أولا: تمهيد ببيان
مضمون القصة:
انتشرت على مواقع
التواصل مقولة تزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أميا، بل كان يقرأ
ويكتب، ليس بالعربية فحسب، بل كان يقرأ ويكتب بسبعين لسانا، وهذا دعا العديد من
الناس والقصاص إلى تداول هذا الخبر السار في نظرهم، ليس بعين التحقيق، بل بالعاطفة
الدينية التي هي أكبر مدخل لتحريف الأديان في غيبة التديُّن المعرفي، كما فعل شاول
طرسوسي في الغلو في المسيح عليه السلام عن طريق محبة المؤمنين للمسيح عليه السلام،
وخرج به من رتبة النبوة إلى وهْم البُـنُوة لله تعالى، وكما فعل ابن سبأ حيث أدخل
الغلو في علي رضي الله عنه عن طريق حب المسلمين لآل البيت، وأثناء التهييج العاطفي
وتغييب الذاكرة تأتي مرحلة الدسّ في العقيدة، ثم مرحلة تثبيت العقيدة المحرَّفة
وتنصيبها، وبعد أن يفيق الجمهور من التخدير العاطفي يجِد الجمهور أن العقيدة
المحرَّفة هي العقيدة الصحيحة وأمرا واقعا واجب الاتباع.
ثانيا: الخُرافة تجد
مكانا لها في التدين العاطفي لا المعرفي:
أ-استخدام المتشابه
وعاطفة القرآن دون وعي:
نفس القصة التي
تداولها المصابون بحمّى الإبداع والجديد المدهش، وهي أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- كان قارئا وكاتبا ليس بالعربية فقط، بل بألسنة كثيرة، وزعمت القصة المدسوسة
أثناء التهييج العاطفي لمحبي المدهش والغريب، أن كلمة “أمّيّ” وصفا للرسول صلى
الله عليه وسلم هي نسبة لأم القرى مكة، واحتجت بقوله تعالى (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) 92، الأنعام ، وليس نسبة للأمية، وهي الرجل الذي لا يقرأ
ولا يكتب، ويتم تداول هذه القصة على نطاق واسع استدلالا بالمتشابه (المحتمل) من
القرآن الكريم، لنسبة أمي إلى الأم، أَمْ إلى أمِّ القرى.
ب-أهمية النحو في
كشف صناعة الغموض وتتبع المتشابه:
مع
أن العرب لا تنسب إلى أحد أفراد المركب “أم القرى” بأمي لأنه يؤدي إلى لَبس في
النسبة للأم بأمي، فمثلا تنسب لأبي بكر “بكري” لا أبوي، حتى لا يلتبس ذلك بالنسبة
للأب إذا قلت أبوي، ومن الممكن أن ينحت العرب نسبة من المركب مثل “بيت لحم”،
فينسبون إلى بيت لحم “تلحَمِي”، لأن النسبة للجزء الأول بيت هي بيتي، أو للجزء
الثاني لحم لحمي سيؤدي إلى لبس بالنسبة للبيت أو اللحم وهو ليس مقصودا للمتكلم أن
ينسب إلى بيت بمفردها، أو لحم بمفردها، فهو يريد أن ينسب إلى بيت لحم كلمة واحدة
لا كلمتين، ومثال ذلك نسبوا إلى عبد شمس “عَبْشَمِيّ”، وإلى دار العلوم
“درْعَمِي”، وعبد الدار “عَبْدَرِي”، مما يعني أن نسبة أمي إلى أم القرى تخرج عن
قواعد العربية في اشتراط أمن اللَّبس في النسبة، ولعل إثارة اللَّبس في هذه النسبة
مقصودة، لفرض الغموض على الكتاب العزيز، والذي يكشف الَّلبس هو قواعد النحو
الضرورية في تفسير كتاب الله تعالى.
ثالثا: هِجْران
المُحْكم وتتبع المتشابه وعشوائية التدين:
وقد روَّج القصاص
ومحبو الدهشة والرغبة في الغريب لتلك القُصاصة المُرِيبة، التي تريد إثبات أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالما بلغات أجنبية قراءة وكتابة، وبعد استقرار
الخرافة وتتبع المتشابه،يُـزْعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ ما أنزل إليه
من الكتب الدينية قبله، لأنه كانا عالما بلغاتها، وحينها تصبح الدعاية العاطفية
دليلا على إسقاط العقيدة وتحريفها، وبعد ذلك يشعر متتبعو المتشابه أنهم كان يصنعون
الخرافة والتحريف بأيديهم وأن صفحاتهم على مواقع التواصل لم تكن إلا مكاء وتصدية وإضلالا
للخلق، بينما ولو أنهم اتبعوا المحكم في قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ
تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ (48) سورة العنكبوت، لفَهِموا وعلموا حجم الكيد الخبيث، الذي
روَّجُوا له بأيديهم، وما فعلوه من تضليل بحق الأجيال القادمة، نتيجة تتبع
المتشابه وهِجران المُحكم.
رابعا: الأُمّية صفة
كمال في النبي -صلى الله عليه وسلم وفي غيره نقص:
يتوهم بعض الناس أن
أمية النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب، أنها صفة نقص فيه،
ولكن الحقيقة أن أمية النبي -صلى الله عليه وسلم- هي صفة كمال فيه خاصة، ذلك لأن
أمّيته دليل على صدقه فيما نزل عليه من القرآن، كما بينته الآية الكريمة، (وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا
لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) سورة العنكبوت، وهو أن الأمية دليل على قطعية نسبة
القرآن لله تعالى، لأن الذي نزل عليه الكتاب لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك يقال في
الشعر.
خامسا: الشعر صفة
نقص في النبي صلى الله عليه وسلم وصفة كمال في غيره:
فالشِّعر والقراءة
صفات كمال في غير النبي -صلى الله عليه وسلم، وليست كمالا في النبي -صلى الله عليه
وسلم، لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أُوتِي القرآن، وهو خير من الشعر قطعا، لذلك
قال الله تعالى: (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41)،
الحاقة، فالشِّعْر صفة كمال في غير النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي النبي -صلى
الله عليه وسلم- صفة نقص، لأن الشعر يهْوِي بالنبوة من المقام الرفيع وهو الوحي
كلام الله، إلى مقام الشعر الذي هو كلام الناس، وهو دون الوحي بكثير، والخلاصة:
وصفات القراءة والكتابة والشعر صفات نقص في النبي -صلى الله عليه وسلم، وصفات كمال
في غيره من أُمّته.
سادسا: نفي الأمية
هي مقالة شاذة تتبع المتشابه وتهجر المُحْكم:
كلما رأيت مقالة
شاذة وبحثت فيها، سواء كانت في جانبي الغلو أو التحلل، وجدتها تتبع المتشابه غلوا
أو تحللا، وتهجر المحكم، على النحو الذي مر في نفي أمية النبي صلى الله عليه وسلم،
بنسبته إلى أم القرى، بقوله تعالى: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) 92،
الأنعام، مما أدى إلى حالة من المشاجرات الثقافية باسم التديُّن، بسبب تتبع
المتشابه وهجر المحكم في قوله تعالى: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) تم تحويل
الدين من عقيدة وشريعة جامعة، ونعمة الدين الجامع وصانع التجانس، إلى نقمة الفرقة
في الدين، وما سبب ذلك إلا الذين أخذتهم العزة بالمتشابه وعاندوا المُحْكَم، وكل
المتصارعين في الدين لهم أدلتهم.
سابعا: وجوب
الاقتداء بمنهج السَّلف في جمع الأدلة:
ولكن السؤال أين
مَنْ يرد المتشابه للمحكم؟ فوجدت ذلك في مدارس فقه السلف الأربع، وارثة فقه
الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهم خير القرون، من أئمة المعقول والمنقول، قال
تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) آل عمران، وهذا هو منهج
مدارس أهل السنة والجماعة في الدليل، هو جمع الأدلة والعمل بها جميعا، وليس كل من
له دليل هو مصيب للحق، فربما يكون عاكفا على المتشابه، ويتوهم أنه على سنة.
الطريق إلى السنة
إجباري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق