ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى
أحداً
من إخواني أن يأخذ به
"سفيان الثوري"
(1) يتعامل
"السلفيون" مع مسائل الفقه كما يتعامل المسلمون مع قوله تعالى: (أفي
الله شك) (إبراهيم:10)، فالرأي الذي يَرونَه
هو الرأي، والقاعدة عندهم معكوسة منكوسة، فرأيهم صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرهم
خطأ لا يحتمل الصواب!.
وهذا المنحى مخالف لمنهج السلف
في الاجتهاد( )، فما زال العلماء يختلفون فلا يُنكر
بعضهم على بعض، ومازالوا يُنبهون
على أن الخلاف في مسائل الفقه، لا يقتضي موقفا من الآخرين،
وهذه بعض عباراتهم:
قال سفيان رحمه الله:
"إذا رأيتَ
الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلِفَ
فيه وأنت ترى غيره فلا تنههُ".
وقال أحمد رحمه الله: "لا
ينبغي للفقيه أن يحمل الناسَ
على مذهب ولا يُشدد
عليهم"
وقال ابن تيمية رحمه الله:
"والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قولَ
بعض الفقهاء، ووافق قول بعض آخرين، لم يكن لأحد اًن
يُلزمه بقول المخالِف،
ويقول: هذا خالف الشرع"
(2) وقد سبق وأشرتُ
إلى بعض المسائل في المبحث السابق التي ألحقها "السلفيون" بدائرة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر( )، مثل مسألة اللباس، والإسبال، وصيام السبت،...
وللحقيقة فإن البعض ما عاد يُثير
هذه المسائل، لكن الجو العام عند "السلفيين" النظر لمن يخالفهم فـي هذه
المسائل نظرة انتقاص، حتى إن بعضهم يتحرج من الصلاة خلف المتَبَنْطِل!.
ولعلهم - وهذا ظن مني - يَعدون
الأخذ باختياراتهم في هذه المسائل من الأولويات، أولويات الدعوة، لأنهم يفهمون -
وهذا ظن مني أيضا- أن الالتزام بهذه المسائل داخل في قول الإمام مالك رحمه الله:
"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"!.
(3) والذي يظهر لي - والله
أعلم - أن الآفة السابقة مرتبطة ارتباطا عضوياً
بالآفة التالية: وهي أن "السلفيين" يتعاملون مع فقه الشيخ ناصر - مثلاً-
واختياراته، وكأنه فقه السلف، هكذا بالألف واللام الدالتين على العهد والاستغراق
"ونتيجة لهذه الآفة تتشكل القضية في عقل "السلفي" على النحو
التالي:
إذا كان هذا هو فقه السلف،
فالفقه الآخر خارج عن فقه السلف، وهي معادلة تلقي في رُوع
"السلفي" تلقائيا أن الفقه الآخر فقه مذموم. وهي نتيجة لها انعكاس على
السلوك والمواقف.
(4) علم نفس الدليل!
والسؤال المهم في هذا السياق
هو: لماذا يتصرف "السلفيون" هكذا؟! لأن هذه الآفة مبنية على مقدًمات
عن الإتباع، والدليل، والسلف، والحديث الصحيح، والتزام السنة، وفتح باب
الإجتهاد،....، وكما ترى فإنها مقدمات صحيحة، فلا اعتراض عليها، وإنما البحث في
كيفية التعامل معها، وفي المآل الذي آلت إليه طريقة "السلفيين" في
استخدامها. والذي يحدث أن المسلم إذا عرف عن عالم بأنه يأخذ بهذه المقدمات ويدعو
إليها، ينشأ عنده نوع من التسليم لفتاوى هذا العالم من دون نقاش، وقد كنت ألحظ هذا
المزلق من نفسي: فعندما كنت أسمع فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً-
أجد اطمئنانا وقبولاً
لا أجده عندما أسمع فتوى للشافعي رحمه الله، أو لغيره من المجتهدين، وكأنهم يُفتون
بلا أدلة! وهذا هو موقف "السلفي" من فتاوى الشيخ ناصر - رحمه الله - حيث
يتقبلها باستسلام لوجود نفس المقدمات - المشار إليها - في ذهنه، وهو بعد ذلك يحاول
فرض الفتوى على الآخرين من خلال التقديم بهذه المقدمات، فتفعل فعلها في نفوسهم.
ولك أن تُسمًيَ
هذه الحالة بعقدة الدليل، أو برعب الدليل( ). هذا هو السبب - باختصار- الذي يؤدي
إلى التعامل مع فتوى الشيخ
بما يلي:1- بنظرة أحادية، أي
أنها الحق الذي لا مِرية
فيه، وغيرها خطأ لا صواب فيه!.
2- بأنها هي "الفتوى
السلفية".
(5) لقد أدى هذا الوضع إلى
قيام مذهب جديد، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، أو لنقل بكل الأركان التي لا بد
من توفرها لقيام مذهب، فهناك: إمام مجتهد، ومؤلفات، ومنهج أصولي، وفتاوى، ومقلدون
متعصبون! فماذا بقي؟! أليس هذا مذهباً؟.
.وحتى لا اُفهم
بصورة خاطئة فإنني أًبين
ما يلي:
لا اعتراض على أن الإمام
مجتهد، ولا على أن الفتاوى مهمَّة
ونافعة، ولا على أن المنهج الأصولي - في أغلبه - صحيح، ولا على أن الفتاوى
المستمدة من هذا المنهج علميَة(
) - في أغلبها-، إنما الاعتراض على المقلدين المتعصبين، وعلى المقلد الذي يرى
ويسمع ولا تعليق!.
(6) وعليه فلك أن تعجب، إذا
عرفت أن منهج أهل السنة العلمي الذي دعا إليه "السلفيون" منذ زمن - عدمُ
وضع أي عالم مهما بلغت درجته العلمية في منزلة من لا يُسأل
عما يُفتي،
أو عمَا
يُصحح ويُضعف
من الأحاديث. وإليك بعض الأمثلة الدالة على ما قلت: المثال الأول: يعرف طلاب
الحديث أن وصفَ
عالم لكتابه بالصحيح لا يعني أنه كذلك، ويعرف طلاب الحديث - لذلك عدم كفاية
الإحالة - عند التخريج - على كتاب وُسِم
بالصحة، أو على حديث صحًحه
أحد النقاد دون مراجعة. وهذه قاعدة أكد عليها "السلفيون" كثيراً،
وقد سِرنا
على ذلك مع أمثال أبي داود، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبَان...
حتى إذا استقرت القاعدة أو كادت، إذا بالكتبة "السلفيين" يُخرجون
الأحاديث في الحواشي بطريقة رفضوها في حق الترمذي وأقرانه، وقبلوها في حق الشيخ
ناصر فما ينفع القارئ أن يقول له كاتب "سلفي" صحيح الجامع، أو صححه
شيخنا؟! هذا مع أنَهم
لا يقبلون من مخرج قوله: حسنه الترمذي.
فإن قيل: ثبت أن تحسين الترمذيَ
لا َيطرِد
قلنا: وثبت أيضا أن تصحيح الشيخ لا يطرد.
المثال الثاني: ما معنىْ
أن يؤلف "السلفيون" كتباً
عارية من الدليل؟ ولماذا علي أن أقبلها، في الوقت الذي يحرم علي فيه أن أعتمد على
كتاب لعالمٍ
ليس "سلفياً"
خلى من الدليل؟ الجواب واضح إذا استحضرت عقدة الدليل: فالأول يقول لك: لقد اعتمدتُ
الدليلَ
الصحيح، ولقد تحريتُ
اتباع السنة، ولم أتعصب، ولم أقَلد
الرجال؟. الخ هذه العناوين التي ما أنْ
يقرأها المسلم حتى يَقبل
تبنًيات الكاتب "السلفي"
باستسلام مُطلق.
. ..المثال الثالث: حذر
العلماء سابقاً
من نمطٍ
من الطلاب الذين يعتمدون على الكتب وحَسْب،
وسمَوا من هذه حاله "بالصُحفي
". ومع تقدم وسائل الإتصال! نَبَتَ
طلاب من نمط جديد يعتمدون على الهاتف، لا مانع من تسمية من هذه حاله
"بالهاتفي "! فمن هذا "الهاتفي"؟ إنه الذي يتصل بالشيخ ناصر
ليستفتيه، فيجيبه الشيخ باختصار يتناسب مع الوقت المخصص للمكالمات، فإذا حاول
السائل التحقق والإضافة يضيق الشيخ به، ولا يسمح بالإطالة، وإلى هنا، لا حرج ولا
تثريب. لكن الحرج والتثريب في طيران ذلك.. "الهاتفي" بالفتوى لينشرها
على الملأ،
وهو لا يدري -لأنه "هاتفي
"- من أين أخذها الشيخ، ولا كيف استنبطها، وهل إذا كانت صالحة لنازلته، تصلح
لكل نازلة؟ وكيف يُحقق
مناطها؟ وتجده إذا سئل أجاب، وإذا نوقِش
ناقش، فإذا سألته من أين لك هذا؟ أجابك -وهو مسرور-: سألت الشيخ على الهاتف: ثم
بعد ذلك يقول لك أنا مجتهد، أنا مُتبع!
حبذا الصحف، وحبذا التقليد، في زمن الهواتف والتقييد
(7) هناك ظاهرة أخرى مهمة، وهي
صالحة لتُجعل
سبباً
من أسباب رفض كثير من الناس اتَباع
منهج السلف، وهي صالحة - كذلك - لتُلحَقَ
بكل المباحث، لأنها سبب في مخالفات "السلفيين" لأهل السنة. إنها ظاهرة
الضعف في الأصول، والفهم الدقيق الذي يفصل بين الامور. وهي ظاهرة شكى وحذر منها
العلماء قديماً
أعني علماء الحديث من أهل السنة، وليس غيرهم: فلقد شكى الخطيب البغدادي من صِنف
ينتسب إلى الحديث، ولا يتفقه فيصبح بسلوكه ومواقفه مثلبةً
للمدرسة التي ينتمي إليها.
قال رحمه الله: "وإنما
أسرعت ألسنةُ
المخالفين إلى الطعن على المحدثين لجهلهم أصول الفقه وأدلته في ضمن السنن، مع عدم
معرفتهم بمواضعها"( ).
وقال: "وليُعلم
أنَ الإكثار من كتب الحديث
وروايته لا يصير بها الرجل فقيها، إنما يتفقه باستنباط معانيه وإمعان التفكر
فيه"( ).
وقال: "ولا بد للمتفقه من
أستاذ يدرس عليه، ويرجع في تفسير ما أشكِل
إليه، ويتعرف منه طرق الاجتهاد، وما يُفَرق
به بين الصحة والفساد"( ).
وقد لاحظ الذهبي رحمه الله! ما
لاحظه الخطيب، فقال عن محدثي زمانه: "فغالبهم لا يفقهون"( ). ونحن إذ
اصطدمنا بما اصطدم به الخطيب والذهبي رحمهما الله، لا نزيد عن التحذير مما حذرا،
ونُسجل رفضنا السلوكات وفقهيات
صارت عنواناً
على مدرسة الحديث ومنهج السلف، فإن أحفاد أولئك( ) متوافرون يشوهون المدرسة،
ويسيئون للمنهج.
(8) ظاهرة أخيرة، وهي تصدر
الأصاغر للفتيا، وهجومهم على التصنيف! وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لن
يزال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا اًتاهم
عن أصاغرهم فقد هلكوا".
الملاحظ أن الإكثار من جمع كتب
الحديث، وحفظ الأحاديث الضعيفة، أصبحا دليلا -شبه وحيد - من أدلة تحقق العلم
والانتساب إليه، ولما كانت هذه ميسورة هذه الأيام أصبح الأصاغر مقصودين! وانتشرت..
"جرثومة" اسمها. "جرثومة" التحقيق والفهرسة، فما أن يدور "الفتى"
حول نفسه دورة أو دورتين حتى تصبح غاية طموحه، ومنتهى أربه تحقيق كتيب، أو إعداد
فهرس، وهو إن فعل ذلك أصبح من المشار إليهم بالعلم!.
لقد تحول الواجب الذي نادى
"السلفيون" به وهو (العلم قبل العمل)، إلى نوع من الاحتراف، وأصبح
التصنيف ممسوخاً
في شكل تحقيقات لكتيبات في مواضيع ممجوجة أنهكِت
بحثا، مع أن المكتبة الإسلامية تفتقر لأبحاث جادة تجبر النقص، وتغذًي
احتياجات الحياة المعاصرة؟. ولكن لأنها مواضيع يلزمها علماء حقيقيون، يتمّ
الهروب إلى الفهرسة واجترار الرسائل التي وَصَفتُ،
فهذه يستطيعها الفنيون( ).
(9) وأخيراً،
فقد كان المأمول أن يبقى "السلفيون" متمسكين بالشعارات التي رفعوها عن
التعصب المذهبي والغلو في الأئمة، وجمع شمل الأمَّة،
والتواضع العلمي، والتضلع بالعلم، وعند جعل باب من أبواب العلم دليلاً
- وحيداً-
على علم العالم... ولكنهم - وللأسف - تنكًبوا
كل ما رفعوه، فخالفوا منهج السلف.
والناظر في أحوالهم يلمس غلواً
في مشايخهم، وتعصبا لأقوالهم التي غدت مذهباً
يوالون ويعادون عليه،واستعلاءً
علميا بحيث لا عالم عندهم إلا الذي يقرأ بعض الكتب، ويتشدق بمصطلحات خاصة. إن
الأصل الأصيل من أصول أهل السنة جمعُ
شمل الأمة، وعدم تمزيقها إلى مذاهب وفرق، ولقد كان الظن "بالسلفيين"
تحقيق هذا الأصل، ولكنهم تحولوا إلى مذهب جديد، فرسخوا التشرذم، وعمقوا -
بممارساتهم المذهبية- الفُرقة.
فانطبق عليهم ما قاله الشاعر:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا
فشتتنا سعد فمالنا من سعد
"سفيان الثوري"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق