بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمــين ،
الرحمن الرحيم ، مـــالك يــوم الدين ، الأحد ، الصمد ، الذي لم يلد ، ولم يولد ،
ولم يكن له كفواً أحد ، الحي القيوم ، بديع السموات والأرض ، ذو الجلال والإكرام
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد
، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد .
صلى الله على سيّدنا ونبيّنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلّم
سبحان الله وبحمده ، سبحان
العظيم . سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزِنَة عرشه ، ومداد كلماته
أما بعد :
فهذا موضوع إعطاء زكاة
الفطر نقداً ، هل يجوز ، أم لا يجوز ؟ سنجعله على نقاط :
( أولاً ) /
: هذا الموضوع ، من المواضيع التي اختلف فيها الأئمة والعلماء ، قديماً وحديثاً
.
فهو ليس من مواضيع
الإجماع ، المتفق عليه بين الأئمة والعلماء ، بحيث لا يجوز الخروج عنه ،
والخلاف فيه .
أي : هو من المواضيع التي اجتهد
فيها الأئمة ، للفهم عن رسول الله r .
إجتهدوا
حتى يعلموا ، ماذا أراد رسول الله r ، بقوله ذاك ، فاختلفوا .
يعني : هو من المواضيع الظنية
، التي يجوز الإختلاف فيه .
ليس يجوز فحسب ، بل لابد أن
يقع فيه اختلاف وجهات النظر ، وذلك لسببين :
1 -
إن العلماء مختلفون في العلم والفهم والذكاء والفطنة .
2 - والموضوع الذي يعالجونه يحتمل الإختلاف
.
وأراد
الله تعالى أن يكون كذلك ، وإلا لجعله من المواضيع القطعية ، والأحكام
التي أجمع عليها الأمة ، فما كان لهم أن يختلفوا فيه !
فالقول فيه هو ليس بين الكفر والإيمان
، ولا بين الحق والضلال .
بل هو بين الراجح والمرجوح ، وإذا
شددنا أكثر من ذلـــك ، قلنا هو بين الخطأ والصواب !
وفي كلتا الحالتين ، لكل من المختلِفَين أجر وثواب ،
بعد أن تكون النية لله تعالى ، خالصة ، ولمرضاته ، لا
تعصباَ وتمذهباً !
فأما المصيب ، فله أجران :
1 - أجر اجتهاده ، الذي حاول فيه ،
وبذل جهداً ، ليفهم مراد رسول الله r في قوله ذلك
.
2 - وأجرٌ لإصابته ووصوله إلى المعنى
، الذي أُريد من وراء ذلك القول .
أما المخطيء فله أجر اجتهاده
فقط ، ومحاولته ، وبذل جهده وطاقته ، للوصول إلى مراد رسول الله r .
قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
«إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،
وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْـــطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» ([1])
.
[ قال
ابن المنذر: وإنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالمًا بالاجتهاد
والسنن، وأما من لم يعلم ذلك فلا يدخل فى معنى الحديث،
يدل
على ذلك ما رواه الأعمش، عن سعيد ابن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : (القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار، وقاض فى
الجنة، فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم، فذلك فى النار، وقاض قضى وهو لا
يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك فى النار، وقاض قضى بالحق، فذلك فى الجنة) .
قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده فى طلب الصواب لا على الخطأ ] ([2])
.
أي : إن هذا الأجر الذي يكون للمخطيء ، هو
للعالم ، الذي يستطيع الإجتهاد والفهم والإستنباط ،
بما يملك من صفات وأسباب وشروط ، تؤهله للقول في الموضوع !
وإلا فإذا أفتى في ذلك ، وتكلم في الموضوع
مَن ليس بعالم ، ولا يمتلك أدوات الفهم ، فهو في النار ، كما قال رسول
الله r !
فالمسألة مهمة ، ليست هينة !
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ، رحمه الله :
[ يُشِير
( يقصد الحديث ) إِلَى انه لَا يلْزم من رد حكمه أَو فتواه إِذا
اجْتهد فَأَخْطَأَ
ان يَأْثَم بذلك بل إِذا بذل وَسعه
أجر فان أصَاب ضوعف أجره لَكِن لَو أقدم فَحكم أَو أفتى بِغَيْر علم
لحقه الْإِثْم ] ([3])
.
وهذا القول تأكيد لما سبق ؛ أن الذي يحكم ويفتي
بغير علم ، فهو آثم ، وبالتالي فهو في النار !
وهذا الحكم يشمل المقلد ، الذي يحشر نفسه
بين العلماء ، فيتكلم فـــي الموضوع تقليداً ، فيجعل نفسه عالماً ،
وهو ليس بعالم ، بل يردد ما قاله بعض أتباع أحد المذاهب ، ويردّ أقوال الأئمة
الذين يخالفون مذهبه ، ويطعن فيهم !
وأن العالم الذي يجتهد فيخطيء
، هو غير آثم ، بل هو مأجور ، وبالتالي فهو ليس بأهل أن يُطعن فيه ، أويُجرح
!
قال الإمام النووي ، رحمه الله :
[ قَالَ
الْعُلَمَاءُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي
حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ
أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ
. . . فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ
بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ فَإِنْ حَكَمَ فَلَا
أَجْرَ لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ
أم لا لأن إصابته اتفاقية لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ
عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا
وَهِيَ مَرْدُودَةٌ كُلُّهَا وَلَا يُعْذَرُ فِي شئ
مِنْ ذَلِك ] ([4]) .
فقد أجمع
العلماء ! فهو لا خلاف فيه بينهم : أن الذي له الحق في الإجتهاد والكلام
في مواضيع الشرع ، هو العالم المجتهد لا غيره !
وأن غير
العالم المجتهد ، إذا اجتهد وقال في مواضيع الشرع قولاً ، حتى ولو
أصاب الحق والصواب ، فهو عاصٍ آثم ، مردود كلامه
، وغير معذور !
وقال الإمام القسطلاني ، رحمه الله :
[ (ثم أصاب) بأن وافق ما في نفس
الأمر من حكم الله (فله أجران) أجر الاجتهاد وأجر الإصابة (وإذا حكم
فاجتهد) أراد أن يحكم فاجتهد (ثم أخطأ) بأن وقع ذلك بغير حكم الله (فله
أجر) واحد وهو أجر الاجتهاد فقط ] ([5])
.
قلنا
: إن العلماء يختلفون فيما بينهم ، في درجة العلم والذكاء والفهم والفطنة ،
ولاسيما في فهم واستنباط ، ما يحتمل الإختلاف من الأقوال والأفعال .
كيف
لا وقد حدث هذا بين الأنبياء ، عليهم السلام !
قال تعالى : ( وَدَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ
وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) ([6])
.
[ أي : واذكر
هذين النبيين الكريمين { داود } و {سليمان} مثنيا مبجلا إذ آتاهما الله العلم
الواسع والحكم بين العباد، بدليل قوله: { إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ }
أي : إذ تحاكم إليهما صاحب حرث ، نفشت فيه غنم
القوم الآخرين ، أي: رعت ليلا فأكلت ما في أشجاره ، ورعت زرعه ، فقضى فيه
داود عليه السلام ، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ، نظرا إلى تفريط أصحابها ،
فعاقبهم بهذه العقوبة ، وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب، بأن
أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان
صاحب الحرث، حتى يعود إلى حاله الأولى، فإذا عاد إلى حاله، ترادا ورجع كل منهما
بما له، وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام ولهذا قال: { فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ} أي: فهمناه هذه القضية .
ولا يدل ذلك، أن داود لم يفهمه الله في غيرها،
ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله: {وَكُلا} من داود وسليمان { آتَيْنَا
حُكْمًا وَعِلْمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب
وقد يخطئ ذلك، وليس بمعلوم ([7])
إذا أخطأ مع بذل اجتهاده ) ([8])
.
( قال المفسرون: تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم
أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب
الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل
عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع! قال:
وما هو؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان،
ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا خرج الزرع رُدَّت
الغنم إلى صاحبها والأرض إلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا
بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ) ([9])
.
وقد
حدث الإختلاف بين الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم ، أيضاً ، ورسول
الله r ، بين أظهرهم !
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»
فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ
([10])
.
فهذا رسول الله r ، بين أظهر
الصحابة ، رضوان الله عليهم ، يأمرهم بأمرٍ واحد ، فاختلفوا في فهمه !
بعضهم أخذ بظاهر النص .
وبعضهم غاص في بحر معناه ، وفهم منه غير ظاهره !
وهذا النص من رسول الله r ، ظاهره الواضح ، أنه r ينهاهم أن يصلوا صـلاة العصر في الطريق ،
أو في أي مكان آخر ، ويأمرهم أن يصلوها في بني قريظة .
ومع هذا صلاها مجموعة منهم في
الطريق ، في وقتها . حيث فهموا أن الظاهر المتبادر من النص غير
مقصود !
هل هذا العمل من أولئك الصحابة ، يعتبر مخالفة
لأمر النبيّ r ، الواضح الصريح ؟
النبيّ r يقول قولاً
واضحاً صريحاً : لا يصلينّ ، وهم صلَّوا
!
الجواب : بلا أدنى شك هذا العمل لا
يعتبر مخالفة ، بل هو اجتهاد في فهم النص !
بدليل أنّ النبيّ r لم يعنّفهم ، ولم يخطّأهم ! بل وافق على
سلوكهم وتصرفهم ، واستنباطهم خلاف ما يتبادر من ظاهر النص !
[ قَالَ
السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ
أَنَّهُ لَا يُعَابُ عَلَى مِنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثٍ أَوْ
آيَةٍ وَلَا عَلَى مَنِ اسْتَنْبَطَ مِنَ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ
وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ مُخْتَلِفَيْنِ فِي
الْفُرُوعِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ . . . وَالْمَشْهُورُ
أَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَاحِدٌ
وَخَالَفَ الْجَاحِظُ وَالْعَنْبَرِيُّ وَأَمَّا مَا لَا قَطْعَ فِيهِ فَقَالَ
الْجُمْهُورُ أَيْضًا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
وَقَرَّرَهُ وَنُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَنَّ
حُكْمَ اللَّهِ تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ
وَبَعض الشَّافِعِيَّة هُوَ مُصِيبٌ بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ مَا فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ . . .
فِيهِ
تَرْكُ تَعْنِيفِ مَنْ بَذَلَ وُسْعَهُ وَاجْتَهَدَ فَيُسْتَفَادُ
مِنْهُ عَدَمُ تَأْثِيمِه . . .
وَقَدِ
اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ مَنِ اجْتَهَدَ
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَنِّفْ أَحَدًا مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ إِثْمٌ لَعَنَّفَ مَنْ أَثم
] ([11])
.
وفي رأي الحافظ ابن القيّم ، رحمه الله :
أن الذين صلّوها في الطريق كانوا
هم على صواب ، وأعلم وأفقه من الذين لم يصلوا ، وأخذوا
بظاهر النص !
قال ، رحمه الله :
[ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
أَيُّهُمَا كَانَ أَصْوَبَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الَّذِينَ أَخَّرُوهَا
هُمُ الْمُصِيبُونَ، وَلَوْ كُنَّا مَعَهُمْ لَأَخَّرْنَاهَا كَمَا
أَخَّرُوهَا، وَلَمَا صَلَّيْنَاهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَتَرْكًا لِلتَّأْوِيلِ
الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ.
وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى: بَلِ الَّذِينَ صَلَّوْهَا فِي الطَّرِيقِ
فِي وَقْتِهَا حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ، وَكَانُوا أَسْعَدَ
بِالْفَضِيلَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى امْتِثَالِ
أَمْرِهِ فِي الْخُرُوجِ، وَبَادَرُوا إِلَى مَرْضَاتِهِ فِي
الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ بَادَرُوا إِلَى اللِّحَاقِ
بِالْقَوْمِ، فَحَازُوا فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، وَفَضِيلَةَ
الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، وَفَهِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ،
وَكَانُوا أَفْقَهَ مِنَ الْآخَرِينَ ،
وَلَا
سِيَّمَا تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَهِيَ
الصَّلَاةُ الْوُسْطَى بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا مَدْفَعَ لَهُ وَلَا مَطْعَنَ
فِيهِ، وَمَجِيءُ السُّنَّةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَالْمُبَادَرَةِ
إِلَيْهَا، وَالتَّبْكِيرِ بِهَا، وَأَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ
وَمَالَهُ، أَوْ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، فَالَّذِي جَاءَ فِيهَا أَمْرٌ لَمْ يَجِئْ
مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا ،
وَأَمَّا
الْمُؤَخِّرُونَ لَهَا، فَغَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، بَلْ مَأْجُورُونَ
أَجْرًا وَاحِدًا لِتَمَسُّكِهِمْ بِظَاهِرِ النَّصِّ ، وَقَصْدِهِمُ
امْتِثَالَ الْأَمْرِ،
وَأَمَّا
أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُصِيبِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَنْ بَادَرَ إِلَى
الصَّلَاةِ وَإِلَى الْجِهَادِ مُخْطِئًا، فَحَاشَا وَكَلَّا ،
وَالَّذِينَ
صَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ، جَمَعُوا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَحَصَّلُوا
الْفَضِيلَتَيْنِ، فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَالْآخَرُونَ مَأْجُورُونَ
أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ] ([12])
.
فالحافظ ابن القيم ، هو
وغيره ، مع الذين صلوها في الطريق . أي : الذين لم يأخذوا
بظاهر النص ، ويعتبرهم أفقه من الذين صلوها في بني قريظة ، وأنهم
فهموا ما يراد منهم ! أي : الذين صلوها في بني قريظة لم
يفهموا المراد !
وهاك مثالاً آخراً ، على عدم الأخذ
بظاهر ما يتبادر من النص ، بل الغوص فيه ، لفهم المراد منه ، من قِبل خليفتين
راشدين كبار ! :
( عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ
، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا
وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا قَالَ
يَا رَسُولَ اللهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ ، أَوْ لأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ
قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا
تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ )(([13]))
.
أمر
النبيّ r وهديه في ضوال الإبل :
(
فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا لَـكَ وَلَهَا
؟ ) . أي : أمر بتركها ، وعدم التعرض لها !
هذا كان أمر النبيّ r وهديه وسنته في موضوع ضالة الإبل .
غضب r حتى احمرتْ وجنتاه ! :
أخرج البخاري في صحيحه ، رحمه الله :
( . . .
وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ ؟ فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ
، وَقَالَ : مَا لَكَ وَلَهَا ؟ ) ([14])
.
قال الإمام ابن بطال ، رحمه الله :
[ كذلك غضب
حتى احمر وجهه حين سئل عن ضالة الإبل وقال: (ما لك ولها. . . ] ([15])
.
لا يُتعرض لها ! :
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني ، رحمه
الله :
[
وَفِيهِ أَنَّ ضَالَّةَ الْإِبِلِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهَا
لِاسْتِقْلَالِهَا بِأَمْرِ نَفْسِهَا ] ([16])
.
النهي عن أخذ ضالة الإبل ! :
قال الإمام بدر الدين العيني ،
رحمه الله ، :
[
فِيهِ نهي عَن أَخذهَا ] ([17])
.
النهي عن التعرض لها ! :
وقال الإمام القسطلاني رحمه الله
:
[
قال ابن دقيق العيد: لما كانت مستغنية عن الحافظ والمتعهد
وعن النفقة عليها بما ركب في طبعها من الجلادة على العطش والحفاء عبّر عن ذلك بالحذاء
والسقاء مجازًا،
وبالجملة فالمراد بهذا النهي عن التعرّض لها لأن
الأخذ إنما هو للحفظ على صاحبها إما بحفظ العين أو بحفظ القيمة، وهذه لا تحتاج إلى
حفظ لأنها محفوظة بما خلق الله فيها من القوّة والمنعة وما يسر لها من الأكل والشرب
] ([18]).
ضالة الإبل في زمن عثمان وعليّ رضي الله عنهما !
وبقي حكم ضالة الإبل هكذا في زمن
النبيّ r ، وخلافة أبي بكر الصدّيق t ، وخلافة عمر بن الخطاب t ، إلى خلافة عثمان بن عفان t ، حيث أمر بأخذها ، وتعريفها ، ثم تباع ، فإذا
جاء صاحبها أعطي ثمنها !
وجعل عليّ بن أبي طالب t في خلافته حمىً لها ، يأخذها ، ويحبسها ، حتى يأتي
صاحبها فيأخذها !
هل هذا منهما مخالف لأمره وهديه وسنته r ؟
وقاصر النظر ربما ينظر إلى هذا العمل ، فيرى أنه مخالف
لأمر ، وسنة النبيّ r ، وبالتالي فإن الصحابة ، رضي الله عنهم ، والخليفتان
الراشدان ، قد خالفوا النبيّ r .
وذلك لأن النبيّ r نهى عن التعرض لها ، وأمر بتركها ، ولكن أحد الخليفتين الراشِدَين تعرض لها وأخذها ، ومن ثـم بـاعها
!
أما الآخر منهما ( الخليفتان الراشدان ) فقد تعرض لها أيضاً ،
وأخذها ، ومن ثم حبسها !
ولكن الذي يدقق النظر يرى أنه
تحقيق للغاية ، التي كان النبيّ r ينشدها بغضبه ذلك ، ونهيه عن إمساكها ، وهي : وصولها إلى صاحبها !
والصحابة ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين ، رضوان الله عليهم ، كانوا فقهاء
أئمة ؛ يفقهون الكلام ، ويفهمون مقاصده ، فعملوا بما يقتضيه تغيّر
الحال ، والظروف ، وتغيير الوسائل ، للوصول إلى الغايات
، والمقاصد الثابتة .
إختلاف الأحكام باختلاف الأحوال !
قال الإمام أبو الوليد الباجي
،رحمه الله ، :
[ وَهَذَا كَانَ حُكْمُ ضَوَالِّ
الْإِبِلِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي زَمَنِ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا كَانَ يُؤْمَنُ
عَلَيْهَا ،
فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِا لَمَّا كَثُرَ فِي
الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وَكَثُرَ تَعَدِّيهمْ عَلَيْهَا أَبَاحُوا أَخْذَهَا لِمَنْ الْتَقَطَهَا
وَرَفَعَهَا إلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَوْا رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا ،
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَرَ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ
بِتَعْرِيفِهَا ثُمَّ أَبَاحَ لَهُ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا ،
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ
.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ وَجَدَ بَعِيرًا فَلْيَأْتِ بِهِ الْإِمَامَ
يَبِيعُهُ يَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي بَيْتِ الْمَال . . . وَهَذَا مَعْنَى مَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ
مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُور ] ([19])
ضوال الإبل في زمن عثمان t :
وقال الإمام ابن بطال ، رحمه الله :
[ وقد باع عثمان ضوال
الإبل، وحبس أثمانها على أربابها ورأى أن ذلك أقرب إلى جمعهاعليهم لفساد
الناس ] ([20])
[ عن مالك انه سمع بن شِهَابٍ يَقُولُ كَانَتْ ضَوَالُّ الْإِبِلِ فِي
زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلًا مُؤَبَّلَةً تَنَاتَجُ لَا يَمَسُّهَا
أَحَدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ
بِتَعْرِيفِهَا ثُمَّ تُبَاعُ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا
] ([21])
.
وقال الإمام الزرقاني ، رحمه الله :
[ (لَا يُمْسِكُهَا أَحَدٌ) لِلنَّهْيِ
عَنِ الْتِقَاطِهَا (حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ
بِتَعْرِيفِهَا) بَعْدَ الْتِقَاطِهَا خَوْفًا مِنَ الْخَوَنَةِ (ثُمَّ
تُبَاعُ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا) لِأَنَّ هَذَا أَضْبَطُ لَه ] ([22]).
لا شك أنّ هذا الإختلاف في الحكم ، كان نتيجة إختلاف
الزمان ، ولم يمض على أمر النبيّ r ربع قرن تقريباً ، فكيف إذا مضت أربعة عشر قرن ، على أمرٍ ارتبط بذلك
الزمان ؟ !
ومما مضى يتبين :
أ - أنه يجوز أن يختلف الأئمة في فهم النصوص ؛ في فهم
آيات الكتــاب ( القرآن ) ، وفهــم أحاديث النبيّ r .
بعضهم يأخذ بظاهر ما يتبادر من النص ، والبعض الآخر يغوص
في المعاني ، فيستنبط المراد من النص ، بعيداً عن الظاهر .
بل رأينا الأنبياء ، عليهم السلام ، يختلفون – فيما
بينهم – في الإجتهاد .
ب - لا يؤثـم أحـدٌ منهم ، بل يؤجر ؛ إما أجرين ، أو
أجرواحد ، بشرط أن يكون عالماً مجتهداً ، من أهل الإجتهاد .
ج - الذي يطعن فيهم ، ويجرحهم ، بادعاء أنهم مخالفون
للنص ، هو إنسان لا يفهم في الشرع ، ومخالف لهدي النبيّ r !
( ثانياً ) / : نصوص الشرع
، سواء كانت نصوص الكتاب ( القرآن ) ، أو السنة ، دلالاتها
ليست واحدة .
بل هناك من النصوص ما تكون دلالتها قطعية
. أي : يُفهم منها فهم واحد ، لا غير . لا يحتمل فهماً آخر
، ولا يوجد شك في ذلك .
وهناك نصوص تكون دلالتها ظنية . أي :
الفهم منها ، والمراد منها ليس يقيناً ، يعني : لا يُفهم منها فهم
واحد ، بل يحتمل أكثر من معنىً .
فنصوص القرآن ، التي دلالتها قطعية ، لا يختلف
فيها العلماء والأئمة .
وكذلك نصوص السنة ، التي دلالتها قطعية ، لا خلاف فيها .
أما التي وقع فيـها الخلاف ، فهي النصوص الظنية
الدلالة ، سواء كانت من الكتاب ، أو السنة .
فـ[ القرآن قطعي
الورود ، أي ثابت قطعاً لوصوله إلينا بطريق التواتر المفيد للعلم اليقيني بصحة
المنقول . فأحكامه إذن قطعية الثبوت ،
إلا أن دلالته
على الأحكام قد تكون قطعية ، وقد تكون ظنية .
فتكون قطعية : إذا كان اللفظ لا يحتمل إلا معنىً واحداً ، ففي هذه الحالة تكون دلالة اللفظ على الحكم دلالة
قطعية ،
مثل قوله تعالى : (
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) [ النساء : 12 ] ، وقوله تعالى : (
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ) [ٌ النور : 2 ] ،
فالنصف
والربع والمائة كلها قطعية
الدلالة على مدلولها ، ولا يحتمل أي واحد منها إلا معنىً واحداً فقط هو
المذكور في الآية .
وتكون دلالتـه ظنية : إذا كـان اللفظ يحتـمل أكثر
من معنى ، فتكون دلالة اللفظ على الحـكم دلالة ظنية ،
مثل قوله تعالى : (
وَالْمُطَلَّقَـــاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِـهِنَّ
ثَلَاثَةَ قُرُوء ) [ البقرة : 228 ]
فلفظ (( القروء )) يحتمل أن يراد به الإطهار ، ويحتمل أن يراد به الحيضات ، فمع هذا الاحتمال تكون دلالة الآية على الحكم ظنية
لا قطعية ] ([23])
.
وكذلك السنة ، فـ( إن السنة من حيث ورودها قد
تكون قطعية : كما في السنة المتواترة ،
وقد تكون ظنية : كما في غير السنة المتواترة ، أي سنة
الآحاد والسنة المشهورة .
وأما من جهة دلالتها على الأحكام فقد تكون ظنية أو
قطعية ، فهي كالقرآن من هذه الجهة .
وتكون الدلالة ظنية : إذا كان اللفظ يحتمل أكثر مــن
معنى ، أي يحتمل التأويل .
فمن القطعية قوله r : (( في خمس
من الإبل شاة )) ، فلفظ (( خمس
)) يدل دلالة قطعية على معناه ، ولا يحتمل غيره
،
فيثبت الحكم لمدلول هذا اللفظ ، وهو وجوب إخراج شاة زكاة
عن هذا المال .
ومن الظنية قوله r : (( لا
صلاة إلا بفاتحة الكتاب )) ، فهذا الحديث يحتمل التأويل ،
فيجوز أن يحمل على أن الصلاة لا تكون صحيحة مجزية إلا بفاتحة الكتاب
،
ويحتمل أن يكون المراد : أن الصلاة الكاملة لا
تكون إلا بفاتحة الكتاب ،
وبالتأويل الأول أخذ الجمهور ، وبالتأويل الثاني أخذ
الحنفية ] ([24])
.
فإذا اختلف
الأئمة في الأحكام الشرعية ، فليس معنى ذلك أن أحدهم سعد بنص
، والآخر حُرِم منه ! أو أن أحدهم قد خالف النص !
والآخر وافقه !
بل ربما هناك نص واحد ، يحتمل أكثر من معنى ، فيفهم ويأخذ بعضهم بمعنىً منه ، ويفهم ويأخذ البعض
الآخر بمعنىً آخر مغاير لذلك المعنى !
وذلك مثل مسألة أمر النبيّ r الصحابة ، بصلاة العصر في بني قريظة .
فصلى بعضهم في الطريق ، وفهموا من قول النبيّ r وأمره بذلك ، الإسراع في الذهاب إلى
هناك ، وعدم التأخير !
فاستنبطوا وفهموا من قوله r غير ظاهر النص !
أما البعض الآخر ، من الصحابة ، رضوان
الله تعالى عليهم جميعاً ، فقد فهموا من أمره r ، ظاهر النص ، فصلوا
صلاة العصر ، في بني قريظة بعد المغرب !
ورسول الله r ، لم يعنّف أحداً منهم !
فرسول الله r ، وهو بين أصحابه ، يأمرهم
بأمر واحد ، فانقسم
الصحابة إلى طائفتين في الفهم عنه ،
وأخذت كل طائفة منهما تطبق أوامر رسول الله r بصورة تختلف عن الأخرى !
ومع هذا لم يعنّف النبيّ r واحدة منهمــا ، ولم يخطّأ
أحداً !
و الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم ، مع
ذلك الإختلاف بينهم ، في الفهم والتطبيق ، لم يحدث بينهم شقاق
ولا بغضاء ، ولا تفرّق ، ولا شحناء ، ولا
حقد ، ولا كراهية ، ولا تنابز بالألقاب ! وأولئك هم السلف الصالح !
ولم يستطع إبليس أن يخدعهم ، ويضحك عليهم ، فينحرف بهم ،
ويلقي بينهم العداوة والبغضاء ، باسم اتباع الكتاب والسنة ، والغيرة على الدين !
( ثالثاً ) / : نصوص الشرع ؛ سواء كانت من
الكتاب ، أو من السنة ، قد جاءت باللغة العربية .
واللغة العربية هي قمة اللغات في البلاغة : ففيها
الحقيقة والمجاز ، والصريح والكناية . ودلالة الألفاظ – فيها
– على معانيها قد تكون واضحة
، وهي على درجــات : الظاهر ، والنص ، والمفسر ، والمحكم
.
وقد تكون دلالتها غير واضحة ، وهي أيضـــاً
على درجات : الخفي ، المشكل ، المجمل
، المتشابه .
وكيفية دلالة الألفاظ علــى معانيها ، قد
تكون بعبارة النص ، وقد تكون بإشارة النص ، أو بدلالة
النص ، أو باقتضاء النص
وهناك مفهوم المخالفة أيضاً .
وتُطلب هذه المواضيع والمعاني ، في مظانها ؛ في علم أصول
الفقه .
وقد تحدى الإسلامُ العربَ الأقحاح ، وبارزهم في
فنونهم اللغوية ، فأعجزهم .
وهم كانوا يتفاخرون ، ويتباهون في تلك ،
ويتسابقون ، ولهم أسواق ، ومواسم ، يُظهرون فيها نبوغهم اللغوي ، عن طريق الشعر ،
أو النثر !
فتحدّاهم الإسلام فأخرسهم !
فلا يُعقل أن ينزل الإسلام ، ولاسيما في
إعجازه اللغوي ، في قمة عليائه إلى مستوى الرعاع والسوقة ، أو إلى مستوى
المعدمين والفقراء من التذوق في اللغة العربية ، من أجل إفهامهم ، وإرضائهم
!
قلت كل هذا الكلام ، لأن بعض الناس إذا قلت له : ليس
المراد من هذا النص ظاهره ، بل أراد كذا وكذا ، قال
: فلماذا لم يقل ذلك صراحة !
أي يريد من نصوص الإسلام ، والتي تحدّى بها الإسلامُ
العربَ في بلاغتها ، يريد منها أن تنزل إلى مستواه الفقير !
فعلى سبيل المثال :
( عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ
بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قُلْنَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّنَا أَسْرَعُ
بِكَ لُحُوقًا ؟ قَالَ : « أَطْوَلُكُنَّ يَدًا » ، فَأَخَذُوا قَصَبَةً
يَذْرَعُونَهَا ) ([25])
وفي رواية : ( قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا » قَالَتْ :
فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا، قَالَتْ: فَكَانَتْ
أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ
بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ ) ([26])
.
[ أخرج الطحاوي
رحمه الله في " مشكله " : عن
عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال النبي - صلى الله عليه وسلم – لأزواجه : " يتبعني
أطولكن يدًا "
قالت عائشة : وكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة
النبي - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الجدار نتطاول ،
فلا نـزالُ نفعلُ ذلك حتى تُوفيت زينب ابنة جحش ابن رباب ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
وكانت امرأة قصيرةً رضي الله عنها ، ولم تكن أطولنا يدًا
،
فعرفنا حينئذٍ إنما أراد النبي - صلى الله
عليه وسلم - : الصدقة.
قالت : وكانت زينبُ امرأةً صناعة اليد، تذيع
الخيرَ ، وتجوز ، وتتصدق به في سبيل الله ] ([27])
.
لماذا لم يقل النبيّ r ، يتبعني أكثركن صدقة ، بدل أن يقول : أطولكن يدا ؟ !
لمــاذا لم يصرّح بذلك ، حتى تفهمه زوجاته ؟
هل هذا الأسلوب الرائع من النبيّ r ، يُعتبر كذباً ؟
لأنه قال : أطولكن يداً ، وزينب ، رضي
الله عنها ، لم تكن أطولهن يداً ؟
حاشا لله تعالى ، وألف كلّا !
هذه هي اللغة العربية ، في روعتها وجمالها !
ولا يقلل النبيّ r ، من شأن هذه اللغة العظيمة ، من أجل بعض
مَن لا يفهمون الكلام ، إلا ظاهراً صريحاً !
وكيف يُهبِط النبيّ r ، بتلك اللغة ، العظيمة ، الجميلة ، البليغة
، من أجل أن لا يلتبس الكلام على بعض الذين لا يفهمون غير الظاهر من الكلام ؟
فلينظر الذين يعتبرون المجاز والكناية كذباً ، إلى أين
يذهب كلامهم ؟ !
فالمجاز والكناية من روائع اللغة العربية ، وهذا الجمال
، وهذه الروعة قد أخرست الفطاحل من العرب ، في تحدّيهم أن يأتوا بمثله .
بل قد جفّت ينابيع بعض الشعراء ، في عهد النبيّ r ، عندما سمعوا القرآن الكريم لأول مرة ، فلم
يستطيعوا أن يواصلوا في وضع الأشعار ؛ إنبهاراً ودهشة ، لما سمعوه من البيان
والبلاغة !
والمجاز : هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في إصطلاح
التخاطب ، لوجود علاقة بين اللفظ المستعمل والمعنى المراد ، مع وجود دليل مانع من
إرادة المعنى الوضعي .
فالمتكلم يستخدم لفظاً في كلامه ، هذا اللفظ لم يوضع
لهذا المعنى في الأصل عند الكلام والمخاطبة بين الناس .
يستخدمه في كلامه ، لأنه أقوى في الدلالة على المعنى
الذي يريده .
فمثلاً لفظ ( طويل
اليد ) ، عادة يستخدم في الكلام ، لإنسان يـده طويلة بالمقياس المعتاد ، كأن تكون
متراً ، أو أقل قليلاً ، أو أكثر .
ولكن العرب – والنبيّ r ، هنا – يستخدمه لمن يكثر الصدقات !
وذلك لأن الإنسان عادة إذا ساعد محتاجاً ، وتصدّق عليه ،
يفعل ذلك بيده .
فطويل اليد هنا ، مجاز عن كثير الصدقة .
فهناك علاقة بين اليد ، وبين الصدقة .
هذه العلاقة تسمى : العلاقة الآلية في المجاز ، وذلك في
علم البلاغة .
والآلية : [ هي كون الشيء واسطة لإيصال أثر شيء إلى آخر
، وذلك فيما إذا ذُكر اسم الآلة ، وأريد الأثر الذي ينتج عنه ، نحو ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِين ) أي ذكراً حسناً .
فلسان بمعنى ذكر حسن . . . لأن اللسان آلة في الذكر الحسن ] ([28]) .
[ والمجاز : من أحسن الوسائل البيانية التي تَهدي إليها
الطبيعة ، لإيضاح المعنى ، إذ به يخرجُ المعنى متَّصفاً بصفةٍ حسيّة ، تكادُ
تعرضُه على عَيانِ السامع . لهذا شُغفت العربُ باستعمال المجاز لميلها إلى الاتساع
في الكلام ، وإلى الدَّلالة على كثرةِ معاني الألفاظ . ولِما فيه من الدِّقَّة في
التعبير ، فيحصُل للنفس به سرور وأريحيّة .ولأمرٍ ما كثُرَ في كلامهم ، حتى أتَوا
فيه بكلِّ معنى رائق ، وزيّنوا به خطبَهم وأشعارهم ] ([29]) .
وكذلك الكناية : و [ هي أن يريد المتكلّمُ إثباتَ معنىً
من المعاني ، فلا يذكرُه باللفظِ الموضوعِ له ، ولكن يجيء إلى معنى هو مرادفه ،
فيومىءُ به إلى المعنى الأول ، ويجعلُه دليلاً عليه .
أو الكناية : هي اللفظ الدالُّ على ما له صلة بمعناه
الوضعي ، لقرينةٍ لا تمنع من إرادة الحقيقةِ ، كفلانٍ نقيّ الثوب . أي : مبرأ من
العيب . وكلفظِ (( طويل النَّجاد )) : المرادُ
به طولُ القامة ، فإنه يجوز أن يرادَ منه طولُ النجاد أي علاقةُ السيف أيضاً ، فهي
تُخالف المجاز من جهة إمكانِ إرادةِ المعنى الحقيقي مع إرادة لازمه . بخلاف المجاز
، فإنه لا يجوزُ فيه إرادةُ المعنى الحقيقي لوجودِ القرينة المانعة من إرادته ] ([30]) .
ومعنى الكلام :
أنّ في المجاز ، يستخدم الإنسان لفظ لا
يريد به حقيقته ، وهناك دليل يمنع من إرادته معنى اللفظ الحقيقي . كاستخدام رسول
الله r ، لفظ ( طول اليد ) لكثرة الصدقة .
والدليل الذي منع من إرادته r حقيقة اللفظ ، هو أنّ زينب رضي الله عنها ،
كانت قصيرة اليد ، ولم تكن أطولهنّ يداً !
فهذا دليل دامغ أنّه r ، إستخدم المجاز ، ولم يرد حقيقة اللفظ .
ولكن في الكناية ، ليس هناك دليل يمنع من
إرادة الإنسان حقية اللفظ .
فمثلاً ( نقيّ الثوب ) ، أي : مبرأ من العيب
. ولكن لا مانع من إرادته الحقيقة . أي : نظافة الثوب .
وكذلك ( طويل النجاد ) ، أي : شجاعٌ عظيم
. ولا مانع من أنه أراد : طويل السيف
حقيقة .
فالنجاد : هو السيف .
وعلاقة طول السيف بالشجاعة ؛ أنه [
يلزمُ من طول حِمالةِ السيف طول صاحبه ، ويلزمُ من طولِ الجسم الشجاعةُ عادةً .
فإذاً المرادُ طولُ قامته ، وإن لم يكن له نَجاد ، ومع ذلك يَصحُّ أن يُرادَ
المعنى الحقيقيّ . ومن هنا يُعلَمُ أنّ الفرقَ بين الكناية والمجاز صحةُ إرادةِ
المعنى الأصليّ في الكناية ، دون المجاز ، فإنه ينافي ذلك ] ([31]) .
[
ومثلُ ذلك قولهم : (( كثير الرماد )) يعنون به أنه كثيرُ
القِرى والكرم ، وقول الحضرمي :
قد كانَ تعجبُ بعضَهنّ براعتي حتى رأيْنَ تَنَحْنُحي وسُعالي
كنى عن كبر السنّ بتوابعه ، وهي التنحنحُ
والسُّعال . وقولهم : المجدُ بين ثوبيه ، والكرمُ بين برديه . وقوله :
إنّ
السماحةَ والمروءةَ والنَّدى في قُبّةٍ
ضُربتْ على ابنِ الحشرجِ
وقوله :
وما يَكُ فيَّ من عيبٍ فإنّي جبانُ الكلبِ مهزولُ الفَصيلِ
فإن (( جبان
الكلب )) كناية . وكذا (( مهزول
الفصيل )) والمرادُ منها ثبوت الكرم . وكلُّ واحدةٍ على حِدَتها
تؤدي هذا المعنى . وقد جاء عن العرب كنايات كثيرةٌ كقوله :
بيضُ
المطابخ لا تَشكو إماؤهمو طبخَ
القُدورِ ولا غسلَ المناديلِ
ويُروى أن خلافاً وقعَ بينَ بعضِ الخلفاء ونديم له في
مسألة ، فاتفقا على تحكيمِ بعضِ أهلِ العلم ، فأُحضر . فوجدَ الخليفةَ مخطئاً ،
فقال : (( القائلون بقول أمير المؤمنين أكثر )) يريد
الجهال .
وإذا كان الرجلُ أحمقَ قيل : (( نعتُه لا
ينصرفُ )) .
ونظرَ البديع الهمَدانيُّ إلى رجلٍ طويلٍ باردٍ ، فقال :
قد أقبلَ ليلُ الشتاء . . .
وإذا كان الرجلُ ملولاً قيل : هو من بقيةِ قوم موسى .
وإذا كان ملحداً ، قيل : قد عبر ( يريدون جسرَ الإيمان ) . وإذا كان يسيء الأدبَ
في المؤاكلة قيل : تسافرُ يدُه على الخوانِ ويرعَى أرضَ الجيران . ويقال عمن يُكثر
الأسفار : فلانٌ لا يضعُ العصا عن عاتقه . وجاء في القرآن الكريم : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا ) [ الحجرات : 12 ] ، فإنه كنى عن الغيبةِ بأكل الإنسان لحمَ الإنسان .
وهذا شديدُ المناسبة ، لأن الغيبةَ إنما هيَ ذكرُ مثالبِ الناس ، وتمزيقُ أعراضِهم
. وتمزيقُ العِرض مماثلٌ لأكلِ الإنسان لحمَ مَن يغتابُه .
ومن أمثال العرب قولهم : (( لبستُ
لفلانٍ جلدَ النمر، وجلدَ الأرقم )) كناية عن العداوة . وكذلك قولهم : (( قلبتُ لـه
ظهرَ المِجَنّ )) كناية عن تغيير المودّة . ويقول القوم : فلانٌ بريءُ
الساحة ، إذا برَّؤوه من تُهمة . ورحب الذراع ، إذا كان كثير المعروف . وطويل
الباع في الأمر ، إذا كان مقتدراً فيه . وقويَّ الظهر ، إذا كثُرَ ناصروه . ومن
ذلك . . . أنّ رجلاً مرّ في صحنِ دارِ الرشيد ، ومعه حزمةُ خَيْزُران ، فقال
الرشيد للفضل بن الربيع : ما ذاك ؟ فقال : عروقُ الرماح يا أميرَ المؤمنين . وكره
أن يقولَ (( الخَيْزُران )) لموافقته اسمَ والدةِ
الرشيد . ومن كلامهم : (( فلانٌ طويلُ الذَّيل )) ، يريدون
أنه غنيٌّ حسَنُ الحال . وعليه قولُ الحريري :
إنّ
الغريبَ الطويلَ الذيل ممتهنٌ فكيفَ
حالُ غريبٍ مالَه قوتُ ؟
وكذلك قولُهم : فلانٌ طاهر الثوب . أي
منزَّهٌ عن السيئات وفلانٌ دَنِسُ الثوب
أي متلوِّث بها . قال امرؤ القيس :
ثيابُ بني
عوفٍ طَهارى نقيةٌ وأوجُهُهم عندَ
المشاهدِ غراتُ
ويقولون : فلانٌ غمرُ الرداء . إذا كان كثيرَ المعروف
عظيمَ العطايا ، قال كثيرٌ :
غَمرُ الرداءِ
إذا تبسَّمَ ضاحكاً غَلِقَتْ
لضَحكتهِ رقابُ المالِ
ومن الكنايات اللطيفة ما ذكره الأدباءُ في الشيب والكبر
، فيقولون : عرضتْ لفلانٍ فترةٌ ، وعرض له ما يمحو ذنوبَه ، وأقمرَ ليلُه . ونوّر
غُصنُ شبابه . وفضَّضَ الزمانُ أبنوسَه . وجاءه النذير . وقرعَ ناجذَ الحلم .
وارتاضَ بلجام الدهر . وأدرك زمانَ الحُنكة . ورفضَ غِرَّةَ الصِّبا . ولبّى
دواعيَ الحجَى . ومن كناياتهم عن الموت : استأثرَ الله به ، وأسعدَه بجواره ، ونقله
إلى دار رضوانه ومحلِّ غفرانه ، واختارَ له النقلةَ من دار البَوارِ إلى دارِ
الأبرار . ومن الكنايات أيضاً أن يقامَ وصفُ الشيءِ مقامَ اسمهِ كما ورد في القرآن
الكريم : ( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ
وَدُسُر ) [ القمر : 13 ] ، يعنــي
السفينة . فوضـعَ صفتَها موضع تسميتها ، كما ورد : ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَاد ) [ ص : 31 ] ، يعني الخيل . وقال بعض المتقدمين :
سألتْ
قتيبةُ عن أبيها صَحبَهُ
في الروح هل ركبَ
الأغرَّ الأشقرا ؟
فالحق هو : أن الواجب على الذين لا يفهمون
من الكلام إلا ظاهره ، أن لا يتطاولوا ، فيزاحموا الأئمة الأعلام ،
في فهم الدين ، فيساووا أنفسهم بالأئمة .
ليس هذا فحسب ، بل يعتبرون أنفسهم أفهم منهم وأعلم !
فالواجب عليهم أن يتواضعوا ، ولا يخرجوا عن طورهم ،
وليكتفوا بتقليد دينهم لبعض مقلدة المذاهب !
وهذا لم يحدث في أي دين ، أو حزب ، أو فكر : أن يتطاول
مَن لا يعرف إعراب جملة ، فيقوم بتخطئة الأئمة العظام ! ويجعل نفسه مجتهداً ،
يتكلم في أمور العامة ، والأمور العظيمة !
فهذا الدين العظيم ، شأنه لا يقل عن شأن بقية مجالات
العلوم الأخرى ، حيث لكل مجال متخصصون ، برعوا وامتازوا في ذلك ، فأصبحوا مصدراً
ومرجعاً لبقية الناس في ذلك !
فلا يجوز أن يهجم عليه كل مَن هبّ ودبّ ، فيتحدّث عنه ،
ويحلل ويحرّم ، ويحظر ويبيح ، ويسنّن ويبدّع !
قال الإمام الماوردي :
[ قال ابن
عباس: " التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب بكلامها وتفسير لا
يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله
عز وجل " وهذا صحيح.
أما
الذي تعرفه العرب بكلامها، فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم.
وأما
الذي لا يعذر أحد بجهالته ، فهو ما يلزم الكافة في القرآن من الشرائع وجملة دلائل
التوحيد .
وأما
الذي يعلمه العلماء، فهو وجوه تأويل المتشابه وفروع الأحكام.
وأما
الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة.
وهذا
التقسيم الذي ذكره ابن عباس صحيح ] ([33])
.
فالذي لا يفهم الكلام ، عليه أن يسأل ويتبع الأئـــمة
والعلمــاء ، لا أن يعادي ما هو فوق مستواه !
وعليه – حينئذٍ – أن يكتفي بالتقليد ويصمت ، فوزاً
بالسلامة لدينه وعرضه !
ولقد ذكر ابن الجوزي ، رحمه الله ، الذين لا يفهمون من
الكلام إلّا ظاهره ، فقال :
[ وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه
وقد مدحته ليلى الأخيلية فقالت :
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام اذا هز القناة سقاها
فلما أتمت القصيدة ، قال لكاتبه : إقطع
لسانها ، فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى .
فقالت له : ويلك إنما قال أجزل
لها العطاء .
ثــم ذهبــت إلـــى الحجـــاج فقالـت :
كاد والله يقطع مقولي ] ([35])
فهناك أناس لا يفهمون من الكلام إلا
ظاهره ، حالهم حال كاتب الحجاج !
حيث أراد أن يمثّل بتلك المرأة ، فيقطع
لسانها حقيقة ، نتيجة فهمه الفاسد !
ومن رحمة الله تعالى ، أن كان الحجاج –
صاحب الكلام – موجوداً ، فرجعوا إليه ، فبيّن لهم أنه يقصد بكلامه إجزال العطاء ،
لا قطع لسانها حقيقة !
فماذا
كان يحدث لو أن الحجاج غاب ، ولم يستطيعوا الوصول إليه ؟ !
ولماذا
قال الحجاج : إقطع لسانها ، ولم يقل صراحة : أجزل لها العطاء ؟ !
لماذا
قال كلاماً إلتبس على كاتبه المسكين ؟
الجواب :
تجده عند بلاغة اللغة العربية ! لغة القرآن والسنة ، وعند مَن اتصف بالبلاغة
والفصاحة !
( رابعاً ) : وهنا مسألة مهمة جداً ، قد
يغفل عنها ، ويتهاون فيها كثير من المسلمين ، وهي : الإخلاص !
أي : إرادة رضوان الله تعالى ، فيما يقوله
المسلم ويفعل ! أو فيما يخاصم عليه ويذر
!
قد يلبّس الشيطان – وهو صاحب خبرة
في إضلال الناس – على كثير من المسلمين ، في مواقفهم المتشنجة ، وآرائـهم الفجة ،
في المخاصمة ، والطعن في كثير من الأئمة والدعاة ؛ الذين بذلوا
أرواحهم رخيصة في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته تعالى .
يلبّس الشيطان عليهم بأنهم – في مواقفهم المتشنجة هذه ،
وطعنهم في الأئمة وتجريحهم ، وتشويه سمعتهم ، والتخندق
مع أعداء الله تعالى ضدهم – إنما يتصدرون عن الغيرة في الدين ،
ودفاعاً عن الإسلام !
وهم في الحقيقة ، ليسوا بأكثر من متحزبين متعصبين لبعض
آراء واجتهادات بعض الرجال غير المعصومين !
لكن الشيطان زيّن لهم أعمالهم !
بدليل أنه لو صدر نفس الأقوال والأفعال
التي ينتقدونها – تقليداً وتعصباً –
لو صدر من الرجال الذين يقلدونهم ويتعصبون
لهم لأَوّلوها ألف تأويلٍ وتأويل حسنٍ ، وغمضوا أعينهم أمامها وصمتوا
، متذرعين بحسن الظن بالمسلم وبالعلماء !
ولا يحسبنّ أولئك أنّ الله تعالى غافل عنهم ، وأنه
سبحانه لا يؤاخذهم بجريرتهم هذه !
قَالَ رَسُولُ اللهِ r : " قَالَ اللهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ
عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " ([36])
قال
الإمام النووي ، رحمه الله :
( وَمَعْنَاهُ
أنا غنى عَنِ الْمُشَارَكَةِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ
عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلْهُ بَلْ أَتْرُكْهُ لِذَلِكَ
الْغَيْرِ والمراد أن عمل المرائى باطل لاثواب فِيهِ وَيَأْثَمُ بِه ) ([37])
وقال رسول الله r : " إِذا جمعَ اللهُ الأَولين والآخرين يومَ
القيامة ليومٍ لا ريبَ فيه ؛ نادى منادٍ : مَن كانَ أَشركَ في عملِه للهِ أَحدًا؛
فليطلب ثوابه من عنده؛ فإنَّ اللهَ أَغنى الشركاءِ عن الشركِ".
حسن صحيح - "تخريج المشكاة" (5318)،
"التعليق الرغيب" (1/ 35): م مختصرًا. 2118 - 2501 - عن أُبيِّ بن كعبٍ؛ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم – قال :
" بشّر هذه الأمة بالنصرِ والسناء والتمكين، فمن
عمل منهم عملَ الآخرة للدنيا ؛ لم يكن له في الآخرة من نَصيب " .
حسن صحيح - "أَحكام الجنائز" (70)،
"التعليق الرغيب" (1/ 31) ) ([38])
.
هذا لمن عمل وتحرّك وقال قولاً ، تحزّباً وتعصّباً ،
باسم الله ، وباسم رسوله r ، أو باسم الكتاب والسنة !
وهو في داخل نفسه يحرّكه التحزب والتعصب ، من حيث لا
يدري !
أما الذي يحارب أولياء الله تعالى ، باسم الله تعالى ،
وباسم رسوله r ، أو باسم الكتاب والسنة – وهو في قرارة نفسه يحاربه تعصباً
وتحزباً ، ولأنه ليس من جماعته ، وهو لا يدري ( وهذا إحساناً للظن به ) فمصيره
رهيب !
[ أي
أعلمته (بالحرب) أي أعمل به ما يعمله العدوّ في المحارب من الإيذاء ونحوه
،
[ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ
بْنُ عَطَاءٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِظَمُ قَدْرِ الْوَلِيِّ
لِكَوْنِهِ
خَرَجَ عَنْ تَدْبِيرِهِ إِلَى تَدْبِيرِ رَبِّهِ وَعَنِ انْتِصَارِهِ لِنَفْسِهِ
إِلَى انْتِصَارِ اللَّهِ لَهُ وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِصِدْقِ تَوَكُّلِهِ
قَالَ
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِإِنْسَانٍ آذَى وَلِيًّا ثُمَّ لَمْ يُعَاجَلْ
بِمُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ
وَلَدِهِ بِأَنَّهُ سَلِمَ مِنِ انْتِقَامِ اللَّهِ
فَقَدْ
تَكُونُ مُصِيبَتُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ كَالْمُصِيبَةِ
فِي الدِّينِ مَثَلاً ] ([41])
.
أي : أنّ الذي يؤذي وليّاً من أولياء الله تعالى – من الذين
استسلموا لله تعالــى ، وآمنوا بـه تعالى ، واختاروا صراطه سبحانه ، على السبل
الكثيرة ، واتّقوه ونصروا دينه ، لاسيما الذين استشهدوا في سبيله –
هذا الذي يؤذيهم ،
يُعاجَل بمصيبة – من الله تعالى – في نفسه ؛ من مرض ،
أو جرح ، أو قتل أو أية مصيبة أخرى .
أو يصاب في ماله
سواء بغصب ، أو حرق ، أو غرق ، أو خسارة ، أو أية مصيبة أخرى .
أو يصاب في أولاده
بأنــواع من المشاكل الشائكة العويصة ، فيصبحوا من نِقَم الله تعالى عليه !
فإذا لم يصب بكل ذلك ، فقد يصاب في دينه ، التي
توصله إلى نار جهنم وبئس المصير !
ولقد ذكروا مَن كان حافظاً للقرآن عن ظهر غيب ،
ولكنه كان يطعن في بعض كبار الدعاة - ممن قضوا نحبهم في سبيل الله
تعالى - فابتلي هذا الحافظ بنسيان القرآن !
هؤلاء الـذين لبّس عليهم الشــيطان ، فقدّموا أوامر
الشيطان ، وأهواء نفوسهم المريضة ، على شرع الله تعالى وأوامره ، سبحانه ، لا يخفى
أمرهم على الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ) ([42])
.
فالله سبحانه وتعالى ينهى عن طعن أوليائه ، وإيذائهم ،
وهؤلاء يعصون أمره تعالى ، ويخالفون !
ولقد ذكر العلماء : أن بين البغـض لله ، وبين البغض
للنفس ، شعرة !
قد يلبس الشيطان عليهم ، فيقومون ببغض المسلم ، والحقد
عليه ، لأنه لا يوافقهم في آرائهم ، وهو ليـس في حزبهم وجماعتهم ، فيظنون أن ذلك
البغض والعداء هو لله تعالى ، وفي سبيله !
وقد لا يفطنون هم أيضاً لذلك !
وذلك لأنّ الذي يفقد الإخلاص ، لا يبالي الله تعالى ،
بأي وادٍ هلك .
فيلبّس الشيطان
عليهم ، فتختلط عليهم الأمور ، فلا يميّزون بين الإخلاص والشرك ، والتقوى والرياء
!
أما المخلص فلا يضيّع الله تعالى جهوده :
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين ) ([43])
.
[ أي جاهدوا
النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين، من أجلنا ولوجهنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنا
أي سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا. وذلك
بالطاعات والمجاهدات
وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَــعَ الْمُحْسِنِيــنَ أي: أعمـــالهم بالنصــر والمعـونة ] ([44])
فالذي يجاهد ويتعب ، ويبذل جهوده – في حركاته وسكناته
، وفي أقواله وأعماله ، وفي بغضه ومحبته – من أجل الوصول إلى مرضاة الله تعالى ،
ولوجهه تعالى خالصاً ،
يهديه
الله سبحانه إلى صراطه المستقيم ؛ صراط الذين أنعم عليهم من النبيّين
والصدّيقين والشهداء والصالحين ،
ولا يتركه تعالى ليضيع بين السبل الكثيرة
المنحرفة !
بل يسهّل له أموره ، ويشرح صدره.
أما الذي يبغض ويحب ، ويقول ويعمل ، ويتحرك ويسكن
حسب ما تمليه عليه النفس الأمّارة بالسوء ، وانتصاراً للنفس والهوى ، وتعصباً
وتمذهباً ، باسم الله تعالى وباسم رسوله r ، فلا يبالي
به الله تعالى في أيّ وادٍ هلك !
وعند ذلــك يستلمه الشيطـان فيلعب به لعب الصبيان بالكرة
! وتُعسر أموره ، ويضيق صدره .
قال تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى .
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) ([45])
.
فإذا فقد المسلم الإخلاص ،
وأشرك هوى نفسه في أمر الله تعالى ودينه ، فتحرّك ظاهراً باسم الله تعالى ورسوله r ، وهو في الحقيقة يصدر عن التعصب والتحزب ،
عند ذلك يلبس عليه الشيطان فيكون من
أتباعه ، وينفّذ ما يمليه عليه الشيطان ، فيحقق له ما يريده
!
ولقد لبّس الشيطان على الخوارج ، فاتهموا
الخليفة الراشد ، عليّا بن أبي طالب ، t ، بالجهل
والكفر ، ثم قتلوه ، دفاعاً عن الدين والإسلام
، وخلاص المسلمين من شره بزعمهم ! ! !
واتهموا النبيّ r ، قبل ذلك بالظلم وعدم العدالة :
( عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا
بَيْنَ الأَرْبَعَةِ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ، ثُمَّ
المُجَاشِعِيِّ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزَارِيِّ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ،
ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ العَامِرِيِّ، ثُمَّ
أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ،
فَغَضِبَتْ
قُرَيْشٌ، وَالأَنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا،
قَالَ: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ».
فَأَقْبَلَ
رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاتِئُ الجَبِينِ، كَثُّ
اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا
مُحَمَّدُ، فَقَالَ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ؟ أَيَأْمَنُنِي
اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَلاَ تَأْمَنُونِي»
فَسَأَلَهُ
رَجُلٌ قَتْلَهُ، - أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ - فَمَنَعَهُ،
فَلَمَّا
وَلَّى قَالَ: " إِنَّ مِنْ
ضِئْضِئِ هَذَا، أَوْ: فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ
الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ
أَهْلَ الأَوْثَانِ،
وفي رواية : ( بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
اليَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا،
قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ،
وَأَقْرَعَ بْنِ حابِسٍ، وَزَيْدِ الخَيْلِ، وَالرَّابِعُ: إِمَّا عَلْقَمَةُ
وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ،
فَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ، قَالَ:
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلاَ
تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ
صَبَاحًا وَمَسَاءً»،
قَالَ:
فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ،
نَاشِزُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ
الإِزَارِ ) ([47])
.
و( عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ
بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ
مِنْهَا، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ،
قَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ
وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ»
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
دَعْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: «مَعَاذَ
اللهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي،
إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ) ([48])
.
قال رسول الله r : (
«سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ،
سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ
الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ) ([49])
.
فهذا الذي اتّهم النبيّ r بالجور ، يعتبر نفسه أفضل
من النبيّ ، وأعدل ، فكيف بغيره r ؟
ولم يكن هو بأفضل من النبيّ r ، حاشا لله !
بل هو رجل مريض النفس ، أراد أن يرفع خسيسته بذلك النقد
، ليقول : أنا فاضل عادل متّقٍ !
والعجيب في هذا الحديث ، ما وصفه الصحابة ، من شكل وهيئة
هذا الذي انتقد النبيّ r ، حيث قالوا عنه أنه كان : كَثُّ
اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ
الإِزَارِ ! !
وأنّ من صفات أتباعه التي وصفها النبيّ : قَوْمٌ
أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ
مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ
أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ
الأَوْثَانِ ! !
كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار : أي رافع
الثياب !
[ وَفِي
حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرِيِّ فَأَتَاهُ رَجُلٌ
أَسْوَدُ طَوِيلٌ مُشَمَّرٌ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ
السُّجُودِ
وَفِي
رِوَايَةِ أَبِي الْوَضِيِّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرِيِّ
وَالْحَاكِمِ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِدَنَانِيرَ فَكَانَ يَقْسِمُهَا وَرَجُلٍ أَسْوَدَ مَطْمُومِ الشَّعْرِ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ
وَفِي
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالطَّبَرِيِّ رَجُلٍ
مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَدِيثِ عَهْدٍ بِأَمْرِ اللَّه ] ([50])
.
هو من أهل البادية ، أي : بدوي ! حديث عهد
بأمر الله !
أي : لا يعرف شيء بعد في الدين ، ينتقد
رسول الله r !
يعتبر نفسه أفضل من رسول الله r ، وأخشى لله منه ، وأتقى ، وأعدل !
أحداث الأسنان : صغار في العمر !
سفهاء الأحلام : ضعاف العقول ، جهلاء !
يقولون من خير قول البرية : كلامهم جميل لا غبـــار عليه
، فهو من خير القول ! وهل هناك قول خيـــــر مـن قول رســـــول الله r ، وقول الصحابة والسلف ، بعد القــرآن الكريـــم ؟ !
يقرءُونَ القرآن لا يجاوز حناجرهم : يقرءون القرآن ، وربما
كان صوتهم جميلاً ، وقد يكونون من حفّاظ القرآن ،
ولكن هذه القراءة لا تفيدهم علماً ، ولا تقوىً ؛ فالقرآن
لا يجاوز حناجرهم ، لا إلى عقولهم ، ولا إلى قلوبهم ، التي في الصدور ! فلا يكسـبهم
علمـــاً ، ولا يمنحهم تقوىً ! ! (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) ([51])
.
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية : يخرجون من
الدين ، سواء حقيقة ، أم بفهمهم البعيد عن العلم والفقه .
يخرجون وبشدّة كما يخرج السهم ، بشدة وسرعة من الرمية !
!
يقتلون أهل الإسلام ، ويدَعون أهل الأوثان !
وهذه من أعجب
وأغرب صفاتهم ! يحاربون المسلمين ، يحاربون الدعاة ، وأولياء الله الصالحين ؛
الذين قضوا حياتهم في سبيل الله تعالى .
فيأتـــي هؤلاء
المتلبسون فيحاربونهم ، ويناصبونهم العداء ، ويتخندقون مع أعداء الله ورسوله ضدّهم
!
أما أعداء الله تعالى ، وأعداء رسوله r ؛ الذين يمكرون لهذا الدين ، بالليل والنهار
، فهُم في سلام وأمان منهم ،
بل كفوهم مؤنة الحرب ونيرانها ، ضد أولياء الله تعالى !
ولقد آذى الخوارج علياً بن أبي طالب t ، فتأذى بهم كثيراً ، حيث مرَّ به بعضهم ،
أثناء صلاة الفجر فناداه : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ] ([52])
. أي : أنّ علياً t ، مشرك ، محبَط العمل !
ثم بعد ذلك قتلوه ؛ قتلوا الخليفة الراشد ، باسم الدين ،
وباسم الله ورسوله ، وانتصاراً للإسلام ! !
و[ نَظَرَ
رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى سَعْدٍ فَقَالَ هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ كَذَبْتَ أَنَا قَاتَلْت أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
فَقَالَ لَهُ آخَرُ هَذَا مِنَ الْأَخْسَرِينَ
أَعْمَالًا فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ كَذَبْتَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
رَبهم الْآيَة ] ([53])
.
فهذا سعد بن أبي وقاص t ، وهو من
العشرة المبشرين بالجنة ، ببشرى رسول الله r له . وهو
الذي قال عنه النبيّ r بأنه خاله !
إعتبـره الخــوارج من أئــمة الكفر ، ومن الأخسرين
أعمالاً ! !
و انتقدوا أيضاً الصحابيّ الجليل ، عبد الله بن عمر
، رضي الله عنهما ، فقد روي [ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، فَقَالَ:
يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ مِتَّ مَعَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ
تَبْقَ بَعْدَهُمْ، أَقْبَلْتَ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَتَرَكْتَ
الْجِهَادَ؟ ] ([54])
.
و[ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ) . . . وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ فَقَالَ
ثِقَةٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ قَتَلَهُ الْحَرُورِيَّة ] ([55])
.
فهــذا عبـد الله هو : من كبار التابعين ، وابن صحابيّ
جليل ، قتله الخوارج .
ولقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني ، رحمه الله ، مخالفتهم
للسلف ، بقوله :
[ أَنَّ
الْخَوَارِجَ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ وَكَانَ السَّلَفُ
يُوَفِّرُونَ شُعُورَهُمْ لَا يَحْلِقُونَهَا وَكَانَت طَريقَة الْخَوَارِج
حلق جَمِيع رؤوسهم . . . ] ([56])
!
ووصف النبيّ r ، إهتمامهم بظواهر العبادات ، وأشكالها ،
وتشدّدهم في العبادات ، بحيث يجعل الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم ، يحقرون عباداتهم
، مقارنة بهم !
قال النبيّ r ، لأصحابه عنهم : ( يَحْقِرُ
أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ) ([57])
.
ولاشك أن الظاهر من العبـادات مهم ، ولكن مع نقاء
القلب ، وحسن العمل ! وهما الإخلاص ، والصواب .
قال رسول الله r : ( إِنَّ اللهَ
لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ
إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) ([58])
.
ومع كل هذا الإهتمام بأشكال العبادات ، والتشدّد فيها ،
فقد روي عن النبيّ r ، أنهم كلاب أهل النار ، وشر قتلى على الأرض ! !
عن أَبُي غَالِبٍ ( قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا
أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ أَبْصَرَ رُءُوسَ الْخَوَارِجِ
عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ ،
فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْـــهِ وَسَلّــَمَ يَقُــولُ: « كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ،
كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ »
ثُمَّ بَكَى ، وَقَالَ : « شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ
أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ »
قَالَ أَبُو غَالِبٍ : فَقُلْتُ لَهُ : أَنْتَ
سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
قَالَ : إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ،
وَلَا مَرَّتَيْنِ، وَلَا ثَلَاثٍ ) ([59])
.
عن أَبُي غَالِبٍ ( قَالَ: بَيْنَا أَنَا بِدِمَشْقَ
إِذْ جِيءَ بِسَبْعِينَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ،
فَنُصِبَتْ عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ،
وَجَاءَ أَبُو أُمَامَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَصَلَّى مَا بَدَا لَهُ ،
فَلَمَّا خَرَجَ بَكَى ، ثُمَّ قَالَ : « كِلَابُ
أَهْلِ النَّارِ » ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ،
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [آل عمران : 7] ،
ثُمَّ قَرَأَ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
} [آل عمران: 106] فَهُمْ هَؤُلَاءِ،
فَقُلْتُ : يَا أَبَا أُمَامَةَ ، هَذَا شَيْءٌ
سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمْ شَيْئًا
تَقُولُهُ بِرَأْيِكَ ؟
قَالَ: «إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْـــهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا
مَرَّتَيْنِ، وَلَا ثَلَاثٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعٍ » ) ([60])
.
[ أَخْبَرَنَا . . . ثنا شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَمَّارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ
وَاقِفٌ عَلَى رُءُوسِ الْحَرُورِيَّةِ عَلَى بَابِ حِمْصَ - أَوْ بَابِ دِمَشْقَ
- وَهُوَ يَقُولُ:
«كِلَابُ النَّارِ كِلَابُ النَّارِ شَرُّ قَتْلَى
تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ» .
ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي
حُذَيْفَةَ، «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»
وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحُ عَنْ
نَصْرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ
بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ شَدَّادٍ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
يَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ تَبْذُلُ الْفَضْلَ ". الْحَدِيثَ
وَإِنَّمَا شَرَحْنَا الْقَوْلَ فِيهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى هَذَا الْمَتْنِ
طُرُقُ حَدِيثِ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
(التعليق - من تلخيص الذهبي)
2654 - صحيح على شرط مسلم ] ([61])
.
هل من المعقول – عندنا نحن أهل السنة والجماعة – أن يكون هناك مَن يعبد الله تعالى ، ويجتهد في
العبادة ، ثم يجعله الله تعالى ، كلباً في نار جهنّم ؟ !
ويقول تعالى : (
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) ([63])
.
فالذي يظهر بلا أدنى شك ، أن هؤلاء الذين يدّعون الإيمان
والعمل الصالح ، فيهم خلل كبير وعظيم ، وإلا فـ( إِنَّ اللَّهَ لَا
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) ([64])
.
ونؤمن يقيناً : (
إنَّ اللَّهَ لَا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ([65])
.
فكيف مع كل تلك العبادات المشهورة عنهم ، والتي وصفها
النبيّ r ، ومع هذا ، فهُم كلاب أهل النار ؟ !
يظهر أن في أعمالهم خللاً ونقصاً عظيمين
، أودى بهم إلى ذلك المصير الرهيب !
يظهر أن أعمالهم لم تكن حسنة ، وهي الشرط
الرئيس لقبول العمل !
حيث [ إحسان
العمل : أن يريد العبد العمل لوجه الله
، متبعا في ذلك شرع الله.
فهذا
العمل لا يضيعه الله، ولا شيئا منه ، بل يحفظه للعامليــن،
ويوفيــهم مـــن الأجــر، بحسب عملهم وفضله وإحسانه ] ([66])
فالعمل الحسن ، الذي يقبله الله ، تعالى ،
له شرطان : 1 - الإخلاص 2 - الصواب
:
[ قال الفضيل
بن عياض رحمه الله: " أخلصه وأصوبه " قيل يا
أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه " ؟. فقال : إن العمل إذا كان خالصا ولم
يكن صوابا ، لم يقبل .
وإذا
كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا.
والخالص:
أن يكون لوجه الله، والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة ] ([67])
.
ولذلك [ روي عن على
بن أبى طالب t
من طرق، أنه قال عن الخوارج : هم قوم ضل سعيهم، وعموا
عن الحق، بغوا علينا فقاتلناهم ] ([68])
.
و[ كَانَ رَأْيُ بن عُمَرَ فِي
الْحَرُورِيَّةِ قَالَ كَانَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ انْطَلَقُوا
إِلَى آيَاتِ الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ.
قُلْتُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي وَصْفِ الْخَوَارِجِ هُمْ شِرَارُ
الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ
وَعِنْدَ
أَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ
وَعِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ذكر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ هُمْ شِرَارُ
أُمَّتِي يَقْتُلُهُمْ خِيَارُ أُمَّتِي وَسَنَدُهُ حَسَنٌ
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
مَرْفُوعًا هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ يَقْتُلُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ
وَالْخَلِيقَةِ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ
أَحْمَدَ همْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ
عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ
إِلَيْهِ
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ
يَعْنِي عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ شَرُّ قَتْلَى
أَظَلَّتْهُمُ السَّمَاءُ وَأَقَلَّتْهُمُ الْأَرْضُ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحوه
وَعند أَحْمد وبن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
بَرْزَةَ مَرْفُوعًا فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ شَرُّ الْخَلْقِ
وَالْخَلِيقَةِ يَقُولُهَا ثَلَاثًا
وَعند بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عُمَيْرِ بْنِ
إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ
] ([70])
.
إذاً فالإخلاص مهمّ جدّاً ، وضروري ، وهو ركن العمل الحسن !
فليحذر المسلم أن يتيه عنه ، وهو يقول ويعمل ، ويقوم
ويقعد ، ويتعب ويجتهد !
فإذا تاهَ عنه فسيكون مصيره
كالخوارج ؛ فيصبح من شرار الخلق والخليقة ! ومن ثم كلب من كلاب أهل النار ! وهو
يزعم أنه يريد أن يكون من أهل جنـة الفردوس الأعلى !
ولا يكون كل مسلم خطّاء عاص
، كلب من كلاب أهل النار ، إلّا إذا شوّه الصورة الجميلة للإسلام العظيم ، بأفعاله
القبيحة ، وأعماله المشينة ،
بحيث تنساب أمراضــه وعُقَده النفسية من داخله إلى
الظاهر ، فيلبسه لباس الإسلام والقرآن والسنة وعمل السلف الصالح .
أما إذا كان المسلم مجرد عاص مرتكب للذنوب ، من غير أن
يساهم في تشويه دين الله تعالى ، فلا يكون كلباً من كلاب أهل النار !
وذلك لأن استغلال دين الله تعالى ، واستخدام اسمه عند ارتكاب
السلوك المشينة ، عظيم من العظائم !
لأن الله تعالى يغار على دينه . فإذا كان بشراً من البشر
لا يسمح ولا يقبل أن يتدخل أحد في حزبه فيشوهه ، فكيف برب البشر ؛ رب العالمين ؟ !
( خامساً ) / – الحجة على الخلق أجمعين
، هي فقط في كلام الله تعالى ، وسنة رسول الله r .
ليس في كلام أحـــد ، غير الله تعالـــى ، وغير رسوله
محمد r ، حجة ، بحيث يُفرض على الناس ، كائناً مَن يكون القائل ، أو
الآمر !
وأما الإجماع ؛ فهو يستمد قوته وقطعيته من معيـن الكتـاب
، أو السنة ، وهو مذكور في مظانه من علم أصول الفقه .
فحتى لو قال أبو بكر الصدّيق t ، قولاً - فَرَضاً – أو اجتهد ، فيحتمل أن
يخطأ لأنه غير معصوم ؛ ، وهو أفضل هذه الأمة بعد نبيّها r ، و t ، فكيف بغيره ؟ !
بمعنى أنه لا يستطيع أحد أن يفرض رأيه على المسلمين .
ومع هذا ، فإذا اختلف إجتهاد أولئك الأئمة ، يُقدّم الإجتهاد
الأقرب إلى روح النص وفقهه .
ولاسيمـــا من الذين شهد لهم النبيّ r بالعلم والإمامة ! إذا لم يعارض آية ، أو
سنة !
ولكلِّ علمٍ ، وأمرٍ ، ومجالٍ ، مُختصّوه ، إختصّوا وتبحّروا في ذلك العلم والمجال ، يرجع الناس
إليهم ، وجوباً :
يقول تعالى : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا
قَلِيلا ) ([71])
.
[ هذا
تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق.
وأنه ينبغي
لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور
المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا
بإشاعة ذلك الخبر،
بل يردونه
إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة،
الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها.
فإن
رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك.
وإن
رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته ، لم يذيعوه ،
ولهذا
قال : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخرجونه
بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة . . .
وفيه
النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها،
والأمر
بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه ، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم
لافيحجم عنه؟
ثم
قال تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : في توفيقكم
وتأديبكم ، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون ، { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا
قَلِيلا }
لأن
الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر . فإذا لجأ
إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان
الرجيم ] ([72])
[ وفي هذا دليل
لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى
مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب
إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ ] ([73])
.
أما الحجة ، فهي فقط – كما ذكرنا – في كلام الله تعالى ،
وسنة رسوله r ، لا غيرهما :
قال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيل ) ([75])
.
[ أمر برد
كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله
أي:
إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل
الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه،
أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه،
لأن كتاب
الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.
فالرد
إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع
فليس بمؤمن حقيقة ، بل مؤمن بالطاغوت ، كما ذكر في الآية بعدها
{ ذَلِكَ
} أي : الرد إلى الله ورسوله { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا }
فإن
حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم
وعاقبتهم ] ([76])
الحاكم هو الله وحده :
وقد أجمع المسلون على أن الله
تعالى وحده هو الحاكم ، ولا حاكم غيره .
قال الدكتور عبد الكريم زيدان :
[ وعلى هذا فالحاكم ، أي الذي يصدر
عنه الحكم ، هو الله وحده ، فلا حكم إلا ما حكم به ، ولا شرع إلا ما شرعه
، وعلى هذا دلّ القرآن وأجمع المسلمون . ففي القرآن قوله
تعالى : (( إن الحكم إلا لله )) ([77]) (( ألا لَهُ الحكم )) ([78])
.
وعلى هذا الأساس كان الحكم بغير ما أنزل الله كفراً ،
لأنه ليس لغير الله سلطة إصدار الأحكام قال تعالى (( ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ([79])
.
وما وظيفة الرسل إلا تبليغ
أحكام الله ،
وما وظيفة المجتهدين إلا التعرف على هذه الأحكام والكشف عنها بواسطة المناهج والقواعد التي وضعها علم الأصول ] ([80])
.
وقال الدكتور حمد عبيد الكبيسي :
[ من خصائص الشريعة الإسلامية : أنها
تشريع سماوي ، يصدر الحكم فيها عن الله سبحانه ، فالحاكم ومصدر الحكم حقيقة
هو الله تعالى ، أما مايقررِّه علماء أصول الفقه من أن هناك أصولاً
وأدلة أخرى للحكم ، فإنهم يعنون بها تلك المسالك التي يكتشف بها حكم
الله تعالى ، فهي أصول بالمعنى المجازي لا الحقيقي .
وقد أجمع على هذا المسلمون
، فاتفقوا على أنّ الحاكم هو الله سبحانه ، وأنه لا شرع إلا منه
،
وقد استند هذا الإجماع إلى نصوص من الكتاب : ( إن الحكم إلا لله ) ( يوسف : 40 ) ،( وأن
احكم بينهم بما أنزل الله ) (
المائدة : 49 ) ، ( ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ( المائدة : 47 ) ] ([81])
.
[ يقول تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ } من
أصول دينكم وفروعه، مما لم تتفقوا عليه { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } يرد إلى كتابه،
وإلى سنة رسوله، فما حكما به فهو الحق، وما خالف ذلك فباطل ] ([83])
.
[ أَيْ مَهْمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ { فَحُكْمُهُ
إِلَى اللَّهِ } أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نبيّه صلى الله
عليه وسلم، كقوله جلَّ وعلا: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ والرسول } ] ([84])
.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي ،
رحمه الله :
[ أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن
له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه لا مالك إلا الخالق
فلا حكم ولا أمر إلا له
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا
وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم،
ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه
الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
فإذاً الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته ] ([85]) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :
[ وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه
حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: " وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ ... ] ([86])
.
فالحجة في كلام الله تعالى وحده ، وكلام
رسول الله r ، وذلك بأمر من الله تعالى : ( وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ([87])
.
قال الشيخ السعدي ، رحمه الله :
[ ولذلك
أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام، فقال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وهذا شامل لأصول الدين وفروعه،
ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل
مخالفته، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في
تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله ] ([88])
.
قال رسول الله r : " تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا إِنْ
تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى
يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ " ([89]) .
ولهذا ثبت عن ابن عباس ،
رضي الله عنهما ، ومجاهد ، ومالك ، رحمهما الله ،
أنهم قالوا : ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ
من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
فليس هناك معصوم غير النبيّ r . فكل إمام بعده r ، معرّض للخطأ ، ويحتمل كلامه
الصح والخطأ ، وليس كلامه حجة على أحد .
فإذا قال أحد الأئمة أو العلماء قولاً أو
كلاماً – إجتهاداً منه في فهم نص ، أو في إنزال النص على الواقع – فلا يلزم
إجتهاده أحد .
سواء كان المجتهد صحابيّ ، أو تابعي ،
أو أتباعهم ، فكيف بغيرهم ؟
فترى بعض المسلمين ، عندما تخالفهم
؛ في اختيار اجتهاد بعض الأئمة وأفهامهم في النصوص ، على ما اختاروا
هُم من اجتهاد وأفهام بعض العلماء أو الأئمة ،
تراهم يحتجّون عليك بالكتاب والسنة !
وأنت تنتظر منهم أن يأتوك بآية
من القرآن الكريم ، قطعية الدلالة في الموضوع المختلف فيه ، أو حديث
للنبيّ r ، قطعية الدلالة والثبوت .
وإذا تتفاجأ في احتجاجهم ، بقولهم :
قال الحافظ ابن تيمية
كيت وكيت ! أو قال الإمام أحمد كذا وكذا ! أو قال الإمام مالك
كيت وكيت ! وقال فلان وعلان كيت وكيت !
أين الكتاب والسنة
اللذين احتجوا بهما ؟ ! الجواب : هما من ضمن كلام أولئك الأئمة !
وهل الذين خالفوهم
في اجتهاداتهم وأفهامهم ، يحتجّون ، ويستمدّون من التوراة والإنجيل ؟ !
بل في أحيان كثيرة ،
تراهم يخالفون هُم الكتـــاب والســنة ! ! ويخالفون اجتهادات ، وأفهام
علمائهم ، الذين يحاربون المسلمين بأقوالهم !
فعلى سبيل المثال ، وليس
الحصر . نأتي بمثال واضح مشهور ، على مخالفتهم للكتاب والسنة وأقوال علمائهم ، ليتضح
أنّ استخدام مصطلح ( الكتاب والسنة ) هو مجرد شعار ، يُصطاد به مَن لا علم لديه !
مسألة القنوت في صلاة
الفجر :
ونحن نختصر الطريق ، فلا
نستدل على سنيته ، بأحاديث النبيّ r ، أو بأقوال الأئمة الكبار في خير القرون .
بل نتنازل عن تلك الأدلة
كلها ، ونفرض جدلاً ، أنّ اجتهادهم صحيح ،
فنوافقهم : أن القنوت في صلاة الفجر ، كان عند النازلة
فقط ، وقد فعله النبيّ r ، فترة من الزمن ثم تركه !
نفرض ذلك جدلاً ، موافقة لهم !
فلنأتِ إلى الكتــاب (
القرآن الكريم ) ، الذي يحتجون باسمه ، لنرَ بماذا يأمر ؟ :
يقول تعالى : (
وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ([90])
.
فالله سبحانه وتعالى ، ينهى
هنا عن التفرّق ، ويعتبر الأخوة بين المؤمنين ، من نِعَمه
العظيمة ، التي يمنُّ بها عليهم . وأدنى
درجات الأخوة هو سلامة الصدر فيما بينهم ، وعدم البغض
والحقد، وعدم وجود العداوة من بعضهم لبعض !
ويقول تعالى : (
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ([91])
.
فالله تعالى هنا ، ينهى عن التفرّق والإختلاف ، أيضاً ،
ويتوعّد المتفرّقين والمختلفين بالعذاب العظيم !
والآيات الكريمة في هذا
الباب كثيرة .
ولنرَ بماذا يأمر رسول الله
r ، عامة ، ثم خاصة في هذا الباب الذي نحن بصدده :
عن عبد الله بن مسعود t ، أنه قال : ( سَمِعْتُ رَجُلًا
قَرَأَ آيَةً، سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خِلاَفَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: « كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ »،
قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: « لاَ
تَخْتَلِفُوا ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» ) ([92])
.
فالنبيّ r ، هنا قد حكم للمُختلِفَين – في قراءة القرآن
الكريم – ليس بالصواب فحسب ، بل بالإحسان ! وينهى عن
الإختلاف .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
، t : ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا،
وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ
يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ» ) ([93])
فالنبيّ r ، ينهى المؤمنين عن التباغض فيما بينهم ، والتحاسد ، والتدابر .
ويأمرهم بالأخوة ؛ التي هي المصافاة ، والمحبة ،
والتعاون .
وينهى النبيّ r ، هنا ، صراحة ، وبكل وضوح ، بحيث لا يتحمّل أدنى شك ، كلاماً
ظاهراً بيّناً .
ينهى عن هجر المسلم
أكثر من ثلاثة أيّام ! ويقول : لا يحل . أي : هو حرام
!
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ، t قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا، وَلَا
تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو
الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»
قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: «فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ
اخْتِلَافًا» ) ([94])
.
فالنبيّ r ، ينهى المؤمنين ، عن الإختلاف في الوقوف مع البعض ، لأنه يؤدّي إلى اختلاف القلوب ، فكيف
باختلاف القلوب نفسه ؟ !
وقَالَ رسول الله
r : ( إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ،
فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا رَفَعَ
فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ،
وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوا قُعُودًا
أَجْمَعُونَ ) ([95])
.
وهنا يأمر النبيّ r ، المأمومين بعدم الإختلاف مع إمامهم في الصلاة ، ويأمرهم
بموافقتهم !
حتى إنه يأمر المأموم بالصلاة قعوداً ، وهم أصحاء غير
مرضى ، إذا صلى إمامهم قاعدا وهو مريض .
علماً أنّ القيام ركنٌ من أركان الصلاة !
فهنــا يأمــر النبيّ r المسلم ، بتـرك ركـن من أركان الصلاة ، من أجل موافقة الإمام ،
وعدم مخالفته !
و( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ
لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا
رَكَعَ، فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا:
رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى
جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي
الصَّلاَةِ، فَإِنَّ إِقَامَـةَ الصَّــفِّ مِنْ حُسْـــنِ الصَّلاَةِ " ) ([96])
.
وهنا ينهى النبيّ r ، نهياً
واضحـاً صريحاً ، بلا أدنى شك ، أو غموض .
ينهى المأموم عن الإختلاف مع الإمـام ، ( فلا تختلفوا عليه
) .
فهل يفيد أمر
النبيّ r ، ونهيه ، عند مَن يدّعي اتباع السنة ؟ !
ثم بعد ذلك ،
فلننقل أقوال ، وأوامر الأئمة ، والعلماء ، الذين يُعتبرون – عند أدعياء
اتباع السلف – من أئمة وعلماء السلف الصالح !
قال الحافظ ابن
تيمية ، رحمه الله :
[ ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه
فيما يسوغ فيه الاجتهاد
فإذا قنت قنت معه وإن ترك القنوت لم يقنت
فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (
إنما جعل الإمام ليؤتم به )
وقال : ( لا تختلفوا على أئمتكم )
وثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم
وإن أخطأوا فلكم وعليهم )
ألا ترى أن الإمام لو قرأ في الأخيرتين
بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين : لوجبت متابعته في ذلك فأما مسابقة الإمام
فإنها لا تجوز
فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه : فلا
بد من متابعته ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمنى ثم إنه
صلى خلفه أربعا فقيل له : في ذلك ؟ !
فقال : الخلاف شر
وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت
الرمي فأخبره ثم قال : إفعل كما يفعل إمامك والله أعلم ] ([97])
.
وقال الإمام ابن
القيم - رحمه الله - : [ فأهلُ الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه
عند النوازل وغيرها، وهم أسعدُ بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنُتون حيثُ قنت
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ويتركُونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله
وتركه،ويقولون: فِعله سنة، وتركُه سنة،
ومع هذا فلا
يُنكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعِلَه مخالفاً
للسنة،
كما لا يُنكِرون
على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تارِكه مخالفاً للسنة،
بل من قنت، فقد
أحسن، ومن تركه فقد أحسن ] ([98])
.
وقال الشيخ محمد
بن صالح العثيمين ، رحمه الله:
ثم إذا كان
الإنسان مأموماً هل يتابع هذا الإمام فيرفع يديه ويؤمن معه، أم يرسل يديه على
جنبيه؟
* والجواب على ذلك
أن نقول: بل يؤمن على دعاء الإمام ويرفع يديه تبعاً للإمام خوفاً من
المخالفة.
وقد نص الإمام
أحمد رحمه الله على أن الرجل إذا ائتم برجل يقنت في صلاة الفجر، فإنه يتابعه ويؤمن
على دعائه،
مع أن الإمام أحمد
رحمه الله لا يرى مشروعية القنوت في صلاة الفجر في المشهور عنه،
لكنه رحمه الله
رخص في ذلك؛ أي في متابعة الإمام الذي يقنت في صلاة الفجر خوفاً من الخلاف الذي قد
يحدث معه اختلاف القلوب.
* وهذا هو الذي
جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فإن أمير المؤمنين عثمان
رضي الله عنه في آخر خلافته كان يتم الصلاة في منى في الحج، فأنكر
عليه من أنكر من الصحابة ، لكنهم كانوا يتابعونه ويتمون الصلاة.
ويذكر عن عبد الله
بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: يا أبا عبد الرحمن كيف تصلي مع أمير المؤمنين
عثمان أربعاً ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر يفعلون ذلك؟
فقال رضي الله عنه: "الخلاف شر". انتهى .
وسئل الشيخ محمد
ناصر الدين الألباني ، رحمه الله :
السائل: أحيانا نصلي
وراء مثل هؤلاء الناس الذين يقنتون مداومة فترى أن بعض
الإخوة لا يرفعون أيديهم ولايؤمنون وراءه فما حكم ذلك ؟
الشيخ : هذا طبعا
لايجوز لانه يخالف قوله عليه السلام كما نذكر دائما وأبدا
( إنما جعل الإمام ليؤتم بـه فلا تختـلفوا عليه )
فينبغي متابعة
الإمام في مثل هذه المسائل الخلافية بين العلماء قديما فضلا عن
ذلك حديثا
فيتابع هذا الإمام ولو كان
المتابع لا يرى شرعية في ذلك فيما لو صلى لنفسه هذا هو الجواب
وقال الشيخ ربيع
المدخلي :
إذا صلى الإمام
وقنت فاقنت معه .
وكذلك يقول الشيخ صالح
الفوزان .
وقال الشيخ ابن باز ( وهو لا يؤمن بسنية القنوت في
صلاة الصبح دائماً ) :
لكن لو صليت خلف إمام يقنت فلا حرج لأنه
له قول وله شبهة وقد جاء في بعض الأحاديث الضعيفة ،
فلو صليت خلفه فلا حرج عليك ، ولو قنتَّ معه وأمّنت معه
لا حرج
وقال الحافظ ابن تيمية : [ وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ
إلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمُسْتَحَبَّاتِ ( يقصد الجهر
بالبسملة ) لِأَنَّ مَصْلَحَةَ التَّأْلِيفِ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ
مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْلِ هَذَا
كَمَا تَرَكَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْبَيْتِ لِمَا
فِي إبْقَائِهِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ
وَكَمَا أَنْكَرَ
ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى
خَلْفَهُ مُتِمًّا. وَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ ] ([99]) .
وقال أيضاً :
[ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي
هِيَ مِنْ جِمَاعِ الدِّينِ:
تَأْلِيفَ
الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَصَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ
فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَات بَيْنِكُمْ }
وَيَقُولُ : { وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }
وَيَقُولُ : { وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
وَأَمْثَالُ
ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تَأْمُرُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف
وَتَنْهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ ] ([100])
.
فهل أوامر الله
تعالى ونهيه ، وأوامر رسول الله r
، ونهيه ، وأوامر علمائهم وأئمتهم ، تفيد مع أدعياء أتباع السلف الصالح في شيء ؟ !
بل يخالفون أوامر
الله تعالى ، وأوامر رسوله r
، وأوامر علمائهم ،
فيختلفون مع
الإمام الذي يصلون خلفه عامداً متعمداً – في أمر إجتهاديّ ظنيّ – ضارباً عرض
الحائط كل تلك الأوامر الشرعية ، تحزّباً وتعصّباً !
جئنا بمثال واحد ،
على إهمال أدعياء أتباع السلف ، لأوامر الله تعالى ، ونهيه ،
وأوامر رسوله r ، ونهيه ، وأوامر أئمتهم وعلمائهم !
طالما هناك أمر
من غيرهم ، يأتي من وراء الكواليس ! !
ثم يُدّعــى
اتبـاع الكتاب والسنة والسلف الصالح مِن قِبَلهم !
ولا بــأس أن نأتـي
بمثــال آخر ، في اســـتخدام مصطلـح ( الكتاب والسنة ) و ( السلف الصالح ) ، في
اصطياد مَن لا علم لديه ، لتكثير السواد ، وتنفيـذ ما يريده مَن هو قابـعٌ وراء
الكواليس !
الذكر بعد
الصلوات ، ورفع الصوت بالذكر ، والجهر به ، ومكوث المصلي بعدها في مكانه .
هذه عدة
مواضيع ، نذكرها سريعاً ، ونستدل بها مختصراً وعلى عجالة ، وذلك أن التفصيل في هذه
المواضيع ليس هنا موضعه .
يقول تعالى :
( فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُم ) .
يأمر الله تعالى بالذكر
بعد الإنتهاء من الصلاة ، أمراً واضحاً صريحاً .
عقد الإمام مسلم
، رحمه الله ، في صحيحه باباً ، قال فيه : [ بَابُ اسْتِحْبَابِ
الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَبَيَانِ صِفَتِهِ ] .
1 - ( عَنْ
ثَوْبَانَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ
ثَلَاثًا وَقَالَ: « اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ
السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ »
قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: " كَيْفَ
الْاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ
" ) ([101])
.
أي : كان النبيّ r - بعدما
يسلّم من صلاته – يقول وهو جالس : أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله ،
اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركتَ ذا الجلال والإكرام .
2 – ( عَنْ وَرَّادٍ، مَوْلَى
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ ،
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ، إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ،
قَالَ : « لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،
اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا
يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ »
) ([102])
.
كان r ، يقول – بعد السلام والخروج من الصلاة - : لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ،
ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .
3 – ( عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ
« لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ
إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ
الْحَسَنُ، لَا إِلَــهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ »
وَقَالَ : « كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ » ) ([103])
.
كان r - بعد السلام من الصلاة – يقول :
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا
إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا
إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ .
4 – ( عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ :
«مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ
فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ
تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ
وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً » ) ([104])
.
5 – ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ
الْمِائَةِ :
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيـرٌ
غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَـتْ مِثْلَ زَبَدِ
الْبَحْرِ " ) ([105])
.
وهذه هي الأذكار المشهورة ، التي سنّها لنا النبيّ r ، دبر الصلوات المفروضـة ، بعـد السـلام والخـروج منها :
سـبحان الله ( 33 مرة ) ، الحمد الله ( 33 مرة ) ، الله
أكبر ( 33 مرة ) ، لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( مرة واحدة ) .
6 – ( كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاَءِ
الكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ المُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الكِتَابَةَ وَيَقُولُ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ:
« اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ،
وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ
فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِــكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ »، فَحَدَّثْتُ
بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ ) ([106])
.
أي : أنّ النبيّ r ، كان يقول – بعد السلام والخروج من الصلاة - :
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ،
وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ
فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
7 – ( عَن أبي أُمَامَة قَالَ قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم : من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي دبر
كل صَلَاة مَكْتُوبَة لم يمنعهُ من دُخُول الْجنَّة إِلَّا أَن يَمُوت ) ([107])
.
أي من السنة – بعد السلام
والخروج من الصلوات المفروضة – قراءة آية الكرسي .
وهناك أذكار كثيرة بعد
السلام من الصلوات المفروضة ، تركتها ، ولم آتِ بها خشية الإطالة . كان رسول الله r ، يقولها ، وسنّها لنا .
فهل الذين يقومون ، ويخرجون
من المسجد ، فور السلام من الصلاة والخروج منها - وكأنّ غضب الله ينزل ، فلا يريدون أن يصيبهم ذلك الغضب !
وكأنهم جالسون على جمرات النار !
هل هؤلاء يتّبعون سنة رسول
الله r ؟ !
والتي ذكرتها من الأذكار ،
بعد السلام من الصلوات المفروضة ، هي غيض من فيض . وهي سنة النبيّ r .
وسأذكرها جميعاً معاً ، ونتخيّل أنّ النبيّ r ، قد سلّم وخرج من الصلاة فقالها :
أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله
، اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركتَ ذا الجلال والإكرام . لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما
أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد . لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ،
وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . سبحان الله ( 33 مرة ) ، الحمد الله ( 33 مرة ) ،
الله أكبر ( 33 مرة ) ، لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( مرة واحدة ) .
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ،
وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ
فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ .
قراءة آية الكرسي ، وقراءة قل هو الله أحد والمعوذتين بعد
كل صلاة مرة واحدة، إلا في المغرب والفجر فيكرر قراءة السور الثلاث المذكورة ثلاث مرات
،
و بعد صلاة المغرب والفجر يقول: لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير،
عشر مرات زيادة على ما تقدم قبل قراءة آية الكرسي وقبل قراءة السور الثلاث.
هذا – كما ذكرنا غيض من فيض
– من الأذكار التي كان رسول الله r ، يقولها ، بعد السلام من
الصلوات المكتوبة !
إلى غيرها من الأحاديث
الكثيـرة ، التـي تـذكر أذكـار النبيّ r ، دبر الصلوات ، وكذلك ذكر أصحابه r ، لا يسعنا
أن ننقلها هنا كلها .
فأين الذين يفّرون إلى خارج المسجد ، بعد
السلام من الصلاة مباشرة ، أين هم من سنة النبيّ r ؟ !
8 – (عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
صَلاَةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاَتِهِ فِي
سُوقِهِ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ
فَأَحْسَنَ، وَأَتَى المَسْجِدَ، لاَ يُرِيدُ إِلَّا الصَّلاَةَ، لَمْ يَخْطُ
خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً،
حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا
كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي - يَعْنِي عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ - مَا
دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ " ) ([108])
.
وفي رواية أخرى ، للبخاري
في صحيحه ، أيضاً ، عن أبي هريرة t : ( قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي
الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ، خَمْسًا
وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ: إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ
خَطْوَةً، إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا
صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي
مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ
يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ " ) .
فَإِذَا صَلَّى ، لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي
عَلَيْهِ ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ !
أما لفظ مسلم فهو : ( وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى
أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ:
اللهُمَّ ارْحَمْهُ، اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ تُبْ عَلَيْه . . . ) .
وكان رسول الله r ، لا يخرج من المسجد بعد السلام من الصلاة مباشرة
، بل يذكر الله تعالى ، حتى ينصرف النساء فيدخلن بيوتهن !
كم كان يستغرق من الوقت
، من حين انصراف النساء من المسجد ، إلى وصولهن ، ودخولهن بيوتهن ؟ الله أعلم !
9 - عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ
النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم ([109])
.
أما بعد صلاة الفجر
فكان r ، لا يقوم من مكانه ، الذي صلى فيه حتى تطلع
الشمس !
ليس هو وحده r ، يبقى في
المسجد ، بل الصحابة ، رضوان الله عليهم ، أيضاً كانوا يبقون !
10 - عَنْ سِمَاكِ بْنِ
حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ : نَعَمْ كَثِيرًا،
« كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ
مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ،
وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ» ([110])
.
11 - كَانَ ابْنُ
عُمَرَ: « يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الفَرِيضَةَ
وَفَعَلَهُ القَاسِمُ » ([111]) .
[ قال ( ابن بطال ) من أراد
أن تحط عنه الذنوب بغير تعب فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء
الملائكة واستغفارهم له فهو مرجو إجابته لقوله تعالى "ولا يشفعون إلا
لمن ارتضى)
وروي من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له وتأمينهم
إنما هو مرة واحدة عند تأمين الإمام ودعاؤهم لمن قعد في مصلاه إنما هو ما
دام قاعداً فيه فهو أحرى بالإجابة
وقد شبه - صلى الله عليه وسلم - انتظار الصلاة بعد
الصلاة بالرباط وأكده بتكرار مرتين بقوله (فذلكم الرباط)
فعلى كل مؤمن سمع هذه الفضائل الشريفة أن يحرص على الأخذ
بأوفر الحظ منها ولا يمر عنه صفحاً ] ([112])
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق