الخميس، 23 أغسطس 2018

الإسلام … ونظام الطبقات


الإسلام ونظام الطبقات

" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .. " ([1])
" ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .. " ([2])
أليس هذا وارداً في القرآن أيها المسلمون ؟ فكيف تزعمون بعد هذا
أن الإسلام لايعترف بنظام الطبقات ؟
*    *     *
نحتاج أولاً أن نعرف ما هو نظام الطبقات ، لنعرف إن كان الإسلام يبيحه أم لا يبيحه.
فإذا استعرضنا تاريخ أوربا في العصور الوسطى مثلاً وجدنا طبقات النبلاء أو الأشراف ، ورجال الدين ، والشعب ، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف بعضها عن بعض ، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر .
فرجال الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم . وكان لهم في تلك العصور سطوة كبرى ، فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة ، يريد أن  يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب ، ويريدون هم أن ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم . وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي وقفها عليهم المتدينون ، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على الناس . بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان .
 أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض . بحيث يولد الطفل فإذا هو شريف منذ مولده ، ويظل شريفاً حتى يـموت ، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها في حياته ، وقر بها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم !
ما امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على " الشعب " الموجود في الإقطاعية . كانوا هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي القانون الذي ينفذ على الشعب . وكانت تتكون منهم المجالس النيابية التي تشرع للبلاد ، فكانت تشريعاتهم بطبيعة الحال تهدف إلى حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء صفة القداسة عليها .
أما الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات ، وإنما عليه الواجبات كل الواجبات . وكان يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل .
ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم ، هي الطبقة البرجوازية . وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب ، قامت الثورة الفرنسية التي ألغت ـ في الظاهر ـ نظام الطبقات ، وأعلنت ـ نظرياً ـ مبادئ الحرية والإخاء والمساواة .
وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة ولكن من وراء ستار ، ومع بعض التعديلات التي اقتضاها التطور الاقتصادي . ولكن الجوهر لم يتغير ، فهي طبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم . وعلى الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات " الديمقراطية " فإن الرأسمالية تعرف طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات ، وتنفذ بوسائلها الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف العنوانات .
بل ما يزال في إنجلترا ـ أم الديمقراطية كما كان يقال لنا ـ مجلس يسمى بصفة رسمية " مجلس اللوردات " . وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما عدا الابن الأكبر ، منعاً لتفتيت الثروة ، أي محافظة على ثروات " الأسر " لكي تبقى قائمة لا تزول ، ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى .
هذا هو نظام الطبقات ، يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان . تملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فتشرع لحماية نفسها ، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها ، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة .
فإذا أدركنا ذلك فهمنا على الفور أنه لا يوجد نظام طبقات في الإسلام . فليست هناك أولاً مزايا تؤخذ بالميراث كما كان الحال في طبقة الأشراف في أوربا . ونخرج من حسابنا بطبيعة الحال وراثة العرش بغير بيعة حرة وقيام " طبقة " من الأمراء والنبلاء فذلك كله ليس بإسلام . ووجوده في الإسلام لا يزيد على وجود مسلمين يشربون الخمر أو يلعبون الميسر أو يتعاملون بالربا . ومع ذلك لا يمكن أن يزعم أحد أن الإسلام أباح الخمر والميسر والربا في يوم من الأيام .
وليس هناك ثانياً قوانين تحتفظ بالثروة في يد قوم معينين يتوارثونها ولا تخرج من أيديهم . فقد كره الإسلام ذلك وقال صراحة: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " . ووضع من جهة أخرى قوانين لتفتيت الثروة بصفة دائمة ، وإعادة توزيعها في المجتمع بنسب جديدة على الدوام ، تلك هي قوانين الميراث التي توزع الثروة على عدد كبير من الأشخاص فلا يمر جيل حتى تكون قد تفرقت بين الناس . والحالات النادرة التي يرث فيها الثروة كلها ولد واحد لا إخوة له ولا أقرباء حالات شاذة لا يجوز الحكم بها ولا اعتبارها قاعدة ينتقد النظام كله من أجلها . ومع ذلك فإن الإسلام لم يتركها تمر اعتباطاً ، فقد جعل في التركة نصيباً للمحرومين من غير أولي القربى يشبه ضريبة التركات في العصر الحديث : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً " ([3]) .   
وبهذه الطريقة يعالج تكتل الثروات ، ويجعل أصحاب الثروات أفراداً لا طبقة . أفراداً لا يلبثون أن يجتمعوا حتى يتفرقوا ، بحكم توزع الثروة على نسب جديدة . والتاريخ الواقعي يشهد أن الثروات كانت دائمة الانتقال في المجتمع الإسلامي ، وأن الغني اليوم قد يفتقر غداً ، والفقير اليوم قد تهبط عليه الثروة من أي سبيل ، فلا تقوم الحواجز المصطنعة بين أي شخص وبين الغنى أو الفقر حسب تصرفه الخاص وملابسات حياته الخاصة .
وأهم ما يعنينا إثباته هنا هو ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من أن التشريع الإسلامي ليس ملكاً لطبقة معينة . ولا يملك أحد أن يشرع على مزاجه في الدولة الإسلامية ، لأن الشريعة السماوية المنزلة هي التي تحكم الجميع بلا محاباة لأحد ولا ظلم لأحد . ومن هنا ينتفي بتاتاً وجود طبقات في الإسلام ، لأن وجود الطبقات مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بمزية التشريع . فإذا بطلت هذه المزية ، ولم يكن في وسع أحد أن يصنع لنفسه قانوناً يحمي به مصالحه على حساب شخص آخر ، فماذا بقي من نظام الطبقــات ؟
*    *     *
وإذاً فما معنى الآيتين اللتين أثبتناهما في مقدمة هذا الفصل ؟
إنهما لا تزيدان على إثبات الأمر الواقع في كل الأرض ، في ظل الإسلام وفي غير الإسلام : أن الناس متفاوتون في المراتب والأرزاق . وإلا فلنأخذ روسيا مثلاً . هل جميع الناس يتناولون أجراً واحداً ، أم إن بعضهم مفضل على بعض في الرزق ؟ وهل جميعهم هناك رؤساء أم جميعهم مرؤوسون ؟ أو هل جميعهم ضباط أو جميعهم جنود ؟ أم إن بعضهم قد رفع درجات فوق بعض ؟ إن هذا أمر لا معدي عنه ، وهو حقيقة واقعة في كل مكان ، والآيتان لا تشرحان سبباً معيناً للتفضيل ، ولا تقيدان الناس كذلك بسبب معين . فهما لا تقولان إن التفضيل بسبب الرأسمالية أو بسبب الشيوعية أو بسبب الإسلام . ولا تقولان إن آثاره تكون دائماً عادلة بمقياس الأرض أو تكون ظالمة .. لا شيء من ذلك كله. إنهما فقط تقولان إن هذا هو الأمر الواقع في كل مكان . وكل ما على الأرض بطبيعة الحال داخل في إرادة الله . وإلا هل يعتقد الشيوعيون أن نفوذ الله – سبحانه - محدود بالعالم الإسلامي ، كما كان بنو إسرائيل يعتقدون في سذاجة غبية أن نفوذ الله محدود بمصر وفلسطين ، وأن ما يقع في بقية الأرض خارج عن نفوذ الله وإرادة الله ؟ !
*    *     *
شيء واحد من نظام الطبقات كان في الإسلام بتصريح القرآن ، هو وجود طبقة الأرقاء. ولكنا تحدثنا عنهم بما فيه الكفاية ، وقلنا إن الرق كله كان نظاماً اقتضته ظروف وملابسات معينة ، ولكن الإسلام ليس حريصاً على إبقائه ، فهو ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي ، ولكنه يوجد بصورة عارضة ، ثم يسعى الإسلام دائماً إلى تحريره .
ومع ذلك فكيف كان يعامل الإسلام الرقيق ؟
         لسنا في حاجة إلى تكرار ما قلناه في فصل الرق ، ولكنا نذكر الحادثة الشهيرة التي وضع بها عمر أساس " الطبقات " في الإسلام !
تلك قصة الشريف الذي ذهب للحج، يجر أذيال الكبر ، ويتيه على عباد الله في عنجهية جاهلية لم يطهره منها دخوله ـ بالاسم ـ في الإسلام : " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " . وفي أثناء الطواف وقعت قدم " عبد " على طرف ثوبه الطويل الذي تتمثل فيه العنجهية والكبرياء ، فما كان من الشريف إلا أن لطم العبد على وجهه جزاء وقاحته ! فذهب العبد إلى عمر يشكو له فعل الشريف . فهل قال له عمر : لا عليك ! فهذا شريف وأنت عبد ، هو من طبقة وأنت من طبقة ! هو يملك من الحقوق ما لا تملك ! هل استصدر عمر تشريعاً يحمي به طبقة الأشراف من أن يدوس على ثيابها العبيد ، أو تشريعاً يلزم العبيد بقبول لطمات السادة ؟
كلا . إن ما حدث معروف في التاريخ ، فقد أصر عمر على القصاص . على أن يلطم العبد هذا الشريف المتكبر ليرده إلى شريعة الله التي لا تفرق بين بشر وبشر في التشريع ، حتى حين يتفاوتان في الرزق أو في الوضع الاجتماعي لسبب من الأسباب .
وعلم الشريف فكبرت عليه نفسه . وأخذته العزة بالإثم ، وظل يحاول أن ينجو من حكم الشريعة الصارم الذي يسوي بينه وبين كل نفس آدمية في الوجود . فلما يئس فر من وجه عمر . وارتد في النهاية عن الإسلام ! !
هذا هو الإسلام . لا طبقات ولا مزايا تشريعية للطبقات .
أما الثروة واختلاف الناس فيها فموضوع آخر لا يجوز أن يختلط في أذهاننا بمسألة الطبقات ، ما دامت لا ترتب لمالكيها حقوقاً تشريعية أو قضائية ليست لبقية طوائف الشعب . وما دامت  الشريعة ـ في واقع الأمر لا في المثل والخيالات ـ تطبق بطريقة واحدة على جميع الناس .
وقد رأينا أن الملكية الزراعية لم ترتب للملاك في الإسلام حقوقاً يستعبدون بها الآخرين أو يستغلونهم ، وكذلك الحال في الملكية الرأسمالية لو وجدت في مجتمع إسلامي صحيح ، ذلك أن الحاكم لا يستمد نفوذه من تأييد طبقة الملاك ، وإنما من انتخاب الأمة له وقيامه بتنفيذ شريعة الله .
 يضاف إلى ذلك كله ما ذكرناه من قبل من أنه لا يوجد مجتمع في الأرض كلها قد تساوت الثروة فيه بين جميع السكان ، حتى المجتمع الشيوعي الذي يقول ـ صادقاً أو كاذباً ـ إنه ألغى نظام الطبقات ، وأبقى طبقة واحدة هي التي تملك وتحكم ، وتفني غيرها من الطبقات!


([1]) سورة النحل [71] .
([2]) سورة الزخرف [32] .
([3]) سورة النساء [8] .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق