زكاة الفطر إحدى شعائر الإسلام، تأتي ختاماً لعبادة قُصد منها تطهير النفس وتهذيبها، والارتقاء بها روحياً وسلوكياً، لفترة كافية تكفل ترويضها على الخير، والابتعاد بها عن الشر، وما يغضب الرب جل وعلا.
قصد منها الشارع الحكيم مصالح عدة دينية واجتماعية تعود على الأفراد والمجتمع كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبوداود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) صححه الحاكم.
يقول الإمام الخطابي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: «قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فيه بيان أن صدقة الفطر فرض واجب كافتراض الزكاة الواجبة في الأموال، وفيه بيان أن ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما فرض الله؛ لأن طاعته صادرة عن طاعة الله.
وقد قال بفرضية زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم.
محل سائر الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب، وقد عللت بأنها طهرة للصائم من اللغو، والرفث فهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة- بكسر الجيم- أي يسار- أو فقير يجدها فاضلة على قوته إذا كان وجوبها عليه لعلة التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب»(1).
زكاة الفطر عبادة ملازمة لشهر الصيام، وضمان قبوله «أخرج ابن شاهين في فضائل رمضان عن جرير بن عبدالله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوم شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلا بزكاة الفطر).
إنما توقف رفع صوم رمضان على زكاة الفطر لأنها فرضت جبراً وتطهيراً لما عسى أن يصيبه الصائم من لغو أو رفث»(2).
ذكر العلامة أبوعبدالله محمد بن علي بن عمر المازري معنى بديعاً لزكاة الفطر بعد شهر الصيام، وكل عبادة تستغرق وقتاً، وأياماً عديدة في قوله: «وفي قوله الفطر في رمضان تنبيه على قول من يرى أنها لا تجب إلا على من صام ولو يوماً من رمضان»
قال الشيخ: وكأن سالك هذه الطريقة رأى أن العبادات التي تطول، ويشق التحرز فيها من أمور توقع فيها وصماً جعل الشرع فيها كفارة من المال عوضاً عن التقصير كالهدايا في الحج لمن أدخل فيه نقصاً يكفره بالهدي، وكذلك الفطرة كفارة لما يكون في الصوم، وقد وقع في بعض أحاديثها أنه صلى الله عليه وسلم قال (تطهيراً من اللغو والرفث)(3).
المقصود الشرعي من فرضية هذه الزكاة بشكل أساس هو تلبية حاجة الفقير، وإغناؤه في ذلك اليوم تنوع إخراجها حسب حاجته في الزمان والمكان منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى بأن تكون (من الطعام المعتاد لأهل البلاد) هذا ما ترويه الآثار الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم فقد روى الإمام البخاري في صحيحه «عن نافع بن عمر رضي الله عنهما قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر، أو قال رمضان على الذكر والأنثى، والحر والمملوك صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر فكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطي التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إن كان يُعطى عن بَنيّ، وكان ابن عمر رضي الله عنه يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين»(4).
وبسنده المتصل إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، قال عبدالله رضي الله عنه فجعل الناس عدله مُدَّين من حنطه»(5).
الأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة ولا حاجة إلى سرد ما قد أصبح معلوماً من الدين بالضرورة.
فصْل الحكم الشرعي عن واقع الحالة، ومقصده الشرعي قصور وبتر له من أهم مستلزماته، المحيط الاجتماعي له دور كبير في توجيه الحكم، من أجل أن يكتمل العمل بهذه الشعيرة (زكاة الفطر)، موافقة للشرع من جميع جوانبه ينبغي أن يقدم للفقير حاجاته، وليس في ما هو في غنى عنه، حينئذ يتآخى العمل مع مقصد الشارع، وتكتمل للحكم الشرعي ركائزه الأساسية، ولو قدر فصل التشريع في هذه الفريضة عن الواقع لتخلف عن مراعاة المقصد لشرعي وهو حاجة الفقير.
قد راعى الصحابة رضوان الله عليهم هذا الانسجام التشريعي بين المقصد والواقع المعاش.
لننظر إلى واقعنا المعاصر في شهر رمضان بالذات حيث منَّ الله على هذه البلاد بالأمن والرخاء أصبح السائل يرفض الطعام صدقة يعطاه سواء كانت نافلة، أو واجبة، لأنه أصبح مبذولاً مجاناً، وفي مستوى عال من الجودة والتنويع، يتطوع به المحسنون بإعداد وتنسيق هُيئت له المطابخ الكبيرة، والتجهيزات الفنية والإدارية بحيث تضمن سلامة التوزيع، وحسنه في الأحياء الفقيرة..
لنطل بمنظار الواقع على هذا الجانب في بلادنا المملكة العربية السعودية لتمام تصور المشكلة:
توفر الطعام بشكل كبير جداً حتى حد التخيير بين ما يقدم من أنواع الطعام من أهل الخير، إلى جانب المناظر المعتادة المتكررة في العشر الأواخر من رمضان بما نشاهده من بروز بسطات الحبوب العالية، تتصدر أرصفة البقالات، يجهز أربابها مقدار زكاة الفطر في أكياس مغلقة زكاة الفرد الواحد يتقاضون عليها من المشتري السعر المعتاد، يتجمع الفقراء حولهم، يعطيها المتصدق لأحدهم زكاة الفطر عنه وعن من تلزمه نفقته بعد دفع ثمنها كاملاً للبائع، فيأخذ الفقير ذلك المقدار من الحبوب يعيده حالاً للبائع بثمن أقل، وهكذا دواليك. (هذا التصرف من الفقراء يعطي دلالته الصريحة على ما يحتاجه في الحقيقة، ذلك هو النقود وليست الحبوب).
أصبح هذا المنظر مألوفاً يمثل ظاهرة في نهاية كل شهر رمضان، أساليب تكشف المقصد الشرعي من هذه الشعيرة، ينتقدها كل مسلم؛ لأنها أعادت العبادة إلى شكليات مكشوفة ألغت منها مقصودها التعبدي، وقد أدت هذه الظاهرة إلى إعلان وزارة الشؤون الاجتماعية في جريدة عكاظ الغراء بالعدد 15528 السنة الحادية والسبعون بتاريخ الجمعة 25 رمضان 1426هـ الموافق 28 أكتوبر 2005م تحذيراً بعنوان: (الشؤون الاجتماعية تحذر من التلاعب في زكاة الفطر) قدمت تحته صورة واحدة من صور هذا التلاعب بهذه الفريضة في العبارة التالية:
«قال مصدر مسؤول في الوزارة إن بعض هؤلاء يقومون ببيع زكاة الفطر ويتركون أولادهم بجوارهم ويوهمون المشتري بأنهم فقراء يحتاجون الزكاة فيقوم المشتري بمنحهم ما قام بشرائه، وبعد ذلك يقوم الباعة ببيعها إلى مشتر آخر، وأضاف: إن الوزارة وكافة فروعها في المناطق تشدد على مثل هذه الحالات والقبض على من يزاول هذه المهنة ونصح جميع المواطنين والمقيمين بوضع الزكاة في محلها الحقيقي والانتباه من هذه الأساليب الجديدة التي تحاول استنزاف الجيوب والإبلاغ عن أية حالة يكون فيها اشتباه».
الناس في الماضي بحاجة إلى البر، وليست هذه الفترة منا ببعيد، كان الفقير في المدن فضلاً عن البادية يفرح بالحنطة يحملها أبناؤه إلى بابور الطحين لصنعه فيما بعد خبزاً تطعمه العائلة، أما اليوم فقد أغنت المخابز الكبيرة منها، والمتوسطة المنتشرة في طول البلد وعرضها الناس عن هذه الكلفة، وأصبح الخبز في بلادنا والحمد لله مبذولاً للجميع، يباع ناضجاً من دون كلفة أو مشقة، وبأرخص الأسعار.. إضافة إلى الجمعيات الخيرية التي تهيئ وجبات الطعام للفقراء والمعوزين على مدار العام، وبخاصة في المواسم الدينية كرمضان والحج، هكذا يتبين أن الفقراء في بلادنا في الوقت الحاضر اختلفت حاجاتهم عنها في الزمن الماضي.
فما الذي يحتاجه الفقير حقيقة؟
إنه يحتاج إلى النقد الذي يسد به متطلبات عائلته وأبنائه أمام أعباء الحياة المتكاثرة الثقيلة، يحتاج إلى كثير من الأشياء الضرورية التي ترهقه، ولا يستطيع تلبيتها من دون عون من الله ثم بما يقدمه له إخوانه المسلمون من زكاتهم المفروضة، إنه يفكر في سداد فاتورة الكهرباء التي لا يقوم بها أحد سواه، وكذلك سقيا الماء لأبنائه وعائلته، ولوازمهم المدرسية التي تكلفه الكثير الكثير من المال عدا الأشياء الضرورية التي لا يستطيع التخلي عنها.
هذا هو الواقع الذي يعيشه الفقير.
انفصال المقصد الشرعي من هذه الفريضة والتجاهل للواقع انحراف عن مقاصد الشرع، وتنزيل للأحكام في غير موقعها، فقد تغيرت حاجة الفقراء في عصر الصحابة رضوان الله عليهم فلجأوا إلى ما يحقق مقصد الشريعة، ولم يكن ثمة اعتراض على ذلك، وفي الوقت الحاضر تغيرت حاجة الفقراء، وأصبح ما هو مشروع أصلاً -إلى جانب أنه لا يسد حاجة الفقير- هدفاً للتحايل والتلاعب لسد حاجاته الحقيقية.
النظر الفقهي السليم هو الذي يؤاخي بين الأحكام الشرعية، وتأمل للواقع لتحقيق المقصد الشرعي.
يقول العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:
«الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي به من استقام فقد استقام على سواء السبيل»(6).
(1) معالم السنن، الطبعة الأولى، تصحيح محمد راغب الطباخ، (حلب: المطبعة العلمية، عام 1352/ 1933)، ج2، ص47، وانظر: الغماري، عبدالله محمد بن الصديق، غاية الإحسان، ص66.
(2) الغماري، عبدالله محمد بن الصديق، غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وفضل رمضان، الطبعة الثانية، (بيروت: عالم الكتب، عام 1405/ 1985)، ص65.
(3) المعلم بفوائد مسلم، الطبعة الثانية، تقديم وتحقيق محمد الشاذلي النيفر، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1992)، ج2، ص10.
(4) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، إشراف الشيخ عبدالعزيز بن باز، (مصر المطبعة السلفية)، ج3، ص375.
(5) صحيح البخاري (باب صدقة الفطر صاعاً من تمر)، ج3، ص375.
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، (مصر: المكتبة التجارية الكبرى، عام 1374/ 1955)، ج3، ص14.
https://www.okaz.com.sa/article/50652
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق