ومن أخطر الأشياء التي تنذر بخراب الدنيا، وبقيام الساعة أن يستفتى من ليس أهلا. وهذا ما جاء في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالا، فسُئِلوا فأَفتُوا بغير علم، فضَلوا وأَضَلُّوا" ، هذه هي المصيبة أن يتخذ الناس رؤوسا جُهَّالا، يُسألون فيُفتون بغير علم، فيَضِلُّون ويُضلون، هذه هي المشكلة (يَضِلُّون ويُضلون) يُضلُّون غيرهم معهم، والإضلال في عصرنا قد اتسع مداه؛ لأن في العصور الأولى، كان الإنسان يُفتي من استفتاه، في مسجد أو نحو ذلك، فكانت الفتوى مقصورة على المستفتي، ولكن في عصرنا تطير الفتوى في الآفاق، في الصحف والمجلات، والإذاعة والتلفزيون، تنتشر انتشار النار في الهشيم، فيَضل بها خلق كثير، هذا هو الخطر في تلك الفتوى التي يَضل بها قائلها، ويُضل بها سامعها أو قارئها.
رُئي ربيعة بن أبي عبد الرحمن – شيخ الإمام مالك- يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: استُفتي اليوم من ليس أهلا للفتوى. أخبرهم أن مصيبة حلَّت وثلمة في الإسلام فُتحت، حيث استُفتي من ليس أهلا للفتوى. ثم قال: والله لبعض من يُفتي الناس اليوم أحق بالسجن من السُّراق . هكذا قال الإمام ربيعة شيخ الإمام مالك. فكيف لو عايَشَنا في عصرنا؟! ورأى هذه الفوضى التي ضربت أصلابها؟!
إن بعض من يفتي اليوم أحق بالسجن من اللصوص، والسُّراق، لأن خطر السارق على المال، ولكن خطر هؤلاء على الدين، والدين من وراءه خراب الدنيا وخراب كل شيء إذا خرب. ولذلك قال ابن الجوزي وابن القيِّم وغيرهم: إن على ولي الأمر أن يمنع هؤلاء الناس الجهلة والمتلاعبين من الفتوى .
شروط من يتصدى للفتوى:
إن المفتي يقوم مقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في البيان عن دين الله وعن شرع الله، ولذلك الإمام ابن القيم يسمي أهل الفتوى (الموقعين عن رب العالمين)، وله كتاب اسمه (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، ويقصد بالموقعين: أهل الفتوى. كأنهم يوقعون عن الله عز وجل، كأنه ينوب عن الله فيقول: أحلَّ الله كذا وكذا، وفرض كذا وكذا، واستحب كذا وكذا... فهو منصب عظيم، ولا بد أن يتأهل له من يُفتي بشروط الاجتهاد.
1-معرفة النصوص التي يستدل بها:
فقد قال العلماء: المفتي هو المجتهد، والأصل في المفتي أن يكون مجتهدا، وأن يستجمع شروط الاجتهاد، أو على الأقل الحد الأدنى من هذه الشروط. فقد خفف العلماء في هذه الشروط، فقالوا مثلا: يحفظ القرآن الكريم كاملا، ثم قالوا: فإن لم يكن حافظا؛ فليكن قادرا على استحضار الآيات التي يحتاج إليها.
وقالوا: سئل الإمام أحمد عن الرجل يحفظ مائة ألف حديث، هل يفتي؟ قال: لا. قالوا: فمائتي ألف حديث؟ قال: لا. قالوا: فثلاثمائة؟ قال: لا. قالوا: فأربعمائة؟ قال:أرجو.
وتعلمون أنهم كانوا يحفظون الأحاديث بأسانيدها، وطرقها، والآثار التي وردت عن الصحابة والتابعين، ويرون كل هذا مطلوبا لمن يريد أن يفتي.
فمعرفة القرآن والسنن والآثار مطلوبة، وكذلك معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف.
2- معرفة اللغة العربية:
فلا بد لمن يتصدى للفتوى، أن يعرف اللغة العربية، ويتذوقها، ويُصبح كأنه واحد من الأولين.
وكما تعلمون أن الصحابة ومن تبعهم، كانوا عربا خلَّصا يعرفون العربية بالسليقة. كما قال الشاعر:
ولستُ بنحويٍٍّ يلوك لسانه ولكن سليقيٌّ أقولُ فأُعرب
ولكن بعد ذلك وبعد أن اختلط العرب بالعجم، وغلبت اللكنة، كان لا بد من الدراسة، فيدرس الإنسان اللغة حتى يكون على مرتبة يُقارب العربية الخالصة قديما. يعرف دلالات الألفاظ، (حقيقتها، ومجازها، ومنطوقها، ومفهومها، وعباراتها، وإشاراتها...) فكل هذه لا بد أن يحيط بها كل من يريد أن يفتي.
3- معرفة الواقع:
وكذلك من الشروط الواجب توفرها فيمن يتصدى للفتوى: معرفته للواقع الذي يعيش فيه الناس، كما قال ابن القيم: إن الفقية من يزاوج بين الواجب والواقع . لا يعيش فيما يجب أن يكون فقط غافلا عما هو كائن وهو واقع بالفعل، لأن هذا يمكن أن تقع عليه الحِيَل، وقد يُكيِّف الشيء تكييفا غير صحيح، لأنه لم يمارس الواقع ولم يعرفه، ولهذا كان لا بد من هذه الأشياء كلها.
4- العدالة:
وبجوار هذه الشروط هناك شيء آخر أيضا، وهو تقوى الله عز وجل أو التديُّن، ويعبر عنه العلماء تعبير اصطلاحي فني بقولهم (العدالة). أن يكون عدلا مرضيا، والعدالة قيل في معناها: ألا يرتكب كبيرة، ولا يصر على صغيرة، ولا يقع فيما يخل بالمروءة. أي: لا يرتكب الأدناس، ولا ما يشينه عند الناس وإن لم يكن حراما. فلو كان الأكل في الطريق يُخل بالمروءة، لا يأكل في الطريق. وهذه هي العدالة، يكون الإنسان متحرياً للحلال، بعيدا عن الحرام. وهذا مطلوب لأمرين:
أ- حتى يوثق به: فإذا كان الإنسان لا تُقبل شهادته على دراهم معدودة، إلا إذا كان عدلا مرضيا. كما قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وإلا ردت شهادته، وهذا في عشرة دراهم، فكيف بمن يشهد عن الله؟! فلا بد أن يكون عدلا.
ب- حتى يوفق لإصابة الحق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29]. وكما ورد عن الإمام الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نـــور ونور الله لا يُهدى لعاصي
ولما قيل لأبي يوسف إنَّ فلانا قال كذا في الحكم الفلاني! قال: هو من أهل الليل، ومثله أهل أن يوفقه الله لإصابة الحق.
ولذلك كان التدين والعدالة، والتقوى ومخافة الله، مطلوبة في هذه الأمور كلها.
مزالق المتصدين للفتوى:
نستطيع أن نقول: أن المزالق التي يقع فيها المتصدون للفتوى تأتي من نقص العلم، أو نقص الدين، أو ضعف النفس، هذه خلاصة المزالق التي يتورط فيها الذين يتعرضون للفتوى.
أولا: نقص العلم:
1- الجهل بالنصوص:
الجهل بالنصوص، أن يتعرض للفتوى قليل العلم، فتجده يُفتي في أشياء مصادمة للقرآن الكريم، أو مصادمة للسنة، أو مصادمة للإجماع، إما جهلا وإما غفلة.
وقد ذكرتُ في كتابي (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) بعض الذين أفتوا بجواز أن يتبنى الإنسان لقيطا، وينسبه إلى نفسه، ويأخذ اسمه وكل شيء يحق لولده من صلبه، وقالوا: هذا جائز ومشروع. وصدر بذلك فتوى وحكم! ومن أين لكم هذا؟!
قالوا: أن الفقهاء أجازوا الاستلحاق، والإقرار بالنسب. قلت: لكن هذا في الشخص الذي فيه شبهة نسب بهذا الرجل، شبهة من حرام أو من أي جهة كانت، أما أن يأخذ من ليس له علاقة به، ويقول: هذا ابني!! فهو التبني الذي حرَّمه الإسلام بصراحة في القرآن. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}[الأحزاب:4].
وهناك من يُفتي بأشياء ضد السنة، والجهل بالسنة منتشر في عصرنا للأسف، لأن السنة بحر واسع، وكثير ممن يظنون أن لهم صلة بالفقه يجهلون السنن، ولا يعرفون مداخلها ومخارجها، ومع هذا يجترئون كل الاجتراء على الفتوى.
ومن هذا ما رأيناه في المسألة القريبة (مسألة تحديد الأرباح) فالذين يعيبون على من قال: أن الشخص يأخذ (5%) أو (10%)ونحو ذلك، من رأس المال، فهذا لا شيء فيه. ويتعجبون:كيف قالوا هذا؟ وأنه كلام فقهاء، واجتهادهم، وليس عليه دليل من كتاب أو سنة.
قلت: سبحان الله: هذا إجماع من فقهاء الأمة، أما كان لكم أن تنظروا كيف أجمع الفقهاء، ولا بد أن يكون لاجتماعهم هذا سند، فلا يُعقل أن يكون اجتماع فقهاء الأمة من كل المشارب والمذاهب والاتجاهات، وفي جميع العصور، ويكون اجتماعهم مبنيا من فراغ.
والواقع أني ذكرتُ هذا منذ ثلاثين سنة في كتابي: (الحلال والحرام)، ورددتُّ على بعض العلماء الذين تورطوا في مثل هذه الدعوة، وهذا القول، وقالوا: إن العلماء الذين قالوا لا يجوز تحديد الربح في المضاربة في أول الأمر، أو تحديد دراهم معينة فلك ألف أو لك كذا، أو بنسبة من رأس المال لا من الربح، ظنوا أن هذا ليس له أصل، والحق أن له أصل في السنة، مأخوذ من المزارعة.
لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى في المزارعة، عن أن يكون لأحد الطرفين قطعة معينة من الأرض، أو ثمرة ما على الجداول، أو ما على النهر أو كذا، أو قناطير معينة، أو نحو ذلك. لعله لا يَسْلم إلا هذا، أو لا يَهْلك إلا هذا ، فيكون لأحد الطرفين غُنم مضمون، والآخر ليس له ذلك، فلا يوجد التساوي في المغنم والمغرم.
والإسلام يريد العدالة المحكمة، أي أنه ما دمتما شريكين فلا بد أن تشتركا في الغُنم والغُرم، في الربح والخسارة، إن ربحتما ربحتما معا، وإن خسرتما خسرتما معا، هذا يخسر أرضه، وهذا يخسر جهده، في المضاربة، هذا يخسر من ماله، وهذا يخسر من تعبه، إن ربحتما قليلا؛ اشتركتما في القليل، وإن ربحتما كثيرا؛ اشتركتما في الكثير. فأيُّ عدل أعظم من هذا العدل؟!
جاءت السنة بهذا، والفقهاء قالوا: أن المزارعة في معنى المضاربة، والمضاربة في معنى المزارعة، فالمزارعة مضاربة في الأرض، والمضاربة مزارعة في التجارة.
فالجهل بالإجماع، والجهل بالسنة، هذا السبب جعل الناس وللأسف يقتحمون هذا الحِمى، ويقولون: ليس هناك دليل. وللأسف بعض كبار من ألَّفوا في الفقه، قالوا مثل هذا القول، والمشكلة في هذا مشكلة قديمة، وهذا لأن كثيرا من الفقهاء لم يكونوا يعرفون الحديث. وكثير من المحدثين لم يكونوا يعرفون الفقه، والذين نريده وندعو إليه: أن تكون هناك قنطرة بين الفقه والحديث، نريد الفقيه المحدث، والمحدث الفقيه.
ولذلك الذين خدموا الفقه وخدموا الشريعة، هم الذين جمعوا بين الأمرين مثل: ابن تيمية وابن القيم، والصنعاني. لكن من كانت له معرفة بالفقه ولم تكن له معرفة بالحديث، تجدهم يستدلون بالحديث الضعيف، وبالحديث الذي لا أصل له، وبالحديث الموضوع، حتى اشتهر عند بعض العلماء إذا ذكر حديثا مثلا فيقولون: هذا من أحاديث الفقهاء، أي: ليست له قيمة.
وهذا ما جعل رجلا مثل الإمام أبي الفرج بن الجوزي يؤلف كتابا يسميه (التحقيق في تخريج التعاليق) أي: الأحاديث المعلقة في كتب الفقه التي تذكر بغير سند، ونقَّحه أيضا العلامة شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي، تلميذ ابن تيمية في كتابه (تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق)، وجعل كثيرا من العلماء يخرجون كتب الفقه المشهورة، مثل الحافظ جمال الدين الزيلعي الحنفي الذي خرج أحاديث الهداية في كتاب مشهور سماه: (نصب الراية لأحاديث الهداية)، ومثل الحافظ بن حجر الذي خرَّج من كتب الشافعية كتاب: (شرح الرافعي الكبير) وهو شرح الوجيز للغزالي سماه: (فتح العزيز في شرح الوجيز) واشتهر في الفقه باسم شرح الرافعي الكبير، ولذلك سمى ابن حجر كتابه باسم: (تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير). وكتب كثيرة أخرى.
فمشكلة هؤلاء أنهم يجهلون السنن، ولا عجب أن نجد نتيجة هذا الجهل، فتاوى لا تستند إلى السنن ولا إلى الأحاديث، وجدنا من يكتب في إحدى المجلات أن لبس المرأة الملابس العصرية القصيرة، التي تكشف الزراعين والساقين والشعر، والتي تشف وتصف هذه من الصغائر، ويكفرها الصلاة والصيام، بل إن مجرد اجتناب الكبائر يكفرها، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:31]).
ولو قرأ هذا المفتي الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" . فالكاسيات العاريات اللاتي يلبسن الثياب الشفافة الوصَّافة، جعلهن النبي صلى الله عليه وسلم من أهل النار، ولو كان هذا الأمر من الصغائر لما قال صلى الله عليه وسلم " لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" فلا شك أن هذه كبيرة، فمصيبة هؤلاء أنهم لم يقرأوا. فالجهل بالنصوص كثيرا ما أدى إلى هذا الأمر.
2- الجهل بالقياس:
من جهل العلم كذلك الجهل بالقياس، فأحيانا يقيسون على غير أصل، والقياس هو: أن تلحق فرعا بأصل؛ لعلة مشتركة بين الفرع والأصل، مع عدم وجود فارق بين المقيس والمقيس عليه. ولكن أحيانا يقيس بعض من يفتي على غير أصل. والواجب أن يقيس المفتي على نص ثابت، على أمر منصوص عليه، على نصٍّ صحيح الثبوت صريح الدلالة، على أمر مجمع عليه إجماعا مستيقنا.
ولكن بعض الناس كما ذكر في هذه القضية القريبة، قضية الربا، والفوائد، والاستثمار، وهذه المصائب كلها. يقول البعض فيها: ليس هناك ربا بين الشعب والحكومة. لماذا؟!! قالوا: قياسا على أنه لا ربا بين الوالد وولده. وسبحان الله! من الذي قال: لا ربا بين الوالد وولده؟! هل هناك نص من قرآن أو سنة بهذا؟ هذا قول قيل في بعض المذاهب، وهل مجرد قوله يصبح أصلا يقاس عليه؟! ولو كان الأمر كذلك لكان كل شيء مباحا.
ما أكثر الأقوال التي تأتي وتكون من زلات العلماء! كيف تصبح أصلا يقاس عليه! وإن كان هذا قياسا فهو غير صحيح لأنه لا بد ألا يكون هناك فارق، فلا يجوز أن تُقاس علاقة الحكومة بالشعب، على علاقة الوالد بولده، لأن العلاقة بين الوالد والولد لها خصوصية معينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت ومالك لأبيك" ولم يأت نص: أنت ومالك للحكومة. وإلا أجزنا للحكومة أن تأكل أموال الناس، وهي تأكلها من غير فتوى، فهل تريدون أن تأكلها بفتوى، فهذه أقيسة عجيبة.
وهذا يذكرني ببعض الشباب في الجزائر، حيث قالوا لي: هناك بعض الشباب يقولون: أن الرجل إذا شتم امرأته ولعنها تطلق منه. قلت: إذا فنصف نساء المسلمين مطلقات، فما أكثر الشتامين واللعانين من الناس، ومن أين لهم هذا الحكم؟! قالوا: قياسا على حديث: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة" قال عمران: فكأني أنظر إليها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. يعنى: الناقة.
وهذه قضية خاصة، والعلماء يقولون إن قضايا الأعيان لا عموم لها، هذه قضية حال. أراد أن يؤدبهم حتى يأخذوا منها عبرة، ولذا لم تجئ بلفظ عام، وهم لا يفرقون بين العام والخاص، وهذه مشكلة كبيرة أن لا يعلم المفتي ألفاظ العموم ما هي!.
يقولون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأين عموم اللفظ في هذا الحديث؟! وهل تعرفون اللفظ العام؟! وألفاظ العموم؟!
إنها أيها الإخوة قضية خاصة، ولذلك لم يرد بعد ذلك واقعة مثلها. وعجبا كيف قاس هذا المفتي المرأة على الدابة؟ بل ومعنى فتواه هذه، أن تطلق ولا يتزوجها أحد، لأنه لم يسمح للمرأة أن تركب الدابة، ولا يركبها أحد، ولذلك كانت تمشي في الناس، ما يعرض لها أحد، فمعنى هذا أن تظل هذه المرأة سائبة، ولا تتزوج طوال العمر.
الجرأة على الفتوى بهذه الطريقة، مجال خلل وتخبط، ولعلنا نعذر بعض الشباب، لكن حين يأتي أناس يتزيُّون بزي أهل العلم، ويحملون رسائل، وشهادات، ولكنهم يُفتون بغير علم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون، هذه هي الخطورة.
3- سوء فهم النصوص (التحريف):
وكما أن الجهل بالنصوص، والغفلة عن النصوص، خطر عظيم ومزلق خطير أمام من يتصدون للفتوى، إلا أن أخطر منه سوء فهم النصوص، وسوء تأويلها، وهو ما يسميه القرآن: يحرفون الكلم عن مواضعه. أن يكون النص موجودا ومعلوما للمفتي، ولكنه يستدل به فيضعه في غير موضعه. فهو أحد نوعي التحريف الذي ذمَّ القرآن به أهل الكتاب، أنهم حرَّفوا الكلم عن مواضعه، وكان تحريف أهل الكتاب نوعين:
• تحريف لفظي: أن يضعوا لفظا مكان آخر، يبدلون جملة، أو فقرة بالكلية بجملة أخرى.
• تحريف معنوي: وهو أن يأوِّلوه على غير ما أراد مُنزِّله منه، وهذا هو الخطر. وهذا الذي استخدمه الباطنية، ويستخدمه البابية والبهائية، والقديانية، يستدلون بالقرآن.
كما قال العلامة ابن الوزير: ما من صاحب بدعة، صغرت أو كبرت، إلا حاول أن يستدل على مذهبه بالقرآن. حتى أهل الاتحاد، أصحاب وحدة الوجود، يقولون ويستدلون بالقرآن فيقولون: ليس هناك إلا الله، ولا يُعبد إلا الله، وحتى الذي يعبد النار والحجر وغيرهما، هم في أصلهم يعبدون الله، بدليل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23]، وفسَّروا القضاء هنا بالقضاء الكوني، لا بالقضاء الأمري التكليفي، التشريعي الحكمي. ولماذا إذا قامت القيامة، وحَقَّت الحاقة، وقام سوق الجنة والنار؟!
فالتحريف أمر خطير، وهذا ما رأيناه من الذين يقولون: نحن لا ننكر أن الربا حرام، ولكن الربا المحرم هو ربا أهل الجاهلية، وربا الجاهلية غير ربا عصرنا، فربا الجاهلية: أن يقول المستقرض حين يحين الأجل: إما أن تقضي وإما أن تربي، هذا هو ربا الجاهلية. فالربا في الأجل الثاني، أما الأجل الأول فلا ربا فيه.
ولو كان هذا صحيحا، فربا عصرنا إذا أشد من ربا الجاهلية.
ويقول بعضهم: كان ربا الجاهلية ربا استهلاك، وآخرون يقولون: ربا انتاج. وكل هذا غير صحيح، فمن يقول أن الربا في الجاهلية كان من أجل الطعام والشراب، لقد كانوا يعيشون على الأسودين: التمر والماء. وما كان الطعام عندهم مشكلة، وما كانت هناك عمليات جراحية، من أجلها يستقرض الوالد لابنه، أو الزوج لزوجته، أو عمليات قيصرية.. وغير ذلك، كل ذلك لم يكن، بل إن معظم الربا كان ربا التجارة، ورحلتا الشتاء والصيف معروفتان. وربا العباس بن عبد المطلب، وربا بني المغيرة، في ثقيف.
فهل من المعقول أن العباس بن عبد المطلب، الذي أهدر النبي صلى الله عليه وسلم رباه في حجة الوداع، فقال: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.." العباس الذي كان يتولى سقاية الحجيج في الجاهلية، ويوظف من حر ماله السقاة، يملؤون القرب ويسقون الناس مجانا، هل مثل هذا يأتيه من يريد أن يأكل ويشرب فيقول: لا أعطيك إلا بربا؟ هذا كلام غير معقول. وهو تحريف للكلم عن مواضعه.
وهناك من قال: أن الله نهى عن أكل الربا فقال: { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً }[آل عمران:130] أما (9%) أو (10%) فهذا ليس ربا.
وهذا قيْد يسميه العلماء لبيان الواقع، مثل قوله تعالى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[النور:33]، يتكلم القرآن على ما يحدث في ذلك الوقت، وهب أن هؤلاء الفتيات لا يردن تحصنا، ولم يُكرهن، هل يجوز أن يُتركن للبغاء ولو اختيارا؟! لا يجوز، فهو يتحدث عن الواقع، ويوبخ هؤلاء السادة، الذين عندهم فتيات دخلن في الإسلام، فالإسلام حررهن ورفع أنفسهن، كرامة الإسلام جعلت هذه الأَمَة تأنف أن تتكسب بفرجها، أن تبيع نفسها للشيطان من أجل المال، وسيدها يريدها أن تظل على عمل الجاهلية يقول لها: اذهبي أريدك أن تأتيني بمائة درهم يوميا، والفتاة ترفض وتأنف، والسيد يريد إجبارها، فقال لهم الله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فهب أنهن لم يكرهن، هل يكون الكسب عن طريق الفاحشة مباحا؟!
ولو أخذنا بقول هؤلاء أن الربا أضعافا مضاعفة، لكان –كما ذكر شيخنا الشيخ محمد عبدالله جلال في رسالته التي ألقاها في مؤتمر باريس- الربا حينها لا يكون إلا في 600% لأن الضعف: 100%، والأضعاف: أقل الجمع وهو ثلاثة، يعني 300%، ومضاعفة: إذا ضاعفنا الأضعاف لمرة واحدة تكون 600% وهو أقلها. وهذا لا يقال أبدا.
والقرآن إنما يشير بذلك إلى الربا المركب، وذلك لأن الدرهم بعد سنين، حينما يتطاول أمد الدَّيْن، يكون دفع الإنسان في فوائد الدين، ولم يدفع الدين الأصلي بعد.
وهذا الذي استطاع به اليهود والخواجات في مصر في أوائل هذا القرن، أن يُخربوا بيوتا كثيرة، يقولون للمدين: لماذا تستعجل في سداد الدين. والربح المركب والربا المركب يعمل، والعداد شغال، وإذا بالدين يتضاعف أضعافا مضاعفة.
وهكذا أيها الإخوة، فسوء التأويل، وتحريف الكلم عن مواضعه، هو من أخطر مزالق الذين يتعرضون للفتوى.
4- الجهل بالواقع:
كذلك الجهل بالواقع، فالإنسان إذا أراد أن يُفتي في قضية لا بد أن يعرفها جيدا، ويعرف ما وراءها، فلا يجوز أن يستفتى في أمر يتعلق بالطب مثلا دون أن يسأل الطبيب، ويشرح له الطبيب هذا الأمر كذا وكذا، أو في أمر اقتصادي دون أن يعرف ما وراء هذا الأمر، ولذلك الذي يفتي في التأمين ولم يدرس ما هو التأمين،أو يفتي في أعمال البنوك، ولم يعرف ما هي أعمال البنوك، كيف يُفتي في أمر يجهله، وكذلك إذا أردت أن تسأل من يعينك في فتواك، فعليك بمن يشرح لك الأمر بأمانة، لا من يُضلِّلُك.
ولذلك يكون من العبث، أن تريد أن تفتي في أمر البنوك، فتستفتي أهل البنوك الربوية، ماذا تفعلون؟ وأحيانا يكون السؤال نفسه سؤالا موجَّها وكأنه يعطيه الإجابة، مثل أن يسأل المفتي أهل البنوك فيقول: هل ما تقومون به في البنك هو مضاربة شرعية؟ هل هو من نوع المضاربة؟ ولا شك أن صاحب البنك الربوي يقول: نعم، نحن نضارب، نأخذ المال ونستثمره.
إن الأمور لا تؤخذ بهذه الطريقة، فالسؤال صنعة. والجهل بالواقع أيها الإخوة مسألة خطيرة تضلل الإنسان وتوقعه في المتاعب، ولذلك لما ذكر الإمام أحمد، الأشياء التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، فقال: الحلم والوقار، والسَّكينة، والكفاية من العيش، والدين، ثم قال: ومعرفة الناس؛ حتى لا يدخل في ألاعيبهم.
الجهل بالنص (قرآن، وسنة، وإجماع) والجهل بالواقع، كثيرا ما يوقع كثير من المتصدين للفتوى في عصرنا في مزالق خطيرة، يترتب عليها أن قد يحل الحرام ويحرم الحلال، فأحيانا تكون عاقبة الفتاوى الجاهلة، تحليل وتسيب، وأحيانا يكون العكس أيضا، فقد يشدد على الناس فيما يسر الله فيه عز وجل، ويضيق عليهم ما وسع الله، وحدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فعن جابر قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر فشده في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر بذلك فقال " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال"
فأخطر شيء هو الجهل بأصول الفتوى، ومصادرها من كتاب، وسنة، وإجماع، بل والقياس أيضا.
قلنا: أن مزالق الذين يتعرضون للفتوى: نقص العلم: بالقرآن والسنة، ونقص العلم بالإجماع، ومواضع الإجماع، ومواطن الخلاف، ومعرفة القياس وأصوله وعلله وشروطه، وعدم معرفة الواقع، وكذلك سوء الفهم وسوء التأويل،والتحريف للكلم عن مواضعه.
ثانيا: نقص الدين:
وهناك أمر آخر: وهو نقص الدين، نقص الورع، فساد الضمائر، وهذه آفة تجعل الإنسان يتبع الهوى، يتبع هواه أو هوى غيره، وهو من أخطر الأشياء، وهو الذي يحجب الإنسان عن الحقيقة، كما قال الله لداوود: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26]، وكما قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23]، لم ينفعه علمه، لأن هواه ختم على منافذ المعرفة، وأغلق عليها فلم يعد يبصر، هوى النفس أو أهواء الغير، وقد قال الله لنبيه: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:18]، هذا في القرآن المكي.
وفي القرآن المدني في المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[المائدة: 49] التحذير في الفتنة عن بعض ما أنزل الله، لأن ما أنزل الله كل لا يتجزأ، فلا يجوز أخذ بعضه والإعراض عن البعض الأخر، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة85]، {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة:208].
هذا هو الإسلام، يحذر من اتباع الأهواء، هوى النفس، وأهواء الآخرين، خطر كبير في اتباع هوى الآخرين، حينما يصبح العلم في خدمة السياسة، أو الدين في خدمة الدنيا، هذه هي الطامة الكبرى، حين يبيع الإنسان دينه بدنياه، أو يبيع دينه بدنيا غيره،كما قال الشاعر:
عجبتُ لمبتاع الضلالة بالهـدى ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه بدنيا سواه فهـو من ذين أعجب
فمن باع دينه بدنياه، خسر كثيرا، ولكن أخسر منه من باع دينه بدنيا غيره، فاتباع الهوى هنا يُضل عن الحقيقة.
وأحيانا يكون اتباع الهوى باتباع أهواء السلاطين، أهل الجور، أهل الظلم، حينما يصبح أهل الفتوى معامل لتفريغ فتاوى لإرضاء هؤلاء الناس، كما قيل لأحدهم: نريد أن نعقد ندوة حول تحديد النسل، فأجاب: وماذا تريدون؟ نجيز أم نمنع؟ إذا كنتم تريدون منعا فعندنا أدلة للمنع، وإن أردتم جوازا فعندنا أدلة للجواز. فهي فتوى تحت الطلب. وهذا الذي يُضيِّع مكانة العلماء عند الناس.
في سنة من السنين، صدرت فتوى من أهل الفتوى، بأن الصلح مع إسرائيل منكر وحرام، وخيانة لله ولرسوله وللمسلمين، وهؤلاء معتدون مغتصبون، وما دام هناك شبر من فلسطين مع إسرائيل، فلا يجوز الصلح معهم. كلام قوي جدا.
وبعد عدة سنوات، حينما تغيرت رياح السياسة، وأراد الحاكم فتوى أخرى، إذ بنا نجد فتوى تجيز الصلح مع إسرائيل، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[الأنفال:61]
حينما يصبح الدين خادما للسياسة، يُفقد هذا هيبة العلماء عند الناس.
فهناك خلاف مثلا في مسألة ثبوت الهلال في رمضان، وهناك كلام حول اختلاف مطالع الهلال، وهل إذا رآه أهل بلد لزم جميع المسلمين الصوم، أم لكل بلد رؤيته.
الاختلاف موجود، ولا مانع من أخذ بعض الأقوال وترجيحها، لكن الذي ننكره أن يوضع القولان في الدرج، فإذا كان هناك صلح سياسي، بين الدول بعضها وبعض، إذا رؤي في بلد، يقولون: يلزم جميع المسلمين الصوم؛ لأننا بلد واحد، وأمة واحدة، وقد رؤي الهلال في البلد الفلاني، فنحن نصوم بصومهم، ونفطر بفطرهم. وفي وقت آخر، إذا صارت العلاقات غير حسنة، يظهر الرأي الآخر: نحن لم نره فلا يلزمنا رؤية غيرنا.
وهكذا حينما يوظف العلم بهذه الطريقة، يفقد قيمته، وقد يستعمل هذا لخدمة السلطة، وقد يستعمل لخدمة العامة أيضا، بعض الناس يرضون العوام، إما تشديدا أو تخفيفا.هذا كله من اتباع الهوى.
فاتباع الهوى خطر من الأخطار، ومزلق من المزالق، وهو لا يكون إلا من قلة الدين، وقلة الورع، أن لا يوجد هذا الوازع الذاتي، الذي يجعل الإنسان يخاف الله عز وجل، لأن الله سائله عن فتواه هذه ماذا أردت بها. سيُسأل كل عبد يوم القيامة، قبل أن تزول قدماه من الموقف، عن علمه ماذا عمل فيه.
ثالثا: ضعف النفس (التبرير):
وأيضا من المزالق: ضعف النفس، ويكون ناشئا عن ضعف الدين، الهزيمة النفسية، أمام الواقع وأمام الضغوط، فهو يريد أن يبرر الواقع، أن يعطي للواقع سندا من الشرع، تحت ضغط هذا الواقع، وخصوصا إذا كان الواقع أتى من حضارة غالبة غازية كالحضارة الغربية، فنحن أتباع لهذه الحضارة.
وهنا يأتي أهل الفتوى، ليُبرروا هذا الأمر، ويدخل في هذا، الفتاوى التي ظهرت حول فوائد البنوك، وشهادات الاستثمار، وصناديق التوفير، فهي تبرير للواقع الذي لم نصنعه بأيدينا، واقع صُنع لنا في عهد الاستعمار، ورثناه من أهل الاستعمار، وكان يجب أن نتحرر منه حتى نكون مستقلين حقا، الاستقلال ليس الاستقلال العسكري فقط، وليس الاستقلال السياسي، الاستقلال الحقيقي أن يكون استقلالا تشريعيا، ثقافيا، فكريا، اجتماعيا، خلقيا، نفسيا، تتحرر الأمة في كل مواقعها وجوانبها، وهذا هو الاستقلال.
وللأسف فرض علينا هذا الواقع، بل وجاء من يبرره، ويُصدر فتاوى تجعل لهذا الواقع سندا شرعيا، وكما عبَّرت بقولي قبل ذلك: أنهم يريدون أن يُلبسوا الخواجة الأوربي، عمامة شيخ مسلم، وهذا لن يجعل الخواجة شيخا.
فمن مظاهر التبرير: تسمية الأشياء بغير أسمائها، كما جاء في الحديث: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويضرب على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" هل هذا المسخ مسخ مادي حسي، أم مسخ معنوي؟ لعل معناه أنهم ناس يقلدون تقليد القرود، فأصبحوا قردة أو خنازير، فقدوا إنسانيتهم وساروا وراء غيرهم، أو لعله مسخ مادي.
فهل إن سمينا الخمر (مشروبات روحية) هل بهذا الاسم تخرج عن كونها خمرا؟! والرقص يسمونه فن من الفنون الرفيعة.
جاء شخص من سنوات وألقى محاضرة في أحد الأندية، قال فيها: إن سبب تخلف هذه الأمة أنها أمة لا ترقص، أمة ضيعت الفن.
إن تسمية الشيء بغير اسمه، لا يخرجه عن حقيقته. والعبرة بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين. بعض الناس يستحلون الربا باسم البيع، والزنى باسم النكاح، والسحت باسم الهدية، ويسمون الرشوة بالهدية، ويقولون في هذه الأيام: إنها عمولة. وهذه الأسماء لا تغيِّر الحقائق، ولا تتغيَّر من أجلها الأحكام.
هناك نكتة نقولها نحن المصريين: أن رجلا أحمق كلما فتح عُلبة السكر، وجدها مملوءة بالنمل، فكتب على علبة السكر: ملح.
ولكن النمل لا يُخدع، لأنه بحاسته الفطرية، حاسة الهداية التي قال الله عنها: { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50] تجعله يذهب إلى السكر، مهما كتبتَ عليه، لأن العبرة بالمضامين، لا بالأسماء والعناوين.
هؤلاء الذين يغيرون أسماء الأشياء، يقولون عن الرشوة: منحة أو مكافأة، ويسمُّون الربا: فائدة أو أرباحا، هل تُغير هذه الأسماء المضمون؟ غيروا المضامين لا العناوين، كل هذا من التبرير. وللأسف كنا قد تجاوزنا مرحلة التبرير هذه بمراحل متعددة.
فللفكر الإسلامي مراحل في عصرنا:
• مرحلة التبعية المطلقة: وهي مرحلة الذين قالوا: نأخذ الحضارة الغربية بخيرها، وشرها، وحلوها، ومرها، وما يُحَب منها وما يُكره، كما قال ذلك بعضهم بصراحة مثل: طه حسين في (مستقبل الثقافة في مصر)، وقال مثله: جميل معلوف، وآخرون.
• جاوزنا هذه المرحلة وجاءت مرحلة التبرير: لا نقول للقضايا الغربية لا، ولكن نأخذها ونحاول أن نجعل لها تبريرا شرعيا.
• ثم جاءت مرحلة الدفاع: باعتبار الإسلام في قفص الاتهام، ونحن محامون ومدافعون عنه، فما خالف فيه الغرب نحن ندافع عنه. خالف الغرب في مسالة الربا في الاقتصاد، أو في مسألة الجهاد في العلاقات الدولية، أو في مسألة الحجاب في الناحية الاجتماعية، أو مسائل الطلاق وتعدد الزوجات في قضايا الأسرة والأحوال الشخصية.. الخ. في كل هذه الأشياء ندافع عنه، وكأن الأصل أن نوافق الغرب في هذه الأشياء.
• ثم جاءت مرحلة الاعتزاز والمواجهة: أن نقول للغرب: لك دينك ولنا ديننا، لك قِيَمُك ولنا قِيَمُنا، لك قوانينك ولنا تشريعنا، لسنا عبيداً لك، نحن سادة أنفسنا، فنحن الأمة الوسط، ونحن الذين بوأنا الله؛ لنكون شهداء على البشرية، وأساتذة للناس.
• ثم بدأنا نوجد البدائل الشرعية للمحرمات، ووجدت بنوك إسلامية، ووجدت شركات إسلامية، وبدأنا في مرحلة تحسين هذه البدائل، إلى ما هو أفضل.
بعد أن مررنا بهذه المراحل كلها، إذ بنا نرتد القهقرة، ونرجع إلى الوراء، أو يسحبونا هؤلاء قسرا إلى الوراء، لا يريدونا أن نتقدم إلى الأمام.
ومع أني لستُ من أنصار التفسير التآمري للأحداث، ولا للتاريخ، فلا أحب أن أقول دائما أن هناك مؤامرة، إلا أنه يبدوا أن هناك مؤامرة فعلا، أن هناك خطط تجرنا إلى الوراء، وتريد أن تشغلنا بهذه الأمور، من أجل هذا رأينا مثل هذه التبريرات التي رجعنا لها، بعد أن كنا تجاوزناها بمراحل ومراحل.
دخلنا مرحلة البدائل، ثم مرحلة تحسين البدائل، ثم مرحلة بناء أنفسنا على أسس جديدة، غير الأسس الغربية.
فهم يشدوننا مرة أخرى إلى الوراء.يعودون بنا نصف قرن إلى الخلف، مرة واحدة، وخطوة واحدة.
إنها مسألة خطيرة أيها الإخوة، التصدي للفتوى من الذين لا يملكون المؤهلات العلمية، والخُلُقية، والدينية، والنفسية للفتوى، وأن يصبح الأمر فوضى.
نحن دعاة التيسير لا التزييف:
ونحن لسنا ضد الاجتهاد، ولا ضد التجديد، بل على العكس فنحن من دعاة الاجتهاد والتجديد، ونحن من دعاة التيسير، ومعلوم أني من دعاة التيسير، ومنهجي التشديد في الأصول، والتيسير في الفروع، ولكن التيسير شيء، والتزييف شيء، ليس معنى التيسير أن نفتح الأبواب على مصاريعها، بغير ضوابط ولا قيود، أن تصبح القطعيات ظنيات، والمحكمات متشابهات، هذه مؤامرة فكرية على هذه الأمة، أن لا يبقى لديها شيء ثابت، ويصبح كل شيء قابلا للتغيُّر وللتطور.
يقولون: دعوكم من كلام الفقهاء. فإذا قبلنا هذا قالوا: حتى السنة منها ما هو آحاد، ومنها ما هو متواتر، ومنها ما هو ثابت وغير ثابت. ولو قبلنا هذا قالوا: القرآن لما حرم الخمر؛ حرمها لأن العرب كانو أهل بيئة حارة، ولو نزل القرآن في بيئة باردة، مثل أوربا لكان له موقف آخر.
ويقولون: الخنازير التي حرمها القرآن وجعلها رجسا، كانت خنازير سيئة التغذية، أما لو كانت هناك خنازير كخنازير هذا العصر، تُربَّى تحت إشراف وعناية، وطعام مخصوص، لكان الأمر غير ذلك. ومثلهم الذين يريدون التسوية بين الذكر والأنثى.
هؤلاء هم عبيد التطور، الذين لا يريدون أن يُبقوا شيئا ثابتا، هؤلاء الذين يقولون: لماذا لا تطورون الإسلام، ونردُّ عليهم دائما: ولماذا لا يُسلم التطور، الإسلام جاء ليُخضع الواقع للشرع، لا ليُخضع الشرع للواقع.
جاء الشرع ليرتفع بالناس، فإذا كان هناك ضلال هداهم، وإذا كان هناك خطأ صوَّبه، وإذا كان هناك اعوجاج قوَّمه، وإذا كان هناك فساد أصلحه، ولم يجئ ليساير الأعراف وإن كانت فاسدة، بل جاء ليرتقي بالناس، وهذا هو الفارق بين الشريعة والقانون، فالقانون يقنن ما عليه الناس، لكن الشريعة ترتقي بالناس.
نحن دعاة التيسير، نقول: لا بد من التجديد، لا بد من الاجتهاد، لا بد من التيسير، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، وهذا ما ذكره المحققون من أمثال: ابن القيم، وابن عابدين، وألفت في ذلك كتب.
وبعض الناس يقول عن فتاوى الربا، أنها مسائل جديدة، وأنا أعجب فما الجديد في أن شخصا يعطي أحدا مالا ليستثمره فبدلا من عشرة صار مليونا، أي جديد في هذه المعاملة، هل الجديد أنه بدلا من واحد أو عشرة صار مليونا؟! هذه معاملة موجودة وقديمة.
لكن الجديد حقا مسائل تجد مثل: مسألة زرع الأعضاء، نقول حقا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان.
جاءني منذ يومين رسالة، من أندونيسيا يسألني شخص عن أمر، فيقول: حدثت عندنا حادثة ونريد أن نستفتيك فيها؛ لأنه حدث خلاف عليها، وهي الزواج عن طريق الهاتف، مثل رجل في أمريكا يريد أن يتزوج امرأة في أندونيسيا، ولكي يأتي من أمريكا إلى إندونيسيا، هناك تكاليف كثيرة، فأراد أن يكلمها وأهلها، ويقوموا بعمل العقد الشرعي على الهاتف، يقولون: زوجناك فلانة بنت فلان، على كتاب الله وسنة رسول الله.. الخ، وهو يقول لهم: قبلت زواجها على كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهود موجودون، فما رأي المحاكم الشرعية في هذا؟
مثل هذا من القضايا جديد، لأنه لم يكن عند السلف مثل هذا، ومثله الزواج بالفاكس.
وقضية أخرى حدث مثلها في مصر، منذ فترة قريبة: أن رجلا حُوِّل عن طريق الطب إلى أنثى، وعنده جميع أعضاء الذكورة الكاملة، ولكنّ سلوكه سلوكٌ نِسْويٌّ، وأنتم تعرفون القصة من الجرائد، تحت عنوان: السيد الذي أصبح سالي، وحدث في جامعة الأزهر ما حدث، وأصبح بعد أن كان في كلية الطب الأزهر بنين، صارت الآن مشكلة، فهو بنت الآن، فما الحل في هذه القضية، وهل يصير مثل هذا أنثى، وله حق الأنثى، أم لا يُعترف به، وموقفه من الأحكام وهل يجوز له أن يتزوج،أم لا! ونصيبه في الميراث! هذه هي القضايا الجديدة.
أما من يقول أن إعطاء البنك المال قضية جديدة، ما الجديد في هذا؟! الصورة هي الصورة القديمة، شخص معه مال، ويعطي غيره ليستثمره له، ما الجديد فيه؟ هي في الواقع مسائل قديمة في صورة حديثة.
فهكذا أيها الإخوة، لسنا ضد الاجتهاد، ولا ضد التجديد، ولا التيسير، ولكن لا بد أن يضبط الأمر بضوابطه، وأن يوكل الأمر إلى أهله، أما أن يُترك الأمر ويصير ألعوبة في أيدي أصحاب الأهواء، ويصبح الناس في بلبلة، فالإنسان العامي لم يعد يفرق بين العالم الحق، والعالم الذي ليس أهلا، ألقاب كبيرة، وعناوين عريضة، كما قال الشاعر:
كمثل الطبل يُسمعُ من بعيدٍ وباطنه من الخيرات خالِ
هذه تشويشات لا بد أن توضع لها حل، ولا بد أن يعلم أبناءنا وإخواننا، أن الفتوى لها أهلها، وشروطها، وأن المزالق هذه يجب أن يُحْذر منها، وإلا تعرضت الأمة لخطر، وأيُّ خطر.
نعوذ بالله تعالى من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن عمل لا يُرفع، وأسأل الله عز وجل أن يُعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
أقول قولي هذا أيها الإخوة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق