحمل نفس توجهه، وإن تباعدت بينهم المسافات والأماكن، لا يمكن أن نقول: إنها كمجاميع لا تعمل تحت ظل تنظيمات موحدة لهدف واحد، وأنا شخصياً لو قلت ذلك، فأنا ساذج وغبي!
هذه النوعية تأخذ المسألة من زاوية معينة من الموضوع وفي النهاية نجدهم جميعاً أجمعوا على الطعن في القاعدة الذهبية التي ألَّف البخاري عليها كتابه، والقاعدة التي على أساسها يتم الرد والقبول للرواية.
الرواية التي أراد إبراهيم من خلالها نفي صحة البخاري بادعائه: أن اكتشافات العلم الحديث تنافي نص الرواية ومعانيها وتتضارب معها!
نص الرواية: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (قوله في الشمس): “أتدري أين تذهب؟”، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئتِ فتطلع من مغربها”.
أولاً، معنى السجود لغة هو الخضوع (لسان ابن منظور)، كما جاء في نص الرواية.
فسجود الإنسان خضوعه، كما نعرفه شرعاً، أما غير الإنسان لا نعلم إلا أنه الخضوع لغة، ولا يوجد مخلوق يستطيع أن يكيف هذا الخضوع كما هو للإنسان الذي كيّفه لنا الشارع جل وعلا، وكل الخلائق لله تسجد، كما بين الله تعالى ذلك في كتابه العظيم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج: 18).
إذاً، لا بد من التسليم والإيمان بالصحيح المنقول من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان تسليماً للرواية أو السُّنة لا يأتي هكذا، فما جاء هذا الأمر إلا بعد أن وضع العلماء القواعد والكثير من الأسس والأصول العلمية للرد والقبول، ومن أرفعها قواعد جمع القرآن، فهي داخلة في معنى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وأيضاً قواعد الإمام البخاري في القبول والرد، فالطاعنون في هذه القواعد القصد منه النَّيْل من القرآن الكريم، وذلك بعد قبول الطعن في صحيح البخاري، والقواعد التي على أساسها ألَّف المؤلف، فرد البخاري هو مقدمة لرد ما هو أعظم.
إن الحديث الذي أراد إبراهيم أن يطعن فيه رواه البخاري في صحيحه، فهو صحيح سنداً ومتناً وواقعاً علمياً حديثاً.
في الرواية فائدة، وهذه الفائدة هي نور سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمسك زمام جوامع الكلم والبلاغة، قال كما في الرواية عن الشمس: “فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش”، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: “تغرب تحت العرش”، وإن كان الغروب أحياناً يأتي بمعنى الذهاب في حدود معينة، أو التورية لغة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “تذهب”، وهذا دليل السير والجريان وعدم التوقف بذاتها، فالذهاب يشمل حركتها بذاتها، وحركتها القسرية بذات غيرها من خلال المجرة والذراع الذي هي فيه، لا دلالة على الغروب الذي أراد إبراهيم أن يشكك من خلاله في صحة الرواية ويحصر الذهاب بالغروب فقط، ومن ثم التشكيك في صحة البخاري لعدم توافقه علمياً مع الاكتشافات الحديثة!
تذهب، كما يزعم إبراهيم، لفظة فيها من العلم الآني، والعلم والاكتشاف المستقبلي حسب الإدراك العلمي والعقلي للبشرية واكتشافاتها والزمن الذي يتحدث فيه، فقال: “تذهب”؛ أي الشمس تذهب، فكان فهمها لعصور كثيرة تغرب، ولكن اللغة تحتمل غير ذلك وهي الأصل، تحتمل أيضاً حركة الشمس بذاتها وهذا هو الأصل، وتحركها أيضاً من خلال ذراع “أيوريون” في المجرة مع ملايين أو مليارات الكواكب والنجوم إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، لأن الغروب ليس سببه حركة الشمس حسب اكتشافات العلوم الحديثة بقدر ما سببه حركة الأرض حول نفسها مقابل الشمس، كما يعلم د. إبراهيم وأمثاله.
يتبع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق