الإسلام … ونظام الطبقات
أليس
هذا وارداً في القرآن أيها المسلمون ؟ فكيف تزعمون بعد هذا
أن
الإسلام لايعترف بنظام الطبقات ؟
* *
*
نحتاج
أولاً أن نعرف ما هو نظام الطبقات ، لنعرف إن كان الإسلام يبيحه أم لا
يبيحه.
فإذا
استعرضنا تاريخ أوربا في العصور الوسطى مثلاً وجدنا طبقات النبلاء أو الأشراف ، ورجال الدين ، والشعب ، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف
بعضها عن بعض ،
بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر .
فرجال
الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم . وكان لهم في تلك
العصور سطوة كبرى ،
فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة ، يريد أن يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب ، ويريدون هم أن
ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم . وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي
وقفها عليهم المتدينون ، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على
الناس .
بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان .
أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن
بعض . بحيث يولد الطفل فإذا
هو شريف منذ مولده ،
ويظل شريفاً حتى يـموت ، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها
في حياته ،
وقر بها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم !
ما
امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على " الشعب " الموجود في
الإقطاعية .
كانوا هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي
القانون الذي ينفذ على الشعب . وكانت تتكون منهم المجالس النيابية
التي تشرع للبلاد ،
فكانت تشريعاتهم بطبيعة الحال تهدف إلى حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء
صفة القداسة عليها .
أما
الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات ، وإنما عليه
الواجبات كل الواجبات . وكان يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل .
ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا
أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم ، هي الطبقة
البرجوازية . وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب ، قامت الثورة
الفرنسية التي ألغت ـ في الظاهر ـ نظام الطبقات ، وأعلنت ـ نظرياً ـ
مبادئ الحرية والإخاء والمساواة .
وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة
الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة ولكن من وراء ستار ، ومع بعض التعديلات
التي اقتضاها التطور الاقتصادي . ولكن الجوهر لم يتغير ، فهي طبقة تملك المال
والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم . وعلى الرغم من مظاهر
الحرية التي تتمثل في الانتخابات " الديمقراطية " فإن الرأسمالية تعرف
طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات ، وتنفذ بوسائلها
الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف العنوانات .
بل
ما يزال في إنجلترا ـ أم الديمقراطية كما كان يقال لنا ـ مجلس يسمى بصفة رسمية
" مجلس
اللوردات "
. وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما
عدا الابن الأكبر ، منعاً لتفتيت الثروة ، أي محافظة على ثروات " الأسر " لكي تبقى
قائمة لا تزول ،
ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى .
هذا
هو نظام الطبقات ،
يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان . تملك وسائل التشريع
بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فتشرع لحماية نفسها ، ولإبقاء الشعب
خاضعاً لسلطانها ،
محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة .
فإذا
أدركنا ذلك فهمنا على الفور أنه لا يوجد نظام طبقات في الإسلام . فليست
هناك أولاً مزايا تؤخذ بالميراث كما كان الحال في طبقة الأشراف في أوربا . ونخرج
من حسابنا بطبيعة الحال وراثة العرش بغير بيعة حرة وقيام " طبقة " من
الأمراء والنبلاء فذلك كله ليس بإسلام . ووجوده في الإسلام
لا يزيد على وجود مسلمين يشربون الخمر أو يلعبون الميسر أو يتعاملون بالربا .
ومع ذلك لا يمكن أن يزعم أحد أن الإسلام أباح الخمر والميسر والربا في يوم من
الأيام .
وليس
هناك ثانياً قوانين تحتفظ بالثروة في يد قوم معينين يتوارثونها ولا تخرج من أيديهم
. فقد كره الإسلام ذلك وقال صراحة: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم
" . ووضع من جهة أخرى قوانين لتفتيت الثروة بصفة دائمة ، وإعادة توزيعها في
المجتمع بنسب جديدة على الدوام ، تلك هي قوانين الميراث التي توزع
الثروة على عدد كبير من الأشخاص فلا يمر جيل حتى تكون قد تفرقت بين الناس .
والحالات النادرة التي يرث فيها الثروة كلها ولد واحد لا إخوة له ولا أقرباء
حالات شاذة لا يجوز الحكم بها ولا اعتبارها قاعدة ينتقد النظام كله من أجلها . ومع
ذلك فإن الإسلام لم يتركها تمر اعتباطاً ، فقد جعل في التركة
نصيباً للمحرومين من غير أولي القربى يشبه ضريبة التركات في العصر الحديث : "
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً
معروفاً " ([3]) .
وبهذه
الطريقة يعالج تكتل الثروات ، ويجعل أصحاب الثروات أفراداً لا طبقة
. أفراداً لا يلبثون أن يجتمعوا حتى يتفرقوا ، بحكم توزع الثروة
على نسب جديدة . والتاريخ الواقعي يشهد أن الثروات كانت دائمة الانتقال في المجتمع
الإسلامي ،
وأن الغني اليوم قد يفتقر غداً ، والفقير اليوم قد تهبط عليه الثروة من
أي سبيل ،
فلا تقوم الحواجز المصطنعة بين أي شخص وبين الغنى أو الفقر حسب تصرفه الخاص
وملابسات حياته الخاصة .
وأهم
ما يعنينا إثباته هنا هو ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من أن التشريع الإسلامي
ليس ملكاً لطبقة معينة . ولا يملك أحد أن يشرع على مزاجه في الدولة الإسلامية ، لأن الشريعة
السماوية المنزلة هي التي تحكم الجميع بلا محاباة لأحد ولا ظلم لأحد . ومن هنا
ينتفي بتاتاً وجود طبقات في الإسلام ، لأن وجود الطبقات مرتبط
ارتباطاً لا ينفصم بمزية التشريع . فإذا بطلت هذه المزية ، ولم يكن في وسع أحد
أن يصنع لنفسه قانوناً يحمي به مصالحه على حساب شخص آخر ، فماذا بقي من نظام
الطبقــات ؟
* *
*
وإذاً
فما معنى الآيتين اللتين أثبتناهما في مقدمة هذا الفصل ؟
إنهما
لا تزيدان على إثبات الأمر الواقع في كل الأرض ، في ظل الإسلام وفي
غير الإسلام : أن الناس متفاوتون في المراتب والأرزاق . وإلا فلنأخذ روسيا مثلاً .
هل جميع الناس يتناولون أجراً واحداً ، أم إن بعضهم مفضل
على بعض في الرزق ؟ وهل جميعهم
هناك رؤساء أم جميعهم مرؤوسون ؟ أو هل جميعهم ضباط أو جميعهم
جنود ؟ أم إن بعضهم قد رفع درجات فوق بعض ؟ إن هذا أمر لا معدي عنه ، وهو حقيقة واقعة في
كل مكان ،
والآيتان لا تشرحان سبباً معيناً للتفضيل ، ولا تقيدان الناس
كذلك بسبب معين . فهما لا تقولان إن التفضيل بسبب الرأسمالية أو بسبب الشيوعية أو
بسبب الإسلام . ولا تقولان إن آثاره تكون دائماً عادلة بمقياس الأرض أو تكون ظالمة
.. لا شيء من ذلك كله. إنهما فقط تقولان إن هذا هو الأمر الواقع في كل مكان . وكل
ما على الأرض بطبيعة الحال داخل في إرادة الله . وإلا هل يعتقد الشيوعيون أن نفوذ
الله – سبحانه - محدود
بالعالم الإسلامي ،
كما كان بنو إسرائيل يعتقدون في سذاجة غبية أن نفوذ الله محدود بمصر وفلسطين ، وأن ما يقع في بقية الأرض خارج عن
نفوذ الله وإرادة الله ؟ !
* *
*
شيء
واحد من نظام الطبقات كان في الإسلام بتصريح القرآن ، هو وجود طبقة
الأرقاء. ولكنا تحدثنا عنهم بما فيه الكفاية ، وقلنا إن الرق كله
كان نظاماً اقتضته ظروف وملابسات معينة ، ولكن الإسلام ليس
حريصاً على إبقائه ،
فهو ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي ، ولكنه يوجد بصورة
عارضة ،
ثم يسعى الإسلام دائماً إلى تحريره .
ومع
ذلك فكيف كان يعامل الإسلام الرقيق ؟
لسنا في حاجة إلى تكرار ما قلناه في فصل
الرق ،
ولكنا نذكر الحادثة الشهيرة التي وضع بها عمر أساس " الطبقات " في
الإسلام !
تلك
قصة الشريف
الذي ذهب للحج، يجر أذيال الكبر ، ويتيه على عباد الله في عنجهية جاهلية
لم يطهره منها دخوله ـ بالاسم ـ في الإسلام : " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا
أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " . وفي أثناء الطواف وقعت قدم "
عبد " على طرف ثوبه الطويل الذي تتمثل فيه العنجهية والكبرياء ، فما كان من الشريف
إلا أن لطم العبد على وجهه جزاء وقاحته ! فذهب العبد إلى عمر يشكو له فعل الشريف .
فهل قال له عمر : لا عليك ! فهذا شريف وأنت عبد ، هو من طبقة وأنت من
طبقة ! هو يملك من الحقوق ما لا تملك ! هل استصدر عمر تشريعاً يحمي به طبقة الأشراف من أن يدوس على ثيابها العبيد ، أو
تشريعاً يلزم العبيد بقبول لطمات السادة ؟
كلا
. إن ما حدث معروف في التاريخ ، فقد أصر عمر على القصاص . على أن يلطم
العبد هذا الشريف المتكبر ليرده إلى شريعة الله التي لا تفرق بين بشر وبشر في
التشريع ،
حتى حين يتفاوتان في الرزق أو في الوضع الاجتماعي لسبب من الأسباب .
وعلم
الشريف فكبرت عليه نفسه . وأخذته العزة بالإثم ، وظل يحاول أن ينجو
من حكم الشريعة الصارم الذي يسوي بينه وبين كل نفس آدمية في الوجود . فلما يئس فر
من وجه عمر . وارتد في النهاية عن الإسلام ! !
هذا
هو الإسلام . لا طبقات ولا مزايا تشريعية للطبقات .
أما
الثروة واختلاف الناس فيها فموضوع آخر لا يجوز أن يختلط في أذهاننا بمسألة الطبقات ، ما دامت لا ترتب
لمالكيها حقوقاً تشريعية أو قضائية ليست لبقية طوائف الشعب . وما دامت الشريعة ـ في واقع الأمر لا في المثل والخيالات
ـ تطبق بطريقة واحدة على جميع الناس .
وقد
رأينا أن الملكية الزراعية لم ترتب للملاك في الإسلام حقوقاً يستعبدون بها الآخرين
أو يستغلونهم ،
وكذلك الحال في الملكية الرأسمالية لو وجدت في مجتمع إسلامي صحيح ، ذلك أن الحاكم لا
يستمد نفوذه من تأييد طبقة الملاك ، وإنما من انتخاب الأمة له وقيامه
بتنفيذ شريعة الله .
يضاف إلى ذلك كله ما ذكرناه من قبل من أنه لا
يوجد مجتمع في الأرض كلها قد تساوت الثروة فيه بين جميع السكان ، حتى المجتمع
الشيوعي الذي يقول ـ صادقاً أو كاذباً ـ إنه ألغى نظام الطبقات ، وأبقى طبقة واحدة
هي التي تملك وتحكم ،
وتفني غيرها من الطبقات!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق