الاختلاط العائلي
دخل الرجل بيت أخيه ، فسلم وجلس ،وأخذ يتجاذب أطراف الحديث مع أخيه ... وبعد فترة ، وإذا بنقرات على الباب الداخلي ، فقام صاحب البيت وأحضر الضيافة ... دهش الأخ الزائر لهذا التصرف ؛ فإن زوجة أخيه ، والتي هي ابنة عمه ، والتي نشأت معها أطفالا ، لا تظهر عليه .. ولا تكلمه ..!! نمط جديد في السلوك لم يتعوده ..!!
المرأة فهمت بعض تعاليم الإسلام بعد جفاء وطول غفلة ، وأرادت الأسرة أن تطبق ما فهمت من تعاليم الإسلام فتحجبت المرأة ، ولم تعد تتكلم أو تجلس مع أقاربها أو أقارب زوجها من الرجال ..
شعر الأخ الزائر بشيء من الإهانة لا سيما وهو الأخ الإكير ، ثارت الدماء في عروقه ، غضب ، ولم تفلح الحجج القوية في إقناعه ، وغضب لغضبته الأب والأم واللإخوة والأخوات ... وتقطعت حبال المودة ، وذر الخلاف والجفاء بقرنه بين الأخوين ، ومن ثم الأهل وهذه الأسرة التي بدأت تسير على طريق الإسلام ، فانقسموا إلى فريقين ، وكلاهما يتصور أنه على الصواب .
الإسلام دين الفطرة السوية ، وهو دين المودة وصلة الأرحام ، ولم يحرم الإسلام شيئا إلا لضرر محقق يلحقه بالناس ، فتعاليمه لحماية المجتمع ، لا لتفتيت الناس ، وتقطيع الأرحام .
ولما كان الناس قد بعدوا عن دينهم ، وحلت محله الأعراف الخاطئة ، سلكوا مسالك عدة ، استعاضوا بها عن الدين ، وفهموا لطول الممارسة أن هذا هو الصحيح ، وما عداه باطل .
فلما بدأ الناس يرجعون إلى تعاليم دينهم ، وأخذت الصحوة الإسلامية طريقها إلى القلوب ؛ فهم بعض الناس الإسلام على غير وجهه ، فهم جاؤوا الأمر من أقصاه إلى أقصاه ، في حين أن رجعتهم إلى الإسلام وسلوكيات الإسلام لا تعني محاربة كل شيء في المجتمع ، فإن بعض القيم والعادات السائدة لها جذورها الإسلامية ، ومن الخطأ محاربتها والتصادم معها .
ومن هنا يأتي الشاب الملتزم أو الشابة الملتزمة فيريدان تطبيق الإسلام ـــ بفهمهم الخاص ـــ فيصطدمان مع سلوكيات اجتماعية لا يعارضها الإسلام ، وإن كان يهذبها .
فلو أن الناس عدلوا قليلا في بعض سلوكياتهم لاتفقت مع روح الإسلام و تعاليمه ، دون مشقة وعسر ، أو خلاف يقطع أواصر المحبة ووشائج القربى .
والسؤال : هل الإسلام يمنع أن تجلس المرأة مع أقاربها أو أقارب زوجها من الرجال في وجود محرم لها ، وبلباس شرعي محتشم ، متقيدة بشروط التقوى ؟
لقد كانت حياة الصحابة ــــ رضوان الله عليهم ــــ خالية من العقد النفسية ، والحساسية المتعبة التي يعيش فيها ناس هذا الزمان ، ولقد كان الإختلاط بينهم ــــ بشروطه الشرعية ـــ حاصلاً دون حساسية أو سوء ظن ، والأحاديث والوقائع في ذلك كثيرة: فقد ذكر البخاري ــــ رحمه الله ــــ في باب ((تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال)) حديث سهل رضي الله عنه ـــ قال: كنا نفرح يوم الجمعة ، قلت لسهل : ولم ؟
قال : كانت لنا عجوز (وفي كتاب الجمعة : كانت لنا امرأة) ترسل إلى بضاعة ( قال ابن مسلمة راوي الحديث: نخل بالمدينة ) فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في قدر وتكركر حبات من شعير ، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا ، ونسلم عليها فتقدمة إلينا فنفرح من أجله ... إلخ الحديث (1).
قال العسقلاني في الفتح : ((... فلو اجتمع في الجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة ))
(1)(لاحظ: السلام غير المصافحة) .
وذكر البخاري أيضاً في باب (( قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس )) حديث سهل بن سعد (رضي الله عنه ) قال :لما أعرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي (صل الله عليه وسلم) وأصحابه ، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم سيد ، بلت تمرات في ثور من حجارة من الليل ، فلما فرغ النبي (صل الله عليه وسلم) من الطعام أمانته له فسقته تتحفه بذلك (2)
وفي رواية : ( فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس ) . قال العسقلاني في الفتح : ((... وفي الحديث جواز الخدمة المرأة زوجها ومن يدعوه ، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ، ومراعاة ما يجب عليها من الستر )) (3)
وروى مسلم ـــ رحمه الله ـــ عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال أبو بكر لعمر (رضي الله عنه) : انطلق بنا إلى أم أيمن ( رضي الله عنه ) نزورها كما كان رسول الله (صل الله عليه وسلم) يزورها ، فلما انتهيا إليها بكت ، فقالا لها : ما يبكيك أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله (صل الله عليه وسلم) فقالت : إني لا أبكي ، إني لأعلم ما عند الله تعالى خير لرسول الله (صل الله عليه وسلم) ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ، فهيجتها علىالبكاء ، فجعلا يبكيان معها )) (1) . قال النووي في شرح صحيح مسلم: (( فيه زيارة جماعة من الرجال للمرأة الصالحة وسماع كلامها )) (2) .
أما حديث عقبة بن عامر (رضي الله عنه) أن رسول الله (ص) قال: ((إياكم والدخول على النساء . فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو قال : الحمو الموت)) (3) فإنه يعني الدخول عليها
والخلوة بها دون محرم . ويوضح ذلك تمام التوضيح حديث ابن عباس (رضي الله عنها) أن رسول الله (صل الله عليه وسلم) قال: (( لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)) (4) .
ولا شك أن كلمة ((يخلون)) تعني الجلوس معها والانفراد بها ، لأن الاستثناء في قوله (صل الله عليه وسلم): ((إلا مع ذي محرم)) يعني: إذا كان المحرم موجودا فلا بأس بالتواجد معها في مكان واحد . ويدل على ذلك أيضا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنها) قال رسول الله (صل الله عليه وسلم): (( لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)) (5) . والمغيبة هي التي غاب عنها زوجها . أما قوله تعالى في شأن نساء النبي (صل الله عليه وسلم): (...وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) [الأحزاب:53] فإن ذلك خاص بنساء النبي (صل الله عليه وسلم ) ، فإذا تقيدت به امرأة من عامة الناس فلا بأس ، وإن لم تفعل فلا حرج عليها . أما دعوى أن هذا الأمر يلزم كل النساء فلا دليل عليها.
وأما قول من قال: أن هذا في شأن نساء النبي (صل الله عليه وسلم) وهن أطهر من غير هن وأتقى ، فالأمر ألزم في شأن من دونهن ، فهذا أمر مردود ، لأن الله عزوجل أراد أن يحيط بيت النبوة بسياج لا تنفذ منه الريبة ، ويعصمه من كل خلل ، لأنه أصل الرسالة ، وعنهن يؤخذ العلم ، وهذا وضع خاص بهن ، بدليل أن الله عزوجل ضاعف لهن العذاب ، كما ضاعف لهن الثواب كذلك :( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، وكان ذلك على الله يسيراً ، ومن يقنت منكن الله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا
لها رزقاً كريماً ، يا نساء النبي لسن كأحد من النساء...) وهذا وضع متميز لمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا نقول: أنه في حالة الأقارب الأدنيين ، والأصهار الأقربين، الحالة التي يشق على الناس فيها العزلة التامة، بأس أن تجلس المرأة معهم ، في وجود أحد محارمها كالأب والأخ والزوج والابن والعم والخال والجد ....، محتشمة حشمة واضحة ، اّخذة بأسباب التقوى ، وهذا حال الفلاحات في القرى والبدويات في البادية منذ القدم إلى يومنا هذا ، حيث يقمن بخدمة الضيوف ، والتردد على مجلسهم، ومخالطة الرجال الأجانب (غير الحارم)في الأسواق والحقول ، وهن متحفظات بسترهن وحشمتهن (1).
وإن شعرت أن هناك سبباً يخل بذلك ، ولا تأمن فيه من الفتنة فلتتحرز من ذلك جهدها ،وإن أخذت بعدم الجلوس معهم أو الظهور عليهم والاختلاط بهم بالشروط السابقة ، دون عسر أو إحداث خلاف أو تقطيع رحم ، فهو أولى وأكمل ، وتكون أخذت بالعزائم،والله يوفقها ويثيبها على نيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق