لا
تشــد الرحــال
يخطئ
كثير من الناس في فهم حديث :
((لا
تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى)) ..
فيستدلون
به على تحريم شد الرحل لزيارة النبي r ويعتبرون أن السفر بذلك سفر معصية ، وهذا الاستدلال مردود ،
لأنه مبني على فهم باطل ، فالحديث كما
سترى في باب ، والاستدلال في باب آخر ، وبيان ذلك هو أن قوله r: لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد . جاء على الأسلوب المعروف عند
اللغويين بأسلوب الاستثناء ، وهذا يقتضي وجود مستثنى ومستثنى منه ،
فالمستثنى هو ما كان بعد إلا ، والمستثنى
منه هو ما كان قبلها ، ولابد من الأمرين ، إما
وجوداً أو تقديراً ، وهذا مقرر ومعروف في أبسط كتب النحو .
وإذا
نظرنا إلى هذا الحديث وجدنا أنه قد جاء فيه التصريح بذكر المستثنى وهو قوله : (إلى ثلاثة مساجد) وهو ما بعد
((إلا)) ولم يأت ذكر المستثنى منه وهو ما
قبل ((إلا)) فلابد إذن من تقديره .
فإن
فرضنا أن المستثنى منه [قبر] كان اللفظ المنسوب لرسول الله r لا
تشد الرحال إلى قبر إلا إلى ثلاثة مساجد . وهذا السياق ظاهر في عدم الانتظام وغير لائق بالبلاغة النبوية ، فالمستثنى
غير داخل ضمن المستثنى منه ، والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، ولا
يطمئن قلب عالم يتحرج من نسبة كلام
للمصطفى r لم يقله إلى نسبة هذه اللفظة [قبر] وهي لا
تتفق مع الأصل في الاستثناء إلى رسول
الله r فلا تصلح أن تكون هي المستثنى منه ، فلنفرض أنها لفظ [مكان] فيكون السياق
المنسوب لرسول الله r على
هذا الفرض ، لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى ثلاثة مساجد ، ومعنى هذا
ألا تسافر إلى تجارة أو علم أو خير ،
وهذا ضرب من الهوس ظاهر البطلان .
فالحديث اشتمل على
ذكر المستثنى وليس فيه ذكر المستثنى منه ، ولذلك
فلابد من تقديره باتفاق أهل اللغة ، وتقديره لا يحتمل إلا ثلاثة وجوه لا
رابع لها الوجه الأول : أن يكون تقديره بلفظ [ قبر] فيكون اللفظ المقدر : لا
تشد الرحال إلى قبر إلا إلى ثلاثة مساجد
.
وهذا التقدير مبني
على رأي من يستدل بالحديث على منع السفر للزيارة ، وأنت ترى أنه تقدير بارد ممجوج
لا يستسيغه من عنده أدنى إلمام بالعربية ، وهو
لا تليق نسبته إلى أفصح من نطق بالضاد صلوات الله وسلامه عليه ، فحاشا أن
يرضى بمثل هذا الأسلوب الساقط .
الوجه الثاني : أن
يكون تقدير المستثنى منه في الحديث بلفظ عام وهو لفظ [ مكان ] وهذا باطل كما تقدم بلا
خلاف ولا قائل به .
الوجه الثالث : أن
يكون تقدير المستثنى منه في الحديث بلفظ [ مسجد ] فيكون سياق الحديث بلفظ : لا تشد
الرحال إلى مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد .
فنرى أن الكلام قد انتظم وجرى على الأسلوب اللغوي الفصيح ، واختفى التهافت
الواضح في الصورتين المتقدمتين وأشرقت فيه روح النبوة . ويطمئن القلب التقي إلى
نسبته لرسول الله r هذا بفرض أنه لا توجد رواية أخرى مصرحة
بالمستثنى منه فإذا وجدت هذه الرواية فلا
يحل لمن له دين أن يعدل عنها إلى محض فرض لا
يستند إلى فصيح اللغة .
وقد وجدنا بحمد الله
في السنة النبوية من طريق الروايات المعتبرة ما فيه التصريح بالمستثنى منه ، فمنها : ما أخرجه
الإمام أحمد من شهر بن حوشب قال : سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة والسلام في
الطور فقال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم :
((لا ينبغي للمطي أن
يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير
المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي)) ..
قال الحافظ ابن حجر
: وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض ضعف .
(فتح الباري
ج3 ص65) .
وفي
لفظ آخر :
((لا ينبغي للمطي أن
تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير
المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)) ..
قال الحافظ الهيثمي
: وفيه شهر ، فيه كلام وحديثه حسن .
(مجمع
الزوائد ج4 ص3)
ومنها ما جاء عن
عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله r :
((أنا خاتم النبياء
ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل : المسجد
الحرام ومسجدي ، صلاة في مسجدي أفضل من
ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)) ..
رواه البزار . (مجمع
الزوائد ج4 ص3)
فكلامه r في
المساجد ليبين للأمة أن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساو في الفضل ، فلا فائدة في التعب بالسفر
إلى غيرها ، أما هي فلها مزيد فضل ،
ولا دخل للمقابر في هذا الحديث فإقحامها في هذا الحديث يعتبر ضرباً من الكذب على رسول الله r ،
هذا مع أن الزيارة مطلوبة بل وكثير من العلماء يذكرونها في كتب المناسك على أنها
من المستحبات ، ويؤيد هذا أحاديث كثيرة ، نذكر جملة منها .
عن ابن عمر عن النبي
r قال :
((من زار قبري وجبت
له شفاعتي)) ..
رواه البزار وفيه
عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف ، ونقله الشيخ ابن تيمية ، وقال : إنه ضعيف ولم يحكم بوضعه
أو كذبه اهـ . (الفتاوى ج27 ص30) في
هذا الموضع ، فإن ثبت غير هذا عنه في موضع آخر فمعناه أنه متردد في الحكم عليه ، أو
أنه اختلف رأيه فيه ولم نعلم المتقدم من
المتأخر فلا يوثق بواحدة حينئذ .
عن
ابن عمر قال : قال رسول الله r :
((من جاءني زائراً
لا يعلم له حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) ..
رواه الطبراني في
الأوسط والكبير ، وفيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف .
(كذا في
المجمع ج4 ص2) .
وقال الحافظ العراقي
: صححه ابن السكن (المغني ج1 ص265) .
عن ابن عمر عن النبي
r قال :
((من حج فزار قبري
في مماتي كان مكن زارني في حياتي)) ..
رواه الطبراني في
الكبير والأوسط ، وفيه حفص بن أبي داود القارئ وثقه أحمد ، وضعفه جماعة من الأئمة .
عن ابن عمر قال :
قال رسول الله r :
((من زار قبري بعد
موتي كان كمن زارني في حياتي)) ..
قال الهيثمي : رواه
الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عائشة بنت يونس ، ولم أجد من ترجمها (كذا في مجمع الزوائد 4/2)
.
والحاصل أن أحاديث
الزيارة لها طرق كثيرة يقوي بعضها بعضاً ، كما نقله المناوي عن الحافظ الذهبي في
فيض القدير (ج6 ص140) خصوصاً وإن
بعض العلماء صححها أو نقل تصحيحها كالسبكي وابن السكن والعراقي والقاضي عياض في الشفا ، والملا علي قاري
شارحه والخفاجي كذلك في نسيم الرياض (ج3 ص511) ، وكلهم من حفاظ الحديث وأئمته
المعتمدين ، ويكفي أن الأئمة الأربعة
رضي الله عنهم وغيرهم من فحول العلماء وأركان الدين قالوا بمشروعية زيارة النبي r كما
نقله عنهم أصحابهم في كتب فقههم المعتمدة ،
وهذا كاف منهم في تصحيح أحاديث الزيارة وقبولها لأن الحديث الضعيف يتأيد
بالعمل والفتوى ، كما هو معروف من قواعد الأصوليين والمحدثين .
] ] ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق