الخميس، 23 أغسطس 2018

الإسلام … والملكية الفردية


الإسلام … والملكية الفردية

هل الملكية الفردية نزعة فطرية ؟


يصر الشيوعيون وأضرابهم على أنها ليست كذلك . ويقولون إنه في المجتمع الأول حيث كانت تسود الشيوعية الأولى ، لم يكن هناك ملك خاص لأحد ، وإنما كان كل شيء ملكاً للجميع ، وكانت تسود الجميع روح المحبة والتعاون والإخاء . ولكن هذه الفترة الملائكية لم تدم طويلاً مع الأسف ، فمنذ اكتشفت الزراعة دب الخلاف على الأرض المنزرعة وعلى وسائل الإنتاج . وبدأت الحروب .. وصار البشر إلى ما هو عليه اليوم من حب للملكية الفردية وتطاحن عليها . ولا خلاص لهم من هذا الشر المستطير إلا أن يرجعوا إلى حالتهم الأولى ، حيث لا يكون هناك ملك خاص لأحد ، وإنما يملك الجميع ، وتعود روح المحبة والوئام فتسيطر على البشر !
*     *     *
ونترك الشيوعيين هنيهة ، فنجد علماء النفس والاجتماع مختلفين فيما بينهم اختلافاً شديداً في تحديد ما هو فطري وما هو مكتسب في سلوك الإنسان ومشاعره وأفكاره . وهم مختلفون بطبيعة الحال في أمر الملكية الفردية : هل هي نزعة فطرية يولد بها الإنسان بصرف النظر عن الظروف المحيطة به ، أم أنها من أثر البيئة ، أي أن الذي يدفع الطفل إلى التشبت بلعبة وأشيائه هو عدم كفايتها ، ومحاولة غيره أخذها منه ، فحين يوجد عشرة أطفال ولعبة واحدة لا بد أن يتنازعوا عليها ، ولكن حين يكون للأطفال العشرة عشرة لعب يكتفي كل واحد بلعبته ويبطل النزاع ..
*     *     *
ولنا على هؤلاء وهؤلاء بعض الملاحظات :
أولاً : أن أحداً من أولئك العلماء لم يستطع أن يجزم بأن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ، وكل ما قاله اليساريون منهم هو أنه لا يوجد دليل قاطع على أنها نزعة فطرية . وفرق بين هذا وبين النفي البات ، ولو قد وجدوا دليلاً يقيناً ينفيها ما ترددوا في نفيها ، لأنهم بعواطفهم ينفرون منها .
ثانياً : أن المثل الذي يضربونه - مثل الأطفال واللعب - ليست له الدلالة التي يريدون أن يستخرجوها منه . فحين يوجد عشرة أطفال وعشر لعب ثم يبطل النزاع بينهم ، لا يدل ذلك على عدم وجود نزعة فطرية للملكية ، وإنما يدل فقط على أن هذه النزعة – في الحالات السوية - يمكن أن ترضي بالمساواة المطلقة بين الجميع . وهذا لا ينفي أصلها ، وإنما يحدد مداها . على أن المشاهد في مثل هذه الحالة أن الكثيرين من الأطفال يحاولون الحصول على أكثر مما في أيديهم بسلب زملائهم الآخرين لعبهم ، ما لم يكن هنالك مانع خارج عن إرادتهم!
ثالثا ً: أن الفترة الملائكية التي يفترض الشيوعيون وجودها في المجتمع الأول ( ونحن لا نملك دليلاً يقينياً عليها ) لم تكن فيها وسائل إنتاج ، فكيف كان يمكن أن يقوم النزاع على شيء غير موجود ؟ كانت الأشجار تمدهم بالغذاء مباشرة وبلا جهد ، وكان الصيد الذي يصطادونه يحتاج بطبيعته إلى الاشتراك فيه خوفاً من افتراس الوحوش لمن يخرج بمفرده ( ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نجزم بأن أفراداً من الشجعان لم يكونوا يخرجون للصيد بمفردهم إثباتاً لشجاعتهم وتميزهم ، وهذه مسألة مهمة جداً سنعود إليها بعد لحظة ) ولم يكن في الإمكان تخزين الصيد لأنه ينتن ، فلا بد من الإجهاز عليه في ساعته . فعدم التنازع هنا لا يدل بذاته على عدم وجود النزعة للملكية الفردية ، وقد يكون ناتجاً من عدم وجود ما يتنازع عليه ، بدليل أنه منذ اكتشفت الزراعة بدأ الصراع ، أي تحركت النزعة الكامنة التي لم تكن تجد من قبل دافعاً للتحرك .
رابعاً : أن أحداً لم ينف لنا قيام الصراع بين الرجال في ذلك الحين على " امتلاك " امرأة . فعلى الرغم من وجود " الشيوعية الجنسية " في تلك الفترة كما يزعم الشيوعيون فإن أحداً لم يزعم أنها كانت سائدة مائة في المائة في هذا المجتمع الأول ، ولم يمنع وجودها من قيام المعارك على امرأة بعينها لأنها أجمل من غيرها في نظر المتعاركين . وهنا إحدى العقد التي نبحث عنها ، والتي نعتقد أن لها أهميتها العظمى في الموضوع . فحيث تكون كل الأشياء متشابهة ومتساوية قد يبطل الصراع . أما حين تختلف القيم والأشياء علواً وسفلاً في نظر الناس ، فهنا ينشأ الصراع والعراك حتى في المجتمع الملائكي الذي يتصوره الشيوعيون ، ويبنون على وجوده كل أحلامهم عن المستقبل البعيد .
خامساً : وأخيراً أن أحداً لم ينف وجود الرغبة في التميز في ذلك المجتمع الأول . التميز بالشجاعة أو بالقوة أو بالصبر أو بأي صفة من الصفات . وهذه هي بعض القبائل التي تعيش اليوم في حالتها البدائية ، والتي يقيس عليها الشيوعيون المجتمع الشيوعي الأول ، تأبى تزويج بناتها إلا لمن يحتمل مائة جلدة بالسوط دون أن يضعف أو يتأوه . فلماذا ؟ ولأي سبب يقبل الشاب على هذا الامتحان ويرغبون في إثبات التميز ؟ وإذا كان كل شيء يسير على مبدأ المساواة المطلقة ، فما الذي يدفع إنساناً أن يقول : أنا لست مساوياً للآخرين ، بل أفضل منهم ؟ هنا عقدة أخرى من العقد التي نبحث عنها ونعتقد بأهميتها . فعلى فرض أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية في ذاتها ، فقد ارتبطت بنزعة فطرية أخرى هي حب التميز ، ارتباطاً لم تنج منه منذ أول عصور البشرية .
*     *     *
ونترك هذه المباحث النظرية لنتحدث عن الملكية الفردية في الإسلام .
 يقول الشيوعيون إن الملكية الفردية قد صاحبها الظلم على مدار التاريخ ، وإنه  لا بد من إلغائها إذا أريد للبشرية أن تستقر وتهدأ من الصراع . وبصرف النظر عن إغفال الشيوعيون لأثر النزعات الفردية في تقدم البشرية ، وإغفالهم لحقيقة أخرى هي أن البشرية لم تتقدم في فترة الشيوعية الأولى ، وإنما بدأت تتقدم بعد النزاع على الملكية ، أي أن الصراع ليس شراً خالصاً ، وأن وجوده - ولكن في حدود معقولة - ([1]) ضرورة نفسية واجتماعية واقتصادية .
بصرف النظر عن هذا وذاك .. فإن الإسلام لا يسلم بأن الملكية الفردية في ذاتها هي منشأ الظلم الذي حل بالبشرية .
وإنما نشأ الظلم الذي صاحب الملكية في أوربا أو في غير العالم الإسلامي عامة من أن " الطبقة " المالكة هناك هي التي تشرع وتحكم . فكان من الطبيعي أن تحكم لصالح نفسها ، وأن تضع التشريعات التي تحمي مصالحها وتجور على مصالح الآخرين . أما في الإسلام فلا يوجد طبقة حاكمة ، والقانون ليس من صنع طبقة معينة من طبقات الشعب ، وإنما هو من صنع الله خالق الجميع . والناس سواسية في عرف الإسلام لا يتفاضلون فيما بينهم إلا بالتقوى ، ولكنهم لا يتفاضلون أمام التشريع الذي يطبق بصورة واحدة على الجميع . ([2]) والحاكم في الإسلام رجل ينتخب انتخاباً حراً من الأمة المسلمة ، فليست له مزية " طبقية " ترشحه للحكم. ثم هو بعد ولايته للأمر لا يملك إلا تنفيذ الشريعة التي لم يضعها هو وإنما وضعها الله . وسلطته على المحكومين مستمدة من قيامه بتنفيذ الشريعة لا أكثر . يقول أبو بكر الخليفة الأول : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . فليس لشخصه مزية قانونية يمنح بها نفسه أو غيره امتيازاً في التشريع . ومن ثم فهو لا يملك أن يميز طبقة من الشعب على طبقة ، ولا أن يخضع للنفوذ السياسي للملاك ، فبضع لهم تشريعات تحمي مصالحهم بالجور على مصالح غير الملاك . ونحن هنا نتحدث عن الفترة التي طبق فيه الإسلام على حقيقته ، ولا ننظر إلى الفساد الذي دخل عليه بعد تحوه إلى ملك عضوض . لأن ذلك ليس إسلاماً ، ولا يمكن أن يكون الإسلام مسئولاً عنه . وقصر الفترة التي طبق فيها الإسلام بكل عدالته ومثاليته لا تعني أنه نظام خيالي غير قابل للتطبيق في الواقع ، فالذي حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى . والناس مطالبون باستعادة تلك الفترة . وهي اليوم أقرب إلى التحقيق مما كانت على أيدي أجدادهم فيما مضى من التاريخ ([3]) .
في النظام الإسلامي إذن لا يشرع الملاك لأنفسهم ، وإنما يخضعون كغيرهم لشريعة عامة تسوي بين الجميع في الحقوق الإنسانية والكرامة البشرية . فأما حين يحدث اختلاف في تفسير نص من النصوص - كما يحدث في كل قانون على وجه الأرض - فالفقهاء هم أصحاب الرأي فيه ([4]) . ويشهد التاريخ أن فقهاء الإسلام الكبار لم يشرعوا لطبقة الملاك على حساب الكادحين ، وإنما كانوا دائماً أقرب إلى توفية حقوق هؤلاء الكادحين ، وتحقيق مطالبهم الأساسية . والمثال الذي ذكرناه في الفصل السابق - والذي يجعل العامل شريكاً بالنصف مع صاحب العمل - صريح فيما نقصد إليه .
والإسلام لا يسوء ظنه بالطبيعة البشرية إلى الحد الذي يسلم فيه بأن الملكية دائماً تعني الظلم والاستبداد . وقد بلغ في تربيته للنفس الإنسانية حداً رفيعاً جعل بعض الناس يملكون ومع ذلك " لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " ([5]) فيشركون معهم غيرهم في كل ما يملكونه دون ثمن ولا مقابل ، ولا انتظار لشيء إلا رجاء عفو الله ومثوبته .
وهذه الأمثلة النبيلة - على ندرتها - لا يجوز إسقاطها من الحساب لأنها قبس النور الذي يشير إلى المستقبل ، والذي يبشر بما يمكن أن تصل إليه الإنسانية في يوم من الأيام . وإن كان الإسلام - مع ذلك - لا يغرق في الأحلام ، ولا يرع مصالح الأمة رهناً بالنوايا الطيبة التي قد توجد أو لا توجد ، وإنما هو مع عنايته البالغة بتهذيب النفوس وتطهيرها يؤمن بالواقع العملي ، ويضع التشريعات الكفيلة بتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً فيضمن الأمر من جانبيه ، مصدقاً لقول عثمان : " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
وقد وجدت الملكية فعلاً في التاريخ ولم يصحبها الظلم .
وقد ضربنا في الفصلين السابقين مثالين من تاريخ الإسلام ، أحدهما عن الملكية الزراعية ، ورأينا أنها لم تؤد في العالم الإسلامي إلى الإقطاع الذي أدت إليه في أوربا ، لوجود التشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي منعت الإقطاع ، وكفلت لغير المالكين حياة كريمة تجعلهم بمنأى عن الخضوع لاستغلال المالكين .
والآخر عن الملكية الرأسمالية . وقد رأينا فيه أن الإسلام - على فرض نشوء الرأسمالية في ربوعه - كان سيبيح منها القدر الذي يغلب فيه الخير ، وكان سيقف دون الطغيان والاستغلال بكل ما لديه من وسائل التشريع والتهذيب ، فلا تؤدي الملكية إلى نتائجها السيئة التي يعانيها الغرب الرأسمالي اليوم . ثم أنه كذلك لم يبح الملكية على إطلاقها ، فقد نص على أن الموارد العامة ملك مشترك للجميع . فحرم الملكية الفردية حيثما كانت العدالة تقتضي تحريمها ، وأباحها حيث أمن الظلم واستذلال بشر لبشر .
ونضرب هنا مثلاً ثالثاً من غير العالم الإسلامي ، هو دول الشمال في أوربا . فقد شهد الإنجليز والأمريكان والفرنسيون - وهم أكثر شعوب الأرض تبجحاً بالتميز العنصري والقومي - أنها أرقى دول العالم وأكثرها توازناً ومودة . وهي مع ذلك لم تلغ الملكية الفردية . وكل ما صنعته هو ضمان توزيع الثروة توزيعاً عادلاً يقرب الفجوة بين طبقات الشعب ، ويعادل بقدر الإمكان بين ميزان الجهد والجزاء . فهي في هذا الشأن أكثر دول العالم تحقيقاً لجانب من فكرة الإسلام .
ثم إنه لا يمكن الفصل بين نظام اقتصادي وبين الفلسفة الفكرية والاجتماعية التي تقوم وراءه . فإذا استعرضنا النظم الثلاثة التي يدعو لها الدعاة اليوم ، وهي الرأسمالية والشيوعية والإسلام ، وجدنا نظمها الاقتصادية وفكرة الملكية فيها مرتبطة ارتباطا وثيقاً بفكرتها الاجتماعية . فالرأسمالية - كما قلنا من قبل - تقوم على أساس أن الفرد كائن مقدس لا يجوز للمجتمع أن يحجر على حريته ، ومن ثم تباح هناك الملكية الفردية بلا حدود . ([6]) والشيوعية تقوم على أساس أن المجتمع هو الأصل ، والفرد لا كيان له بمفرده ، فهي تضع الملكية في يد الدولة ممثلة المجتمع ، وتحرم منها الأفراد .
أما الإسلام فله فكرة أخرى ، ومن ثم فله اقتصاد آخر .
فأما فكرة الإسلام عن الفرد والجماعة فهي ترى أن الفرد كائن ذو صفتين في وقت واحد : صفته كفرد مستقل ، وصفته كعضو في جماعة . وأنه يستجيب أحياناً لهذه الصفة أو تلك بصورة بارزة ، ولكنه في النهاية مشتمل عليهما معاً ومستجيب لهما معاً .
وأما فكرته الاجتماعية المستمدة من تلك الفكرة ، فهي لا تفصل بين الفرد والجماعة ، ولا تضعهما في موضع التقابل كمعسكرين متصارعين يحاول أحدهما أن يغتال الأخر . وما دام كل فرد في ذات الوقت فرداً مستقلاً وعضواً في جماعة ، فإن التشريع الذي يتمشى مع الفطرة يوازن بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية ، ويوازن بين مصالح كل فرد وغيره من الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع ، دون أن يفني إحدى النزعتين لحساب الأخرى ، ودون أن يسحق الفرد لحساب المجتمع أو يفكك المجتمع لحساب فرد أو أفراد ..
ومن ثم فاقتصادياته تمثل هذه النظرة المتوازنة ، التي تقع بين الرأسمالية والشيوعية ، وتحقق أفضل ما في النظامين دون أن تقع في انحرافاتهما . فهي تبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ . ولكنها تضع لها الحدود التي تمنع بها الضرر . وتبيح للمجتمع - أو ولي الأمر ممثل المجتمع - أن ينظم هذه الملكية أو يعدلها كما ظهر له أن ذلك يحقق مصلحة للمجموع .
لذلك لا يضيق الإسلام بالملكية الفردية ما دام يملك أن يزيل بشتى الوسائل ما قد ينتج عنها من أضرار . وإن إبقاء الملكية من حيث المبدأ مع تقرير حق الجماعة في تنظيمها وتقييدها ، خير في معاملة النفوس من إلغائها بتاتاً ، على أساس غير صحيح : وهو أن الملكية ليست نزعة فطرية ولا ضرورة بشرية . وإن اضطرار روسيا أخيراً إلى إباحة ألوان من الملكية في حدود معينة لبرهان قوي على أن من الخير الاستجابة إلى الفطرة البشرية : خير للفرد وللمجموع على السواء .
*     *     *
على أننا نعود فنسأل : لماذا نلغي الملكية الفردية ؟ ولأي هدف نطالب الإسلام بإلغائها؟
تقول الشيوعية إن إلغاءها هو السبيل الوحيد للتسوية بين البشر ، وإبطال النزعة إلى السيطرة والسلطان . وقد ألغت روسيا ملكية وسائل الإنتاج .. فهل وصلت إلى الهدف الذي تنشده من وراء ذلك ؟
ألم تضطر روسيا على يد ستالين إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لمن يجد في نفسه وفرة من النشاط والجهد مقابل أجور إضافية ، فنشأ بذلك تفاوت في الأجور بين العمال أنفسهم ؟
ثم هل تتساوى أجور الناس جميعاً في الإتحاد السوفييتي ؟ هل يأخد المهندس أجراً كالعامل ؟ وهل يأخذ الطبيب أجراً كالممرض ؟ إن دعاة الشيوعية أنفسهم ليعلنون أن أعلى أجر في روسيا هو أجر المهندس ، وأن الفنانين هم أكثر الناس دخلاً هناك . فيعترفون بتفاوت الأجور بين طوائف الشعب الروسي ، فضلاً عن تفاوت الطبقة الواحدة كما حدث بين العمال .
وأخيراً هل بطلت النزعة إلى السيطرة والرغبة في التمييز عن الآخرين ؟ فكيف إذن يختار رؤساء النقابات ورؤساء المصانع ورؤساء الإدارات والقوميسيرات ؟ وكيف يميز بين العضو النشيط وغير النشيط في الحزب الشيوعي الذي يحكم روسيا ؟
أوَ ليس إذن في بنية الإنسانية هذا النزوع إلى السيطرة والتميز بصرف النظر عن إبقاء الملكية الفردية أو إلغائها ؟
فإذا كان إلغاء الملكية لم يخلص البشرية مما تعتبره الشيوعية شراً مستطيراً لا يجوز السكوت عليه ، فما الذي يدفعنا يا ترى إلى مصادمة الفطرة والتضييق عليها في سبيل هدف يأبى أن يتحقق من أي سبيل ؟
أم يقولون إن الفوارق في روسيا بين طائفة وطائفة ، أو بين فرد وفرد ، فوارق قريبة لا تصل إلى حد الترف من جانب والحرمان من جانب ؟
فنقول لهم : نعم ! والإسلام كذلك - ومن قبل الشيوعية بألف وثلاثمائة عام - يجعل من مبادئه تقريب الفوارق بين الناس ، وتحريم الترف والقضاء على الحرمان ! ولكنه لا يكل هذا إلى التشريعات القانونية وحدها ، إنما يكله كذلك إلى عقيدة الناس في الله وحبهم للخير ، بجانب القوانين والتشريعات .


([1]) يرى الإسلام أن التنافس ليس شرا في ذاته ، وإنما هو شر حين يكون في سبيل الشر ، أما في سبيل الخير فيقول : " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " ويقول كذلك : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " .
([2]) إذا كان الله سبحانه وتعالى يقول : " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " فهذا موضوع أخر سنعرض له في الفصل التالي . إنما الذي نقصده هنا هو وضع الناس بالنسبة للتشريع وهو الذي حرص الإسلام فيه على المساواة المطلقة .
([3]) انظر بعد ذلك فصل " الإسلام والمثالية " .
([4]) ذلك فيما لم يرد فيه نص صريح لا خلاف عليه .
([5]) سورة الحشر [9] .
([6]) إلا أخيراً جداً ، وبتأثير الخوف من الشيوعية . وقد كانت المناجم – وهي من الموارد العامة – ملكاً للأفراد في انجلترا إلى ما قبل سنوات قليلة وما تزال ملكاً للأفراد في أمريكا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق