أما موضوع رفع الصوت بالذكر والجهر به ، بعد الصلوات المفروضة :
12 - فعن عبد الله ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم )
ويقول - رضي الله عنه - : ( كنت أعلم إذا انصرفوا في ذلك إذا سمعته ) رواه البخاري . ورواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي رواية للبخاري ( 806 ) ومسلم ( 583 ) عن ابن عباس قال : ( كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير ) .
فممن ذهب إلى رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة : الطبري وابن حزم وشيخ الإسلام وغيرهم .
أ - قال ابن حزم رحمه الله : " ورفع الصوت بالتكبير إثر كل صلاة حسن " انتهى من "المحلى" (3 /180)
ب - ونقل البهوتي في "كشاف القناع" (1/366) عن شيخ الإسلام ابن تيمية استحباب الجهر : " ( قال الشيخ [ أي : ابن تيمية ] : ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة " .
ج- قال الشيخ ابن باز : السنة رفع الصوت بالأذكار كلها بعد الصلوات، بعد الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر . . . فالمقصود أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع الصوت بالذكر وهكذا الصحابة بعد السلام، ولهذا سمعه الصحابة ونقلوا ذكره -صلى الله عليه وسلم- سمعوه يقول إذا سلَّم:
( أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) ، وسمعوه يقول:
لا إله إلا الله يعني إذا انصرف إلى الناس وأعطاهم وجهه يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
أخبر الصحابة عن النبي بهذا -عليه الصلاة والسلام- ثوبان أخبر عن بعض هذا، وابن الزبير عن بعض هذا، والمغيرة ابن شعبة كذلك،
كلهم أخبروا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمعونه يأتي بهذه الأذكار،
وهكذا التسبيح يشرع بعد كل صلاة من الخمس أن يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر -ثلاثاً وثلاثين مرة- سبحان الله والحمد لله والله أكبر يكررها ثلاثاً وثلاثين مرة.
النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من فعل ذلك وختمها بكلمة التوحيد يغفر له، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
(من سبح الله ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
هذا فضلٌ عظيم . . .
إذاً كونه بصوت عالٍ جماعة غير مشروع سماحة الشيخ؟
ج/ مشروع لكن وسط يسمعه من حولهم يسمعه من خارج المسجد أنهم سلموا ما فيه شيء متكلف، صوتاً عادياً مسموع . . . ) .
د - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو، عضو، نائب الرئيس، الرئيس
عبدالله بن قعود، عبدالله بن غديان، عبدالرزاق عفيفي، عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
س1: ماحكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة
ج1: يشرع رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المكتوبة، لما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
( إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام)
وأنه قال أيضا (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته)
ولو وجد أناس يقضون الصلاة سواء كانوا أفرادا أوجماعات وذلك في جميع الصلوات الخمس المفروضة ) .
هـ - صالح بن عبد الله الفوزان حفظه الله
ما قولك في الجهر بالدعاء والذكر مطلقًا، وبعد الصلاة خاصة؟ وهل يكون الدعاء والذكر جهرًا أم سرًّا أم بينهما؟ . . .
وأما الذكر بعد الصلاة؛ فإنه من السنة الجهر به، حسبما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الصحابة كانوا يجهرون بالذكر بعد الصلاة؛ بالتهليل والاستغفار بعد السلام
(الاستغفار ثلاثًا)، ثم: (اللهم إنك أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)، (لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد)... إلى آخر هذه الأذكار الواردة؛ يجهر بها ) .
وقد ردّ الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، رحمه الله ، على شبهات المعترضين ، شبهة شبهة ، فقد :
و - سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، رحمه الله ، عن حكم المسألة فأجاب :
" الجهر بالذكر بعد الصلوات المكتوبة سنة ، دل عليها ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته ) . ورواه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا قضى الصلاة : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..) الحديث .
ولا يُسمع القول إلا إذا جهر به القائل .
وقد اختار الجهر بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من السلف والخلف ، لحديثي ابن عباس ، والمغيرة رضي الله عنهم .
والجهر عام في كل ذكر مشروع بعد الصلاة سواء كان تهليلا ، أو تسبيحا ، أو تكبيرا ، أو تحميدا لعموم حديث ابن عباس ،
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم التفريق بين التهليل وغيره بل جاء في حديث ابن عباس أنهم يعرفون انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير ،
وبهذا يُعرف الرد على من قال لا جهر في التسبيح والتحميد والتكبير .
وأما من قال : إن الجهر بذلك بدعة ، فقد أخطأ فكيف يكـون الشيء المعهـود في عهـد النبي صلى الله عليه وسلم بـدعة ؟! قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله :
( ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وتقريره ،
وكان الصحابة يفعلون ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد تعليمهم إياه ، ويقرهم على ذلك فعلموه بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم ، وعملوا وأقرهم على ذلك العمل بعد العلم به ولم ينكره عليهم ) .
وأما احتجاج منكر الجهر بقوله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ) .
فنقول له : إن الذي أٌمِر أن يذكر ربه في نفسه تضرعا وخيفة هو الذي كان يجهر بالذكر خلف المكتوبة ،
فهل هذا المحتج أعلم بمراد الله من رسوله ،
أو يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم المراد ولكن خالفه ،
ثم إن الآية في ذكر أول النهار وآخره ( بالغدو والآصال ) وليست في الذكر المشروع خلف الصلوات ،
وقد حمل ابن كثير في تفسيره الجهر على الجهر البليغ .
وأمــا احتجاج منكر الجهر أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم ...) الحديث .
فإن الذي قال : ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم ) هو الذي كان يجهر بالذكر خلف الصلوات المكتوبة ،
فهذا له محل ، وذاك له محل ، وتمام المتابعة أن تستعمل النصوص كل منها في محله .
ثم إن السياق في قوله : ( أربعوا على أنفسكم ) يدل على أنهم كانوا يرفعون رفعا بليغا يشق عليهم ويتكلفونه ،
ولهذا قال : ( أربعوا على أنفسكم ) . أي : ارفقوا بها ولا تجهدوها ،
وليس في الجهر بالذكر بعد الصلاة مشقة ولا إجهاد
أما من قال : إن في ذلك تشويشا .
فيقال له : إن أردت أنه يشوش على من لم يكن له عادة بذلك ، فإن المؤمن إذا تبين له أن هذا هو السنة زال عنه التشويش ،
وإن أردت أنه يشوش على المصلين ، فإن المصلين إن لم يكن فيهم مسبوق يقضي ما فاته فلن يشوش عليهم رفع الصوت كما هو الواقع ، لأنهم مشتركون فيه ،
وإن كان فيهم مسبوق يقضي ، فإن كان قريبا منك بحيث تشوش عليه فلا تجهر الجهر الذي يشوش عليه لئلا تلبس عليه صلاته ، وإن كان بعيدا منك فلن يحصل عليه تشوش بجهرك .
وبما ذكرنا يتبين أن السنة رفع الصوت بالذكر خلف الصلوات المكتوبة ، وأنه لا معارض لذلك لا بنص صحيح ولا بنظر صريح " انتهى .
وقال أيضا : " لأن الأصوات إذا اختلطت تداخل بعضها في بعض فارتفع التشويش ،
كما تشاهد الآن في يوم الجمعة الناس يقرأون كلهم القرآن يجهرون به ويأتي المصلي ويصلي ولا يحدث له تشويش ".
وقال رحمه الله : " فالمهم أن القول الراجح : أنه يسن الذكر أدبار الصلوات على الوجه المشروع ، وأنه يسن الجهر به أيضا - أعني رفع الصوت –
ولا يكون رفعا مزعجا فإن هذا لا ينبغي ، ولهذا لما رفع الناس أصواتهم بالذكر في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في قفولهم من خيبر قال : ( أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم ) ،
فالمقصود بالرفع ، الرفع الذي لا يكون فيه مشقة وإزعاج " انتهـــــــــــى من "مجمـــوع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (13/247، 261) ) .
وأخيراً قال الشيخ محمد بن صالح المنجد :
( قد تبين مما ذكرنا أن الأمر فيه سعة ، وأن الخلاف في المسألة قديم ، ولعل الراجح هو ما ذكره الشيخ ( يقصد الشيخ ابن عثيمين ) رحمه الله من رفع الصوت ، لكن يكون رفعا من غير إزعاج .
وأما من أشرت إليهم من العوام وكبار السن ، فإنه سيعتادون ذلك بعد مدة ، وقد يكون من المناسب قراءة كلام الشيخ عليهم ، ليعلموا السنة ، ويرغبوا في تطبيقها .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .
والله أعلم ) .
إبن تيمية وابن حزم والطبري وابن باز والعثيمين وسليمان بن سحمان ومحمد بن صالح المنجد وعبدالله بن قعود وعبدالله بن غديان وعبدالرزاق عفيفي وصالح الفوزان . . . وغيرهم كلهم يقولون : رفع الصوت بالذكر بعد الصلوات المفروضة ( الصبح ، الظهر ، العصر ، المغرب ، العشاء ) : سنة !
فهل الذين يدّعون اتّباع الكتاب والسنة والسلف الصالح ، ويعتبرون هؤلاء العلماء ، هم علماء وأئمة السنة ، هل يأخذون بأقوالهم هذه التي نقلناها عنهم ؟ أم يقولون : عنزة ولو طارت ؟ !
فالقصد من كل هذا الكلام ، هو أن نبيّن بوضوح ، أنّ هناك مَن يتزايدون على المسلمين ، باسم الكتاب والسنة والسلف الصالح ، وهُم أبعد ما يكونون عن ذلك ! !
وعند المناقشة ، أو المحاورة ، أو الدعوة لجماعتهم ، يدّعون الإلتزام بالكتاب والسنة وطريق السلف الصالح !
وذلك زخرفة لأقوالهم ، ولجماعتهم ، وتجميلها ، والدعاية لها ، وتشويهاً لطريق مخالفيهم ، وتنفيراً لهم !
وعند الإختلاف مع المسلمين ، والإحتجاج عليهم ، إذا بهم يقولون : قال فلان ، وقال علان !
أي : يحتجون – عملياً – بأقوال الرجال ، واجتهاداتهم ! ! وينسون الكتاب والسنة والسلف الصالح ؟ !
وفي أحيان كثيرة ، لا يلتزمون حتى بأقوال علمائهم ، طالما كانت تلك الأقوال تحث على الأخوة والألفة بين المسلمين !
أما الأقوال التي تفرّق ، وتبعث على الخلاف والحقد ، والقطيعة بين المسلمين فيطيرون بها !
(سادساً) / : هناك فرق بين الحُكم وبين الفتوى .
فالحكم ثابت أبد الدهر لا يتغيّر ، طالما جاء في نصوص الكتاب والسنة .
فمن أراد أن يغيّر الحكم فقد ضلّ ضلالاً مبيناً ، وهو من أهل النّار !
يقول تعالى : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) ([113]) .
ويقول تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ) ([114]) .
[ فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه . وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد ] ([115]) .
فالحكم ثابت لحالات المكلّف الإعتيادية ، لا يتعلق بالزمان ولا المكان ، ولا يتعلق بالظروف الإستثنائية له .
ولتوضيح المعنى نستطيع أن نقول : إنّ الحُكم هو أشبه ما يكون بالعزيمة .
و [ العزيمة تطلق على الأحكام الشرعية التي شرعت لعموم المكلفين ، دون نظر إلى ما قد يطرأ عليهم من أعذار ،
فهي أحكام أصلية ، شرعت ابتداءً لتكون قانوناً عاماً لجميع المكلفين في أحوالهم العادية ،
ولم ينظر في تشريعها إلى ضرورة أوعذر كالصلاة وسائر العبادات .
وهي تتنوع إلى أنواع الحكم التكليفي : من وجوب وندب وكراهة وإباحة ، ولا تطـلــق عنــد المحققيـن إلا إذا قابلتها رخصة ] ([116]) .
أما الفتوى فهي إنزال الحكم وتطبيقه على الواقع والأشخاص ، حسب الزمان والمكان ، وأحوالهم وظروفهم .
ونستطيع أن نقول : أنّ الفتوى في بعض الأحيان تشبه – إلى حد بعيد – الرخصة .
والرخصة [ هي الأحكام التي شرعها الشارع ، بناءً على أعذار المكلفين ، ولولاها لبقي الحكم الأصلي ،
فهي حكم استثنائي من أصل كلّي ،
وسبب الاستثناء ملاحظة الضرورات والأعذار دفعاً للحرج عن المكلف ،
وهي في أكثر الأحوال تنقل الحكم الأصلي من مرتبة اللزوم إلى مرتبة الإباحة ،
وقد تنقله إلى مرتبة الندب أو الوجوب ] ([117]) .
يقول الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه . . . ) ([118]) .
فهـذا حكم الله تعالى في تحريم هذه اللحوم ، تحريمـاً قاطعـاً ، لا شك فيه ولا خلاف : الميتة ، الدم ، لحم الخنزير وما ذُبِح لغير الله تعالى .
فلا يجوز أكل هذه اللحوم ، لأن الله تعالى قد حرّمها ، بنص صريح واضح لا لبس فيه .
ولكنّ الله تعالى يقول بعد هذا التحريم ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) ([119]) .
فعند الإضطرار لا بأس بأكلها ، بحسب الحاجة لا زيادة عليها [ لأن حفظ الحياة ضروري ، فأباح الشارع الحكيم أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس ] ([120]) .
فهذه الشريعة الغراء قد جاءت من أجل مصلحة الإنسان ، وقد حرّم الله تعالى تلك اللحوم حتى لا تضرّ بصحته .
فإذا وقـع الإنسان في ظرف عصيب ، وشارف على الموت ، بسبب الجوع الشديد ، أباح الله له تلك المحرمات ؛ أن يتناول منها بحسب حاجته الضرورية لا أكثر ، لانقاذ نفسه من الهلاك .
بل تُرفع الحرمة وتزال في تلك الحالة ، فلا يبقى حرام !
ولا يجوز له أن يضحي بحياته خوفا على صحته !
فإذا لم يتناول تلك اللحوم ، ومات من جراء ذلك ، دخل النار ، كما قال الإمام أحمد ، رحمه الله .
وفي تلك الحالة – كما ذكرنا – يرتفع التحريم .
بل قالوا يتلاشى الضرر على الصحة ، في الأخذ بالكيفية التي حدّدها الشارع الحكيم !
فإنّ المعدة إذا كانت فارغة تماماً – كما في الجوع الشديد – فلا تضره تلك اللحوم ، بالكمية التي أباحها الشارع للمضطر ، فإنّ المعدة تسحقها تماماً في تلك الحالة ، ولا تُبقي من أضرارها شيء .
والرُخَص التي شرعها الله تعالى ، أنواع :
[ أولاً – إباحة المحرم عند الضرورة : كالتلفظ بكلمة الكفـر مع اطمئنـان القلـب إذا أُكره على ذلك بالقتل ، قال تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان ) ([121]) ،
ومثله : أكل الميتة وشرب الخمر ، لأن حفظ الحياة ضروري ، فأباح الشارع الحكيم أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخشى فيه الهلاك ،
ومنه أيضاً : إتلاف مال الغير عند الإكراه عليه إكراهاً يؤدي إلى تلف النفس أو عضو منها .
ثانياً – إباحة ترك الواجب ،
مثل : الفطــر في رمضــان للمسافر والمريض دفعاً للمشقة . . .
ثالثاً – تصحيح بعض العقود التي يحتاجها الناس ، وإن لم تجر على القواعد العامة ،
مثل : بيع السلم ، فقد أباحه الشارع الحكيم مع أنه بيع معدوم ، وبيع المعدوم باطل ،
ولكن أجازه الشـارع استنثاءً من القواعد العامة في البيوع ، تخفيفاً وتيسيراً على المكلفين ،
ومنـها أيضــاً : عقــد الاسـتصنــاع ، أبـاحه الشارع مع أنه بيع معدوم لحــاجة الناس إليه ، وفي منعهم منه حــرج وضيـق ] ([122]).
فالمقصود أن الله تعالى قد أنزل هذا الشرع لمصلحة الإنسان .
فـ[ الشَّرِيعَة الإسلامية مَبْنِيَّة على تَحْقِيق مصَالح الْعباد فِي المعاش والمعاد ،
سَوَاء مَا أمرتْ بِهِ من فَرَائض ومندوبات أَو مَا نهتْ عَنهُ من مُحرمَات ومكروهات فَهِيَ فِي كل ذَلِك تهدف إِلَى تَحْقِيق مَقَاصِد ومصالح وَحكم ،
يَقُول الإِمَام ابْن الْقيم رَحمَه الله تَعَالَى : " ... فَإِن الشَّرِيعَة مبناها وأساسها على الحكم ومصـالح الْعباد ، فِي المعاش والمعاد ، وَهِي عدل كلهَا ، وَرَحْمَة كلهَا ، ومصالح كلهَا ، وَحِكْمَة كلهَا ،
فَكل مَسْأَلَة خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلَى ضدها ، وَعَن الْمصلحَة إِلَى الْمفْسدَة ، وَعَن الْحِكْمَة إِلَى الْعَبَث فليستْ من الشَّرِيعَة ، وإنْ أُدخلتْ فِيهَا بالتأويل ،
فالشريعة عدل الله بَين عباده ، وَرَحمته بَين خلقه ، وظله فِي أرضه وحكمته الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى صدق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتم دلَالَة وَأصْدقهَا ... " ([123]) .
فالشريعة إِذاً لَيست تعبّدية تحكّمية تحلّل وتحرّم دون أَن تقصد إِلَى شَيْء وَرَاء أمرهَا ونهيها ، وحظرها وإباحتها ،
وَبِعِبَارَة أُخْرَى : إِن أَحْكَام الشَّرِيعَة الإسلامية - فِي جُمْلَتهَا - معللة عِنْد الجماهير من أهل الْعلم ([124]) وَإِن لَهَا مَقَاصِد فِي كل مَا شرعتْه
وَإِن هَذِه الْمَقَاصِد وَالْحِكَم معقولة ومفهومة فِــي الْجُمْلَة ، بل معقولة ومفهومة تَفْصِيلًا إِلَّا فِي بعض الْأَحْكَام التعبدية الْمَحْضَة ([125]) الَّتِي يصعب تعليلها تعليلاً مفصّلاً ظَاهرا معقولاً
مثل مَا ورد فِي الْأَحْكَام والعبادات من تحديدات وهيئات ومقادير كعدد الصَّلَوَات وَعدد الرَّكْعَات فِي كل صَلَاة وَجعل الصّيام شهرا وَفِي شهر معِين ،
وَكَذَا بعض تفاصيل الْحَج وَأَحْكَام الْكَفَّارَات ومقاديرها والعقوبات المحددة (الْحُدُود) ، من حَيْثُ نوعها ومقاديرها
وَعدد الْأَشْهر فِي الْعدة وَالذّبْح فِي الْمحل الْمَخْصُوص فِي الْحَيَوَان الْمَأْكُول وَغير ذَلِك مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَلم نطلع عَلَيْهِ .
فَهَذِهِ الْأَحْكَام التعبدية يصعب تعليلها بالتفصيل - وَإِن كانتْ هِيَ معللة فِي أَصْلهَا وجملتها .
قَالَ الشاطبي : " وَقد عُلم أَن الْعِبَادَات وُضعت لمصَالح الْعباد فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة على الْجُمْلَة - وَإِن لم يُعلم ذَلِك على التَّفْصِيل ، وَيصِح الْقَصْد إِلَى مسبباتها - ثَمَرَتهَا وفوائدها - الدُّنْيَوِيَّة والأخروية على الْجُمْلَة " ([126]) .
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِي بعد أَن عرض آراء الْعلمَاء فِيمَا يُعلل وَمَا لَا يُعلل من الْأَحْكَام وَذكر نماذج لتعليلاتهم ، وَفِي معرض ذكر تقسيمه الخماسي للعلل والمقاصد الشَّرْعِيَّة . قَالَ :
" وَالْقسم الْخَامِس : هُوَ مَا لَا يظْهر لَهُ تَعْلِيل وَاضح وَلَا مقصد محــدد ، لامن بَاب الضرورات ، وَلَا من بَاب الْحَاجَات ، وَلَا من بَاب المكرمات - أَي التحسينات – قَالَ : وَهَذَا ينْدر تصَوره جدا " ([127])
ثمَّ مثل لَهُ بالعبادات الْبَدَنِيَّة الْمَحْضَة ، لكنه سرعَان مَا نبه على أَن هَذِه الْعِبَادَات يُمكن تعليلها تعليلاً إجمالياً ،
وَهُوَ أَنَّهَا تمرن الْعباد على الانقياد لله تَعَالَى
وتجديد الْعَهْد بِذكرِهِ مِمَّا ينْتج النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر ويخفف من المغالاة فِي اتِّبَاع مطَالب الدُّنْيَا
وَيذكر بالاستعداد للآخرة ... "
قَالَ : " فَهَذِهِ أُمُور كُلية لَا ننكر على الْجُمْلَة أَنَّهَا غَرَض الشَّارِع فِي التَّعَبُّد بالعبادات الْبَدَنِيَّة ، وَقد أشعر بذلك بنصوص من الْقُرْآن الْعَظِيم فِي مثل قَوْله تَعَالَى : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ([128]) .
وَقَالَ ابْن الْقيم : " وَبِالْجُمْلَةِ فللشارع فِي أَحْكَام الْعِبَادَات أسرار لَا تهتدي الْعُقُول إِلَى إِدْرَاكهَا على وَجه التَّفْصِيل ، وإنْ أدركتْها جملَة " ([129]) .
إِن الْعِبَادَات فِي الْإِسْلَام ليستْ مُجَرّد مظَاهر وشعائر وطقوس يُؤَدِّيهَا الْمُسلم لمُجَرّد أَنَّهَا مَفْرُوضَة عَلَيْهِ من ربه فَحسب ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الإذعان والامتثال لأوامر الله وَإِظْهَار الْعُبُودِيَّة لَهُ ، ولاشــك أَن هَذَا مَطْلُوب ومقصود على الْوَجْه الْأَكْمَل ،
وَلَكِن الْعِبَادَات - إِلَى جَانب هَذَا - تنطوي على غايات نبيلة وَحكم جليلة
إِذا قَامَ العَبْد بهَا على وَجههَا خَالِصَة لله تَعَالَى اجتنى مِنْهَا ثَمَرَات كَرِيمَة وفوائد عَظِيمَة
من تَطْهِير النَّفس وتزكيتها وطهارة الْقلب وسلامته مِمَّا ران عَلَيْهِ
وتنوير البصيرة وانشراح الصَّدْر واطمئنان الْقلب ، ومحبة الله وَرضَاهُ ومحبة عباد الله الصَّالِحين ،
وَصَلَاح الدُّنْيَا وفلاح الْآخِرَة
إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْرَار والأنوار وَالْخَيْر الْكثير والنفع الوفير مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ حصر،
فَيُصْبِح بعد ذَلِك عبدا مثالياً ربانياً فِي أنوار مشرقة بعد أَن كَانَ تائهاً فِي ظلمات حالكة كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } ([130])
وَيكون - إِلَى جَانب كل مَا تقدم - قد حقق الْعُبُودِيَّة الْمَحْضَة لله تَعَالَى وَتَحْقِيق الْعُبُودِيَّة الْخَالِصَة لله غَايَة الغايات ومصلحة الْمصَالح وحِكمة الحِكم وَغَايَة مَا تسمو إِلَيْهِ الهمم ، وأسمى الْمَقَاصِد وأنبلها عِنْد أولي الْأَلْبَاب .
كَمَا أَن لَهَا حكما وأسراراً أُخْرَى لَا يُدْرِكهَا الْعقل الإنساني الْقَاصِر
لِأَن لِلْعَقْلِ حدا يَنْتَهِي إِلَيْهِ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَمن يُحِيط بِعلم الله وحكمته ؟ { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ } ([131])
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } ([132]) .
نخلص من هَذَا إِلَى أَن أَحْكَام الشَّرِيعَة كلهَا معللة - فِي الْجُمْلَة - وَأَن لَهَا غايات نبيلة وَحكما جليلة
قَالَ ابْن الْقيم : " لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة حكم إِلَّا وَله حِكْمَة وَإِن لم يَعْقِلهَا كثير من النَّاس أَو أَكْثَرهم" ([133]) .
وَنَصّ الْآمِدِيّ على أَنه لَا يجوز القَوْل بِوُجُود حكم إِلَّا لعِلَّـة : " إِذْ هُوَ خلاف إِجْمَاع الْفُقَهَاء علـى أَن الحكـم لَا يَخْلُو مـن عِلّـة " ([134]) .
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب : " ... فَإِن الْأَحْكَام شرعت لمصَالح الْعباد بِدَلِيل إِجْمَاع الْأمة " ([135]) .
وَقَالَ ابْن الْقيم : " ... وَالْقُرْآن وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مملوآن من تَعْلِيل الْأَحْكَام بالحكم والمصالح وتعليل الْخلق بهما،
والتنبيه على وُجُوه الحكم الَّتِي لأَجلهَا شرع تِلْكَ الْأَحْكَام، ولأجلها خلق تِلْكَ الْأَعْيَان ،
وَلَو كَـــانَ هَــذَا فِـــي الْقُــرْآن وَالسّنة نَحْو مــائَة مَوضِــع أَو مِـــائَتَيْنِ لسقنــاهـا وَلَكِن يزِيد على ألف مَوضِع بطرق متنوعة " ([136])
ثمَّ نبه على عدد كثير من صِيغ التَّعْلِيل المستعملة فِي الْقُرْآن .
ويؤكد على هَذَا الاتجاه الإِمَام عز الدّين بن عبد السَّلَام موضحاً أَن الشَّرِيعَة كلهَا معللة بجلب الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد، سَوَاء مِنْهَا مَا وَقع النَّص على تَعْلِيله أَو مَا لم ينص عَلَيْهِ ،
فَمَا نَص على تَعْلِيله فِيهِ تَنْبِيه على مَا لم ينص عَلَيْهِ
يَقُول : " والشريعة كلهَا مصَالح ، إِمَّا تدرأ مفاسد أَو تجلب مصَالح ،
فَإِذا سَمِعت الله يَقُول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَتَأمل وَصيته بعد ندائه فَلَا تَجِد إِلَّا خيرا يحثّك عَلَيْهِ أَو شرا يزجرك عَنهُ ، أَو جمعا بَين الْحَث والزجر ،
وَقد أبان فِي كِتَابه مَا فِي بعض الْأَحْكَام من الْمَفَاسِد حثاً على اجْتِنَاب الْمَفَاسِد ، وَمَا فِي بعض الْأَحْكَام من الْمصَالح حثاً على إتْيَان الْمصَالح" ([137])
ويؤكد فِي مَوضِع آخر وبجلاء أَكثر وأسلوب أوضح على هَذَا الْمَعْنى فَيَقُول :
" التكاليف كلهَا رَاجِعَة إِلَى مصَالح الْعباد فِي دنياهم وأخراهم وَالله غَنِي عَن عبَادَة الْكل ، لَا تَنْفَعهُ طَاعَة الطائعين وَلَا تضره مَعْصِيّة العاصين ... " ([138]) .
وَقَالَ الشاطبي : " إِن وضع الشَّرَائِع إِنَّمَا هُوَ لمصَالح الْعباد فِي العاجل والآجل مَعًا " ([139]) .
وَقَالَ أَيْضا: "إِذاً ثَبت أَن الشَّارِع قد قصد بالتشريع إِقَامَة الْمصَالح الأخروية والدنيوية وَذَلِـكَ علـى وَجـه لَا يخْتـل لَهَـا بِـهِ نظام ، لَا بِحَسب الْكل وَلَا بِحَسب الْجُزْء وَسَوَاء فِي ذَلِك مَا كَانَ من قبيل الضروريات أَو الحاجيات أَو التحسينات " ([140]) .
وَقد كرر هَذَا الْمَعْنى فِي كِتَابه كثيرا.
وَقد انتقد الإِمَام الشاه ولي الله الدهلوي منكري التَّعْلِيل ، وَأنكر عَلَيْهِم ظنهم أَن الشَّرِيعَة ليستْ سوى تعبد واختبار ، لَا اهتمام لَهَا بِشَيْء من الْمصَالح قَائِلا :
" وَهَذَا ظن فَاسد تكذبه السّنة وَإِجْمَاع الْقُرُون الْمَشْهُود لَهَا بِالْخَيرِ ... " ([141]) ] ([142]) .
[ الْأَدِلَّة على أَن أَحْكَـام الله تَعَالَى معللة بالحِكَم والمصالح :
وَقد دلّت أَدِلَّة كَثِيرَة على أَن أَحْكَام الشَّرِيعَة مَبْنِيَّة على مصَالح الْعباد من صَلَاح المعاش والمعاد ، مِنْهَا :
1 - النُّصُوص الْكَثِيرَة الدَّالَّة على تَعْلِيل أَفعاله تَعَالَى وَأَحْكَامه ، وَهِي من الْكَثْرَة فِي الْكتاب وَالسّنة بِحَيْثُ يتَعَذَّر إحصاؤها ، مِنْهَا على سَبِيل الْمِثَال :
قَوْله تَعَالَى فِي الصَّلَاة : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر } ([143]) .
وَقَوله سُبْحَانَهُ فِي الزَّكَاة : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ([144]) .
وَقَوله فِي الْحَج: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجّ ... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } ([145]) .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه } ([146])
وَقَالَ عز وَجل : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ([147])
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج ... وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء" ([148]) .
وَقَالَ فِي أَربع قبل الظّهْر : " إِنَّهَا سَاعَة تفتح فِيهَا أَبْوَاب السَّمَاء فَأحب أَن يصعد لي فِيهَا عمل صَالح " ([149]) . . .
قَالَ الإِمَام الشاطبي رَحمَه الله : " وَالْمُعْتَمد إِنَّمَا هُوَ أَنا استقرينا من الشَّرِيعَة أَنَّهَا وضعت لمصَالح الْعباد استقراء لَا يُنَازع فِيهِ الرَّازِيّ وَغَيره " إِلَى أَن قَالَ :
" وَإِذا دلّ الاستقراء على هَذَا ، وَكَانَ فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة مُفِيدا للْعلم فَنحْن نقطع بِأَن الْأَمر مُسْتَمر فِي جَمِيع تفاصيل الشَّرِيعَة " ([150]) .
قَالَ الْعَضُد الإيجي : " وَظَاهر الْآيَة التَّعْمِيم ، أَي يفهم مِنْهُ مُرَاعَاة مصالحهم فِيمَا شرع لَهُم من الْأَحْكَام كلهَا،
إِذْ لَو أرسل بِحكم لَا مصلحَة لَهُم فِيهِ لَكَانَ إرْسَالًا لغير الرَّحْمَة ، لِأَنَّهُ تَكْلِيف بِلَا فَائِدَة ، فَخَالف ظَاهر الْعُمُوم " ([152]) .
3 - وَمن السّنة : قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : " الْخلق كلهم عِيَال الله فأحبهم إِلَى الله أنفعهم لِعِيَالِهِ " ([153])
فقد أوضح الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن منَاط قرب الْإِنْسَان من الله تَعَالَى هُوَ مدى تَقْدِيمه النَّفْع والخدمة لِعِبَادِهِ ، وَذَلِكَ برعاية مصالحهم وتوفير مَا بِهِ سعادتهم الْحَقِيقِيَّة .
وَإِذا كَانَ ميزَان مَا يتَقرَّب بِهِ الْإِنْسَان إِلَى الله فِي أَعماله هُوَ : خدمَة مصَالح الْعباد ، فأحرى أَن يكون هَذَا الْمِيزَان هُوَ نَفسه الْمُحكم فِي نظام الشَّرِيعَة الإسلامية نَفسهَا ([154]) .
فُقَهَاء الصَّحَابَة ينظرُونَ إِلَى مَقَاصِد الشَّرِيعَة :
وَمن نظر إِلَى مَا أثر عَن فُقَهَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُم مثل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَابْن مَسْعُود ومعاذ بن جبل وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَغَيرهم وَنظر إِلَى فقههم وتأمله بعمق تبين لَهُ أَنهم كَانُوا ينظرُونَ إِلَى مَا وَرَاء الْأَحْكَام من علل ومصالح وَمَا تحمله الْأَوَامِر والنواهي من حكم ومقاصد ،
فَإِذا أفتوا فِي مَسْأَلَة أَو حكمُوا فِي قَضِيَّة لم يغبْ عَن بالهم مَقَاصِد الشَّرِيعَة وأهدافها ،
وَلم يهدروا هَذِه الْمَقَاصِد الْكُلية فِي غمرة الحماس للنصوص الْجُزْئِيَّة ، وَلَا الْعَكْس ،
بل ربطوا الجزئيات بالكليات وَالْفُرُوع بالأصول ، وَالْأَحْكَام بالمقاصد ([155]) .
فَهَذَا معَاذ - رَضِي الله عَنهُ - أرْسلهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن معلما وقاضياً وَأمره أَن يَأْخُذ الزَّكَاة من أغنيائهم ليردها إِلَى فقرائهم ، حَيْثُ قَالَ لَهُ :
" وأعلمهم أَن الله افْترض عَلَيْهِم الصَّدَقَة فِي أَمْوَالهم ، تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد على فقرائهم وَإِيَّاك وكرائم أَمْوَالهم ، وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فانه لَيْسَ بَينهَا وَبَين الله حجاب " ([156]) .
وَكَانَ فِيمَا قَالَه لَهُ أَيْضا : " خُذ الْحبّ من الْحبّ ، وَالشَّاة من الْغنم وَالْبَعِير من الْإِبِل ، وَالْبَقَرَة من الْبَقر " ([157])
وَلَكِن معَاذًا - رَضِي الله عَنهُ - لم يجمد على ظَاهر الحَدِيث بِحَيْثُ لَا يَأْخُذ من الْحبّ إِلَّا الْحبّ ... الخ
وَلَكِن نظر إِلَى الْمَقْصد من أَخذ الزَّكَاة ، وَهُوَ التَّزْكِيَة والتطهير للغني وسد خلة الْفُقَرَاء من الْمُؤمنِينَ فَلم ير بَأْسا من أَخذ قيمَة الْعين الْوَاجِبَة فِي الزَّكَاة ،
كَمَا ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه مُعَلّقا بِصِيغَة الْجَزْم ،
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بِسَنَدِهِ عَن طَاوس عَن معَاذ أَنه قَالَ لأهل الْيمن : " ائْتُونِي بخميس أَو لبيس آخذه مِنْكُم مَكَان الصَّدَقَة فَإِنَّهُ أَهْون عَلَيْكُم وَخير للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ " ([158]) .
وَقد ذهب إِلَى هَذَا أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد - فِي غير زَكَاة الْفطر - وَهُوَ الظَّاهِر من مَذْهَب البُخَارِيّ فِي صَحِيحه ([159]) .
وَمن ذَلِك : جمع الصَّحَابَة الْقُرْآن الْكَرِيم ثمَّ كِتَابَة الْمَصَاحِف وَجمع النَّاس على مصحف وَاحِد ، دفعا لمفسدة اخْتِلَاف النَّاس وتفرقهم وتنازعهم وَرُبمَا تَكْفِير بَعضهم بَعْضًا الَّتِي هِيَ أعظم من مصلحَة التورع بإبقاء الْحَال فِي ذَلِك على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عَهده - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمن ذَلِك - أَيْضا - اقْتِدَاء ابْن مَسْعُود برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تخول النَّاس بِالْمَوْعِظَةِ - كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي وَائِل - قَالَ:
كَانَ عبد الله يُذَكّر النَّاس فِي كل خَمِيس : فَقَالَ لَهُ رجل : يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن لَوَدِدْت أَنَّك ذكّرتنا كل يَوْم قَالَ : أما إِنَّه يَمْنعنِي من ذَلِك أَنِّي أكره أَن أَملّكُم ، وَإِنِّي أتخولّكم بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَخَوَّلنَا بهَا مَخَافَة السَّآمَة علينا ([160])
وَمن هَذَا الْبَاب - أَيْضا - مَا حُكيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - أَن ابْنه عبد الْملك قَالَ لَهُ : "مَالك لَا تنفذ الْأُمُور؟ فوَاللَّه مَا أُبَالِي لَو أَن الْقُدُور غلت بِي وَبِك فِي الْحق ؟ " قَالَ :
" لَا تعجل يَا بني ، فَإِن الله ذمّ الْخمر فِي آيَتَيْنِ وحرمها فِي الثَّالِثَة ، وَإِنِّي أَخَاف أَن أحمل الْحق على النَّاس جملَة فيدمغوه جملَة وَيكون منا ذَا فتْنَة " ([161]) .
وَمن ذَلِك مَا قَرَّرَهُ الْعلمَاء فِي بَاب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر من اعْتِبَار الْمصَالح والمفاسد فِي ذَلِك والحرص على تقديرها قبل الهجوم بِالْأَمر أَو الْإِنْكَار :
قَالَ الإِمَام ابْن تَيْمِية - رَحمَه الله - فِي رِسَالَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر :
" وَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر من أعظم الْوَاجِبَات والمستحبات ، ولابد أَن الْمصلحَة فِيهَا راجحة على الْمفْسدَة إِذْ بِهَذَا بعثت الرُّسُل وَنزلت الْكتب وَالله لَا يحب الْفساد ، بل كل مَا أَمر الله بِهِ هُوَ صَلَاح وَقد أثنى الله على الصّلاح والمصلحين وَالَّذين ءامنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ، وذم الْفساد والمفسدين فِي غير مَوضِع ،
فَحَيْثُ كَانَت مفْســـــدَة الْأَمـــــر وَالنَّهْي أعظم من مصْلحَته لم يكن مِمَّا أَمر الله بِهِ ، وَإِن كَانَ قد ترك وَاجِبا وَفعل محرما ... " ([162]) . . .
مصَالح مَنْصُوص عَلَيْهَا وَأُخْرَى غير مَنْصُوص عَلَيْهَا :
وَإِذا تقرر هَذَا فَإِن الْمصلحَة أَو الْحِكْمَة قد تكون مَنْصُوصا عَلَيْهَا فِي كَلَام الشَّارِع وَقد لَا تكون مَنْصُوصا عَلَيْهَا فيهتدي إِلَيْهَا الْعَالم بِنور الله : بالفهم الَّذِي يؤتاه الرجل فِي الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ المعنيّ بالحكمة فِي قَوْلـه سُـبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ([163]) يَعْنِي :
- وَالله أعلم - الْإِصَابَة فِي الْفَهم والسداد فِي القَوْل وَالْعَمَل وحسبك بهما نعْمَة .
فَمن أَمْثِلَة الْقسم الأول :
- شرعت الصَّلَاة لذكر الله تَعَالَى . قَالَ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } ([164]) .
- شرع الْجِهَاد لإعلاء كلمة الله وَإِزَالَة الْفِتْنَة كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِـلُـوهُمْ حَتَّـى لَا تَكُـونَ فِتْنَـةٌ وَيَكُـونَ الدِّيـنُ كُلُّـــهُ لِلَّـــهِ }([165]) .
- شــرع الْقصـاص زاجراً عَن الْقَتْـل كَمَا قَالَ جلّ وَعلا : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }([166])
- حرمت الْخمر لِأَنَّهَا تصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْـسِــرِ وَيَصُـدَّكُـمْ عَـنْ ذِكْــرِ اللَّهِ وَعَـنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ([167]) .
- حرم الزِّنَا لِأَنَّهُ فَاحِشَة كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ([168]) . . .
وأمثلة هَذَا الْقسم كَثِيرَة مَعْلُومَة فِي الْقُرْآن وَالسّنة كَمَا تقدم من كَلَام ابْن الْقيم .
وَمن أَمْثِلَة الْقسم الثَّانِي :
- شرع البيع لمصْلحَة الِانْتِفَاع بالمعقود عَلَيْهِ .
- شرعت الْإِجَارَة لسد حَاجَة النَّاس إِذْ لَو لم يشرع لدخل على النَّاس حرج شَدِيد .
- رخص فِي بيع (الْعَرَايَا) ([169]) دفعا للْحَاجة وَرَحْمَة بِالْمُسْلِمين مَعَ أَن فِيهِ معنى الرِّبَا لِأَن الرطب إِذا جف نقص وَزنه.
- شرعت الشُّفْعَة لدفع ضَرَر الشّركَة عَن الشَّرِيك ، فَإِذا أَرَادَ بيع نصِيبه كَانَ شَرِيكه أَحَق من الْأَجْنَبِيّ ، وَهُوَ يصل إِلَى غَرَضه من الْعِوَض من أَيهمَا كَانَ فَكَانَ الشَّرِيك أَحَق بِدفع الْعِوَض من الْأَجْنَبِيّ وَيَزُول عَنهُ ضَرَر الشّركَة ، وَلَا يتَضَرَّر البَائِع لِأَنَّهُ يصل إِلَى حَقه من الثّمن .
- شرعت الْعُقُوبَات فِي الْجِنَايَات لحكمة الردع والزجر ، ليرتدع النَّاس عَن الظُّلم وَالْبَغي والعدوان ويقتنع كل إِنْسَان بِمَا آتَاهُ الله مَالِكه وخالقه .
- أعْطى لكل من الزَّوْجَيْنِ حق خِيَار فسخ النِّكَاح إِذا وجد فِي الآخر عَيْبا يَسْتَحِيل مَعَه تَحْقِيق الْمَقْصُود من النِّكَاح كالعُنة والجبّ والخصاء فِي الزَّوْج والرتق والقرن فِي الزَّوْجَة ، أَو الْجُنُون والجذام والبرص وَنَحْوهمَا - عَافَانَا الله وَالْمُسْلِمين مِنْهَا - فِي أَحدهمَا كَمَا هُوَ مَذْهَب الجماهير غير الظَّاهِرِيَّة مَعَ خلاف فِي بعض الْعُيُوب - وَالْحكمَة من ذَلِك :
أَن مَقْصُود النِّكَاح لَا يتَحَقَّق مَعَ وجود هَذِه الْعُيُوب وَمن ثمَّ لَا يُوجد (السكن) بَين الزَّوْجَيْنِ بِمَا تشمله كلمة السكن من مَعَاني الشُّعُور بالأمن والراحة والمتعة ، وتبادل الْمَوَدَّة وَالرَّحْمَة
فَإِذا اسْتَحَالَ تَحْقِيق هَذِه الْغَايَة كَانَ هَذَا مسوغا كَافِيا لحل عقدَة النِّكَاح .
قَالَ ابْن الْقيم : " ... وَالْقِيَاس أَن كل عيب ينفر الزَّوْج الآخر مِنْهُ وَلَا يحصل بِهِ مَقْصُود النِّكَاح من الرَّحْمَة والمودة يُوجب الْخِيَار ...
وَمن تدبر مَقَاصِد الشَّرْع فِي مصادره وموارده وعدله وحكمته ، وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْمصَالح لم يَخْفَ عَلَيْهِ رُجْحَان هَذَا القَوْل وقربه من قَوَاعِد الشَّرِيعَة " ([170]) .
وأمثلة هَذَا الْقسم كَثِيرَة لَا حصر لَهَا، لَا سِيمَا فِي بَاب الْمُعَامَلَات.
ونظراً لِأَن الْمصلحَة وَالْحكمَة فِي هَذَا الْقسم إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالاستنباط وَالنَّظَر فَلَا بُد - إِذا - من مُرَاعَاة قَوَاعِد التَّعْلِيل وضوابطه ومسالكه وحدوده حَتَّى لَا يكون مُعَللا بذوقه وتخمينه وهواه ،
كَمَا أَنه لَا يحسن الْمُبَالغَة فِي التنقير عَن الحكم والمصالح - وَلَا سِيمَا فِي الْأَحْكَام التعبدية –
أدبا مَعَ الله وخشية الْوُقُوع فِي التَّكَلُّف والتمحل وَالْقَوْل بِغَيْر علم
وَحَتَّى لَا يتَكَلَّف التَّعْلِيل بِمُجَرَّد الذَّوْق والوجدان من غير دَلِيل وبرهان .
إِن عدم إِدْرَاك الْعقل الإنساني الْقَاصِر حِكم بعض الْأَحْكَام لَا يَعْنِي - قطعا - أَنَّهَا عِروٌ وخِلْو من الْحِكْمَة والمصلحة ،
لِأَن عدم الْعلم لَيْسَ علما بِالْعدمِ ،
وَإِنَّمَا يَعْنِي قُصُور الْعقل الإنساني وعجزه ،
فرحم الله امْرأ وقف عِنْد حَده وَلم يَتَعَدَّ طوره ،
وَللَّه در أبي الْعَلَاء المعري مَا أصدق قَوْله :
[ وَيجب أَن يكون الْفَقِيه لَهُ من الْيَقَظَة والبصيرة وعمق النّظر والاطلاع الشَّامِل مَا يُمكنهُ من استنباط الْعلَّة الْمُنَاسبَة وَالْحكمَة الْمَقْصُودَة من الحكم
وَلَا شكّ أَن هَذَا مرتقى صَعب وَلَكِن لَا مفر مِنْهُ للْعُلَمَاء الربانيين الراسخين فِي الْعلم ، لَان التهرب مِنْهُ يُؤَدِّي إِلَى غياب مَقَاصِد الشَّرِيعَة وَحكمهَا ، وإغلاق هَذَا الْبَـــاب من أَبْوَاب الِاجْتِهَاد ،
وَقد يربك الْفِقْه الإسلامي ويضر بمسيرته الطبعية ، وَيفتح بَابا للأعداء الحاقدين المتربصين بالأمة لِيَقُولُوا: إِن الشَّرِيعَة الإسلامية جامدة خامدة صارمة لَا يَتَّسِع صدرها لمسايرة التطور البشري وَتَحْقِيق مصلحَة الْإِنْسَان وَدفع الْمضرَّة عَنهُ .
إِذاً ، فالحاجة ماسة إِلَى معرفَة هَذَا النَّوْع من الْفِقْه ، هَذَا الْفِقْه الَّذِي وَصفه ابْن الْقيم بِأَنَّهُ ( الْفِقْه الْحَيّ الَّذِي يدْخل على الْقُلُوب بِغَيْر اسْتِئْذَان)
فَفِي فصل لَهُ بعنوان: ( اعْتِبَار النيات والمقاصد فِي الْأَلْفَاظ ) نقل عَن وَكِيع
" أَن عمر قضى فِي امْرَأَة قَالَــت لزَوجهَا : سمّني ، فسمّاها : الطّيبَة ، فَقَالَت : لَا ، فَقَالَ لَهَا : مَاذَا تريدين أَن أسمّيك ؟ قَالَت : سمّني خلية طَالِق ، فَقَالَ لَهَا : فَأَنت خلية طَالِق . فَأَتَت عمر بن الْخطاب فَقَالَت : إِن زَوجي طَلقنِي ، فجَاء زَوجهَا فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة ، فأوجع عمر رَأسهَا ، وَقَالَ لزَوجهَا : خُذ بِيَدِهَا وأوجع رَأسهَا "
وَهَذَا هُوَ الْفِقْه الْحَيّ الَّذِي يدْخل علـى الْقُلُوب بِغَيْر اسْتِئْذَان ، وَمَعْلُوم أَن الَّذِي قَالَ لما وجد رَاحِلَته :
" اللَّهُمَّ أَنْت عَبدِي وَأَنا رَبك " وَأَخْطَأ من شدَّة الْفَرح ،
لم يكفر بذلك وَإِن أَتَى بِصَرِيح الْكفْر لكَونه لم يردهُ .
وَلَقَد أَتَى على فقهنا حِين من الدَّهْر صَار فِيهِ أقرب إِلَى الجمود والخمود مِنْهُ إِلَى الْحَيَاة والفعالية ، ذَلِك أَنه افْتقدَ - فِيمَا افتقده - روح الْمَقَاصِد والمصالح
وَقد تعرض الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور لأسباب انحطاط الْفِقْه وتخلفه فعدّ مِنْهَا :
" إهمال النّظر فِي مَقَاصِد الشَّرِيعَة من أَحْكَامهَا "
ثمَّ قَالَ : " كَانَ إهمال الْمَقَاصِد سَببا فِي جمود كَبِير للفقهاء ومعولا لنقض أَحْكَام نافعة، وأشأم ] ([172]) .
[ صلة المقاصد بالقرآن الكريم :
القرآن الكريم أول مصدر من مصادر التشريع ، وهو أصل الأصول ، وقدس الأقداس ، وأساس الأحكام والمقاصد والحكم والأسرار الشرعية ، ويتمثل ذلك من خلال ما يلي :
1- ذكر القرآن لأنواع كثيرة من المقاصد منها:
أ- العبودية : قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ([173]) .
ب- التبشير والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب :
قال تعالى { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } ([174]) .
ج- التيسير والتخفيف عن الناس :
قال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } ([175])
د- رفع الحرج وإزالة الضرر :
قال تعالى : { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ([176]) .
هـ- الإصلاح والإرشاد، والنهي عن الفساد والبغي والمنكر :
قال تعالى : { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ }([177])
و- الوحدة والاتفاق والقوة :
قـــال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْـــلِ اللَّهِ جَمِيعًـــا وَلا تَفَرَّقُـوا } ([178]) ، قال تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَـعْتُمْ مِنْ قُـوَّةٍ وَمِنْ رِبَــاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُـونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ([179]) .
وهناك أنواع كثيرة من المقاصد الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم في مواضع مختلفة بالتصريح والإيماء تارة ، والإجمال والتفصيل تارة أخرى .
2- ذكر القرآن الكريم أمثلة جزئية للحِكم والعلل والفوائد المنوطة بأحكامها ، ونورد بعضًا من ذلك فيما يلي :
فقد شرعت الصلاة لذكر الله وتذكر أحوال الآخرة .
فقد شرعت الزكاة لطهارة المال وتزكية النفس .
ت- قال تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } ([182]) ؛
فقد شرع الحج لمنافع دينية واجتماعية وتربوية كثيرة .
ج- قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ([183]) ،
فقد شرع الصوم، لوقاية النفس من الأنانية والإفراط في حب الدنيا .
د- قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ([184]) .
فقد شرع القصاص لحفظ حياة النفوس وسلامتها .
هـ- قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ([185]) .
فقد شرع القتال لقمع الفتنة وتحقيق الأمن .
و- قال تعالى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّــيْطَانُ أَنْ يُوقِـعَ بَيْنَـكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَـاءَ فِي الْخَـمْرِ وَالْمَيْـسِرِ } ([186]) .
فقد منع الخمر والميسر لكونها يؤديان إلى العداوة والبغضاء والخصومات والتنازع .
صلة المقاصد بالسنة:
السنة: هي المصدر التشريعي الثاني لبيان المقاصد والغايات الشرعية؛ وذلك من خلال تأكيدها وتقريرها للمقاصد التي ذكرها القرآن وأشار إليها،
ومن خلال ما استقلت ببيانه وانفردت به عن القرآن الكريم إزاء ذكر بعض الحِكَم والأسرار لبعض الأحكام التي لم يرد ذكرها في القرآن الكريم أو التي ذكرت في القرآن دون بيان مقاصدها وأسرارها .
ومن أمثلة ذلك :
1- قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغَضُّ للبصر وأحصن للفرج " ([187]) .
2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ([188]) .
3- قول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنكمْ إن فعلتم ذلك قطعتهم أرحامكم " ([189]) .
فالحث النبوي على الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت معلَّل بغض البصر؛ لئلا يقع على عورات وكرامة وستر مَن بالداخل.
والحث النبوي على منع الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها معلَّل بحفظ الأنساب وسلامتها ودوام صلتها واستمرارها.
صلة المقاصد بالإجماع :
الإجماع : هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حُكم قضية من القضايا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة ،
ويعد الإجماع مصدرًا لثبوت كثير من المقاصد الشرعية ؛ وذلك مـن خلال :
1- الاتفاق على بعض العلل والحِكَم الجزئية على نحو:
علة الصِّغَر الموجب للولاية في الأموال ، والولاية في التزويج ،
أي أن الصغير يتولى وليه التصرف في أمواله وفي تزويجه ،
وحكمة ذلك جلب مصلحته ودرء مفسدة سوء تصرفه .
ومثال ذلك :
اتفاق المجتهدين على أن الغضب المؤدي إلى تشويش الذهن واضطراب النفس، وعدم التثبت في أدلة المختصمين ؛ فإن ذلك الغضب يمنع قضاء القاضي ؛
لأجل مصلة المتقاضين ونفي الظلم عنهم .
2- الاتفاق على المقاصد والحِكَم والغايات الشرعية الثابتة في القرآن والسنة .
صلة المقاصد بالقياس:
القياس : هو إلحاق نازلة حُكم عليها ، بنازلة لها حُكمها ؛ لاشتراكهما في علة الحُكم .
ومثال ذلك : تحريم نبيذ الشعير قياسًا على الخمر ؛ لاشتراكهما في علة الإسكار ، ويكون البيان كالآتي :
المثال الأول :
الأصل : الخمر .
الفرع : نبيذ الشعير .
العلة : الإسكار .
الحكم : التحريم .
المقصد : حفظ العقل والمال .
المثال الثاني :
الأصل : لحم الخنزير .
الفرع : شحم الخنزير .
العلة : القذارة والنجاسة .
الحكم : التحريم .
المقصد : الامتثال إلى الله ، وتجنب الخبائث ، وصيانة النفس وحفظها من تناول النجاسة ولحوق الأضرار .
المثال الثالث :
الأصل : البكر الصغيرة .
الفرع : الثيب الصغيرة .
العلة : الصغر .
الحكم : وجوب الولاية في التزويج .
المقصد : حفظ كرامة المرأة وصيانة مصلحتها ؛ كي لا تضع نفسها في سوء الاختيار .
المثال الرابع :
الأصل : القضاء في أثناء الغضب .
الفرع : القضاء في أثناء الجوع الشديد .
العلة : تشويش الذهن .
الحكم : المنع .
المقصد : حفظ حقوق المتخاصمين ، وتحقيق العدل بينهم بالانتباه والتثبت في أدلتهم واحتجاجاتهم .
المثال الخامس :
الأصل : الذهب والفضة .
الفرع : الأوراق المالية والنقود المعدنية .
العلة : الثَمَنِيَّةُ : أي أنهما تقوم بهما الممتلكات ، وتضمن بهما المتلفات .
الحكم : تحريم التفاضل بينهما عند التبادل ، واشتراط التسليم الفوري لكليهما .
المقصد : حفظ المال ، ومنع أخذه بغير وجه حق ، والمحافظة على القيمة الثَمِنَيَّةُ للذهب والفضة في حكمها ] ([190]).
فالقصد من كل هذا الكلام أن نقول :
إنّ الله تعالى قد شرّع الأحكام لمصلحة عباده ، فأين كانت المصلحة فثمَّ شرع الله ، بشرط أن لا تخالف المصلحة نصّاً قطعيّاً لا خلاف فيه .
ولا ينبغي الجمود على ظواهر النص ، بحجة الطاعة وتنفيذ أوامر الشرع ، غاضّاً الطرف عن الحكمة والمصلحة التي جاء النص من أجلها !
وأنّ هناك فرقٌ بين الحكم الثابت ، والفتوى المتغيّرة .
( سابعاً ) / : النّظر إِلَى المآلات عِنْد تَقْدِير الْمصَالح والمفاسد :
[ وَمِمَّا يجب على الْمُجْتَهد والمفتي حِين يجْتَهد ويفتي أَن يقدّر مآلات الْأَفْعَال وعواقب الْأُمُور وَمَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمر فِي النِّهَايَة ،
وَأَن لَا يعْتَبر مهمته تَنْحَصِر فِي إِعْطَاء الحكم الشَّرْعِيّ ، بل مهمته أَن يحكم فِي الْفِعْل وَهُوَ نَاظر إِلَى آثاره ومآلاته
وَيَقُول الشاطبي فِي هَذَا :
" النّظر فِي مآلات الْأَفْعَال مُعْتَبر مَقْصُود شرعا كَانَت الْأَفْعَال مُوَافقَة أَو مُخَالفَة ،
وَذَلِكَ أَن الْمُجْتَهد لَا يحكم على فعل من الْأَفْعَال الصادرة عَن الْمُكَلّفين بإقدام أَو بالإحجام إِلَّا بعد نظره إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ ذَلِك الْفِعْل ،
فقد يكون مَشْرُوعا لمصْلحَة فِيهِ تستجلب ، أَو لمفسدة تدرأ وَلَكِن لَهُ مآل على خلاف مَا قصد فِيهِ ،
وَقد يكون غير مَشْرُوع لمفسدة تنشأ عَنهُ أَو مصلحَة تنْدَفع بِهِ ، وَلَكِن لَهُ مآل على خلاف ذَلِك ،
فَإِذا أطلق القَوْل فِي الأول بالمشروعية فَرُبمَا أدّى استجلاب الْمصلحَة فِيهِ إِلَى مفْسدَة تَسَاوِي الْمصلحَة أَو تزيد عَلَيْهَا
فَيكون هَذَا مَانِعا من إِطْلَاق القَوْل بالمشروعية ،
وَكَذَلِكَ إِذا أطلق القَوْل فِي الثَّانِي بِعَدَمِ المشروعية رُبمَا أدّى استدفاع الْمفْسدَة إِلَى مفْسدَة تَسَاوِي أَو تزيد،
فَلَا يَصح إِطْلَاق القَوْل بِعَدَمِ المشروعية ، وَهُوَ مجَال للمجتهد صَعب المورد إِلَّا أَنه عذب المذاق ... " ([191]) .
ثمَّ أَخذ يسْتَدلّ على صِحَة ذَلِك بِأُمُور،
مِنْهَا : أَن التكاليف مَشْرُوعَة لمصَالح الْعباد، وَمِنْهَا أَن الاستقراء للشريعة وأدلتها يدل على اعْتِبَار المآلات ،
وَذكر أَمْثِلَة تفصيلية
كامتناعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل الْمُنَافِقين مَعَ قدرته على ذَلِك
خشيَة أَن يظنّ النَّاس أَنه يقتل أَصْحَابه فينفروا من الدُّخُول فِي الْإِسْلَام ،
وكامتناعه عَن إِعَادَة بِنَاء الْبَيْت الْحَرَام على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
حَتَّى لَا يثير بلبلة بَين الْعَرَب ويقولوا: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهدم المقدسات ويغير معالمها ،
وكنهيه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَصْحَابه عَن زجر الإعرابي حَال تبوله فِي الْمَسْجِد
خشيَة أَن يُؤَدِّي هَذَا إِلَى نجس مَوَاضِع أُخْرَى فِي الْمَسْجِد وَرُبمَا كَانَ فِيهِ ضَرَر صحي عَلَيْهِ ...
إِلَى أَن قَالَ : قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ : " النّظر فِي مآلات الْأَفْعَال فِي الْأَحْكَام ، اخْتلف النَّاس بزعمهم فِيهَا - وَهِي مُتَّفق عَلَيْهَا بَين الْعلمَاء فافهموها وادخروها " ([192]) .
وردّ - رَحمَه الله - على من يهمل هَذِه الْقَاعِدَة بِحجَّة أَن عَلَيْهِ الْعَمَل وَلَيْسَ عَلَيْهِ النتيجة فَقَالَ :
( لَا يُقَال إِنَّه قد مرّ فِي كتاب الْأَحْكَام أَن المسببات لَا يلْزم الِالْتِفَات إِلَيْهَا عِنْد الدُّخُول فِي الْأَسْبَاب، لأَنا نقُول - وَقد تقدم أَيْضا - أَنه لَا بُد من اعْتِبَار المسببات فِي الْأَسْبَاب ...
وَقد تقدم أَن الشَّــارِع قَاصـد للمسـببات فِي الْأَسْـبَاب ، وَإِذا ثَبـت ذَلــِك لم يكن للمجتهد بُد من اعْتِبَار الْمُسَبّب وَهُوَ مآل السَّبَب " ([193]) .
وَقَالَ أَيْضا - رَحمَه الله - " وَمن هَذَا الأَصْل - أَي النّظر فِي المآلات - تستمد قَاعِدَة أُخْرَى ،
وَهِي أَن الْأُمُور الضرورية أَو غَيرهَا من الحاجية أَو التكميلية إِذا اكتنفتها من الْخَارِج أُمُور لَا ترضي شرعا ، فَإِن الْإِقْدَام على جلب الْمصَالح صَحِيح على شَرط التحفظ بِحَسب الِاسْتِطَاعَة من غير حرج ...
كَطَلَب الْعلم إِذا كَانَ فِي طَرِيقه مناكر يسْمعهَا ويراها ، وشهود الْجِنَازَة ،
وَإِقَامَة وظائف شَرْعِيَّة إِذا لم يقدر على إِقَامَتهَا إِلَّا بمشاهدة مَالا يرضى ،
فَلَا يُخرج هَذَا الْعَارِض تِلْكَ الْأُمُور عَن أُصُولهَا ، لِأَنَّهَا أصُول الدّين ، وقواعد الْمصَالح ،
وَهُوَ الْمَفْهُوم من مَقَاصِد الشَّارِع فَيجب فهمها حق الْفَهم فَإِنَّهَا مثار اخْتِلَاف وتنازع
وَمَا ينْقل عَن السّلف الصَّالح مِمَّا يُخَالف ذَلِك قضايا أَعْيَان لَا حجَّة فِي مجردها حَتَّى يعقل مَعْنَاهَا فَتَصِير إِلَى مُوَافقَة مَا تقرر إِن شَاءَ الله ،
وَالْحَاصِل : أَنه مَبْنِيّ على اعْتِبَار مآلات الْأَعْمَال فاعتبارها لَازم فِي كل حكـم على الْإِطْـلَاق . وَالله أعلـــم " ([194]) .
( ثامناً ) / : وهناك قاعدة متفق عليها بين الأئمة والعلمـــاء ، وهي : أنّ الفتوى تتغيّر بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والعوائد والنيات .
وقد كتب الحـافظ ابن القيّم ، رحمـه الله ، فصلاً في كتـابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) تحت عنوان :
[ فَصْلٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَتْوَى، وَاخْتِلَافِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالنِّيَّاتِ وَالْعَوَائِدِ ] جاء فيه :
[هَذَا فَصْلٌ عَظِيمُ النَّفْعِ جِدًّا وَقَعَ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْجَبَ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَكْلِيفِ مَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْبَاهِرَةَ الَّتِي فِي أَعْلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ لَا تَأْتِي بِهِ ] ([195]) .
واعتبـــر الإمام القرافي التقيّد بالفتاوى الموجودة في الكتب ؛ والتي أفتى العلماء بها ، ملائمةً لزمانهم ومكانهم ، وإنزالاً للنصوص على واقعهم .
إعتبر ذلك التقيّد – عند تغيّر ذلك العرف – ضلالاً في الدين ، وجهلاً بمنهج السلف وعلماء المسلمين .
وأكد على اعتبار عُرف المستفتي ، والأخذ به في الفتوى .
قال ، رحمه الله :
[ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونَ تُرَاعَى الْفَتَاوَى عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ فَمَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبِرْهُ وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقِطْهُ وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَسْطُورِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك
بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك لَا تَجْرِه عَلَى عُرْفِ بَلَدِك
وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَاجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ
دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَالْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ
وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِدِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ ] ([196]) .
وقد علّق الحافظ ابن القيّم ، رحمـه الله ، على كلام القرافي ، رحمه الله ، هذا بقوله :
[ وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ ، وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ ،
وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ ،
بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ] ([197]) .
ثم قال ، رحمه الله :
[ فَهَذَا ( يقصد : معرفة الناس ) أَصْلٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِيهِ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَإِلَّا كَانَ مَا يَفْسُدُ أَكْثَرَ مِمَّا يَصْلُحُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا فِي الْأَمْرِ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّاسِ تَصَوَّرَ لَهُ الظَّالِمُ بِصُورَةِ الْمَظْلُومِ وَعَكْسُهُ ، وَالْمُحِقُّ بِصُورَةِ الْمُبْطِلِ وَعَكْسُهُ ، وَرَاجَ عَلَيْهِ الْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ وَالِاحْتِيَالُ ، وَتَصَوَّرَ لَهُ الزِّنْدِيقُ فِي صُورَةِ الصِّدِّيقِ ، وَالْكَاذِبُ فِي صُورَةِ الصَّادِقِ ، وَلَبِسَ كُلُّ مُبْطِلٍ ثَوْبَ زُورٍ تَحْتَهَا الْإِثْمُ وَالْكَذِبُ وَالْفُجُورُ ،
وَهُوَ لِجَهْلِهِ بِالنَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ هَذَا مِنْ هَذَا ،
بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي مَعْرِفَةِ مَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَعُرْفِيَّاتِهِمْ ، فَإِنَّ الْفَتْوَى تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَحْوَالِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ دِينِ اللَّه ] ([198]) .
[ أمثلة على تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف :
* عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – قال : « كنا عنــد النبــي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شاب ، فقال : يا رسول الله ، أقبّل وأنا صائم ؟ قال : لا ،
فجاء شيخ ، فقال : يا رسول الله ، أقبّل وأنا صائم ؟ قال : نعم ،
فنظر بعضنا إلى بعض ، فقال رسول الله :
" قد علمت نظر بعضكم إلـــى بعض ، إن الشيخ يملك نفسه » ([199]) .
فيلاحظ كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع أجاب الشاب على سؤاله بجواب يختلف عن إجابته للشيخ رغم أن السؤال واحد ،
مما يـدل على مراعــاتـه للأحـــوال ] ([200]) .
يعني : سؤال واحد ، له جوابان مختلفان ، حسب حال السائل !
[ * عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه – قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم - :
« من ضحى منكم ، فلا يصبحن بعد ثلاثة ويبقى في بيته منه شيء .
فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله ، نفـعل كما فعلنـا في العـام الماضـي ؟
قال : كلوا وأطعموا وادخروا ؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد - أي شدة وأزمة - فأردت أن تعينوا فيها » ([201])
أفاد الحديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام في حالةٍ معينة ، ولعلَّةٍ طارئة ،
وهي وجود ضيوف وافدين على المدينة ، فيجب أن يوفر لهم ما يوجبه كرم الضيافة من لحم الضحايا ،
فلما انتهى هذا الظرف العارض ، وزالت هذه العلة الطارئة ، زال الحكم الذي أفتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبعا لها ،
إذ المعلول يدور مع علته وجوداً وعدماً ، وتغيرت الفتوى من المنع إلى الإباحة ، كما جاء في بعض الروايات : « كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام ، فكلوا وادخروا » ([204]) .
فهذا مثلٌ واضحٌ لتغير الفتوى بتغير الأحوال ] ([205]) .
[ * ومن الأمثلة على تغير الفتوى بتغير الزمان ،
ما نقله الزرقا : أنه لما ندرت العدالة وعزت في هذه الأزمان ، قال الفقهاء : بقبول شهادة الأمثل فالأمثل ، والأقل فجوراً فالأقل .
وقالوا نظير ذلك في القضاة وغيرهم ،
إذا لم يوجد إلا غير العدول ، أقمنــا أصلحــهم وأقلــهم فجوراً ؛ لئلاّ تضيع المصالح وتتعطل الحقوق والأحكام ،
فقد حسن ما كان قبيحاً ، واتسع ما كان ضيقاً ، واختلفت الأحكام باختلاف الأزمان ،
فإن خيار زماننا هم أراذل أهل العصر الأول .
وكذلك جوزوا : تحليف الشهود عند إلحاح الخصم ، وإذا رأى الحاكم ذلك لفساد الزمان .
وجوزوا أيضاً : إحداث أحكام سياسية لقمع أرباب الجرائم عند كثرة فساد الزمان وأول من فعله عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فإنه قال ستحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ،
وقد منع عمر بن عبد العزيز عماله عن القتل ، إلا بعد إعلامه وإذنه به بعد أن كان مطلقاً لهم ،
لما رأى من تغير حالــهم ] ([206]) .
[ ولما رأى أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - ما عليه الناس من فساد الأخلاق
أمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما روى ذلك مالك في موطئه ،
مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التقاط ضالة الإبل .
وكذلك لما رأى ما عليه الناس من خراب الذمم ، في تطليق النساء في مرض الموت لأجل حرمانهن من الميراث ،
فقد ورَّث تماضر الأسدية ، عندما طلقها عبد الرحمن في مرض موته .
ولما رأى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ما عليه حال الناس ،
كان يضمِّن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة . وقال: لا يصلح الناس إلا ذاك .
قال المحمصاني في كتابه (تراث الخلفاء) ، وهو يتكلم عن الصحابة الكرام ، مانصه :
" وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد
فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال .
وتعرض في ذلك لمسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم ، والطلاق الثلاثي المتسرع ، وبيع أمهات الأولاد ، وعدم التغريب في الحدود ، وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة ، وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين ، وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح ، وتفصيل أمور ضريبة الخراج " .
وقد كان الإمام أبو حنيفة : يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده ، اكتفاءًبالعدالة الظاهرة ،
وفي عهد صاحبيه - أبي يوسف ومحمد - منعا ذلك ، لانتشار الكذب بين الناس ، وتغير حالهم .
قال الكاساني نقلاً عن الحنفية : " هذا الاختلاف اختلاف زمان لا اختلاف حقيقة ؛
لأن زمن أبي حنيفة - رحمه الله - كان من أهل خير وصلاح ؛ لأنه زمن التابعين ، وقد شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية بقوله : « خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » ([207]) الحديث .
فكان الغالب في أهل زمانه الصلاح والسداد ، فوقعت الغنية عن السؤال عن حالهم في السر،
ثم تغير الزمان وظهر الفسـاد في قرنهما ، فوقعت الحاجة إلى السؤال عن العدالة " ([208])
* ومن الأمثلة على تغيّر الفتوى بتغيّر العرف :
أنه لما كان لون السواد في زمن أبي حنيفة يعد عيباً .
قال : بأن الغاصب إذا صبغ الثوب أسود يكون قد عيَّبه ،
ثم بعـــد ذلك لما تغير عرف الناس وصاروا يعدونه زيادة ، قال صاحباه : إنه زيادة .
وكذلك الدُّور، لما كانت تبنى بيوتها على نمط واحد، قال المتقدمون - غير زفر- يكفي لسقوط خيار الرؤية رؤية بيت منها
ولما تبدلت الأزمان وصارت بيوت الدور تبنى على كيفيات مختلفة ، رجَّح المتأخرون قول زفر، من أن لا بد من رؤية كل البيوت ليسقط الخيار .
* ومن الأمثلة ما روي عن مالك أنه قال : إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول ، فالقول قول الزوج ، مع أن الأصل عدم القبض .
وعلق القاضي إسماعيل - من فقهاء المالكية - على ذلك بقوله : هذه كانت عادتهم بالمدينة:
أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها ،
واليوم عادتهم على خلاف ذلك ، فالقول قول المرأة مع يمينها ،
لأجل اختلاف العادات ([209]) .
* ومن الأمثلة كذلك : تقدير النفقات ،
فإن من المسلَّم به ، أن لكلِّ مجتمع في أي زمان ومكان مستواه الاقتصادي غنى وفقراً ،
وتبعا لهذا فيختلف تقدير النفقة من مجتمع إلى مجتمع آخر ،
والسبب في هذا تغير الحاجات ([210]) .
( تاسعاً ) / : هناك قاعدة فقهية ، متفق عليها بين الأئمة والعلماء نظرياً ، ولكن عند تطبيقها يهبط الذين حشروا أنفسهم بين العلماء ، ويطلق عليهم بعض الناس ألقاب ؛ علماء وفقهاء ومفتين .
يهبطون إلى مستوى الطغام والعوام من الناس !
وكأنهم لم يقرأوا أو يسمعوا كلمة من العلم أو الفقه !
والقاعدة هي : يُرتكَب أخف الضررين لدفع أعظمهما .
يعني : إذا كان هناك ضرران ؛ كلاهما ضرر ؛ وهناك حرامان يعترضان طريق المسلم ، ولابد من إرتكاب أحدهما . ولكن أحدهما أكبر من الآخر !
في هذه الحالة يختار المسلم الحرام الأصغر .
بل لا يبقى – في هذه الحالة – في حقه حرام .
[ الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف .
الألفاظ الأخرى :
* يختار أهون الشرين .
* يختار أهون الشرين أو أخف الضررين .
* يدفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما .
* إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر .
* يدفع شر الشرين.
التوضيح :
إن الضرر ليس على درجة واحدة ، وإنمـا يتفاوت في ذاته ، وفي آثاره ،
والضرر يجب رفعه لقاعدة : الضرر يزال وقاعدة : لا ضرر ولا ضرار.
ولكن إذا لم يمكن إزالة الضرر نهائياً ، وكان بعضه أشد من بعض ، ولا بدَّ من ارتكاب أحدهما ،
فتأتي هذه القاعدة : الضرر الأشد يزال ويرفع ويتجنب بارتكاب الضرر الأخف .
وذلك لعظم الأول على الثاني ، وشدته في نفسه ،
أو لأن الضرر الأول عام يعمُّ أثره ، والضرر الثاني خاص وينحصر أثره ،
[ لقد أصَّل لنا علماؤنا – رحمهم الله – أصولاً مهمة في شتى العلوم والفنون ، وقعدوا لنا قواعد عظيمة النفع ، كثيرة الفوائد ، يرجع إليها الفقيه والمتفقه لينهل من معينها ، ويعول عليها المفتي في فتواه ، إنها قواعد الفقه .
يقول الإمام القرافي المالكي – رحمه الله – عن فوائدها وأهميتها :
وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع ، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف ، ويظهر رونق الفقه ويعرف ، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف ،
فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء ،
وبرز القارح على الجذع وحاز قصب السبق من فيها برع
ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت ، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت ، وضاقت نفسه لذلك وقنطت ، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها ،
ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات ، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب
وقال العلامة جلال الدين السيوطي – رحمه الله – عن فوائدها وأهميتها :
إعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم ، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ، ومآخذه وأسراره ، ويتمهر في فهمه واستحضاره ، ويقتدر على الإلحاق والتخريج ، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة ، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان ؛ ولهذا قال بعض أصحابنا : الفقه معرفة النظائر .
ومن هذه القواعد :
قاعدة : ( إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ) ([212]) .
ولقد ذكر الفقهاء قواعد قريبة المعنى من هذه القاعدة ، منها :
• يُختار أهون الشَّرين .
• الضرر الأشد ، يزال بالضرر الأخف .
• يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما .
• تحتمل أخف المفسدتين لدفع أعظمهما .
[ وهذه القاعدة المذكورة ( إذا تعارض مفسدتان رُوعي أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفهما ) ،
وكذلك قاعدة : " إذا اجتمع الضرران أسقط الأكبر للأصغر " ،
و" الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف " ،
و" يختار أخفَّ الضررين " ،
و" يختار أهونَ الشرين " - متحدة المعنى ، ليس بينها فرق إلا في صياغة القاعدة .
دليلها :
إختيار نبيّ الله هارون ، عليه السلام ، لقومه عبادة العجل – مؤقتاً – على التفرقـة بينهم – بعد نصيحتهم ، وتحذيرهم – بعد أن تيقّن أنّهم مصرّون على عبادته حتى يرجع إليهم نبيّ الله موسى .
ثم موافقة نبيّ الله موسى ، عليه السلام ، له ، بعد غضبه في بداية الأمر !
والأمران عظيمان ، وحرامان ، ولكن ضرر وحرمة التفرقة بين المسلمين ، أعظم وأكبر من الشرك مؤقتاً !
تعلّمنا ذلك من القرآن الكريم ، حيث يقول الله تعالى :
( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي .
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى .
قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا . أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي .
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) ([214]) .
[ أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إليهم: إنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل . . . وإنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل . . . قالوا لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إلينا موسى فنظر في الأمر . . . فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ . . . أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه
{ وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [الأعراف: 142] . . . قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي . . . إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم . . . ولم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إليهم لتتدارك الأمر بنفسك ] ([215]) .
( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ([216]) .
وعن أنس ، أن أعرابيًّا بال في المسجد ، فوثب إليه بعض القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(لا تُزْرِموه ، ثم دعا بدَلْوٍ من ماء ، فصُبَّ عليه ) ([217]) .
البول في المسجد لا يجوز ، وهو حرام ، ولكن قطع البول عن الأعرابي كان ضرره أكبر !
ولهذا نهى النبيّ r الصحابة عن قطع بوله !
الأمثلة :
1 - رجل عليه جرح ، لو سجد سال عليه الجرح ، وإن لم يسجد لم يسِلْ ؛
فإنه يومئ إيماءً ، لا يسجد ؛
لأن الصلاة مع الحدث أشـــد ، ولأن السجدة تتغير إلى بدل ، ولا يوجد للطهارة بدل في الصلاة ؛
لأن ترك السجدة جائزة للمريض ، أما الطهارة فلا يجوز تركها لهذا المريض .
2 - شيخ لا يقدِر على القراءة قائمًا ، ويستطيع القراءة قاعدًا فيقعد ؛ لأن القعود في النفل جائز .
3 - لو اضطر المحرم وعنده صيد ، وميتة ، أكل الصيد دون الميتة ؛ لأن ضررَه أخف ] ([218]) .
فالعلماء والأئمة الكبار يتعرضون للطعن والتجريح ، من قِبَل بعض مَن لا يفهمون ، وممَن ليس لديهم العلم الكافي في الشريعة ، وممن حُشِروا بين العلماء ، وهم لا يملكون المؤهلات التي ترفعهم إلى مستوى أولئك العظماء .
نعم يتعرض أولئك الأئمة ، حينما يفتون ويطبقون عملياً ، ما أقرّوه نظرياً بالإتفاق ؛ من دفع أعظم الضررين بتحمل أدناهما
فيظن هؤلاء الأدعياء ، أن أولئك الأئمة قد أفتوا بالحرام مقابل الحلال !
يظنون أن أولئك العلماء كان أمامهم حلال وحرام ، فأفتوا بجواز الحرام !
ولا يعلمون أنهم كانوا أمام حرامين ؛ فأفتوا بتحمل أدناهما ، ودفع أعظمهما !
يقول تعالى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ([219]) .
فالله ، سبحانه وتعالى ، قد حرّم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما قُدّم لغير الله تعالى ، ومع هذا فقد أباحها – بشروط – في حالة الضرورة ، ورفع عنها الإثم .
فهنا أمام المسلم حرامان ؛ إمّا تناول اللحوم المحرمة المضرّة ، وإمّا الموت جوعاً ، حيث يعتبره بعض الأئمة إنتحاراً !
فالله تعالى قد أباح – في هذه الحالة – تناول تلك اللحوم ، وتحمّل هذا الحرام ، دفعاً للحرام الأكبر منه ؛ وهو الإنتحار !
وتلك اللحوم تضر بصحة الإنسان في الحالات الإعتيادية ، ولكن حياة الإنسان ، ووجوده أعظم من صحته !
([169]) جمع عَرِيَّة : وهي النخلة التي يعطيها مالكُها أي يهب ثمارها لغيره من المحتاجين ليأكلها عاماً أو أكثر ويقال: "نخلهم عرايا" أي موهوباتٍ يعروها الناس أي يَغْشُونها ويأكلون ثمارها لكرمهم، وبيعُ العرايا: أن يشتري المُعرِي أي الواهب من المُعرى له ما على العرية من الرُّطَب تخميناً بقدرِه من التمر يأكله أهلُه رَطْباً ( التعريفات الفقهية - محمد عميم الإحسان المجددي البركتي. ص 145 .
أي بمعنى : أنّ المجتهد ينبغي أن لا يحكم على فعل ما بالجواز ، أو عدم الجواز ، إلّا بعد أن يعلم مآل ذلك الفعل ، وما يؤول إليه .
فإذا كان في فعلٍ ما جَلبُ مصلحة ، أو دفع مفسدة ، وكان حلالاً ، ولكن يؤول ، أو يؤدّي إلى ضرر ، أكبر من المصلحة الظاهرة منه ، وجب على المجتهد أن يفتي بمنع ذلك الفعل ، وتحريمه !
وإذا كان في فعــل ما جلب مفسدة ، أو دفع مصلحة ظاهراً ، وكان حراماً ، ولكن يؤول إلى مصلحة في النهاية ، ينبغي على المجتهد أن يفتي بجواز ذلك الفعل ، وتحليله !
والإمام الشاطبي ، رحمه الله ، يعلم أن هذا الإجتهاد صعب للمجتهد ، ولا يعرفه ولا يستطيع كل مجتهد أن يورده ، ومع ذلك فإنّ هذا المورد عذب المذاق!
([211]) قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين ، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها بقدر الإمكان ، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً (مجموع الفتاوى 23/343) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق