قواعد في
الحكم على الناس
"تصنيف الناس والحكم عليهم" في ميزانها الشرعي ، وذلك من خلال
ثماني قواعد .
القاعدة الأولى : الإنسان يوزن بـحسناته وسيئاته :
قال تعالى
: ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُون ) [
المؤمنون/102ـ103 ]
فأخبرنا
الله ـ جل وعلا ـ أن من كانت حسناته هي الراجحة على سيئاته مع الندم على السيئات
كان على سبيل النجاة ،وطريق الفوز والفلاح ، ومن مالت سيئاته بحسناته كان الهلاك
والعذاب أولى به وهنا فوائد مهمة ينبغي علينا أن نحفظها جيداً ، فليس من شرط
أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين.
قال تعالى
– في وصف المتقين
– : ( وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ
يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون ) [ آل عمران/135]
فالتقي قد يقع في كبيرة ، ( وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُواْ فَاحِشَة ) كبيرة من الكبائر ( أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ) صغيرة من الصغائر ، لكنهم يتوبون سريعاً حال
يقظتهم من غفلة المعصية فلا يصرون على فعل المعاصي ، بل يستغفرون الله على فعلهم.
يقول
الإمام الذهبي في (مقدمة ميزان الاعتدال) : " ليس من شرط الثقة أن يكون
معصوماً من الخطايا والخطأ ، فالكامل الذي ليس فيه شيء عزيز نادر الوجود " .
يقول ابن الأثير في ( اللباب في تهذيب الأنساب )
:" إنَّما السيد من عدت سقطاته ، وأخذت غلطاته ، فهي الدنيا لا يكمل بها شيء
". وقد صح عن النبي e حين سبقت ناقة اليهودي ناقته فقال عليه الصلاة والسلام :
"حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" [1]
والأمثلة الحية كثيرة ، فاللهم ارحم
الموحدين من المؤمنين.
إخوتاه ..
هذا
الميزان ينبغي أن نطبقه مع إخواننا ومشايـخنا ، فلا نغلوا فيهم ، ولا نبخسهم حقهم
لمجرد هفوة أو زلة صدرت من أحدهم فالمرء يوزن بتقواه ومن كثرت حسناته تُغوضِيَ عن
سيئاته.
استمع
لكلام سلفنا وتذكر قول الإمام الشافعي : " إني لأظفر بالمسألة لم أكن قد
سمعتها من قبل ، فأود لو أن كل جسمي آذانٌ ليستمتعَ جسمي كما استمتعت أذني "
.
يقول الإمام الذهبي ـ والذهبي ذهبي الكلام ـ
" إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه ، وعُلم تحريه للحق ، واتسع علمه
، وظهر ذكاؤه ، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه للحق يغفر له زلَله ، لا نضلله ، ولا
نطرحه ، ولا ننسى محاسنه ، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ، ونرجو له التوبة من
ذلك " أهـ
لذلك
علينا ألا نشهر بأحدٍ ، ولا نبالغ في إفشاء ستره ، فلو فتح هذا الباب لما سلم لنا
أحدٌ من الأئمة والدعاة ، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون ، وهلك فيه
هالكون.
مثلاً :
ضعف بعضهم الإمام البخاري فيرد ابن حجر – رحمه الله
– فيقول :
ومن ضعفه فهو الضعيف.
إخوتاه ..
يقول
الإمام السبكي : " من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه
وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فإنَّا لا نلتفت إلى
الجرح فيه ، ونعمل فيه بالعدالة " ([2])
فهذا هو
الأصل ليس صنف من الناس إلا وفيه عيب ، فمن ذا خلص من الآفات ، ومن ذا صفا من
الكدورات ، فاللهم اجبر نقصنا ، واغفر زللنا إليك يا رب المشتكى .
القاعدة الثانية : التحري والتصور لجميع حال ذلك الإنسان:
يقول ابن
حجر رحمه الله تعالى : " إن الذي يتصدى لضبط الأفعال والأقوال والرجال يلزمه
التحري في النقل فلا يجزم إلا بما يتحققه لا يكتفي بالقول الشائع " أهـ
مثلاً :
تجد من الإخوة من يحضر درساً فينقل عن الشيخ كلاماً ربما لم يقله ، أو فهمه بطريق
الخطأ، في مثل هذه الأحوال ينبغي أن تتحرى فتسأل الشيخ أو الثقات الأثبات حتى لا
تنتشر المقولات الكاذبة عن الدعاة والعلماء.
قال رسول
الله e : " بئس مطية الرجل زعموا "(2) فهذه من علامات السند المنقطع ؛
لذلك لابدَّ من اتصال السند ، والتحقق والتحري بنفسك ، خاصةً إذا ترتب على ذلك
مفسدة كالطعن في أحد من أهل العلم والصلاح ، وإن كان في الواقعة أمرٌ فادح كموقف
أو قول أو فعل في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه ، بل يكتفي بالإشارة
لئلا يكون الأمر فلتة ، أو على غير الوجه الذي تتصوره. لذلك يحتاج المسلم إلى أن
يكون عارفاً بمقادير الناس ، وبأحوالهم ومنازلهم فلا يرفع الوضيع ، ولا يضع
الرفيع. فيا لله لو أعطى الناس بدعواهم لذهبت أموال وأنفس كثيرة لا يعلمها إلا
الله ، فإياك وسماع الدعاوى فإنَّها لا تثمر خيراً ، وأكثر الشرور تأتى من "
قيل وقال وسمعت وظننت وبلغني " فإياك .. إياك فمن صحت عدالته ، وعُلم بالعلم
عنايته ، وسلم من الكبائر ولزم المروءة ، وكان خيره غالباً ، وشره أقل عمله ، فهذا
لا يُقبل فيه قول قائل لا برهان له به. فدلائل الأمور أشد تثبيتاً من شهادات
الرجال ، إلا أن يكون في الخبر دليلٌ ، ومع الشهادة برهانٌ ؛ لأن الدليل لا يكذب
ولا ينافق ، ولا يزيد ، ولا يبدل ، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك وهذا هو الحق – إن شاء الله – الذي لا
حق غيره.
القاعدة الثالثة : التثبت من كلام الأقران وأرباب المذاهب
والجماعات في بعضهم البعض:
كلام الأقران لا يعبأ به خاصة إذا بدا لك
أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ، كذلك في الإخوة الأقران الذين بينهم وبين بعض تنافس
كأصحاب المحلات الواحدة ، أو المهنة المشتركة ، أو أصحاب دعوات مختلفة أو أصحاب
أفكار متباينة.
هؤلاء لا
يقبل كلام بعضهم في بعض – كما يقول
الإمام الذهبي – في قاعدته
الذهبية:
"
كلام الأقران يُطوى ولا يُروى ، فإن ذُكر تأمله المحدث فإن وجد له متابعاً ، وإلا
أعرض عنه ".
مثلاً :
يشيع أن تـجد العداوات بين الأصحاب إذا اختلفوا ، وناءت بهم السبل ، أو رجل كان
متزوجاً من امرأة فطلقها فيبدأ في التقول عليها ، أو العكس فكل ذلك يُطوى ولا
يُروى إلا إذا وُجد الدليل على صدق القائل. ينبغي أن نحمل الكلام محملاً حسناً ،
وحسن الظن واجب ، والتأويل الحسن لازم لسلامة الصدر.
القاعدة الرابعة : الخبرة بمدلولات الألفاظ ومقاصدها :
يقول
الأدباء : قد يوحش اللفظ ، وكله وُدّ. حين يقول رسول الله e لمعاذ – مثلاً – " ثكلتك أمك" (1) معناها فقدتك ، فاللفظ موحش ولكنه
يفيض محبة ، فالرسول أراد أن يفهمه وقد قال له e " إني لأحبك يا معاذ "(2)
ففهم
مدلولات الألفاظ ضرورة ، فمن الألفاظ ما يجرى على الألسنة بغير قصد لمدلوله الظاهر،
بل يتعارف الناس فيه معنى آخر ، ويتداول بينهم حتى يعود هو المتبادر.
كمثل
قولهم : ويله وويل أمه ، تربت يمينه ،... الخ هذه العبارات ، وهنا ينظر أصحاب
العقول البصيرة ، فيتأملوا قرائن الحال والمتكلم ، فإن كان ولياً فهو الولاء ، وإن
بدا القول خشناً ، وإن كان عدواً فهو البلاء حتى ولو بدا القول حسناً (1)
يقول
الإمام السبكي : " فكثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها ،
فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره ومن استن بسنته مع أن المؤلف لم يرد بذلك
الوجه الذي وصل إليه ذلك الرجل " .
إذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان
والاستقامة فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه بل ينبغي
التأويل الصالح ، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله ، ليس شيء أنفع لمن لا يدري مدلول
الألفاظ من أن يسيء الظن بنفسه ، وأن يرجع إلى غيره ، ليس في الدنيا إنسان إلا وهو
في حاجة إلى تثقيف وزيادة علم ، والمستعين بغيره أبداً على خير ، فلذلك ينبغي أن
نفهم مدلولات الألفاظ ، فإن فهم الألفاظ على وجه خطأ هو الذي يُفسد ويسيء.
القاعدة الخامسة : ألا يـجرح من لا يـحتاج إلى جرحه .
ينبغي على
المسلم حفظ لسانه ، وصيانة جارحته عن أعراض
المسلمين ، فليس هو عليهم بحفيظ ولا بمسيطر.
وشأن
المسلم أن ينشغل بدعوة الناس وردهم إلى الإسلام رداً جميلاً ، لا أن يوطن نفسه في
تصنيف الناس والحكم عليهم.
ومن الناس
من لا تحتاج إلى البحث عنه ، لا تفتش عن عدالته أو جرحه ، حتى وإن بدت أمارات حرص
، فلا ينبغي أن تنشغل بالمفضول – أو قل ما هو من جنس المتروك – عن الفاضل
من الأعمال والأقوال والطاعات .
القاعدة السادسة : عدم الاكتفاء بنقل الجرح فقط فيمن وجد فيه
الجرح والتعديل:
فإذا عُلم عن المرء خيره وشره ، فلا ينبغي
أن نكون أصحاب نفوس ذبابية لا تقف إلا على الشيء القذر ، بل ينبغي أن نتحلى بصفة
الإنصاف ، وإن كنا في زمان قل فيه من يعرف وأقل منه من يُنصف .
مثلاً : يسألونك عن بعض الجماعات فتقول :
أناسٌ على خير كثير ، نحسبهم مخلصين ، وفي الدعوة مجتهدين ، وأصحاب سمت وأدب وهدى
صالح لكن عندهم بعض البدع .
فلا تنقل
أنهم مبتدعة أو على بدعة في بعض ما يصنعون ، ولكن تنقل التعديل والتجريح معاً.
القاعدة
السابعة : الحذر من حسن الهيئة :
فلا يوزن الناس بهيئاتهم ، فهذا مما يشترك
فيه المجروحون وأهل العدالة، والصور خداعة ، بل يقاس الناس بأفعالهم ومواقفهم
وأقوالهم على موجب الحق والعدل ، فلا نغتر بالشكل أو المظهر.
فليس أحدٌ
حجةً على الإسلام بمظهره ، فلا يعظم المرء عندنا لمجرد حسن الهيئة وإظهاره للسنة
والتزين بها.
فليس كل
من حلق لحيته مجرماً فاسقاً ، ولا كل ملتحٍ صار بلحيته من أولياء الله الصالحين،
وإن كنا نقول : حلق اللحية حرام ، وإدمان حلقها كبيرة من الموبقات ، لكن فيمن
يحلقون لحاهم أتقياء ، وأنت لا تدرى فليس كل عُذر يذكر.
فليس
الحكم على الأشخاص بالمظهر ، قال تعالى عن المنافقين : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) [ المنافقين / 4] فالمظهر ليس شرطاً للعدالة.
القاعدة الثامنة : شرط جواز الجرح عدم قصد التحقير :
قال الإمام السبكي ـ رحمه الله ـ : "
كنت جالساً بدهليز دارنا فأقبل كلب فقلت : اخسأ كلب ابن كلب " قال : فزجرني والدي من داخل البيت ، قلت :
سبحان الله أليس هو كلباً ابن كلب ، فقال: شرط الجواز عدم قصد التحقير ، قلت :
وهذه فائدة " أهـ
مثلاً : أحد الناس مشهور باسم الأعرج – مثلاً – ولا يُعرف
إلا بهذه الكنية ، فلا يجوز أن تناديه بهذا إلا بغير قصد التحقير ، وإلا صارت غيبة
، أما إذا قيلت على وجه التعريف فليست بغيبة، وكذلك الشأن في كل الأمور ، إنك
عندما تتكلم على جماعة من الجماعات ، أو دعوة من الدعوات ، أو شخص من الأشخاص فلا
ينبغي أن تتكلم بنية التحقير والتهوين من شأنه لإيذائه ، وإنما تقصد بيان الحق
ونصرة الدين ، فلا تنتصر لنفسك ، أو تكون نيتك طلب العلو بإنزال قدر خصمك ، فإن
فعلت فإنك إذاً من الآثمين ، فاللهم طهر ألسنتنا عن قول الزور ، وطهر قلوبنا عن
الضغائن والغل والجور ، واجعلنا هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين.
[2] قاعدة في الجرح والتعديل تحقيق أبو غدة .
2 أخرجه أبو داود (4972) ك الأدب ، باب
في قول الرجل زعموا ، والإمام أحمد (4/119) ، (5/401) ، والبخاري في الأدب المفرد
(762) باب ما يقول الرجل إذا = زكى ، والطحاوي في مشكل الآثار (1/68) ، وصححه
الشيخ الألباني ـ رحمه الله - في الصحيحة
(866) وصحيح الأدب المفرد (586).
(1) جزء من حديث أخرجه الترمذي (2616) ك
الإيمان ، باب ما جاء في حرمة الصلاة وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة (3973) ك الفتن
، باب كف اللسان في الفتنة ، وصححه الشيخ الألباني - -رحمه الله - في
صحيح الترمذي (2110) ، وصحيح ابن ماجة (3209).
(2) جزء من حديث أخرجه أبو داود (1522) ك
الصلاة ، باب في الاستغفار ، والنسائي (1303) كتاب السهو ، باب نوع آخر من الدعاء
، والإمام أحمد في مسنده (5/247) ، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (7969) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق