نحن رجال وهم رجال!
لفظة شنيعة يقولها بعض الناس عندما يقال له: هذا قول أبي حنيفة أو الشافعي، يقول لك: نحن رجال وهم رجال!
هذه الكلمة أصبحتْ مطية يركبُها مَنْ يريدُ أنْ يردَّ أقوالَ الأئمة المتقدمين، والسلفِ الصادقين بلا حُجةٍ ولا بُرهان، ومَنْ يريدُ أن يمرر آراءه الشاذة، وأقوالَه الضعيفة، واختياراتِه الغريبة ، ومَنْ يريدُ أنْ يُظهِر نفسهُ على حساب أئمة العلم والدين.
نعم "هُمْ رجالٌ ونحنُ رجال" في أصلِ الخِلْقةِ والصفاتِ المشتركة من سمعٍ وبصرٍ وجوارح، ولكنَّ الله حباهم –بفضله ومنته وحكمته- غزارةً في العلم، وإخلاصاً في العمل ، وصِدْقاً في الدعوة، وصبراً عِند الأذى والبلاء.
قائلُ هذه الكلمة السائرة الإمامُ المشهورُ: أبو حنيفةَ النعمانُ بنُ ثابت فقيهُ العِراق، رأى أنس بنَ مَالك ، وسمع عطاء بن أبي رباح، ونافعاً مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم، وُلد سنة ثمانين، وماتَ سنة خمسين ومائة على الصحيح، وعُرِفَ أنَّ المقصود بقوله "هم رجال" أقرانه ونظراؤه من التابعين.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله على جلالة قدره قال هذه العبارة في أي مناسبة؟ قال: (إذا أتى العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أخذنا به، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال).
إذن: ما قالها عن الصحابة ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: قالها عمن عاصرهم من التابعين ولحق بآخرهم، لكن أن يأتي الآن بعض الجهلة صغار الناس ليقارن نفسه بهؤلاء الكبار ويقول: نحن رجال وهم رجال، كيف ذلك؟
إذا تبين مَا تقدم عُلِمَ أنَّ هذه الكلمةُ ابتذلتْ عندَ كثيرٍ مِنْ الناس في هذا الزمان -خاصةً المتعالمين منهم ممن يسمون مفكرين، وكذلك من الناشئة في طلب العلم !!- فلم يراعوا مكانة القائل، ولا قدر من قيلت فيه هذه الكلمة.
نعم إذا قال "هم رجال ونحن رجال" من كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك، لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على بعض.
قال الإمام الذهبيُّ في تذكرة الحفاظ ج3/ص948: ((جزمتُ بأنَّ المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة )).
فإِذا قال لكم اليوم قائل: هذا اجتهادي، وهو ليس بِأَهل للاجتِهاد فاعلَموا أَنّهُ مفتون، يُهلِكُ نفسه ويُهلِكُ غيره، الرَّسولُ ﷺ قالَ: "رُبَّ حامِلِ فِقهٍ إِلى مَنْ هُوَ أَفقَهُ مِنهُ ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقيهٍ"، المعنى أَنَّ مِنكُم مَن يسمع مني فقط ولا يَستَطيعُ أَن يَستَخرِجَ الأَحكامَ ممّا يَسمَعُهُ مِنّي، وقَد يَكونُ هذا الّذي يَسمَعُ مِني الحديثَ أَو القُرءانَ حَظُّهُ أَن يُبَلِّغَ غَيرَهُ، وذَلِكَ الغَيرُ يَكونُ أَقوى مِنهُ قَلبًا، أَقوى مِنهُ ذَكاءً، فَيستَطيعُ أَن يَستَخرِجَ الأَحكامَ. بَعضُ الصَّحابَةِ كانَ حَظُّهُم أَن يَرووا الحديثَ للنَّاسِ لِمن لم يرَ الرَّسولَ، يَرووهُ كَما سمِعوهُ، هذا كانَ حَظُّهُم، أَمّا أَن يجتَهِدوا فيسَتَخرِجوا الأَحكامَ ممّا يَسمعونَهُ مِنَ الرَّسولِ فَلا، لَيَس لهم اقتِدارٌ على ذَلِكَ. ثمَّ أُولَئِكَ الّذينَ يُبَلِّغونهم هؤلاءِ الصَّحابَةُ الّذينَ هُم لَيسَ لهم اقتِدارٌ على الاجتِهادِ، مِنهُم مَن أُعطِيَ تِلكَ المقدِرةَ على استِخراجِ الأَحكامِ مِنَ القرآن والأَحاديثِ، هذا معنى قَولِ الرَّسولِ: "فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ ليس بفقيه ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ إِلى مَن هُو أَفقَهُ مِنهُ" فَعَلِمنا مِن هذا الحديثِ أَنَّ مِنَ الصَّحابَةِ مَن لَيسوا مُقتِدِرينَ على الاجتِهادِ، إِنما حَظُّهُم أَن يُبَلِّغوا الحديثَ إِلى غَيرِهِم كما سمِعوهُ. إِذا كانَ هذا في الصَّحابَةِ فما ظَنُّكُم بِأَهلِ عَصرِنا هذا؟ كَيفَ يَدَّعي أَحَدُهُم لِنَفسِهِ أَنّهُ يجتَهِدُ مثلهم لِيَقولَ: أُولَئِكَ رِجالٌ ونحنُ رِجال، كَما اجتَهدوا نجتَهِدُ. أَلَيسَ هذا غُرورًا ظاهِرًا؟
وأخيرا فإذا قال "هم رجال ونحن رجال" مَن كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك، لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على بعض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق