وبسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله
وسلامه على سيدنا محمد ، وعلى آله ، وصحبه أجمعين ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
.
أما بعد
فهذه رسالة متواضعة ، لم أرد بها تكريس
، وترسيخ الخلاف والإختلاف ، بل أردت بها محاولة لإنهاء التفرق والتشدد والتعصب ، في الأمور الإجتهادية
الإختلافية ، التي أراد الشارع التوسع فيها ، والتنوع ، ليسع الجميع وتظللهم رحمة
الله تعالى ، الوارفة ، كلٌ حسب إستطاعته وطاقته ( لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )([1]) ليصبح الجميع إخوة متحابين ، يعبدون
الله تعالى بما شرع ، وعلى ضوء إجتهادات العلماء ، والأئمة ، الذين أجاز لهم
الشارع أن يجتهدوا في فهم النصوص ، وتطبيقها ، وأمر الناس بسؤالهم ، واتباعهم ،
بقوله تعالــى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُوُن ) ([2]) وقوله تعالى : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ([3]) .
فبينت فيها – ما وسعني ذلك – أن كلا الرأيين محترم ،
ومشروع ، وله دليله المعتبر ، فليأخذ كلٌ ما يرتاح له من إجتهادات الأئمة ،
ولا ينكر على من يخالفه ، ما دام كلا الرأيين مؤسس ومبني على أدلته
المحترمة المشروعة .
فهي جمع ، وترتيب للنصوص ،
والأدلة ، والأقوال ، وكذلك بعض الإضافات ، والتعليقات منا ، ومناقشة بعض الأقوال .
وقد عزوت كل قول إلى قائله ،
وأشرت إلى المصادر ، ونقلت بعض الأقوال من غير أن أشير إلى ذلك ، أو أذكر صاحبها ،
حيث رأيت ذلك أفضل ، وذلك لأن بعض الناس ينظر إلى مَن قال ، لا إلى ما قيل !
فما كان فيها من حق ، وصواب
فمن فضل الله تعالى ، وما كان غير ذلك فمني ومن الشيطان .
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا
خطايانا ، ويتوب علينا ، إنه هو التواب الرحيم .
الفقير إلى عفو ربه
عبد الكريم علي
لا حرج والدين يسر
إن مما لا خلاف فيه : أن
الإختلاف في الأمور الإجتهادية الظنية قد حصل في خير القرون ، وبين أفضل الناس بعد
الرسل ، والأنبياء – وهم الصحابة – ،
وبين يدي رسول الله r
وقد أقرّ رسول الله r هذا الإختلاف ، والإقرار من النبيّ الكريم r هو سنة من سننه .
وهذا النوع من الإختلاف هو رحمة من
الله رب العالمين ، ورحمة من رسول الله r ، الذي أدّبه ربّه فأحسن تأديبه ، وقال له : ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم )) ([4])
. وقال
تعالى : (( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) ([5])
.
فمن النصوص التي رفعت الحرج ، وجعلت
الدين يسر ، قول الله تعالى : (( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون )) ([6])
. وقال
تعالى : (( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيم )) ([7])
.
وقال تعالى : (( إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ
مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُم فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن
سَيَكُونُ
مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه )) ([10])
.
ومن مقتضى هذا التيسير ، ورفع الحرج عن
الناس ، هو عدم ورود الأوامر الإلهية الشرعية كلها بصورة قطعية ، لا تقبل الإختلاف
.
بل يكون فيها من الأوامر ، والنواهي ما
لا يقبل أي إختلاف ، أو نقاش . وفيها أمور تتسع ، وتقبل إجتهاد الأئمة
، والمجتهدين ، واختلافاتهم .
وهو –
كما ذكرنا – أثر من آثار رحمة الله ، الذي إختار
لاسمه ، تعالى ، في مخاطبة عباده في
القرآن الكريم ، صفة الرحمة ، فيقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وهو تعبير يستغرق كل معاني الرحمة ،
وحالاتها .
وذلك لأن الناس ليسوا على نمط واحد ،
ففيهم القوي ، والضعيف ، والرجل ، والمرأة ، والشيخ والصغير .
فضلا عن أن الإنسان الواحد ، قد يتقلب
من حال إلى حال . فالإيمان يزيد ، وينقص ، فهو في إقبال
، وإدبار .
فلا يصلح لهم نوع واحد من الأحكام .
فهذا التنويع من الأحكام ، والتي كانت كثير
منها أدلتها ظنية ، سواء من ناحية ثبوتها ، أو دلالتها ، أو كليهما ، والتي هي ميدان لإجتهادات الأئمة .
هذا التنويع هو أثر من آثار رحمة الله
، تعالى ، بالمؤمنين .
فلهم أن يأخذوا بأقوال مَن شاءوا من
المجتهدين . حيث لا يتعين ، ولا يُفرض عليهم غير
نصوص القرآن ، والسنة .
أما فَهم النصوص ، والإستنباط منها ،
فقد يختلف فيه المجتهدون .
التشديد
والتعمق في دائرة العفو
قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ
عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيم )) ([15])
.
قال الإمام إبن كثير ، رحمه الله ، في
تفسيره ، بعد أن ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن
بعض الناس كانوا يسألون رسول الله r أسئلة ، لا معنى
لها مثل : مَن أبي ؟ أين أبي ؟ أين ناقتي ؟ . . . إلخ ، قال :
[
وقيل المراد بقوله (( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبد
لكم )) أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون
السؤال عنها فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ، وقد ورد في الحديث : (( أعظم المسلمين جُرماً مَن سأل عن شيء
لم يحرم فحرم من أجل مسألته )) ، ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة
فسألتم عن بيانها بيّنت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها ، ( عفا
الله عنها ) أي ما لم يذكره في كتابه ، فهو مما عفا
عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها .
وفي الصحيح عن رسول الله r أنه قال : ((
ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم
)) ، وفي الحديث الصحيح أيضا : (( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها
، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم
غير نسيان فلا تسألوا عنها )) ] ([16])
.
فكثرة السؤال ، والتشديد ، والتضييق في
مواقع السعة ، وفي المجالات التي أذن الله فيها بالإجتهاد ، هو صفة من صفات اليهود
.
فكما هو معلوم عند الجميع ، قد أنزل
الله عليهم أمراً ، بأن يذبحوا بقرة .
فكان في وسعهم أن يذبحوا أية بقرة
شاءوا ، ولكنهم تعنتوا ، وشدّدوا ، فشدّد الله تعالى عليهم ، وضيّقوا على أنفسهم
واسعا ً ، فضيّق الله عليهم .
اليُسر
والسعة في قراءة القرآن
إن هذا القرآن العظيم ، الذي هو أكبر
معجزة ، لآخر رسالة من رسالات الله ، سبحانه ، والذي كُتب له البقاء إلى يوم
القيامة ، فهو كلام الله المعجز ، والمحدود من سورة الفاتحة إلى سورة الناس .
إن هذا القرآن العظيم قد أذن الله
تعالى بقراءته على وجوه تيسيراً ، ورحمة بالناس ، فما بالك بغيره ؟
أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن
الخطاب t قال : ((
سمعت هشام ابن الحكم يقرأ سورة الفُرقان في حياة رسول الله r فاستمعت لقراءته
فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسولُ الله r فكِدت أساوره في
الصلاة ، فتصبرت حتى سلّم ، فلبّبته بردائه فقلت : مَن
أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها
رسولُ الله r ، فقلت : كذبتَ ، فإن رسول الله r قد أقرأنيها على غير ما قرأت . فانطلقت
به أقودُه إلى رسول الله r فقلت : إني
سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها . فقال
رسول الله r
: أرسله
، إقرأ يا هشام . فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ،
فقال رسول الله r
: كذلك
أُنزلت .
ثم قال : إقرأ
يا عمر ، فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله r : كذلك أُنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة
أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه )) ([17])
.
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني ، رحمه
الله ، في شرحه لهذا الحديث :
[
ولمسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب قال ((
كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى
قراءة صاحبه ، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله r فقلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ودخل
آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه ، فأمرهما فقرآ ، فحسّن النبيّ r شأنهما ، قال
فسقط في نفسي ولا إذ كنت في الجاهلية ، فضرب في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى
الله فرقاً ، فقال لي : يا أُبيّ ، أُرسل إليّ أن أقرأ القرآن
على حرف )) الحديث
وعند الطبري في هذا الحديث ((
فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى إحمر وجهي فضرب في صدري وقال : اللّهم
أخسأ عنه الشيطان )) .
وعند الطبراني من وجه آخر عن أُبيّ أن
ذلك وقع بينة وبين ابن مسعود ، وأن النبيّ r قال : كلاكما محسن ] ([18])
.
عدم
تعنيف المختلفين في الأمور الفرعية
أخرج الإمام البخاري ، رحمه الله ، في
صحيحه عن إبن عمر رضي الله عنهما قال : قال
النبيّ r يوم الأحزاب : لا يصلِّينّ أحد العصر إلاّ في بني
قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيهم ، وقال بعضهم : بل نصلي لم يُرد منا ذلك . فذُكِر ذلك للنبيّ r فلم يعنّف واحداً منهم ([19])
.
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني : [ قال السهيلي وغيره : في هذا الحديث من الفقه أنه لا
يُعاب على مَن أخذ بظاهر حديث أو آية ، ولا على مَن استنبط من النص معنى يخصصه .
وفيه أن كل مختلفين في الفروع من
المجتهدين مصيب ، قال السهيلي : ولا يستحيل أن يكون الشيء صواباً في حق
إنسان وخطأ في حق غيره ، وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق
شخص واحد ، قال :
والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات
أحكام لا أعيان ، قال : فكل مجتهد وافق إجتهاده وجهاً من
التأويل فهو مصيب . انتهى . والمشهور
أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد ، وخالف الجاحظ والعنبري . وأما
ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضا : المصيب واحد ، وقد ذكر ذلك الشافعي
وقرره ، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب ، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد .
وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية : هو
مصيب بإجتهاده ، وإن لم يصب ما في نفس الأمر مخطيء وله أجر واحد ، . . .
ثم الإستدلال بهذه القصة على أن كل
مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد ،
فيستفاد منه عدم تأثيمه . . . وقد استدل به الجمهور على عدم
تأثيم من إجتهد لأنه r لم يعنّف أحداً
من الطائفتين ، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم ] ([20])
.
الغوص
في النصوص لإخراج المعاني
قال الحافظ إبن القيم ، رحمه الله ، في
تعليقه على حادثة صلاة العصر في بني قريظة :
[
واختلف الفقهاء أيهما كان أصوب ، فقالت طائفة الذين أخروها هم المصيبون ولو كنا
معهم لأخرناها كما أخروها ولما صليناها إلاّ في بني قريظة إمتثالاً لأمره وتركاً
للتأويل المخالف للظاهر .
وقالت طائفة أخرى : بل
الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق وكانوا أسعد بالفضيلتين
، فإنهم بادروا إلى إمتثال أمره في الخروج ، وبادروا إلى مرضاته في
الصلاة في وقتها ، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم فحازوا فضيلة الجهاد وفضيلة الصلاة
في وقتها وفهموا ما يُراد منهم ، وكانوا أفقه من الآخرين
ولا سيما تلك الصلاة فإنها كانت صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى بنص رسول الله r الصحيح الصريح الذي لا مدفع له ولا مطعن فيه ، ومجيء السنة
بالمحافظة عليها والمبادرة إليها والتبكير بها ، وإن من فاته فقد وتر أهله وماله
أو قد حبط عمله ، فالذي جاء فيها أمر يجيء مثله في غيرها .
وأما المؤخرون لها فغايتهم أنهم
معذورون بل مأجورون أجراً واحداً لتمسكهم بظاهر النص وقصدهم إمتثال الأمر
، وأما أن يكون هم المصيبون في نفس الأمر ومَن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئاً
فحاشا وكلاّ .
والذين صلوا في الطريق جمعوا بين
الأدلة ، وحصلوا الفضيلتين فلهم أجران والآخرون مأجورون
أيضاً رضي الله عنهم ] ([21])
.
وقد نقل الحافظ إبن حجر ، رحمه الله ،
أقوال الحافظ إبن القيم ، رحمه الله ، فقال :
[ وقال إبن القيم في الهدي ما حاصله : كل
من الفريقين مأجور بقصده ، إلاّ أن مَن صلى حاز الفضيلتين : إمتثال
الأمر في الإسراع ، وإمتثال الأمر في المحافظة على الوقت ولا سيما ما في هذه
الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها وأن مَن فاتته حبط عمله ، وإنما لم يعنف
الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر ، ولأنهم إجتهدوا فأخروا
لامتثالهم الأمر . لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون
إجتهادهم أصوب من إجتهاد الطائفة الأخرى .
وأما مَن احتج لمن أخر بأن الصلاة
حينئذ كانت تؤخر كما في الخندق وكان ذلك قبل صلاة الخوف ، فليس بواضح ، لاحتمال أن
يكون التأخير في الخندق كان عن نسيان ، وذلك بيّن في قوله r لعُمر لما قال
له : ما كِدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن
تغرب ، فقال : والله ما صليتها .
والغرض من إيراد أقوال الحافظ إبن
القيم ، رحمه الله ، وأقوال الحافظ إبن حجر ، رحمه الله ، في نقله لها ، وإقراره
عليها ، هو أن نبيّن ؛ أنهما قد ذهبا إلى تصويب رأي مَن لم يقف عند ظاهر النص ، بل
خاض فيه ليصل إلى الغاية من ورود النص ، فقد قيل في تعريف ( الفقه
) لغة واستعمالاً في القرآن الكريم : هو
دقة الفهم ، ولطف الإدراك ، ومعرفة غرض المتكلم
([23]) .
الفهم الظاهري للنصوص من قبل بعض
الصحابة
إن الوقوف عند ظاهر النصوص ، وعدم
تجاوزه لفهم الغرض من إيرادها ، ومعناها المجازي ، أو غيره ، قد أوقع بعض الصحابة
في أخطاء ، أضحكت النبيّ r .
روى البخاري في صحيحه عن عدي ابن حاتم t قال :
لما نزلت ((
حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ))
عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر في الليل فلا
يستبين لي فغدوت على رسول الله r فذكرت له ذلك
فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ([24]) .
وفي رواية أخرى للبخاري ، قال له رسول
الله r
: (( إن وسادك إذاً لعريض أن كان الخيط
الأبيض والأسود تحت وسادتك )) [25]
.
وفي رواية ثالثة للبخاري أيضا عن عدي
قال : ((
قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : إنك
لعريض القفا إن أبصرت الخيطين . ثم قال : لا
، بل هو سواد الليل وبياض النهار ([26]) .
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني ، رحمه
الله :
[ وللإسماعيلي عن يوسف القاضي عن محمد
بن الصباح عن هشيم (( قال : فضحك وقال : إن
كان وسادك إذاً لعريضا )) . . . قال القرطبي : . . . وإنما عنى والله أعلم أن وسادك إن كان
يغطي الخيطين اللذين أراد الله فهو إذاً عريض واسع ، ولهذا قال في أثر ذلك ، إنما
ذلك سواد الليل وبياض النهار ، فكأنه قال : فكيف
يدخلان تحت وسادتك ؟
وقوله ((
إنك لعريض القفا )) أي ان الوساد الذي يغطي الليل والنهار
لا يرقد عليه إلا قفا عريض للمناسبة .
قلت : وترجم
عليه إبن حبان (( ذكر البيان بأن العرب تتفاوت لغاتها ))
وأشار بذلك إلى أن عديّاً لم يكن يعرف في لغته أن سواد الليل وبياض
النهار يُعبر عنهما بالخيط الأسود والخيط الأبيض . . . ] ([27])
.
ومن ذلك أيضا ما فعله عمّار بن ياسر
رضي الله عنهما تطبيقا لقول الله تعالى : ( فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيدا طيبا ) حيث
قال – كما في الصحيح – :
( بعثني رسول الله r في حاجة فأجنبت
فلم أجد الماء فتمرّغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة . فذكرت
ذلك للنبيّ r فقال : إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا فضرب
بكفّه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله ، أو ظهر شماله بكفه ثم
مسح بهما وجهه . . . ) ([28])
.
ومن ذلك أيضا ما فهمه الصحابة ، رضوان
الله عليهم ، من ظاهر كلمة ( الظلم ) ،
فبيّن لهم رسول الله r ، أن ظاهرها المتبادر إلى الذهن غير مراد ،
وغير مقصود .
عن عبد الله بن مسعود ، t ، قال :
( لما نزلت (
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )
قلنا : يا رسول الله أيُّنا لا يظلم نفسه ؟
قال : ليس كما تقولون ، ( لم
يلبسوا إيمانهم بظلم ) بِشِرك . أوَلم
تسمعوا إلى قول لقمان لابنه ( يا
بُنيّ لا تشرك بالله ، إن الشرك لظلم عظيم ) ([29])
.
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني :
[ فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه
الصحابة من هذه الآية ، وبيّن لهم النبيّ r أن ظاهرها غير
مراد ،
بل هو من العام الذي أريد به الخاص ، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك ] ([30])
.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد
الله بن مسعود t عن النبيّ r قال : (( لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال
ذرة من كِبر )) فقال رجل : إن
الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنة فقال : (( إن الله جميل يحب الجمال . الكبر
بطر الحق ، وغمط الناس )) [31]
.
ومعنى ((
بطر الحق )) دفعه . و ((
غمطهم )) إحتقارهم .
إن هذا الرجل قد فهم : أن
الكبر يتعلق بالملابس ، وجمالها ، ونظافتها ، فبيّن رسول الله ، r ، بأن الله جميل ، يحب الجمال ، ولكن الكبر ، وحقيقته ، وروحه ،
هو : دفع الحق ، وردّه ، وعدم قبوله
والإذعان له ، وكذلك إحتقار الناس ، وغمطهم .
وكذلك روى الإمام البخاري عن عائشة رضي
الله عنها : ( أن بعض أزواج النبيّ r قُلنَ للنبيّ : أيّنا أسرع بك لحوقاً ؟ قال : أطولكنّ يداً .
فأخذوا قصبة يذرعونها ، فكانت سودة
أطولهنّ يداً . فعلِمنا بعدُ أنما كانت طولَ
يدِها الصدقة ، وكانت أسرعنا لحوقاً به ، وكانت تحبّ الصدقة ) ([32])
.
إن أصحاب رسول الله r
- الذين
تربّوا على يديه تحت عين الله ورعايته – قد
كانوا يختلفون في فهمهم لبعض أوامر الله تعالى وأوامر رسول الله r ، وهو كان حيّاً وحاضراً بين أظهرهم ، فلم يعنف أحدا منهم ، بل
تجاوز عنهم مادام إختلافهم كان خارج دائرة القطعيات ، ولم يدخلوا –
بهذه الإختلافات – في الشرك ، ولم يتصادموا مع سنة رسول
اللهr ، وهديه – والتي كانت كلها يسر ورحمة –
فهُم في سعة ، وفي دائرة العفو التي سكت عنها الله سبحانه وتعالى رحمة بهم غير
نسيان .
بل إن النبيّ r كان يكره أن
تكون هذه الإختلافات مصدراً للتفرق والشقاق ، فكان يوجههم إلى الأخوة واليسر ، كما
قال لعمر بن الخطاب عندما إختلف مع هشام بن حكيم وكاد هذا الإختلاف أن يكون تفرقاً
: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ،
فاقرأوا ما تيسر منه .
وقال r لأُبيّ بن كعب
واللذين اختلف معهما بعد أن حسّن شأنهما ، وفي رواية كان خلافه مع عبد الله بن
مسعود رضي الله عنهم جميعا : كلاكما محسن !
فبما رحمة من الله لنت لهم
إن الله تعالى قد ربّى رسوله محمداً r ، فجعله رحمة للناس كما قال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين )) ([33])
.
قال الحافظ إبن كثير ، رحمه الله ، في
تفسيره لقوله تعالى :
(( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر )) ([35])
.
قال : [ يقول تعالى مخاطبا رسوله مُمتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به
قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره وأطاب لهم لفظه ( فبما
رحمة من الله لِنت لهم ) أي بأي شيء جعلك الله لهم ليّناً لولا
رحمة الله بك وبهم ، وقال قتادة : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) يقول
: فبرحمة من الله لنت لهم . . . وقال الحسن البصري : هذا خلق محمد r بعثه الله به ،
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين
رؤوف رحيم ) .
ثم قال تعالى : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ،
والفظ : الغليظ والمراد به ههنا غليظ الكلام
لقوله بعد ذلك : ( غليظ القلب ) أي
لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم
عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : إني
أرى صفة رسول الله r في الكتب المتقدمة ((
أنه ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي
بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح )) ] ([36])
.
ومن آثار هذه التربية الربانية لرسول
الله r ، ما ذكره البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه
معلقاً :
[ ويُذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة
باردة فتيمّم وتلا ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم
رحيماً ) فذُكر للنبيّ r فلم يعنّف ] ([37])
.
قال الحافظ إبن حجر العسقلاني ، رحمه
الله :
[ هذا التعليق وصله أبو داود والحاكم من
طريق يحيى بن أيوب . . . عن عمرو بن العاص قال : (( إحتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن
أغتسل فأهلك ، فتيممت ، ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبيّ r فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب
؟ فأخبرته بالذي منعني من الإغتسال وقلت : إني
سمعت الله يقول ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم
رحيما ) فضحك رسول الله r ولم يقل شيئا )) ] ([38])
.
وتظهر آثار هذه الرحمة جلياً في حجة
الوداع ، فقد روى الإمام البخاري ، في صحيحه عن إبن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : [ (( سئل النبيّ r عمّن حلق قبل أن
يذبح ونحوه فقال : لا حرج لا حرج )) .
وفي رواية أخرى : (( قال رجل للنبيّ r : زُرتُ قبل أن أرمي ، قال : لا
حرج . قال : حلقت
قبل أن أذبح ، قال : لا حرج . قال
: ذبحت قبل أن أرمي ، قال : لا
حرج )) .
وفي رواية ثالثة : (( سئل النبيّ r فقال : رميتُ
بعد ما مسيت ، فقال : لا حرج . قال
: حلقتُ قبل أن أنحر ، قال : لا
حرج )) ] ([39]) .
فهذه الأحاديث قد رواها الإمام البخاري
، رحمه الله ، في صحيحه , وهي لتدل دلالة واضحة وأكيدة على أن
رسول الله r ، لم يكن من الجامدين المتصلبين المتشددين –
حاشاه – ، بل كان r رؤوفاً رحيماً ،
سهلاً ليّناً ، وكان يرى أن هذه الأمور لا تستدعي التضييق والتعنت والتشديد ، فهي
أمور واختلافات ، لا تغير من حقيقة الشيء ، فالناس قد جاءوا من كل حدب وصوب ،
يلبّون نداء ربهم ، خاشعين متذللين ، فلم ير عليهم بأساً من أن يقدموا طاعة على
طاعة .
وهذا الذي ذكرناه ليس معناه أن لا نهتم
بأمر ديننا وعباداتنا وكيفياتها ، بل نحرص كل الحرص على كل أمر قطعي من القطعيات
التي لا خلاف فيها .
أما الأمور التي تدخل في دائرة
الخلافيات – ، والتي لم يصل فيها علماؤنا وأئمتنا
من السلف والخلف إلى رأي واحد موحد ، بل إختلفوا فيها ، ولكل دليله وحجته – ،
فليسعنا ما وسعهم ، ونيسّر فيها على الناس ، ولا نضيق عليهم ولا نعنّفهم ، إقتداءً
بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله r .
الخلافيات لا تكون قطعيات
إن هذه الأمور الظنية الخلافية لو كانت
تقبل أن تكون قطعية ، وأن تُصب في قالب واحد ، فتخرج كرأي واحد موحد ، لما بقيت
إلى الآن ، ولما وصلت إلينا على صورتها هذه التي تقبل وجهات نظر متعددة .
بل قد كان يقوم بهذا العمل سلفنا
الصالح ، قبل أكثر من عشرة قرون مضت .
فلماذا نشغل أنفسنا
ونشغّل الناس معنا أيضاً في بحث أمور نتعصب لها ونشدد فيها ونفاصل عليها ، وهي هذه
حقيقتها ؟
فلن نصل فيها إلى رأي واحد أبداً ،
فهذا الصراع لحساب من ؟
عندما كان أئمتنا من السلف الصالح
يناقشون هذه الأمور ، ويهتمون بها ، كان ملوك الروم يؤدون الجزية لخليفة المسلمين
عن يد وهم صاغرون !
وكان سلطان الإسلام قد هيمن على
المعمورة ، والفتوحات على قدم وساق ، تمنح الحرية للشعوب ، أما الآن فالمسلمون هم مَن يعطون الجزية
لأعداء الله ورسوله عن يد وهم صاغرون !
فهل من المنطق والمعقول أن نشغل
المسلمين بهذه الأمور الفرعية الخلافية ، ونترك القطعيات والأمور العظام ؟
ورحمة الله على الإمام مالك عندما ألف
كتابه ( الموطأ ) ،
عرض عليه الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعلقه في الكعبة ويحمل الناس عليه حسماً
لمادة الخلاف فردّ الإمام مالك قائلاً : لا
تفعل فإن الصحابة تفرّقوا في الآفاق وردوا أحاديث أهل الحجاز التي اعتمدتها وأخذ
الناس بذلك فاتركهم على ما هم عليه ([40]) .
قال الحافظ إبن كثير ، رحمه الله :
[ وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن
يجمع الناس على كتابه ، فلم يجبه إلى ذلك . وذلك
من تمام علمه واتصافه بالإنصاف ، وقال : (( إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء
لم نطلع عليها )) ] ([41])
.
[25] ) صحيح البخاري : كتاب التفسير ، باب { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ، ( 4 / 1640 ) ، حديث : 4239 .
[31] ) صحيح مسلم : كِتَابُ الْإِيمَانَ ، بَابُ تَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَبَيَانِهِ ، ( 1 / 93 ) ،
حديث : 147 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق