|
الكتاب : مقدمة الدكتور البدوي |
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ورضي الله عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ،،، وبعد:
يقول جل وعلا : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) [سورة الحشر : 1 ]
ولذا فإن من أوجب الواجبات على الأمة الإسلامية كلها خاصة في زماننا هذا ، نبذ كل ما يفرق الأمة ويشتت كلمتها ، لأن في ذلك محقاً لقوتها ، واعتلاء أعدائها عليها (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) [ الأنفال : 46 ]، وإذا كانت الأمة الإسلامية كلها معنية بهذا النهي ، فإن منظري ومتبعي الاتجاه الإسلامي على اختلاف أنواعه من هم المعنيون به بالدرجة الأولى ، فعليهم العمل الجاد والصادق ، المخلص والمتجرد عن الأهواء والنزعات الشخصية وحب الرياسة لاجتناب هذا النهي الإلهي فتعود للأمة وحدتها وقوتها ورونقها .
وإذا لم نكن – نحن أصحاب الاتجاه الإسلامي – قادرين على إزالة الحواجز والعوامل التي تفرق وحدتنا ، وتشتت شملنا ، وتقضي على حياة الأمة وقوتها ، وليس علينا ضغوطاً خارجية ، ولا ضغوطاً داخلية ، ولا خلافات عقائدية وإنما هي الأهواء وحب الذات ، إذا لم نكن قادرين على أنفسنا ، فلم إذاً نلوم الحكام والقادة والساسة العرب والمسلمين على عدم اتحادهم حول الإسلام ؟ مع وجود الضغوط الخارجية الهائلة من الدول الكبرى لمحق الإسلام ، ومع وجود ضغوطاً داخلية شديدة من العلمانيين الذين قوى شوكتهم .
وإذا لم تكن الدعوة إلى الإسلام هي هم دولة من الدول الإسلامية يوماً ، وإنما كانت الدعوة إلى تمجيد تاريخها وحضارتها وقادتها هي الدعوة التي لا تتقدمها غيرها ، فقدموا بذلك أسوأ الأمثلة على فرقة المسلمين .
(1/1)
فأعطينا أعداء
الإسلام الخارجين والداخلين السلاح الذي يحاربوننا به ، رغم أنه باستطاعتنا أن
نحول اختلاف الاستعدادات والميول – وهي حقيقة تعدد الجماعات الإسلامية - إلى الطريق
الصحيح التي لا تتعدى حدودها من اختلاف تنوع واستعدادات اختلاف عقائد وتضاد ، إذا
خلصت النيات ، وتوحدت الجهود ، فنكون بذلك حققنا الميول والرغبات لكل فرد ولم نخرج
إلى حد تبادل الإتهامات والتفسيق والتعجيز والتكفير.
ولقد كان هذا المنهج المتزن المستقيم هو منهج السلف الصالح وهو الذي قرره كثير من
أئمة اتباع المنهج السلفي وهو أيضاً المنهج الذي بينه ووضحه فضيلة الدكتور
"يوسف القرضاوي" وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على اتحاد الفكر والمنهج
كما يدل على سلامة التفكير والانتهاج ، كما يدل على أن فضيلة الدكتور " يوسف
القرضاوي " - حفظه الله – لم يخرج عن منهج السلف الصالح ، بل نصره وأيده بعد
أن اعتقده ونفذه
فصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا مختلفي الاستعدادات والميول ، ولم
ينكر أحد منهم على أحد بل عمل كل منهم فيما يحسنه واتخذه الطريق الأمثل في الوصول
إلى رضوان الله فمنهم من اتخذ طريق الحفظ والعلم والفقه كابن عباس وأبي هريرة
وعائشة رضي الله عنهم أجمعين ومنهم من اتخذ سبيل الجهاد ومطاردة الأعداء كخالد بن
الوليد وعمرو بن العاص ومنهم من اتخذ سبيل الاقتصاد والإنفاق كعبد الرحمن بن عوف ،
ومنهم من جمع بين شيئين أو ثلاثة أو أكثر ، ومنهم من جمع بين كل هذه الطرق
المتعددة من جهة والمتوحدة من جهة أخرى كابي بكر الصديق رضي الله عنه وبقية
الخلفاء الراشدين المهديين .
فكان كل واحد نافع في بابه ومتقن لعمله وغير ضارٍ لغيره ولا منازع له وإن اختلفت
وجهات النظر ، وتعددت الاستعدادات .
(1/2)
ويقرر الإمام
"ابن القيم" هذا المنهج في اختلاف الميول والاستعدادات فيقول "
الطريق إلى الله واحد ، فإنه الحق المبين ، وأما الباطل والضلال فلا ينحصر 000وأما
ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة ، جعلها الله كذلك
لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلا ، فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من
وحدة الطريق ، وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضى الله وما
يرضيه متعدد متنوع ؛ فجميع ما يرضيه طريق واحد ، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب
الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال ، وكلها طرق مرضاته ، فهذه التي جعلها الله
لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جداً لإختلاف استعدادات العباد وقوابلهم ، ولو جعلها
نوعاً واحداً مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا
واحد بعد واحد .
ولن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقاً يقتضيها
استعداده وقوته وقبوله ....." [ طريق الهجرتين ص166].
ثم فصل ذلك وقال : " ....وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه
الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم ، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه
الله ، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى
الله .
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله ومن الناس
من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة ، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع
المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات .
(1/3)
ومن الناس من
يكون طريق الصوم ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن ومنهم من يكون طريقه الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه ومنهم جامع المنفذ
السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق فأين كانت العبودية وجدته هناك
،و إن كان علم وجدته مع أهله ، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في
القانتين ، أو ذكر وجدته في الذاكرين ، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين
...." [ مدرج السالكين ص167]
فإذا نظرنا لمنهج فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي – حفظه الله – وهو في هذا الزمان
نجده يسلك نفس المسلك ، وينهج نفس المنهج بأسلوب صريح يوافق الزمن والأحداث التي
نعيشها فيقول فضيلته : " ومن آفات الحركة الإسلامية المعاصرة هذا الانقسام أو
التمزق الذي نشهده بين فصائلها وجماعاتها المتعددة ، فكل جماعة منها ترى نفسها
وحدها جماعة المسلمين لا جماعة من المسلمين ، وأن معها الحق كله ، وليس بعدها إلا
الضلال ، وأن دخول الجنة والنجاة من النار حكر على من اتبعها ، وأنها وحدها (
الفرقة الناجية ) ومن ترك هداها كان من الهالكين .
ومن لم يقل ذلك منها بلسان المقال ، قاله بلسان الحال ، وكأن عدوى التمزق في محيط
فكر الأمة ، انتقلت إلى محيط الحركة ، وهو ما يشكو منه المخلصون الغيورون على نجاح
العمل الإسلامي وهي شكوى ستطول إذا ظل هذا الموقف الفكري لهذه الجماعات على هذا
النحو ، الذي يقطع الطريق على أي تقارب حقيقي يؤلف بينها وأنا أقول – القائل د0 "يوسف
" تقارب ، ولا أقول : وحدة . لأني لا أنكر تعدد الجماعات العاملة للإسلام،
ولا أطمع أن ينضوي الجميع في جماعة واحدة ، يضمها تنظيم واحد ،تحت قيادة واحدة ،
فهذا حلم جميل ، ولكن دون تحقيقه صعوبات لا يسهل تذليلها ، إلا أن ينقلب البشر إلى
ملائكة أولى أجنحة .
(1/4)
ولا مانع من
التعدد إذا كان تعدد تنوع وتخصص ، لا تعدد تضاد وتناقض فجماعة تتخصص في تحرير
العقيدة من الخرافة والشرك ، وتصحيح عقائد المسلمين وفق الكتاب والسنة ، وأخرى
تتخصص في تصحيح العبادات وتطهيرها من البدع والشوائب وتفقيه الناس دينهم ، وثالثة
تعني بمشكلات الأسرة والمرأة ، والدعوة إلى الحجاب الشرعي ، ومقاومة التبرج
والانحلال، ورابعة تعني بالعمل السياسي ، وخوض معارك الانتخابات والوقوف في وجه
الأحزاب العلمانية وخامسة تهتم بالعمل التربوي أو العمل الجماعي وتبذل فيه جهدها
ووقتها ، وسادسة تعمل في هذه الميادين كلها ، أو في مجموعة منها ، حسبما يتيسر لها
يمكن أن تعمل بعض الجماعات مع الجماهير ، وبعضها الآخر مع المثقفين تخاطب الأولوان
العواطف ويستثيرون مشاعر الإيمان ، على حين يخاطب الآخرون العقول والأفكار ،
وبخاصة عقول ألئك المغزوين للثقافة الغربية بشقيها : الليبرالي والاشتراكي .
وهكذا تتنوع الجماعات ، ويتنوع عملها وفق اهتمامها وما ندبت نفسها لخدمته ومن تفرغ
لشيء يحسنه " أ0هـ ( أين الخلل 37-39 )
هذا هو كلام فضيلة الدكتور القرضاوي حفظه الله ونخلص منه إلى عدة خصائص :
أنه موافق تماماً لمنهج السلف والعلماء المتبعين لهذا المنهج كما تقدم كلام ابن
القيم رحمه الله .
أنه هو الكلام المنطقي الموافق للفطرة واختلاف استعدادات الناس .
أنه ليس بمتعصب لجماعة الإخوان المسلمين حيث اعترف بالجماعات الإسلامية على الساحة
.
أنه لا يحتقر أعمال الجماعات الأخرى بل يقرها ويدعو إليها وإلى تخصصها .
أن الأمر لا يستقيم أبداً إلا بهذا المنهج السلفي المتسع لكل مؤمن ومؤمنة ليعطي
الفرصة للجميع للعمل للإسلام دون لوم أو احتقار .
(1/5)
وليعلم الجميع
أنهم مستهدفون من قبل الأعداء وكل ما يريده الأعداء هو تفريقهم ولتفسيق بعضهم بعضا
أو تحقير بعضهم عمل بعض ، وليس مصادفة أن المسائل الخلافية التي هي محل اجتهاد من
الصحابة رضي الله عنهم إلى قيام الساعة تثار بصورة دائمة ومريبة في كل أنحاء
العالم الإسلامي في وقت واحد على اتساع رقعته مما يستبعد معه أن يكون هذا مصادفة ،
الأمر الذي يؤكد وجود أيدٍ خفية تؤججه بين أصحاب الاتجاه الإسلامي .
ولا يخفى على أحد فضل علماء الأمة ومكانتهم المرموقة في النصوص الشرعية ، وخاصة
العلماء العاملين المجاهدين في عصر قل فيه النصير ، وندر فيه المدافع عن الدين ممن
يتصفون بقوله تعالى : ( الذين يبلغون رسالات ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله
وكفى بالله حسيبا ) [ الأحزاب :39 ] وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحمل هذا
العلم من كل خلف عدو له ينبون عنه تحريف الجاهلين الغالين وانتحال المبطلين وتأويل
المجاهدين " .
وإذا بحثنا عن متصف بهذه الصفات في زماننا هذا فسنجد بإنصاف وبلا تحيز أن الدكتور
"يوسف القرضاوي" الرجل الذي أكرمه الله بأعظم كرامة وهي كرامة
"الاستقامة " نسأل الله أن يتمها عليه ويرزقنا بركتها هو أحد أولئك بلا
جدال؛ فمنذ نعومة أظفاره وطفولته التي حفظ فيها القرآن الكريم قبل أن يتم عشر سنين
من عمره المبارك وإلى بلوغه هذا السن المتقدمة وهو يعمل جاهداً بكل طاقته ، وبكل
استطاعته لتبليغ الإسلام والدفاع عنه ، كتابة ، وخطابة ، وشعراً ، وفقهاً ، حتى،
أصبح مفتى العرب والعجم وموضع ثقتهم وائتمانهم ، وهو مع ذلك لم يجر وراء منصب
دنيوي زائل ، ولم يلتفت إلى ما يعطله عن هدفه الأسمي ، ولم يتملق حاكما بتصحيح خطأ
أو تبديل شرع .
(1/6)
إن من إجلال
الله : إكرام ذي الشيبة المسلم ، والحاكم العادل ، وصاحب القرآن غير الغالي فيه
ولا الجافي عنه ، وفي فضيلته يجتمع الكثير من هذه الخصال الموجبة للإجلال والتكريم
ومن هنا كان لنا أن نقول : أليس من الواجب شرعاً أن ندافع عن علماء الأمة ؟ !!
فالدفاع عن فضيلة الشيخ "القرضاوي" هو دفاع عن الإسلام وكيانه ، باعتبار
أنه الرافع لوائه والمعروف بذلك عند العرب والعجم والأوربيين والأمريكيين ، فأي
طعن فيه وجب رده وبيان غلطه ، لا لأننا نعتقد فيه العصمة كما قد يتبادر إلى أذهان
بعض الأغبياء ، وإنما لأنه رمز للإسلام والمسلمين كان شيخ الإسلام "ابن
تيمية" في زمانه كذلك و"ابن القيم" و"العز بن عبد
السلام" و"الغزالي" وغيرهم من المنافحين عن الدين والرافعين لوائه
.
وفضيلة الشيخ "القرضاوي" كغيره من جهابذة علماء الأمة قد يخطئ أحياناً
في اجتهاده وفي فتواه ولكن خطأه مأجور عليه بنص مه من لا يخطىء قوله أبداً - صلى
الله عليه وسلم - حيث قال " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله وان وان اجتهد فأخطأ
له أجر " .
فاجتهداه وفتواه دائرة بين حصول الأجرين والأجر ؛ أليست هذه كرامة ومكانة عالية؟!
؛ إذن فلم التطاول والافتراء ؟ !! .
ولما كان الراسخون في العلم من علماء الأئمة هم حماة الدين ، والرافعين رايته فهم
ورثة الأنبياء ، فكان أي افتراء عليهم أو تنقيص من شأنهم يوجب على كل مستطيع أن
يرده على الحق ، فكان الواجب الشرعي الدفاع عنهم والرد على منتقصيهم ؛ لأن التنقيص
من شأن علماء الأمة المقصود به تنقيص الدين ، فالذي يشكك في الإمام البخاري أصالة
يشكك في صحيح البخاري الذي نقله لنا الإمام تبعاً ، وهكذا .
(1/7)
فلابد من
الدفاع عن علمائنا لتظل الأحكام الشرعية التي اجتهدوا فيها مرعية وإذا كان الأمر
كذلك فقد قام الزميلان الفاضلان والأخوان النجيبان في هذا الكتاب بالواجب الشرعي
في الدفاع عن أحد علماء الأمة والدفاع عنه برد ما افترى عليه فجزاهما الله خير
الجزاء وأكثر من أمثالهما ، فقد أبانا في مؤلفيهما هذا الدرس والتحليل والاستقصاء
والنظر والتحقيق أن فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي – حفظه الله وبارك لنا في عمره –
صاحب عقيدة سلفية صافية كعقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان دافع عنها ونصرها
وصاحب منهج فقهي واضح المعالم ثابت الأسس ، موافق للأصول وصاحب فكر قويم ، ودراية
عالية بواقع الأمة ومجريات الأحداث ، في الغرب وفي الشرق وفتاواه تصدر بتقدير حال
المستفتي وبيئته، وهذا هو الفقيه بحق ،إنه العالم الذي لا يخشى في تبليغ رسالة ربه
أحداً ، ومواقفه لا تنكر ولا تخفي ، وهو بحق أحد مجددي هذا القرن ، ولا يجادل في
ذلك إلا رجل لم يقرأ ما كتبه فضيلته ولم يسمع ما يقوله ، وقد كتب الله له القبول
في قلوب العباد .
وأن المتقول عليه إما جاهل بما كتب أو حاقد له غرض أو مغرر به من الأعداء .
وفي نهاية هذه المقدمة آمل لمؤلف كتاب " القرضاوي في الميزان " وأمثاله
أن لا يقحموا أنفسهم في التنقيص من أحد علماء الأمة فإنه لا يستفيد من هذا إلا
أعداء الأمة وأن يردع نفسه ويعتذر عما كتبه عن فضيلته بغير علم ، فالرجوع إلى الحق
فضيلة ، قال تعالى :( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فألئك أتوب عليهم ) .
كما آمل من كل من استطاع الدفاع عن أخيه المسلم في أمر انتقص فيه أن يسارع بالذود
عنه ولا سيما إن كان المفترى عليه أحد أكبر دعاة الأمة وعلمائها ، حتى يبقى البنيان
قوياً متراصاً .
وأخيراً 000 اسأل الله العلي القدير أن يذهب ضغائن قلوبنا ، ويوحد كلمتنا ويحفظ
علمائنا ، ويبارك لنا في علم وعمر فضيلة الشيخ "يوسف القرضاوي" .
(1/8)
وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين ،،،
د 0 أنور محمد البدري
الدوحة غرة المحرم سنة 1424هـ
(1/9)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين سيدنا
محمد النبي الأمي الأمين ، وعلى صحبته الغر الميامين ، وآل بيته الطيبين الطاهرين،
وعلى أمته أفضل الأمم إلى يوم الدين ، وبعد :
فإن من أفضل ما يتقرب به العباد إلى رب العباد ما يقوم على إحقاق الحق ، ونصرة
المظلوم ، ويتزايد الأمر في الفضل والأجر كلما كانت الجناية كبيرة ، والحاجة إلى
العدالة مطلوبة ، وسلوك سبيلها مخوفاً ، ولذا كانت كلمة حق عند سلطان جائر هي أفضل
الجهاد في سبيل الله .
وكان من أعظم الحرمات ترويع المؤمنين الآمنين ، والاعتداء على أعراضهم بغير وجه
حق، ولذا كان الذود عن أعراضهم ورد كيد المعتدين من أولى وآكد الواجبات وأفضل
القربات عند الله تعالى .
(2/1)
ومن ثم كان
لابد من بيان شافٍ لما ورد من مغالطات حول فضيلة الدكتور العلامة "يوسف
القرضاوي " الذي تميز بجمعه بين صنعة الفقه ، وصبغة الدعوة، وهو أمر قلما
يجتمع في أحد من المعاصرين ، فكان فضيلته يمثل بما اجتمع فيه من غزارة العلم ورؤية
الداعية نموذجاً فريداً للداعية الواسع النظر ، ولأجل أنه ذو علم محقق فقد أقبل
الناس على آرائه بوعي وقناعة بأنها سديدة ، ويستشعرون بأنها تجمع بين عبق الإسلام
الأصيل وطبيعة العصر الحديث في ارتباط وثيق لا تجد له أمتاً ولا عوجاً ، الأمر
الذي أدى إلى انتشار آرائه في العالم مما أزعج مخالفيه إلى حد كبير ، فباتوا
يخططون لإسقاط هذا الطود الشامخ غير عابئين بما حققه ، ولا بالرمز الذي يمثله فهو
بكل حال صار رمزاً للإسلام في أوضح معانيه شاء ذلك من شاء ، أو أبى ذلك من أبى ،
فكان ذلك هو الأمر الذي أحزننا إلى حد كبير ، أن يصير في أمتنا من يفتقد الإنصاف
إلى ذلك الحد الجافي البعيد في حين أن الأمم المخالفة رغم حرمانها من نور الإسلام
وعدله قد بقيت له مسكة من عقل أمسكت فيهم بقية من الإنصاف ، لذا تجد طائفة كثيرة
منهم تقدر الإسلام كدين شامل للحياة ، وتقدر رموزه وأعظمهم النبي - صلى الله عليه
وسلم - ، وتتجرد وهي تحكم له بأنه أعظم رجل في العالم نظراً لأثره العظيم في خلق
أمة تؤمن بالله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتبقى على هذا الخلق لمدة طويلة
وعصور بعيدة متتالية .
(2/2)
فعجبنا أن نجد
الإنصاف عند هؤلاء ونفتقده عند هؤلاء الذين يدعون أنهم على منهج السلف الكرام ،
والذين لا يشك أحد في إنصافهم كما لا يشك عاقل كذلك في ابتعاد أولئك المنتسبين
إليهم عنوة عن طريق الإنصاف مع خصومهم، فهم يجتهدون كل الاجتهاد في إسقاط رموز
مخالفيهم ، في نفس الوقت الذي يسعون فيه بكل قوة لإجلال رموزهم إلى حد أنهم لا
يقبلون على الإطلاق نسبتهم إلى الخطأ في أي رأي يصدر عنهم ، وهو سعي منهم لإضفاء
صفة العصمة عليهم عملاً وإن كذبوه قولاً قطعاً ، وما دفعهم إلى ذلك السعي الغير
الصحيح ، إلا أنهم يخشون تنقص هذه الرموز ، فيؤدي ذلك لفقد الثقة بمنهجهم، وهذه
النظرة القاصرة منهم هي التي جعلتهم في نفس الوقت يشنون هجوماً قاسياً على كل رموز
المخالفين لهم ، معتبرين ذلك من أعظم الواجبات الدينية لديهم ، وذلك رغم أن
مخالفيهم لا يمثلون خطاً خارجاً عن حدود الإسلام ، بل هم في غالب أحوالهم يتخذون
الأقوال المنسوبة للشريعة ، التي يحل التدين بها والتزامها ، ومع ذلك ينسبونهم إلى
الاستهتار ، ويلبسونهم ثياب العار والشنار ، ويستحلون أعراضهم برخيص القول ، وهو
الأمر الذي استغله أعداء الإسلام استغلالاً واسعاً ؛ إذ أن أدعياء الإسلام قد
كفلوهم القيام بإسقاط رموزه بما تكلفوه هم من ذلك العمل ، ألا بئس ما فعلوا .
(2/3)
ونحن إذ نقوم
بدورنا – الذي كنا في غنى عنه لو كان للقوم عقول تعي واجباتها، ولكنا فيما فرغنا
أنفسنا له من الاجتهاد في طلب العلم النافع ، لولا هذا العدوان الصارخ على أحد
الرموز الإسلامية العظيمة في هذا العصر ، وهو فضيلة الدكتور العلامة الداعية
الكبير " يوسف القرضاوي " – حيث ننافح عن دين الله تعالى ، ليس لإعلاء
راية وانخفاض أخرى ؛ إذ أننا سنقتصر في حديثنا في هذا الكتاب على تجلية الحقائق
للقارئ ، ويتضمن ذلك تجلية حقيقة كاتب ذلك المؤلف الموسوم بـ " القرضاوي في
الميزان " ؛ إذ أنه في حقيقته لا يليق به أبداً أن يتعرض لأناسٍ أعظم منه بما
لا ينتهي قدراً ، بل إن مجرد المقارنة بينه وبين فضيلة " الدكتور " تعد
سخفاً فظيعاً ، ولو أنه لم يلجأ لهذا الأسلوب الغير اللائق لكنا أعرضنا عنه ، ولكن
لما كان منه ما كان من الإساءة لفضيلته رأينا أنه لا ينبغي أن يمر الأمر دون عقوبة
له ؛ فكانت العقوبة البليغة هي كشف حقيقته المتواضعة على لسانه هو، فلم نتكلف أن
نجمع له شيئاً يخرج عما كتبه ، بل كان ما كتبه يكفي لهدمه إلى يوم الدين، وتلك
عاقبة الظالمين ، فتعقبنا كل كلمة قالها بالبيان الكاشف لحقيقتها ، وما فيها من
افتراء ، وما تدل عليه من تواضع ثقافة ومعرفة من كتبها إلى حدٍ يصعب معه تصور أن
يكون مثل هذا يقدم على عملٍ كهذا يتعرض فيه لأعلام الأمة .
(2/4)
فكأن الأمر في
هذا العصر لم يقف عند حد سوء الأذواق وفسادها ، وكثرة الحرمات وإفسادها ، بل
واهتراء المؤلفات وسوء مؤلفيها ، مما ينبغي معه أن يكون هناك رادع شديد لمن تسول
له نفسه ركوب هذه الدابة العرجاء ليميل بها راكبها تارةً على هؤلاء وتارة على
هؤلاء ، لا تدري على أيهم يقع ، ولا على أيهم لا يقع ، ولكننا لن نتعرض أبداً
لرموز المخالفين بشيء ؛ لأنهم في اعتقادنا يمثلون معنى من معاني الإسلام فلا يليق
التعرض لهم ما داموا هم كذلك لا يتعرضون للمخالفين لهم بالتنقص والازدراء ؛ إذ أن
أقل الإحسان وأضعفه هو المكافأة ، ومن ثم كان من الإحسان إليهم أن يلتزم معهم
بحدود الأدب المعروف في الخلاف ، ولا يجار عليهم إن جاروا في رأيهم ؛ لأن الخلاف
في الرأي لا ينبغي أن يدخل طوراً آخر في إفساد الود الدائم القائم بين المسلمين ،
ومن ثم كان لابد من أن يقال في مثل تلك الخلافات " ولكل وجهة هو
موليها"، وذلك أن اجتماع الناس على رأي واحد في كل مقال متعذر ، فاقتضت
الضرورات اختلاف وتفاوت الناس في الآراء والمقالات في غالب شأنهم ، وقل ما يتفقون
عليه جميعاً حتى انحسر في غير مجاري النظر من البديهيات ، وكلما زاد النظر بعد ذلك
في غيرها اتسع بينهم الخلاف حتى يبقى الأمر لا يهدي إلى الحق فيه إلا الأفذاد
جيلاً بعد جيل ؛ فلو تعصب أهل المقالات لمقالاتهم، أو غلا الأتباع في اتباعهم
لتقاتل الناس على ذلك وتهارجوا ، ووقعوا في فسادٍ عظيم لا ينخلعون منه إلى يوم
الدين ، ولكن الله تعالى لما جعل خلاف هذه الأمة رحمة اتسعت صدورهم من العصر الأول
للخلاف ؛ فتقبلوا بتعقل اختلاف لغات القرآن ، وتقبلوا بوعي كذلك اختلاف قراءة
القرآن ، ثم تقبلوا بعد ذلك اختلاف تفسيره ، واختلاف الحديث ورواياته ، ثم اختلاف
الفقه وآلاته ، وهم في ذلك إخوان متحابون محترمون لبعضهم البعض ، حتى ركب هذا
الأمر أوغاد الناس مما حاس في هذا الدين وداس ، ولم يكن له في خَلْطه
(2/5)
وَغَلطِه
إحساس ، فازدادت بهم العماية وانتشرت على أيديهم الغواية ، وصار السفه حلماً
والجهل علماً والظلمة نوراً والضلالة إيماناً ، ولا نملك في خضم هذه المهالك سوى
أن نقول : حسبنا الله ونعم الوكيل .
ولقد كان هذا المؤلف يزيد على أكثر من ألف صفحة فطلب اختصاره لضعف همم أغلب القراء
فاجتهدنا في ذلك واضطررنا لحذف الإحالات أسفل الصفحات علماً بأن اللبيب يمكنه
الاستدلال على مواضعها في الأغلب الأعم من ذكرنا له أحياناً بطريق صريح ، أو لكون
مواضعها لا تغفل عادة عن الطالبين مما يغتنى معه عن الإشارة للموضع بالصفحة والجزء
، حتى يتم ذلك الاختصار على غير حساب المادة العلمية ؛ فإذا وفق الله القراء لما
فيه من المعاني، وبارك في طالبيه ، وشعرنا بحاجتهم إلى أن يقرأوا من ذلك المزيد من
التفصيل أخرجنا حينئذ الكتاب كاملاً في أجزاءٍ ثلاثة لتتضاعف بذلك الفائدة بإذن
الله تعالى ، وقد سمينا ذلك المؤلف بـ " القرضاوي في ميزان الحق " .
وختاماً فإننا ندعو إلى تكاتف الجميع في نبذ مثل ذلك السلوك المتهجم على رموز
الأمة، ومن خالفهم في رأي أو قضية فليكتب فقط محرراً كلامه من أجل القضية التي
يريد تصحيحها ، ولا يزيد على ذلك ما دام لم يتعرض له في شخصه من قبل مخالفيه ،
وإلا فقد قال تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) ، فارفع
اللهم مقتك وغضبك عنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا ، إنك
يا مولانا سميع قريب مجيب فأجب دعوانا وحقق رجاءنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين .
المؤلفان
هانئ الحديدي ... ... ... ... ... وليد بن هادي
الدوحة في 15 من ذي القعدة 1420هـ
(2/6)
الحمد لله
وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد فإنا نقول وبالله التوفيق ومنه القبول
:
البداية :
بدأ المؤلف الذي وَجَّه جهده لنصب الموازين للخلائق في الدنيا ، وراح يختار من
ينصب لهم الميزان بطريقة خاصة بحيث لا يمكننا مهما تحرينا واجتهدنا أن نعرف بدقة
من الذي سيصيبه الدور في المرة القادمة ؛ فلعله يخبطها هكذا خبط عشواء، ومن ثم فلا
داعي لأن نجتهد في معرفة الضحايا التالية .
وهو يسعى في ظنه أن يعرف الناس بأعلام لمعت في سماء الدعوة أو ارتبطت بها بوجه من
الوجوه ، وهو يسعى لكشف حقيقة أمثال هؤلاء الذين كسبوا مجداً لا يستحقونه ، وحققوا
مكاسب طائلة من وراء حضورهم سواء كانت أدبية أو مادية من وراء ذلك الحضور ، ومن ثم
فهو يسعى لتخفيف حدة البريق الذي لاح لأمثالهم إن لم يكن يسعى إلى إزهاقه بالكلية
.
ومن ثم فهو دائماً ما يركز على الجوانب التي يعتقد أنها سلبية ، أو التي يطرحها هو
بصورة سلبية ، ويعبر متجاوزاً ببرودٍ وفتور كل ما هو إيجابي صريح في حق هؤلاء ، إن
لم يقلبه على رءوسهم وصمة عارٍ أو وصفاً سلبياً معدوداً على الشخصية موضوع انتقاده
لا لها .
(3/1)
وهو يحاول
حينما يتكلم عن الميزان أن يضفي على حديثه نوعاً من المصداقية حتى يُستسلم لما
يرسله على الشخصية من سيل طعناته بثقة ، ولكن حال دون ذلك ما اكتوى في صدره من حقد
دفين على مخالفيه ؛ فجعل منه عاجزاً تماماً عن رؤية ما هو إيجابي فيصفه بما لا
يمكن أن يكون على أحسن تقدير إلا عدم اكتراث وقلة مبالاة بتلك الإيجابيات ، تتنافى
مع العدالة المطلوبة ؛ إذ أن الحاقد هو من يكتم الحسنة ويظهر السيئة إن لم يفعل شيئاً
أكثر من ذلك في أغلب الأحوال ؛ فيسكت على المدح دون موافقة أو مؤازرة ، أو يسوق
معه ما ينقصه ويطفئه ، بينما يرسل الذم بحمية وتأكيد ، ومبالغة ، ممالا يعني سوى
أنه عدو لكل من أدخلهم في ميزانه الخاسر ؛ إذ أن من تسوءه حسنتك ، وتسره سيئتك
فهذا هو عدوك بكل تأكيد ، وهو ما نطق به الكتاب العزيز في بيانه لحال الكافرين
وبغضهم للمؤمنين { إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا لها } . (1)
وهذه حقيقة أثق أن كل من يقرأ مثل هذه الكتابات المسمومة ينفذ إليها ويتقي سمها ،
إلا أنه لما راحت بعض طوائف المغرضين تتخذ من إهمال الشخصيات المنتقدة الرد على
مثل هذا الموهوم بما يردعه وسيلة إلى النيل من تلك الشخصيات وتقدم ما ورد في مثل
هذا الكتاب على أنها وثائق إدانة لا تقبل التزييف والرد .
من هنا وجدنا أنفسنا مضطرين لكشف الحقيقة المغيبة ، وإظهار الأغراض والأحقاد
المحركة لذلك " الناصب " الذي ظن أنها من الممكن أن تخفى على
أحد ؛ إذ ونحمد الله أننا ليس بيننا وبينه أي ضغينةٍ ، ولا بين ما يمثله من فكر ،
هو ليس حكراً عليه وحده وحسب ، و إنما هو يريد من الانتساب إلى الفكر
________________________
الآية ، آل عمران (120) .
(3/2)
السلفي المشهور
بطهره ونقائه وإن كان مع جمود مخيب للآمال قد اتصف به المنتسبون إلى ذلك الفكر من
كثير من المعاصرين أن يكون موضع ثقة الخلق في كل ما يصدر عنه ، وخاصة في نقد
مخالفيه ممن ينتسب لنفس الفكر لكن بصورة لا ترضيه فيها التخلي عن ذلك الجمود ؛ فهو
يريد لنفسه أن يكون مثالاً ينسج على منواله فهو فقط الذي يحسن تصور الطريقة المثلى
التي سار عليها السلف وكذلك على من على شاكلته ، ومهما قرأ إنسان للسلف فإنه لا
يصل إلى فهم هذه الطريقة إلا بمتابعته؛ فهو وحده الوصي على فكر السلف ، ومن لا
يدين له بتلك التبعية لا يحسب على السلف إطلاقاً ، لأنه خالفه وهو المثال فيما زعم
، تباً لهذا التعنت الأحمق !! .
فخالف هو بذلك أبرز علامات السلف الكرام ، وهي سماحتهم واتساعهم لقبول القول الآخر
ما دام له شواهد من الشرع تقويه وينتسب بها إليه .
ومن ثم ، ورغم كون فضيلة الأستاذ العلامة الدكتور " القرضاوي " ينهج نهج
السلف الكرام ، ويعتقد العقيدة المشهورة عن السلف من إثبات الرؤية والاستواء وغير
ذلك مما اشتهر عن السلف ، ولكن ذلك لم يشفع له لكونه خالف ذلك المثال الذي يريد
" الناصب " قصر السلفية عليه ، وإقصاء كل من يخالفه عن اتباع السلف
رضوان الله عليهم ، وكأنه قد وكل إليه السلف الصالح هذا الشأن ؛ فهو يتعاهده !! .
فكيف إذا حظى مخالفه بثقة العالم الإسلامي ، وانضاف إلى ذلك أن كان له تراث يشهد
لهم بالخير والفضل ؟ ؛ فإن المهمة حينئذٍ لابد أن تكون بإضافة التشكيك إلى أعمالهم
وإنجازاتهم هذا بالإضافة إلى المهمة الأساسية من بيان خروجهم عن نهج السلف وبعدهم
عنه ، وهو الأمر الذي يعني إسقاطهم من نظر الكثير من أبناء الصحوة الإسلامية
المحبة لمنهج السف الكرام .
(3/3)
ومن هنا كان
لابد لنا في المقابل أن نظهر صاحب الموازين وناصبها في صورته الحقيقية كإنسان
مخالف في فهمه لمنهج السلف لفضيلة العلامة " القرضاوي " وهو تميز دائماً
بانتقاصه لخصومه والشناعة عليهم بكل سبيل ويرى ذلك ديانة يتدين بها إلى الله تعالى
فهو مع خصومه لا يراعي ستر عورة ، ولا سكوتاً عن زلة ، ولا صفحاً لهفوة ، ولا
تجاوزاً عن كبوة ، بينما إذا كانت الكرة عليه فإنه يذكر بأخلاق الإسلام التي تدعو
إلى ستر العورات ، والتجاوز عن الكبوات ، وصفح الهفوات ، والسكوت عن الزلات .
ولكن لن يكون منا مبادلة له في هذا الميدان بذكر علاماتهم ورموزهم التي يفتخرون
ولا نمنعهم عن ذلك ، ويدعون الناس للتسليم بما يرد عنهم من أقوال وآراء؛ لأنها من
وجهة نظرهم حق لا يتطرق إليه باطل بحال ، فهي وإن كانت ليست بوحي ، ولكنها كالوحى
في العصمة !!
ولن نتطرق لنصب موازين لأعمالهم وإنجازاتهم وانتقاد آرائهم ، لأن الذي يعنينا ليس
انتقاص الناس ، وخاصة إذا كانوا رموزاً لدعوة ليست منحرفة عن جادة الشرع من حيث
الأصل والانتماء وأما من حيث الفروع ، فالسلامة في جميعها ليس بمقدور أحد إلا من
كان معصوماً ، وليس في الناس معصوم ، سوى ما مضى من الأنبياء والمرسلين الذين
عصمهم (1) الله بعصمته ، فلا عصمة لأحد بعدهم .
_________________________
(1) ... الفتاوى (10/289) .
وذلك أننا نعنى بأمرنا أكثر ما نعنى بغيرنا ، وهذا هو الذي يتعين على المسلم أن
تكون عنايته ونصحه لنفسه أولاً فكيف إذا كان قاصراً عن تحقيق الإنجازات التي يشهد
لها أهل الفضل والعرفان ، وهو مع ذلك متجاسر على غيره ، متنقص له
وكأن فيه قول القائل :
أتهجوه ولست له بكفءٍ
(3/4)
**** فشركما
لخيركما الفداء (1)
ولذا فإننا نجد في أنفسنا شغلاً كثيراً يشغلنا عن النظر في أحوال غيرنا ، ومحاولة
تشويه إنتاجهم لكونهم يخالفوننا في الرأي ، ونرى أن الأمثل والأبلغ في هذا المقام
هو العمل بجد وإخلاص حتى تصدر أعمالنا التي تهدي الناظر فيها إلى خير السبيل دون
تعدًّ منا على أحد ، ولا سعى منا للنيل من مخالف وإسقاطه ، وخاصة ما دام يدور في
إطار الخلاف المقبول والمستساغ ، وهو الأمر الذي ينبغي ان يتسع لنا جميعاً ، أو
هكذا المفترض فيه ، فلا ينبغي منا السعي لتضييقه، واتهام المخالف فيه بإتيان الأمر
المذموم ، و البعد عن الحق المنشود ، ولأجل ما ذكرناه فإننا رأينا أن ما كتبه ذلك
" الناصب " الذي وضع في ميزانه المزاجي رجلاً يفوق قدراته بكل المقاييس
، أمر يستحق منا الوقوف بقوة في وجهه لرده عن غيه ، وحتى لا تنتشر تلك العدوى في
آخرين ، فيقوم كل واحدٍ منهم على أحد الرموز الإسلامية المعاصرة ليهدمه ، وفيه من
الشر ما لا يخفى ، ولذلك فقد رأيت الرد عليه في كل كلمة قالها مغرضاً ومبطلاً ،
وما أكثر ما وقع منه في كتابه هذا من مقدمته التي نتناولها الآن إلى خاتمته ، فكل
كلمة منه تقطر حقداً _____________
(1) ... ديوان حسان بن ثابت شرد د 0 يوسف عيد ، ط 0 دار الجيل ، بيروت .
وغيظاً على فضيلة العلامة الدكتور "القرضاوي "، وهو لا يستطيع إخفاءه
ولا الامتناع منه ؛ فهو يتفلت عليه تفلتاً ، وانظر أيها القارئ كيف بدأ مقدمته عن
فضيلة العلامة القرضاوي " حيث قال بعد أن حمد الله وصلى على نبيه الكريم : ما
نصه " وبعد : فهذه رسالة ثانية من رسائل ( رجال وكتب في الميزان)اخترت أن
تكون من نصيب رجل طار اسمه شهرةً عبر الصحف والمجلات ، ومن خلال الكتب والإذاعات ،
وأخيراً كان له حضوره في القنوات الفضائية "
(3/5)
فهذه المقدمة
منه لا يريد منها الثناء على فضيلته كما أبان ذلك في كل كتابه ، وإنما أراد بيان
الحال الذي لا يرضى هو عنه ، فرجل مثل فضيلة العلامة " القرضاوي " في
نظر ذلك " الناصب " لا يستحق كل ما ذكر ، وحسبك أيها القارىء العزيز في
الوقوف على ذلك أن تقرأ الخاتمة السوداء التي ختم بها المؤلف كتابه ، والتي حملت
تجريد فضيلة العلامة القرضاوي من كل فضيلة يهتم لها الدعاة في ميدان الدعوة إلى
الله تعالى .
ولأجل أنه لا يراه يستحق ما هو فيه من مكانة ؛ فإنه وضعه في ميزانه قسراً ، وأطلق
عليه سيل ظنونه وأوهامه ، وافترسه بسوء ظنه وضعف فهمه ، وكلاهما من الأمور التي
ستتضح للقارىء بجلاء مدى وقوع " الناصب " فيها على الدوام وبشكل مريع
ومزرٍ، - إِي بكل معنى الكلمة – والله ِ!! .
ثم يتابع هذا " الناصب " حديثه عن فضيلته قائلاً :
" وهذا الرجل لا يكل ولا يمل عبر سنين عمره الطويل ، فهو : يكتب ، ويحاضر ،
ويحاور ، ويتصدر ، فكان من حصيلة هذه الجهود عشرات من الكتب والمقالات ، ومثلها من
اللقاءات والحوارات ، حتى أصبح ذا رصيد علمي لا يخفى على أحد "
وذلك أيضاً لا يشمل على أي نوع من المدح ؛ فالقارئ الحصيف يدرك مما ذكر "
الناصب " أنه لا يعدد فضائل فضيلة الدكتور ، وإنما يعدد دوافع حقده وأسباب غيظه
وبيان تلك الحقيقة لا يكلف أي عناء فانظر أيها القارئ إلى ما اشتملت عليه عبارة
ذلك الناصب مما يفصح عن حقده على فضيلته وتنقصه له:
يقول : " وهذا الرجل " هكذا دون أي ميزة لذلك الرجل فهو رجل من الرجال
لا فضل له ، ولا مزية.
ثم يقول :" لا يكل ولا يمل عبر سنين عمره الطويل - أطال الله في عمره وجعله
نكاية لأعداء الإسلام وأعداء أنفسهم - وليس عدم الكلل ولا الملل وحدهما فضيلة حتى
ينضاف إليهما ما يحمدان عليه ، ولكن نفسه أبت عليه أن يذكر له في ذلك ما يعلم منه
الفضل ، كيف وهو يريد أن يضيع سعيه طيلة هذه السنين التي ذكرها هباءً منثوراً.
(3/6)
ثم يقول
:" فهو : يكتب ، ويحاضر ، ويحاور …….." هكذا أيضاً بالأفعال المجردة
التي لا تقتضي مدحاً ولا ذماً بغير بيان مفعولاتها والتي المفترض أن تكون على لسان
أي منصف على المنوال الآتي : منافحاً عن الإسلام ومدافعاً عن قضاياه أمام أعدائه الطامعين
، ونحو ذلك مما هو معلوم حقيقته وصدقه ، ولكنه لم يفعل ؟! وكأن كل ما كتبه فضيلته
لم يمثل له شيئاً يستحق ذكره ، وكأنها لم تكن في الأغراض التي ذكرناها ، فأهدر تلك
المفعولات.
ثم يقول :" حتى أصبح ذا رصيدٍ علمي لا يخفى على أحد " ، وتلك عبارة أيضا
تسوق سبباً آخر لتهجمه على فضيلته ، فهو لم يقل بأن ذلك الرصيد العلمي له أي ميزة
سوى أنه لا يخفى على أحد ، أي نتيجة ذيوع صاحبه وشهرته ؛ فهو بالطبع لا يمدح رصيده
العلمي ، ولا يثني عليه به ، بل لا يراه أصلاً شيئاً يستحق أن يتبوأ صاحبه لأجله
ما هو فيه من مكانةٍ .
وإنما هو بهذه الإنجازات يستحق أن يوجه إليه ذلك الناصب سهامه ليهدمه لئلا يغتر
الناس به كما يظن هو ، وهو لأجل ذلك يقول : إنه وجه هذه الدراسة وأخواتها إلى
أبناء الأمة ليكونوا كما قال : " على بصيرة وبينةٍ من هذه الشخصيات التي
اعتلت المنابر وتصدرت الأمة ؛ ليعلموا ما لها وما عليها " إذن فهو لا يرى تلك
الإنجازات التي قال عنها " رصيد علمي " أنها تمثل أي قيمة علمية من وجهة
نظره ولذا فهو يسعى في بيان تهافتها وانعدام قيمتها وامتلائها ضرراً وخطراً على
أبناء الأمة الذين يخشى عليهم الناصب أن تبهرهم الأضواء المسلطة على فضيلة الدكتور
فيتابعونه على طريقه فتندثر بذلك طرقهم التي يدعون الناس إليها .
وتأكيداً لما ذكرناه من أنه لا يرى لهذا الرصيد قيمة علمية فإنه يتابع كلامه عن
فضيلته قائلاً : " وهو عَلَمٌ في رأسه نار ، يعرفه جُل أبناء الأمة ، نظراً
لتنوع نشاطاته وتعددها"
(3/7)
إذن فهو علم
لا بالعلم وإنما بالكر والفر ، والحركة والنشاط ، والحضور في شتى المجالات ، فهكذا
رأى فضيلته ، وهكذا أراد أن يصوره للناس في هذه الصورة المحدودة التي لا يختلف
فيها فضيلته عن أي إنسان مشهور لسبب من الأسباب كالإعلاميين ، وسائر المشهورين
الذين يعرفهم جل الناس ، ولا توجد لهم على التحقيق أدنى فضيلة " .
بل إنه لا يذكر اسم فضيلته أبداً مقترناً بما يدل على التوقير والتبجيل ، ويفعل
ذلك مع أقرانه الذين لا يفوقونه مستوىً علمياً بل هو الأعلى كفة بفضل الله .
هذا كله إن دل على شيءٍ فإنما يدل على مدى الحقد الذي يحمله "الناصب" في
قلبه لفضيلة العلامة القرضاوي وما ذلك إلا لأنه يخالفه في الرأي ، والنفوس المخلدة
إلى الأرض مدفوعة بحب ما يوافقها ، وبغض ما يخالفها ؛ فيعتريها من أجل ذلك أدواء
الهوى و الشهوات ؛ فتميل بها عن جانب الحق والعدل ، ولا نجاة من ذلك كله ، إلا
بإلزام النفس تقواها ، والتجرد من الهوى والشهوة كما قال ربنا جل وعلا : { فلا
تتبعوا الهوى أن تعدلوا } (1) ، ويحذر سبحانه من الحيف والظلم بقوله جل شأنه :
" وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً " (2) .
_________________________
الآية ، النساء : ( 135 ) .
الآية ، النساء : (135 ) .
ويقول " الناصب " عن السبب الذي جعله يختار فضيلة العلامة الدكتور
"القرضاوي " هدفاً لما يسميه الدراسة ؛ وهو أبعد ما يكون عن معنى
الدراسة التي تحمل المشعل وتضئ الطريق ، وأقرب ما يكون إلى الدراسة التي تدرس
الأثر وتضل السائرين ، فيحكى عن سبب تناوله لفضيلته فيقول أن ذلك السبب : "
نظراً لعدم وجود أي دراسة تكشف (فكره) ، و (توجهه) ، و(ملخص أهدافه ) لأفراد الأمة
الذين نشأوا وهم يشاهدون أبحاثه وكتبه ومشاركاته المنتشرة حولهم، ولم يعرفوا عنها
إلا القليل" .
(3/8)
وهذه الجملة
منه تكشف ما عزم عليه في ذلك الكتاب من الإساءة والتنقص لفضيلته تنفيراً للناس عنه
– يحسب أنه يقدر على ذلك فهيهات ثم هيهات – ؛ فيقول ذلك " الناصب " أنه
أراد أن يكون السابق في إعداد ما يؤدي إلى كشف فكره وتوجهه وملخص أهدافه ، وهي
عبارات اعتدنا أن نسمعها عن أصحاب الأفكار الشاذة المنحرفة الذين ينخرطون بين
الناس ولا يكتشفون حقيقتهم إلا بعد مرور زمن طويل دون اكتشافهم ، ويتسابق الناس في
فضل كشف حقيقتهم ، فهكذا أراد ذلك " الناصب " أن يكون ،
ثم يقول " الناصب " : أنه لا يريد أن ينصب نفسه حكماً على أعمال الدكتور
وأقواله من خلال أهوائه وميوله ، وكأني به يذكرني بقول القائل كاد المريب يقول
خذوني .
وذكرني كذلك بقوله تعالى على لسان إخوة "يوسف" حينما جاءوا أباهم عشاءً
يبكون قائلين : { يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب
وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } (1) ، فالمفترى عليه زوراً في كلا الحالين
يدعى " يوسف " وكلاهما ضحية الحقد والهوى ، وفي كلا الحالين يقدم المجرم
عذره ، وهو شاعر بضعف حجته فينبه لذلك ، وهو لا يدري أنه يفضح نفسه بنفسه .
فما كان قوله : " وأنا لا أنصب نفسي حكماً على أعمال الدكتور وأقواله من خلال
أهوائي وميولى " إلا كذلك ؛ فيرده عليه كل عاقل لبيب بل أنت كذلك،وليس بنفيك
تنتفي التهمة عنك ، ولولا شعورك بملابسة الاتهام لك ما نفيته من دون أن يوجه إليك
.
والآن لنبدأ بياننا لما وقع فيه ذلك " الناصب " من الأخطاء الكثيرة التي
امتلأ بها كتابه حتى يكون القارئ على بينةٍ ووعظ من حال أولئك المفرطين في حق
أنفسهم المنشغلين بغيرهم ، فتركوا ما ينبغي لهم أن يشتغلوا به ، واشتغلوا بما
ينبغي لهم تركه .
(3/9)
ولقد نظرنا في
كتاب هذا " الناصب " حينما قيل لنا : إن هناك مؤلفاً صدر عن العلامة
" القرضاوي " لإنسان مغمور ، قد سماه " القرضاوي في الميزان "
، فوجدناه قد حوى الكثير من الأخطاء والكثير من التعسف والأذى لإنسان فاضل يعلم كل
من خالطه علمه وحلمه وورعه ، وكفه أذاه عن الخلق ، والصبر على أذاهم وبعد أن قدم
ما قدمه لأمته الإسلامية ، التي لا تفتأ تذكر فضله ، إذا بمن يريد أن يتنكر لفضله
ويجحده ، فكان لزاماً علينا ان نسعى في _____________________
الآية ، يوسف : (17) .
رد مكيدته ، وإعادة الأمور إلى نصابها دون تشويش على جمهور المسلمين فيما علموه عن
فضيلة " الدكتور " مما هو مشهور له على ألسنة العدول الفضلاء الذين لا
تسيرهم الأهواء ، ولا تحركهم الضغائن من مختلف الاتجاهات الإسلامية ؛ فكان أن
شرعنا في هذا التأليف .
عملنا في هذا التأليف : -
كنا قد ارتأينا أن ننظم ذلك الرد في ثلاثة أجزاء هي ثلاثة محاور انطلق منها ذلك
الهجوم الغاشم ، وقد أشرنا إلى ذلك في كلامنا آنفاً ، وهي أن هجوم الحاقدين دائماً
ينطلق على الفضلاء بالطعن في عقائدهم ، ثم ينطلق إلى مذاهبهم الفكرية ، ثم إلى
مناهجهم الفقهية في حالة ما إذا كان لهم مناهج متميزة .
(3/10)
فيكون
المحوران الأخيران بالنسبة إلى الأول كالنافلة بالنسبة إلى الفريضة؛ إذ أنه بعد
الإجهاز على الضحية ببيان سوء عقيدته واختلاط فهمه فيها ، يكون من السهل واليسير
بيان تهافت المنهج الفكري ، والاهتراء الفقهي وذلك ليس لأن الأخطاء في العقيدة
يلزم منها بالضرورة ضعف المنهج الفكري ، والفقهي ، وإنما لأن الكثير من أبناء
الصحوة الإسلامية يحصل لهم الصدود والإعراض عن كل ما يخالف المنهج الذي ألفوه
وأحبوه من المناهج الاعتقادية ، وهو المنهج الصافي للسلف الصالح ومن السهولة بمكان
إذا أخفق ظنهم في إنسانٍ من حيث اعتقاده أن يتقبلوا إخفاقه في شتى الأمور ، بل
يكادون لا يرون لإنسان أي مزية إذا ما لم ترق لهم ما يقتنع به من عقيدة تخالفهم
فيما ألفوه مما اختلف فيه أهل القبلة وتشعبت فيه آراؤهم .
ولذا فإننا قسمنا الرد كما ذكرنا إلى ثلاثة أجزاء نتناول في كل جزء منها محوراً من
محاور الهجوم التي تسلل منها " الناصب " ليطعن فضيلة العلامة "
القرضاوي " فكان الجزء الأول من كتابنا هذا الذي أسأل الله تعالى أن يجعله
بياناً للحق ونصرةً للمظلوم ، وعملاً بقول رسولنا الكريم " انصر أخاك ظالماً
ومظلوماً " ، وقوله " المسلم أخو المسلم " عن عقيدة فضيلة الدكتور
" القرضاوي " وبيان ما أراد " الناصب " أن يتهمه فيها ، والرد
عليه بما هو الحق إن شاء الله تعالى كما نعلمه عن فضيلته بما صرح لنا به ، أو نشره
في كتبه أو دروسه أو غير ذلك مما يعرف عنه واخترنا أن يكون عنوان الجزء الأول هو
" عقيدة القرضاوي انتصار للسلف " ويشتمل على بيان صحيح وموضوعي ويشتمل
لشخص فضيلة العلامة ومؤلفاته
ثم الموضوع الثاني هو "عقيدة القرضاوي "، وهو كذلك الموضوع الثاني عند
" الناصب " ، والموضوع الثالث هو" القرضاوي والأشاعرة "
والموضوع الرابع " القرضاوي والرافضة " ؛ فيكون على الأربعة فصول ؛
وبهذه الموضوعات الأربعة نختتم الجزء الأول من هذا الكتاب .
(3/11)
وعقب ذلك
الجزء الثاني وفيه نتناول المنهج الفكري لفضيلة الدكتور القرضاوي، والذي اخترنا أن
يكون عنوانه " القرضاوي تأصيله للكليات واعتباره للجزئيات "
وفي هذا الجزء نتناول بالتحليل والتعليق ما كتبه " الناصب " عن :
القرضاوي والسنة ، والقرضاوي والسنة غير التشريعية ، والقرضاوي والكفار ،
والقرضاوي والديمقراطية ، والقرضاوي والسلفية ، والجماعات الإسلامية والإغراق في
الجزئيات .
ثم عقب ذلك الجزء الثالث ، وفيه نتناول المنهج الإفتائي لفضيلة " الدكتور
" حيث نبين كيف هو منهج رصين منضبط لا يعاني من تخبط ولا يعرف الغلو ، ولا
تعيبه السطحية التي شملت بردائها العقيم الكثير من المعاصرين فحالت دون ظهور آراء
جادة تأخذ طابع العمل بغير تفريط في طابع المستند .
واخترنا لهذا الجزء أن يكون عنوانه "القرضاوي ووسطيته في الفتوى "
وذلك أن فضيلته يحب دائماً أن يتوسط من بين الأطراف ، حيث يغلب على الوسطية الصواب
، من جهة الرأي ، والسداد من جهة العمل ، بينما يغلب على الأطراف الخطأ من جهة
الرأي ، والطيش من جهة العمل ، وتلك الوسطية لا ترضى بطبيعة الحال الطرفين
فيعتبرها أحد الطرفين تساهلاً ، ويعتبرها الطرف الآخر تشدداً وسوف نبرهن في كل ما
نسب إليه على ما ذكرناه من كونه يتوسط دائماً في فتاواه وينضبط وفق معايير موضوعية
مستندة إلى لباب الكتاب والسنة ، حتى حاز بذلك ثقة الفضلاء والتزم بآرائه أغلب
الأوابين من عامة المتدينين لما في آرائه من الورع الموافق لحقيقة المفتي ، والعلم
اللازم له ، والمعرفة بحال المفتى له ، واستخراج الجواب على وفق ذلك كله يكون بلا
شك هو الأمر المناسب والشرع المتبع ، ولذا فلا غرو أن اتبع آراءه الخلق الكثير ممن
يحتفل بالحلال والحرام في هذه الأزمان ، فانتشرت فتواه في عامة البلدان ، ولعل ذلك
ما أوغر صدور الكثيرين لأسباب لا تخفى حتى على الغافلين .
(3/12)
وقد تناولنا
في هذا الجزء ما كتب " الناصب " عن " القرضاوي والمرأة ، وذلك أن
فتاوى فضيلته بالنسبة للمرأة كثيراً ما يعتبرها بعض أهل الأطراف غير مناسبة
فيعتبرونها مثالاً للتساهل ويقابلهم من يعتبرها مثالاً للتشدد ، وبالطبع فإن
" الناصب " من أهل الطرف الأول .
وأما الموضوع الأخير في هذا الجزء فسيكون رداً على ما أورده " الناصب "
من تساهل في فتاوى فضيلته وذكر له عنواناً : منهجه في الفتوى ونماذج أخرى من
تساهلاته " .
وبخاتمة بياننا لما أورده من نماذج تحت هذا العنوان نكون قد أتينا على غرضنا من
إحقاق الحق الذي هو من الأعمال الجليلة ، والتوفيق إليه من المنح الربانية العظيمة
، التي تستحق مِمَّن أُرشد إليها ووفق لارتكابها أن يكون لله جل وعلا شاكراً ،
ولفضله حامداً ذاكراً .
وأرجو الله أن يجد القارئ بالإضافة إلى ما نسعى إليه من إسناد الفضل لأهله ،
والذَّبِّ عنهم ممن جار عليهم وبغى ، وجاوز الحد واعتدى ، دون أن يكون عنده وازع
من تقوى يرده عن ما وقع في نفسه من هوى ، وذلك بجواب مستند للدليل الذي يعدمه
العليل فيشفى به قلبه ، وينشرح له صدره ، وعسى أن يكون ما نورده من الفوائد
العلمية في أجوبتنا عن ما يورده ذلك " الناصب" هي نافلة للقارئ ولا يقل
فضلها ونفعها عن الغرض الأصلي من صياغتنا ذلك الرد ، والله المستعان وعليه التكلان
.
(3/13)
الجزء الأول
عقيدة القرضاوي انتصار للسلف
الفصل الأول :
القرضاوي
تعريف ومؤلفات
أولاً : القرضاوي :
1 - النشأة والتكوين :
بالنشأة والتكوين بدأ الناصب الكتابة تحت هذا الموضوع معرِّفاً بفضيلته، وهو غني
عن تعريف مثله لمثله .
وكان " الناصب " مقتضباً غاية الاقتضاب في ذلك ، ومع اقتضابه الشديد إلا
أنه يتنفس نفساً قصيراً في بعض الأحايين ، وتنكتم أنفاسه في أحايين أخرى ، وذلك
لعلل يعلمها الله تعالى .
مثال ذلك : أنه مع اقتضابه الشديد يعرفنا بقريته ومحلته ومحافظته ، وحال أسرته
الاجتماعية ، وعمل أهلها ، ووقت وفاة والده ، وسنه وقت الوفاة، وكفالة عمه له ،
ونشأته مع أولاد عمه ، مما يعد مع اقتضابه أقرب للإطالة ، ثم يحدثنا عن جمعه بين
الكُتَّاب والمدرسة ، ولا يشير إلى ما يستفاد من ذلك ، ولو بكلمة ، وعن حفظه
للقرآن قبل العاشرة ، ولا يشير أيضاً إلى ذلك بأدنى ملاحظة ، فلو أنه حذف عبارة
" يشتغل أفرادها بالزراعة " ووضع عند قوله " فحفظ القرآن قبل
العاشرة " زيادة " لنبوغه المبكر " أو " وشهد له بجودة الحفظ
" لكانت أكثر نفعاً للقارئ الذي لا يهمه عمل أهل " القرضاوي "
بالزراعة أو الصناعة ، بقدر ما يهمه معرفة البداية لهذا النجم المتألق، فيسكت
" الناصب " عما وصف به حفظ فضيلة " الدكتور " حتى قيل في حقه
" لا يكاد يُضيع منه حرفاً مع الإلمام بأحكام التجويد " ، ويسترسل في
وصف عمل أهل أسرته ؛ فأي الأمرين أولى بالاسترسال في نظرك أيها القارئ العزيز .
إن جحود " الناصب " لفضل الدكتور العلامة " القرضاوي " دفعه
دفعاً لكتمان كل فضيلة تنشر عنه ، والحديث عنها دون مبالاة أو تعليق، حيث يوفر
تحليلاته وتعليقاته لكل أمرٍ يتوهم فيه تنقص فضيلته حيث تنتشر همته وتنبسط أريحته
، وتتفتق قريحته فيفرز لنا سيلاً من أوهامه المندفعة متعلقة بأشطان مخيلته التي
يظنها استدلالات لها وزنها ، وهي ترهات لا وزن لها عند من آتاه الله بصيرةً وعلماً
.
(4/1)
ومن ثم فإن
" الناصب " لا يعلق إطلاقاً على ما يحمد ذكره على لسان كل عاقل ، بل
ويكتمه ، فيذكر أنه حصل على الشهادة العالية سنة 52-53م ، ولا يذكر أن ترتيبه
آنذاك كان الأول على دفعته ، فهل هذا مما يستحق أن يكتم ولا ينشر ؛ ويذكر أنه
التحق بتخصص التدريس بكلية اللغة العربية ولا يذكر أنه حاز أيضاً على المرتبة
الأولى من بين خمسمائة طالب ، ولا يعلق اطلاقاً على أن فضيلة "الدكتور"
استطاع أن يحصل على دبلوم عال في شعبة اللغة والآداب من معهد البحوث والدراسات
العربية العالية في نفس الوقت الذي كان ملتحقاً فيه بقسم الدراسات العليا في شعبة
علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين فأتم كليهما بنجاح (1) ، وهو أمر بلا شك لا
يحمل سوى دلالة واحدة هي أن
__________________________
جرار ، حسين أدهم ، ديوان الدكتور يوسف القرضاوي ، نفحات ولفحات ، دار الضياء ،
عمان الأردن ، 1405هـ – 1985 م : (11-13) .
فضيلة الدكتور – حفظه الله – رجل علمٍ من المهد وأنه صاحب عزيمة في العلم والتعلم
وعقلية لها مقدرة واسعة على الفهم والاستيعاب والتحليل، ولكن الناصب يذكر هذه
الأحداث كالأصم الذي لا يسمع ما يقال ، وهو ما لا يقبل في تفسيره على جهة الحقيقة
والواقع سوى أن هذا " الناصب " قد بلغ الغاية في جحوده لحق فضيلة
الدكتور – حفظه الله .
وبعد ما ذكرناه عن فضيلته لم يكن غريباً أن يتبوأ عن جدارة واستحقاق أرفع المناصب
العلمية في دولة "قطر" التي احتضنته كأحد أبنائها وقدرت مكانته ، وأولته
عناية خاصة ؛ فتبوأ عمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر وأصبح
المدير المؤسس لمركز بحوث السنة والسيرة أيضاً .
(4/2)
و "
الناصب " يذكر هذه الأعمال التي أسندت إلى فضيلة الدكتور دون أدنى إشارة
لمعناها ، وسوف يرى القارئ عن قريب كيف يتمتع "الناصب" بموهبة في
التعليق والتحليل كانت غائبة أو مغيبة تماماً في ما نقله عن نشأة فضيلة الدكتور
وتكوينه ، وذلك حينما نتكلم عن الانتماء والنشاطات حيث يستأنف " الناصب
" نشاطه في التحليل والتعليق وإتحاف القارئ بأوهامه وخيالاته ، فَلْنرَ ذلك .
الانتماء والنشاطات :
هنا ينتقل الناصب " بعد حديثه عن حياة فضيلته التي تملل منها على النحو الذي
رأيناه لكونها بكل المعاني تمثل كشفاً كبيراً عن شخصية عظيمة بكل المقاييس ، فلاذ
بالصمت المهين ، وهنا وجد الفرصة سانحة لإبراز هواياته في التحليل والتعليق حينما
تكلم عن انتماء فضيلة الدكتور إلى الجماعة المعروفة باسم " جماعة الإخوان
المسلمين " حيث يجد الفرصة سانحة للنيل من فضيلته ، فيقول عن فضيلته : "
وله نشاط كبير في نشر دعوة هذه الجماعة داخل " مصر " عندما كان فيها ،
وخارجها وخاصة في "قطر" التي أصبح للدكتور نشاط كبير فيها ، وأثر لا
يخفى على أفرادها رجالاً ونساءً نظراً للسنوات الطوال التي قضاها بينهم ، فتأثروا
بفتواه التي توافق هوى النفس ، كتحليل الأغاني، والتمثيل ، والمسارح ، وتساهله في
قضايا المرأة المتنوعة " .
وفيما ذكره هذا " الناصب " في عبارته هذه جمل من العدوان على فضيلته
نبينها فيما يلي :
أنه قصر حديثه عن نشاطه في الدعوة إلى الله تعالى ، وهو الذي يشهد له بجلاء على
أنه نشاط مختص بالدعوة لجماعته ، وفي هذا محاولة منه لغمزه بأنه مغرض في دعوته
دائماً لنصرة جماعته ، وليست دعوته في عامة الأحوال وكما يشهد له بذلك إلا دعوة
خالصة لله تعالى ، ولكن " الناصب " لا يرى ذلك .
أنه جعل تأثر أهل "قطر" رجالاً ونساءً بدعوته فيهم راجعة لأمرين ليس له
فيهما أي فضل وهما :
(4/3)
طيلة السنوات
التي قضاها بينهم ، فالتأثر به راجع لهذه الألفة ، فهو تأثر فطري لا فضل له فيه.
أن فتواه توافق هوى نفوسهم ، ولذا تأثروا به لأجل ذلك ، وهو ليس تأثيراً بمعنى
التأثير المعروف ، لأنه مع الموافقة فلا يكون للتأثير أثر ، إذ أن الأثر إنما يظهر
مع المخالفة ، وعلى ذلك فإنه حتى في تأثر الناس بفضيلة الدكتور نزع منه كل فضل في
تأثر الناس به ، فلا هم تأثروا به لروعة خطابته ، وجاذبية إلقائه ، وحسن خلقه ،
وسماحة سمته، وسعة صدره ، وغزارة علمه ، وسعة اطلاعه ، وتوسع اهتماماته ، وغير ذلك
من الأشياء التي اجتمعت في فضيلته مما هي معلومة للقاصي والداني ، ولكن "الناصب
" شغله " النصب " للموازين عن رواية كل هذه الحقائق ، وعزى تأثر
الناس به على أنه ناتج عن طول الصحبة فنشأ عن ذلك التأثر.
وجعل السبب الثاني لتأثرهم أيضاً ليس راجعاً إلى فضل فيه بقدر ما هو راجع إلى عيب
في المتأثرين به ، وهو أن نفوسهم يغلبها الهوى إلى حل ما هو حرام شرعاً فأتت فتاوى
فضيلة الدكتور لتوافق ذلك الهوى فلقيت منهم ترحيباً ، واتباعاً معكوساً ؛ إذ أن
اتباعهم إنما هو في الأصل لهواهم ، وفتاوى فضيلته كانت في نظر " الناصب
" تابعة لأهوائهم ؛ فلا شرف له في نظره في متابعة القطاع العريض من عامة الناس
لرأيه ، إذ أنه هو التابع لهم لا هم التابعون له فيمثل " الناصب "
لفتاوى فضيلته التي توافق أهواء النفوس قائلاً كتحليل الأغاني ، وسيأتي مناقشة
المسألة في الجزء الثالث إن شاء الله .
وأما التمثيل والمسارح كما يقول " الناصب " فقد ذكر لها فضيلة الدكتور
الضوابط التي بكل تأكيد لا تروق لأصحاب الهوى خلافاً لادعاء " الناصب" ،
وسنذكر بيان ذلك في محله .
ويقول أيضاً : " وتساهله في قضايا المرأة المتنوعة " وهذه عبارة أيضاً
اشتملت على غبن شديد ؛ إذ أن فضيلة الدكتور مشدد في حقوق المرأة التي عانت من ظلم
المجتمع لها وعدم إنصافها ، ولكن " الناصب " اعتبر
(4/4)
هذا التشدد من
الجهة الأخرى تساهلاً ، وكل ما صدر عن إنصافها ، وكل ما صدر عن فضيلته في قضايا
المرأة إنما يدعو إلى الإعجاب من شدة تحريه في إثبات حقوقها ومراعاة مكانتها ،
وسعيه لكسبها الاحترام المشروع لها في المجتمع ، وهذا هو ما أسماه " الناصب
" : تساهله في قضايا المرأة المتنوعة .
وكأنه بذلك يصف إنساناً لا تقوم في نفسه غيرة على عورات المسلمين، ويسعى في انحلال
المرأة خلقياً ، فهذا الذي يوافق هوى النفوس الضعيفة ، فهل ذلك هو عمل فضيلة
الدكتور ؟! نعوذ بالله من. البهتان !! ، وإن شاء الله سوف نبين بالجواب الشافي ما
يستند إليه فضيلة الدكتور " القرضاوي " من أدلة لها اعتباراتها في كل ما
قاله في هذا الباب وغيره بإذنه تعالى وكيف أن عمله الدائم على مراعاة حشمة المرأة
ووقارها وابتعادها عن مهاوي الردى والابتذال .
(4/5)
ثم ينتقل
" الناصب " إلى نشاط آخر من أنشطة فضيلة الدكتور " القرضاوي "
وينشط هنا أيضاً في التحليل والتعليق ، فيتكلم عن نشاط فضيلته في وسائل الإعلام
المسموعة والمقروءة والمرئية . بالإضافة إلى تأليفه العديد من المؤلفات ، وإلى
جانب هذا كله مساهمته في القنوات الفضائية ، وعن هذا يقول " الناصب " :
" وله مساهمات في القنوات الفضائية كقناة "الجزيرة" التي خصصت له
برنامجاً أسبوعياً اسمه (الشريعة والحياة ) استغله الدكتور في نشر أفكاره وآرائه
وفتاواه على نطاقٍ واسع " فانظر أيها القارئ العزيز إلى تعليق " الناصب
" على مساهمة فضيلة الدكتور في قناة "الجزيرة "؛ إذ يقول :"
استغله الدكتور في نشر أفكاره " بدلاً من أن يقول لو تحلى بالإنصاف والأدب
مما ساعد على نشر أفكاره ، مما يحمل نفس فكرته بأسلوب مهذب ، ولكن يعمد إلى عبارات
تحمل معاني الإساءة ، فكأن فضيلة " الدكتور" يقوم باستغلال البرنامج
لصالحه لكي يفرض منه وجوده ورأيه ، بينما ذلك البرنامج المشار إليه ليس إلا نافذة
يطل منها فضيلته على الراغبين في معرفة آرائه لثقتهم بها ، فأي استغلال يتحدث عنه
ذلك " الناصب"؟ ، وهل ينشر فضيلته سوى الخير الذي يحتاج إليه كل مسلم،
ولكن المشكلة أن هذا " الناصب " يريد اعتقال كل رأيٍ يخالف رأيه ، وكل
فكرٍ يخالف فكره ، فراعه أن يلتقي فضيلة الدكتور " القرضاوي" مع محبيه
في مثل هذا البرنامج وأن يعرفه من يجهله، وأن تزداد ثقة الناس به وقناعتهم ، فلو
كان الأمر بيد الناصب لفعل به اشد مما عانى منه زمن الاضطهاد ، ولمنعه عن البوح بما
يعتقده مما انتهى إليه علمه ووثق من دليله ، وأمعن في نظره ، ولكن برحمة الله
وفضله ان جعل الله فضيلته بعيداً عن أيدي أولئك الطغاة الذين يسعون في استئصال كل
رأي يخالف رأيهم .
(4/6)
ثم ينتقل
" الناصب " إلى نشاط آخر من أنشطة فضيلة الدكتور ، وهو مشاركته في
الإنترنت وهنا يجن جنونه من فرط هذا النشاط لشيخ تجاوز السبعين من عمره – أطال
الله في عمره – فيقول متعجباً من هذه المقدرة العالية على التواجد في كل هذه
النشاطات التي تحتاج أوقاتاً طويلة من عمل المرء : " وكل هذا يدلنا على مدى
جلد الدكتور وصبره ونشاطه في سبيل نشر أفكاره التي يرتضيها " فهذه حقيقة لا
مجال لإنكارها ، ولكن ما نوع هذا الجلد والصبر والنشاط ؟ فذلك الذي يسكت عنه ذلك
" الناصب " فكثير من أهل الباطل لهم جلد و نشاط في نشر باطلهم ، فهل
أفادهم ذلك الجلد ؟ وبدلاً من أن يقول أن ذلك كله في سبيل نشره دعوة الإسلام التي
دائماً هي موضوع حديث فضيلته ، لا ، يقتصر على أن هذا الجلد كله في سبيل مصلحة
شخصية فكرية ، لا مصلحة شمولية فهو لا يرى شيئاً من أرائه تمثل دعوة للإسلام
بشموله ، ويرى كل ما يرتضيه خاصاً به وحده، سبحان الله !! ما هذا الغلو في التجاهل
؟ وما هذا النوع من العمى ؟
فالله سبحانه وتعالى ذكر لنا جلد وصبر أهل النار فقال :" فما أصبرهم على
النار " (1) ، فهل في هذا الصبر فضل ؟ ، فهكذا يصف " الناصب "
________________________
الآية ، سورة البقرة ( 175 ) .
فضيلته بالصبر والجلد ، ولكن لسان حاله يقول : ليت ذلك الجلد كان على ما يرتضيه
الناصب ويهواه ، وحينها لكان نعم الجلد هو !!
ثم يعود " الناصب " مرة ثانية ليغير كعادته على فضيلته ، فالحقيقة أن
كتابه كله باختصار ليس سوى غارة ظالمة على فضيلة الدكتور العلامة " القرضاوي
" وقاه الله شرها وشر غيرها من غارات المبطلين فيقول :
" ولا شك أن توجه الدكتور نحو ( التسهيل ) في قضايا الإسلام المتنوعة أدى إلى
المساهمة في انتشاره وعلو صيته ".
فهنا يعود ليبرر للقارئ النجاح الذي حققه فضيلة الدكتور في مجال الدعوة فيذكر لذلك
سببين :
(4/7)
أحدهما : هو
ما ذكره فيما سماه باتجاه الدكتور نحو ( التسهيل ) ، إذن ليس فيه ما يدعو للانتشار
سوى وجهته التي يسلكها السالكون ، فلا يقال في حقه أنه توبع على منهجه ، وإنما
يقال سلك المسلك الذي يكثر الناس فيه ، وهذه الطريقة قد استعملها الناصب من قبل في
بيان أسباب تأثر الناس بفضيلته واجتماعهم حوله .
فلم يكن إذن علو صيته في نظر " الناصب " لعلو همته ، ولشدة اجتهاده ،
ولدقة فكره ، ولمراعاة منهجه ، لا ؛ فكل ذلك عند "الناصب " لا
وجود له ؛ فهو في نظره عدم ، والأمر عنده على ما ذكرنا فهو لا يزيد عن كونه يطعم
الناس ما يشتهون ولذا يرد الناس مطعمه ، أو أنه يلقى بنفسه في الطريق المكتظة فيجد
الناس حوله !! ، ولك أيها القارئ العزيز أن تضع من الصور ما تشاء مما يتفق مع هذا
الذي يصفه ذلك " الناصب"
ثم إنه يعرض للسبب الثاني من أسباب انتشار صيت فضيلة الدكتور "القرضاوي
" ، فيقول : " لأن وسائل الاتصال المعاصرة بكافة أنواعها مولعة بنشر مثل
هذا الفكر الذي تبناه الدكتور ، مقابلة بالفكر النقي الصحيح الذي لم تألفه بعد
" .
وهنا يعرض ذلك " الناصب " ثاني الأسباب التي يراها قد جعلت لفضيلته شهرة
واسعة وصيتاً مسموعاً فكان ثانيها : أي ثاني السببين وهو وسائل الاتصال التي تقوم
بنشر فكر فضيلته ، فيحمل الاتهام إلى تلك الوسائل ؛ إذ أنها كانت سبباً مباشراً في
اتساع صيته لولعها بنشر فكره الذي جعله مقابلاً للفكر النقى الصحيح الذي – على حد
قوله- لم تألفه بعد .
وكأن كل وسائل الاتصال لم تنشر ذلك الذي يسميه الفكر النقي الصحيح، وتشتغل على
نشره في بعض البلدان ليل نهار!! ، ومع ذلك فهو يقول عنها أنها لم تألفه بعد ؛
فالعيب من وجهة نظر " الناصب " في عدم انتشار الفكر النقي الصحيح يرجع
إلى أن الناس في اتباع دائم لأهوائهم .
3- أثر الانتماء الفكري والعلمي على فضيلة الدكتور القرضاوي :
(4/8)
بعد أن تكلم
" الناصب " عن انتماء فضيلته لجماعة الإخوان المسلمين راح يبرز أثر ذلك
الانتماء على فضيلته في آرائه ، ومنهجه ، من حيث إن ذلك التأثر يؤدي به إلى الوقوع
في المخالفة الشرعية ، وفي الحقيقة إن " الناصب " في هذا المعنى كان
غاية في العجز أن يثبت أي شيءٍ ، حتى كان كلامه في هذا المعنى أقرب إلى الهذيان منه
إلى حقيقة الكلام .
فانظر أيها القارئ العزيز كيف حاول إثبات ما ادعاه من أن تأثر فضيلة الدكتور
" القرضاوي " بجماعة " الإخوان المسلمين " جعله من المغالين
الذين يعميهم تعصبهم عن رؤية الحق فضلاً عن اتباعه متى خالف نهج جماعتهم ، حيث قال
:" القرضاوي كما علمنا من سيرة حياته أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين ،
وهذه الجماعة – كما هو معلوم – تتميز بميزة لا تجدها عند غيرها!! ، هي التعصب
المقيت لمؤسسها حسن البنا ؛ فأفراد هذه الجماعة تجاوزوا بالإمام حد البشرية إلى حد
الغلو ، فأصبحوا يدافعون عن أخطائه الواضحة ويتأولونها وتلمس في دفاعهم ادعاء
العصمة له ، وإن كانوا يقولون بخلاف ذلك ، ولكن واقع حالهم يكذبهم حيث الدفاع
المستميت عن حمى الشيخ أن يمس ولو بالحق "
فانظر أخي القارىء إلى هذا الكم الهائل من المفتريات والمضلات التي احتشدت في هذه
العبارة يريد منها " الناصب " الوصول بالقارىء إلى حقيقة قائمة في خياله
المريض وحده ، وهي أن فضيلة الدكتور "القرضاوي" ليس إلا واحداً من جماعة
الإخوان المتصفين بالتعصب ، وواحد القوم منهم يرى ما يرون ، ولذا فهو مثلهم في ذلك
العمى الذي وصفه ، وهذا كلام باطل من كل وجه ؛ إذ أن جماعة الإخوان المسلمين ليست
كما يقول هذا " الناصب " إطلاقاً ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى، فليس
فضيلة الشيخ الدكتور " القرضاوي " مجرد شخص في جماعة ، بل هو قدوة ومثل
، ولنبين لك أيها القارىء العزيز ما اشتملت عليه عبارة " الناصب " من
ألوان الباطل .
(4/9)
يقول : "
وهذه الجماعة – كما هو معلوم – تتميز بميزةٍ لا تجدها عند غيرها ، هي التعصب
المقيت لمؤسسها حسن البنا " فلا أدري عند من معلوم هذا الإفك ؟ وهل يعد تقدير
جماعة لشخص قائدهم تعصباً ؟ ؛ إذن فكل جماعة تتعصب لقائدها إذا كان الأمر على ما
يقول ، فما من إمام قوم في أي ناحية من النواحي إلا وهو عندهم معتبر المكانة فكيف
تميزت في ذلك جماعة الإخوان عن غيرها ؟
ثم يقول :" فأفراد هذه الجماعة تجاوزوا بالإمام حد البشرية إلى حد الغلو
فأصبحوا يدافعون عن أخطائه الواضحة ويتأولونها " وهذه مغالطة ثانية من "
الناصب " بأن يجعل من اعتقد صحة شيء يخالف فيه غيره ، ويدافع عنه يكون
مغالياً مجاوزاً بإمامه الذي يعتقد صحة قوله حد البشرية ؛ إذن فكل أصحاب الأئمة
الذين حملوا مذاهبهم ورجحوها على غيرها على علمهم وعلو شأنهم كانوا متجاوزين
بأئمتهم حدود البشرية لأجل دفاعهم عن أقوالهم ، ورد أقوال مخالفيهم !! .
وهنا نقول : ما المانع أن يتأثر الناس برأي أحد النجباء ، ويرون فيه الصحة والصلاح
، ويدافعون عن قناعتهم في ذلك ، بل " الناصب " نفسه هو وفئة كثيرة معه
يتمسكون برأي جماعة معينة في مسائل الخلاف يرون الحق فيها دون غيرها ، ولا يرون في
أنفسهم متعصبين لهؤلاء الذين تمسكوا بآرائهم ؛ فإن قالوا لكونها موافقة للدليل
قلنا : فهكذا جواب كل طائفة !!
إن تحقيق التعصب في مثل هذه الأحوال أمر عسير ؛ إذ انه يستلزم افتراض معرفة
الإنسان الحق في غير ما اتبعه ثم هو يعاند في اتباعه ، ويتبع خلافه ؛ فكيف يتحقق
منه إذن ؟ ؛ فالجواب : أن ذلك في حقيقة أمره يعسر ما لم تكشفه وقائع لا تقبل
التأويل .
(4/10)
فإذا كان كذلك
؛ فلا حرج في تأويل المرء أدلة الفريق المخالف له ولإمامه لأنه لا يراها مقنعة له
؛ فالسبيل لردها هو تأويلها أو إسقاطها على ما هو معلوم ، ولا يمكن للإنسان أن
يمنع خصمه عن تحقيق أمر يعتقده ؛ فيدفع كل ما يخالفه تصحيحاً لاعتقاده على قدر
جهده وعلمه.
ثم يقول :" وتلمس في دفاعهم ادعاء العصمة له ؛ وإن كانوا يقولون بخلاف ذلك ،
ولكن واقع حالهم يكذبهم حيث الدفاع المستميت عن حمى الشيخ أن يمس ، ولو بالحق
"
انظر أيها القارئ إلى هذا المبطل كيف يريد إلباس ثوب التهمة والجريمة غصباً وزوراً
لمن يتهمه بها فلا يجد له منها فكاكاً حتى صار إنكاره لا معنى له أمام تسلط "
أبي الموازين " الذي لا يرحم ، فاستنتاجاته العقلية هي البينات الأكيدة على
المتهم الذي ليس له إلا الله الحاكم العادل الذي أمر قضاة الدنيا بتحكيم البينات لا
الاستنتاجات الشهوانية .
(4/11)
ثم ينتقل من
هذه الدعوى الكلية الباطلة التي كان فحواها أن جميع عناصر جماعة الإخوان متعصبون
لإمامهم إلى تطابق تلك الدعوى على فضيلة الدكتور باعتباره أحد أفرادها فيقول :
" ونحن واجدون مثل هذا عند القرضاوي " ويزيد في إثباته وكأنه يرد على
سؤال متوقع ، ألا وهو إنه لا يلزم بالضرورة أن يكون كما تقول لكونه أحدهم ، فيقول
: " فإليك شيئاً من أقواله تبين لك مدى تأثير البنا عليه ، ومدى غلوه فيه وفي
جماعة الإخوان المسلمين " فيسوق كلاماً أعجب كل العجب أن يكون مثل هذا الكلام
محل إدانة لأي إنسان أو اتهام له بالغلو في حق أحد ، ولو كان مثله غلواً لكان
الغلو المزعوم لا يسلم منه إنسان فانظر أيها القارىء العزيز كيف يستدل ذلك "
الناصب " الموهوم على أن فضيلة " الدكتور " واقع في هذا الغلو ،
حيث يحكي عن فضيلته قوله : " يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية
ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اللذان إن
تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبداً " وما العيب في ذلك ، بل إنه إن لم يقل ذلك
كان الوبال عليهم لا ينتهي ، ويتابع حكاية فضيلة الدكتور عن الجماعة واعتقادها،
فلا تجد موضعاً لهذه المغالاة أبداً في كل ما نقل. فخبروني بربكم في أي شيء مما
نقلناه معنى المغالاة التي يدعيها ذلك " الناصب " أيكون التزام جادة
الصواب وطريق النجاة مغالاة ؟ فإن كان ذلك كذلك فنعم المغالاة إذن !! وذلك كقول
القائل لمن لامه على التزام الاستقامة ووصفها بالاعوجاج فرد عليه قائلاً : فإني
إذاً معوج .
ثم ينقل " الناصب " إلى فقرة أخرى من كلام فضيلته ليستدل منها على غلوه
في الشيخ حسن البنا " فنقل عنه قوله : " لم أجد في دعاة الإسلام ومصلحيه
في هذا العصر من فهم قضية الخلاف وأدبه وفقهه كما فهمها الإمام "حسن البنا
"و رَبَى عليها أبناء مدرسته " فأى مغالاة في هذا ، أن يجد إنسان في
غيره مثل هذا المعنى .
(4/12)
ويستمر "
الناصب " في سرد ما هو مثل ذلك مما تنعدم دلالته مطلقاً على ما يدعيه ؛ فلم
أشأ الإطالة بذكره حتى لا أثير امتعاض القارئ من هذا الغثاء .
ثم ينتقل " الناصب " في أثناء بيانه لأثر الانتماء الفكري والعلمي
لفضيلة الدكتور إلى بيان أثر الأشخاص الذين حكى عنهم أنه تأثر بهم في صياغته
فكرياً على النحو المريض الذي يريد أن يصوره " الناصب " فيحكى عن فضيلته
أنه تأثر في باكورة حياته بالإمام حسن البنا وأعجب به ورأى فيه الأستاذ والمعلم
والمربي (1) ، وهذا بالطبع أمر مُجرَّم عند " الناصب " مما يستدعي
التوبة منه وإعلان البراءة ، ولا يكفي إذ آنه لعلها تقيهَ يتقيها.
___________________
قال شيخ الإسلام في الفتاوى (11/511) : وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين : فلا
ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - فكما ان المرء له من يعلمه القرآن ونحوه ، فكذلك له
من يعلمه الدين الباطن والظاهر ولا يتعين ذلك في شخص معين ا0هـ .
وأما الشخصية الثانية التي كان يعجب بها فضيلة الدكتور " القرضاوي " مما
لا يرضى عنهم " الناصب " فهو الأستاذ " بهى الخولى " صاحب
كتاب " تذكرة الدعاة " ، والثالثة : الشيخ : " محمد الغزالى "
رحمه الله والرابعة : الدكتور " محمد عبدالله دراز " ، والخامسة : الشيخ
محمود شلتوت رحمه الله .
ففضيلة الدكتور القرضاوي ، ليس وحده الذي أعجب بهؤلاء ، بل إن مكانتهم عرفت لدى
قطاع عريض من أهل العلم وإن كانوا قد يختلفون معهم ومع ذلك فإن " الناصب
" جعل من هؤلاء الأعلام سلماً ليصل به إلى غرضه من الطعن في فضيلة الدكتور
" القرضاوي " حيث إنه استدل من ذلك على كون فضيلته – حفظه الله – صار
خليطاً مشوشاً من هؤلاء، وذلك بان اجتمع فيه ما يراه في كل واحد منهم من الشر !!!
، لا من الخير ، وهو كثير .
(4/13)
وكأنه يمتنع
على الناصب أن يفهم إمكانية أخذ الإنسان من جماعة خير ما فيهم أو خير ما في كل
واحد منهم ولا ينتبه أبداً إلى قول فضيلة الدكتور: " ولكن الله أكرمني فلم
أحاول أن أكون نسخة من واحد من هؤلاء الأفذاذ " ؛ إذن فالدكتور – حفظه الله –
أخذ من كل واحد منهم محاسنه – وهي كثيرة – وكما يقول القائل : كفى بالمرء نبلاً أن
تعد معايبه ، وهكذا فلا يلزم أخذ أخص صفاتهم ، وإلا لظهر كصورة مكررة
عنهم إذ أن أخص الصفات هو الأغلب ظهوراً وهو لم يكن كذلك.
ثم كيف يكون سلفياً عقلانياً ؟! أيكون الإنسان مشرقاً مغرباً في وقت واحد فحمق من
يقول ذلك مثل حمق الخصم الذي قال عن نفسه : أنا سني شيغي وخصمي معطل ؛ فضحك القاضي
من شدة حماقته .
ثم يعود " الناصب " إلى التقاط الخيط مرة أخرى بين فضيلة الدكتور
القرضاوي وجماعة "الإخوان المسلمين" فيقول : " وقد استبان للجميع
أمر جماعة الإخوان ، فلم يعد خافياً على أحد كما قد كان قديماً ؛ فهذه الجماعة
جماعة ( تجميع ) تخلط السني بالمبتدع وتمزج بينهما في تركيبة غير متآلفة لتشكل
منهما جماعة واحدة لها أهدافها وطموحاتها".
ثم يقول هذا " الناصب " : " إن أمر جماعة الإخوان قد استبان بعد أن
كان خافياً ، ولا يذكر لماذا كان خافياً ولا كيف اصبح مستبيناً ، ومن ذا صاحب
الفضل في كشفه ، وما هو ذلك المخبوء الذي كشف كل ذلك لا يذكره صراحة ، إلا أنه
يقول بعد في إشارة إلى تعلق ما يقوله بذلك المخبوء :" فهذه الجماعة جماعة
تجميع تخلط السني بالمبتدع " .
فلئن كان ذلك هو المخبوء الذي قصده أنه بعد أن كان خافياً فقد استبان فإنه يكون
بذلك قد أتى عجباً ؛ إذ أن منذ قامت جماعة الإخوان وكل الناس يعلم أنها توحد بين
المسلمين ولا تفرق،وتجمع بين صفوفهم ولا تشتت (1)، وأنها ليست حكراً على اعتقاد
معين لأن هدفها لا يقوم على وحدة المعتقد ، وإن كان الفكر الذي تُرَبِّى عليه
أبناءَها هو اعتقاد
_______________
(4/14)
الإمام حسن
البنا ، حديث الثلاثاء ، سجلها وأعدها للنشر أحمد عاشور : 507
السلف الكرام كما هو معلوم ومقرر في رسائل البنا – رحمه الله – ، ولكن العمل في
سبيل خدمة الإسلام لا يقتصر على أبناء هذا الفكر وحدهم ، ومن ثم لا ينبغي تعطيل
طاقات المجتمع الخلاقة وعدم الاستفادة منها بسبب الخلاف في عدد من المسائل وإن
كانت اعتقادية ما دامت لا تخرج بالمسلم عن دينه ؛ فطبيعة تركيبة المجتمع الإخواني
تشابه طبيعة تركيب المجتمعات العامة ؛ فكما أنه لا ترفض دولة أبناءها ولا قبيلة
المنتسبين لها بسبب اختلافهم في مسائل فكرية أو اعتقادية أو عملية ، فكذلك جماعة
الإخوان ، لأنها كما أسلفت نموذج لمجتمع صالح يعمل لصالح المجتمع الكبير الذي
يحتويها ، ولذا فإن فضيلة " الدكتور " لما تكلم عن اتجاه الجماعة إلى
التجميع ذكر أن هذا الاتجاه التجميعي واضح كل الوضوح ، وليس كما قال" الناصب
" أنه كان خافياً ثم استبان ، فقال فضيلته :" ولا ريب أن الاتجاه
التوحيدي والتوفيقي في هذه الأصول واضح ، وأن ذلك الاتجاه هو الذي يتفق مع التكوين
العقلي والنفسي لحسن البنا، إذ أنه كان يتجه إلى البناء لا الهدم ، وعلى الجمع لا
التفريق(1)
والمقرر في أي جماعة ان عنصر تجمعها هو هدفها أساساً ووسيلتها لتحقيقه تأتي عنصراً
ثانياً ؛ فإذا اتفقت الأفراد على الهدف والوسيلة فقد قامت الجماعة ، وذلك أنه لا
يعتبر في الجماعات العامة ما هو أزيد من ذلك ، وأما الجماعات الخاصة فلها أن تزيد
في خصائصها عن ذلك حتى
_____________________
ا0د 0 القرضاوي ، نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام ص30.
(4/15)
لا تشمل أكثر
من الثلاثة أو الاثنين لأن خصوص طبيعتها ، وكثرة ما تستلزمه من شروط في أهلها يقلل
عدد أفرادها ،والمجتمع الكبير هو خالمن كل هذه الشروط فليس فيه سوى الاتفاق في
عنصر من العناصر فتنشأ القوميات والشعوب من الاشتراك في الوجود على أرضها ، مع
التطبع بطباع أهل تلك البقعة ، وهكذا سائر الجماعات الكبيرة تتخفف من شروطها حتى
تتسع فتشمل كل من يستطيع حمل أهدافها مع اقتناعه بوسائلها لتحقيقها ، وهذه الوحدة
في الهدف والوسيلة كافية لإيجاد التفاهم والترابط المطلوبين لتحقيق الهدف ، ومن ثم
كان ذلك الخلط الذي يعيبه " الناصب " ليس صحيحاً أن يعاب ، لأنه مطلوب ،
والمطلوب لا يعاب تحقيقه وإنما يمدح وأما عن دعواه انها " تركيبة غير متآلفة
" فلا أدري على أي شيء استند في تحقيقه لتلك الدعوى أهو إلى الواقع الذي كان
خفياً واستبان أم إثباتات مادية ملموسة تكشف عن عدم التآلف ؛ بل الذي ينبغي أن
يقال : إن جماعة الإخوان تعتبر من أكثر الجماعات تآلفاً وتقارباً ومعرفة بهدفها ،
بل ذلك من أبرز سماتها ، ثم إن " الناصب " بنفسه يذكر أن تلك الجماعة
التي ادعى عدم تآلفها تشترك في الأهداف والطموحات ، وهذا الاشتراك في حد ذاته كافٍ
لخلق التآلف والتناغم بين أي جماعة من الجماعات ، فكيف إن كانت تلك الجماعة دينها
الإسلام ودستورها القرآن وفيه قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا
تفرقوا } (1) ؛ فإن الجماعة التي هي بهذه الصفات لا شك أنها إذا
__________________
الآية سورة آل عمران (103) .
تلاقت على الهدف والوسيلة وتحقق لأفرادها نفس الطموح فإنها ستكون أكثر الجماعات
تآلفاً ، حتى يكاد يكون ذلك التآلف أشبه في قوته بتآلف الجماعة الأكثر خصوصية .
(4/16)
وفي هذا
المعنى الذي ذكرناه يقول فضيلة الدكتور :" ومما لا يخفى على دارس أن هناك
عقبات جمة تقف في سبيل هذه الوحدة المرغوبة ؛ فالوحدة تقتضي الاتفاق على الأهداف
وعلى ترتيبها ثم على المناهج والوسائل التي تتخذ لتحقيق الأهداف المنشودة ثم على
القيادة والثقة بإخلاصها وكفايتها وقدرتها على استخدام تلك الوسائل لتحقيق تلك
الأهداف (1) .
وهكذا بين فضيلته ما سبق أن أشرنا إليه وبين أن ذلك ليس بالأمر السهل كما هو فحوى
كلام " الناصب " الذي جعل الخلط من غير تمييز لأشياء غير متفقة سبباً في
الخلل وعدم التآلف .
وفي هذا يقول فضيلة الدكتور :" وهذا ليس من اليسير أن يتوافر إلا داخل
الجماعة الواحدة " (2)
ثم يزيد " الناصب" على ما قاله بإضافة افتراءٍ خطير على جماعة الإخوان
بقوله :" وهي جماعة لا تهتم بأمر التوحيد والعقيدة الصحيحة ولا تحفل
___________________
ا 0 د 0 القرضاوي ،نحو وحدة فكرية ص34.
ا 0 د 0 القرضاوي ،نحو وحدة للعاملين للإسلام ص34.
أ0د0 القرضاوي الأخوان المسمون بمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيسها ص318.
بنشرها بين المسلمين خوفاً على ( تجمعها ) أن ينفض ، وهلعاً من أهل البدع أن يمسهم
سوء ".
وهذا كلام مغرق في الباطل ؛ فكيف أن جماعة الإخوان لا تهتم بأمر التوحيد والعقيدة
الصحيحة ، وإن إمامها " حسن البنا " قد أوضح في غير مناسبة أسس ومبادئ
الاعتقاد الصحيح الواجب في دين الإسلام ولهذا أنكر الابتداع في الدين ، وأنكر
ادعاءات الكشف والإلهام واعتبارهما مع الرؤى مصدراً للأحكام والسلوك وأنكر
الخرافات التي ينتحلها المنتحلون ، والشركيات المتعلقة بالتمائم والرقى ، وأمور
الكهانة والغلو في الأولياء واعتبار الكرامات ، وهذا كله مشهود له به؛ فكيف بعدئذ
يقال لا يهتم بأمر التوحيد والعقيدة الصحيحة ؛ فإن كان ما ذكرناه لا يعد منه
اهتماماً بأمر العقيدة الصحيحة ؛ فما هو اهتمام المهتمين بها الذي يزيد عن ذلك .
(4/17)
ولكن ما عابه
عليه بعض المتحمسين على حد تعبير فضيلة الدكتور "القرضاوي " – حفظه الله
– من أنه لم يفصل في بعض الأمور وتركها لكل فريق يرى فيها برأيه حسبما يلوح له من
الأدلة كما في "التوسل " بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالصالحين ،
فإنما كان ذلك منه بعد بيانه للأصل الذي لا اختلاف فيه ؛ إذ أنه كان يؤكد ضرورة أن
يكون المدعو والمتوسل إليه هو الله تبارك وتعالى ، ويذكر بعد ذلك أن قضية التوسل
كيفية الدعاء فتخرج حينئذ من المسائل الأصولية إلى الفروعية،وهذه يتسع فيها الخلاف
لأن يشمل الجميع ، وليس في ذلك ما قاله " الناصب " من الهلع أن يمس أهل
البدع بسوء ؛ إذ أن المسائل الخلافية لا يبدع فيها المخالف ما دام خلافه له وجه ،
وقد ذكرنا ما كان من "حسن البنا "من إنكار للبدع والانحلالات واد على
أهلها، إذ أنه لا محاباة فيما يلزم اعتقاده (1) وسكوت الشيخ " حسن البنا
" في عدد من المسائل الخلافية رغبةً في نزع فتيل الشقاق بين أبناء الهدف
الواحد والدين الواحد ، وليس في ذلك أيضا أي خفاءٍ على أحد منذ عرفت دعوة الإخوان
إلى يومنا هذا .
ولقد كان فضيلة " الدكتور " حفظه الله في محاضراته وخطبه ومواعظه،
وكتاباته ، ومؤلفاته من المهتمين بنشر العقيدة الصحيحة وبيان أهدافهاواشتملت
العديد من كل ما ذكرناه على ذلك كما في مدخل لمعرفة الإسلام "، وكما في خطبه
المطبوعة ، حيث تكلم عن " التوحيد " كصفة عباد الرحمن وأفاض البيان في
توحيد الألوهية والربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وحذر من الوقوع في الشرك ، وأو
كار الخرفات ، وأبان عن معنى الوثنية الشاملة لمظاهر شتى من ألوان الحياة بما يصحح
معه عقيدة المسلم على نحو يرضى كل غيور على عقيدة الإسلام ؛ فكيف بعد هذا كله يمكن
أن يقال عن جماعة "الإخوان" لا تهتم بنشر العقيدة الصحيحة (2) ، فذلك من
أبين الباطل وأعظم الافتراء ، نسأل الله أن ينجينا من ان نقول زوراً أو أن نغشى
فجوراً .
(4/18)
_________________________
د 0 القرضاوي ، نحو وحدة فكرية للعاملين في الإسلام ( 30،31) .
د 0القرضاوي ، مدخل لمعرفة الإسلام ص272، د 0 القرضاوي خطب الشيخ القرضاوي ص71-88
ثم ينتقل " الناصب " إلى تهمة جديدة لجماعة الإخوان وذلك بقوله :
"وهي جماعة هدفها الوصول إلى الحكم في ديار المسلمين وليتها إن وصلت حكمت
بالإسلام الصحيح الذي أمر الله بتحكيمه ، ولكن للأسف الأمر خلاف ذلك "
وهنا لا ندري ما سر توجيه هذه التهمة للإخوان في معرض حديث " الناصب "
عن إخوانية " القرضاوي " – حفظه الله – ؟ هل هو ليبين أن الرجل هو الآخر
لا يهمه في فتاواه وأحكامه إصابة الإسلام الصحيح على حد قوله ؟ أو أنه ساكت على
جماعته التي لا تهتم بتطبيق الإسلام الصحيح ؟ أم كذا ، وكذا ، وكذا ؟ ؛ فكلامه
يتسع لاحتمالات كثيرة لم يصرح بها ولعله يوهم بجميعها معاً !!.
(4/19)
ونبدأ فنقول
في جوابنا عن هذه التهمة فنقول : إن جماعة الإخوان المسلمين حين تشكلت كان لها
بعدان : إحداهما سياسي ، وهو متمتثل في ما كان يعرف بحزب " الإخوان المسلمون
" وهي بهذا البعد يحق لها كأي حزب سياسي على الساحة السياسية السعي للوصول
بمبادئه وأفكاره من حيز العرض والمشاركة إلى حيز التطبيق والتنفيذ ، كأى حزب سياسي
يعرض أفكاره على الساحة السياسية ويحاول كسب ثقة الجمهور عن طريق ما يقوم بعرضه
والدعوة إليه من أفكار ومبادئ ، ثم يسعى بعد ذلك في أن يخول له الجمهور الواثق
بمبادئه الحق في تطبيق ما يراه صحيحاً ، فيكون ذلك التزاماً أدبياً جاداً من الحزب
تجاه أنصاره ومؤيديه عند وصوله إلى سدة الحكم أن يقوم بتطبيق تلك الأفكار وتنفيذها
ليرى المجتمع مدى جدواها ونفعها ، وهنا إما أن يكون الحزب عند وعوده فيطبق أفكاره
ويحصل لها إما النجاح المطلوب أو الموعود ؛ فيستحق بذلك المزيد من التأييد
والاتساع في قاعدته وشعبيته، وإما أن يحصل لهذه الأفكار عند التطبيق نوع من
المباينة بين النتيجة الواقعة ، والنتيجة التي كانت متوقعة وعند ذلك إما أن يعترف
الحزب حينذاك بفشله وينسحب تاركاً الميدان لغيره ، وإما أن يسعى في تغيير وسائله
لتحقيق أهدافه ، وإما أن يعدل أهدافه بالفعل فيتراجع عن بعضها أو يؤجلها لكونها أهدافاً
متقدمة لا يمكن إنجاحها قبل أن يسبقها العديد من المراحل التي لا يمكن اختصارها
بالبيان الفعلي الواقعي ، وفي هذه الأحوال إما أن يحتفظ بثقة ناخبيه على ما هي
عليه فيستكمل طريقه بعد تعديلٍ في وسائله أو أهدافه ، أو تأجيل تلك الأهداف لمراحل
متقدمة على ما بيناه ، وإما أن لا يحظى بثقة ناخبيه ، وهنا يجبر على الانسحاب
وتوديع ميدان الريادة والقيادة وتركه لغيره .
(4/20)
فهذه هي الأسس
التي تحكم هذا الميدان ، ولا يقال : هذه الأحزاب المتنافسة طامعة في الحكم (1) ؛
لأن الذي يصل بها إلى الحكم إنما هو صلاحها له لا رغبتها فيه ، والذي ترى الناس
صلاحه توليه الإدارة ،
________________
الإخوان المسلمون ، دعاة حق لا طلاب حكم لمحمد سلامة جبر ص23
وهذا هو المفترض في المسألة سياسياً ، ومن ثم لم يكن صحيحاً ولا مناسباً توجيه
الاتهام إلى جماعة الإخوان بأن هدفها هو الوصول إلى الحكم؛ لأنها لو كانت تسعى
لهذا الهدف لكان لها شأن آخر يخلعها عن ثوبها الذي توشحته والتزمته ، ولكنها لم
تفعل وفضلت دائماً الالتزام المبدئي على جميع التنازلات ، وهو أمر يحسب لهذه
الجماعة عند من يتحلى بالإنصاف أو يتصف به .
وأما البعد الثاني : فهو يهدف إلى دعم المجتمع إسلامياً وذلك بإبراز المعاني
الإسلامية السامية من التكافل والتعاون ، والنهوض بحاجات المجتمع اقتصادياً ،
وثقافياً ، وتربوياً ، وصحياً على نحو مميز لمجتمع إسلامي ، ومن ثم فقد أقامت
جماعة الإخوان العديد من الجمعيات التعليمية ، والثقافية ، والدعوية ، وشيدت المستشفيات
الخيرية ، وأقامت العديد من المشاريع الاقتصادية التي تلبي متطلبات المجتمع ،
وكانت أول من بارك وشارك في إقامة البنوك الإسلامية وساهمت فيها مساهمة خلاقة
مادياً وإرشادياً ، وهذا كله مما لا ينكره حتى الجاحد ؛ لأنه لا مجال فيه للإنكار
وهى بهذين البعدين تختلف عن أي حزب سياسي قائم على الساحة ، ولذا كان لها من القوة
الجماهيرية ما لا يمكن تجاهله (1).
ونرجوا بهذا البيان المقتضب أن نكون قد أزلنا اللبس عن ما قاله " الناصب
" حول تلك الجماعة ، ورفعنا عنها عار التهمة الباطلة التي ألقيت
_____________________
(1) ... الشهيدان البنا وسيد قطب ، لصلاح شادي ص30 .
على منكبها ظلماً وزوراً .
ثم يقول : " الناصب " : " وليتها إن وصلت حكمت بالإسلام الصحيح
الذي أمر الله بتحكيمه "
(4/21)
وهنا مفارقة
من " الناصب " ؛ إذ أن المفترض أن يكون قوله حكمت بما دعت إليه وتمسكت
به ، وذلك لأنه لا يراها أصلاً تلتزم بالإسلام الصحيح الذي يتفق مع تصوره وفهمه .
فالأصل إذن أنها إذا وصلت حكمت وفق مبادئها التي التزمت بها أمام الناخبين وهي
المستوحاة من فهمها للشريعة وتصورها لكيفية إعمالها ، وليس عليها من بأس إن خالف
تصورها هذا تصور غيرها ؛ لأنها لم ترفع شعار غيرها ولا مبادئه وإنما رفعت شعار
نفسها ومبادئها هي ؛ فلا تحاكم بالنسبة لتصور الآخرين ومن هنا فإذا تخلت الجماعة
عن بعض أهدافها المعلنة فإننا قد ذكرنا الخيارات التي تكون أمامها سابقاً فبوسعها
سلوك الخيار الذي تراه مناسباً ، وليس عليها في ذلك من بأس.
(4/22)
ثم يبين
" الناصب " فضيلة العلمانيين على أصحاب المشروع الإسلامي قائلاً :"
فأولئك صرحوا بنواياهم ، وحاربوا السني والمبتدع على حد سواء، وتركوا مالله لله ،
وهؤلاء إن وصلوا عظموا أهل البدع وسلطوهم على أهل السنة ، ولبسوا على الناس دينهم
" وهذا القول منه عظيم في الافتراء والسخافة والبعد عن الواقع ؛ إذ أن العكس
هو الصحيح فالعلمانيون هم الذين يحاربون السنة وينصرون البدعة إضعافاً للوازع
الديني ، وهو أمر مشاهد ومعروف أن تتنامى البدع وتترعرع في أحضان أولئك العلمانيين
، وليس العكس ، ثم من قال : إن العلمانيين صرحوا بهذه النوايا ؟، فالبلاد
الإسلامية التي تتبع الأنظمة العلمانية لا تصرح أبداً بمثل تلك المقالات ، ثم هم
لا يتركون كما تقول مالله لله ؛ إذ لو كان ذلك منهم لنعم الناس بدين الله ، ولكنهم
يتدخلون فيما لله ، فيمنعون الحجاب ، وقد يمنعون الأذان في خارج المسجد ، وغير ذلك
مما هو لله فيتدخلون فيه متحكمين حتى في قوانين الأحوال الشخصية يغيرونها ويعبثون
بها فهل هذا كله عند " الناصب " من توديع مالله لله ؟! بينما يجعل في
المقابل أن أصحاب المشروع الإسلامي يقدمون أهل البدع ويعظمونهم على حساب أهل السنة
، فلئن كان يقصد ما يعدهم هو من أهل البدعة فإن ذلك لا يلزمهم أن يعدوهم كذلك.
وأما عن تلبيسهم على الناس دينهم ؛ فهذا كله من خيال " الناصب " إذ أن
منهج الإخوان معروف ، فما هو فيه من تلبيس الديانة على الناس ؟ وإذا كان ذلك
المنهج أو المشروع هو مشروعهم فهم يطبقون ما يعتقدونه ويؤمنون به والناس في خيار
القبول لذلك المشروع منهم أو الرفض ؛ فما هو ، وأين هو التلبيس إذن ؟
وتبلغ به الدرجة في الافتراء إلى حد أن يقول : " فأصبح المرء يقدم على معصية
الله مهما عظمت دون خوفٍ أو وجل لأنها قد أبيحت شرعاً تحت دعاوى التجديد والاجتهاد
"
(4/23)
وهذا هو منتهى
الهراء ؛ فما هي دعاوى التجديد والاجتهاد التي تبيح فعل الحرمات والمعاصي – مهما
عظمت – على حد قول " الناصب " أم أن جهله بالخلاف في المسائل الفقهية
سوَّل له أن يكون الاجتهاد عند بعض أصحاب المشروع الإسلامي يعد خروجاً عن النصوص
الفقهية وبعداً عن منهج الشريعة ؟ ، وما أراه دفعه إلى هذا سوى سوء ظنه المدعوم
بجهله بمسائل الخلاف فأوقعه ذلك الجهل وسوء الظن في هذه الفرية العجيبة .
وأما الانتماء العلمي لفضيلة الدكتور " القرضاوي " – حفظه الله – فقد
نال حظه هو الآخر من التجريح والتنقص والإساءة فبعد أن فرغ من تنقصه بسبب انتمائه
الفكري إلى جماعة الإخوان ، فقد انتقل إلى تنقصه بسبب تلقيه العلم في الأزهر
الشريف ، وهذه إساءة بالغة إلى الأزهر أيضاً مع ما قدمه من إشعاع علمي شمل المنطقة
بأسرها .
(4/24)
فيقول "
الناصب " في هذا الصدد : " فإنه قد تلقى دروسه الأولى على علماء
الأشاعرة في الأزهر ؛ فلذلك تأثرت عقيدته بهم " ، وهذه محاولة من "
الناصب " للإساءة إلى اعتقاد فضيلة الدكتور " القرضاوي " واتهامه
بما يجرحه عند عامة التيار الإسلامي المعاصر الذين يحبون نصرة منهج السلف ، وسوف
نبين لاحقاً في الفصل التالي الذي تناول فيه " الناصب " عقيدة "
القرضاوي " بالبيان والحقائق التزام فضيلته لاعتقاد السلف الكرام رضي الله
عنهم وما نود أن نقوله هنا إن الدراسة العلمية والبحث العلمي أمر يختلف عن
الاعتقاد ، فلا يشترط إذا درس الإنسان كتاباً من كتب العلم أن يقول بجميع ما فيه
أو يعتقد بجميع ما فيه ؛ ولو كان ذلك كذلك لأدى ولا شك إلى التناقض البين ؛ إذ أنه
ما من كتابين يقرران نفس الأحكام أو القواعد في الأصول والفروع ؛ فإذا كان يلزم أن
يكون الإنسان قد درس في كتاب اعتقاد جميع ما فيه للزمه على ذلك اعتقادات متناقضة
كثيرة ، وهذا وحده يبين بطلان ما قاله " الناصب " ، ولذلك فإن أهل العلم
يطالعون ما كتبه مخالفوهم ليتعرفوا على حججهم فإما أن يوافقوها ويجدوا فيها مقنعاً
أو يخالفوها ويقوموا بتفنيدها ، ولهذا فقد درس شيخ الإسلام "ابن تيمية "
ما كتبه أهل المقالات ورد عليهم رد من وعى مقالتهم وتبين وجهها وعرف علتها وجوابها
، وهو أمر هام لمن يُهيء له أن يكون عالماً يتصدر للإفتاء والتدريس والحوار
والإقناع ومن هنا كان التنوع في دراسة "الأزهر" لمختلف الكتب العلمية
والاتجاهات العقائدية لإثراء الطلاب بمعرفة الخلاف ، وطرق وأساليب الاحتجاج لتنهض
لديهم القدرة على الفكر والمحاورة بدلاً من التحجر والجمود .
(4/25)
ولذا فقد
تنوعت الدراسة في "الأزهر" لتشمل كبرى الفرق الإسلامية وخاصة المعتدلة
منهم والقريبة إلى طريقة السلف وهما الأشاعرة ، والماتريدية ، واختصت بالذات تلك
الفرقتين بالإضافة لكونهما الأقرب إلى طريقة السلف ومنهج أهل السنة حتى عُدَّا من
طوائف أهل السنة والجماعة ، وأيضاً لما لمنهجيهما من تأصيل فكري واسع يعين الطالب
على الاتساع في الدراسة المتكاملة ، بينما أتت في ذلك كتب العقائد عند أهل الحديث
غير متكاملة المباحث ، وما تكاملت مباحثه منها لم يُتوسع في دائرة البحث فيه .
وليس في الأزهر الشريف إلزام باتباع مذهب عقائدي معين ، وجرى الشأن اتباع المالكية
في غالبهم و " الشافعية " لطريقة " الأشاعرة " واتباع "
الحنفية " لطريقة " الماتريدية " واتباع الحنابلة لطريقة أهل
الحديث وهي المذاهب التي تدرس بالأزهر الشريف ، وكما ذكرنا لا حجر في " الأزهر"
على اعتقاد أحدٍ ما دام اعتقاده مما هو عارٍ عن الخروج عن ما يلزمه اعتقاده في دين
الله تعالى .
وبهذا يبطل ما ادعاه " الناصب " من لزوم تأثر فضيلته بأقوال كلا
الفريقين خروجاً عن طريقة أهل الحديث من أتباع الإمام " أحمد " ، والتي
هي ملتزم الكثيرين من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة
ولكن العجيب فيما ساقه " الناصب " أنه لا يفرق بين كتب
"الأشاعرة" وأئمتها ، وبين كتب "الماتريدية" وأئمتها، وهو مع
هذا الخلط السيئ القبيح الذي يفصح عن جهل عظيم يصف فضيلة الدكتور بالخلط بين طريقة
السلف ومنهج الأشاعرة !! ؛ فأي الفريقين هو المخلط الثابت التخليط " الناصب
" أو فضيلة " الدكتور " ؟
(4/26)
فيقول محتجاً
على أن فضيلته تلقى العلم على الأشاعرة أنه درس في العقائد النسفية وشرحها للسعد
التفتازاني ، وحاشية عليه للخيالي ، و"السيالكوتي" ، وهي إنما كتب
العقائد "الماتريدية" وليست "الأشعرية"، وهذه من الحقائق
الثابتة المعروفة التي لا يجهلها من له أدنى اطلاع على كتب عقائد المسلمين ؛
فالعقائد "النسفية" هي من تأليف مفتى الثقلين نجم الدين أبي حفص عمر بن
محمد النسفي ، وهو إمام من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان ، وهو صاحب
العقائد النسفية لما له من باع عظيم في علم الكلام حتى صار كتابه العقائد
النسفية (1) هو أهم كتب العقيدة الماتريدية ، ويعد كتابه اختصاراً لكتاب "
تبصرة الأدلة " لأبي المعين النسفي . (2)
هذا وكما ذكرنا فقد تعددت الشروح على المختصر المسمى بالعقائد النسفية ، ومن أهم
تلك الشروح عليها شرح التفتازاني وعليه الحواشي المشهورة السابق ذكرها ، فهذا كما
عرفنا إنما هو كتب العقائد الماتريدية، وليست كتب الأشاعرة كما زعم وكل هؤلاء
الذين ذكرهم من أصحاب الشروح والحواشي هم من أهم الشخصيات الماتريدية .
بينما جناب" الناصب " قد حولهم بجرة قلم إلى حظيرة الأشاعرة حيث قال :
" قلت : هذه الكتب التي ذكرها كلها كتب للأشعرية ، وهو قد درسها منذ
الابتدائية " .
___________________________
الجواهر المضية (2/657) ، تاج التراجم (47) ، والماتريدية وموقفهم من توحيد
الأسماء والصفات للشمس السلفي رحمه الله (1/312) .
الماتريدية دراسة وتقديماً للحربي 122 ومقدمة د 0 فتح الله خليف على التوحيد
للماتريدى : 5 .
وقد طبع تبصره الأدلة في جزءين بتحقيق سلامة كلود .
والحقيقة أن التي درسها في الابتدائية وما تلاها من شروح الجوهرة فقط هي التي كانت
على طريقة الأشاعرة وليس كل هذه الكتب لما ذكرنا أن باقي ما ذكر فضيلة
"الدكتور" كان على طريقة الماتريدية .
(4/27)
وهذا يؤكد أن
الذي يخلط بين عقائد السلف والمتكلمين من الأشاعرة و الماتريدية ليس فضيلة "
الدكتور " العالم الرصين ، وإنما هذا " الناصب " الذي لا يفرق بين
" الماتريدية " و " الأشاعرة " .
ولعل هذا التنوع في دراسة " الأزهر " الشريف هو الذي يؤكد ما ذكرناه من
كون هذه الدراسة تشمل أكبر المذاهب العقائدية تحريراً واتباعاً ، للتعرف على فكر
كبريات المدارس العقائدية الإسلامية مما يشكل إثراءً للطالب مفيداً له في مطالعة
مختلف أنواع الحجج ليستبين من خلال ذلك ما يكون الأقرب منها لموافقة الحق ،
ولتتحرر عنده القدرة على المحاورة.
وأما منهجية فضيلة الدكتور "القرضاوي" والمتمثلة في التزامه "
الوسطية " في حياته الفكرية والعلمية والدعوية فهي أيضاً لم تنج من تأنيب
واتهام "الناصب " لفضيلته وتنقصه بسببها ، وهو كعادته يهاجم "
الدكتور " في كل شيء ، وذلك لامتلائه حقداً على ما حباه الله به من مكانة ،
وقد يكون هذا الحقد لا مصلحة له ظاهرة فيه وإنما عن طبيعة تكره ما تراه ناجحاً إن
كان مخالفاً ؛ فتفرض على صاحبها محاربته كراهية لخير الآخرين المخالفين دون تعقل
فيما يُهاجم المخالف ، ولا لماذا يَخالفه .
فالوسطية التي هي محل رضا عامة الخلق في كل شيء صارت غصة في حلق " الناصب
" فصار يتخبط وهو يحارب دعوة فضيلته إلى الوسطية، ويحشد كل مقولة يمكن أن
يقدمها لهدم وتشويه صورة الوسطية المحمودة عند الناس .
(4/28)
فالوسطية التي
يلخصها فضيلة الدكتور مبيناً أنها مستمدة من وسطية الإسلام ووسطية أمته ، وأنها
وسطية متوازنة بين العقل والوحى ، وبين العلم والإيمان ، وبين المادة والروح ،
وبين الحقوق والواجبات ، وبين الفردية والجماعية ،وبين الإلهام والالتزام ، وبين
النص والاجتهاد ، وبين المثال والواقع ، وبين استلهام الماضي والتطلع إلى المستقبل
، فكل هذا الاتزان الفكري لم يعبأ به "الناصب " ؛ فلم يكن له أي نصيب في
ميزانه، و راح يذكر عن فضيلة " الدكتور " أسباب تبنيه لمفاهيم تيار
الوسطية ؛ فلخصها في أربعة أسباب ، هي باختصار
1-أنه التيار الذي يمثل القاعدة العريضة في مجتمع الصحوة الإسلامية ، ولا يتحقق
هذا الاتساع لغيره .
أنه التيار الضارب بجذوره في عمق التاريخ ، ولا يتحقق هذا العمق لغيره من
الاتجاهات .
أنه التيار الذي يرجى له الاستمرار ودوام النهوض بالمسئوليات دون غيره لأن المنبت
لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ، ولذا تنقطع سائر الاتجاهات بعد فترات طالت أو قصرت
.
أنه التيار الصحيح المتفق مع ما رسمه القرآن ، ولا يتحقق هذا لغيره من الاتجاهات
التي تتعارض مع هذا المنهج .
وبعد أن نقل " الناصب " ما ذكرناه قال :
" قلت : قد أفادنا " الدكتور " في النقول السابقة أنه من أفراد
التيار الوسطي ، ولكنه لم يوضح لنا معالم دقيقة لهذا التيار ؛ لأن الكل قد
يركبه"
وهذا اتهام منه لفضيلة " الدكتور " بالتقصير في شرح هويته ، وقد يبدو
ذلك في غمار بحور اتهاماته شيئاً يسيراً ،ولكن لن نهمل الجواب عنه ، وذلك لأن كل
تهمة عارية يجب دفعها عمن ألصقت به ظلماً استجابة لقوله - صلى الله عليه وسلم - :
" انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً "
(4/29)
وجوابنا عن
هذه التهمة يتمثل في ما شرحه فضيلة " الدكتور " عن الوسطية المتوازنة
إجمالاً في بعض كتبه ، وتفصيلاً في البعض الآخر ؛فأما الإجمالي فهو ما قدمناه عنه
، وأما التفصيلي ، فذلك من خلال كتاباته العديدة التي تناولت بالشرح والتحليل بيان
منهج الوسطية ، ففي العقائد كتب فضيلته " ظاهرة الغلو في التكفير ؛ والصحوة
الإسلامية بين الجحود والتطرف "؛وفي الفتوى كانت كتاباته "الفتوى بين
الانضباط والتسبب "، و " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط
" ، وفي المثالية والواقعية جاءت كتاباته في " الصحوة الإسلامية بين
الاختلاف المشروع والتفرق المذموم " ، و " العبادة في الإسلام " ،
وفي الوسطية بين المادة والروح كتب فضيلته " الإيمان والحياة " ، وفي
الوسطية بين استلهام الماضي والتطلع إلى المستقبل كانت كتابات فضيلته " رسالة
الأزهر بين الأمس واليوم والغد " وفي الوسطية بين العقل والوحي كانت كتابات
فضيلته "الرسول والعلم " ، و " العقل والعلم في القرآن الكريم
" ، وفي الوسطية بين النص والاجتهاد كتب فضيلته " الفقه الإسلامي بين
الأصالة والتجديد"، وهذا بالإضافة لغيره من الكتب التي صنفها في الاجتهاد
لبيان معانيه وعدم تصادمه مع النصوص التي ذكرناها كمثال على ذلك.
وفي الوسطية بين الإلهام والالتزام كتب فضيلته " موقف الإسلام من الإلهام
والكشف والرؤى " وغير ذلك من المؤلفات الزاخرة بتحديد هوية الوسطية المنشودة
مما يعقله كل من له عقل يستعمله على الجهة التي خلقه الله لها ، وسلم من الآفات
والأغراض ، فإنه سيصل حتماً إلى إدراك مراد فضيلة " الدكتور " من
الوسطية التي سلكها ، ودعا الناس لالتزامها من غير تفريط ولا إفراط .
(4/30)
ولكن كيف حدد
" الناصب " الوسطية التي دعا إليها فضيلة " الدكتور القرضاوي
" ، إنه بالطبع يحدد شيئاً آخر لا علاقة له بفضيلة "الدكتور"
غالباً ، وما له علاقة فهو ما أساء فهمه وعرضه ، فإليك أيها القارئ العزيز فهم
" الناصب " وتحديده لوسطية العلامة " القرضاوي " حيث قال
:" ومن خلال قراءتي لكتب الدكتور أستطيع أن أحدد شيئاً من معالم هذا التيار
" ، وهو في ذلك قد نسى أنه ادعي أن فضيلة الدكتور لم يوضح لهذا التيار معالم
دقيقة ؛ فكيف يبحث عن معالمه إذن ؟ ؛ فإن كان حكمه الأول قبل دراسته لكتابات
فضيلته فكيف يحكم قبل حصول مثل تلك الدراسة ؟ ، وإن كان حكم بعد تلك الدراسة فكيف
يحدد شيئاً قد حكم بعدم اتضاح حدوده ومعالمه ؟ ، فلا أقل من أن نقول : هذا هو
التخبط حقاً !!، وهذه هي النتيجة المباشرة لأقوال إنسان لا يزن كلامه هو ، وينشغل
بوزن أعمال الفضلاء بميزان ليس له، ولا هو له أهل ، وفي غمرة الغفلة يدعى أنه حدد
معالم تيار الوسطية ، وقد ذكرت لك أيها القارئ العزيز من كتابات فضيلة الدكتور ما
هو مقصده من " الوسطية " هذه التي جن لها جنون " الناصب " ،
والذي حكم على تيار " الوسطية " برأيه هو ، وحدد لها معالمها مدعياً أنه
اكتشفها من خلال قراءته لكتب فضيلة " الدكتور "، تلك القراءة التي أنا
على ثقة من أنها لم تغن عنه شيئاً، ويدعى أنه وجد أن هذه المعالم تتمثل في خمسة
أشياء ، فنحن سنذكرها لك أيها القارئ العزيز ثم نرد لك على كل واحدة منها بما يبين
لك وجه الحقيقة التي نسئل الله أن يهدينا جميعاً إليها .
(4/31)
أحد هذه
المعالم الخمسة هو التيسير على حساب النصوص ، وهو معنى قول " الناصب " :
" إن هذا التيار يتميز بالتيسير في مجال الفقهيات ، ولو كان هذا التيسير على
حساب النصوص ، وفي اختيارات الدكتور الفقهية ما يشهد بهذا"، ما قاله يمكن
التعبير عنه بالحقيقة التي يريد أن يقولها على حسب اعتقاده أن هذه الوسطية في نظر
"الناصب" لا تقيم للنصوص وزناً وإلا فما معنى قوله : " ولو كان هذا
التيسير على حساب النصوص " .
وجوابنا عن هذا أنه ما من قول يذكره فضيلة الدكتور إلا وقد قال بمثله بعض العلماء
الأفاضل في عصور كثيرة والملاحظ في تيسير فضيلته أنه يعتمد على ضوابط موضوعية أشار
إليها في كتبه حتى يكون التيسير ممدوحاً لا مذموماً فليس التيسير الذي يدعو إليه
فضيلته هو الأخذ بأيسر الأقوال مطلقاً ، ولو كان قوله كذلك لحق لذلك " الناصب
" أن يرفع دعواه القائلة بالتيسير على حساب النصوص ، ولكن التيسير الذي رسخ
قواعده فضيلة "الدكتور" هو ذلك التيسير الذي يأتي متطابقاً مع قواعد
الشرع فيكون الأخذ به أليق إن اختلفت دلالات النصوص عليه؛ فيكون ذلك الذي يتوافق
مع القواعد الشرعية أكثر من غيره هو الأقرب إلى الصواب فما اختلف فيه من النصوص
المختلفة الدلالة ، وكانت قواعد الشرع فيه تدعو إلى أن الأصل الإباحة فإنه يكون
إلى حكم المباح أقرب، فإن كانت تدعو إلى الحظر فإنه يكون إلى الحظر اقرب .
وكذلك ما عمت به البلوى فإنه يُحكم فيه بالحكم الأخف مراعاة لعموم البلوى ، وكذلك
من كان في ابتلاءً بسبب يختص به كان مراعاة حاله في الفتوى وعدم التشديد عليه
باختيار القول الذي يليق بمثل حاله هو أعدل الأقوال في حقه (1) ، وليس ذلك في حق
العامة ، ولهذا فإن " الشيخ "
___________________________________________
(4/32)
ولهذا عندما
وقع النساء في الحج في حرج من الطواف قال شيخ الإسلام ابن تيمية : كثر السؤال منهن
هل من مخرج عن هذا الحرج ؟ وهل مع الشدة من فرج فسألت الله التوفيق والإرشاد إلى
ما فيه التيسير على العباد من مذاهب العلماء الذين جعل اختلافهم رحمة للأمة فظهر
لي أنه يجوز تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة وأن يقلد واحداً منهم في مسألة وآخر
في أخرى ا 0 هـ نقله العلامة عبد الغني بن ياسين اللبدي في كتابه دليل الناسك
لأداء المناسك ص 55 .
يفرق فى مثل هذه الأحوال – حفظه الله – بين المبتلى بالأمر وغيره ؛ فيخفف على ذلك
المبتلى دون غيره ، وكذلك حينما تكون البلوى بالأمر عامة ، والنصوص الموقعة في
الحرج غير صريحة ؛ فإن فضيلة " الدكتور " يميل في مثل هذه الحالة إلى
اختيار القول الذي به يرفع الحرج مع ذكر ضوابط تمنع من استعماله على الجهة التي
توقع في حرج آخر ، وقد يكون أحد نصين مختلفين أحدهما أصح من حيث السند ، والآخر
أنفع من حيث العمل أو أكثر اتفاقاً مع غيره من دلائل الشرع فيقدمه فضيلته على غيره
مما هو أصح منه إذا قورن به من حيث السند فقط ، وقد يكون العمل بالأصح والأقوى
يؤدي إلى هجره وتركه ، وإذا دعى إلى مقابله كان العمل به مستحسناً؛ فيكون العمل
بما ورد به الشرع أولى من ترك الشرع وهكذا ؛ فإن كل ما ورد من تيسير في مجال
الفقهيات ليس على حساب النصوص لأنه موافق لنصوص غيرها ، ولقواعد شرعية مطردة
وأقيسة منضبطة ،وآراء لها اعتباراتها ، مع مراعاة أن النصوص التي يستعملها
"الناصب " هي مجرد أدلة وعلاوة على ذلك فهي ليست سالمة من المعارضة.
(4/33)
وحينما يأتي
دور الحديث عن فتيا فضيلة الدكتور " القرضاوي " سنبين حينها كل ما يستند
إليه ، وحينها سيظهر للعيان بوضوح وجلاء أن تيار الوسطية لا يعمل على مصادمة
النصوص وإنما على التوفيق بينها ، وعلى مراعاة المصلحة الشرعية دائماً ، وأما النص
؛أي :القطعي الدلالة والذي هو ثابت كذلك فهذا لا يحل القول بخلافه ، وليس ذلك مما
يخالفه "الدكتور " .
وأما ثاني المعالم الخمسة لتيار الوسطية التي اكتشفها" الناصب " فهي
التي قال عنها " الناصب " :" إن هذا التيار يتبنى فكر ( الإسلام
العام ) "أي الذي لا ينتمي إلى مذهب من المذاهب الإسلامية ، ولو كان منهج
السلف الصالح أو مذهب أهل السنة والجماعة ! ، فهو تيار يستوعب كافة المذاهب
البدعية المنشقة عن مذهب أهل السنة ويحتويها في خليط واحد تحت مسمى ( التجميع )
لمواجهة أعداء الله "
وهنا يحدثنا " الناصب " عن الإسلام كأنه " نادٍ اجتماعي " أو
شيء أخر يماثل ذلك حين يظن أن له الحق في أن يجعل من الإسلام حكراً على فكر معين ،
حتى ولو كان ذلك الفكر هو المنتسب إلى منهج السلف الصالح ، وما عدا ذلك لا حظ لهم
في الإسلام دعوةً ، أو عملاً، أو انتماءً ، وما هذه البدعة الجديدة التي يدعو
إليها " الناصب " ؟ بدعة الإسلام الخاص ، وهو لا يفرق بين أن يكون
للإنسان معتقد يظهره ويعتز به ويدعو إليه ، وبين أن يلتقي مع من يخالفه مما يسمح
الشرع فيه بالخلاف ؛ فنعمل سوياً على رفع شعار الإسلام على عمل من الأعمال ، فكما
لا نستطيع فرض فكر على مجتمع ؛ فكذا لا ينبغي لنا تخصيص دعوة الإسلام العامة
وقصرها على الموافقين لنا فقط في بعض العناصر أو المظاهر ، ونحن في حاجة إلى جهد
كل مسلم ليقدم عونه ومساهمته لدين الله تعالى ليتمكن من رد أعدائه خاسئين ولذا
ينبغي التفريق دائماً بين وحدة الفكر وجماعية العمل .
(4/34)
فهكذا قد
نختلف مع غيرنا ممن لا يرى رأينا ،ويكون ما يراه لا يخرجه عن حظيرة الإسلام ، فذلك
لا ينبغي أن يكون بيننا وبينه العداوة والقطيعة ، وإنما التناصح والتراحم ، ولا
يلزم من حصول ذلك إحداث تنازل من جهتنا عما نعتقده قرباناً لتلك الصلة ؛ فذلك ليس
مقصود أحد يدعى الوسطية حقاً فضلاً عن أن يكون مقصود فضيلة " الدكتور "
حفظه الله .
وإذا كان ذلك كذلك فما هو عيب ( تجميع ) الناس الذين هم على ملة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في صف واحد ، ليواجهوا أعداءهم جميعاً الذين هم أعداء الإسلام ؟
وهل المطلوب في مثل تلك الأحوال الاقتصار على أبناء النادي الخاص بأصدقاء "
الناصب " ؟ !
وأما ثالث المعالم الخمسة المذكورة ؛ فهي عقلانية تيار الوسطية الذي يتزعمه فضيلة
" الدكتور " ، وفي هذا يقول " الناصب " عبارة غاية في العجب ،
وهي قوله :" إن هذا التيار يعمل عقله كثيراً في " النصوص الشرعية "
فيرد بعضها ويتأول بعضها ، تحت دعوى العقلانية " !!
فما هو العيب أيضاً في أن يعمل المرء عقله كثيراً ؟بل إن ذلك هو المطلوب من كل
مكلف أن يكون ناظراً بعقله متعظاً بالآيات التي بثها الله
تبارك وتعالى للاعتبار ، كما في قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } (1)
وقوله تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ،وقوله تعال: { فاعتبروا يا أولى
الأبصار } ،وغير ذلك من الآيات الداعية إلى النظر والتأمل والتفكر في آيات الله ،
ولكن "الناصب "يخشى على" الوسطية ".
من استعمال عقولهم كثيراً في النصوص الشرعية فيردوا بعضها ويتأولوا بعضها ، ولا
أدرى لماذا لم يقل أيضاً ويقبلوا بعضها وكأن القبول لا يحتاج إلى إعمال عقل ،وإنما
الرد والتأويل فقط !! .
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية : إن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن
معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال
الموصل إلى معرفته ا 0 هـ .
(4/35)
والأهم من ذلك
، أن " الناصب " لم يحدثنا عن حد ذلك الكثير الذي يضر العقل أن يعمل به
!!، ولم يحدثنا كذلك عن إمام على طريقته قبل النصوص كلها من غير أن يرد بعضها أو
يتأول بعضها !! ، إذ الواقع أنه ما من إمام إلا ويقبل عدداً من النصوص ويرد غيرها
مما يتأوله أو يرده لعدم موافقته لأصوله ، وقد يصل الأمر إلى أن يرد كل إمام من
الحديث
________________________
الآية ،سورة النحل : (67)، ملحوظة : ولا نريد من الناصب أن يفهم من كلامنا أننا
نقول بوجوب النظر على المكلف كأول واجب كما اعتدنا منه ذلك فأول واجب الشهادتان
وللغنيمان رسالة في أول واجب على المكلف ، ط 0 دمنهور .
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية : إن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن
معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال
الموصل إلى معرفته ا0هـ
الواحد جزءاً ويقبل جزءاً ، كما في حديث أبي محذورة ، حيث لم يعمل إمام من الأربعة
بكل ما جاء فيه ، وإنما عمل كل إمام منه بطرف .
فكيف يعيب " الناصب " إعمال العقول ، والتي يعد استعمالها بكثره من
المعينات على قوة الفهم وحدة الذكاء.، بينما هو عند " الناصب " أمر شائن
، وهو يحسب أن ما يفعله بعض الجهال من رد النصوص بالهوى الغير المستند إلى دليل في
كونها صحيحة سنداً ، فيظن ظانٌ أنه عقلاني ، أو يستعمل عقله ، فيظن " الناصب
" أن " العقلاني " هو من يرد النصوص بعقله اعتمادا على فهمه للأمور
الذي لا يكون فيه اتباع الأسلوب العلمي للحكم على الأشياء ، فيذم العقل و
العقلانيين لأجل هؤلاء الجهال وإن تزيَّا الواحد منهم في ثياب العلماء ؛ فهؤلاء
أتباع هوى لا أتباع عقل.
(4/36)
ولا أدرى كيف
سيطرت مثل هذه الأفهام على الكثير من أبناء الصحوة الإسلامية فصاروا يرددونها بلا
وعى ، وكيف يفهمون في ضوء تفسيرهم لعدم استعمال العقول مع النصوص وعيبهم استعمالها
كثيراً مع النصوص على حد قول " الناصب " – قوله - صلى الله عليه وسلم -
:" رب مبلغ أوعى من سامع " بل بم يكون الفقه إذن ؟
وأما الذي يعاب حقاً فهو عدم التفريق بين النص الذي لا تجوز مخالفته لكونه صريح
الدلالة قطعى الثبوت فلا مطعن فيه بحال ،وذلك بخلاف ما تنازع الناس في دلالته أو
في ثبوته فيكون لكل شأن في قبوله ورده حيث اعتمد في كلا الحالين على مسوغ شرعي
لذلك ما دام صادراً عن من له الإمام بالشرع يهىء له القيام بمثل ذلك .
وأما الغارات التي يشنها الجهال على الأحاديث النبوية بأفهام ضعيفة ، ومن دون
إحاطة بمعانيها ، ولا بطرق رواياتها التي لا يتطرق إليها ضعف يصح أن يستند عليه في
الطعن بها ، تحت دعوى العقل فهؤلاء لا وزن لهم، وليس من المقبول أن يحملونا على أن
نقول : " لا نستعمل عقولنا كثيراً في النصوص حتى نكون متبعين لمنهج السلف
" " بل إن استعمالنا لعقولنا استعمالاً صحيحاً هو الذي يقودنا إلى قبول
خبر الصادق ، ورد خبر الكاذب، وعدم الخوض فيما لم ينكشف لنا علمه حتى ينجلي أمره .
وأما تقديم العقل على النقل كما هو الحال في طريقة المعتزلة ، فالمعتزلة كانوا
أصحاب منهج علمي ، وإن كان مردوداً بالنسبة لنا بما هو أصح منه طريقاً علمياً
وأثبت ، وهو :منهج السلف في موافقتهم لظواهر الشرع وتغليبها على مظان العقل ؛ لأجل
أن الظواهر الشرعية يتعلق الظن بصدقها أكثر من مظنات العقول التي تختلف من حين
لآخر حسبما ينكشف للعقل من دلائل ، ولكن هؤلاء المدعين للعقلانية إنما هم أناس
يبتعدون كثيراً عن أي منهج علمي له أصول متبعة ، حتى ولو خالفناها .
(4/37)
وليس من
المقبول أن يسعى " الناصب " في حمل أمثال هؤلاء على تيار الوسطية
وحسابهم عليها ، ويدعي في ذلك أنه استوحى ذلك من كتابات فضيلة " الدكتور
" ، وهو في كل كتاباته يرد على أمثال هؤلاء كما في " السنة النبوية
مصدراً للمعرفة والحضارة "وفي غيره من كتبه –حفظه الله -
وأما رابع اكتشافات " الناصب " عن معالم تيار " الوسطية "
وكذلك الخامس من اكتشافاته فهما مندرجان حقيقة تحت اكتشافه الثالث من غير وجهٍ ،
فكأن حقيقة اكتشافاته ترجع إلى ثلاثة قد بينا ما فيها ، ولبيان رجوع الاكتشافين
الأخيرين للثالث ، فنذكر للقارئ العزيز ما ذكره في اكتشافه الرابع حيث قال :
"
4- أن هذا التيار مولع كثيراً بدعوى " الاجتهاد " و " التجديد
" التي عند قراءتك لأقوالهم فيها تجدها غير منضبطة بضوابط محددة ،وغير واضحة
المعالم ، فالكل منهم يدلي بدلوه في هذا الاجتهاد ، وهذا التجديد دون شروط أو قيود
! ؛ فالحلال ما حللته عقولهم ، والحرام ما حرمته تلك العقول ، وكل هذا تحت دعاوى
الاجتهاد ".
وهنا نقول إن " الناصب " نسى أنه اكتشف منهج الوسطية من خلال قراءاته
لكتب "الدكتور" ، ثم هو هنا يحدثنا عن قراءته لجماعة فيقول : " عند
قراءتك لأقوالهم " ؛ فلا ريب أنه خلط كلام فضيلة الدكتور بكلام غيره ، وهذا
الخلط عند " الناصب " هين ، وهو أقل أخطائه قدراً ، ويقول أيضاً :
" فالكل منهم " ، ولا ذنب لفضيلة " الدكتور " في دعوى غيره
أنه من تيار " الوسطية " مع عدم التزامه بأصولها المحددة وضوابطها
الثابتة التي أشار فضيلة الدكتور إليها كثيراً ، وبسطها بالتفصيل في عدد من
المواضع فيما ذكرنا من كتبه قبلُ..
فالقواعد هي التي تحدد من هو من تيار " الوسطية " وليست الدعاوى، التي
قال عنها " الناصب " بنفسه :
(4/38)
" وكل
يدعى وصلاً بليلى " فكيف هو الآن يقبل الوسطية من كل من يدعيها من دون تفريق
؟! ولماذا يخلط كلام فضيلته بكلام غيره في معرض اكتشافه لمعالم تيار الوسطية من
خلال كتب فضيلة " الدكتور "، ويشمله رغم ذلك في قوله :" فالكل منهم
يدلي بدلوه في هذا الاجتهاد ، وهذا التجديد دون شروط أو قيود " وكأنه لم يقرأ
كل ما كتبه فضيلة الدكتور عن ضوابط الاجتهاد والفتوى كما في " الفتوى بين
الانضباط والتسيب "، و " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط
" و " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " .
ومع ذلك ففضيلته محكوم عليه ضمن من حكم عليهم بالإدلاء بدلوه من دون شروط أو قيود
!! .
وبعد ذلك يقول " الناصب " فالحلال ما حللته عقولهم ، والحرام ما حرمته
تلك العقول وكل هذا تحت دعاوى الاجتهاد " .
ولا أدرى ماذا يقول " الناصب " فيما اختلف الفقهاء في حله وحرمته، أيقول
حللوا بعقولهم وحرموا بعقولهم ؟ أم يقول حرموا بالشرع وأحلوا بالشرع ؟ وكيف يختلف
التشريع في حلال وحرام في نظره ؟ أم انه يدعى أن الحلال هو ما قال الله ورسوله ذلك
حلال وأن الحرام ما قال الله ورسوله : ذلك حرام ولا شيء وراء ذلك !! ، فيكون عنده
باب الحلال والحرام قطعياً لا اجتهاد فيه ، أم أنه عنده ظنى ولا مدخل للعقل في
إدراك ظنية النصوص عنده ؟ ! ما هذا التخبط ، والجهل ، والانحطاط في الفهم ؟ !
فيكون بما ذكرناه الاكتشاف الرابع لا يخرج عن الاكتشاف الثالث في إعمال هذا التيار
عقله كثيراً في النصوص الشرعية !!
وأما الاكتشاف الخامس فهو أيضاً لا يخرج عن الاكتشاف الثالث حيث قال " الناصب
"
5-إن هذا التيار يتفاوت أصحابه في مقدار ( عقلانيتهم ) فبعضهم يمثل الخط المعاصر
لفرقة المعتزلة كالدكتور " محمد عمارة " و البعض الآخر يتبنى مدرسة
" محمد عبده " والبعض كالقرضاوي يمثل برزخاً بين السلفية والعقلانية
" .
(4/39)
وهنا أيضاً
يخلط بين فضيلة " الدكتور " وغيره ، فيما يدعي أنه اكتشفه من خلال
كتابات فضيلته ، وكان الأولى به إذا أراد التحدث عن أولئك جميعاً ان يقول في
كتابات المنتسبين إلى " الوسطية " ، ولكنه لما كان يعلم أن ذلك لا يمثل
إدانة لفضيلة " الدكتور " لأنه ليس له شان بما ألفه غيره ، وإن ادعى
" الوسطية " أيضاً ذلك الغير ، جاء بذكر فضيلته هنا أيضاً مع بعض من
ليسوا من أهل الفقه ، حتى يحسب عليهم تصورهم ، وكأن وضع فضيلة "الدكتور"
بينهم لكي يُفهم " الناصب " القارئ بحيلة ودهاء انه منهم وشأنه شأنهم ،
والتفاوت غير مؤثر في الخطأ مع الاشتراك فيه فالجناية حاصلة من جميعهم وإن تفاوتت
درجاتهم فيه ، إذن فالاكتشاف الخامس هو نفسه الاكتشاف الثالث الراجع إلى مصيبة
عظيمة وهي استعمال العقول !! ، وصدق من قال عن هذه الفئة الضالة المتوهمة أنها على
حق بأنهم المعطلة الجدد لِمَا قاموا به من تعطيل النصوص بإغلاق عقولهم عن استيعاب
معانيها .
ويختتم " الناصب " كلامه قائلاً :" فدعوى الوسطية التي يرددها
"الدكتور" إنما تكون بالتزام منهج أهل السنة والجماعة ، ولا تكون بغير
ذلك مهما قدم الإنسان من تنازلات "
(4/40)
وجوابنا عليك
، يا ليت الأمر كما تقول أيها " الناصب " فها هو ذا فضيلة الدكتور يعلم
الداني والقاصى أنه على منهج أهل السنة والجماعة، ولم يشفع له ذلك عندك ، وجعلته
كالعقلانيين راداً للكتاب والسنة بالرأي المجرد ، مع أن الأمر لا يزيد منه على
كونه يتخير من أقوال السلف ما يجده الأقرب لمعنى من المعاني يعتبره ويقويه، ومع ذلك
لم يقبل منه !!!، واتهم بتقديم تنازلات لمن ؟ ولماذا ؟ فالجواب عند " الناصب
" للغرب ، والسبب عنده هو لكي يرضوا عن الإسلام ، فبمثل هذا التهافت يفتري
على عالم جليل هو فضيلة " الدكتور " الفقيه الداعية الذي حاز تقدير
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وكأن " الناصب " وجد عليه من أجل
ذلك ، ،و رأى " الناصب " أن الأمثل الإساءة إلى من حقق النجاح، وساهم في
إسعاد الناس بدين الإسلام وكشف لهم عن محاسنه ، وفطنهم إلى مراميه العظيمة
وتعاليمه القويمة ويسره المنشود ، فأجابه الناس من كل فج أن نِعم الإسلام ، فكم من
مراكز إسلامية فتحت في أماكن شتى من أرجاء المعمورة ببركة هذه الدعوة الوسطية التي
فتح الله لها قلوب الناس في زمان عز فيه الدين ، وضاع فيه الإيمان ، فجدد فضيلة
" الدكتور " هذا الدين بدعوته الكريمة وفهمه الثاقب لثوابت الإسلام
وإدراكه المتميز لمتغيرات العصر والزمان ؛ فراعى كلاً منهما بحسابه بميزان دقيق ،
وعمل دءوب وجهد متواصل حتى أسهم بشكل واضح في نشر الدعوة الإسلامية إلى أصقاع
نائية في ذلك العالم الواسع المترامي الأطراف فكان العمل من ذلك " الناصب
" بدلاً من أن يشكره على صنيعه الكريم قابله بذلك الحقد الذي كشفناه لكم ، ونسأل
الله أن لا يعمى عليكم أمر مثل هذا " الناصب " بعد اليوم ، وفي النهاية
دائماً لا يصح إلا الصحيح ، والحقيقة أحق بالتحقيق من كل الشائعات والأقاويل ، وهي
ولله الحمد تنطق شاهدة لمن ألقى السمع وهو شهيد .
الفصل الثاني
عقيدة القرضاوي
الفصل الثاني
(4/41)
في هذا الفصل
تحدث " الناصب " عن عقيدة فضيلة " الدكتور " حفظه الله ، وقد
أراد من وراء ذلك غمزه في عقيدته ، وسوف نبين بالدليل الواضح مدى الكذب والافتراء
ومحاولة التنقيص الرخيص التي اتبعها " الناصب " لكي يشكك العامة من
الملتزمين من أبناء الصحوة الإسلامية في سلامة معتقد فضيلة "الدكتور" –
حفظه الله – فبدأ إرجافاته بعنوان هو :
أهمية العقيدة عند الدكتور :
بعد أن نقل " الناصب " عن فضيلته أقواله المعروفة عنه من إعطاء العقيدة
وأسسها ومبادئها المقام الأول في الاهتمام مما لا يعطى " الناصب "
مجالاً للاعتراض ، لكنه بدلاً من إعطاء الرجل حقه راح يبحث عن سبب للطعن في أقواله
الظاهرة من كلامه في مواطن أخرى أساء فهمه لكلام فضيلته ولوى عنق كلامه لياً لكى
يدلل منه على مخالفة كلامه لبعضه البعض وتناقضه ، وهو أبعد ما يكون عن التناقض ،
وأقرب ما يكون دلالة على الفهم المتواضع للناصب عامة مما يعطينا انطباعاً سيئاً عن
تحصيله العلمي ، وقدرته على البناء الفكري ؛ فماذا قال " الناصب " عن
تقديم فضيلته لقضية العقيدة على كل قضايا المسلم الهامة؟ انظر أيها القارئ العزيز
:
" لكن الدكتور – هداه الله – برغم هذه النقول الجميلة عنه ناقض هذا
الرأي"، فإذا كانت هذه النقول التي ذكرها غاية في الصراحة ،وهي نقول عديدة في
مجالات مختلفة، ومع ذلك لمجرد أن وجد " الناصب " عبارة أساء فهمها إلى
حد بعيد ، استدعاه ذلك لوصفه بالتناقض ، وانظر وافهم مقصده من دعوته لفضيلته، وهي
أول دعوة يدعو بها لفضيلته في كتابه وهي – هداه الله – وأما هو فهو غني عن الهداية
، حتى عن أن يدعو لنفسه بالهداية معه فيقول " هدانا الله وإياه " ولو
قالها لكانت أيضاً تعريضاً بفضيلته ولكنه لم يفعل ليدلل على أنه؛ أي : فضيلة
الدكتور-وحده- هو المقصود بالدعوة للهداية ؛ لأنه في نظر ذلك "الناصب "
ضال " والله أعلم بمن هو أحق وأجدر بهذا الوصف .
(4/42)
ولكن ما هي
هذه العبارة التي استمسك بها " الناصب " في رد كل النقول الجميلة – على
حد تعبيره – واعتبارها متناقضة مع هذه العبارة الوحيدة التي ذكرها فإنك ستجد عجباً
، وإن كان العجب لا ينتهي من عبارات ذلك "الناصب" وفهمه ؛ فيقول :
" ناقض هذا الرأي في كتابه " أولويات الحركة الإسلامية " عندما قال
: " ليس من الضروري أن نظل ثلاثة عشر عاماً نغرس العقيدة وندعو إليها ؛ لأننا
اليوم بين مسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فليسوا محتاجين
إلى أن نعلمهم العقيدة مثل هذه المدة "
(4/43)
فما هو هذا
التناقض ؟ وهل لم يجد في كلامه كله ما هو يفيد ذلك التناقض سوى هذا الموضع الذي لا
تناقض فيه ألبته مع ما قدمه فضيلته من الاهتمام بأمر العقيدة ، فتعالوا نتعرف على
السياق الذي انتزع منه " الناصب " هذه العبارة أولاً ، وذلك قبل أن نبين
عدم مناقضتها لاهتمام فضيلته بأمر العقيدة من حيث العبارة ذاتها ، فنقول السياق
الذي وردت فيه هذه العبارة في الكتاب المذكور كان أثناء بيان فضيلته لأن القرآن هو
الأصل والأساس الأول الذي تؤخذ منه الأحكام ، وأن السنة هي الأساس الثاني ولكن
باعتبارها بياناً وتفسيراً وتطبيقاً ، وهنا بين أن المراد بالسنة هو مدلولها عند
الأصوليين الذي لا يشمل أحداث السيرة النبوية جميعها ، وإنما يشمل فقط ما كان من
قول أو فعل أو تقرير ، دون سائر ما يتعلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
حياته كنشأته وشبابه وزواجه قبل البعثة ، وأوصافه الخلقية ، وما إلى ذلك إلى وقت
وفاته - صلى الله عليه وسلم - مما لا يستفاد منه أحكام ، وغاية ما يستفاد مما يرد
في مثل تلك السيرة مما يتصل بالأحكام فإنما تكون دلالاته غالباً دلالة الأفعال
التي هي قاصرة عن إفادة الوجوب في قول عامة الأصوليين إلا فئة قليلة منهم جعلت ذلك
للإيجاب ، ولكن على قول عامة أهل العلم من الأصوليين وغيرهم فإن الأفعال لا تدل
وحدها على الوجوب والإلزام ولابد من ضميمة دليل آخر على ذلك ؛ وفي هذا المعنى بين
فضيلة الدكتور أننا وإن كنا مطالبين بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - كما في
قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
الآخر وذكر الله كثيرة } (1) ؛ فكان أن ذكر أن هذه الآية تدل على استحباب التأسي
والاقتداء به ، لا على وجوبه وأن اتخاذ الأسوة من سيرته لا يكون في المواقف
التفصيلية ؛ فمثل فضيلته لذلك فذكر أنه :
(4/44)
فليس من
الضروري أن نقتدي بالبدء بالدعوة سراً ما دام الجهر ميسوراً ومأذوناً ، وليس من
الضروري الهجرة ما دمنا متمكنين من إقامة الشرع وشعائره ، وليس من الضروري طلب
النصرة من أصحاب السلطة والقوة ما دام ذلك ليس مجدياً ، وليس من الضروري أن نظل
ثلاثة عشر عاماً نغرس العقيدة
_______________________________________________________________
الآية ، سورة الأحزاب : (21) .
في نفوس أناس مؤمنين ، فلا يحتاجون لمثل هذه المدة ، وأضيف إلى ما قاله فضيلته ،
أنه ولو كان ذلك بين مشركين لما لزم أيضاً التزام مثل هذه المدة ، ولا التزمها قبل
ذلك المسلمون عند فتحهم بلداً من بلاد الشرك ويبين فضيلة الدكتور في النهاية مقصده
قائلاً :" وإذا اهتممنا اليوم بالعدالة الاجتماعية أو بالشورى والحرية ، أو
بالانتفاضة الفلسطينية أو بالجهاد الأفغاني ؛ فليس في ذلك مخالفة للهدى النبوي الذي
لم يهتم بهذه الأمور إلا في المدينة "
ورغم سلامة هذا السياق تماماً عن أي إيراد يمكن أن يورد عليه ، ولكن "الناصب
" اعتبر هذه العبارة مناقضة لاهتمامات فضيلة " الدكتور " بالعقيدة
، وعقب عليها قائلاُ : " قلت : وهذا القول منه غريب جداً ، فهو يعلم أن
كثيراً من المسلمين اليوم في مختلف البلاد الإسلامية يدعون الإسلام ، ولكنهم قد
نفضوا إسلامهم بخوضهم في الشركيات والبدع والخرافات "
(4/45)
وهو ما
استغربناه جداً ، فما هي علاقة هذا النقد بالكلام المنتقد ، ولو قدرنا جدلاً أن
مختلف البلاد الإسلامية تعاني مما ذكره " الناصب " ؛ فهل يلزم على ذلك
الانخراط في تعليم العقيدة لمثل هذه المدة ؟ وهل ضرب هذه المدة أمراً لازماً ؟ هذا
هو السؤال من دون خوض فيما يتكلم عنه من نقض لإسلام المسلمين بالتوهمات وما هي تلك
الخرافات ، والبدع التي تؤدي بهم إلى الشرك بالله تعالى ، وما هو ذلك الخوض في الشركيات
التي يقولها ؟ ثم يقول " الناصب" : " وما يحدث في ( مصر ) بلد
الدكتور ليس منا ببعيد " فيتعرض لعوام الناس في بلد مثل مصر ، ويتغافل عن فعل
المنتسبين إلى العلم في بلده هو ، وما أحدثوه في المسجد الحرام تحت مرأى ومسمع
العالم كله في بداية القرن الرابع عشر الهجري ليس من العالمين ببعيد ، بل إن
العامي المصري البسيط الذي يتهمه " الناصب " بالشرك ونقض الإيمان ،يملك
من البصيرة ما لا يملكه أمثال أولئك المتهجمين على الآمنين في المسجد الحرام
،الذين يظنون توهمهم للنصوص علماً ، ولم تفد كل دروس العقيدة أن تجعلهم يعرفون كيف
يضعون أقدامهم ، حتى إن المصري العامي البسيط الذي يصفه " الناصب " بأنه
نقض إيمانه هو أعقل بكثير من أولئك المنتسبين إلى العلم المتجرئين على حرمات الله
تعالى المعظمة بأسخف التأويلات .
ويقول إن : الواجب عليهم ؛ أي : على علماء المسلمين أن يكثفوا جهودهم في سبيل
اقتلاع هذه البدع والشركيات التي يرونها صباح مساء بدلاً من تبريرها أو ادعاء أن
أهلها لا يحتاجون إلى أن نبصرهم بالعقيدة الصحيحة ثلاثة عشر عاماً !" ويضع
علامة تعجب ، ونضع له ألف علامة تعجب مما يقوله إنهم يحتاجون لتبصيرهم بالعقيدة
ثلاثة عشر عاماً لأجل ما ذكر.
(4/46)
ثم إن
"الناصب " أراد أن يتصيد لفضيلة الدكتور خطأً وهو يتكلم عن أدلة وجود
الله فادعى أنه أطلق على الله عز وجل – بأنه عقل !! ، ولا أدري كيف قال ذلك عن
فضيلته ، وكأن الناصب نسى ما اتهم به فضيلة " الدكتور " من قبل من أنه
مهما تعلم عقيدة السلف فإن العقيدة الأشعرية التي لُقِّنها في صباه منقوشة فيه
كالنقش على الحجر ، فإن كان ما قاله صحيحاً فإن "الأشاعرة" لا يطلقون
على الله صفة العقل كشأن السلف وأهل الحديث وعامة الفرق الإسلامية ؛ إلا المشبهة و
الفلاسفة ، وليس فضيلته منهم كما هو معلوم ، فإذا كان ما قاله " الناصب
" هنا صحيحاً ؛ فإنه يكون قد كذب في مقالته بأن عقيدة الأشاعرة منقوشة في
نفسه ، إذ لو أنها منقوشة ولا يمكن تغييرها من نفسه – على حد زعم كذلك على أن وراء
هذا الكون مكوناً واحداً ؛ فهذا الكون العريض الفسيح على تنوع ما
"الناصب " – لما قال ما قال ، ولكن كيف استدل " الناصب " على
أن فضيلة " الدكتور " يطلق على الله عز وجل بأنه عقل ؟ إنه التقط ذلك من
قول " فضيلته " الذي حكاه عنه . " كل ما في هذا الكون العظيم ،
علويه ، وسفليه ، صامته ، وناطقه ، يدل على أن عقلاً واحداً هو الذي يدبر أمره
،ويداً واحدة هي التي تدير رحاه ، وتوجه دفته ".
(4/47)
وهكذا قام
" الناصب " في دور " المعلم " وأراد أن يعلم أن ؟ فضيلة
"الدكتور " الذي راح يعلم الأجيال تلو الأجيال كيف تعرف ربها ، ولم يستح
" الناصب " من أن يلعب هذا الدور الغير المناسب لمثله مع فضيلته ؛ فقال
: إطلاق لفظ (عقل) على الله لا يجوز ولو من باب الإخبار ثم سعى يبين الأسباب التي
لا يجهلها عامة الخلق ، فكيف بفضيلة الدكتور ؛ فكان ما ذكره من أدلة يدعو كل عاقل
للاستحياء من ذكرها لكونه علماً حاصلاً عند العامة من المثقفين وعامة طلبة العلم
فضلاً عن خاصتهم ومن هم كهيئة فضيلة " الدكتور " حفظه الله ولكن من أين
ذهب إلى إنه أطلق على الله عز وجل بأنه عقل ؟ هل في العبارة التي حكاها "
الناصب " حكم على الله تعالى بأنه عاقل بالاشتقاق ، أو " ذو عقل "
؛ أي بالإضافة ؟ فالجواب : أن لا .
ولو كان " الناصب " يفهم الكلام على هذا النحو المخيب للآمال ، فلماذا
لم يتهم فضيلة الدكتور بتهمة ثانية في نفس السياق أيضا ولعله نسيها !! وهي قول
فضيلته :" ويداً واحدة " وهي على طريقة " الناصب " تهمة
لفضيلة الدكتور ، بأنه يصف الله تعالى " باليد الواحدة "، والذي جاء في
الكتاب العزيز : { بل يداه مبسوطتان } (1) و { ولما خلقت بيدي } (2) ، وكذا في
السنن ؛ فكيف يسكت عن هذه أيضاً ، وما هي هذه الرحى والدفة الكونية التي تديرها
تلك اليد الواحدة !! فإن كان " الناصب " فهم من الرحى والدفة قيادة أمر
الكون وتوجيهه إلى الوجهة التي شاء الله تعالى ، وفهم كذلك من اليد الواحدة ليست
الوحدة في اليد ، وإنما في الصانع فلماذا لم يفهم من العقل أنه القانون الذي يسير
الكون تبعاً له ؟ ، وخاصة أنه لم يذكره لا مضافاً ولا مشتقاً ، والعجيب أن "
الناصب " هو نفسه حين يدلل على عدم جواز إطلاق لفظ العقل على الله تعالى يقول
:
(4/48)
ثانياً : أنه
– أي : العقل – خاص بالمخلوق المكلف الذي من شروطه أن يكون عاقلاً أو ذا عقل ؟ فهل
قال فضيلة "الدكتور" أن الله عاقل أو ذو عقل ؟ !! سبحانك يا ربي !!
والأعجب من ذلك أن الناصب نفسه نقل عن فضيلة " الدكتور " نفس العبارة من
كتاب آخر من كتب فضيلته وفيها التصريح بأنه القانون الذي يحكم الكون حيث ذكر عن
فضيلته أنه قال :" دل العقل فيه من المخلوقات ، صغيرة وكبيرة، حية وجامدة
ناطقة وصامتة عاقلة وغير عاقلة ، علوية وسفلية تحكمه قوانين واحدة " ، فقصده
واضح بين أنه القانون الواحد الذي يحكم الكون وما فيه ؛
_______________________________
الآية ، سورة المائدة : ( 64 ) .
الآية ، سورة ص : ( 75 ) .
إلا أنه ناسب مع العقل ذكر التدبير ، ومع القانون ذكر الحكم ، فهل لو كان قد قال :
إن نظاماً واحداً يسير الكون لكان بهذا مطلقاً النظام على الله تعالى؟!! ما هذه
التفاهة الواسعة !!! ثم تبلغ به السماجة حدها الأقصى حينما يعقب " الناصب
" هذا الكلام بنشر فتوى للجنة البحوث بالمملكة عن من وصف الله تعالى بالعقل
المدبر وكأن فضيلته قام بهذا الوصف فعلاً وقد نقلنا للقارئ ما قاله فضيلته وليس
فيه وصف الله تعالى بالعقل ، وإنما أن الكون يدبره عقل واحد وهو القانون الذي يسير
الكون فلا يحيد عنه الكون قيد أنمله كالعقل إنما سمى عقلاً لكونه يعقل صاحبه ؛ أي
: يمنع صاحبه من الشطط ؛ فالعقل هنا مستعمل بمعناه اللغوي العام لا الخاص ، فضلاً
عن أن يكون قد أطلقه على الله تعالى .
فالفتوى المنقولة بالتخطئة لا علاقة لها بكلام فضيلته ومحلها الذي توجه له من قال
: إن الله هو العقل المدبر فالتمسوا من قال ذلك وقولوا له أخطأت !!
(4/49)
وما أوقع
" الناصب " في مثل تلك الأشياء الساقطة سوى شدة تحامله على فضيلته ،
وسعيه لجمع أي مأخذ عليه من دون روية ولا تفكير في صلاحية ذلك المأخذ للمحاسبة
عليه ، ولذلك تتكرر أخطاؤه هو وعثراته { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } (1).
ومما ينبغي أن يتنبه له أيضاً في هذا المقام أن شيخ الإسلام " ابن
تيمية" رحمه الله لم يمنع إثبات المعاني الصحيحة للألفاظ التي لم يرد بها
دليل شرعي لله تعالى من
________________________________
الآية : سورة الزمر : ( 61 ) .
غير قصد لوازمها الباطلة من التركيب والحدوث وغير ذلك ، إذا أريد بها معنى لائقاً
بالله تعالى وذلك ما دام أن اللوازم الباطلة لمعاني تلك الألفاظ منفية عنه سبحانه
في قول من وصفه بذلك ، وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه – إذا
احتج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة – كمخاطبة العجم : من الروم ، والفرس ، والترك ،
بلغتهم وعرفهم ، فإن هذا جائز حسن للحاجة .
فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة
كلفظ"الجوهر " و " العرض " و " الجسم " وغير ذلك ؛
بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذة العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة
والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معاني مجملة في النفي والإثبات
. كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع فقال : هم مختلفون في الكتاب ، مخالفون
للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويلبسون على
جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه .
(4/50)
فإذا عرفت
المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق
الذي أثبته الكتاب والسنة ، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق
؛ بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ : نفياً واثباتاً : في
الوسائل والمسائل ؛ من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو الصراط المستقيم وهذا من
مثارات الشبهة حتى إنه
_____________________
الفتاوى ( 3/307 ) .
نفسه قال : " فتبين أنه يجب القول بحدوث كل ما سوى الله تعالى سواء سمى جسماً
أو عقلاً أو نفساً ومعلوم قطعاً أن فضيلة الدكتور –حفظه الله تعالى- لم يقصد شيئاً
من تلك اللوازم الباطلة .
وقد بينا بما فيه الكفاية ماذا يقصده فضيلة الدكتور مما هو واضح لكل محق منصف غير
متحامل ولا حاقد .
ثم عقد " الناصب " بعد ذلك عنواناً عن معنى " الإسلام" عند
فضيلة الدكتور وكأن فضيلته له مفهوم خاص حول الإسلام : فقال :" معنى الإسلام
عند الدكتور : فذكر عنه – حفظه الله – أنه تتعدد إطلاقات لفظة " الإسلام
"
وتختلف مدلولاتها فأحياناً يطلق الإسلام، ويراد به إعلان الشهادتين مع التزام
الأحكام إقراراً وإن لم يؤدها بالفعل ، وأحياناً يطلق على أركان الدين المشهورة
الواردة في حديث ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - :" بني الإسلام على خمس
:" وأحياناً يطلق الإسلام ، ويراد به أعمال الجوارح الظاهرة ، كما في قوله
تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وكما جاء في الحديث
:"الإسلام علانية والإيمان في القلب"(1) ، وقد يطلق الإسلام ، ويراد به
الإسلام الكامل كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"المسلم من سلم المسلمون
من لسانه ويده "
فهذا مختصر ما قاله فضيلة الدكتور وهو كما هو واضح ليس عليه غبار ؛ فكيف أثار
" الناصب " الغبار من تحته ؟
________________
(4/51)
(1) ... رواه
أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وغيره
وضعفه آخرون كما في المجمع (1/57) .وهو في المطالب العالية (3/55) من النسخة
المجردة ، و (3/247) من النسخة المسندة .
انظر أيها القارئ العزيز كيف عقب " الناصب " على كلام فضيلته إذ قال :
(قلت : قول " الدكتور " إنه يكفى أن يقر بهذه الفرائض ويلتزم بها وإن لم
يؤدها بالفعل" قول : " غير صحيح " ؛ إذ أن بعض الفرائض تركها كفر ،
ولو أقرَّبها الإنسان ولم يجحدها كالصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ؛ فعلق الكفر على مجرد الترك
ولو كان مع الإقرار بها " انتهى تعليق "الناصب " فياله من تعليق
عجيب ، فهكذا يُخَطِّىء " الناصب " فضيلة الدكتور ، الذي اتبع مذهب
جماهير أهل العلم القائلة بأنه لا يكفر ، بفعل معصية ما لم يستحلها ، وهناك عدد من
المسائل قال فيها أهل العلم بالكفر بفعل المعصية فيها لاستلزامها حصول الاستحلال
منه كإلقاء مصحف في المزبلة ونحوه من امتهان المصحف على وجه لا يحتمل معه سوى
الكفر به كانتفاء العذر له من كل وجه ،وقد بين الإمام " الطحاوي " في
مختصره المشهور مذهب أهل السنة والجماعة في عدم التكفير بالمعاصي فقال :" ولا
نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله (1) ، وذلك بخلاف ما يكون من إنكار
المتواترات فإنه يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل مرتداً ، وأما كفر تارك الصلاة
فالجمهور أنه لا يكفر ، وهو قول " مالك " ، و " الشافعي " و
" أبي حنيفة " رحمهم الله جميعاً وهو رواية عن " أحمد "
واختارها بعض أصحابه كالموفق وقال : هو أصوب القولين ، حتى إن " أبا عبدالله
بن بطة كان ينكر قول من قال :إنه يكفر وقال :" المذهب على هذا ، لم أجد في
المذهب خلافه"، واختاره كذلك " ابن عبدوس " في تذكرته ، وصححه
أيضاً جماعة من
____________________________________________
(4/52)
(1) ابن ابي
العز الحنفي ، شرح العقيدة الطحاوية تحقيق د 0 عبالله عبد المحسن التركي ، شعيب
الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة – بيروت لبنان 1408هـ –1987م : (2/432) .
الأصحاب كالمجد ، وصاحب المذهب ومسبوك الذهب ، وغيرها من كتب الحنابلة كمجمع
البحرين ، والنظم والتصحيح ، وجزم به جماعة أيضاً من الأصحاب كصاحب الوجيز ، و
"الآدمي" في "المنور" ، و"المنتحب "، وقدمه جماعة
كالمجد في "المحرر" ، " وابن تميم" وكذا قدمه في "
الفائق " وإن كان الأكثر من أصحاب أحمد على أنه يكفر، بعد استتابه ثلاثاً
وامتناعه فيقتل كفراً فلا قتل ولا تكفير قبل الدعاية .
وأما ما ذكره " الناصب " من الحكم بكفره لمجرد امتناعه فهذا ليس أيضاً
على المذهب ؛ إذ أن الصحيح من المذهب الذي عليه جماهير أصحاب أحمد القائلين بأنه
يكفر إنما قالوا بكفره بعد دعاء الإمام له أو نائبه ، ولذا قالوا : لو ترك صلوات
كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله ولا يكفر على الصحيح من المذهب ، بينما الحكم بكفره
هكذا ولو لم يدع إليها قد ذكره " الآجرى "، ولم يصرح به غيره ، وإن كان
ظاهر كلام جماعة ذلك إذن فإن كان كلام فضيلة "الدكتور"منصوراً إلى هذا
الحد الذي لا يحتاج فيه إلى دفاع عنه أو انتصار له ؛ فما هو المأخذ عليه في أن
يذهب إلى ما ذهب إليه ، وقد ذهب إلى ذلك جماهير علماء الأمة ، وهل " الناصب
" قد بلغت به شهوته إلى حد مناطحة علماء الأمة الأجلاء جميعاً الذين يقفون
خلف فضيلة " الدكتور " والمعروف المقرر كما جاء على لسان
القاضي"عياض " أن من تعقب غيره فيما اتبع فيه غيره كان المتبوع هو
المتعقب لا التابع ،وعليه فتخطئه " الناصب " إنما كانت لجماهير علماء
الأمة وليست لفضيلة " الدكتور " ويقول " الناصب " في موطن آخر
وإن كانت المسألة خلافية ؛قلنا : إذن فلا إنكار !! ويقف عند حد ذكر أنها خلافية
ولا يبين أن جمهور الأمة على خلاف ما قاله هو ليعمى على القارئ درجةالخلاف وموقف
المخالف .
(4/53)
ثم ذكر "
الناصب " بعد ذلك معنى كلمة " التوحيد " عند فضيلة " الدكتور
" فذكر تفسيره لشهادة أن لا إله إلا الله ولا أدري ما فائدة ذكر أقوال فضيلته
هكذا من غير تعليق عليها ؛ فهل ذلك يعني أن محاسن فضيلته لا وزن لها عند "
الناصب " ولا أدري كذلك هل كان محتاجاً فقط لملء عدد من الصفحات بلا وزن لها
ليكمل الكتاب في عدد معين من الصفحات ؟ إذ أن موضوع الكتاب ليس حكاية نقولات عن
فضيلة " الدكتور " وإنما الحكم عليه من قبل " الناصب " ، وفعل
نفس الأمر عند نقله لمعنى شهادة أن محمداً رسول الله ، فلعله يرى أن فضيلته نجح فيهما
بدرجة "مقبول" فسكت عنه ولا ندري نحن ما هو معنى السكوت عند "
الناصب " ؛ إذ أنه لم يذكر شيئاً عما يسكت عنه في مقدمته كما فعل " أبو
داود " في رسالته لأهل مكة حيث أخبرهم بحكم ما سكت عنه من الحديث بأنه صالح
ولكن " الناصب " تركنا هكذا من غير أن يبين حكم ما قاله فضيلة "
الدكتور " في الشهادتين ، وإن كنا نعد سكوته نعمة عظيمة ؛ إذ أن أقصى ما يمكن
أن يفعله الحاقد السكوت عند محاسن من يحقد عليه.
(4/54)
ثم انتقل بعد
ذلك ليتكلم عن معنى الإيمان عند " الدكتور " ، وهنا لما نقل عن فضيلته
ما نقله عن الحافظ " ابن حجر " في " الفتح " من قوله عن السلف
قالوا : " الإيمان هو اعتقاد بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل بالأركان ،
وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ، فلم يتكلم هنا " الناصب " عن
فضيلة " الدكتور " ، وإنما تعقب " ابن حجر " فيما أورده من أن
الأعمال شرط في كماله ولذا قالوا بأن الإيمان يزيد وينقص فهذا هو المراد من قولهم
شرط في كماله ومن هنا تعقبه بقول شيخ الإسلام " ابن تيمية : و " وكلام
شيخ الإسلام إنما كان فيمن كان مقتصراً إلى أن الإيمان قول ، أو أن الإيمان
التصديق ؛ فبين لهم أن الإيمان مستلزم للأعمال ، وهو ما يتفق مع ما قاله " ابن
حجر " بعد أن ذكر عن السلف أن الإيمان : اعتقاد بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل
بالأركان، فكان تعقب الناصب تعقب السلف وإن تنوعت فيه عباراتهم ، وكون العمل
بالأركان جزء معنى الإيمان ، فهذا لا يختلف عن قول " ابن حجر " في
تفسيرها بشرط الكمال المقابل لقول أهل الباطل بأنه شرط صحة ، فالجزئية هي من حيث
شمول لفظ الإيمان للأعمال ، وهي اللازم بالإضافة لاعتقاد القلب وهو الملزوم فلا
تتنافى مع الشرطية ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام " ابن تيمية " ،
"الإيمان المطلق مستلزم للأعمال " ويقول بين سبحانه أن الإيمان له لوازم
، وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده ، فذكر ما ورد في الكتاب
والسنة من الأعمال التي هي من لوازم الإيمان ، والتي هي من أضداده ، ولذا لم يكن
هناك داعٍ لهذا التعليق الذي لم يخرج فيه المعلق عليه عن أقوال السلف السلف رضي
الله عنهم وقد تكون الأعمال شرطاً في كماله الواجب فيجوز نفيه لعدمها وذلك مثل ما
ورد في الكتاب والسنة من مواضع كثيرة ورد فيها نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل ،
ولكن ما كان شرطاً في كماله المستحب فلا سبيل إلى نفي الإيمان فيه عن من لم يأت
(4/55)
بالعمل ، ولا
يكون معنى ذلك أن الأعمال ليست من الإيمان ، بل هي منه على جهة لزومها له ، وذلك
لأن أصل الإيمان هو ما في القلب ، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك ، ومن هذه الناحية
فإن الله تعالى قد فرق بين الإيمان والعمل في مواضع ، وللتلازم بينهما فلا يتصور
إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح ، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان
ذلك لنقص الإيمان الذي في القلب ، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم ، وإن
كان أصله ما في القلب ، وبهذا فقد أجاب " ابن تيمية " رحمه الله عمن
احتج بتفريق الله تعالى بين الإيمان والعمل في مواضع وقال شيخ الإسلام أيضاً في
موضع آخر : " وأصله القلب وكماله العمل الظاهر " وبهذا ترى أيها القارئ
العزيز كيف أن " الناصب " لا يُحسن فهم أقوال أهل العلم وينخدع بظواهرها
لعدم تعمقه في معانيها ، فيظن كل قول ظاهره المخالفة مخالفاً دون أن يتحقق منه ،
وإن كان في هذه المرة لم يوجه الانتقاد إلى فضيلة " الدكتور " واكتفى بتعليق
على ذلك في الحاشية ، ولكن رأينا أن نبين أيضاً أنه لم يحقق المقصد من المقالة
وظنها مخالفة لقول السلف رضي الله عنهم وراح يصوبها .
بقى أن نذكر أن أبا حنيفة وأصحابه ذهبوا إلى أن الأعمال ليست داخلة في مسمى
الإيمان ومع هذا عد ابن أبي العز الخلاف صورياً فإذاً فإن عد الأعمال من كمال
الإيمان يكون معه الخلاف صورياً وأولى (1) ، ولهذا قال شيخ الإسلام : فإذا عرف أن
الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه بل يكون نزاعاً
لفظياً (2) ا 0 هـ وهناك مسائل فيها النزاع معنوي .
___________________________________________
وقد قال ابن القيم في كتاب الصلاة : ان العمل شرط كمال لا شرط صحة ، نقله الشيخ
أحمد بن حجر في العقائد السلفية (1/406) .
الايمان 172 ، الدرة لابن حزم : 337 .
(4/56)
ويستكمل
" الناصب بيانه لعقيدة فضيلة " الدكتور " قائلاً إنه يرى أن الإيمان
كثيراً ما يراد به في نصوص القرآن والسنة الإيمان الكامل الذي لا يكون نفيه نفياً
لحقيقة الإيمان وأصله ، ويذكر عنه أيضاً اهتمامه بأثر الإيمان ، وذلك أن الإيمان
الحقيقي كما رأي فضيلة " الدكتور " ليس مجرد معرفة ذهنية لا تحرك القلب
إلى عمل الخيرات ، فيقول – حفظه الله – " ليس المقصود بالإيمان هنا مجرد
معرفة ذهنية لا تنفذ أشعتها إلى القلب فتضيئه ، ولا إلى الإرادة فتحركها".
وكلام فضيلته هنا هو توأمة كلام "ابن أبي العز" في شرحه على العقيدة
الطحاوية حيث قال :" فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل
دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل .
فهكذا رأى فضيلة " الدكتور " قضية الإيمان محركاً يدفع الإنسان باتجاه
الصلاح، ولا يقف به عند حدود المعرفة السطحية للعبارات والألفاظ الاصطلاحية ،
وإشعال المعارك حول مدلولاتها والجدال حولها ؛ فذلك في نظر فضيلته لا يرقى
بالإنسان إلى الإيمان المنشود الذي جمعت معانيه العظام في قوله تعالى : { إنما
المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في
سبيل الله أولئك هم الصادقون } (1)
فماذا قال " الناصب " عن كلام فضيلته ؟ إليك ما قاله أيها القارئ العزيز
:
___________________________________________
الآية ، سورة الحجرات : ( 15 )
" قلت : هذه مبالغة من الدكتور ؛ لأنه لابد من معرفة أحكام الدين وأصوله، ومن
أهمها التوحيد بأقسامه "
وهنا لا أملك ماذا أقول إزاء هذا الفهم الضعيف الذي يتحلى به "الناصب "
الذي فهم من كلام فضيلة " الدكتور " أنه لا يهم معرفة أحكام الدين
وأصوله؟! ولا أدري كيف يمكن مخاطبة مثل هذا على وجه يفهمه وأما قول فضيلتة "
مجرد " فهو عنده " مجرد كلمة " لا معنى لها في قاموسه
(4/57)
العجيب ، وإن
كانت تعنى أنه لا يكتفي في الإيمان بالمعرفة الذهنية وحدها بل لابد من حصول أثر
لها هو ما أشار إليه فضيلة " الدكتور " الذي بين قلة انتفاع من وقف
بالإيمان عند حدود المعرفة المجردة ولم ينطلق به إلى ما وراءها من الأعمال الصالحة
النافعة للمرء وللجماعة في دينهم ودنياهم حتى قال في فضيلته عباراته : "والامتلاء
عجباً وغروراً بأن هذا هو كل الإيمان " ، وقال أيضاً : " وشغل الآخرين
بمعارك جدلية حول هذه الألفاظ على أهميتها " ، وكلامه هذا يدل على أن :
المعرفة العلمية ليست هي كل الإيمان حتى يقف المرء عندها وقد بينا ذلك بوضوح .
المعرفة العملية هامة ، ولكنها لا تكفي وحدها أيضاً رغم أهميتها، بل لابد من
اجتماع المعرفتين .
ثم انتقل " الناصب " بعد ذلك لبيان معنى الكفر عند " الدكتور
" ونلاحظ عليه دائماً انه في حالة كون ما يقوله فضيلته في باب من الأبواب أو
في معنى من المعاني لا غبار عليه على الأقل من وجهة نظر " الناصب " لا
يبين ذلك للقارئ لا في أول كلامه ولا في آخره ولا في أوسطه وهذا إهمال غير صحيح
ممن نصب ميزاناً لابد فيه من ظهور الأوزان بدلاً من إهمال ما لا اعتراض له عليه ،
وهنا فقد بين "الناصب" أن فضيلة "الدكتور " تابع الإمام
" ابن القيم " على تقسيمه الكفر إلى أكبر وأصغر ، ولا أدري لماذا جعله
تابعاً للإمام " ابن القيم " مكتفياً بنقل فضيلة الدكتور عنه وهو قول
كثير من أهل العلم تصريحاً صريحاً ، وتلميحاً لذلك أيضاً ، حيث يستوجب الكفر
الأكبر الخلود في النار ، بينما يوجب الأصغر استحقاق الوعيد دون الخلود ، وتدخل
فيه المعاصي كلها .
(4/58)
ويتابع تجواله
في فكر فضيلة الدكتور فيقول : التكفير عند الدكتور وهنا يبين أن فضيلته يرى أن
الأحكام الشرعية من حيث مخالفتها ليست على مرتبة واحدة ، وإنما هي منها ما يكفر
مخالفه ، ومنها ما لا يكفر مخالفه ، ثم يبين فضيلته ما لا يكفر فيه المخالف وهو
الأحكام الفرعية العملية والظنية ، وتلك الأحكام هي التي تبنى على الاجتهاد ولذا
كان الاختلاف فيها مسموحاً ما دام مبنياً على أسس صحيحة ، ولا ضرر في هذا الاختلاف
ولا خطر منه ، وأما الأحكام التي ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع مما يقطع بها شرعاً
فتلك إما أن لا تصل إلى حد ضروريات الدين ؛ فهي عند فضيلته مما يمثل الوحدة
الفكرية والسلوكية للأمة ، ويعد مخالف هذه الثوابت عند فضيلته أحد هؤلاء :
إما خارجاً عن السنة موصوفاً بالفسق والبدعة ، أو الخروج عن الدين والكفر ، وذلك
على قدر المخالفة الواقعة وإمكانية وجود العذر فيها وعدمها ، ولذا يجرى في بعضها
خلاف في تكفير المخالف .
وأما ما كان من تلك الأحكام القطعية معلوماً من الدين بالضرورة بحيث يستوي في
العلم بها الخاص والعام ، فتلك يكفر منكرها (1) بغير خلاف لما في إنكارها من
التكذيب الصريح لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(4/59)
وهنا أيضاً
يسكت " الناصب " عن الإدلاء بدلوه والتعقيب ، وكذا الوزن ، فلا يذكر
وزناً لهذا الكلام ، وكأنه انشغل عن ذلك فترك الوزن والميزان بين يدي القارئ ،
وانتقل ليتحدث عن رأى فضيلة " الدكتور " في " القدر " فيقول :
" ويؤمن الدكتور بالقدر ، وهي عبارة سخيفة كسائر عباراته ؛ فما بقى إلا أن
يقول : ويؤمن الدكتور بالله ، ويؤمن الدكتور بنبوة النبي محمد - صلى الله عليه
وسلم - إلى غير ذلك من العبارات التي يتساخف في سوقها ، وهنا نذكر "الناصب
" بما قاله سابقاً من أنه اتهم فضيلته بأنه "أشعري" قد ارتسم ذلك
المذهب في نفسه ؛ لأن العلم في الصغر كالنقش على الحجر كما زعم ، وهنا لم يذكر
شيئاً عن مخالفة " الدكتور " للأشاعرة في القدر ، وأن هذه تفيد أن
فضيلته إنما درس ليختار من بين ما يدرس لا ليحفظ ما درسه فقط، وقد ذكرنا من قبل أن
طريقة " الأزهر الشريف ليست قائمة على تبنى نظرية بعينها ، وإنما على تعليم
الطالب كيف يقدر على مناقشة الآراء والأفكار العقائدية المختلفة ولذا فقد درسوا في
ذلك عقائد متنوعة بين أشاعرة وماتريدية ، ومقارنة كذلك بين أهل المقالات المختلفة
مما يؤدي بالطالب إلى النضج العلمي والقدرة على مناقشة الآراء وتفنيد الحجج الباطلة
بأجوبة مقنعة خلافاً لما توهمه " الناصب " ؛ فظن أن فضيلة "الدكتور
" لقن مذهب "الأشاعرة" على أنه مذهب أهل السنة فقط ، وقد بينا فيما
سبق أن
____________________________________________
(1) ... الفتاوى (1/106) .
(4/60)
ما تم تدريسه
من تلك العقائد كان من مدرستين هما "الأشاعرة " ، و " الماتريدية
" وليس الأشاعرة وحدهم والدليل على أن تلك الدراسة لم تكن إلزامية لهم في
الاعتقاد ، هو من خالف ذلك من علماء الأزهر الأجلاء ، وهم كثيرون ، منهم الشيخ
محمد خليل هراس(1) ، وآخرون منهم فضيلة " الدكتور " حفظه الله ، فهؤلاء
وغيرهم كانوا ممن نصر طريقة السلف واتبع منهج أهل الحديث والمقصود من كلامنا هذا
تنبيه القارئ إلى ما وقع فيه " الناصب " من الافتراء والتهمة بدون بينة
صادقة لقوله .
ولقد حرر فضيلة " الدكتور " مذهب السلف في مسئلة القدر تحريراً بليغاً
في كتاب "التوحيد" المقرر على المعهد الديني الثانوي في قطر ثم طبع له
كتاب مستقل فأثبت فيه القدر على مذهب السلف كغيره من مسائل الاعتقاد التي حررها
جميعاً على مذهب السلف ورد فيها على المخالفين بما يطول بذكره هذا الكتاب .
ثم قال : " الناصب " بعد ذلك : إذاً فالدكتور يزعم أنه على عقيدة السلف
الصالح في الصفات وأنه متابع لابن تيمية في ذلك ، ولكننا نفاجأ أشد المفاجأة عندما
نكتشف مقدار الخلط الذي يعيش فيه "الدكتور" في هذه المسألة ، وهو
___________________________________________
(4/61)
(1) ... وله
شرح الواسطية ، ودعوة التوحيد ، وشرح نونية الإمام ابن القيم ، وابن تيمية السلفي
، وإن كان في هذا الكتاب قد أبدى نوع اعتراض على القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام (
قدم الجنس وحدوث الأفراد ) وقال ص122 : وهي قاعدة لا يطمئن إليها العقل كثيراً
فإذا فرض أن كل فرد حادث لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً ا0هـ وهو لا يوافق على هذا
الكلام بلا شك فإن هذه القاعدة هي المخلصة من مزالق الفلاسفة والمتكلمين وقد دعمها
الرازي وهو منهم في المباحث المشرقية (1/781) ، وفي المطالب العالية (4/275) ،
وشيخ الإسلام في منهاج السنة (1/426) ، وإنما ذكرت في ذلك في هراس خشية أن يخرجه الناصب
عن السلفية بجرة قلم وإن كنت أشك في فهمه للمسألة !! .
اعتقاده أن مذهب السلف الصالح في صفات الله عز وجل هو التفويض".
(4/62)
وهنا يتهم
" الناصب " فضيلة " الدكتور " بتهمة جديدة هي كونه قائلاً
بمقالة أهل التفويض ظناً منه بأنها طريقة السلف ، وما أوقعه في ذلك سوى أنه قد
ترسخ في نفسه عدم المبالاة بعلم فضيلته وقدمه الراسخ في الفهم حتى ظن أنه يقول
بلسانه ما لا يعيه قلبه ؛ فيخلط ما يقول بما لا ينبغي له قوله كشأن ضعاف الإدراك
وليس ذلك بالتأكيد شأن فضيلة " الدكتور " حفظه الله ، فعلام استدل
" الناصب " على دعواه ؟ استدل على ذلك بأن نقل كلاماً عن فضيلته جاء فيه
: أن التأويل يمكن أن يدخل في العقائد وأصول الدين كما يدخل في الفقه والفروع وهنا
وجد " الناصب " الفرصة سانحة حسب ما صور له فهمه الضعيف ، وقد نسى أن
اعتقاد السلف ليس يمنع التأويل بتاتاً ، وإنما يمنع التأويل المؤدي إلى التعطيل
فذلك الذي منع منه السلف (1) ، وأما التأويل الذي يكون فيه إعمال المعنى على النحو
الذي يقتضيه الكلام في اللسان مع إثبات الصفة من غير تعطيل لها ؛ فذلك بلا نكران
مذهب السلف ، ولكن " الناصب " ظن أن مذهب السلف لا تأويل فيه ألبته ،
وما حكاه عن " الشوكاني " في " إرشاد الفحول " الذي هو مأخوذ
من " البحر المحيط " للزركشي " (2) فهو اختصار له من دون أن يأتي
على ذكر ذلك ، فحكى فيه ثلاثة مذاهب للناس
_____________________________________________
(1) ولهذا قال ابن القيم في الصواعق (1/217) : والمقصود أن التاويل يتجاذبه أصلان
: التفسير والتحريف فتأويل التفسير هو الحق ، وتأويل التحريف هو الباطل ، فتأويل
التحريف إما بالطعن فيها (أي في النصوص) أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها
.
ثم قال : ونحن لا ننكر التأويل ، فنحن أسعد بتأويل التفسير وغيرنا أشقى بتأويل
التحريف منا ا 0 هـ .
(4/63)
فكلامه رحمه
الله بين في ان التأويل الممنوع هو المؤدي إلى التعطيل الذي سماه تحريفاً وقد قال
أيضاً (1/187) : وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة
ويطابقها هو التأويل الصحيح ا 0 هـ
وانظر تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي للعلامة أحمد بن عيسى
النجدي :109
البحر المحيط ، حرره د 0 عمر الأشقر ، مطبوعات أوقاف الكويت (3/439) .
في ذلك ، وهو على جهة الاختصار لمعظم الأقوال ، فذكر أن الأول من تلك المذاهب هو
إجراؤها على ظاهرها ولا يؤول شيء منها وهذا قول المشبهة ؛ فلما ذكرناه من ظنه أن
مذهب السلف لا يجري فيه أي : تأويل يقتضيه سياق الكلام من غير تعطيل لما تضمنه
السياق من إثبات صفة لله تعالى ، حكم بأن هذا قول السلف لا قول المشبهه ، وفيه
غفلة عن أصل المشبهة الذين جعلوا ما أثبته لله تعالى على ظاهره ولكن بما ينطوي على
التجسيم، وهذه الزيادة لم ترد في كلامهم كما لم ترد في هذا النقل ، وهو ما يؤكد أن
النقل كان عن "المشبهة" ، وليس عن "السلف" الذين يجرون الصفات
على ظاهرها دون تشبيه لها أو تمثيل ، وبلا تكييف لها ولا تعطيل ، فالإجراء على
الظاهر عندهم محمول على ما يليق بالله جل وعلا ؛ فهو القائل { ليس كمثله شيء } (1)
(4/64)
وأما الثاني :
الذي ذكر عنه أنه مذهب المفوضة فلم يكن صريحاً في مذهبهم؛ إذ أن مذهبهم أن لا معنى
ولا كيف والكلام المذكور ليس صريحاً في ذلك ، إذ أن ما جاء في أصحاب المذهب الثاني
أن لها تأويلاً، ولكنا نمسك عنه ، وهو ما يبين أن لها إما كيفية غير معلومة كما
قال الإمام " مالك " أو معنى غير معلوم كما قال المفوضة ، لذا إن كان
المقصود الإمساك عن الأولى كان هو مذهب أهل الحديث ، وإن كان عن الثانية فهو مذهب
أهل التفويض ، ولكن قوله عقب ذلك مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل يشهد
للمعنى الأول ؛ لما في المعنى الثاني من شبه التعطيل ، وما استدل به من قوله تعالى
{ وما يعلم تأويله إلا الله } وذلك ينطبق على الكيفية وأما المعنى فهو معلوم بلا
تشبيه ولا
____________________________
(الآية ، الشورى : (11) .
تعطيل فلا يندرج تحته ، ومن ثم فقد أجرى فضيلة " الدكتور " الكلام
المذكور على المعنى المحمود لا المذموم ، ولذا لم يجد غضاضة في تقبله .
وأما الاتجاه الثالث : أنها مؤولة ، ولم يذكر فيه نفي التشبيه والتعطيل التي ذكرها
في الثاني لما فيها من معنى التعطيل ، وهذا يؤكد لنا أن قول فضيلته عن الثاني أنه
قول " السلف " لما بيناه .
فماذا قال " الناصب " ؟ إنه أطلق العنان لتخيلاته وفهمه ليكون هو مصدر
الاتهام الوحيد لفضيلة " الدكتور " فانظر أيها القارئ العزيز إلى قوله :
" قلت : في هذا النقل عنه أخطاء عديدة وعظيمة ، فهو قد عد مذهب السلف وهو
إجراء تلك الصفات على حقيقتها وظواهرها دون التعرض لها بالتأويل مع تنزيه الله عن
مشابهة خلقه ، عد هذا المذهب قول " المشبهة "
(4/65)
فقد جمع
الناصب في هذه العبارة خليطاً من سوء الفهم والدس في الحديث بالباطل ليحصل نتيجة
باطلة مع الاتهام من غير سياق إثبات وبيان يدل على ذلك الاتهام ، فصدر كلامه
بأخطاء عديدة وعظيمة ثم راح يبينها أنه عد إجراء تلك الصفات على حقيقتها وظواهرها
دون التعرض لها بالتأويل ، ثم دس زيادة لم تكتب في الكلام وهي :"مع تنزيه
الله عن مشابهة خلقه"، إذ أن هذه لو كانت موجودة في العبارة المنقولة لحق له
أن يقول ذلك ولكنها لم تذكر ، فكان المتبادر أن ذلك خال عن التنزيه والحمل لما
يليق ، وذلك الخلو إنما هو عمل أهل التشبيه وشعارهم فنفاه " الناصب "
ظناً منه أن القارئ في غفلة عما دسه من
الكلام ليسلم له إطلاق السهام (1).
ثم يقول " الناصب " مبيناً المصائب الجسام التي وقع فيها فضيلة
"الدكتور" ثم عدَّ قول المفوضة - وهو شر الأقوال (2) كما سيأتي-هو قول
السلف"
وقد بينا أن ذلك بناه على فهمه نفي التأويل أنه لكل أنواع التأويل ، لا ما كان
منها لا يعطل الصفات ، ويقتضيه السياق من المعنى الصحيح الجاري في عرف أهل اللسان
، وهو ما يسميه البعض تفسيراً لا تأويلاً .
ويقول عن هذا إنه من عظيم ما وقع فيه " القرضاوي " ونقول له بل هو من
عظيم ما يدل على شدة غفلتك وقلة انتباهك بالإضافة طبعاً لسود أدبك مع هذا العالم
الجليل .
ثم ذكر " الناصب " أن الذي أوقع الدكتور في هذا المزلق أمران :
الأول : من توهمه أن فضيلة " الدكتور " متأثر بما غرس في نفسه من مذهب
"الأشعرية" جعله " مخلطاً " بين مذهب "الأشاعرة"
،و"أهل السنة" .
وأما الأمر الثاني في نظر " الناصب " الذي جعله يقع في هذا الخطأ الشنيع
، وانظر كيف يأتي باللفظ "الشنيع " لكى يحدث النفرة في النفس من فضيلته
، وكما رأيت أن الشناعة تكمن في تصور "الناصب" فقط ، وفي فهمه الذي هيأ
_____________________________
(4/66)
ومما يؤكد ما
قلناه إن شيخ الإسلام ذكر في الحموية ان هناك قسمين قالوا : تجرى آيات الصفات على
ظواهرها أحدهما المشبهة الذين يجعلون الظاهر من جنس صفات المخلوقين ، والثاني من
يجريها عبلى ظاهرها اللائق بجلال الله وهو مذهب السلف .
انظر الحموية ص539 ، تحقيق محمد التويجري .
(2) ... عده " الناصب " شر الأقوال مع أن شيخ الإسلام حكم بأنه من شر
أقوال أهل البدع والإلحاد وقد نقله الناصب أيضاً والفرق بينهما بين ، فسبحان موزع
الأفهام ! ولعل الناصب يظن أنه أفهم من شيخ الإسلام وأكثر إدراكاً .
له أن السبب الثاني هو متابعة فضيلة الدكتور لإمامه "حسن البنا "، الذي
ادعى عليه أنه أيضاً يقول : إن مذهب السلف هو التفويض جرياً على القسمة التي ذكرها
" الأشاعرة " عن طريقة أهل السنة .
فقد جعل " الناصب "التهمة التي ألقاها على الشيخ " حسن البنا
" لتكون سبيله للوصول إلى إلصاقها بفضيلة الدكتور فيحكى عنه عدداً من
العبارات بخط بارز وهي تمثل عناصر الاتهام للشيخ " حسن البنا " في
رسالته (العقائد ) ، وتلك الأقوال مورد الاتهام تتمثل في قوله : " وكل ذلك
بمعانٍ لا ندركها " وذلك عن الإيمان بما ورد في الآيات والأحاديث من ذكر اليد
، والعين ، والاستواء ، والضحك ، والتعجب ، وغير ذلك .
(4/67)
ثم ينقل عنه
بعد ذلك بخط بارز قوله : " ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه
المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع " وهنا ينتهي الخط المميز
، وبعده يقول الشيخ " حسن البنا" : حسماً لمادة التأويل والتعطيل ، وتلك
قد بينا مراراً أن " الناصب " لا يقف عندها ، ولا يعيرها التفاتاً وفيها
الدليل الواضح على عدم إرادته "التفويض " المذموم " ؛ إذ أنه فيه
تعطيل المعنى" ، فالذي أراده " البنا " من التفويض ليس إلا "
الكيفية " والذي أراده من كونها من المتشابه ليس إلا " الكيفية " ،
وهي المعنى الذي لا ندركه لا معاني تلك الصفات (1) إذ أنها معلومة من حيث اللسان
ولكنها مجهولة من حيث كيفية نسبتها إلى الرحمن ، وفي هذا فقد ورد على لسان الإمام
____________________________________________
(1) ... وبدليل قوله في رسائله ص412 ونترك لله تبارك وتعالى الإحاطة بعلمها ا 0هـ
ولا يمكن لأحد ان يدعي أن الإحاطة بالصفات في مقدور البشر فثبت أن مراد البنا هو
نفي الكيفية التي لا يحيط بها أحد .
(4/68)
أحمد رضي الله
عنه أنه قال في " النزول " ، و " الرؤية " وما أشبه ذلك من
الأحاديث :" نؤمن بها ونصدق بها لا كيف ولا معنى ، ولا نرد شيئاً منها "
فقوله هنا لا معنى ليس المراد منه لا معنى للصفة المذكورة التي نؤمن بها ، وإنما
لا معنى للكيفية في أذهاننا ؛ فهي نفي لمعاني التشبيه ، وليس لمعنى للصفة ، وكذلك
ما جاء على لسان الشيخ " حسن البنا " بمعانٍ لا ندركها أي بمعانٍ لا
ندرك كيفيتها ؛ إذ أن الإدراك هنا ليس موجهاً إلا للكيفية ، ولذا لم يرد عنه في
موضع آخر ما هو صريح في التفويض المذموم ، وكان دائماً يرى صدر الإسلام في هذه
المسائل واسعاً ولا ينبغي التنازع في هذه المسائل ، والحكم على المخالفين فيها
أحكاماً غليظة ، فمن هداه الله لهذا المنهج فليحمد الله ولا يصلي غيره ناراً حامية
لمخالفته فيما تأوله من الصفات التي لم يهتد فيها لمنهج السلف رضوان الله عليهم
على وجهه .
وقد ذكرنا أن نفي الشيخ " حسن البنا " - رحمه الله - للتعطيل يؤكد أنه
لا يعني التفويض المذموم لما ذكرنا من أنه يشتمل على تعطيل المعنى ، ولكن "
الناصب " يغفل عن ذلك ، ويطيل في شرحه للفرق بين تفويض الكيفية التي هي طريقة
السلف وتفويض المعنى الذي هو تجهيل كما في قول " شيخ الإسلام"، وليس
تفويضاً ، وهو يعتقد بذلك أنه يدرك فرقاً قل من يدركه مثله ، وهذا هو العُجْبُ
الذي جعل " الناصب " لا يعرف ما يصيب وما لا يصيب ؛ وليس ذلك عجيباً على
من جعل نفسه وزاناً لفضلاء الناس ، وهو لا وزن له ، وبعد ان نقل عن " شيخ الإسلام
" ما فيه ذم للمفوضة هؤلاء ، وكأنه بذلك يسقي هذا الذم لفضيلة " الدكتور
" وأضاف بعد ذلك عدداً من الرسائل للاطلاع
(4/69)
على مذهب
المفوضة لا نرى داعياً لإعادة ذكرها (1)،وهذا كله خروج منه عن موضوع الكتاب ، فترك
الميزان واشتغل بنصح القارئ في التعرف على كتب تفصل في "مذهب المفوضة "
، وزاد من فلتاته السخيفة بقوله :" فليت الدكتور يطلع على هذه الرسائل وما
شابهها لكي يتبرأ من نسبة هذا القول الشنيع للسلف الصالح.
وفضيلة الدكتور لم ينسب ذلك للسلف ؛ بل يصرح بخلاف ذلك ؛ وفي كتاب التوحيد الذي
ألفه لمدارس"قطر" قال تحت عنوان ( تصحيح لمفهوم ) ما نصه : من الخطأ
الذي وقع فيه بعض من لا يدقق الفهم ، أن السلف يتلقون ما ورد من الكتاب والسنة
بالقبول مقتصرين على مجرد اللفظ دون فهم لمعناه. وليس ذلك مذهب السلف والأئمة كما
بينه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في رسالته "الحموية الكبرى" .
وذكر أن من ظن أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه
لذلك . فقد كذب على طريقتهم .
والحق أن "السلف" يثبتون معناها ويعتقدونها كما جاءت من غير تكييف(2).
فأي كلام أصرح من هذا في تبني فضيلة "الدكتور" لمذهب السلف وعدم القول
بالتفويض ، ولكن عين الناصب تريه دائماً ما يشتهيه لا ما هو موجود بالفعل.
____________________________________________
ونهديه كتاباً لم يذكره لكي يضعه سلسلة كتب التفويض وهو : عقيدة ابن كثير بين
التفويض والتأويل لعبد الآخر الغنيمي ، وتنبيه الخلف الحاضر.
الجزء الأول للثاني الثانوي :114.
وقد أخذوا على الإمام " البنا " انه يقول بالتفويض المذموم من مجرد
عبارات قد وردت عنده ونحن سنذكرها مع بيان المراد منها وأن كلَّ عبارة قد قال
بمثلها السلف الكرام ومع هذا لم يحمل كلامهم على التفويض فمن ذلك :
التشابه حيث قال في الأصول العشرين : وآيات الصفات وما يلحق بذلك من التشابه نؤمن
بها .
فقالوا إن آيات الصفات ليست من المتشابه بل من المحكم لأن معناه معلوم ، والجواب :
(4/70)
إن آيات
الصفات لها جانبان أحدهما : محكم وهو : أصل المعنى (1) ، والثاني : متشابه،وهو
الكيفية فإطلاق أحدهما ينصرف إلى المناسب منهما والدليل على ذلك أن لفظ التشابه قد
ورد على لسان الإمام "أحمد" فيما رواه عنه "أحمد بن جعفر الفارسي
الاصطخري" أن الإمام "أحمد" قال : فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول
الله { كل شيء هالك إلا وجهه } ، وبنحو هذا من متشابه القرآن(2)
وقال الإمام أحمد أيضاً : إن احتج مبتدع ومخالف بقول الله عز وجل { ونحن أقرب إليه
من حبل الوريد } (3) وبقوله { وهو معكم أينما كنتم } (4)
_____________________________________________
التعبير بأصل المعنى أولى من التعبير بالمعنى الذي قد يفهم منه الذي للمخلوق مع أن
المقرر أن المعاني كليات في الأذهان لا وجود لها في الأعيان إلا بالإضافة ، وقد
جرى ابن أبي العز على هذا التعبير أي أصل المعنى كما في شرح الطحاوية : 76، ط .
بشير عيون .
طبقات الحنابلة (1/28) ، والعقيدة للإمام أحمد برواية الخلال عن الاصطخرى :78
سورة ق آيه : 16 .
سورة الحديد آيه : 4 .
وبقوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم – إلى قوله هو معهم أينما كانوا }
(1) ونحو هذا من متشابه القرآن (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات فهذا من تأويل المتشابه الذي
لا يعلمه إلا الله (3) ، فنفى "شيخ الإسلام" لعدم العلم بحقيقة الأسماء
والصفات مقصوده الكيفية بلا شك ، وهو مقصوده من تعبيره بالمتشابه فيها .
وذكر "ابن الحنبلي" انه روى عن "علي" رضي الله عنه أنه قال :
نهانا الله عن تفسير متشابه القرآن ، وعن تفسير بعض الأحاديث المدونة عن رسول الله
التي سبيلها كسبيل متشابه القرآن وأمرنا بالإيمان بجملتها ، والإمساك عن تفسيرها ا
0 هـ وقد جاء به "ابن الحنبلي" في سياق كلامه عن الصفات ، ونقل كذلك عن
جعفر الصادق (4) .
(4/71)
ان
"البنا" قد صرح بالتفويض والسكوت في رسالة "العقائد" حيث قال:
________________
سورة المجادلة آيه : 7 .
طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/24) .
الفتاوى (3/65) .
فهذا نص كلام شيخ الإسلام ، والعجيب أن الشيخ حمد بن ناصر قد قال كما في الدرر
السنية (3/76): ومن ظن أن نصوص الصفات لا يعقل معناها وأنهم لم يكونوا يعرفون
حقائق الأسماء والصفات فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف ا 0 هـ وعلى كلامه
يكون شيخ الإسلام ابن تيمية جاهلاً بعقائد السلف ، لكن نقول إن الجمع بين
العبارتين بحمل كلام شيخ الإسلام على الكيفية وكلام الآخر على المعنى ، ويمثل هذا
الجمع فلنصنع مع البنا لمن رام العدل وابتغى الإنصاف .
(4) ... ابن الحنبلي والرسالة الواضحة (2/621) .
ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى
أسلم وأولى بالاتباع حسماً لمادة التأويل والتعطيل ا 0 هـ .
والجواب على ذلك هو أنه ورد السكوت في لسان السلف ومنها :
1- ما رواه اللالكائي بسنده عن أبي عبيد ، القاسم بن سلام – رحمه الله – وقد سأل
عن أحاديث الصفات قال : ( ما أدركنا أحداً يفسر منها شيئاً ، ونحن لا نفسر منها
شيئاً ، نصدق بها ونسكت )(1)
2-وما رواه أيضاً عن محمد بن الحسن –كما تقدم –وفيه :(فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ،
ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا) (2)
جـ- ... وروى أبو القاسم الأصبهاني بسنده عن أشهب بن عبد العزيز قال : (سمعت مالك
بن أنس يقول : إياكم والبدع . فقيل : يا أبا عبد الله ، وما
البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته
،ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان )(3).
أما "التفويض" فقد ورد في لسان السلف أيضاً ومن سلك سبيلهم،ومن ذلك:
(4/72)
قول الإمام
"أبي محمد الحسن بن علي البربهاري –" رحمه الله - : (وكل ما سمعت من
الآثار شيئاً مما لم يبلغه عقلك – وذكر بعض أحاديث
__________________
شرح أصول أهل السنة (3/526) .
المرجع السابق (3/432) .
(3) ... حجة في بيان المحجة (1/104) .
الصفات – فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض والرضا ، ولا تفسر شيئاً من هذه بهواك
، (1) وقال في موضع آخر : ( وجميع ما وصفت لك في هذا الكتاب ، فهو عن الله – تعالى
- ، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن أصحابه ، وعن التابعين ، وعن القرن
الثالث إلى القرن الرابع . فاتق الله يا عبدالله ، وعليك بالتصديق والتسليم
والتفويض والرضى بما في هذا الكتاب (2) .
ب- ... قال الموفق بن قدامة المقدسي – رحمه الله – في وصف طريقة الراسخين في العلم
: (فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المشابه ، مفوضين
إلى الله – تعالى – بقولهم: { أمنا به كل من عند ربنا } تاركين لابتغاء تأويله
)(3) . ثم قال (إن قولهم : { أمنا به كل من عند ربنا } كلام يشعر بالتفويض
والتسليم لما لم يعلموه ، لعلمهم بأنه من عند ربهم كما أن المحكم المعلوم معناه من
عنده ) (4) .
جـ- ... قال الإمام "الذهبي" :
فقولنا في ذلك وبابه : الإقرار ، والإمرار ، وتفويض معناه إلى قائله الصادق
المعصوم " اهـ (5).
_______________________________________
اشرح السنة للبربهاري : 31/32 .
المصدر السابق : 47 .
ذم التأويل : 38 .
المرجع السابق : 38 .
(5) ... التفويض لأحمد القاضي : 505 .
فكل هذه العبارات قد وردت على لسان من سلك مسلك السلف وفسرت بأن مرادهم تفويض
الكيفية فلماذا لا يقال مع "البنا" مثل ما قيل عن الآخرين ؟ مع أن مع
"البنا" من القرائن ما يشهد أيضاً لمذهب السلف منها:
(4/73)
أنه قال في
خاتمة الكلام : حسماً لمادة التأويل والتعطيل ، وقد بينا أن التفويض يلزم منه
التعطيل (1) و" البنا" قد نفاه فلا يكون قائلاً بتفويض المعنى ، فضلاً
عن أنه يقرر أنه مع معتقد السلف .
قالوا إن " البنا قد ترك تفسيرها في قوله :
"ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى" .
فالجواب أن هذا محمول على الكيفية أيضاً وقد ورد في لسان السلف من ترك التفسير
الشيء الكثير وحمل على نفي الكيفية ومن ذلك :
ما قاله "محمد بن الحسن": فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان
عليه النبي (2) .
وقال : نؤمن بها ولا نفسرها.
قال "الترمذي" :
والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل "سفيان الثوري" ،
و"مالك ابن _________________________________
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/432) .
المرجع السابق (3/433) .
أنس" ، و"ابن المبارك" ، و"ابن عيينة" ،
و"وكيع" وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ، ثم قالوا : تروى هذه الأحاديث
ونؤمن بها ، ولا يقال : كيف ؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء
كما جاءت ويُؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال : كيف ، وهذا أمر أهل العلم الذي
اختاروه وذهبوا إليه (1) .
قالوا : إن " البنا " قد نفى المعاني حيث قال : كل ذلك بمعان لا ندركها
، ونترك لله تبارك وتعالى الإحاطة بعلمها .
والجواب :
أ ... أن البنا قد نفى الإحاطة بالصفات ولم ينف العلم بمعنى الصفات فدل ذلك على أن
مراده الكيفية لأنها هي التي لا يمكن أن تكون في مقدور البشر الإحاطة بها .
ب- ولو كان المقصود عدم علم أصل المعنى لقال : بمعان لا نعلمها ولهذا كان من أدلة
أهل السنة في ثبوت الرؤية لله عز وجل قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } ؛ والإدراك
أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم كما هو معلوم ، فنفي "
البنا " الإحاطة بالصفات لا يلزم منه نفيه لمعاني الصفات .
_________________
سنن الترمذي (4/318) ط . د بشار عواد .
(4/74)
ثم إنه قد ورد
على لسان من سلك مسلك السلف هذه العبارات منها :
أ- قول الإمام أحمد : لا كيف ولا معنى.
ب- ... ما حكاه الخطابي عن " أبي عبيد " أنه قال : نحن نروي هذه
الأحاديث ولا نريغ لها المعاني .
جـ- ... قول "ابن قدامة" : لا كيف ولا معنى (1) .
د _ ... قول "ابن قدامة" أيضاً وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً ، وترك
التفويض لمعناه ، ونردُّ علمه إلى قائله (2) .
هـ - ... قول الشيخ "عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ": نقر آيات
الصفات وأحاديثها على ظاهرها ، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله(3). ففي
عبارته تصريح بأنه يكل المعنى إلى الله .
وقوله مع اعتقاد حقائقها تكون جملة معترضة فهو حينئذ يعتقد حقيقتها ويكون بذلك قد
وافق عبارة الشيخ حمد بن ناصر في ما نقلناه سابقاً ويشكل عليهم ما قاله "شيخ
الإسلام" أن حقائق الأسماء والصفات من تأويل المتشابه .
فإن قيل : إن المراد من كلامهما اعتقاد المعنى ؛ فالجواب أن تصريح الشيخ عبدالله
بأنه نكل معناه إلى الله يخالف ذلك ، ولا محيد من اللجوء لتأويل كلامه حتى يوافق
معتقد السلف .
______________________________
ذم التأويل "2"
لمعة الاعتقاد مع شرح فضيلة الشيخ محمد الصالح :37 .
الدرر السنية (1/222) .
والمقصود إن العبارات التي وردت عن الإمام " البنا " قد قال بمثلها أجلة
من أئمة السلف ، وأخذ العلماء يفسرونها بما يوافق معتقد السلف فلماذا لم يسلكوا
هذا المسلك مع " البنا " أيضاً طرداً للقاعدة ، وتحقيقاً للعدل والإنصاف
الذي أمرنا الله به .
وبهذا البيان نرجو أن نكون قد وفقنا في دفع تلك التهمة عن "البنا"-رحمه
الله-
(4/75)
ثم إنه انتقل
إلى مسألة العلو حيث احتفل فيها بفضيلة " الدكتور " من أول حديثه حيث
قال : "القرضاوي ، وصفة العلو : تحير القرضاوي في هذه الصفة كثيراً "
فهكذا بدأ افتتاحية المسألة ، والسبب في ذلك يرجعه إلى "النشأة
الأشعرية" على حسب فهمه فيدعي أن فضيلته قام بتأويل صفة " العلو "
بطريقة غامضة ، فلعله صادق أنها غامضة بالنسبة له ، أو لأنه لم يستطع أن يدمغه
فيها بالتأويل بسهولة فراح يلتمس لنفسه عذراً ؛ فقال عن فضيلته وتصوره لمسألة
العلو أنه قال : " اعتقاد المسلم في الله يقوم على حقيقتين " ، ثم ذكر
هاتين الحقيقتين اللتين يفهم المسلم من خلالهما صفة العلو لله تعالى ، فقال عن
أولاهما: أنه تعالى فوق عباده علواً ، وقهراً ، وسلطاناً ، وتصرفاً وقال عن
ثانيهما : أنه تعالى مع عظمته وعلو شأنه قريب من خلقه ، فجمع بين العظمة والعلو ،
وبين القرب والدنو في آية واحدة هي قوله تعالى : { هو الذي خلق السموات والأرض في
ستة أيام ، ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها وما ينزل من
السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } (1)
__________________________________________
(1) الآية ، سورة الحديد : ( 4 )
ثم قال فضيلته بعد ذلك ؛ وبهاتين الحقيقتين أنه تعالى فوق عباده قهراً وعلواً
وسلطاناً ، وأنه قريب منهم ، بل معهم علماً وإحاطة ، ورعاية وإجابة .
(4/76)
فماذا فهم
" الناصب " من مقالة " الدكتور " هذه والتي لخصت مذهب السلف
تلخيصاً بيناً ، وكيف بدا في هذه المقالة فضيلة " الدكتور " حائراً من
وجهة نظره ، هذا ما نسى " الناصب " أن يفسره ، فهو لم يثبت تحيره قليلاً
ولا كثيراً، وأخطأ فهم كلام فضيلته ، فلننظر كيف قال "الناصب " عن
فضيلته . قال : " قلت ، من هذا النقل عن الدكتور يتبين لنا أنه لا يثبت صفة
العلو لله سبحانه وتعالى كما أثبتها أئمة السلف " ثم ذكر أن السلف يثبتون
العلو لله تعالى بقسميه ، وهما علو الذات ، وعلو الصفة .
ونقول له إن فضيلته في الحقيقة الأولى التي ذكرها جمع هذين القسمين ، وفي الحقيقة
الثانية زاد معنى لطيفاً وهو أن علو الله سبحانه لا يتناقض مع قربه من خلقه
ورعايته وإجابته لهم ، وهو معنى قد ذكره شيخ الإسلام والإمام " ابن القيم
" أيضاً ؛ فأما الحقيقة الأولى التي ذكرها فضيلته فليس كما ظن "
الناصب" أنها لم تثبت فوقية العلو لله تعالى بل إن في كلامه ذلك غفلة كبيرة
لا ينتهي منها العجب ؛ إذ أن فضيلته يثبت أنه تعالى فوق عباده : قهراً ، وعلواً ،
وسلطاناً ، وذاك " الناصب " يقول : لم يثبت صفة العلو كما أثبتها السلف
!!
(4/77)
وهو في ظنه أن
هذه هي الفوقية التي يثبتها المتأولة ، بينما المتأولة النفاة يثبتون فوقية ،
القهر والشرف والسلطان ، ولا يثبتون فوقية العلو التي أثبتها فضيلته كأهل الحديث
سواءً فأثبت العلو لله وكل معاني العلو له ولم يقصرها على علو المعاني فقط ، ولم
يذكر بذاته ، وهو المراد من قوله علواً تأسياً في ذلك بالكتاب العزيز ، وبالسنة
المطهرة ، وأقوال السلف حيث لم يكن منهم إثبات هذه اللفظة، وإن كان معناها محققاً
(1) ، ولكن "الناصب " ظن أن عدم ذكر بذاته يعني نفى العلو له سبحانه ،
وهذه جناية منه على فضيلته ، قد جناها عليه سوء فهمه، وعدم تمعنه في ألفاظ فضيلته
، وقد أبان ذلك فضيلته في مؤلفه في "العقائد" المقرر على طلاب
"المعهد الديني الثانوي "، وهو يتكلم عن استوائه على العرش ، حيث قال
فضيلته ما نصه :
" وأما ما يقوله أهل التعطيل من إيراد اللوازم الفاسدة على تقرير الاستواء ؛
فهى لا تلزمنا ؛ لأننا لا نقول بأن فوقيته على العرش كفوقية المخلوق على المخلوق ،
وأما ما يحاولون به صرف هذه الآيات الصريحة عن ظواهرها بالتأويلات الفاسدة التي
تدل على حيرتهم واضطرابهم كتفسيرهم "استوى" بمعنى "استولى" أو
حملهم "على" على معنى " إلى " ، و" استوى " بمعنى
" قصد " فكله تغيير في وجه الحق ، وماذا يريد أن يقول المعطلة ؟
أيريدون أن يقولوا : أن ليس في السماء رب يقصد ؟ ولا فوق العرش إله يعبد ؟ فأين
يكون إذن ؟ولعلهم يعجبون حين نسأل نحن عنه بأين ؟ إن أكمل الخلق
_______________
(1) ... قال الذهبي كما في مختصر العلو : في ترجمة ابن أبي زيد القيرواني : وقد
نقموا عليه في قوله (بذاته ) فليته تركها ا 0هـ
والسكوت عن لفظة ذاته هو الذي قرره ابن عبدالبر ، وقد نقل ابن القيم ثلاثة أقوال
في المسألة ثالثها السكوت .
ومن يتتبع تفسير السعدي لم يجده يذكر هذه اللفظة في قوله تعالى { الرحمن على العرش
استوى } مع ورودها في سبعة مواضع في القرآن .
(4/78)
وقال الحافظ
ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة (3/28) :
فإن الأنصاري التيمي وأمثالهما يقدحون بأدنى شيء ينكرونه من مواضع النزاع ، كما
هجر التيمي عبدالجليل الحافظ على قوله " ينزل بالذات " وفي في الحقيقة
يُوافقه على اعتقاده ، لكن أنكر إطلاق اللفظ لعدم الأثر به .
وأعلمهم .بربهم "–صلى الله عليه وسلم- " قد سأل عنه بأين ؟ حين قال
للجارية : أين الله ؟
ورضى جوابها حين قالت في السماء " (1)
إن قصارى ما يقوله المخالفون في هذا الباب إن الله تعالى كان ولا مكان ، ثم خلق
المكان ، وهو الآن على ما كان قبل خلق المكان ؛ فماذا يريدون بالمكان الذي كان ولم
يكن ؟ هل يعنون به الأمكنة الوجودية التي هي داخل محيط العالم ؟ فهذه أمكنة حادثة
، ونحن لا نقول بوجود الله في شيء منها ؛ إذ لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته
.
وأما إذا أريد لها المكان العدمي ، الذي هو خلاء محض لا وجود فيه ؛ فهذا لا يقال :
إنه لم يكن ثم خلق إذ لا يتعلق به الخلق ؛ لأنه أمر عدمي .
فإذا قيل : إن الله في مكان بهذا المعنى كما دلت عليه الآيات والأحاديث فأي محذور
في هذا !! " (2) .
وبهذا كله يتضح أن قول فضيلته (علواً ) هو إثبات علو الجهة (3) ، وهذا ما كتبه
وعلمه لتلاميذه صغاراً وكباراً وهو مذهب أهل الحديث من أهل السنة والجماعة ،ولكن
" الناصب "لا يعلم".
______________________________
(1) الحديث : رواه مسلم وغيره .
(2) كتاب التوحيد ، الجزء الأول ، المقرر على الصف الثاني الثانوي العهد الثانوي :
( 106-108)
(3) من غير إحاطة به سبحانه وتعالى بل هو بكل شيء محيط ، وقد قال الجيلاني في
الغنية ص54 : وسبحانه بجهة العلو مستو على العرش ا 0هـ .
وانظر تلخيص الحموية لفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين ص68 .
(4/79)
ثم ينتقل
" الناصب " إلى مسألة أخرى هي من جملة المسائل الإفلاسية التي سعى في
تجميعها ليكثر عدد المسائل التي ينتقد فيها من دون أن يكون متبصراً بما ينتقد ،
وهذه المرة يقول : " الناصب " : " هل يوصف الله بالتحيز ؟ ، يرى
الدكتور أن الله لا يوصف بالتحيز " ، ونقل في ذلك عبارة عن فضيلته وهو يشرح
ما امتازت به العقيدة الإسلامية من خلوها من التشبيه والتجسيم الذي وقعت فيه عقائد
أخرى كاليهودية التي جعلت الخالق كالمخلوق ووصفته بصفاته من النوم والتعب والراحة
، والتحيز ،فأخذ " الناصب " ومن دون وعي منه عبارة فضيلته عن وصف اليهود
لله بالتحيز وما فيه من التشبيه حتى انتشى وفتحت شهيته للتعليق فماذا قال : انظر
أيها القارئ العزيز إلى قوله : " قلت : هذا الوصف " التحيز " لم
يرد في الكتاب أو السنة ؛ فلذلك نحن نتوقف فيه وفي ما شابهه من مصطلحات فلا نثبتها
ولا ننفيها حتى نستفسر عنها " وذلك هو ما قاله شيخ الإسلام " ابن تيمية
" في ما يتنازع فيه أهل الكلام والفلسفة ، فقبل أن نجيبهم عما تنازعوا فيه
نستفسر أولاً عن المعنى الذي قصدوه لما في ذلك من الاحتياط من رد معنى صحيح أو
قبول معنى فاسد ، وهذا الكلام لا يمنع أن تجيب أولاً فثبت أو تنفي حسب المعنى الذي
يليق بكل منهما عند تفصيلك للكلام ، فنقول مبادراً إن قصدتم به كذا فصحيح ، ولكن
لا يطلق لعدم وروده، وإن قصدتم كذا فباطل لاستحالته على الله جل وعلا ، فهذا مما
لا ريب في أنه أيضا موافق لكلام شيخ الإسلام " ابن تيمية " فإذا استقر
عرف الناس على معنى ؛ فإنه أيضاً لا يمنع عن استعمال الكلمة في المعنى المشتهر أو
الذي اصطلح عليه لكونه في الغالب هو المراد ، ومن تكلم بخلافه كان محتاجاً لبيان
مقصوده وكان عليه ذلك بالعبء .
(4/80)
ومن هنا كان
نفي فضيلة الدكتور لفظ التحيز لما عرف واشتهر هو ما شغل فراغاً محدوداً فيحاط به ؛
فلم يكن فضيلته يخاطب أناساً لهم مصطلح متردد فيه في معنى "التحيز "
وإنما يتكلم عن وصف يهود بالتحيز ، وقد كان وصفهم له واضحاً في إرادة معنى التشبيه
و الجسمية في كل ما وصفوه به ، ومن ثم كان تأجيل الحكم انتظاراً لسؤالهم عن مرادهم
لا معنى له ، لكون ذلك الحكم معلوماً أساساً له ؛ فلا فائدة من التوقف إذن .
وبهذا البيان يظهر تهافت ما قاله " الناصب " حول فضيلته ، وانعكس ما
يخفيه في نفسه على فضيلته في مثل هذه العثرات التي لا تنتهي فهو ينتقل من عثرةٍ
إلى عثرة.
ومع عثرة جديدة للناصب وهو يوقف فضيلة الدكتور عند تهمة جديدة ،فانظروا ما هي ؟
يقول " الناصب " : " الدكتور يتأول حديث الهرولة ؛ فيذكر عن فضيلته
في رده على ما شغب به المعتزلة على أهل الحديث من روايتهم الحديث :" إن تقرب
عبدى إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً ، وإن
أتاني يمشي أتيته هرولة " (1)
فرد فضيلة " الدكتور " على هؤلاء المعتزلة بنفي التشبيه والتمثيل وهو ما
رد به "ابن قتيبة " بقوله : " إن هذا تمثيل وتشبيه " وإنما
أراد من أتاني مسرعاً بالطاعة، أتيته بالثواب أسرع من إتيانه ؛ فكنى عن ذلك بالمشي
والهرولة "
_________________________
الحديث متفق عليه .
(4/81)
إذن فالذي كان
من فضيلة " الدكتور " إنما هو رد شغب المعتزلة الذين اقتصروا في فهم
الحديث على ظاهره وظاهره عندهم التشبيه لعدم علمهم بقاعدة السلف، والتي تحمل ما
جاء عن الله على الوجه اللائق بجلاله على مشابهة خلقه تعالى عن ذلك علواً كبيراً ،
فكان نتيجة فهم المعتزلة السيئ أن أنكروا على أهل الحديث روايتهم له وليس في
الحديث ما يستحق لأجله أن يرد فهو من حيث السند صحيح ؛ فقد رواه الشيخان وغيرهما ،
وأما من حيث المعنى فمعناه مقبول إذ أنه يدل على أن الله تعالى يسرع لعبده بثوابه
إسراعاً أكثر من إسراعه في طاعته ؛ فكما أن المقصود من قوله :
(4/82)
" أتأنى
يمشى " أي : أتى في طاعتي على طريقة ما ، فكذا كان إتيان الرب جل وعلا
بمثوبته أوفر وبطريقة أكثر مما فعله العبد ، فكان التعبير بالمشي والهرولة ، فهذا
هو الذي ذكره فضيلة الدكتور عن " ابن قتيبة "في بيان معنى الحديث الذي
أنكره المعتزلة على أهل الحديث وحتى الان فإن فضيلة " الدكتور " لم يخرج
عن كلام السلف في شيء فهكذا أثبت المعنى الوارد في الحديث ، ولم يعطل الصفة
المذكورة ، وإنما فقط نفى تشبيهها بحركة المخلوق ، وهو مذهب السلف وليس نفى الصفة
على الوجه اللائق بجلاله وذلك أنه لا يعنى إثبات المعنى المجازى نفي حقيقة الأصل
كما هو معلوم على طريقة السلف فإن قول العرب لفلان عندي يد تعنى نعمة له عنده ،
ولكن هذا لا ينفي أن للإنسان يداً ؛ فكذا يكون إثبات المعنى المقصود من الحديث على
النحو الذي ذكرناه لا يلزم منه نفي صفة الهرولة؛إذ أنها لو لم تكن له لما ساغ
الإتيان بها في حقه ، ويدلك على ذلك أن فضيلته قد ذكر في كتب التوحيد التي تدرس
بالمعهد الديني الثانوي بالدوحة وهي من تأليف فضيلته وقد شاركه فيها زملاء له ،
فكان أن ذكر صفتي الإتيان والمجيء لله تعالى ، وهو ما يؤكد نزعته الثابتة لموافقة
طريقة السلف حيث قال في قوله تعالى : { هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ظلل من
الغمام والملائكة وقضى الأمر } ، وقوله تعالى { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة
أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } ، وقوله تعالى { وجاء ربك والملك صفاً صفاً }
.
قال في هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل له سبحانه هما صفتا الإتيان والمجيء
لله عز وجل ، والذي علي أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك على حقيقته والابتعاد عن
التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل ، والآيات السابقة صريحة في بابها لا
تقبل شيئاً من تلك التأويلات .
(4/83)
ثم قال فضيلته
بعد أن ناقش أهل التأويل مناقشة عميقة : " على أنه لا يلزم من المجيء و
الإتيان شغل مكان وتفريغ (1) مكان ولا الهبوط أو والذي يجب القطع به أن الله ليس
كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه . فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من
الأشياء فهو مخطىء قطعاً ، كمن قال أنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من
السطح إلى أسفل الدار ، كقول من يقول : أنه يخلو منه العرش ؛ فيكون نزوله تفريغاً
لمكان وشغلاً لآخر ؛ فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه ) كما تقدم . وكذلك قال أبو
يعلى في إبطال التأويلات :260 . الانتقال " ثم قال مختتماً المسألة : "
فهذه كلها أفعال له سبحانه وتعالى على الحقيقة ، ودعوى المجاز تعطيل له عن فعله ،
واعتقاد أن ذلك المجيء _________________
(1) ... وقال شيخ الإسلام في الفتاوى (5/578) :
والإتيان من جنس مجيء المخلوقين وإتيانهم نزوع إلى التشبيه يفضي إلى الإنكار
والتعطيل"(1)
ولا أدري بعد ذلك ماذا أقول لـ " الناصب " هل ما زالت الفكرة التي رسخها
ابتداءً عن فضيلة " الدكتور " راسخة في ذهنه أم أنها تحركت في اتجاه ما
.
ثم إن " الناصب " نسى أن فضيلة " الدكتور " إنما ذكر تفسير
" ابن قتيبة " الذي رد به هجوم المعتزلة وإنكارهم على أهل الحديث روايته
، .
ويقول " ابن قتيبة " في جميع الصفات المثبتة لله تعالى : " ونحن
نؤمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا بحد " فالناصب المسكين فهم أن
حكاية المعنى المستفاد من الحديث الذي هو تأويل المعنى يعد في حد ذاته تعطيلاً ،
وقد ذكر ذلك المعنى الشيخ " ابن باز " رحمه الله حيث قال وقد نقله عنه
" الناصب " وهذا الحديث الصحيح دل على عظيم فضل الله عز وجل وانه بالخير
إلى عباده أجود ،فهو أسرع إليهم بالخير والكرم والجود منهم في أعمالهم ومسارعتهم
إلى الخير والعمل الصالح ( 2 )
(4/84)
فهو بهذا قد
أثبت المعنى على طريق الكناية ، ومع ذلك لم يمنعه ذلك عن إثبات اصل المعنى على
ظاهره ، فكان مع تأويله المعنى مثبتاً للحديث على ظاهره من
_________
وزارة التربية والتعليم ، التوجيه ، الجزء الأول ، الصف الثاني الثانوي ، المعهد
الديني الثانوي ، دولة قطر : 1406هـ - 1986م : (108-109) .
ابن باز ، عبدالعزيز بن عبدالله ، فتاوى تنور على الدرب .
حيث إجراء الصفة المذكورة لله تعالى على وجهها ، ولكن " الناصب " بمجرد
أن ذكر فضيلة " الدكتور " المعنى الذي حكاه " ابن قتيبة " حكم
عليه بالتأويل الذي هو عنده يُعد تعطيلاً مطلقاً مع ان فضيلته لم يتعرض لتعطيل
المعنى إطلاقاً ، وإنما ذكر ما قاله " ابن قتيبة " ، وفيه مجرد نفي
التشبيه ، وهي حقيقة مقبولة وواجبة في حق الله تعالى .
على أن الأمر في حديث الهرولة بالذات يختلف عن حديث المجيء ، والإتيان في أقوال
السلف أنفسهم فمنهم من لم يجعل صفة الهرولة في هذا الحديث مقصودة ، وكأن شيخ
الإسلام "ابن تيمية " يميل إلى هذا، وحكاه أيضاً عنه الشيخ " ابن
عثيمين " ، وذلك أن الحديث في سياقه يقتضي بيان المجازاة الحاصلة من الله
تعالى لعبده ؛ فصار بقرينة السياق تأويله مخالفاً لتأويل المعطلة الذي يخالف ظاهر
السياق كما في المجيء والإتيان ، وسائر ما تأولوا به مما يخالف ظاهر السياق ؛
فيكون للسلف في هذا الحديث قولان ، على ما بينا ، وأن الثاني ليس فيه خروج عن مذهبهم
، ولكن الأول أثبت في المذهب ، وقد بيناه ، ويكون إجراء الحديث على ظاهره يحمل على
ما يسعى إليه من العبادات ، وعلى المعنى الثاني فإنه يكون من باب ضرب المثل ،
وذكرنا أن "شيخ الإسلام" كأنه يميل إلى هذا ابقاءً للحديث على عمومه
المعنوي فيشمل جميع العبادات ، وهو أولى من تخصيصه ببعضها كما في السعي إلى
المساجد ، والمشاعر المقدسة ، والجهاد ،والرباط ، ونحوها من العبادات التي تستلزم
السعي من العبد (1)
(4/85)
_________________________
ابن يقول الشيخ ابن عثيمين في شرحه لكتاب التوحيد من صحح البخاري ص75 من المخطوط :
فالمهم أن لعلماء السلف في هذه المسألة قولين هل نبقيها على ظاهرها وإن كان سيخرج
عنا بعض العبادات إلا أنها تثبت بالقياس أو نقول إن هذا كناية عن أن فضل الله عز
وجل أكثر من عمل العامل وكأن شيخ الإسلام رحمه الله يميل إلى هذا الرأي الأخير أنه
من باب ضرب المثال ا0هـ .
وعلى ذلك فإذا كان شيخنا الفاضل الدكتور " القرضاوي " يثبت الإتيان
والمجيء وسائر صفات الأفعال لله تعالى ، فلا يقوم عنده أي مانع من إثبات هذه الصفة
أيضاً ، ولم يرد عنه ما ينفيها كما بينا ، ولئن نفاها صراحة - وهذا ما لم نطلع
عليه - ولم يثبته " الناصب " فإن مثل هذه الصفة قد توسع السلف في قبولها
وردها على حسب السياق ، على أنها سيقت لضرب المثل ، أو لإثبات الصفة ، والمعلوم أن
ضرب المثل لا يقتضي تحققه كما في قوله تعالى { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول
العابدين } .
(4/86)
ثم ينتقل
" الناصب " إلى مسألة أخرى من مسائل الاعتقاد مما يتهم فيها فضيلة
"الدكتور " بالخروج على مذهب السلف الذي يدعي انتماءه إليه فيقول تحت
عنوان : " الدكتور يتأول حديث الصورة " : " ويتأول الدكتور حديث
"الصورة " الثابت في الصحيحين ؛ فلا يحمله على ظاهره ، وهذا مخالف للقول
الصحيح عند أهل السنة " ، فكيف حكم " الناصب " على فضيلته بهذا
الحكم ، إنه أخذه من بيان فضيلته لحديث دار حوله جدل فرفضه البعض ؛لأنه فهم منه
معنى لا يليق بالله تعالى ؛ فدعاه ذلك إلى رده ، وفضيلة " الدكتور " في
تمثيله بهذا الحديث إنما يريد أن يضرب مثالاً لأولئك الذين يتعجلون في رد الأحاديث
ويجترئون عليها بمجرد أنه لا يستقيم معناها مع تصوراتهم ، رغم أن معناها صحيح في
العقل ، وهي ثابتة في النقل ، فالشأن الواجب فيها هو الإيمان بها وإدراك معانيها
الصحيحة لا ردها بالهوى المجرد الناشئ عن قلة الوعي ، وشدة الجرأة على دين الله
تعالى ، فالآفة ليست في هذه الأحاديث الصحيحة وإنما في أولئك السقام من ضعيفي
الأفهام ، قليلي المعرفة ، وقد يظن أنه برده هذا الحديث أو ذاك ينتصر للدين ، وهو
بهذا يهدمه ، فكان من فضيلته أن أعطى لأولئك المثل بحديث : " إن الله خلق آدم
على صورته " ليبين أنه قبل الخوض في الاستفادة من الحديث معنىً أوردِّه لأجل
معنى ينبغي التحري والتثبت والتدقيق في الحكم على الحديث بالصحة ، وعليه يعتمد على
معناه في العقائد والأحكام، أو بالضعف ؛ فيترك البناء عليه في كليهما ، فضرب مثلاً
لما يرده "العقلانيون" بعقولهم دون أن ينظروا في ثبوت الحديث وصحته ، ثم
يدققوا بعد ذلك النظر في معناه ودلالته ، فحديث كالذي ذكره فضيلة " الدكتور
" هو ثابت في الصحيحين ، ومع هذا فقد يقدم على رده من اعتمد منهجاً باطلاً في
نقد الأحاديث ؛ فبدلاً من النظر إلى إسناده والتحقق من صحته وثبوته ؛ فإنه ينظر
إلى معناه ، وليته فعل ذلك من خلال الاستعانة بما
(4/87)
كتبه أهل
العلم المحققون ، وإنما يفعله بنفسه فيقرأ الحديث ويرد الضمير في صورته إلى الله ،
ويفهم منه ما فهمه المشبهة والمجسمة فينتهي به ذلك التصور إلى رفض الحديث واعتباره
خرافة انطلت على المحدثين ، ويظنهم ليسوا ممحصين ، ويرى نفسه بذلك هو الممحص على
قلة بضاعته في كل شيء .
وهنا يبين فضيلة " الدكتور " أمثلة لعدد من المعاني التي اطلع عليها في
معنى الحديث مما يصح قبوله من خلالها من جهة المعنى فلا يتطرق إليه من جهتها ما
يوجب رده ، وإنما الذي منعه فضيلته ليس مجرد رد الضمير في لفظة صورته إلى الله ،
وإنما منع فهم ذلك الرد على جهة التشبيه ، ومن أجل ذلك فإنه ذكر عقب ذلك ما ورد من
زيادة على صورة الرحمن ، وحكى عن بعض أهل العلم تضعيفها ، ومع ذلك فقد ذكر جواب
العلماء عنها "الهيثمى" بافتراض صحتها ، حيث صححها يعض أهل العلم كأحمد
و"اسحاق" و"الآجرى" ، و"ابن تيمية"، و "ابن
حجر العسقلاني" ، وذكر "ابن حجر" أن معناها أنه خلق الإنسان على
صفته لأنه لم يقل صورة الله ، وإنما قال صورة الرحمن ليشير بذلك إلى الصفات كالعلم
، والحياة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، وغيرها من الصفات التي هي لله
تعالى على كمالها وللإنسان بقدر ما منحه الله إياها ، فكذا بين فضيلته أن المشكلة
ليست في مسئلة عود الضمير وحدها ، وإنما في فهم الكلام حتى إنه قال " ولا
يجوز أن نرد الأحاديث لغباء بعض الناس في فهمها "، والعجيب أن " الناصب
" يذكر رواية " على صورة الرحمن " وكأنه لا تزيد المشكلة عنده على
عود الضمير !! ، ولم يقل ما معنى الرواية على تقدير صحة ثبوت هذه الزيادة .
(4/88)
والواضح
تماماً أن " الناصب " لا يعلم وجه المشكلة في مسألة عودة الضمير ، فلما
سمع أن العلماء قد أنكروا على " ابن خزيمة " إنكاره عود الضمير إلى الله
سبحانه وتعالى ظن أن المشكلة إنما هي فقط في عود الضمير ، وذكر أن فضيلة "
الدكتور " لم يقل إن الضمير يعود إلى الله ، وسعى يذكر زيادة " على صورة
الرحمن " ولم يجهد نفسه في تقليب صفحتين من كتاب فضيلة " الدكتور "
القرضاوي الذي نقل منه ، وهو "المرجعية العليا في الإسلام " ، ولو فعل
لوجد فضيلته ذكر هذه الزيادة ، وأنه ضعفها عدد من العلماء ، وذكر المعنى عند من
صححها ، وأما "الناصب " فإنه ذكر الرواية دون أن يذكر معناها ، ويبدو لي
تماماً أن "الناصب " كما ذكرت يجهل سبب اختلافهم في عود الضمير ولأجل
ذلك فإنه حمل حملته على فضيلة " الدكتور " بلا مبرر.
فأما السبب الذي اختلفوا من أجله في عود الضمير فهو اختلافهم في إثبات الصورة إلى
الله تعالى أي هل يقال لله تعالى صورة ، أو لا ؟: فمنهم من نفى ذلك وكان معتمداً
في نفيه على أن عود الضمير هنا هو إلى آدم فالصورة لآدم وليست لله تعالى ، وأما من
أثبت لله تعالى الصورة ، فإنه جعل عود الضمير هنا إلى الله تعالى ، فجعل الصورة
صفة من الصفات .
واما المشبهة فقد جعلوا صورة الله على صورة آدم ، وهو ما نفاه أهل الحديث ومثبتة
الصفات لله على طريقة السلف كما قال " ابن قتيبة " في كتابه "تأويل
مختلف الحديث" حيث قال :
" والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصورة ليست بأعجب من اليدين ،
والأصابع ، والعين ، وإنما وقع الألفة لتلك لمجيئها في القرآن ، ووقعت الوحشة من
هذه ؛ لأنها لم تأت في القرآن ، ونحن نؤمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه، بكيفية
، ولا بحد "
(4/89)
وهذا الكلام
نقله عن " ابن قتيبة " أيضاً ، ولكنه لم يفهم ما هي المشكلة فظن أنها
كما قلت تقف عند حد عود الضمير في الحديث ، ولو كان فهم المشكلة حقاً لكان بحث في
كلام فضيلة " الدكتور " هل لله صورة أو لا ؟ !! ؛ولكن فضيلته لم يكن
يتكلم في مسألة إثبات الصورة لله تعالى أو نفيها ، وإنما كان يتكلم في موضوع بعيد
تماماً عن ذلك ، وهو رد الحديث الصحيح لمجرد الاستبعاد لظاهره لأول وهلة ، فذكر
عدداً من المعاني التي تستقيم مما لا يقتضي تشبيه الخالق جل وعلا بالمخلوق ، ولم
يسق الكلام في غرض إثبات الصورة لله تعالى أو نفيها عنه .
ويتضح عدم فهم " الناصب " للكلام بقوله : فلا يحمله على ظاهره ، ولم
يكمل كلامه ؛ فيقول لنا كيف يكون ذلك الحمل ؟ ثم يعيد بعد ذلك : والصواب حمله على
ظاهره مع اعتقاد تنزيه الله عن مشابهه خلقه .
والمشكلة أنه لم يقل ما هو هذا الظاهر الذي يريد حمل اللفظ عليه ؟ فهو يردد
العبارة كما لو كان ببغاء تهذي ، وبعض أهل العلم الذي أثبت عود الضمير إلى الله
تعالى أوَّل الصورة هنا بمعنى الصفة كما يقال : صورة فلان كذا ؛ أي صفته، ولعل
السبب في ذلك عائد إلى ما ذكره "ابن قتيبة " من عدم وقوع الألفة لمثل
تلك الصفة بخلاف غيرها من الصفات التي اتفق السلف على إثباتها من نحو اليدين ،
والأصابع ، والعين ، ومن يثبت الصورة لله تعالى فإنما يثبتها على الوجه اللائق به
، ولا يكون خلق الله تعالى لآدم على صورة الله تعالى يعنى مشابهة الخالق للمخلوق
في الصورة لأن صورة كلٍّ بما يليق به كسائر الصفات التي يوصف بها الله تعالى .
(4/90)
على أن حديث
الصورة يحتمل العديد من المعاني التي ذكرها أهل العلم منها كونه على صورة المضروب
كما جاء في بعض الروايات ، وكذا فإن ما ورد في لفظه الحديث " على صورة الرحمن
" محمول على الرواية بالمعنى عند من فهم عود الضمير في الرواية على الله
تعالى كما فعل بعض شراح صحيح مسلم من المغاربة ، والأبى ، ولذا فقد ضعفه كما ذكرنا
عدد من العلماء منهم " ابن خزيمة " حيث ذكر له ثلاث علل تضعفه ، وضعفه
كذلك من المعاصرين المحدثين ، "الألباني" ، رحمه الله تعالى ، وقد أنكر
الإمام مالك حديث الصورة إنكاراً شديداً (1) ، وإن كان ثبت عند غيره من الأئمة
الحفاظ ، ولم يُطعن في مالك لأجل إنكاره حديث الصورة رأساً ،لا أنه تأوله فقط !! ،
وأجيب عنه بمنعه روايته لإنكاره له خشية إساءة فهمه .
وقد ثبتت في بعض الروايات الأخرى ذكر الصورة لله تعالى كما في حديث أبي هريرة رضي
الله عنه في رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ، وفيه : " فيأتيهم الله في
صورته التي يعرفون " ولهذا فمن أثبت الصورة كصفةٍ لله تعالى لم يتوقف في
إثباته الصورة له سبحانه على الوجه اللائق به جل وعلا على حديث أبي هريرة : "
فإن الله خلق آدم على صورته " ؛ بل قد يحمل الضمير في هذا الحديث على آدم ،
ومع ذلك يثبت صفة " الصورة " لله تعالى لورودها من الحديث الآخر :
" فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون " ؛ لأنه أصرح منه في ذلك وليس فيه
احتمال عود الضمير كما في حديث أبي هريرة ، وهو بعيد كذلك عن تأويلات ورود حديث
"ابن عمر " ، وفيه :" على صورة الرحمن " .
وكذلك من أثبت عود الضمير في حديث أبى هريرة إلى " الله " لم يلزم أن
يكون مثبتاً للصورة لما ورد من قول بعضهم وحمله الصورة على الصفة ، وقد مر ذكره ،
فحتى لو أثبت الضمير كما هي غاية أماني " الناصب" فإنه قد لا يقول
بإثبات صفة الصورة لله رب العالمين وذلك لأنه يحمل لفظة الصورة على
____________________________________________
(4/91)
الفتاوى
الكبرى لشيخ الإسلام (6/619) ، ط0دار الكتب العلمية بيروت ، والآثار الواردة عن
أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي ، إعداد د 0 جمال
بن بادي – (1/286) .
معنى الصفة ، وقد يكون ذلك عنده نفياً للصورة وكذلك من حمل لفظ الصورة في الحديث
على الصفة لا يلزم أن يكون نافياً لصفة " الصورة " بل هو مثبت لها وذلك
لما ذكرناه من قبل من أن المجاز لا ينفي صدق التعبير بالأصل ، وأن التأويل لا يلزم
منه التعطيل ، وظاهر كلام الشيخ " ابن باز " يرحمه الله – من هذا القبيل
، حيث قال : والمعنى عند أهل العلم أن الله خلق آدم سميعاً بصيراً متكلماً إذا شاء
وهذا وصف الله ، فظاهر قوله :" وهذا وصف الله " حمل الصورة على الصفة في
هذا الحديث نظراً للسياق ، ولم ينف – رحمه الله – صفة الصورة ، وهو ما أشار إليه
فضيلة " الدكتور " على تقدير إثبات الصورة ،فليست على ما ذهب إليه
المجسمة المشبهة ولكن " الناصب " لم يصبر حتى يقلب أوراق الكتاب لصفحتين
حتى يرى نهاية الأمر الذي طلبه ، والذي أُنكر على " ابن خزيمة " رحمه
الله أنه نفى صفة الصورة ، وذلك أنه بعد تأويله لحديث " ابن عمر "
السابق ذكره ، والذي جاء فيه : " على صورة الرحمن " قال : " لا على
توهم بعض من لم يتحر العلم فظن أن قوله على صورته صورة الرحمن صفة من صفات ذاته جل
وعلا " ؛ فهذا هو ما خطأوا فيه " ابن خزيمة " ،وليس عود الضمير ،
إذ أنه لا مانع من كون الضمير عائداً على آدم من حيث القواعد المعروفة في العربية
، وكذا من حيث السياق ، وليست هي جناية أو خطأ ممن قاله ، ولكن صفة " الصورة
" التي اختلف السلف في إثباتها ونفيها ، والإثبات أولى من النفي خلافاً لابن
خزيمة ، ومع ذلك فقد تسمح الأئمة مع " ابن خزيمة " في إنكاره صفة "
الصورة " لله جل وعلا ؛ لأن ذلك مما لم يثبت ثبوتاً ظاهرياً كغيره من الصفات
فاحتمل الأمر اختلاف السلف في إثباتها ، وإن كان
(4/92)
إثباتها هو
الأليق بأصول السلف ، وقد ذكرنا في ذلك قول " ابن قتيبية " في السبب
الباعث على اختلافهم في إثباتها .
وقد قال شيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمه الله - : " لم يكن بين
السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق
متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك" .
فقوله – رحمه الله - : " وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك" ؛ أي الواردة
في ذكر الصورة ؛ كحديث أبي سعيد الخدري السابق ذكره ، وما شابهه من ذكر الصورة
مضافة إلى الضمير العائد على الله في سائر الأحاديث ، مما يثبت أن لله تعالى صورة
تليق بجلاله ، " { ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير } .
ومن أجل ذلك فإن ما روى عن الإمام " أحمد " من قوله : " من قال :
إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمى ، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه "
؛ فذلك لأن من قال بذلك إنما يرمي إلى نفي صفة " الصورة " عن الله تعالى
، ومن ثم كان جهمياً تشبيهاً له بنفاة الصفات ، لا أن مجرد هذا الحمل نفسه فيه
جهمية في ذلك الحديث بذاته ، وبهذا يظهر لنا مدى هذيان " الناصب " فيما
قاله والافتراء على فضيلته في هذه المسألة .
فجعل من حملِ فضيلته الضمير على آدم علامة على مخالفته العظيمة للسلف ، بينما
الإمام مالك رضي الله عنه ينكر الحديث رأساً ، ويحذر منه ، وتحفظ له مروءته
ومكانته ، ويحمله " ابن خزيمة " نفس المحمل ويزيد بنفي صفة "
الصورة " عن الله تعالى ، ويحفظ له حقه وبلاؤه في الذود عن السنة واعتقاد
السلف ، حتى يقول " الذهبي " في ترجمة "ابن خزيمة " : "
ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه ،
لقل من يسلم من الأئمة معنا " ، وكذلك "الألباني"-رحمه الله- كما
قلنا .
(4/93)
ومع أن فضيلته
أثبت الحديث ولم ينف الصورة ، وإنما صرح أنها ليست على ما يعتقده المشبهة والمجسمة
ومع ذلك يُغمز في اعتقاده بالخروج عن مذهب السلف " فإلى الله المشتكى !!
وقد أجاب فضيلة الشيخ "محمد الصالح العثيمين" عن الحديث بقوله :
" ومن المعلوم أن الحديث لا يراد به ظاهره بإجماع المسلمين والعقلاء "
وعلى هذا القول ينبغي على " الناصب " أن يراجع نفسه حتى يدخل في زمرة
العقلاء، ثم حمل الشيخ "العثيمين" الحديث على أحد معنيين :
الأول : أن الله خلق آدم على صورة اختارها ، وأضافها إلى نفسه تعالى تكريماً
وتشريفاً .
الثاني : ان المراد خلق آدم على صورته تعالى من حيث الجملة ، ومجرد كونه على صورته
لا يقتضي المماثلة والدليل قوله –صلى الله عليه وسلم-: " إن أول زمرة تدخل
الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم على أضواء كوكب في السماء
" ولا يلزم أن تكون هذه الزمرة للقمر ؛ لأن القمر أكبر من أهل الجنة بكثير ،
فإنهم يدخلون الجنة طولهم ستون ذراعاً ، فليسوا مثل القمر (1) .
_____________
المجموع الثمين (3/203) .
وفي شرحه للواسطية جعل المعنى الثاني هو ظاهر الحديث وقال : الأسلم حمله عليه ،
وجعل المعنى الأول مقبولاً ولا يعد تحريفاً لكونه له نظير في الشرع (1) .
فبان بما ذكرناه أن العنوان الذي افتتح به " الناصب " هذا الموضوع بقوله
:" الدكتور يتأول حديث الصورة " لم يذكر فيه عنه ما يستدل على تأويله
سوى أنه قال بأن الضمير عائد إلى آدم ، وقد بينا أنه لا يلزم من ذلك ممنوع شرعاً ،
وقد قال به أجلاء من السلف وأئمة الهدى من المتقدمين وعدد من فضلاء المعاصرين ،
وبيَّنا كذلك وجه إنكار الإمام " أحمد " على من حمل الضمير على آدم ،
وهو بين لمن تدبره .
__________________________________
(1) ... شرح الواسطية من مجموع فتاوى الشيخ (8/89) .
" الناصب " والرؤية :
(4/94)
بعد أعاجيب
" الناصب " في دعوته بأن " الدكتور " لا يرى التحدث بصفات
الله ، انطلق إلى " الرؤية " وهكذا بعد الصفات تأتي الأحوال ليشنع عليه
من حيث الصفات والأحوال جميعاً ، فينقل ما ذكره فضيلته عن "الشاطبى "،
ولم يعلق عليه ، فيقول :
"ويؤمن الدكتور برؤية الله في الآخرة ، ولكنه يعتقد أن هذه الرؤية تكون بلا
مقابل !، ولا تصور جهة!"
و " الناصب " " هنا لم يتحر الدقة إطلاقاً ؛ إذ أن هذا الكلام الذي
ادعاه على فضيلته ليس من قوله ، وإنما هو ضمن كلامٍ طويل للشاطبى رحمه الله في
كتابه " الاعتصام " وقد حكاه عنه فضيلته وعزاه إليه ، لا إلى نفسه ، ولم
يذكر إقراره عليه ولكن للأسف ينقل " الناصب " كلام " الشاطبي
" قائلاً : " يقول الدكتور " ، ولا أدرى ما الذي يمكن أن يسمي به
القارئ ذلك الصنيع ؛ ولو أن أحداً عزى للناصب كلاماً نقله عن غيره ، ما الذي يمكن
أن يصفه هو به ، سوى أن يقول عار كبير عليك أن تنسب إلى شيئاً لم أقله ، وكلاماً
لم يصدر عنى ، وهذا يعطينا صورة واضحة عن مدى ودرجة فهم وإدراك " الناصب
" للأمور.
وليس غريباً على " الناصب " الذي لم يفهم كلام فضيلة " الدكتور
" في إثبات فوقية العلو لله تعالى ، زيادة على الفوقية المعنوية المستحقة له
سبحانه كفوقية الشرف والقهر والسلطان ، فظن أنه لا يقول بإثبات العلو للعلى الغفار
،وهذا هو السبب الذي جره إلى الخطأ الثاني له في نسبة قول " الأشاعرة "
إلى فضيلته في مسألة " الرؤية " وهكذا دائماً تجر الأخطاء إلى الأخطاء
في سلسلة لا تنتهي إلا بالتوبة والرجوع .
(4/95)
فإذا كان ذلك
فقد علمت أيها القارئ العزيز أن قول " الناصب " : " قلت : هذا الذي
قال به " القرضاوي " هو قول "الأشاعرة" مجرد وهم معتاد ومتكرر
من " الناصب " سببه قد أكثرنا منه ، وهو غير خافٍ على القارئ البسيط ،
فالذي قال ذلك ليس فضيلته وإنما "الشاطبى" في جملة كبيرة من أقواله
حكاها عنه فضيلته في سياق معين ، ولم يكن مناسباً الرد عليه فيما يعلم أنه ساقه
لأجل بيان ما يمكن دفع مصادمة العقل به ، ولو فعل لخرج عن القصد الذي من أجله ساق
فضيلته الجملة التي حكاها عن " الشاطبى " في " الاعتصام " .
ولكن لنا أن نقول : لماذا لم يسأل " الناصب " هنا عن المقصد من "
المقابلة " ، والمقصد من " الجهة " ؛ إذ أنه منذ قريب أنكر على
فضيلته – بفهم قاصر – وصفه الله العظيم بأنه ليس متحيزاً ، وطالبه بتفسير التحيز
الذي ينفيه قبل نفيه ، وهو هنا ينكر عدم الجهة والمقابلة دون أن يستفسر عنهما ،
وهو مما يكشف تخبطه وعدم التزامه سياسة واحدة في سوق رأيه وحشد حججه ، بل له في كل
مقام سياسة خاصة به ، فتفصل الحجج على قدره ، ثم تنسى بعد ذلك ولا تلتزم في أي
موضع آخر إلا إذا دعت إلى ذلك حاجة فتستدعى لأجلها .
(4/96)
ورجوعاً إلى
السياق الذي ذكره فضيلته وساق فيه كلام " الشاطبى " وهو سقوط
"المعتزلة" في هوة الغرور بالعقل والمغالاة به وتقديس ما يصل إليه إلى
حد تقديمه على ما يقرره الوحي ، وذلك الذي دعاهم إلى عدم الوقوف عند حد تجاوز
النصوص البينات التى لم يعتبروا لها وزناً فهم تارة يكذبونها ويضعفونها بأوهى
الحجج ، وإذا أثبتوها حكموا فيها أفكارهم القاصرة ، وحددوا معالمها بحدود علمهم
وبيئتهم ، وصارت عندهم عدد من الأفكار والآراء مسلمات عقلية لا تقبل التنزل ولا
الجدال ، وهى ليست كذلك لو نظروا فيها بعين التحري والاعتبار ، حتى صارت تلك
المسلمات الأساس الذي رد عليه صريح القرآن ومتواتر الحديث فأنكروا الصراط والميزان
، ورؤية الله تعالى في الآخرة ، وسؤال الملكين في القبر ، وعلة ذلك أنهم سجنوا أنفسهم
في إطار العوائد الجارية، فتوهموا أن المعتاد المعروف لازم لزوماً عقلياً ، رغم أن
خرق العوائد حاصل وممكن ، ومن هنا ساق فضيلته مناقشة " الشاطبي " في
" الاعتصام " للمعتزلة حيث ذكر عنه : أنه يصح قضاء العقل في عادى
بالانخراق ، حيث لا يفرق العقل بين خلق وخلق ؛ فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان من
جهة العقل على كل مخلوق ، وذلك أصل يقتضي للعاقل أمرين فذكرهما ونختصرهما في أن
أحدهما : أنه لا يجعل العقل حاكماً بإطلاق ، حيث ثبت عليه حاكم بإطلاق ، وهو الشرع
فاستحق بذلك التقديم عليه عقلاً وشرعاً .
وثانيهما : أنه لا ينبغي إنكار العقل فيما نقل من أخبار الشرع بخرق العوائد
الجارية ، وإنما هو في سعة منه بأحد أمرين وهما ، التصديق به على حسب ما جاء به
ووكل علمه إلى العلي القدير .
والثاني : تأويله على ما يمكن الحمل عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، وذلك لأن
إنكاره كما ذكرنا لا يجوز لكونه إنكاراً لخرق العادة فيه .
(4/97)
ومن هنا فقد
ذكر "الشاطبي" عشرة أمثلة دارت بين التصديق حسب ظواهرها ، والتأويل مع
الإقرار بمقتضى الظاهر وبذلك لا يجعل العقل مستبعداً صاداً لما جاء به الشرع .
وقد ذكر "الشاطبي" في هذا المقام مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة التي
منعها "المعتزلة" وجاء الشرع بإثباتها ، وكان منع "المعتزلة"
لها لما فيها من إثبات معنى الجسمية وهو محال في حق الله تعالى ، فراح يبين لهم
وجه قبول جوازها من جهة أنه لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه
المعتاد في الدنيا ؛ أي أن : امتناعهم عن القبول كان جارياً على ما ذكرناه من
سجنهم أنفسهم في إطار العوائد الجارية ، ومن ثم فإنه يجوز عقلاً خرق ذلك المعتاد
بتصحيح الرؤية على وجه لا يتحقق فيه معنى الجسمية للرائي ؛ فذكر " الشاطبي
" ذلك الوجه بقوله : " إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها
اتصال أشعة ولا مقابلة ، ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف " .
وذلك ليردعهم عن الإنكار من جهة العقل من حيث لزوم الجسمية على تصحيح الرؤية فبين
لهم " الشاطبي " إمكان الرؤية مع انتفاء معاني الجسمية من وجهة نظره ؛
فهكذا كان السياق إذن .
وأما الأسلوب الثاني فهو تأويله على ما يمكن حمل الكلام عليه مع الإقرار بمقتضى
الظاهر كما ذكرنا . .
فهل يعترض فضيلة " الدكتور " على "الشاطبي" ، ويقول : لا لا
يمكن عقلاً القول بهذا القول !! ، فهذا لا يقول به أحد !! أو أنه يصفه على أنه
مذهب " الشاطبي " ويرد عليه ، ولم ينسب " الشاطبي " لنفسه أحد
المذهبين ، وإنما ساقهما لبيان ما يسع المعتزلة قبوله دون مصادمة العقل ، وذلك
باتباع أحد الأسلوبين السابق ذكرهما للذين لا يتصادمان مع العقل .
(4/98)
وهكذا نرى أنه
لا مجال لتعليقه هنا ؛ إذ أن السياق يأباه ويتنافى معه حتى يكون التعليق بشكل واضح
يعد خروجاً عما قصد فضيلته الحديث فيه ، وهو ما ذكرناه من العجلة وعدم الأناة في
رد الأحاديث النبوية الشريفة وإنكارها بحجة مصادمتها للعقل ، ولا مصادمة فيها
للعقل ، بل يسع العقل قبولها من عدة أوجه، ولكن قصر النظر ، وشدة الغرور تعمى
الإنسان عن إدراك الحقائق الواضحة .
وبدلاً من أن يقرأ " الناصب " كلام من يريد " هدمه" أقصد
" وزنه " بإمعان قبل أن يحكم عليه ، هذا إن كان حقاً أهلاً لذلك !! فإذا
به يخرج علينا بنقلٍ عن شيخ الإسلام " ابن تيمية " يفند فيه قول
"الأشاعرة" في الرؤية وحجتهم!!، أهذا هو موضوع الكتاب ، فيسوق كلامه
بطوله في موضوع الرؤية من غير حاجةٍ إلى ذلك، ومما لا يصح أن يكون كفايةً في
الموضوع ولا رداً على كل ما هو لازم لهذا القول ، ولا حتى فيه ما يفيد أنه يعلم ما
ينقل إذ أنه ينقل كلامه بنصه ، وهو خالٍ كما أسلفنا من مناقشة اللوازم التي أوردها
"الأشاعرة" على هذا القول والأفضل أن يقال : لماذا هذا الخروج عن موضوع
الكتاب .
فلا هو نقل الكلام عن قائله ، وهو " الشاطبي " وليس فضيلة "
الدكتور " ، ولا هو فهم معناه وعرف سبب إيراده ، ولا هو وجه نقداً في محله ،
ولا هو ذكر شرحاً على وجهه ، ولا ، ولا ……
تفرقتهم بين القرآن والحديث القدسي ، والذي جاء فيه وصف القرآن بذلك ، ولكن
يتأولون معنى اللفظ هنا ، ولم ينتبه إلى ذلك " الناصب " فلله الحمد على
ذلك .
إنكاره على " الدكتور " في مسئلة الجن
(4/99)
وهنا ينكر
" الناصب " على فضيلة " الدكتور " إنكاره على مبالغة بعض
الناس في تصور الجن وقدراتهم الخارقة ، وأن لهم من القدرة ما يجعلهم يتقمصون
الإنسان ويتسلطون عليه ويتكلمون على لسانه وما قيل بأن صرع الجن للإنسان ليس عن
طريق سلوكه داخله ، وقد ذهب إليه عدد من أهل العلم من أهل السنة وأصحاب الحديث ،
وإن كان جمهور أهل السنة على جوازه ؛ فهي كأى مسألة خلافية لا يكون ما ذهب الجمهور
إليه فيها لازم الاتباع ؛ إذ أنه بوسع الناس أخذ الرأي المقابل ، وخصوصاً إن كانت
الدلالات في كلا المعنيين متقاربة حتى تشدد بعض الفضلاء من المعاصرين في هذا
الموضوع إغلاقاً لباب شرٍ مستطير يوشك أن يفتح على الناس على مصراعيه إن لم يوجد
من يكفكف هذا الاندفاع ، منهم الشيخ : محمد حامد الفقى " والشيخ "
عبدالرحمن حبنكة الميداني "وآخرون وقفوا نفس موقف فضيلة " الدكتور
" .
وأما من العلماء المتقدمين فقد قال " ابن حزم " رحمه الله – عن صرع
الشيطان للإنسان أنه بمعنى المماسة ؛ أي : دون سلوك وولوج ؛ لقوله تعالى { الذي
يتخبطه الشيطان من المس } حتى قال : " فلا يجوز لأحدٍ أن يزيد على ذلك شيئاً
، ومن زاد على هذا شيئاً فقد قفا ما لا علم له به " ثم قال : " فصح أن
الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عز وجل عليه مساً كما جاء في القرآن يثيره من
طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر عن نفسه كل مصروع بلا خلاف
؛ فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما
توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين "
(4/100)
فها هو "
ابن حزم " ينكر ما يزيد على المماسة كالدخول ونحوه مما أثبته غيره ، ولا يحمل
عليه في ذلك حمل شناعة كما حمل على فضيلته ، وأنه خالف في ذلك منهج أهل السنة ،
فالأمر على ما ذكرنا من جريان الخلاف في ذلك بين أهل السنة أنفسهم فهم رغم قول
أكثرهم في المسألة بأن أذى الشيطان للإنسان حسي لا مجرد تخيل أو وسوسة كما قالت
"المعتزلة" وبعض أهل السنة لكن المثبتين للأذى الحسي كما ترى ، منهم من
قال بدخوله بدن الإنسان ، ومنهم من قال بالمس دون الدخول وحينئذ فإن من حق فضيلته
اختيار الرأي الذي تسكن إليه نفسه .
فإذا علمت ذلك أيها القارئ العزيز ونظرت في قول " الناصب " : " قلت
أكتفي بإيراد حديث صحيح يثبت تلبس الجن للإنس ليكون حجة للمؤمنين ، وعبرة
للمعتبرين الذين قد يوافقون " الدكتور " فيما ذهب إليه .
علمت ما فيه من المغالطات التي يمكن أن نذكرها فيما يلي :
أن قوله : أكتفي بإيراد حديث صحيح ، هذا تدليس منه ؛ لأنه ليس في هذا الباب حديث
غيره مما يصححه أهل العلم بالأخبار ، فهي كلها ضعاف و " الناصب " يعلم
ذلك تماماً ، ومع ذلك يلبس على القارئ بوجود غيره مما يصح ، ولأنه أيضاً يعلم
الردود على شتى الأخبار التى تورد في هذا الباب ؛ فحسب أنه بإيراده لهذا الحديث
يسلم من تلك الردود .
أنه لم يتعرض إطلاقاً لحجج المانعين من ذلك .
أنه لم يفرق بين تلبس الجن بمعنى المماسة ، والتلبس الذي هو بمعنى الولوج والقيام
بالأفعال.
قوله ليكون حجة للمؤمنين مبالغة غير مقبولة منه في وصف الموافقين له بالمؤمنين ،
والمخالفين له بالمعتبرين .
أنه لو أراد مخالفة " الدكتور " للجمهور ، فلا يحصى كم من مخالف للجمهور
في العديد من المسائل ومن هؤلاء من يكثر " الناصب " الاحتجاج بهم ،
ويجعلهم حجة على غيرهم ، بل وهو أحدهم .
(4/101)
أنه كما سبق
أن ذكرنا لا إنكار في مسائل الخلاف ، وتلك مسألة وقع فيها خلاف بين أهل السنة كما
ذكرنا و حكاه عنهم غير واحد ؛ فلماذا الإنكار على مخالف فيما ساغ فيه الخلاف؟
أن " الناصب " قد أتى بهذا الحديث وهو يعلم أنه غير صريح فيما يستدل به
عليه ، وترك ما هو صريح لعلمه بما يتناوله من نقد ، واستعان على الإيعاز بصراحة
الحديث على موضوعه بنقل كلام المحدث " الألباني "- رحمه الله - معلقاً
عليه حيث قال : " وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان
ويدخل فيه ولو كان مؤمناً صالحاً" .
وأما قوله : وفي ذلك أحاديث كثيرة صحيحة ، قلنا : أما الصراحة في ذلك الحديث فهى
مفتقدة ، وأما الأحاديث الكثيرة فهي ليست ذات غناء ونعود إلى الحديث الذي اقتصر
عليه فنقول:
أما عدم صراحة الحديث في الدلالة على ما ذكر " الناصب " فمن وجوه :
(4/102)
أحدها : أن
ورود الحديث كان بسبب ما يعرض له في صلاته ؛ إذ أن روايته عند " ابن ماجه
" وهي التي ذكرها " الناصب " عن عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه
– قال لما استعملني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على الطائف ؛ جعل يعرض لي شيء
في صلاتي حتى ما أدرى ما أصلى ! فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله –صلى الله عليه
وسلم-؛ فقال : ابن العاص ؟ قلت : نعم يا رسول الله ! قال : ما جاء بك ؟ ، قلت : يا
رسول الله ! عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلى ! قال : " ذاك الشيطان
، ادْنُ " فدنوت منه ؛ فجلست على صدور قدمى ، قال ؛ فضرب صدري بيده ، وتفل في
فمى ، وقال : اخرج عدو الله ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : الحق بعملك " ،
الحديث رواه ابن ماجه والروياني في مسنده ، وكلاهما بإسناد واحد ، وفي الحديث كما
أشرنا بيان أن ما كان يعرض له إنما كان في صلاته حتى لا يدري كم صلى، وذلك هو
الوسوسة ، وهو ما رواه مسلم حيث فيه : " قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال
بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها على ؛ فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
ذاك شيطان يقال له حنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثاً ،
ففعلت ذلك فأذهبه الله عنى ، وهذه أصح روايات الحديث ورواه أيضاً الحاكم وصححه
ووافقه الذهبي وليس فيها ما ذكر في الرواية التي اكتفى الناصب بإيرادها ، وما كان
منه –صلى الله عليه وسلم- إلا أمره بالتعوذ وأن يتفل على يساره ثلاثاً ، وأنه ما
زاد على فعل ذلك حتى أذهبه الله عنه ، وما وقع في الروايات الأخرى للحديث ومنها ما
اقتصر الناصب على ذكرها معارض برواية " مسلم " وهي أصح من حيث إسنادها
وفي رواية " البيهقي " في " دلائل النبوة " وفيها أنه ذكر
لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- تفلت القرآن منه ؛ فما كان منه –صلى الله عليه
وسلم- إلا أن وضع يده على صدره وقال : " يا شيطان أخرج من صدر عثمان"
فذكر أنه بعد ذلك ما نسى
(4/103)
شيئاً يحفظه –
وليس فيها أنه تفل في فمه ، وقد قال " الألباني " في إسناده إنه صحيح ،
والحديث الآخر رواه " الطبراني " في معجمه الكبير ، وليس فيه أيضاً أنه
تفل في فمه ، وإنما ضرب صدره بيده وقال ذلك ، فقال " عثمان " فما نسيت
منه شيئاً بعد أحببت أن أذكره ، وقال فيه " الألباني " إسناده حسن ،
وكذا ما أخرجه " أبو نعيم " في "الدلائل "
و"البيهقي" من طريق " الحسن " عن " عثمان بن أبي العاص
" ، فليس فيه أيضاً ذكر التفل في فمه " وإنما فيه أنه وضع يده على صدره
فذكر الحديث " فما سمع بعد ذلك شيئاً إلا حفظه " .
فبان لنا أن هذه الروايات التي اشتملت على ضرب الصدر أو وضع اليد على الصدر ثم
أمره –صلى الله عليه وسلم- الشيطان بالخروج من الصدر الذي هو محل الوسوسة ليس فيه
ما يدل على دخول الشيطان في بدن الإنسان ، وليس في ذلك سوى دعاء الرسول –صلى الله
عليه وسلم- له بإذهاب الشيطان عنه بأمره بذلك للتثبت في الحفظ ؛ فكان ذلك، ولو كان
ذلك لغير ذلك المعنى لم يكن فيه الإعجاز والدلالة على النبوة حتى يرويه "
البيهقي " ، و" أبو نعيم " في " الدلائل " إذ أن إخراج
الشيطان من جوف الإنسان عند من يعتقده لا إعجاز فيه ولا في عدم رده بعد ذلك ،
وإنما تثبيت حفظ الإنسان فلا ينسى هو دليل الإعجاز لما فيه من مخالفة ما جرت به
العادة من حصول النسيان ، واعترائه بنى آدم .
وثانيها : إن هذه الروايات اتحدت في الواقعة مع رواية " مسلم " ،
والمقرر أنه إذا اتحدت الواقعة وتعددت الروايات حملت على أنها صدرت في مجلس واحد
ما لم يشهد لها بخلاف ذلك ، فالشأن حينئذ يكون للترجيح ، وعندئذٍ فلا مجال لترجيح
تلك الروايات على رواية " الصحيح " التي لم يرد فيها سوى أمره –صلى الله
عليه وسلم- عثمان بالتعوذ إذا أحسه والتفل عن يساره ثلاثاً ، وأنه لم يكن منه سوى
ذلك حتى أذهبه الله عنه .
(4/104)
وثالثها : أن
هذا الحديث قد رواه مسلم في " صفة الصلاة " ، وهو شاهد لمعنى الوسوسة ،
وهكذا ذكره صاحب " المشكاة " في " باب الوسوسة " وبذلك شرحه
" ملا على القارى " وغيره رغم قولهم بتعدي الأذى من الشيطان حد الوسوسة
إلى الأذى الحسي "
وما وقع في رواية هذا الحديث لغير مسلم ، فكما ذكرنا أنه حتى ولو لم نعارض بينهما
لما كان في تلك الروايات من بيان لدخول الشيطان في بدن الإنسان ، لما ذكرناه ، حتى
ما وقع في رواية التفل فهي من حصول بركته–صلى الله عليه وسلم- له أن يكون لسانه
ذاكراً بالإضافة إلى دفع الوسواس عنه عند ضرب صدره بيده .
كما جاء في عدد من الروايات في ضربه–صلى الله عليه وسلم- صدر "عمر" رضي
الله عنه حين وقع في نفسه الشك في حديث القراءات على أحرف متعددة ، فأذهب الله عنه
ما وجد .
فهذا هو الحديث الذي زعم فيه " الناصب " الكفاية ، وادعى صراحته في هذا
الباب ، حتى إنه اكتفى به على حد قوله ، وقد بينا سبب اكتفائه وهو علمه بأن كل ما
في الباب غير سالم أصلاً من طعن أو معارضة .
ونحن لا نقول بأن كيد الشيطان منحصر في الوسوسة والتخييل وإنما يتعدى ذلك كما هو
مذهب جمهور أهل السنة إلى الأذى الحسي ولكن كما قال فضيلة " الدكتور "
من غير مبالغة في ذلك حتى يكون الإنسان حيال نفسه عاجزاً عن دفع أذاهم مسلطاً عليه
من دون قدرة على دفع ذلك وقد وردت على لسان الشرع الأذكار والتحصينات التي تقي
الإنسان من أذى الجان ، ولا ينبغي كذلك أن يثبت لهم من القدرة غير ما أثبته الشرع
، وأن التضييق في هذا الإثبات والتوقف فيه على ما صح وسلم من المعارضة أفضل من التوسع
فيه ، وقبول غير ذلك مما يؤدي إلى اتساع معاناة الكثير بسبب الإقدام بجهالة على
أعمال منافية للشرع والعقل جميعاً .
(4/105)
ومن هنا كان
موقف فضيلة " الدكتور " التضييق في هذا الباب والاقتصار بدلاً من
التوسعة والإكثار ، وإن " الألباني " رحمه الله الذي احتج به "
الناصب " هنا يحذر كثيراً من استغلال عقيدة دخول الجني إلى بدن الإنسي
ومخاطبة الجني وسؤاله عن هويته وغير ذلك من الأعمال التي اعتبر متعاطيها دجالاً
يحرم تصديقه ، حتى دعا من يقوم بهذا العمل وسماهم بـ " من ابتلوا بهذه المهنة
" أن لا يزيدوا في مخاطبتهم على قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: " اخرج
عدو الله " ، ومعلوم من حال هؤلاء جميعاً التجاوز بكثير هذه الحدود ، بل إنهم
يدعون أن مثل ذلك لا يجدي نفعاً ، ولا يحقق الخروج المطلوب لذلك الجني وأنه لابد
من التوسع عن ذلك حتى يحققوا النتيجة المرجوة .
وأما الأحاديث الأخرى التي هي في ذلك الباب مما يتوسع الناس فيها ؛ فهي كما ذكرنا
ضعيفة وهي في أحسن أحوالها غير سالمة من معارضة لها ، ومن ثم فليس من الصواب أن
يتهجم على فضيلة " الدكتور " لأجل أنه لم يقبل تلك الآثار ولم يعتد بها
ولا نريد الإطالة بذكرها والرد عليها، وإنما نكتفي بالرد على ما اكتفى بإيراده
" الناصب "
الناصب وتأويلات الدكتور :
ولكن ما هي التأويلات التي فعلها " الدكتور " ؟ يذكر لنا " الناصب
" تأويلين فقط ليس فيهما ما يتعارض مع منهج أهل السنة والجماعة في شيء ، ولم
يكن فضيلته في إحدى المسألتين أزيد من أن يكون ناقلاً للخلاف في المسألة .
فأما المسئلة الأولى ؛ فهي فتح روما :
فيحكي عن فضيلته قوله : " ظنى أن هذا الفتح سيكون بالقلم واللسان لا بالسيف
والسنان ، وأن العالم سيفتح ذراعيه وصدره "
(4/106)
فمثل هذا لا
ينبغي أن يذكر كمخالفة لأنه صورة من صور الفتح ، فالفتح قد يكون بحرب ينتصر فيها
المسلمون ، وقد يكون سلماً ، وهناك بلاد فتحت سلماً ولم يكن ذلك مانعاً إيانا من
أن نسميها فتحت للإسلام ، وما كان ذلك إلا باستجابتها لرسل رسول الله –صلى الله
عليه وسلم- أو نوابه ، واختصت تلك البلاد بأحكام خاصة ، فلم تقسم أرضها بين
الغانمين ، ولم يجب عليهم في أرضهم خراج ، ولا شيء سوى الزكاة ، وذلك بخلاف ما فتح
عنوة فتلك يجب فيها بالإضافة للزكاة الخراج على قولٍ ، وأحد الاثنين في قول آخر ،
وما فتحت صلحاً ، فبحسب ما صولحوا عليه .
(4/107)
الشاهد من ذلك
حصول الفتح سلماً ، وقد ذكر فضيلة " الدكتور " هنا تصوراً له عن ذلك
الفتح ، فذكر فتحاً حقيقياً وليس فتحاً مجازياً حتى نقول تأول فضيلة الدكتور حديث
فتح رومية " ، وذلك بدخول أهلها في دين الله عن طريق الاستجابة لدعوة الإسلام
وقبوله وهذا هو الفتح ؛ إذ كما ذكرنا لا يلزم أن يكون ذلك الفتح عنوةً كما جمع
" السنوسي " وكذا " الأبى " في فتح " القسطنطينية "
بين الأدلة المتعارضة قائلين : " و فتحها أعم أن يكون بقتال " حتى إن
الله سبحانه وتعالى قد سمى فتح "الحديبية" { فتحاً مبيناً } في قوله
سبحانه :" إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " كما في رواية البخاري عن أنس :
" إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " قال :" الحديبية ، وقال " جابر
" ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية ، وقال " مجاهد " كان فتح
الحديبية آية عظيمة ، وقال " الشعبي " في قوله تعالى : " { إنا
فتحنا لك فتحاً مبينا } هو فتح الحديبية ، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة ، وقال
" الزهرى " : " لقد كان الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي –صلى
الله عليه وسلم- جاء إليها في ألفٍ وأربعمائة ، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في
بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه فما مضت تلك
السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف .
(4/108)
فهكذا رأى
أولئك من الصحابة والتابعين الفتح إنما كان موصوفاً بهذه الصفة لانتشار الإسلام
انتشارا عظيماً حتى تضاعف أهل الإسلام مضاعفة كبيرة بعد ذلك الفتح عنه قبله ، ولم
يكونوا متأولين في شيء وإنما كانوا مفسرين الكتاب بما علموه من واقع الحال وموافقة
اللغة، وهكذا أيضاً فعل فضيلة " الدكتور " حيث قال بالفتح بمعناه وذكر
صورة يتحقق بها ذلك المعنى ، وتلك الصورة التي ذكرها فضيلته إنما تبين عظيم تفاؤله
بمستقبل الإسلام في العاجل القريب وحينما نتطلع إلى الأحوال التي يعيش فيها
المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، وإلى الحال الذي عليه عالم اليوم وخاصة
البلدان الأوربية وما هو حاصل فيها من انفتاح ثقافي وحضاري على كل حضارات العالم ،
ومن بينها حضارة الإسلام ، والتي هي بكل تأكيد أقوى الحضارات أثراً وأعمقها نظراً
، وأصلحها فكراً وعقيدة ، مما يجعلنا على ثقة من انتشار الإسلام في مثل هذه
البلدان ، ومنها "روما " بالدعوة الصحيحة ، والأسلوب الجيد في إبلاغ
الإسلام إلى الخلق ، فغلبته على ما سواه أمر محقق ، وانتصاره على أعدائه كان بقوة
حجته وسلامة منطقه ، وصفاء عقيدته ، والسيف كان للمعاندين الصادين لا الطائعين
المخبتين ، حتى إن فتح الكثير من البلدان في جنوب شرق آسيا كان على أيدي التجار
المسلمين ، الذين أتوا إليهم حاملين دعوة الإسلام الغضة ؛ ففتح الله قلوبهم
للإسلام وآمنوا به ، وكذا في أماكن عديدة في إفريقيا ممن اعتنق الإسلام بدون قتال
؛ فدخلت في زمرة الفتح الإسلامي .
وأما من حصر الفتح فيما وقع عنوة ، ولذا قال قد نزلت هذه الآية ؛ أي : { إنا فتحنا
لك فتحاً مبيناً } في فتح مكة ، وأنه كان عنوة ، ولا يكون الفتح إلا كذلك ، فقد
حكاه " القرطبي " بصيغة التمريض ، واختيار أكثر المفسرين أنه فتح
الحديبية .
(4/109)
فهؤلاء الذين
قالوا بأنه فتح مكة قالوا : لأن الفتح حقيقةً لا يكون إلا فيما يفتح عنوة وفي غير
ذلك مجاز ، فذلك مردود بما ذكرناه من كون ذلك الفتح الذي وصفه ربنا بالفتح المبين
كان بغير قتال .
التأويل الثاني :
وأما ما ذكره من تأويل الدكتور النطق من الحجر والشجر ، فهو التأويل الثاني الذي
ذكره فنقول :
وأما التأويل الثاني : فهو ما كان من فضيلة " الدكتور " من قوله :
" فهل ينطق الحجر والشجر بلسان المقال آية من آيات الله ، وما ذلك على الله
بعزيز ، أو ينطقان بلسان الحال ؟ بمعنى أن يدل كل شيء على اليهود ويكشف عنهم ،
وأياً كان المراد ؛ فالمعنى أن كل شيء سيكون في صالح المسلمين ".
وهنا يظهر جلياً للقارئ أن " الناصب " تحامل على فضيلة " الدكتور
" بحمالة لا وجه للحق فيها ؛ إذ أن فضيلته لم يزد على ذكر قولي أهل العلم في
المسألة ؛ إذ اختلفوا على قولين في ما كان من هذا القبيل من الألفاظ الدالة على تصرف
الجمادات في غير ما ثبت منه بالفعل ذلك كأنين الجذع (1) الذي كان يخطب عليه النبي
–صلى الله عليه وسلم- حين تركه ليخطب على المنبر حين صنع له ، ونحو ذلك من معجزاته
–صلى الله عليه وسلم-، كتسبيح الحصى (2) والطعام (3) ، وحديث الشاة المسمومة (4).
وهل يكون نطق الحجر والشجر بمعنى صدور الحروف المرتبة بالمعنى المذكور إذ أن
الأصوات لا يلزم صدورها عن حناجر وقيل : ولا حتى عن اصطكاك الجواهر .
أو يكون النطق بغير ذلك المعنى ؛ فهذا كله مما يتسع فيه القول ، وليس لأحد فيه
الإنكار على معنى قال به غيره مع احتماله وعدم ورود ما ينفي صحة تصوره .
ولكن " الناصب " لم يحتمل من فضيلة " الدكتور " حتى مجرد ذكر
الخلاف في المسألة ، وعد ذكره تأويلاً ينبغي عدم القول به حيث قال " الناصب
" : "
___________________________________________
وقد قال القاضي في الشفا (1/581) :انه متواتر .
(4/110)
قال الحافظ في
الفتح (6/592):وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها ا 0هـ
وقال الهيثمي في المجمع ( 8/299):رواه البزار باسنادين ورجال أحدهما ثقات وفي
بعضهم ضعف ا 0هـ
وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الخبر من معجزات النبي–صلى الله عليه وسلم- في الفرقان :
292 .
قال الحافظ في الفتح (5/232) : قد ورد تكثير الطعام في الجملة من أحاديث جماعة من
الصحابة ا 0هـ
صححه الألباني في تخريج المشكاة : 5931
وكان الأولى بالدكتور حمله على ظاهره ، لا سيما وهو قد قال بعدم التعرض لأمور
الغيبيات "
ومن هنا يظهر للقارىء شأن ذلك الذي ينصح فضيلة " الدكتور " ويضع نفسه في
هذا الموضع الذي لا يليق به ، وهو يعجز عن مجرد فهم تصريف الكلام ، فلا يقدر أن
يفرق بين حكاية الخلاف واختيار أحد الأقوال .
فرغم أن فضيلة "الدكتور" أشار إلى المعنى الحقيقي ، وقال : " وما
ذلك على الله بعزيز " وذكر المعنى الثاني ، وذكر بعد ذلك الجامع بينهما ، وهو
الذي يطمئن أهل الإسلام بأنه سواء تحقق هذا الأمر أو ذاك فكلاهما يحمل الخير
للمسلمين لما فيه من ظهورهم على عدوهم .
وكما ذكرنا من قبل فإن " الناصب " في الجملة الأخيرة أصبح يحاول تثقلة
ميزان " الدكتور " ؛ أي : الكفة اليسرى فيه بكل سبيل فصار يلقى فيها بكل
توهم يتوهمه ، وتلك الجملة الأخيرة التي أعني بها بعد ما ذكره بعد صفة "
العلو " من ذلك القبيل .
القرضاوي والبدع:
ثم يتكلم " الناصب " بعد ذلك عن منهج فضيلة " الدكتور " ورأيه
في البدع فيعنون لذلك قائلاً :
" القرضاوي والبدع " ؛ فماذا يضع تحت ذلك ؛ إنه يبين أولاً دعوة فضيلته
للاتباع في أمور الدين متابعاً لشيخ الإسلام " ابن تيمية " وأن ذلك
الاتباع ينبني على أصلين كبيرين هما : عبادة الله وحده ، وثانيهما : عبادته بما
شرع فقط وبذلك يحمي الدين من المحدثات والبدع ، وقد ذكر " الناصب " ذلك
عن طريق حكاية فقرات من قول فضيلته .
(4/111)
ثم يعرف بعد
ذلك مفهوم " البدعة " عند " الدكتور " وكالعادة يخبط فيها
برأيه المعارض على قلة معرفته وضيق إدراكه فيقول : " ويعتقد الدكتور أن
البدعة ما كان في أمر الدين المحض مثل العقائد والعبادات وما يلحق بها ، أما ما
كان من أمور الحياة المتغيرة من العادات والأعراف والأوضاع الإدارية ، والاجتماعية
، والثقافية ، والسياسية ونحوها فليس هذا من البدعة في شيء " .
ويتبع ذلك " الناصب " بقوله :" قلت " وهذا القول مجمل ؛ فما
هي الأوضاع الإدارية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي لا تدخلها البدعة ؟ ليت
" الدكتور " فصل في هذا الموضوع ليعلم مراده " .
وهذه عجيبة من أعاجيب " الناصب " التي لا تنتهي ؛ فباختصار القول فيه :
إنه كلما تكلم بكلمة أتى فيها بأعجوبة ، والأعجوبة التي أتى بها هنا " الناصب
" هي طلبه التفصيل في هذه الأمور ، وليته هو الآخر فصل ما يعترض به ، فبين ما
هو نوع التفصيل الذي يطلبه أهو تفصيل في أصول هذه الأوضاع ، أو في فروعها ، أو في
هيئاتها ، أو في طبيعة العاملين فيها ، أو في اختصاصاتها ، أو علاقاتها مع
مثيلاتها في غيرها من الدول ، أو في علاقاتها بغيرها في الدولة ، أو ، أو… ؟؟
(4/112)
وكأن القارئ
إذا قرأ ذلك اشتبه عليه الأمر فلم يدر ما هي الأوضاع التي تكون من أمور الحياة
المتغيرة التي ليست من أمور الدين من النظم الإدارية التي تنظم شئون الدولة من
الكوادر العاملة ، ونظم التخطيط ، ووسائل الاتصال ، وأجهزة مختلفة تعنى بشئون
الحياة داخلياً وأخرى تعنى بالعلاقات الخارجية بين الدول وفق ثوابت المجتمع،
فاستحداث الوزارات وتعيين مهامها ، وسبل تحقيقها يخضع في جله لقواعد المصلحة التي
يتكفل المختصون بتحديدها والعمل في اتجاهها ، ولا يكون اختلاف الآراء فيها من قبل
الأمور التي يرجع فيها لنصوص شرعية خاصة ، بل هي خاضعة للقواعد الشرعية العامة في
المباحات ، والتي توسع في فعل المباح ما لم يترتب عليه محظور شرعي .
وفي هذا يقول " الناصب " شارحاً الحاجة إلى التفصيل بقوله : " لأن
الأمور الاجتماعية ، وهي تشمل العلاقات بين الناس قد يدخلها البدعة سواء في
زياراتهم أو في تحياتهم أو في تعازيهم أو أو
وهو هنا نسى أن فضيلة " الدكتور " إنما يتكلم عن العوائد المتجددة لدى
الناس والتى لا ترتبط بما هو معلوم اتصاله بالشرع ، فخلط هنا بين الزيارات
والتعازي وكأن التعازي من الأمور الحياتية التي لا صلة لها بالدين !! وكأن التحية
أيضاً لم يشرع فيها شرع حكيم !!! ، وكأن الزيارات أيضاً ليس لها آداب شرعية !! ،
وبين غيرها من أمور الحياة الصرفة .
فيقول " الناصب " قد يدخلها البدعة ، والقاصي والداني يعلم كم أحدث
الناس من ابتداعات فيما ذكر " الناصب " الذي لا يدري ما يقول !!
(4/113)
فهو لم يفهم
مراد فضيلته في الأعراف الاجتماعية التي تتغير والعادات ؛ وأن ذلك مما لا علاقة له
سوى بجانب الإباحة من أحكام التكليف ؛ إذ أن ذلك هو الذي لا نكارة في تغيره ،
بينما جوانب الشرع المتفق عليها لا يليق بالمجتمع المسلم تغييرها وإن غيرها ينكر
عليه ، وهو خارج عن ما ذكره فضيلته من أمور الحياة المتغيرة ، وأما جوانب الشرع
المختلف فيها ؛ فهي أيضاً خارج الإطار المذكور ،وإن تغير فيها عمل الناس باختلاف
الأزمان ، وذلك لأن التغير فيها في عمل الناس يكون محدداً بإطار الشرع ،لا بإطار
الهوى المجرد .
ثم يقول " الناصب " : " وهكذا الأمور الثقافية والسياسية " .
وهكذا يرد " الناصب " الإجمال بالإجمال كما قلنا ؛ فما العيب في الإجمال
إذن ؟! فإن كان يطلب التفصيل فهل يفصل لنا ما يطلبه ؟ وإن كان يعيب الإجمال فقد
وقع فيه !!
"القرضاوي والصوفية "
ثم ينتقل " الناصب " إلى معيار آخر من معايير ميزانه الذي يحتاج إلى
معايرة ليعدل من نتيجته الخاطئة فيقول : "القرضاوي والصوفية "
فبعد أن بين فضيلته حقائق التصوف المذموم وما قال به أهله من عقائد باطلة وما أتوا
به من بدع في ذكر الله تعالى على خلاف ما نقل عن السلف رضوان الله عليهم وهو ما
حكاه عنه " الناصب " سعى يبين شأن شمولية الإسلام التي لا تعتمد على
ناحية ، وتغرق في الاعتماد عليها تاركة باقي النواحي دون إشباع واحتفال ، بل تقوم
الشريعة بوضوح على الاهتمام بكل الجوانب التي تتعلق بالنفس البشرية ، وتعطي لكل
جانب قدره بحده ، دون مجاوزة فهي حين اهتمت بالشعور والوجدان لم تجعله كل مقومات
النفس البشرية كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية .
(4/114)
ثم ينتقل إلى
كلام فضيلته عن حاجة النفس البشرية إلى قدر مناسب من التربية الصوفية ، وذلك بعد
أن يقول – حفظه الله : - والواجب أن يعرف هؤلاء مقومات العقيدة السليمة والعبادة
المقبولة عند الله تعالى وهو ما حكاه " الناصب " عنه ، وعقَّب ذلك بأن
نقل عنه أيضاً :
ويقول " الدكتور " لابد من قدر من التربية الصوفية المقومة بميزان
الكتاب والسنة ، والتي تعمل على تكوين الشخصية الربانية التي تؤثر الخالق على المخلوق
، والآخرة على الدنيا ، وباعث الدين على باعث الهوى ، والتصوف ليس كله شراً كما
يتصور البعض ، والمتصوفة ليسوا كلهم ضلالاً ، كما يدعي من ينقصهم العلم أو العدل ،
بل هم كغيرهم من الطوائف كما قال شيخ الإسلام : " ابن تيمية " في رسالته
عن " الفقراء " : ففيهم المستقيم والمنحرف ، وفيهم الظالم لنفسه
والمقتصد ، والسابق بالخيرات بإذن الله"
إلى أن قال فضيلته : " إننا نريد التصوف السني الملتزم بالمنهج القرآني
النبوي المتوازن ، والذي يعنى بـ " تقوى القلوب " قبل أعمال الجوارح
"
فماذا قال " الناصب " عن موقف فضيلته هذا ، انظر أيها القارئ العزيز إلى
مقالته لتعرف خطر النصيحة إذا صدرت عن غير أهلها : إنه يقول : " كان الأولى
بالدكتور أن لا يربط الأمة وشبابها بالتصوف وأهله ؛ لأن التمييز في هذا المقام لا
يجيده إلا أهل العلم والبصيرة ؛ فكم من صوفي ملحد يدعي الالتزام بالكتاب والسنة ،
وهو يلبس على الأمة دينها تحت مسمى " التصوف " .
(4/115)
وهو كلام يدل
على سطحية مفجعة لهذا " الناصب " في نظرته للأمور ؛ فهو يريد بقرار
" ناصبي " ، وبجرة قلم سمجة منه أن يهدم كلمة لها مدلولها ووجودها في
التاريخ الإسلامي ، وهي " الصوفية " ، وذلك بحجة أن التمييز في هذا
المقام لا يجيده إلا أهل العلم والبصيرة والرد عليه من كلام فضيلة الدكتور حيث قال
: " إننا نريد التصوف السني الملتزم بالمنهج القرآني النبوي المتوازن "
، وهو أمر يمكن لعدد كبير إدراكه ولأجل هذا كان يقول المتصوفون الأوائل تحذيراً من
أهل الباطل : لو نظرتم إلى رجلٍ أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء ، فلا
تقتدوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر ، والنهي ، وحفظ الحدود ، وأداء
الشريعة.
وهذه أمور يشترك الكثير في إدراكها و معرفتها ، وهي ما عناه فضيلة "الدكتور
" بالتصوف السني .
وشيخ الإسلام يقول عن تلك الطائفة ما نصه : " ولأجل ما وقع في كثير منهم من
الاجتهاد والتنازع فيه ، تنازع الناس في طريقهم ؛ فطائفة ذمت الصوفية والتصوف ،
وقالوا : إنهم مبتدعون خارجون عن السنة ، ونقل عن طائفةٍ من الأئمة في ذلك من
الكلام ما هو معروف ، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام ، وطائفة غلت
فيهم ، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم
"
فهكذا رأي "ابن تيمية" استواء هذين الطرفين في الذم ، ومعلوم موقع
"الناصب " من كلام " ابن تيمية " رحمه الله حيث إنه كما سترى
– أيها القارىء العزيز – يصدر صك حرمان من الفضل والخير بمجرد الانتساب إلى
الصوفية . وسترى ذلك أثناء تعقيبه على كلام فضيلة "الدكتور" في المجددين
.
(4/116)
ثم يبين
" ابن تيمية " بعد ذلك رأيه في هذه الطائفة قائلاً : " والصواب
أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ؛ ففيهم السابق
المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل من الصنفين
من قد يجتهد فيخطئ ، وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب ، ومن المنتسبين إليهم من هو
ظالم لنفسه عاص لربه "
وهنا نلاحظ أن " ابن تيمية " رحمه الله – وصفهم بالاجتهاد في طاعة الله
، وجعل أولئك هم الصوفية حيث قال : " والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله
" ، وأنه حينما تناول العاصين قال : " ومن المنتسبين إليهم ؛ " أي
: فليسوا منهم على جهة الحقيقة ، وإنما على جهة الدعوى والادعاء .
ويبين هنا – رحمه الله – أن الصوفية على ثلاثة أصناف ، وهي : "صوفية
الحقائق" ، و"صوفية الأرزاق" ، و"صوفية الاسم" ، ويجعل
صوفية الحقائق هي تلك التي امتدحها ؛ فيقول : " فأما صوفية الحقائق فهم الذين
وصفناهم " ، ويقول عنهم أيضاً في بيان علو نفسهم : " وأكثر أهل الحقائق
لا يتصفون بلزوم الخوانك " ؛ أي : حتى تجرى عليهم الأرزاق .
ويقول عن " صوفية الأرزاق : فهم الذين وقفت عليهم الوقوف ، ويقول عنهم حتى
يصح انتسابهم للصوفية واستحقاقهم لتلك الوقوف ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط :
أحدها : العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم .
والثاني : التأدب بآداب أهل الطريق ، وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما
الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها .
والثالث : أن لا يكون أحدهم متمسكاً بفضول الدنيا ؛ فأما من كان جماعاً للمال ، أو
غير متخلق بالأخلاق المحمودة ولا يتأدب بالآداب الشرعية ، أو كان فاسقاً ؛ فإنه لا
يستحق ذلك .
(4/117)
فإن كانت هذه
الشروط الثلاثة هي أدنى ما يستحق به الصوفي النسبة إلى الصوفية حتى يستحق أرزاق
الوقوف الموقوفة على أهل الصوفية ، فإنه يظهر لنا بذلك مدى فهم "شيخ
الإسلام" – رحمه الله- لهذه الطائفة على حقيقتها وعدم خلطه في شأنهم ، وعيبه
على من يذمهم مع اجتهادهم في طاعة الله وينسبهم إلى البدعة والخروج على السنة ،
وهو ما قاله فضيلة " الدكتور " الصوفية السنية ، والتي هي بلا شك من
أطلق عليهم " شيخ الإسلام " " صوفية الحقائق" ، ويدخل معهم
" صوفية الأرزاق " بالشروط الثلاثة التي ذكرها " شيخ الإسلام
" وقد بينا أنه لا يستحق بعدها النسبة إلى تلك " التسمية " .
وخلاصة ما ذكرناه أن ما ذكره فضيلة " الدكتور " في هذا المعنى إنما أخذه
موافقاً لابن تيمية تماماً في هذا الشأن ومتابعاً له ، وهذا يعني أن ذلك التعقب
الذي قام به " الناصب " على فضيلته إنما هو تعقب على " شيخ الإسلام"
نفسه؛ لأنه كما قال القاضي " عياض " : من تعقب غيره في أمر اتبع فيه
غيره كان المتعقب هو المتبوع لا التابع .
ثم إن " الناصب " يدعو لتسمية بديلة عن تسمية الصوفية ، فيقول
"التزكية" ، والشأن في التسمية التي يقترح أن تكون بديلة أن تقع مرادفة
، والثاني أن تكون مستوية في الشهرة ، إذ أن إبدال الاسم بأخفى منه تضييع لمعالمه
ولعل ذلك هو قصد " الناصب " والذي أساء فهم " الصوفية " فجنى
بآرائه الباطلة عليها .
(4/118)
إذ أن الصوفية
هي سلوك طريق الزهد والعبادة مما له فيه اجتهاد ، كالفقهاء وهم من يسلك طريق الفقه
والعلم مما له فيه اجتهاد ، ولأجل ذلك فإن "شيخ الإسلام" صحح مقالتهم
بأنه : " ليس بعد الأنبياء أفضل من الصوفي " ، وذلك لكون الصوفي في
حقيقته إنما هو نوع من الصديقين ؛ إذ هو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على
الوجه الذي اجتهدوا فيه ؛ فكان الصديق من أهل هذه الطريق ، كما يقال : صديقوا
العلماء ، وصدِّيقوا الأمراء ؛ فهو أخص من الصِّدِّيق المطلق ، ودون الصديق الكامل
الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ومعلوم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم
" الصديقون " كما في قوله تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } ومن هنا كان لمقالتهم معنى صحيح
، حتى قال فيهم " ابن تيمية " رحمه الله " وقد يكونون من أَجَلِّ
الصديقين بحسب زمانهم ؛ فهم من أكمل صديقي زمانهم ، والصديق في العصر الأول أكمل
منهم" .
يقول الإمام ابن القيم :
اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق (1) . وقال الشيخ محمد
بن إبراهيم مفتي الديار السعودية :
مطلق لفظ التصوف بدعة ، لكن جنس الأسماء ليست مثل الاعتقادات . والمتصوفة على
قسمين : متصوفة سنيين ، ومتصوفة بدعيين ، ومقتصدوهم ليس
فيهم إلا القليل من البدعة ، وبعضهم عنده الشيء الكثير ، وجعلوا التصوف نافذة إلى
وحدة الوجود . (2) .
وقال الشيخ "عبدالله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب" : ولا ننكر الطريقة
الصوفية ، وتنزيه الباطن من رذائل المعاصي (3) ا 0 هـ .
(4/119)
فإذا علم ذلك
فإن إبدال تسمية " الصوفية " المشتهرة بـ " التزكية " التي لا
تطلق على فئة بعينها ولا على سبيل معين مما لا يحصل به معنى المرادفة ، الأمر الذي
يلزم لصحة المبادلة التي يطلبها ذلك " الناصب " ، وهو أسلوب آخر لحذف
الكلمة التي لا تروقه لقله علمه واطلاعه ؛ إذ اكتفى بمن يذم المنتسبين إلى الصوفية
فحمل ذلك على الصوفية جمعاء ، وقد ذكرنا للقارئ في هذا المعنى ما
_____________________________
(1) د 0 القرضاوي ، ثقافة الداعية : 95 .
(2) فتاوى محمد بن إبراهيم (1/261) .
(3) الدرر السنية (1/241) .
في ويكفي بإذن الله ويكفي أن شيخ الإسلام قد قال : وقد نقل التكلم به عن غير واحد
من الأئمة والشيوخ كالإمام "أحمد" ، و "الداراني" و"
الثوري " وغيرهم (1) ، وتابع شيخ الإسلام على ذلك تلميذه " ابن القيم
".
ففضيلة " الدكتور " كعادته دائماً حينما دعا إلى الجانب الصوفي كان
واضحاً تماماً ومحدداً للشباب ما يريده منهم من الالتزام بالمنهج القرآني النبوي
والعمل على الاهتمام بأعمال القلوب قبل أعمال الجوارح ، وبروح العمل قبل صورته ،
وجهاد هوى النفس وتهذيبها حتى تصح وتتحلى بالفضائل وتتخلى عن الرذائل، وفي نفس
الوقت تتجنب أباطيل التصوف الفلسفي ، والارتزاقي ، والخروج عن رسم الشرع وسننه وركوب
الأقوال الباطلة التي رفعها بعض منتسبي "الصوفية" ممن تشبه بهم وليس
حقاً على طريقتهم ، وهذا البيان من فضيلته هو الهدى والنور لشبابنا الذين يستضيئون
بإرشادات فضيلته رغم تعمية الحاقدين عليهم ومراودتهم لهم عن الطريق النقي الذي
رسمه لهم فضيلة " الدكتور " الذي يجتمع فيه خير الدنيا والآخرة .
(4/120)
ثم إن "
الناصب " يقتصر في مدحه على أعلام أهل السنة ممن لهم باع في التصوف ، ويمتنع
عن وصفهم به ، وكأنه لا يستحق المخالفون شيئاً من المدح ، وهذا خروج عن منهج السلف
الصالح وأهل السنة والجماعة الذين تميزوا بالعدل والإنصاف مع خصومهم ، ذلك المنهج
الذي سنؤكده في كل مناسبة ، حتى ______________________
(1) ... الفتاوى ( 11/5) .
قال " الذهبي " في رأس الصوفية " عبدالواحد بن زيد " : "
الزاهد القدوة شيخ العُبَّاد " ، وقال كذلك في تلميذه " أحمد بن عطاء
" مبتدع الأربطة والطرق المحدثة : " شيخ الصوفية العابد القانت "
هكذا يكون الإنصاف " ، وهكذا كان الناس !! ، ولم يكونوا هكذا يريدون شطب ما
لا يروق لهم من الأسماء ، والأجناس ، بل يعترفون بالفضل والحق وإن كان عند مبتدع ،
ويستفيدون منه ، كما حكى " ابن القيم " في مدارج السالكين عن الإمام
" الشافعي " قوله : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم
يقولون : الوقت سيف فإن قطعته ؛ وإلا قطعك ، ونفسك إن لم تشغلها بالحق ؛ وإلاشغلتك
بالباطل " ، فيقول " ابن القيم " معقباً على ذلك: قلت يا لها من
كلمتين ، ما أنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قائلها ويقظته ويكفي في هذا
ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم".
فهل يدرك الناصب أيضاً قدر هذه الطائفة المظلومة من قِبَل من يجهل شأنهم ؟ .
الفصل الثالث
القرضاوي والأشاعرة
( القرضاوي والأشاعرة )
(4/121)
بدأ "
الناصب " حديثه بالتذكير بما أورده ، وسبق أن رددنا عليه فيه من كون فضيلة
" الدكتور " درس في الأزهر على طريقة الأشاعرة ، وأنه لم يدرس كما ظن
" الناصب " كتب الأشاعرة وحدها ، بل جمع معها كتب الماتريدية أيضاً وأن
هذه الدراسة للطلاب لكي تتنوع مقدرتهم على فهم مسائل الاعتقاد ، ومناقشاتها
الكلامية ، فتبرز لهم قدرة على الاختيار من بين الأقوال ، والانتخاب من بين الآراء
، ولكن " الناصب " أراد أن يحكم من ذلك على فضيلته حكماً لا مفر له منه
، وهو ما عبر عنه بقوله : " فلذلك نكتت فيها ( أي الكتب في قلب الدكتور )
نكتةً لا تزول إلا بكثير من الجهد والاجتهاد "، فحد " الناصب "
لزوال أثر هذه الكتب حداً غير معلوم ليحكم من ورائه على أنه متأثر بالعقيدة
الأشعرية ، وقد نقلنا من كتابات فضيلة " الدكتور " ما يثبت إثباتاً
واضحاً أن العقيدة التي اختارها من إثبات ما أثبته الله لنفسه ووكل علم كيفيته إلى
الله .
وقد راح " الناصب " يعزى كل ما يصدر عن فضيلته أنه ثمرة ما غرس في نفسه
في بداية الطريق العلمي ، فكان أن جعل فضيلته " الأشاعرة " من أهل السنة
والجماعة من الأمور التي أثارت حفيظة " الناصب " عليه وجعل ذلك من
الآثار السابق ذكرها ؛ وكأنه لم يقرأ ذلك في كتب أهل السنة والحديث ، بل وعلى لسان
" ابن تيمية " نفسه في عدد من المواضع بطريق التلميح ، وصرح في غير موضع
أنهم نواب أهل الحديث في التكلم بلسان أهل السنة والجماعة ، وكذا في كلام "
ابن أبى العز " ما يدل على ذلك ، وغيرهم كثير ممن لم يسبق لهم الوقوع في ذلك
التأثر السابق كما ادعى " الناصب "
ثم يقول " الناصب " : " والدكتور ليس هو أول واقع في هذا الاعتقاد
، وهو أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة ، أو أنهم منهم على أقل تقدير ، فقد وقع
في هذا آخرون غيره يفوقونه علماً ودراية "
(4/122)
ونحن نقول
لذلك " الناصب " هل هذه هي عادتك أن تعتبر كل من خالفك مخطئاً ، ولا
يقوم في نفسك أدنى شك يبعث على النظر فيما تقول ، وتحقيقه على وجه أفضل يكفل لك
المعرفة الصحيحة بما تخوض غماره .
ويذكر " الناصب " عدداً من الكتب وقعت في هذا الغلط على حد زعمه – فيكشف
عن جهل عظيم ، اعتدنا منه الكشف عنه كلما تحذلق في أمر من الأمور ، وذلك أنه ذكر
كتباً لأشعرية المذهب كالغزالي ، " والشعراني " و " السبكي "
، وكأن المنتظر أن يقول " الأشاعرة " عن أنفسهم أنهم ليسوا على مذهب أهل
السنة والجماعة !!
وهم الذين حملوا لواء السنة أمام سائر الفرق وتكلموا بلسانها حتى كانت لهم الغلبة
على من عداهم من أهل الفرق ولذا فمن الطبيعي أن يتكلم الأشاعرة عن أنفسهم بأنهم
أهل السنة ، ويرون غيرهم من المخالفين ليسوا من أهل السنة .
قال في "العلم الشامخ " :" ثم إن الناس صنفوا في هذا المطلب – أي :
في بيان حديث الافتراق ، وأخذوا في تعداد الفرق ليبلغوا بها إلى ثلاث وسبعين ثم
يحكم كل منهم لنفسه ومن وافقه بأنه الفرقة الناجية ، وإنما يصنعون ذلك لادعاء كل
منهم أنه على ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-.
وقال كذلك : - ومن المعلوم أن ليس المراد أن لا يقع منهم أدنى اختلاف فإن ذلك قد
كان بين فضلاء الصحابة إنما الكلام في مخالفة تصير صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها
"
(4/123)
وقال كذلك :
" كل تسمى باسم مدح اخترعه لنفسه .والاعتبار الحقيقي في ذلك هو بما ذكره أهل
الحديث من أصحاب " أحمد " في عد " الأشاعرة " و "
الماتريدية " من " أهل السنة " وذلك كالعلامة " السفاريني
" الذي نسبه " الناصب " إلى الغلط في عده " الأشاعرة "
من طوائف أهل السنة والجماعة وذلك حيث قال في تعريف أهل السنة والجماعة : "
أهل السنة والجماعة ثلاث فرق : الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه ،
والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله ، والماتريدية وإمامهم أبو منصور
الماتريدي " وأما فرق الضلال فكثيرة جداً " ، وقد خطأه في ذلك "
الناصب " وهو على العموم أفضل من قول من قال بالمصانعه لكونها غير لائقة ،
وهي إدخال للتقية في قول علمائنا ، وهو باب فساد لا يخفى على أحد ، والعصبية تحمل
على ما هو مثل هذا وأشد !!! ، وتابع " السفاريني " على هذا القول عدد من
العلماء كابن شطى ، وغيره ، كما في تبصير القانع في الجمع بين شرحى " ابن شطى
" و " ابن مانع " على العقيدة السفارينية ، وكذا " ابن سلوم
" في مختصر لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية ، ولقد حمل "
ابن سحمان " حملة على كل من العلامتين " الشطى " و " ابن سلوم
" في " تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة
الوخيمة ، حيث قال في هذا الأخير :" ليس هو من أئمة أهل الإسلام ، ولا من
الأفاضل الأعلام " ، وذلك لمخالفته لطريقة الشيخ "محمد بن عبدالوهاب
" في عدد من المسائل الخلافية ، فأخرجه لذلك من الأفاضل " بينما قال
الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ " فيه : " إنا لا ندري خاتمة هذا الرجل ؛
فالله أعلم بحاله "، ووجه أنه لا يدري خاتمته أنه لم يطلع في مؤلفاته على
تأييد لدعوة " الشيخ " ولا اعتراض ؛ فسكت لذلك عنه .
(4/124)
وممن تابع
" السفاريني " أيضاً على ذلك الشيخ العلامة " عبدالله بن خلف
الدحيان " حيث قال : عقائد الفرقة الناجية وهم : الأشاعرة و الماتريدية وأهل
الحديث "، ولقد أثنى عليه العديد من علماء نجد وغيرهم كابن بدران ، و "
الألوسي " ، و " ابن شبل " و " إبراهيم بن صالح " وأما
قول " السفاريني ":
وليس هذا النص جزماً يعتبر
(4/125)
*** في فرقة
إلا على أهل الأثر
فذلك من حيث إن لفظ الحديث يصدق بيقين على " أهل الأثر " ؛ ولا يصدق
يقيناً على من سواهم ، وهذا يعني أنه قد يصدق ظناً على ما ذكر أنهم من أهل السنة
في أول كلامه حيث قال فيمن سوى الثلاثة : وأما فرق الضلال فكثيرة ، وهو ما يقتضي
كونهم داخلين في أهل الحق الذين هم أهل السنة والجماعة ، ولذا فلم يوصفوا بفرق
الضلال . وذكر الشيخ " عبدالله بن خلف " جواباً لبعض أهل العلم عن ظاهر
لفظ الحديث ومقتضاه أنهم فرقة واحدة ، وذلك ينافي التعدد ، وهو أن : الثلاث فرق هي
فرقة واحدة لأنهم كلهم أهل الحديث؛ فإن " الأشاعرة " و "
الماتريدية " لم يردوا الأحاديث ولا أهملوها ، وإنما فوضوها وإما أولوها ،
وكل منهم أهل حديث ، وحينئذٍ فالثلاثة فرقة واحدة لاقتفائهم الأخبار ، وانتحالهم
الآثار ، بخلاف باقي الفرق فإنهم حكموا العقول وخالفوا المنقول ؛ فهم أهل بدعة
وضلالة ومخالفة وجهالة " .
وقد ذكر أيضاً أنهم من أهل السنة العلامة " ابن الوزير " في غير موضع من
ذلك ما قاله في " العواصم " ومنه :
قوله في معرض رده على المعتزلة في تكفير من خالفهم في مسئلة خلق الأفعال ، حيث قال
: " فأما الرد عليهم فلست أتعرض لنقضه ، بل هو عندي حق وصواب ، ولكن ما هو من
مقصود كتابي هذا ؛ فإن سائر طوائف أهل السنة الثلاث الآتية ترد على هذه الطائفة
الأولى كما ترد عليهم المعتزلة ، وكما يرد بعض المعتزلة على بعض في تفاصيل مذهبهم
" .
قوله عن " الأشعرية " : " وهم أقرب فرق أهل السنة إلى الجبر "
، وقال أيضاً : " …..وهم طائفة من متكلمي أهل السنة " كالأشعرية "
وقال في " إيثار الحق " : " البحث الرابع : اتفق أهل السنة من أهل
الأثر والنظر والأشعرية على أن الإرادة لا يصح أن تضاد العلم .
(4/126)
وقد أدخل
" ابن أبي العز " " الأشاعرة " في طوائف أهل السنة في معرض
كلامه عن القدرة حيث قال : وقالت " القدرية " ، و " المعتزلة
" : لا تكون القدرة إلا قبل الفعل ، وقابلهم طائفة من أهل السنة ؛ فقالوا لا
تكون إلا مع الفعل " ، وهو قول " الأشاعرة " وهو موافق لقول أهل
الجبر ، ومع ذلك فقد قال " أبن أبي العز ": طائفة من أهل السنة ، وهو لا
يعرف عن أحد منهم من أهل الأثر من الأئمة الأربعة ولا غيرهم على ما قاله "
ابن تيمية" وهو بدوره يقتصر في تعريفه لأهل السنة على أنهم أهل الأثر ، ولكن
جعل " الأشاعرة " معهم كالنائب مع الأصيل فيكون " الأشاعرة " أهل
السنة في مقابل غيرهم من أهل البدع والضلالات ، ولهذا انتقد " ابن تيمية من
بالغ في ذم " الأشعرية " باعتبار أنهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة ،
وممن قصر أهل السنة على أهل الأثر من " المتأخرين " " ابن بدران
" وحمل كلام " السفاريني " عليه ، وقد سبق أن بينا ما في أول كلام
" السفاريني " وما في آخره من عدم التعارض ، وذلك لدخول " الأشاعرة
، و " الماتريدية " في جملة حملة الأثر الذين قبلوا الآثار ولم يردوها
وكان تأويلهم قريباً ، ورأوا جواز تفويضها وإن أخطأوا فيما جوزوه كذلك .
ومع ذلك فقد كان " ابن تيمية " يمدح سلاطين المسلمين من " الأشاعرة
" كصلاح الدين الأيوبي فيقول في فتح صلاح الدين الأيوبي ، مصراً" ؛
فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين ، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة ، وذلك
جرياً على اعتباره الذي ذكرناه من إجراء الأشاعرة في مقابل من سواهم أهل السنة ،
ولكنه مع ذلك لم يذهب إلى أنه يتناولهم الوعيد لوجود الاجتهاد منهم ، وحصول
التأويل أو لكثرة الأعمال الصالحة مما تمحى به السيئات ، رغم تناول ألفاظ الوعيد
لهم ، إلا أن المانع من تحققه في حقهم ما ذكرنا و أشباهه .
(4/127)
وقد قال
العلامة " ابن باز " رحمه الله – في تنبيهاته على ما كتبه الشيخ "
الصابوني " : " فالمتأول لبعض الصفات كالأشاعرة لا يخرج بذلك عن جماعة
المسلمين ، ولا عن جماعة أهل السنة في غير الصفات ، ولكنه لا يدخل في جماعة أهل
السنة عند ذكر إثباتهم للصفات " ووجه قوله – رحمه الله – ذلك حتى يعلم الناظر
في مذهبهم مخالفتهم لمنهج أهل السنة في هذا الباب فلا يغتر بأقوالهم ، ومن ثم فهو
غير قانع لإطلاق لفظ أهل السنة عليهم من حيث الجملة، وإنما في هذا الباب فقط حتى
لا يكون سبيلاً لإضعاف قول أهل السنة المثبتة للصفات أو التشويش عليه وهو أمر
مفروغ منه بطبيعة الحال إذ أن القول بأن لأهل السنة ثلاث فرق ، لا نعنى بذلك أن
الثلاث في كل مسئلة على حق فيما اختلفوا فيه ، بل لابد من كون إحداهن على حق ، وهي
ما تبعت سبيل السلف في الإثبات ، وكذا فإن عدداً من مسائل الصفات قد اختلف فيها
أهل الحديث في الإثبات فلا يجعل فيها المخالف خارجاً عن منهج أهل السنة والجماعة ،
وإن نبه على خلافه للمنهج في هذه المسائل ؛ لأن الحق كما هو معلوم لا يتعدد بين
أقوال مختلفة ولو كان كل من خرج عن منهج أهل السنة في عدد من المسائل يعد خارجاً
عنهم جملة لما بقى لنا على ذلك المنهج اثنان كما قال " الذهبي " عن تأويل
" ابن خزيمة " حديث الصورة .
وبهذا يظهر لنا أن تخطئة " الناصب " لفضيلته من أجل ذكره دخول المتكلمين
؛ أي : من الأشاعرة في أهل السنة وقد ذكرنا من قبل ما ذكره " ابن الوزير
" من عده الأشاعرة من متكلمي أهل السنة ، وذلك لموافقتهم أهل السنة في قبول
أحاديث الصفات في الجملة ، وقد بينا وجه ذلك سابقاً
ومن المناسب تذكير " الناصب " بأن " ابن تيمية " – رحمه الله
– نفسه وصف الأشعرية بأنهم" متكلموا أهل السنة " حيث قال : معقباً على
متعارضين في حقيقة الوجود هل هو متواطىء أو مشترك ، فقال الأول : متواطىء ، وقال
الثاني : مشترك .
(4/128)
فنصر الثاني
مقالته بقوله : ليس مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته ؛ فأنكر الأول
ذلك ؛ فقال " ابن تيمية " : " أما متكلموا أهل السنة – يعني بذاك
" الأشعرية " – فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته ، وأما القول الآخر ،
فهو قول " المعتزلة " ؛ فإن كان ذلك كذلك وأطلق " ابن تيمية "
على الأشاعرة أنهم متكلموا أهل السنة فما هو خطأ فضيلة " الدكتور " إذن
؟ ! ، وفي موضع آخر أطلق عليهم أنهم متكلموا أهل الحديث ؛ فأدخلهم في جملة أهل
الحديث ، وقد سبق أن بينا دخولهم فيهم .
وأما ثاني نقولات " الناصب " عن فضيلة " الدكتور " فهي حكايته
عن الماتريدية والأشاعرة بأنهم كانوا المعبرين عن أهل السنة فقال فضيلته :"
الأشاعرة " و " الماتريدية " الذين كانوا يعبرون عن أهل السنة طوال
القرون الماضية لم يسلموا من التأويل الذي أنكره عليهم غيرهم " .
وليس في هذا النقل عن فضيلته أكثر من أن الأشاعرة و الماتريدية كانوا يتولون عبء
الدفاع عن السنة أمام أعدائها من المعتزلة وغيرهم وهذا يشهد به من يعتبرهم من أهل
السنة ، ومن لا يعتبرهم ، وقد ذكرنا طرفاً و أخبار أهل العلم يدل على ذلك ومنها
أقوال الإمام " ابن تيمية " رحمه الله ، وهي خير شاهد على ذلك .
وما ذكرناه في هذا المقام يرد على كثير مما أورده " الناصب " في أماكن
أخرى.
(4/129)
وبهذا يظهر
لنا أن ما قاله فضيلته من دخول هذه الطوائف تحت جناح أهل السنة والجماعة إنما هو
متابع فيه لفضلاء أجلاء من أهل السنة والجماعة ممن ذكرنا ، منهم " العلامة
" " ابن الوزير " ثم " السفاريني " ثم
"الدحيان" ، وغيرهم ، فلا يليق نسبته إلى الخلط والغلط ، وهو يعرف ما
يريد ويختار ما يطمئن إليه قلبه بعناية ودراية ، وليس من حق مخالفه وصمه بهذه
الصفات وكأنه على الحق الذي لا محيد عنه ، ولا يقال بغيره ، دون مراعاة للخلاف في
ذلك من الناحية العملية الواقعية ؛ فذلك سبيل المستبدين المتحكمين بآرائهم
المعتدين بها على نحو أنه لا يجري عليهم خطأ ؛ فسبحان الله هو وحده ذو الجلال
والكمال الذي لا يجري عليه خطأ ولا نسيان .
وبهذا البيان نأتي إلى ختام هذا الفصل في بيان ما قاله فضيلته في شأن الأشاعرة ،
وأن قوله – حفظه الله – سواء رضى به " الناصب " أو لم يرض إنما هو له
وجهته وحجته ، وليس المرء يوزن برأي غيره ، وإنما يوزن من حيث جهده واجتهاده ، وقد
يتفق معك في الرأي غيرك ولا يكون لرأيهم وزن لأنها آراء لم تصدر عن جهد واجتهاد ،
وإنما جاءت كرمية بغير رامٍ ؛ فليست الموافقة المجردة هي المقياس ، وإنما ما
ذكرناه من الجد والاجتهاد .
والعجيب الذي نبهنا إليه كثيراً أن " الناصب " قد جعل رأيه في القضايا
الخلافية هو الفيصل في شأن الآخرين فله ذلك ، ونتركه وشأنه ، وبياننا إنما يكون
لتنبيه الغافلين والمغترين وتثبيت العارفين وتذكرة المهتدين .
الفصل الرابع
القرضاوي والرافضة
القرضاوي والرافضة :
وهو فصل آخر من فصول مناقشة " الناصب " لعقيدة فضيلة " الدكتور –
حفظه الله وأيده ورعاه وسدد على الحق خطاه –
(4/130)
يقول "
ابن تيمية " :" والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد " ، ويقول عن
معاملة أهل السنة لهم : " يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم فإن
الظلم حرام مطلقاً – كما تقدم - ، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم
لبعض ، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض " وكان الإمام "
أحمد " مع تكفيره للجهمية والمعتزلة يخطىء الشيعة غير الغلاة ، مع أن الجهمية
والمعتزلة أقرب إلى أهل السنة من الشيعة ، حتى قال : " ابن تيمية " :
" ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج ؛ فإن المعتزلة تقر بخلافة
الخلفاء الأربعة ، وكلهم يقولون أبا بكر وعمر وعثمان وكذلك المعروف عنهم أنهم
يتولون علياً " .
ثم يقول " الناصب " وخلال سعي " الدكتور "الخبيث إلى التقريب
مع الروافض يزعم أن مذهب الرافضة الفقهي مما يعتد به في مسائل الأحكام".
ولا أدري من أين أتى " الناصب " بوصف سعي " الدكتور " بأنه
خبيث ، ولم يذكر في موضع واحد ما هو التقريب الذي ينادي به فضيلة " الدكتور
" ؟ ؛ فهو لم يعرف في موضع واحد ، وهذا ما يدل على أنه يحكم على قول فضيلته
دون أن يعلم ما فيه ، ودون أن يدرك ما يقصده ، وقبيح بالمرء أن يزيف ما لا علم له
به ويقبح قائله وهو لا يدري ، ويدعي عن فضيلته أنه قال بأن مذهب الروافض مما يعتد
به في مسائل الأحكام وهو ما لم يقله فضيلته في موضع من كتبه ، ولا نقل "
الناصب " نقلاً واحداً يفيد ما ذكره ، وكل ما أتى به من نقول ليستدل بها على
ما يقول إنما هو ضرب من النقول هو تضييع للعقول ، فانظر أيها القارىء الكريم إلى
ذلك " الناصب " ماذا يقول ؟ ! إنه يقول :
(4/131)
" يقول
الدكتور : قد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب " السنية وغير السنية "،
ومن خارج المذاهب على عقوبة المرتد " فهذا هو أول ما نقله ولا أدري ما هو سبب
تصديره لذلك النقل ، وليس فيه أدنى دلالة على اعتماد المذاهب الخارجة عن منهج
الأمة في مسائل الخلاف ، وإنما فيه تقوية حكم المسئلة كما نقول أجمع الناس غير
الدهرية على وجود الله .
وكذا أجمعت الفرق الإسلامية على كذا ، وكذا من مسائل الاعتقاد ، وهو كثير منقول عن
أهل العلم ، وغرضه إفادة قوة حكم المسألة ، كما أفادوا ذلك في مواضع عديدة ومنها
أيضاً في ذكر إرهاصات النبوه ، وذكرهم ما كان من الحزَّائين من إثباتهم ظهور نبي
الختان كما في حديث " هرقل " وذلك تأكيداً لنبوته باتفاق الصادقين
والكاذبين عليها ، ولا يعني بذلك إثبات صدق الكهان كما هو معلوم ، وذكره "
ابن حجر " وغيره ، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة ، ومنها بينة السماع وفيها :
لا يزال الثقات وغيرهم يقولون : كذا ؛ فإذا علم ذلك فإن بناء " الناصب "
الاحتجاج بمذهب "الشيعة " على العبارة التي ساقها لا يظهر ، وعلاوة على
ذلك فهو يُظهر ضعف فهمه وقلة معرفته بأساليب أهل العلم في دعم المقالة وتقوية الحجة،
ومظاهرة القول .
ونفس الكلام نقوله مع ما نقله " الناصب " عن فضيلته من قوله : "
نعم لقد أغلق باب الاجتهاد – كما يقال – في القرن الرابع الهجري ، ولكن هذا
الإغلاق للاجتهاد لم يمنع الفقهاء من الاجتهاد داخل المذاهب الأربعة ، وداخل الفقه
الجعفري " .
إذ أن هذا النقل فيه إفادة عن توقف العلماء عن استخراج حكم المسائل في كل المذاهب
القائلة بإغلاق باب الاجتهاد سواء من الأربعة المتبعة عند أهل السنة أو غيرهم
كالجعفرية من الشيعة ، ولا يدل ذلك بأى أنواع الدلالة المعروفة على أن اجتهاد
الفرق المبتدعة المخالفة للحق داخل في الخلاف المعتبر للأمة .
(4/132)
ويقول "
الناصب " عقب ذلك " قلت : وهذا خطا شنيع وقع فيه " الدكتور "؛
فلم يكن خلاف الرافضة مما يعتد به أهل السنة " وقد بينا وهم " الناصب
" بما فيه الكفاية .
والعجيب أيضاً أنه نقل عن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب نقلاً لا أدري ماذا يمكن
أن يقال عنه ، أو فيه ، ونسى " الناصب " ما حكاه كمنهج لازم الاتباع
" أقوال أهل العلم يحتج لها ، ولا يحتج بها :، ومع ذلك يذكر كلام عبدالله بن
محمد بن عبدالوهاب عن الرافضة : ولا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة ،بل
نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة " ولا أدري ما الذي يقصده بذلك الجبر ؟
وعلى أي شيءٍ ؟ على تقليد المذاهب الأربعة ؟ ! وهي التي يتنصل الكثير من أدعياء
السلفية من معرة تقليدها !! ، وإن كان الناصب يطالب فضيلة " الدكتور "
بتفصيل الواضحات ، ولكنه يعمى عن تفسير الغرائب والأحاجي التي ينقلها !!! ، وكأنه
لا يعبأ بما فيها ، أو لا يدري بما فيها .
ولم يَسْع " الناصب " في ذكر الأدلة الدالة على إلزامهم بذلك ، وإنما
اكتفى بذكر القول الذي ينبغي أن يحتج له لا به ، كما يقول " الناصب " !!
، وكُلُّ ما ذكرناه " إنما هو خروج منه دائم ومتكرر عن قواعد الميزان حيث إنه
يزن الرجال بالرجال تارة ، وبرأيه أخرى ثم إنه نقل تعقيب للشيخ " ابن باز
" - رحمه الله – على " ابن حجر " في " الفتح " في نقلة
خلاف " الإمامية " في مسألة " التأمين " ونسى أن التعقيب لا
يلزم منه بالضرورة صدق المتعقب وخطأ المتعقب عليه ونسى أيضاً ما ذكره "
الناصب " من أنه ليس قول واحدٍ من أهل العلم بحجة على الآخرين .
(4/133)
وما بيناه من
قبل من أنه لا يلزم من ذكر الخلاف أنه يؤثر ، حتى ذُكِرَت في كتب العقائد خلافات
اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل الفاسدة لبيان ما دخل من الخطأ ، وليس ذلك
لدخولهم في عداد من يعتبر قوله في الصواب والخطأ ثم إن كلام الشيخ " ابن باز
" رحمه الله – ليس فيه أكثر من أن قال : " ما كان يحسن من الشارح أن
يذكر خلاف الإمامية " ولم يقل إن ما قاله يدل على اعتداده بكلامهم ، ولم يقل
أيضاً ما قاله " الناصب " " وهذا خطأ شنيع".
فما أشنع من أن يجد المرء نفسه مضطراً للجواب عن كلام وسفسطة من هو مثل "
الناصب " فهماً ودراية !!
ثم تكلم " الناصب " عن تساهل " القرضاوي " ونذكره هنا
للمناسبة حيث إنه ذكره في فصل في آخر كتابه وهو يعرض نماذج من تساهل فضيلته على حد
قوله .
فيقول :" ومن تساهل القرضاوي مع الرافضة ، ومحاولة ( تقريبنا ) لهم بأي وسيلة
لجأ إلى الدفاع عنهم بقوله : " قد يقول البعض : إن الشيعة الجعفرية الإثنا
عشر يقولون بأن القرآن الحالي لا يحتوي على الوحي المنزل من عند الله ، وهذا مذكور
في ( الكافي ) وفي بعض كتبهم ، ولكن المحققين منهم يرفضون هذه الروايات ويعتبرونها
من كلام الإخباريين ، والعمدة هم الأصوليون .
ولا أدري كيف عد " الناصب " هذا الكلام من فضيلة " الدكتور "
تقريباً إلى الرافضة بأي وسيلة وهو في الحقيقة لا يزيد عن أن يكون نقل الخلاف عن
كتبهم ؛ إذ أن فضيلة " الدكتور " قد نقل عنهم هذا النقل وأثبت أن عليه
بعضهم وأنه مذكور في الكافي ، وكذا في بعض كتبهم ثم نقل عن المحققين خلافه ولذا
قال بعض " الشيعة " بأن الظاهر أن " الكليني " ممن كان يعتقد
التحريف والنقص في القرآن لما وجد في كتابه من روايات تشتمل على هذا المعنى ، وهو
ما ذكره الكاشانى في تفسير الصافي ، وبني ذلك على أنه لم يتعرض لتلك الروايات بقدح
فيها مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه.
(4/134)
وممن ذهب إلى
ذلك أيضاً أستاذ الكليني وهو على بن إبراهيم القمى ، حيث اشتمل تفسيره أيضاً على
غلو فيه وكذلك أحمد بن أبي طالب الطبرسى فإنه وافقهما على ذلك وتابعهما عليه .
ولكن الشيخ أبا على الطبرسى " صاحب " مجمع البيان " قد بين أن
الصحيح من مذهب الإمامية خلاف ذلك وهو ما يعني عدم النقصان عليه أو التحريف ، وهذا
الذي قال عنه في " مجمع البيان " أنه الصحيح من مذهب الأصحاب "
واحتج للصحيح بما يلي :
أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث العظام ونحوها مما تواتر النقل
به وعلم ضرورة ؛ فلو ظن على غير ما هو عليه لتوفرت الدواعي على نقله مع مبالغة
المسلمين العظيمة في حفظه والذود عنه ومعرفة كل شيء عنه أو يتعلق به من إعرابه ،
وقراءته ، وحروفه ، وآياته ، ومع هذا كله لا يجوز حصول التغيير فيه أو النقص من
دون نقله
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قرأه على جماعة من الصحابة ، حتى ختموا القرآن
على النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة مرات وذلك أمر يدل على كونه مجموعاً ومرتباً
قبل ظهور المحنة .
ثم قال بعد ذلك بأن من خالف في ذلك من الإمامية لا يعتد بخلافهم ، واعتذر عمن وقع
منه هذه المقولات بأنهم نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها فعملوا بها ، وهي في
الحقيقة لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته ، ومن ثم فقد قال رئيس
المحدثين محمد بن علي بن بايويه القمى : اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على
نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو ما بين الدفتين ، وما في أيدي الناس ليس بأكثر من
ذلك ، قال : ومن نسب إلينا أنا نقول : إنه أكثر من ذلك فهو كاذب " .
ويؤيد ذلك أيضاً ما قاله شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في تبيانه حيث قال :
" وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على
بطلانه ، والنقصان فيه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح
من مذهبنا .
(4/135)
والعجيب أن
الناصب " فاجأنا في نهاية هذا الفصل الذي عقده للرافضة بأن حكى خبرين منشورين
في بعض الصحف هما : " القرضاوي يبدأ زيارة لإيران"، " استشهاد إمام
سني في بلوشستان " وليس العجيب هو الخبران ، وإنما العجيب هو تعليق "
الناصب " على الخبرين ، وذلك حيث قال :" خبران متناقضان نشرا في يوم
واحد " ولا أدري ماذا يعني التناقض في فهم "الناصب"؟، وأي أشكال
التناقض من الممكن أن يمثل نشر هذين الخبرين ؟
فهل المفروض أنه إذا بدأ فضيلة " الدكتور " زيارة لإيران أن يمتنع
" المجرمون " في إيران عن قتل " إمام سني " استعداداً للزيارة
المرتقبة !! ، وكلنا يعلم – بكل أسف – ما يضمره متعصبة الروافض لأهل السنة من الشر
، بل إن الأغلبية من الروافض ضد التقارب مع أهل السنة خشية منهم أن يؤثر ذلك
التقارب على عقائدهم حيث تعمل المخالطة أثرها وذلك كما كان من صلح الحديبية لما
اختلط المسلمون بالمشركين فآمن الكثير من المشركين بدين الحق من أثر تلك المخالطة
، ولذا عظمت محاربة الشيعة لذلك التقارب .
(4/136)
ولقد أخطأ
الكثير ممن كتب عن " التقريب " ممن ظن أن " التقريب " هو
إيجاد صيغة يتفق عليها الجانبان ، أو إقرار مذهب يوحد بينهما ، وهو أمر لم يدر في
خلد أحد ممن دعا إلى التقريب من أهل السنة ، وفي هذا الاتجاه الغير المطلوب قام
الكثيرون بالتحذير والمنع دون انتباهٍ إلى أن ذلك ليس هو المراد من " التقريب
" ، ومثال ذلك ما قاله بعض المبتدئين في البحث ، مثل د 0 " على السالوس
" حيث يقول : " وللأسف الشديد أني وجدت هذه العقيدة الباطلة – يعني
الإمامة – قد أفسدت الكثير من أصول الفقه ، ودخلت جميع أبواب الفقه، فكيف تكون
دعوة التقريب ؟ إن قلنا للشيعة : دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة " ، ولا
تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة
والجماعة ، أفيقبلون ؟ وإذا كانوا لا يقبلون بل لم توجه لهم هذه الدعوة ، أفنؤمن
نحن بعقيدتهم الباطلة " بل ويكمل كلامه بعد ذلك قائلاً : " ولذا رأيت أن
أجعل بين أيدي المسلمين ، ودعاة التقريب منهم بعض الكتب التي تبين الفوارق بين
السنة والشيعة في مجالات مختلفة ليفكروا في هذه الفوارق، ولتحدد كيف تكون دعوة
التقريب ، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر " .
(4/137)
فهذا كله عجيب
، والذي يدعو إلى الدهشة أن الدكتور علي تتلمذ على يد د 0 " محمد المدني
" وقد ذكر د 0 " المدني " معنى التقريب بكل وضوح ، وأنه لا يعمل
على إحداث تنازل من أهل طائفة لصالح الطائفة الأخرى ، ومع ذلك فإن " د0 على
السالوس " يقول : " ولتحدد كيف تكون دعوة التقريب ، ومن الذي يجب أن
يترك رأيه ويقترب من الآخرة " وهذا القول منه مخالفة صريحة لما صرح به د 0
" محمد المدني " إذ يقول :" وليس من غايتنا أن يترك السني مذهبه،
أو الشيعي مذهبه، وإنما نريد أن يتحد الجميع حول الأصول المتفق عليها، ويعذر بعضهم
بعضاً فيما وراء ذلك مما ليس شرطاً من شروط الإيمان ، ولا ركناً من أركان الإسلام
، ولا إنكاراً لما هو معلوم من الدين بالضرورة".
فإذن لا مطالبة منا لهم بالتنازل عن عقيدة " الإمامة " ، ولا مطالبة
منهم لنا بإقرارها أو الإقرار بشيء مما ننكره ، وإنما المطالبة في ضوء الدعوة
المطروحة هي بالاجتماع على أداء خدمة للإسلام يجتمع عليها سائر الأطراف لا ما ظن
البعض أن نجتمع لنتحاور في خلافيات لا تنتهي ، ولا يخرج المتحاورون منها بأدنى
فائدة سوى إصرار كل طرف على موقفه واتهامه الطرف الآخر بالجمود والعناد ؛ فإن الذي
يفهم مثل هذا الفهم من الطبيعي أن يقول : إن ذلك التقريب مستحيل .
(4/138)
الجزء الثاني
القرضاوي تأصيله للكليات واعتباره للجزئيات
الفصل الأول
القرضاوي والسنة
في هذا الفصل يبدأ " الناصب " حملته ببيان بعض مقولات لفضيلة "
الدكتور " في تعظيم السنة والعمل بها ؛ فينقل هذه المقولات بدون اكتراث ،
وكأنه يهيىء القارىء لما سيقوم به من انقضاض على تلك المقولات رغم حسنها ؛ لكونها
وإن كانت جميلة وفاعلة إلا أنها ليست شأناً لازماً التزمه فضيلته بقدر ما هي في
نظر " الناصب " علاجاً مؤقتاً في الرد على أعداء السنة من المستشرقين
وأذنابهم، ولذلك فبرغم ما نقله عن فضيلة " الدكتور " في خطورة رد
الأحاديث الصحيجة بالرأي المجرد من غير استنادٍ إلى علم محقق وتحرٍّ دقيق يعد
تضييعاً للسنة .
وبعد نقله عن فضيلته كيف يتعامل مع السنة النبوية وكيف يتأكد من سلامة نصوصها
ودلالتها ، والجمع بينها وبين ما يشاركها موضوعاً سواء باتفاق أو اختلاف أو تضاد
موجب لطرح أحدها وإعمال الآخر ، إلى غير ذلك من المهام التي يضطلع بها رجال الحديث
.
يبدأ بعد ذلك " الناصب " في بيان ما يخالف هذه الدعاوى عملاً من آراء
فضيلة " الدكتور " وهي مسائل يعجز " الناصب " فيها عن استبانة
وجه الحق فيحمل عجزه هذا على فضيلته فكانت أول تلك المسائل التي ذكرناها هي :
(1) رأي فضيلة " الدكتور " في أحاديث الآحاد :
وهنا يحكي " الناصب " عن فضيلته أنه يرى عدم كفر من رد حديث الآحاد
لشبهة عرضت له ، وينكر على من كفر من رد حديثاً صحيحاً لشبهة عرضت له ، ويقول
فضيلته عن ذلك : " وكم من إمام رد حديثاً يراه غيره صحيحاً ، ولا يراه هو
كذلك " فماذا قال " الناصب " عن هذا ؟
(5/1)
في الحقيقة
لقد أدهشني " الناصب " بكلامه الذي أتى به معقباً على كلام فضيلته ،
لأنه كان في وادٍ بينما كلام فضيلته في وادٍ آخر ، و " الناصب " يسوق
كلامه في ذهول تام أو غباءٍ تام عن كون كلامه الذي ساقه يختلف تماماً عن أن يكون
في نفس المضمار ، ولعل هذا الذهول العجيب يرجع إلى نوعية العقاقير التي يتعاطاها
" الناصب " أحياناً فتفسد عليه حواسه ، فانظر – أيها القارىء العزيز –
بماذا يعقب ذلك " الناصب " على كلام فضيلته حيث يقول :
" قلت : الصواب في هذه المسألة " وهي كفر منكر الآحاد " أن يقال :
بأن من اتضحت له السنة ولو آحاداً وتحقق ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثم ردَّها بدون تأويل ولا شبهة وقامت عليه الحجة فإنه يكفر " .
وما يسعنا الآن سوى أن نقول : هل هذا المستوى المنحط في الفهم يصلح أن يكون لمن
نصب نفس لوزن أهل العلم والفضل ؟
أين قول ذلك " الناصب " : " بأن من اتضحت له السنة ولو آحاداً
وتحقق ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ردها بدون تأويل و شبهة "
من قول فضيلته :" بأنه يرى عدم كفر من رد حديث الآحاد لشبهة عرضت له "
فهذا متأول بشبهة ، والآخر منكر لا شبهة له ؛ فكيف يستويان ؟ !! .
وأكثر من هذا أن الأول لم يقم عليه حجة رادعة له ، والآخر أقيمت عليه الحجة ؛ فأي
صواب يتكلم عنه هذا التائه ؟ !
ما هو معنى قول " الناصب " : " كفر منكر الآحاد " ؛ هل يقصد
بذلك منكر جواز الاستدلال بها شرعاً مطلقاً ؟ أم منكر جواز الاستدلال بها في بعض
الأحوال ؟ ، وهل ينكر إفادتها العلم أو إفادتها العمل ؟ ، فليته فصل كلامه كما
يطالب فضيلته أن يفصل كلامه الواضح ؛ فكيف بالمجمل الذي يتكلم هو به ولا يفصله ؟ !
(5/2)
وذلك أنه إن
أنكر جواز الاستدلال بها مطلقاً ، فلا ظهور لمثل ذلك القول حتى يستدعي منه تصويب
أو تصحيح وأما إن عنى بـ " كفر منكر الآحاد " ؛ أي من ينكر جواز
الاستدلال بها في بعض الأحوال ؛ فذلك كيف يكفره ، وما يكون إنكاره لجواز الاستدلال
بها في بعض الأحوال سوى بتأويل أو لشبهةٍ على حسب ما ذكر فيعود الأمر بنفي ما
أثبته ، وهو كفر منكر الأحاد ، ونقول هنا للناصب ؛ فلماذا لم تفصل يا محب
التفصيل!! ولذا كما قال فضيلة "الدكتور " بأنه لا وجه للحكم بالكفر في
هذه المسألة ؛ إذ العلماء لا يكفرون إلا من أنكر السنة مطلقاً ، ولذا فإن " أبا
حنيفة " – رضي الله عنه – رد أحاديث الآحاد فيما تعم به البلوى ، أو فيما
ينبغي أن يرد مورد التواتر أو الشهرة بمعنى آخر ، وكذلك فإن مالكاً رد آحاديث
الآحاد المخالفة للقياس الثابت الصحيح ، وكذلك رد أحاديث الآحاد المخالفة لعمل أهل
المدينة ؛ لانه رأى العمل أقوى .
(5/3)
وردت طوائف
المعتزلة أحاديث الآحاد فيما من شأنه أن يكون قطعياً فلم يكفرهم الناس لذلك كما
ذكر فضيلة " الدكتور " وأما عن قول "الناصب": الصواب في هذه
المسألة ، فقد ذكرنا أنه متى قال " الناصب " : الصواب كذا ؛ فاعلم أن
الصواب عكسه ، ولبيان ذلك نقول : قال العلامة " السفاريني " : ولا يكفر
منكر خبر الآحاد في الأصح ، وقال أيضاً " ابن تيمية " في " المسودة
" : قد اختلف العلماء في تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل ، وقد ذكر
" ابن حامد " في أصوله عن أصحاب أحمد في ذلك وجهين ، وقد اختلف في ذلك
كلام " ابن حامد " من " الحنابلة " حيث قال في موضع : إن غالب
الأصحاب على كفره فيما يتعلق بالصفات خاصة ، وذكر في موضع آخر أن من جحد أخبار
الآحاد من حيث أنها توجب العلم والعمل كالمتواتر فإنه يكفر؛ وعليه فمن حجد العلم
بها فالأشبه أنه لا يكفر ، وإنما يكفر في نحو ما ورد في الإسراء والنزول ونحوهما
من الصفات كما في حاشية " الجراعي " على أصول العلامة " ابن اللحام
" – رحمهما الله – ويتأيد عدم تكفير منكر خبر الواحد بقول " ابن تيمية
" : " والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة أو بإنكار الأحكام
المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك " " الفتاوى : (1/106) .
وذلك هو المروي عن " أحمد " كما في العقيدة للإمام " أحمد "
برواية " الخلال " حيث حكى عنه قوله : " وكان يقول : إن من خالف
الإجماع والتواتر فهو ضال مضل ، ويفسق من خالف خبر الواحد مع التمكن من استعماله
" .
(5/4)
وهو الأصح من
الوجهين عند " الحنابلة " على ما قاله العلامة " السفاريني "
تبعاً للمنقح " المرداوى " حيث قال في " التحرير " مبيناً عدم
كفر منكر خبر الآحاد: " ولا يكفر منكره في الأصح " ، وذكر في شرحه على
تحريره أن الخلاف المذكور في هذه المسألة مبني على القولين الواردين في إفادة خبر
الآحاد العلم أو عدم ذلك ؛ فإن قلنا : يفيد العلم كفر منكره ، وإلا فلا ، وهو ما
ذكره أيضاً "البرماوي " وغيره ، قال " المرداوي " : "
وهو الظاهر " ، ثم قال : " لكن التكفير بمخالفة المجمع عليه لابد أن
يكون معلوماً من الدين بالضرورة ؛ فهذا أولى ؛ إذ لا يلزم من القطع أن يكفر منكره
.
فهذا هو مذهب " أحمد " – أيها القارىء العزيز – قد تبين لك مما نقلناه
عن عمد أهل المذهب ومحققيه أن الأصح في المذهب هو عدم كفر منكر خبر الواحد .
والعجيب أن " الناصب " يتكلم في المسألة دون أن يذكر وجهها ، ودون أن
يذكر من أي مذهب استفاد ذلك الصواب الذي يدعيه ، وكأنه ينظر إلى مذاهب الإسلام من
علٍ ، وهي وأئمتها دون ما انتهى هو إليه ؛ فسبحانك يا رب إن هي إلا فتنتك تضل بها
من تشاء وتهدي من تشاء .
ويتضح لنا بدايةً مما ذكره أهل العلم من كون الخلاف في تكفير منكر خبر الآحاد
مبنياً على الخلاف في إفادته العلم أن جماهير أهل العلم لا ترى تكفير منكر خبر
الواحد ؛ إذ أن خبر الواحد عند الجمهور لا يفيد العلم ، وهو كذلك عند "
الحنابلة " على الأصح كما مر ، وسائر أهل المذاهب لا يرون كفر منكر خبر
الآحاد ، ولا يرون إفادة أخبار الآحاد العلم ، وإن أفادت وجوب العمل ، وذلك حيث لم
يظهر ما يعارضها ، والمراد بالعمل الاعتقاد والفعل ؛ إذ أن الاعتقاد عمل القلب
والفعل عمل الجوارح ، وتفصيل مذاهب سائر الأئمة على نحو يليق بهذا المختصر كما يلي
: -
(5/5)
أما الحنفية ؛
فقد ذهبوا إلى أنه لا يكفر أحد برد خبر سوى المتواتر الذي يوجب العلم القطعي ؛
فذلك الذي يكون رده كفراً ، وأما المشهور وهو عندهم دون المتواتر ، ويفيد عندهم ما
يسمى بعلم الطمأنينة ، وهو دون العلم القطعي وهو مع إفادته العلم إلا إنه في شبهه
بالآحاد أورث شبهة فلم يكفر جاحده لذلك ، ومن باب أولى أخبار الآحاد التي لا توجب
العلم وإن أوجبت العمل كما ذكرنا في الأحكام الشرعية ، ويبقى خبر الآحاد على هذا
الحكم وإن كثر عدد نقلته ما لم يبلغ حد الشهرة فيأخذ حكم المشهور السابق ذكره في
عدم كفر جاحده، ومع ذلك يكون رده بدعة ، وذلك لإجماع العلماء على لزوم العمل به
كالمتواتر، وإنما الكلام في الآحاد ، وقد بينا وجوب العمل بها كذلك في الأحكام
الشرعية ، وبعد بياننا عن أهل المذهب أنهم لا يكفرون جاحد الآحاد ، بل ولا يكفرون
جاحد المشهور كما ذكرنا ؛ فإننا نبين أنه أكثر من ذلك فقد اختلف أهل المذهب في كفر
من استحل ما ثبتت حرمته بنص قطعي كما لو استحل وط حائض فالذي مشى عليه في "
الاختيار " و " فتح القدير " وغيرهما هو القول بكفره لأن حرمته
ثبتت بنص قطعي ، وهو ما جزم به صاحب المبسوط ، بينما ذكر في " الخلاصة "
أن الصحيح أنه لا يكفر ، وهو رواية عن " محمد " ذكرها في النوادر وصححها
في " الخلاصة " ، وهذا القول هو الذي مشى عليه أنيضاً في " التنوير
" ، وقال : وعليه المعول .
فحسبك ما ذكرنا – أيها القارىء العزيز – في خلاف " الحنفية " في تكفير
من استحل ما ثبتت حرمته بنص قطعي ، وذلك في غير المعلوم من الدين بالضرورة كما
ذكروا ، وهو يتفق مع ما ذكرناه عن " الحنابلة " من حيث الأصل من أنه لا
يلزم من القطع كفر منكره ، وإن قال الأئمة الثلاثة بكفر مستحله في الزمن المجمع
على كونه حيضاً بخلاف ما اختلف فيه .
(5/6)
وأما "
المالكية " فقد وافقوا " الحنفية " في تقسيمهم الأخبار إلى ثلاثة
أقسام أيضاً ، حيث جعلوا القسم الأول المتواتر ، وهو ما يفيد العلم ، والعلم
الحاصل منه ضروري عند الجمهور ، وأكثر العقلاء على أنه مفيد للعلم في الماضيات
والحاضرات ، وأما القسم الثاني فهو الآحاد ، وهو ما أفاد ظناً سواء كان المخبر
واحداً أو أكثر ، وأما القسم الثالث فهو ما ليس من القسمين السابقين وهو ما يفيد
العلم مما ليس بالمتواتر ، وهو نظير ما سماه " الحنفية " بالمشهور
المفيد لعلم الطمأنينة عندهم ، ولا يكفر منكر خبر الواحد كالحنفية .
(5/7)
وأما "
الشافعية " وهم عندهم أيضاً أن المتواتر وحده هو الذي يكفر جاحده في الشرعيات
، وأما الآحاد فهي تفيد الظن لا أكثر ، إلا إذا احتفت بها القرائن مما جعلها تفيده
، وأما المشهور فهو عندهم أيضاً لا يفيد العلم وإنما طمأنينة الظن ، لاحتمال الخطأ
فيه ، وبذلك يقترب "الشافعية " من " المالكية " أكثر في
تقسيمهم وتعريفهم ، وأن ما دون التواتر فإن الأصل فيه الاجتهاد ، ولذا كان الجواب
فيه هو العمل ، ولا يجب العلم فيه إلا نظرياً لكونه واقعاً عن اجتهاد ونظر إن حصل
، ومن ثم فإنه لا يكفر جاحده ؛ إذ أنه لا يكفر إلا من جحد مجمعاً عليه معلوماً من
الدين بالضرورة ؛ فذلك يكفر قطعاً لكونه مجمعاً عليه ومعلوماً من الدين بالضرورة
بلا خلاف ، وإنما الخلاف في كفر من أنكر مجمعاً عليه مشهوراً بين الناس مع ورود نص
قطعي فيه كحل البيع ، وفيه النص القاطع " وأحل الله البيع " فإن الأصح
في مثل أن يكفر جاحده ، وقيل : لا لجواز خفائه عليه وهو المعتمد لدى البعض لكونهم
اعتبروا العلم من الدين بالضرورة في مفهوم الإيمان حيث قالوا في تعريف الإيمان :
هو التصديق بما علم ضرورة أنه من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولكونه لا
واسطة بين الإيمان والكفر ؛ فلذا اقتضى الأمر عدم كفر جاحده ، وأما في غير المنصوص
مما اشتهر حكمه تردد ؛ فقيل : يكفر جاحده لشهرته ، وقيل : لا يكفر لجوازخفائه وهو
المعتمد ، وأما لو كان مجمعاً عليه مع خفاء حكمه على العوام حتى ولو كان ذلك الحكم
منصوصاً عليه كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فإنه رواه البخاري عن قضية
النبي - صلى الله عليه وسلم - به ، ومع ذلك لا يكفر جاحده ؛ لخفائه ، فهذه الأحكام
هي التي يرد فيها ما ذكره " الناصب " نقلاً بغير وعي فيمن رد منصوصاً
عليه وإن خبر واحدٍ فتقام عليه الحجة أن محل ذلك الذي أورده في ما لو كان ذلك
مجمعاً عليه ، لا فيما إذا كان مختلفاً فيه ، لا مجرد إنكار خبر الواحد
(5/8)
، بمعنى إنكار
إفادته العلم ، أو العمل فقد بيَّنَّا الخلاف في ذلك ، ولا محل حينئذٍٍ عند
الجماهير في القول بكفره لوقوع الاجتهاد في ذلك مع عدم الإجماع فيه .
والآن بان بجلاء لدى – القارىء العزيز – الخطر الجسيم الذي تقبل عليه أمتنا إن
اتبع شبابها هذا النهج الخاطيء في معارضة علمائها بأدنى قراءة قارىء وأشقى حظ فاهم
، وبكل أسف فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد من السوء ، بل يجمع معه التطاول والغرور
وسوء الأدب مع حسن الظن بالنفس وإساءة الظن بالعالم، وكل ما هو معكوس ومنكوس مما
يرتكز في الفطر السليمة على نحو صحيح ، ولا يمكن أبداً أن يكون من يبني أحكامه
المطلقة بهذه السهولة المطلقة على مجرد قراءة أسطر محدوده بنظر قاصر وفكر حاسر
وفهم بليد وغرور أكيد ممن أراد الله تعالى بهم خيراً ؛ إذ أن من يرد الله به خيراً
يفقهه في الدين ، وكما يرى القارىء فهذه الزلة من " الناصب " في فهم هذه
المسألة ليست بالأولى ولا بالأخيرة فالكتاب كله طافح بطامات وطامات ، وهذا هو شأن
الشباب المستعجل لدعوى العلم وطلب الشهرة وتحصيل حظوظ النفس الفانية ؛ فلا يعود
الأمر عليهم إلا بضد ما رغبوا ، وذلك أن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب فيه بحرمانه
كما هو مشهور من القواعد لدى الفحول ، عصمنا الله جميعاً من شر الذبول والأفول
والقول بغير المقبول .
(2) رأي فضيلة " الدكتور " في الأحاديث الضعيفة:
(5/9)
وهنا توجه
" الناصب " إلى فضيلة " الدكتور " بالشكر لما ورد عنه من
مقولات لم يجد " الناصب " حيلة في ترك الاعتراف بما أصاب فيه فضيلته
فوجه له شكراً بارداً كما هي عادته في أحسن أحواله ثم تذكر واجبه الوطني تجاه
زمرته أعداء التوسط والاعتدال فعاد ينقض على ما أعطاه بيمينه ليسلب أضعافه بشماله
على خلاف ما ورد بشأن المحسنين الذين تنفق يمينهم ما لا تعلم به شمالهم ، فقال
ساحباً شكره المعلق على لو التي رفعت الشكر فلم تبق منه شيئاً ، وذلك حيث قال :
" هو مما يشكر عليه لو لم نجد أقوالاً أخرى تنقض هذا الرأي منه " وفي
الحقيقة أن هذه الأقوال الأخرى التي رآها " الناصب " تنقض ما أثبته
فضيلته من تعظيم للسنة لائق بمكانتها في التشريع الإسلامي ؟، وإنما عجز عن فهمها
هو لانحصار فهمه للسنة في زواية ضيقة لا تسمح له برؤية أكثر شمولية للآراء
المختلفة وأحسن تقديراً لما لم يعهده من تلك الآراء بدلاً من انتقاصها وسحب شكره
العظيم البارد لأجلها مع أن هذه الأقوال إن لم تكن هي الراجحة والموضوعية فهي على
الأقل كفرس رهان مع ما يعتقد " الناصب " المسكين أنه هو وحده الصواب الذي
لا يصح سواه ، وهو الدافع دائماً وراء حملاته المنكرة على ما ينكره مما لا يحسن
معرفته ولقد أعطى عدداً من أمثلته الدالة على ما يزعمه من تحايل على السنة ، هو في
الحقيقة كما سنبين الشرح الحسن والتوجيه اللائق لما هو من مختلف السنة مما لا يكون
فيه أي خروج أو مخالفة للعلماء المحققين والجهابذة المدققين ولكنه لم يعجب "
الناصب " لقلته في كل شيء سوى لسانه الذي يمتد إلى غير الموضع الذي ينبغي له
أن يلجه .
(5/10)
وسوف نقتصر في
هذا " المختصر " على مثال واحد من هذه الأمثلة التي أوردها "
الناصب " وأما باقيها فكنا قد تناولنا أمثالها في فصول سابقة عند حديثنا عن
القرضاوي والعقيدة ، وبينا صحة ما يذكره فضيلته مما يجري على هذا النحو من الأخبار
، وكما ذكرنا من قبل أن أصل هذا الكتاب يحتوي على كل صغيرة وكبيرة أوردها ذلك
" الناصب " مع رد مناسب لما أورده كافٍ بكشف الحقيقة أمام الغافلين عنها
، وبداية نود أن نؤكد صدق قاعدة أوردها فضيلة " الدكتور " وردها "
الناصب " بجهالة كعادته ، وهذه القاعدة هي :
رد الأحاديث المعارضة لظواهر القرآن ونصوصه القطعية وقواعد الشريعة الثابتة.
هذه القاعدة التي أوردها فضيلته والتي حكم " الناصب " عليها بأنها قاعدة
باطلة، وكنا قد ذكرنا للقارىء من قبل أن " الناصب " إن قال عن شيء إنه
صحيح كان الصحيح خلافه ، وكذا إن قال عن شيء هو باطل علمنا أيضاً أن الباطل خلافه
، وأن الأمر في كلامه لا يخرج عن تلك القاعدة إلا نادراً ، وذلك الاستثناء كما
يقولون لا ينفي القاعدة وإنما يؤكدها ، ولعل هذا نوع من أنواع الحَوَل في اللسان
والسنان جميعاً ، أعني سنان القلم الذي هو للسنة كالنصل تشريحاً وتشويهاً .
وبيان معنى القاعدة التي أثبتها فضيلة " الدكتور " ونفاها " الناصب
" نفي الله عنه الغلط واللغط هو أن القرآن العزيز لتواتره بأعلى أنواع
التواتر صار حكماً مهيمناً على ما عداه ، ولهذا فإن ما ورد في السنة من أحاديث جاء
فيها ذكر صفة مستحيلة مضافة إلى الباري سبحانه وتعالى فكما قال " ابن العربي
" وغيره وعامة أهل العلم إما أن تؤول متى كان ذلك مقبولاً أو ترد ، وذلك أنها
إن عارضت القرآن فحُكِّمت دونه كانت ناسخة له فاشترط فيها شروط النسخ ، وهي مما لا
يتوافر فيها ذلك فوجب ردها ، وذلك ما لم يمكن تأويلها على الوفاق له ، ومثل ذلك
مما لا يكون من السنة الصحيحة في شيء .
(5/11)
فإذا علم هذا
لم ينقض العجب من هذا " الناصب " العجيب الذي أرهقنا من كثرة ما ينقل ما
لا يعيه فيرد به كلاماً لا يخالفه كما هو الحال هنا أيضاً حيث يعارض هذه القاعدة
التي ذكرناها بقوله :" يقول العلامة " ابن القيم " : والذي يجب على
كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة سنة
واحدة تخالف كتاب الله " ، ونحن نقول بدورنا وهل نحن نخالف ذلك أيها التائه،
وما معنى التأويل سوى الموافقة لكتاب الله وقبولها على ذلك ، وهذا كله في الصحيح
من السنة ، وأما الأحاديث التي ضربها مثلاً لذلك فهو حديث : " الوائدة
والموءودة في النار ، حيث غَلَّط " الدكتور " في ظنه أنه معارض للقرآن،
وبدون وعي ظل ينقل نقولاً عن أشخاص يرتضي هو علمهم وهم كذلك يقولون بمخالفته لنصوص
الشريعة حيث نقل عن الشيخ " الألباني " قوله : " ظاهر الحديث أن
الموءودة في النار ولو لم تكن بالغة ، وهذا خلاف ما تقتضيه نصوص الشريعة أنه لا
تكليف قبل البلوغ " .
(5/12)
ثم سعى "
الناصب " بعد ذلك يذكر تأويلات لهذا الحديث ، وهذه التأويلات التي ذكرها يؤكد
بها بغير وعي منه مخالفة الحديث بظاهره لنصوص الشريعة وإلا لما احتاج إلى التأويل
فيه ، وما دام أن الحديث قد صار أمره إلى التأويل وهو أحد الأمرين اللذين ذكرناهما
في الأحاديث المعارضة للقرآن ونصوص الشرع المحكمة ، فحينئذ لم يكن سلوك الطريق
الثاني ممنوعاً ؛ لأن الأمر حينئذ يتوقف على استساغة التأويل فمن وجده مستساغاً
وقريباً ذهب إليه ، ومن لم يجده كذلك ردَّه أو توقف فيه فلا يلام على الرد لكون
غيره قد تأوله ما دام ذلك التأويل ليس ظاهراً قوياً يجب سلوك سبيله ، فكيف إذا كان
الحديث مع ضعفه معارضاً بما هو أصح منه وأثبت ، ومن قبله وأَوَّله فإنما أَوَّله
على وفاق مذهبه ، مثل من كان يرى أولاد المشركين كآبائهم في النار قال به وحمل
معناه على أن الموءودة في النار لا لأجل أنها موءودة وإنما لأجل اتباعها لآبائها
لأنها جزؤهم فتبعتهم ، ومثله الذي يرى أولاد المشركين في النار ، وقد أثبت "
ابن القيم " نفسه معارضة هذا الحديث لقوله تعالى :( وإذا الموءودة سئلت بأي
ذنب قتلت) ثم قال : فكيف يعذب الموءودة بغير ذنب ، والله سبحانه لا يعذب من وأدها
بغير ذنب ؟
(5/13)
فكون فضيلته
رأي هذا الحديث معارضاً لقطعيات الشريعة مما لا ينبغي إنكاره عليه ابتداءً ولا
اتهامه به على أنه يسلك مع السنة من حيث الأفعال مسلكاً غير لائق بخلاف تقديره لها
بالأقوال ، فيكون توقف فضيلته في مثل ذلك الحديث حتى يرى فيه معنى لائقاً موافقاً
لا يختلف عن موقف " الألباني " في تصحيحه مع تأويله ؛ إذ أن هذا لا يمنع
رده أو التوقف فيه خاصة وأن من صححه قد تأوله ، والتأويل أخو الرد ، ويقوى رد
الحديث أنه معارض على أقل الأحوال بما هو مثله ، وقد صححه أيضاً " الألباني "
ورواه " أحمد " في مسنده برواية أبي بكر القطيعي عن عمه خنساء بنت
معاوية قالت : يا رسول الله ؛ من في الجنة ؟ قال : " النبي في الجنة ،
والشهيد في الجنة ، والموءودة في الجنة " .
فمن لم يجد في تأويلات الحديث مستساغاً من المعاني وَسِعَهُ الرد بمعارضة هذا
الحديث لقطعيات الشريعة ، وهي بالتأكيد أقوى من حديث في مثل الحديث المخالف قوةً
كما بينا ، أو التوقف لحين وقوفه على ما يمكنه من قبول الحديث وتأويله أورده
لمخالفته .
(5/14)
وكون فضيلة
" الدكتور " لم تعجبه التأويلات الواردة في معنى الحديث فيتوقف فيه إلى
أن يجد فيه معنى مناسباً فهذا شأنه ، وهو أمر لا يعاب عليه كما ذكرنا ، وحسبنا في
هذا المقام أن نُذكِّر " الناصب " بأن " الألباني " – رحمه
الله – أيضاً لم يعجبه التأويلات الواردة في الحديث وتأوله هو بتأويل آخر غير من
سبقه بأن ذلك كان في موءودة بعينها ، وراح يستدل من روايات الحديث على ما يؤكد ذلك
التأويل الذي ذكره ، وأيضاً " ابن القيم " ، بعد أن ذكر عدَّة تأويلات
مختلفة للحديث لم يذهب إلى أيٍّ منها ثم قال بعد تلك التأويلات ، وأحسن من هذا أن
يقال : " هي في النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار ففرقٌ بين أن تكون
جهة كونها موءودة هي التي استحقت بها دخول النار ، وبين كونها غير مانعة من دخول
النار بسبب " ، ومن هنا لم يكن لعاقل فضلاً عن أن يكون منصفاً أن يصف منهج
فضيلة " الدكتور " هذا على أنه منهج عقلاني ، وإذا كان ذلك كذلك فما
لومنا على رجل رفض أن يقبل هذه التأويلات أيضاً ، وتوقف في الحديث لمخالفته في
ظاهره لقطعيات الشرع ، أم أنه يلزمه لزوماً لا محيص عنه أن يأتي بتأويل جديد في
الحال !!! ؟؟؟ ، وذلك حتى لا يكون في نظر " الناصب " مجرئاً للسفهاء على
السنة وهيبتها !! .
ونحن في هذا المختصر رأينا الاكتفاء بذلك المثل الذي ذكره " الناصب " ،
وفيه كفاية ومقنع لمن أراد أن يسلم للحق وبه ، وكما ذكرنا من قبل فإن كل ما ذكره
" الناصب " في كتابه من ترهات قد رددنا عليه فيها الرد الوافي حتى يتنبه
الخاملون من أبنائنا إلى مواضع أقدامهم ولا يسلمون أنفسهم لكل من هبَّ ودبَّ ونصب
نفسه عالماً أو ميزاناً وهو أقرب إلى الطيش منه إلى العدل الذي هو أساس الميزان
وغرضه وقانونه ، فاللهم ارحمنا برحمتك ولا تعمنا بعقابك.
الفصل الثاني
القرضاوي والسنة غير التشريعية
مهاجمة الناصب لرأي الدكتور "القرضاوي" في السنة ومنهجه في التعامل معها
:
(5/15)
وهنا أيضاً
يواصل "الناصب" سلسلة انتقاداته المبنية على فهم خاطئ ، ومعلومات غير
متكاملة ولا متناسقة ، هذا بالإضافة إلى ضعف ظاهر في الرؤية والتروي لدي الكاتب
الناتجين من قلة الممارسة ، وضياع الصبر على المذاكرة ، وقلة الحظ في الفطنة
والفهم مما شكل ثلاثياً متجانساً أدى إلى تلك السطحية الظاهرة في كل ما عرضه للنقد
فكان ما كتبه هو الأجدر بالانتقاد والأولى بالرد مما سعى هو في الرد عليه .
وبادىء ذى بدء فإن الدكتور "القرضاوي" ، كما هو ظاهر في كل كتاباته
يحتفي بالسنة المكرمة احتفاءً بليغاً شأنه في ذلك شأن كل العلماء المخلصين ،
وبالرجوع إلى ما أورده هو بنفسه في بحثه المضمن في " مجلة مركز بحوث السنة
والسيرة " في عددها الثالث الصادر في " 1408هـ - 1988 " ، والمصدر
ببحث للدكتور القرضاوي بعنوان : " الجانب التشريعي في السنة النبوية "
إذ أنه في ذلك المبحث واجه المشككين في السنة النبوية مواجهة بليغة فند فيها كل
ادعاءاتهم ، وسد عليهم مسالكهم وشرح ببيان واف المراد من حديث " أنتم أعلم
بأمر دنياكم " .
وهو في خوضه غمار ذلك عرج على من بالغ في نفي التشريع عن السنة ممن غلا في تقليل
الجانب التشريعي للسنة حتى كاد يخرج من الخضوع لها قضايا المعاملات والأحوال
المدنية ، وذلك مع اعترافهم بالسنة كمصدر تشريعي ، وهؤلاء يأتون في المرتبة
الثانية بعد أولئك الذين أخرجوا السنة عن دائرة التشريع.
وهنا فإن الدكتور "لقرضاوي" ، وببصيرة واعية قد نبه إلى ضرورة أن تكون
النظرة إلى السنة غير مبنية على ردود الأفعال التي تنتج الطرفية دائماً ؛ بمعنى أننا
لا نرد على من غالى في نفي التشريع عن السنة بأن نثبت التشريع لكل ما ورد عنه -
صلى الله عليه وسلم - ، حتى ولو لم يحتمل معنى التشريع ، أو كان في تحميله معنى
التشريع ما يمثل منهجاً مغالى فيه لا يحظى بدعم أهل البصيرة والفطنة لكونه يحمل
الأمر فوق ما يحتمله .
(5/16)
ولذا كانت
السنة من حيث كونها تشريعاً واقعة بين هذين الطرفين المتناقضين من المغالين في
إهمالها والمغالين في إعمالها ، وهو ما عبر عنه الدكتور بقوله : " بين الغلاة
والمقصرين " حيث عنى بالغلاة أولئك الذين حملوا السنة من التشريع فوق ما
تحتمله ، وبالمقصرين الذين ردوا من السنة ما يجب أخذه والعمل به .
وفي هذا يقول الدكتور في البحث المنشور المشار إليه سابقاً " العدد الثالث /
الجانب التشريعي في السنة النبوية / 1408هـ -1988م /26 " عن الغلاة : "
فئة تريد أن تجعل من كل ما ورد في السنة تشريعاً ملزماً لكل الناس في كل الأزمان
،وفي كل الأمصار ، وفي كل الأحوال ، مع أن فيها ما صدر عن الجبلة ، وما صدر عن
العادة ، وما صدر عن تجربة البيئة وخبرتها ، وما جاء بطريق الاتفاق لا القصد
وخصوصاً بالنظر إلى أفعاله - عليه الصلاة والسلام - ولهذا رأى المحققون من علماء
الأصول أنها لا تدل على أكثر من الإباحة أو المشروعية إلا إذا ظهر فيها قصد القربة
إلى الله تعالى "
ثم أورد بعد ذلك " الدكتور " عدداً من الأمثلة التي اعتبرها فريق
المغالاة سنة ومع ذلك فقد وبخ وذم تاركها !! مثل التشديد على أن يكون المنبر من
ثلاث درجات لا أزيد ، وحمل العصا لغير محتاج إليها ولا هي من عادة قومه وخاصة حال
الخطبة ، وأنكر على تاركها ووصفه بازدراء السنة ، فلم تكن المغالاة في مجرد عد ذلك
سنة في تلك الأمثلة .
(5/17)
فكان انتقاد
الدكتور " القرضاوي " لهذه الفئة الغالية ليس لأجل أنها رأت ذلك سنة ،
وإنما لما أتت به من المبالغة في الإنكار على المخالف الذي لا يرى هذه الأفعال سنة
ووصفه بازدراء السنة ، وهذا فيما كان لاعتباره من السنة مكان خلاف ومحل ذلك
الإنكار من " الدكتور " على هذه الفئة هو عدم مراعاتها للخلاف حول سنية
هذه الأفعال لوقوع الخلاف بين الأصوليين في اعتبار مثلها سنناً ، وذلك يمثل
افتئاتاً على آراء الآخرين ، وذلك بوصفهم مزدرين للسنة هذا من جهة ، ومن جهة أخرى
أنهم حملوا الناس على الأخذ بالسنن - في زعمهم - كما لو كانت من أهم الواجبات حتى
خاصموا ووبخوا من لم يأت بأمثال تلك السنن ، وهذا الإنكار منهم في غير محله ، إذ لا
إنكار في المستحبات ، كما لا إنكار في مسائل الخلاف ، ومثل ما ذكرناه إنما هو داخل
في هذين .
ولهذا فقد قال " الدكتور " : " ولهذا رأى المحققون من علماء الأصول
أنها لا تدل على أكثر من الإباحة " ، وهذا يعني أنها من المختلف في كونها
سنناً ، وأن يقول بأن مثل هذه الأفعال من المباح عليه طائفة من المحققين ، لأنه لا
يظهر فيها قصد القربة إلى الله تعالى ؛ فهو لم ينكر الخلاف الفقهي حولها ، وإنما
بين أن الإنكار فيها على المخالفين ممن لا يرون مثل تلك الأفعال سنناً من شعار
المبالغين الغالين المحملين الأمور فوق ما تحتمله .
فما تكلم عنه فضيلة " الدكتور " إنما هو دون ما يظهر فيه قصد القربة ،
فيدخل فيه ثلاثة أقسام من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي : ما كان من هواجس
النفس والحركات الإرادية العادية كتصرف الأعضاء وحركات الجسد ، وليس ذلك محل
التأسي .
والثاني : ما كان غير متعلق بالعبادات وواضح فيه أمر الجبلة ، وهو أيضاً ليس محلاً
للتأسي .
(5/18)
والثالث : ما
كان فوق ما ظهر فيه أمر الجبلة ، ولكنه دون ما ظهر فيه أمر القربة ، ولكن مع ذلك
يحتمل الخروج من الجبلة إلى التشريع كما لو اشتمل على مواظبته - صلى الله عليه
وسلم - ، والشأن أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل ، دون أن يعتضد بإرشاد منه - صلى
الله عليه وسلم - إليه فهذا مما اختلف أهل العلم فيه هل يبقى على الأصل ، وهو :
عدم التشريع ، أو ينتقل فيه إلى الظاهر ، وهو التشريع ، وذلك الذي مال إليه أكثر
المحدثين حيث حكاه عنهم الأستاذ " أبو إسحق " وعلى ذلك الثاني يكون
مندوباً .
يقول فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين في شرحه لنظم الورقات ص192 من المخطوط :
ويمكن أن نقول إن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - :
إما للتعبد .
أو للعادة .
أو للجبلة .
فكونه يأكل وينام هذا جبلة ، والعادة كاللباس وشئون البيت والعبادة ما ظهر فيه قصد
التعبد ، ولابد أن يظهر فيه قصد التعبد ، إما يقيناً وإما راجحاً ، لأننا لو أخذنا
بالمرجوح أو المحتمل لشرعنا في دين الله ما ليس منه ا 0 هـ .
بل عد فضيلة الشيخ " العثيمين " لبس الإزار والرداء والعمامة في مجتمع
غير معتاد على ذلك عده لباس شهرة .
ثم قال العثيمين : هل يمكن أن يكون في الأفعال التي فعلها النبي - صلى الله عليه
وسلم - على سبيل الجبلة شيء مشروع ؟ ا0هـ
فانظر أيها القارئ الكريم كيف جعل الشيخ العثيمين الأصل عدم مشروعية ما فعله
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الجبلة وقارن بين كلامه وكلام " الناصب
" لتعلم أنه في واد غير ذي زرع .
ورغم أن ما قاله فضيلة " الدكتور " عن الجانب غير التشريعي من السنة جاء
واضحاً ومفسراً بأن هذا الجانب هو الذي لا يظهر فيه قصد القربة ، إلا أن "
ناصب الميزان " لا يعرف أنه لا غضاضة على الإطلاق في اختيار هذه التسمية
للدلالة على المسمى المذكور ، فعد التسمية ذاتها عيباً كبيراً ، وجعلها " من
نسج بنات أفكار أساتذته "
(5/19)
ثم يقول إن :
" الدكتور قد خاض في هذا الموضوع ، وحاول أن يكون وسطاً بين المتطرفين في هذه
القضية ، وبين علماء المسلمين " ، وكلامه هذا يعني أن ما قاله " فضيلة
الدكتور " يختلف عن كلام العلماء ، فمن أين له ذلك ؟ ، وما قاله " فضيلة
الدكتور " هو بعينه ما ذهب إليه طائفة من المحققين خاصة الأصوليين منهم ،
فكيف يكون وسطاً بين العلماء والمتطرفين ،
وعوداً إلى التسمية التي لم تعجب " الناصب " ، والناس دائماً فنون فيما
يعجبون به وما لا يعجبون ، ولكن ليس المطلوب سوى التزام منطق الحكمة فيما ينتقدون
، فإن التزموا ذلك فلا سبيل لنا عليهم فيما يعجبون به أو لا يعجبون ولنبدأ جوابنا
مبينين ، أنه مما ينبغي أن يعرف أن الاصطلاحات لا مشاحة فيها ما دام قد بُيِّن
المراد بها وفُصِّل مدلولها ، ولأنه لا شرف في اختيار الأسماء الاصطلاحية ؛ فإننا
لم نسع في كشف السابق عن اختراع هذه التسمية لما ذكرنا، وأما المسميات فإن بيانها
له شرف ، ومن ثم حفظ للسابق في " الحدود " فضله ، ولهذا كان دائماً
الاعتبار بالمسميات لا بالأسماء ، وبالمضامين لا بالعناوين ، ولا تُعاب التسمية
الاصطلاحية إلا إذا فقدت المناسبة بينها وبين المسمى ؛ لأنها حينئذ تشابه الأسماء
الجامدة ، والتوقيفات لا الاصطلاحات .
(5/20)
وبالنظر إلى
الاسم الذي أطلقه " فضيلة الدكتور " على ما لا يظهر فيه قصد القربة من
فعله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو مركب من لفظة " السنة " وذلك لأنها
تدل على ما كان من فعله - صلى الله عليه وسلم - أو قوله أو تقريره حسب اصطلاح
المحدثين.و "غير التشريعية " وهو وصف حكمي لتلك السنة بأنها لا تشريع
فيها ، وذلك باختيار أن الشرع ناقل عن أصل الإباحة فما كان بعده مباحاً كان على
اصله ، وذلك مُخَرَّج على أن المباح ليس حكماً تكليفياً ؛ لأنه لا كلفة فيه ،
وإنما هو تتمة لأقسام أحكام التكليف ، وقد بين " فضيلة الدكتور " في
كتبه معنى " السنة " عند السلف والمتأخرين ، وسوف نذكر طرفاً مما ذكره
فضيلته في هذا المقام ليزول الالتباس .
(5/21)
والعجيب أن ما
سنذكره في هذا المقام قد كان بين يدي " الناصب " ، ولكنه عجز عن فهم
المراد منه ، وقد قاله فضيلة " الدكتور " في كتابه " السنة مصدراً
للمعرفة والحضارة " حيث قال تحت عنوان " مفهوم ( السنة ) عند الصحابة
والسلف " ما خلاصته ما يلي : إنَّ علماء الصحابة والتابعين لم يغفلوا البحث
في الجانب التشريعي للسنة وأن ذلك لم يكن تحت هذا العنوان ، وإنما تحت عنوان العمل
فيكون العمل إما سنة أو ليس بسنة ، يعنون بالسنة ما هو مطلوب اتباعه ، وما ليس
بسنة ليس مطلوباً اتباعه ، وذلك هو ما عبر عنه المعاصرون بأنه ليس للتشريع ، ولما
وضع أهل الحديث تعريفاً للسنة ، وهو اصطلاح حادث عرفوها بما يشمل ما لا تشريع فيه
حيث قالوا : السنة : ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ أو فعل أو
تقرير ، أو صفة أو سيرة " فلم يكن ينبغي حينئذٍ الخلط بين ذلك المصطلح ، وبين
ما قصده الأوائل من السنة بمعنى العمل المطلوب اتباعه كما في قول " أبي
الطفيل " قال : قلت لابن عباس : يزعم قومك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- رمل بالبيت ، وأن ذلك سنة ، فقال : صدقوا ، وكذبوا ، فقال له : ما صدقوا وما
كذبوا ؟ ! ؛ قال صدقوا ، رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت ، وكذبوا ،
ليس بسنة .
ومن أمثلة ذلك أيضاً اختلافهم في بعض أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج
هل هي سنة أو لا ؟ ، وذلك من باب هل وقوعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
اتفاقياً أم التزامياً ، من ذلك :
النزول بالمحصب ، رآه " ابن عمر " – رضي الله عنه – سنة ، ورآه "
ابن عباس " ، وعائشة – رضي الله عنهم – ليس بسنة لكونه منزلاً نزله رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - اتفق له ، ولم يلتزمه .
ولم يكن الأمر متوقفاً عند حد الأفعال بل تجاوزها أيضاً إلى الأقوال ، وأمثلة ذلك
:
(5/22)
ما كان من
نهيه - صلى الله عليه وسلم - أصحاب عن الوصال ، ولم يكن ذلك مانعاً إياهم من
الوصال حملاً منهم لنهيه - صلى الله عليه وسلم - على غير باب التشريع ؛ إذ أنه لو
كان شرعاً في ظنهم للزمهم اتباعه ، ولكن لما حملوه على معنى الرفق بهم ساغ لهم فيه
المخالفة، وسواء أخطأوا في ظنهم أم أصابوا ، إلا أنه لولا الإمكان لما كان ذلك
منهم .
ومن هذا المعنى أيضاً ما وقع من سؤال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما
يكون منه هل هو أمر أم لا كما في واقعة "بريرة " حينما قالت : أتأمرني
يا رسول الله ، فقال : إنما أنا شافع ، فردت قائلة : لا حاجة لي فيه ،
فهذا كله يدل على أن ليس كل ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - يكون شرعاً بمعنى
أنه مطلوب اتباعه ، بل منه ما هو كذلك ، ومنه ما ليس كذلك ،
وهذا اختصار ما ذكره فضيلته في هذا المقام ، وهو يكفي بإذن الله من تدبره
ومن ثم فالمناسبة بين " الاسم " و " المسمى " ظاهرة ، ففيم
العجب إذن ؟!
ثم يسعى " الناصب " في بيان مدى الغلط في ظنه الذي وصل إليه "
فضيلة الدكتور " قائلاً :
(5/23)
" ثم بين
الدكتور أن بعض أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالها بوصفه إماماً فهي خاصة
بظروف عصره " ! فلا يتمالك " الناصب " نفسه ويضع علامة تعجب ودهشة
تعقيباً على كلام " فضيلة الدكتور " ثم يبين كلام فضيلته بفهمه السقيم
المغرض واضعاً علامة تعجب أخرى فيقول عن الدكتور :" ولا يلزمنا الأخذ بها
" ! ثم يكمل بقية كلام "فضيلته" واضعاً علامتي تعجب هذه المرة
فيقول :"بل لنا الاجتهاد في الأخذ بغيرها مما يناسب عصرنا "!! ، ولا
أدري ماذا أقول لـ " الناصب " هل كلف نفسه عناء قراءة متميزة في الفقه
والأصول تقيه شر ذلك الزلل البيِّن والعثار المهين ؛ إذ أنه بسبب عدم مدارسة أقوال
أهل العلم لم يفهم مراد " فضيلة الدكتور " فشنع عليه بما لا شناعة فيه
وعبر عن فهمه الخاطئ موهماً أنه ما أراده " فضيلة الدكتور " أو أنه معنى
كلامه ، وهو ليس كذلك .
(5/24)
فالمسألة
معروفة وهي دوران تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون فتيا أو قضاءً أو
إمامةً ، وذلك لاجتماع هذه المناصب الدينية في شخصه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو
المفتي الأعلم والقاضي الأحكم و الإمام الأعظم ، وإن تصرفاته بهذه الأوصاف تختلف
آثارها في الشريعة ، فما قاله أو فعله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه المفتى المبلغ
الرسالة وأحكامها كان على جهة العموم لازماً لكل أحد ، وما كان بوصفه إماماً كان الاقتداء
به فيه باستئذان الإمام وبإذنه ، وما كان بوصفه قاضياً كان الاقتداء به فيه حكم
الحاكم به لا بدونه ، ومن ثم اختلف في بعض تصرفاته من جهة ترددها بين رتبتين
فصاعداً فيغلب بعضهم رتبة ويغلب آخرون غيرها لمعنى قام عند واحدٍ ولم يقم عند
الآخر ، كما أنهم اتفقوا في بعض تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - أنها كانت بمقتضى
رتبة بعينها ، فيجمعون مثلا على أن هذا التصرف وقع من باب الفتيا ، وذاك وقع من
باب القضاء ، وغيره وقع من باب الإمامة ، وهذا مما وقع على نحو يرفع الإشكال فيه
فيكون تجهيزه الجيوش وتوليته الولاة والقضاه وعقده العهود مما يدل على أنه وقع
بصفته إماماً ، ويكون قضاؤه بين الخصوم ونظره في الدعاوى والبينات ومطالبته
بالأيمان والحكم على أساس ذلك مما يقع بوصفه قاضياً ، وما أجاب به سائلاً عن حكم
مسئلة وقعت له أو لغيره مما لا يخفى كونه واقعاً بصفته مفتياً .
(5/25)
بينما ما
احتمل الوقوع بين رتبتين أو أكثر فقد وقع الخلاف فيه ، وفائدة هذا أن ما قاله
بوصفه إماماً ، فعلى ما قاله " ابن القيم " : " فيكون مصلحة للأمة
في ذلك الوقت ، وذلك المكان ، وعلى تلك الحال ؛ فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة
ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً ومكاناً
وحالاً " ، وهو ما نقله " فضيلة الدكتور " عنه ولم يخالفه فيه ،
ولكن " الناصب " عن عمد أو سوء فهم لوى عبارة فضيلة الدكتور قائلاً
:"ولا يلزمنا الأخذ بها " ، وهو فهم خاطئ منه أو تحريف متعمد لكلام
فضيلته ، إذ قال فهي خاصة بظروف عصره ، وهذا يعني لزوم الأخذ بها إذا حصلت المصلحة
التي سبق منه - صلى الله عليه وسلم - مراعاتها ، لا عدم الأخذ بها مطلقاً كما توهم
" الناصب " أو أراد أن يوهم بذلك القارئ ليستجلب بذلك سخطه وعدم تقديره
لفضيلة "الدكتور" ، ثم يذكر بعد ذلك كون الاجتهاد لنا في مخالفتها ،
وذلك حق لما بيناه عند تغير الحال ، بل إن العمل على ذلك هو اللازم ، وليس ذلك
هدماً لكلامه - صلى الله عليه وسلم - ولا لاجتهاده ، وإنما تتمة لذلك الاجتهاد
وبناءً عليه ؛ لأن اجتهاده كان لمراعاة مصلحة عرفت ، فتغير الحال فاحتجنا للاجتهاد
مراعاة لمصلحة أخرى ولحالٍ مخالفة ، ومن هنا لا نقول فقط لنا الاجتهاد بل علينا
الاجتهاد في تلك الوقائع مراعاةً لما استجد من المصلحة ولما تغير من الحال ، وليس
ذلك مخالفةً لاجتهاده - صلى الله عليه وسلم - ، لكونه لا يوافق ما كان موضوع
مراعاته - صلى الله عليه وسلم - في السابق ، وهو ما عبر عنه " ابن القيم
" بقوله : " فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان ، وعلى تلك
الحال "
(5/26)
وهذا فيما صدر
عنه بوصفه إماماً كما سبق أن ذكرنا لا ما صدر عنه بوصفه مفتياً ؛ لأنه يبين الشرع
عن الله تعالى ،وهذا لازم الاتباع في كل الأزمان بحسب الإمكان كما في قوله - صلى
الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم " .
فالانتقاد الذى وجهه " الناصب " هنا موجه أيضاً لـ " ابن القيم
" وغيره من أهل العلم الذين ميزوا هذه القضية تمييزاً تاماً ، ومع ذلك
فالناصب لم يسمع بها من قبل ؛ فعدها بدعة من البدع التي يلفقها لفضيلة "
الدكتور " وهنا يغمز " الناصب " فضيلة " الدكتور "
قائلاً : " ومن ذلك تقدير نصاب البقر في الزكاة ، والعفو عن زكاة الخيل في
عصره - صلى الله عليه وسلم - ؛ فكلا الأمرين عند " الدكتور " من الأمور
التي قال بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفة إماماً ، فلا يلزمنا الأخذ بها
" .
وهنا يعود إلى ما سبق أن بينا خطأه فيه حيث أطلق أنه لا يلزمنا الأخذ بها ، وقد
بصرنا القارىء بخطأ " الناصب " في ذلك الإطلاق ، وأنه يلزمنا الأخذ بها
عند اتفاق الأحوال فيسلك أئمة المسلمين مسلكه - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الاستهجان برأي فضيلته في تقدير نصاب البقر في الزكاة ، وأن ذلك منه كان
تخريجاً على اعتباره - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بوصف الإمامة ، ومثل هذا
الاستهجان منه مردود إلى أمرين :
أحدهما : عدم معرفته بما قيل في الباب الذي يلغه بلسانه مع غياب عقله .
ثانيهما : عدم تقديره لفضيلة " الدكتور " ، ولذا فهو يظن أنه يسوق آراءه
اعتباطاً ، وليس عن دراسة وروية ، ونظر بالغ ودقيق .
(5/27)
ولكي نجلى له
الأمر نقول : لقد ذكر فضيلة " الدكتور " أن نصاب البقر قد اختلف فيه
السلف على أقوال ؛ فقيل : هو ثلاثون ، وهو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، وقيل :
عشرون وقيل : خمس كالإبل ، فجعل ذلك الخلاف سبيلاً لاختيار ما يناسب في هذا الزمان
حال المسلمين ، والتي تختلف من بلد لآخر ، حملاً لورود ذلك عنه - صلى الله عليه
وسلم - جميعاً ، فلم يذهب مذهب الترجيح بين هذه الروايات، والذي هو مبني على أن
النصاب لابد أن يكون متعيناً حتى لا يختلف الواجب ، وإنما ذهب مذهب الجمع بين هذه
الروايات ، وعضد طريقته بما روى عن " الزهرى " في تقدير نصاب البقر
بثلاثين : أن ذلك كان تحقيقاً لأهل اليمن .
وبذلك دفع النسخ وكذا الترجيح بين هذه الروايات ، واتبع مسلك الجمع ، والذي يدل
على اعتبار الأحوال المختلفة لتحديد أي تلك المقادير هو الذي يتعين في بلد ما في
زمن ما ، ويضرب فضيلته المثال لما يقول بأنه في البلاد التي تكون فيها الأبقار
بمنزلة الإبل أو أغلى ثمناً ورغبةً ونفعاً ينزل فيها الفرض إلى الخمس كنصاب الإبل
؛ فتؤخذ عنها شاة في خمس إلى عشرين بعدها يلجأ إلى الأخذ بحديث معاذ ، فيكون عمل
في كل منهما بسنة ، وفي البلاد التي يكون الحال فيها أدنى من ذلك يؤخذ بقول شهر بن
حوشب في اعتبار النصاب عشراً، وفي غير ذلك يؤخذ بما جاء في حديث معاذ ، وبهذا
يتبين لك أيها القارىء العزيز – أن فضيلته لم يخرج في أي تقدير منه عما ورد في
الشرع ، ولا أنه كما يدعي " الناصب " لا يلزمه الأخذ بما روى عنه - صلى
الله عليه وسلم - ، بل كما رأينا أخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - كل ما صدر عنه ،
وأنزل كل حكم في محل وفق ما ظهر فيه من المناسبة .
(5/28)
وبالمثل ما
ذكره " الناصب " عن الخيل متهكماً فيه على فضيلة " الدكتور "
لكونه رأى تخريج ما ورد في زكاة الخيل من الخلاف على هذه الجهة أيضاً ، وَوَجْهُ
اعتباره في تلك المسئلة أنها وقع الجواب عنها بوصف الإمامة ، القرائن التي احتفت
بها ويَدُل اعتبارها على أن الحكم الصادر عنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بوصف
النبوة ، وإنما كان بوصف الإمامة ، من ذلك اختلاف النصوص لاعتبارات ظاهرة من تغير
الحال ، والمكان ، والزمان ، الأمر الذي يشهد بأنه قد روعى في الحكم مصلحة جزئية
خاصة ، ولم يكن حكماً شمولياً عاماً .
(5/29)
ومن ثم فقد
أورد فضيلة " الدكتور " صدقة الخيل في هذا الباب ، وذلك لوروده بما يدل
على كونه ليس حكماً شمولياً عاماً ، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
قد عفوت لكم عن صدقة الخيل " ؛ فظاهر لفظ " قد عفوت لكم " صدور
العفو من جهة كونه إماماً ، إذ ان فيه إيماءً إلى كون الأمر مفوضاً إليه ، وهو ما
يليق بوصف الإمامة عن النبوة ، ثم إن العفو والتجاوز إنما يكونان في ما يستحق أن
يطلب ، فدل ذلك على أن إيجاب الزكاة في الخيل يكون حسبما يقتضيه نظر الإمام ؛ فإذا
أراد التشجيع على اقتنائها لكونها آلة الجهاد ترك الأخذ منها لكونها مصلحة قد سبق
أن اعتبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك بموجبها أخذ الزكاة من الخيل ، فمن
ترك فإنما لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ترك أخذ الزكاة منها ، وقد جعل
فضيلته ذلك التفسير مسوغاً لأخذ عمر رضي الله عنه الزكاة منها ، وقد ورد عنه - صلى
الله عليه وسلم - أنه عفا عنها ؛ فيكون أخذ عمر رضي الله عنه عملاً بما ورد عنه -
صلى الله عليه وسلم - في أخذ الزكاة من الخيل ، فهذا هو ما أراده فضيلته وبينه
بوضوح شافٍ كافٍ ، لا إخال معه أي التباس على أفهام عامة الناس ، ولكن "
الناصب " يقول عن قول فضيلته فيهما – زكاة البقر والخيل - : " فكلا
الأمرين عند " الدكتور " من الأمور التي قال بها الرسول بوصفه إماماً ؛
فلا يلزمنا الأخذ بها "
وهو كما بينا من شناعة فهمه ؛ لأن الذي يقوله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماماً
يلزمنا الأخذ به في حال ما لو اتفق الأمر مع ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - :
ولذا فإن فضيلة " الدكتور " قد وسع أن يأخذ أقوام بزكاة الخيل "
وأن يترك أقوام الأخذ منها ، ويكون كل من الفريقين قد عمل بسنةٍ ، فالآخذ عامل
بالسنة ، والتارك كذلك .
(5/30)
ولقد أتى
فضيلة " الدكتور " في كتابه " السنة مصدراً للمعرفة والحضارة
" ببيان مفصل لما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مختلف أحواله ،
وفي شتى مجالات الحياة ، وبين – حفظه الله –ما يليق منها ببشريته ، وما يليق بسائر
أوصافه التي يتصرف طبقاً لها في أحوالها المناسبة ، بينما "الناصب" لم
يتعرض لشيءٍ منها برد ، وإنما لم يعجبه الأمر برمته ؛ لكونه لم تلن له قناته ،
فأباه وظنه خروجاً عن الشرع ، وارتكابا للباطل ، وليس ما ذكره فضيلة "
الدكتور " سوى أمور محققة لا مجال لردها ، أو أمور وقع الخلاف فيها ولكل وجهة
هو موليها ، ولا ينبغي في مثلها المناحرة ؛ لكون لكل واحد فيها مذهب معتبر عليه
أعلام من أئمة الأمة .
ويواصل " الناصب " خروجه التام عما أورده فضيلة " الدكتور " ؛
فيتكلم عن كمال الشريعة ، وكأن محل المخالفة التي أتى بها فضيلة " الدكتور
" هي نقصان الشريعة !! ، ثم هو يريد أن ينفذ إلى أن مقالة فضيلة "
الدكتور " تعنى في ثناياها انتقاص الشريعة ، وهو ما لا يمكنه النفوذ إليه
أبداً ، وإن نفذ الثقلان من أقطار الأكوان ؛ فكيف أراد " الناصب "
النفوذ إلى ما ذكرناه ؟
(5/31)
1- بنى على أن
أمور الدين توقيفية لزوم كون كل ما جاء به الرسول يعد شرعاً ، وهذه مشكلة في فهم
ذا " الناصب " وهي عدم التمييز وقلة القدرة على استيعاب معاني الحقائق
الشرعية ، ثم خبط هذه المعاني بعضها ببعض ليحصل من وراء ذلك هذه الهرطقات التي
يلقى بها في ما يسمي " كتب " " تنشر على الخلق ابتلاءً يبتلي به
الله من شاء من عباده ، ولبيان غلطه الواضح لكل ذى عينين كما ادعى أن هذه الأسباب
واضحة لكل ذى عينين هو أنه وقف عند حد المشكلة ولم يتجاوزها فنحن أيضاً نقول بموجب
قوله وهو أن أمور الدين توقيفية وأنه لا يحذف شيء مما جاء به النبي - صلى الله
عليه وسلم - إلا بما ينسخ به شرعاً ، ولكن المشكلة هي فيما جاء به النبي - صلى
الله عليه وسلم - ؛ أي أنه في ما جاء به من الشرع لا فيما فعله من العادة ، وما
اختلف فيه فقيل قصد به التشريع ، وقيل : لم يقصد به التشريع مما اختلف فيه ، ويحمل
على ذلك ما حكيناه من الأمثلة الدالة على ذلك ، ونحن من هذا القبيل نقول للناصب :
أَوْجدنا شيئاً لم تختلف الأمة على أنه شرع ، وأخرجه فضيلة " الدكتور "
عن أَنه يعد شرعاً ؛ فهلا فعلت لنا ذلك ؟
(5/32)
ويستدل على
كونه يتأسى به في كل شيء بقوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن
كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } ، ويقول : وهذا يعم كل نواحي حياته
الشريفة بلا تمييز " ، وهذا القول من "الناصب " أي : بلا تمييز ؛
أي منه فعلاً ، فهو كما نعلم لا يستطيع التمييز بين ما يكون شريعة وما لا يكون ،
ولأجل ذلك يحسب كل فعل صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - يعد تشريعاً يقتدي فيه به -
صلى الله عليه وسلم - ، وكأنه لم يعلم اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نزوله
" المحصب " هل كان تشريعاً وسنة أم كان فعلاً اتفاقياً ، وغير ذلك من
المسائل التي ذكرناها والآية إنما تنص على أن رسول الله موطن الاقتداء والتأسي،
ولا يكون التأسي به إلا باتباعه في الفعل واعتقاده ، فما فعله على جهة الوجوب لم
يكن التأسى منا فعله على جهة الندب ، والعكس كذلك بأنه إذا فعل فعلاً على جهة
الندب لم يكن التأسى منا فعله على جهة الوجوب لكون اشتمل على مخالفته - صلى الله
عليه وسلم - ؛ إذن فنحن في التأسي بفعله - صلى الله عليه وسلم - محتاجون للنظر في
دلالات هذا الفعل ، وفي غيره من الدلالات ليتبين لنا حقيقته من حيث الندب أو
الوجوب ثم تكون متابعته في ذلك الأمر بفعله على الجهة التي يترجح لنا أنه فعله
منها.
(5/33)
والكلام هنا
هو في موطن التأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله ، والتي ادعى
"الناصب " الذي يجهل العموم وألفاظه ودلالاتها على العموم أنها تفيد
التأسي به في كل شيء حيث قال : " وهذا يعم كل نواحي حياته الشريفة بلا
تمييز" ، والآية إنما هي سيقت لحث المؤمنين على التأسي برسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فيما يؤتسى به فيه ، فالحصر في مواطن الاقتداء والتأسي ، لا في
العادات الجبلية لأنها ليست موطناً للتأسي ، إلا فيما خرج عن العادة والجبلة
واحتمل التشريع بوجه من الوجوه ؛ فذلك الذي جرى فيه الخلاف في اعتبار مسالك الخروج
عن العادة فيه واعتبار الشرع ، وقد سبق ان أشرنا إلى تلك المسالك من مواظبة ، أو
قصد التأسي به فيها ، أو أمر به فيخرج تبعاً لذلك عن العادة المجردة إلى الشرعة ،
ويصير فاعله الذي يبتغي من فعله التأسي به - صلى الله عليه وسلم - مثاباً بذلك
القصد والفعل الموافق جميعاً
2- يبين " الناصب " السبب الثاني في نقض مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية ،
وغير تشريعية قائلاً : " من الذي يحدد أن هذا الشيء من السنة التشريعية وأن
ذلك من غير التشريعية؟ "
والجواب عن ذلك معلوم أن التحديد إنما هو لأهل العلم المطلعين على أحواله - صلى
الله عليه وسلم - وأقواله وسائر أفعاله فيميزون ما هو من التشريع ، وما ليس منه ،
تماماً كما ذكرنا من أن التأسى لا يكون فقط بفعل ما فعله رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - دون موافقةٍ في القصد ، وذلك لا يتفق على الوجه المذكور إلا بمتابعة
العلماء الذين يميزون لنا ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على جهة الوجوب ، وما
فعله على جهة الندب وما فعله كذلك على جهة الإباحة. فيكون التأسى بموافقته في
المشروع على وجهه ، فهكذا هنا أيضاً نعمل بقوله تعالى : { فأسالوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون } .
(5/34)
ولكن "
الناصب " يدخل في حلقة فقدان التوازن بوضوح إذ يقول : " إن ما تراه أنت
داخلاً في السنة التشريعية يراه غيرك خارجاً عنها " وكأنه يشير إلى أن الأخذ
بهذا يؤدي إلى فوضى بينما حمل كل أفعاله وأحواله - صلى الله عليه وسلم - على الشرع
يعده انضباطاً في نظره ، وكأنه أيضاً لا يرى معنى لقوله تعالى: { فاسئلوا أهل
الذكر } فصار الناس كلهم عنده أهل الذكر ، فلا يسأل أحدٌ أحداً ؛ فالكل من حقه أن
يرى ، والكل من حقه أن يدلي بدلوه ، أياً كان ذلك الدلو ، وكأننا ندعوا إلى ذلك
متى قلنا إن السنة باعتبار ما يشمل أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله ،
وتقريراته وسائر أحواله تنقسم إلى : تشريعية وغير تشريعية !!!
وكأنه لا يكون التمييز في ذلك إلى أهل العلم ، وقد فصلوا في الكثير من هذه المسائل
واختلفوا أيضاً في جملة من هذه المسائل قد حكينا طرفاً منها ، ولكن " الناصب
" – هداه الله – يلبس على العامة شأن ما قاله فضيلة " الدكتور " ،
وكأنه دعا إلى ما يمزق الدين ومنذ متى كانت الشريعة نهباً مباحاً لأصحاب الهوى ليس
لها حماة يحمونها ، ويذبون عنها غارات المارقين ، وإرجافات المنافقين ، وصولات
الجاهلين المتمردين .
وأما عن سؤاله عن الضابط الذي يضبط هذه المسألة ، فقد ذكرنا هو ما يؤدي إلى ترجيح
اعتبار الشرع على اعتبار العادة ، والعلماء متفاوتون في ترجيحهم لذلك لاعتبارات
شتى ، قد أشرنا إليها سابقاً ؛ فما اختلف فيه أهل العلم فلكل من الأتباع اختيار ما
يراه من أقوالهم الأقرب إلى الحق ، فيكون تخيره من بين أقوال العلماء ، لا أن يكون
اتباعاً لما تمليه عليه شهوته أو هواه !! ، دون الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم ،
والأخذ من بين أقوالهم ، سبحانك تؤتي الحكمة من تشاء !! .
(5/35)
3- ثم يقول في
ثالث أسبابه الواهنة التي جعلته يقول في كل زهو واستعلاء ليس بلائق لمثله: "
والصواب الذي ليس بعده صواب إلى آخر ترهاته " ، فيقول في ثالث الأسباب :
" لماذا لم يدر هذا الموضوع في خلد أولئك الأخيار من المسلمين الذين عاصروا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والذين جاءوا من بعدهم ؟ "
وجوابنا على ذلك : هو أن "الناصب " لم يقرأ ما كتبه فضيلة "
الدكتور " عن الصحابة رضوان الله عليهم واختلافهم في عدة أشياء من قبيل السنة
أو العادة ، ولم يقرأ ما كتبه الأصوليون في ما يعد سُنة وما لا يعد . وما اختلفوا
فيه من هذا القبيل ، بل لم يقرأ حتى ما كتبه فضيلة الشيخ " العثيمين "
في الأصول من علم الأصول وفي شرحه المخطوط ، وكذا في شرح نظم الورقات ، والأعجب ان
كتاب الأصول من علم الأصول يدرس في المعاهد للطلبة حسبما نعلم و " الناصب
" قد يكون ممن يُدَرّس الكتاب فإلى الله المشتكى في هذه الأفهام !! .
ويكفي القارىء الوقوف على ما ذكرناه فيما كتبه فضيلة " الدكتور " ،
وكذلك في كتب الأصول الفقهية المتعددة ، فينظر فيها في باب أفعاله - صلى الله عليه
وسلم - ليقف منها على الحقيقة التي ذكرناها بلا امتراء .
ثم إنه ساق على بطلان التقسيم بحسب زعمه – بعض الأدلة ؛ فقال :
" فمنها " قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
} ؛ فادعى أن ذلك يشمل الأمر بطاعته في كل ما صدر عنه ، وهو غلط ظاهر ؛ إذ أن قوله
تعالى : { وما أتاكم } وإن جاء بلفظ الإيتاء ، وهو المناولة إلا أن معناه الأمر
بدليل قوله تعالى { وما نهاكم عنه فانتهوا } ؛ فقابله بالنهي ، فدل ذلك على أن ما
أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو واجب بأمره تعالى حيث قال " فخذوه
" ، ولا يقال إن كل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب الأخذ ،
وكذلك لا علاقة له بمسألتنا ، وهي أن كل ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - يعد
تشريعاً .
(5/36)
وما قيل هنا
يقال أيضاً فيما أورده في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولى الأمر منكم } وكذلك فيما رواه من قوله - صلى الله عليه وسلم - :
"ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " فهذا في
أمره - صلى الله عليه وسلم - ، والكلام ليس في أوامره الشرعية ، وإنما فيما صدر
عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو وصف أو تقرير كما ذكرنا .
ولا يلزم من كون ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - حقاً أن يكون لازم الاتباع ،
وقد ذكرنا ما أراده من بريرة وشفاعته لمغيث التي لم تقبلها ، وغير ذلك مما يصدر
عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل مما لا يكون فيه التأسي ، وقد ذكرنا
أمثلة ذلك .
وأما ما ذكره عن شيخ الإسلام " ابن تيمية " – رحمه الله – فقد لبس فيه
تلبيساً عظيماً ، فصورة السؤال كما في " الفتاوى " : ما حد الحديث
النبوي؟ أهو ما قاله في عمره او بعد البعثة أو تشريعاً ؟ ، ولم يجبه " ابن
تيمية " قائلاً إن كل ما قاله بعد النبوة تشريع ، وإنما أجابه قائلاً :
"الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به عنه بعد النبوة من قوله
وفعله وإقراره ؛ فإن سننه تثبت من هذه الوجوه الثلاثة ؛ فما قاله إن كان خبراً وجب
تصديقه به ، وإن كان تشريعاً إيجاباً أو تحريماً او إباحة وجب اتباعه فيه "
(5/37)
وهو ما يتفق
مع ما ذكرناه من كون ما يكون على جهة التشريع يلزم اتباع ما شرع فيه على النحو امر
به ؛ فما أمر به وجوباً اتبع فيه على جهة الوجوب وكذا الندب والإباحة ؛ فلا يتعدى
الحد الذي شرع فيه ، وقد تعمد في الجواب " الناصب " حذف " أو
" تشريعاً ؛ إذ أن " ابن تيمية " بعد ذلك قال : " وقول السائل
، أي مما يتضمن إيجاباً أو تحريماً أو إباحة أو ندباً او كراهة ، ومن هنا خرج ما
قاله على غير ذلك الوجه ، والعجيب أن " الناصب " كما حذف كلمة " أو
" من كلام السائل ومن جواب " ابن تيمية " ليوهم بذلك ما يريده عاد
أيضاً فوقف عند قوله : ( إلى ان قال : " والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها
شرع " ، ولم يكمل بقية ما قاله " ابن تيمية " بعدها لأن ما قاله
يوضح فيه أن المراد غير ما أراد" الناصب " الإيهام به ، وإنما يعني بكل
تأكيد أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريعاً يستفاد منه ما ذكرنا ، لا
ما قاله على غير جهة التشريع فلا يستفاد منه شرع ، وإن ظنه ظان أنه شرع فقد أخطأ ،
ولذا فقد عقب " ابن تيمية " – رحمه الله – قوله : " والمقصود أن
جميع أقواله يستفاد منها شرع " بأن قال " وهو - صلى الله عليه وسلم -
لما رآهم يلقحون النخل قال لهم : " ما أرى هذا – يعنى شيئاً – " ثم قال
لهم : " إنما ظننت فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب
على الله " ، وقال : " أنتم أعلم بأمور دنياكم ؛ فما كان من أمر دينكم
فإلىَّ" ، فعقب على ذلك " ابن تيمية " بقوله : وهو لم ينههم عن
التلقيح ، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم ، كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط
الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود .
(5/38)
وبهذا يعرف
القارىء لماذا سكت " الناصب " عند قول " ابن تيمية " :
"والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع ، ولم يكمل بقيتها حتى يظن القارىء
أن المعنى على ما أراد " الناصب " إيهامه به ، فنقل كلام " ابن
تيمية " بطريقة السكوت في نحو قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة } دون إكمالها
بقوله: { وأنتم سكارى }
وبالطبع فإن كل من يكمل قراءة كلام " ابن تيمية " يفهم منه ان المراد من
قوله: " إن جميع أقواله يستفاد منها شرع " أي جميع الأقوال المتعلقة
بالدين ، وليس المراد من قولنا " بالدين " المقتصرة على العبادات ، بل
التي يؤخذ منها الحلال والحرام ، والجائز والممنوع في كل أنواع الأمور العبادية
والعقائدية ، والمعاملات والأنكحة ، والأقضية ، ولذلك لم يقل " ابن تيمية
" : فدل قوله ذلك على جواز الحديث بناءً على الظن الغير المحقق ، وإنما قال :
" وهو لم ينههم عن التلقيح " ؛ أي : لم يأمرهم بشرع ، وذكر من كلامه -
صلى الله عليه وسلم - : " لا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن
أكذب ، فدل ذلك أيضاً على أن المراد من قوله أن جميع أقواله يستفاد منها شرع أن
ذلك بمعنى ما كان عن الله تعالى ، فما كان منها من خبر يستفاد منه وجوب تصديقه فيه
، وما كان تشريعاً إيجاباً أو تحريماً أو إباحة وجب اتباعه فيه ، وهو عين ما سبق
أن ذكره " ابن تيمية " بنفسه في موضع سابق حيث قال أيضاً : " فإن
الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز
وجل " ؛ فهذا إذن موضع العصمة في أقوالهم ، الذي قصده " ابن تيمية
"- رحمه الله تعالى - ، وهو ما يتفق تماماً مع ما قاله فضيلة " الدكتور
" ، ورغم أن " الناصب " لم يفهم مغزى القصة ، ولا وجه الدلالة منها
، إلا أنه ناقض ما قد سبق أن قرره أن : كل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ولم ينسخ فهو شرع ، ثم يذكر بعد ذلك أن قصة تأبير النخل قد قالها الرسول - صلى
(5/39)
الله عليه
وسلم - في الأمور الدنيوية البحتة ظناً منه ، ولم يقرهم على فهمهم أنها من أمور
الوحي " .
فهلا قد قال بأن ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشريعاً مثلما قال
" ابن تيمية " ، أو خبراً عن الله فيجب تصديقه في الخبر ، والعمل بما
شرع ، بدلاً من أن يقول : كل قول أو عمل أو عمل أو تقرير أقر عليه ولم ينسخ كان
شرعاً.
ويتناقض في قوله بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين فرقاً واضحاً في سنته
بين أمور الدين و أمور الدنيا " ؛ ثم يقول بعد ذلك بأن معايش الدنيا لم يتعرض
لها الرسول ببيان؛ إذ أنه على فرض صدق مقالته بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- لم يتعرض لمعايش الدنيا ببيان؛ فحينئذٍ نعم الفرق هو بين الدين والدنيا !! ؛
فكيف يشتكي " الناصب " إذن عدم وضوح الفارق ، وهو عنده – على الأقل –
بهذا الوضوح !!
وأما قول " الناصب " : " ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة
لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزاً لا نقع معه في لبس " ، وهذا الكلام
منه يعد مجاوزة للحد ، وإلزاماً لله تعالى ولرسوله بغير لازم ، إذ أن الشرع الحكيم
قد بين على نحو يحصل به البيان لمن وفقه الله إليه ، وليس شرطاً ان ينقطع اللبس عن
الخلق كلهم ، وواقعة تأبير النخل التي ذكرها " الناصب " قد اشتملت على
حصول اللبس الذي وقع فيه بعضهم حينما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما
سمع ، وقد بين فأحسن البيان ، واللبس والغلط لا يسلم منه إنسان ، ، ولا ينقص من
قدر البيان .
وأما قول " الناصب " : " فلما لم نجد بياناً عن الرسول - صلى الله
عليه وسلم - مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين ،
وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له "
(5/40)
وهذا القول من
" الناصب " إنما هو مجرد دعوى لا دليل عليها ؛ إذ أن البيان حاصل منه -
صلى الله عليه وسلم - ، وجرت سنة الله في تنازع الناس في البيان ، فيظهر لأناسٍ
ولا يظهر لآخرين لتفاوت الناس في قوة الفهم والإدراك ، ومن ثم كان هناك ما هو متفق
على سنيته ، وما هو متفق على عدم سنيته ، وما هو مختلف فيه لتنازع الدلالات ، وقد
مثلنا لذلك سابقاً فيما احتمل الخروج عن العادة والجبلة إلى الشريعة باحتماله
القربة ، أو ظهور وجه القربة فيه ، مع اشتماله على المواظبة ، أو ورد الأمر به ؛
فيحمل على التشريع .
ووجه خطأ " الناصب " في هذا الباب كثيراً أنه لا يفرق بين السنة في
اصطلاح المحدثين ، والسنة في اصطلاح الفقهاء فيتكلم عن الأولى بأحكام الثانية ،
وهو ما يحدث الخلط في فهمه وأجوبته ، ويظهر ذلك جلياً في قوله عن ما ساقه للدلالة
على بطلان ذلك التقسيم حيث قال : "والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة
المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشر قرناً لم يعرف عن أحدٍ منهم
أنه رد سنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - "
وهذا القول منه من عظيم جهله بما ورد من اختلاف بين كل من ذكر في بعض ما ورد عنه -
صلى الله عليه وسلم - فيما اختلفوا فيه هل هو بقصد التشريع أم العادة ، وقد حكينا
طرفاً من ذلك مما مثل له فضيلة " الدكتور " من الحوادث الواقعة الدالة
على ذلك .
(5/41)
وأما قوله :
" وقد تلطف القرضاوي فجعلها جميعاً من قبيل الإرشاد ، الذي لا ينقص الثواب
بتركه ولا يزيد بفعله ! " ويضع علامة تعجب ، وكأن فضيلته حينما جعله من قبيل
الإرشاد قد أتى بما يستدعي العجب ، وينقل عن " ابن تيمية " نقلاً لا
يحسن فهمه ، وهو أن ما دل عليه من المنافع في الطب ؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء
والانتفاع به ، وهذا النقل يوافق ما قاله فضيلته ، وقوله : فهو شرع لإباحته ليس
فيها إضافة جديد ، لأن الإرشاد منه - صلى الله عليه وسلم - يفيد الإباحة ، وهي
التي يستوي فيها الطرفان ، وأما قوله : وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ أي لاستحباب
التداوي ، وذلك أن الناس كما قال " ابن تيمية " قد تنازعوا في التداوي :
هل هو مباح او مستحب او واجب ، فالكلام في الاستحباب مُنصب على التداوي ، فيتناول
بالتبعية ما كان سبباً للشفاء ، ، ولو لم يخصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر
متى ثبت نجاحه ونفعه ، ولم يكن محظوراً شرعاً ، وذلك مأخوذ من استحباب التداوي على
وجه العموم ، ويثبت بذلك صحة قول فضيلة " الدكتور " ، وهو أن ما جاء في
هذا الباب بوجه عام هو من باب الإرشاد وما كان منه - صلى الله عليه وسلم - من خبر
عن كون شيء شفاء لداءٍ معين ؛ فإنه يلزم منه صدقة - صلى الله عليه وسلم - فيما
أخبر به ، وذلك هو الواجب فيه ، ولكن هذا منه إرشاد لذلك الدواء لا يستفاد منه
تفضيل شرعي لهذا الدواء على غيره على الدوام ؛ لأن الدواء يختلف الحال فيه باختلاف
الزمان ، إلا إذا كان " الناصب " يرى وحده غير ذلك ؛ فليتفضل ببيان ما
يخالف ما ذكرناه !! .
(5/42)
ولما كان فهمه
لهذا الأمر على هذا النحو الخاطئ سعى في تلخيصه بطريقته الخاطئة ؛ فقال : "
فالحاصل أنها كغيرها من الأمور الأخرى تعد من الشرع وتتفاوت أحكامها ، ولا يجوز
لأحد إخراجها من الشرع ، وادعاء أنها جميعاً للإرشاد كما يزعم الدكتور " ؛
فهو ما دام يعد الإباحة تشريعاً ، والإرشاد إنما هو مفيد للإباحة ، فكيف يكون إذن
مخرجاً لها من الشرع على زعم " الناصب " الذي يهرف بما لا يعرف ، ثم إن
المقصد بالسنة التشريعية عند من يرى المباح من تتمة القسمة إنما يخصها بسائر أحكام
التكليف سوى ما يكون مباحاً على طريق الإبقاء على الأصل والعادة ، ثم ما هو وجه
جعل أمر الطب شرعياً دون سائر أمور الحياة ؛ فيكون ما يأتي فيه وحده شرعياً ، وما
يأتي في غيره يكون إرشادياً كتلقيح النخل ونحوه من أمور الحياة ، التي يجمعها قوله
- صلى الله عليه وسلم - : " أنتم اعلم بأمور ديناكم " ، وهو مما يختلف
كل الاختلاف عن أمر الدين على النحو الذي بيناه ، والذي قال عنه - صلى الله عليه
وسلم - : " وإذا كان شيئاً من أمر دينكم فإلىَّ " ؛ فهل أمر الطب من
الأمور التي عناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( فإلىَّ) ؛ فإن كان
الجواب : لا ، فإن " الناصب " بذلك يكون قد أثبت للنبي - صلى الله عليه
وسلم - ما نفاه عن نفسه ، وإن كان الجواب نعم ألزمناه إقامة الدليل على ذلك .
ثم انتقل " الناصب " إلى شبهة جديدة ، وهي ما ذكره عن فضيلة "
الدكتور " من أن تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القضاء والإمامة
ليست من السنة التشريعية الملزمة "
(5/43)
وهذا الكلام
منه من أبين الباطل ، وأول ما يستمسك به مستمسك على فساد فهم " الناصب "
، أو فساد طويته في الإساءة إلى فضيلة " الدكتور " ، والذي قد ذكر في
كتاب السنة مصدراً للمعرفة والحضارة تفسيرات عديدة وتحريرات متتابعة لأهل العلم
والفضل في مسالة تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية ابتداءاً من " ولى
الله الرهلوى " ومروراً بالشيخ " محمد رشيد رضا " ، وانتهاءً
بالشيخ " شلتوت " مع التحفظات التي ذكرها على كلامه فضيلة "الدكتور
" – حفظه الله - ، وليس في شيء من ذلك ذكر أن تصرفات الرسول - صلى الله عليه
وسلم - في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة ، وهذا كذب على فضيلته
وزور من القول ؛ إذ أن فضيلة الدكتور " ذكر عن الشيخ " شلتوت "
تقسيمه السنة إلى أقسام ، فكان رابع هذه الأقسام هو قسمة السنة التشريعية إلى
قسمين : عام وخاص ؛ فجعل العام ما يصدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
وجه التبليغ بصفته رسولاً ، وهو بهذه الصفة يكون تشريعاً عاماً إلى يوم القيامة لا
يتوقف العمل به على شيء سوى العلم به والوصول إليه ، وهذا هو معنى العموم فيه .
بينما ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - بوصف الإمامة أو بوصف القضاء فلا يكون في
حكمه تشريعاً عاماً بمعنى أنه لا يكون لكل أحد الإقدام على فعله بمجرد علمه دون
توقفه على شيء ؛ إذ أن ما يصدر عنه بوصفه - صلى الله عليه وسلم - إماماً فلا يجوز
الإقدام عليه إلا بإذن الإمام ، وما يصدر عنه بوصفه قاضياً فلا يجوز الإقدام عليه
إلا بحكم الحاكم ، فبين "فضيلته" أنه من هذه الناحية يكون معرفة الجهة
التي صدر عنها تصرفه - صلى الله عليه وسلم - مفيداً ؛ إذ أنه يمنع من الاضطراب في
الأحكام واختلاط الجهات .
كما كان مفيداً أيضاً معرفة ما صدر عنه مما ليس المراد منه شرع ، وكذا ما كان
المراد منه التشريع ، وتمييز ذلك يجعلنا نميز بين ما هو مندوب أو سنة ، وما ليس
كذلك .
(5/44)
فظن "
الناصب " أنه وحده القادر على فهم كلام " القرافي " فهماً صواباً ،
ولم يفهم ما ذكره فضيلة " الدكتور " عن الشيخ " شلتوت " فيما
كان تشريعاً عاماً ، وفيما لم يكن كذلك ؛ فظن أن ما لم يكن تشريعاً عاماً لم يكن
ملزماً ، وظن أن ذلك هو قصد فضيلة " الدكتور " ، ولم ينقل نقلاً واحداً
عن فضيلته فيه إثبات هذه الفرية التي لا أساس لها من الصحة ، ولم يقل أحد بأن كلام
" القرافي " مفيد في إخراج تصرفه - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إماماً
أو قاضياً عن التشريع ، وإنما هو مفيد في معرفة الجهة كما ذكرنا منعاً للاضطراب في
الأحكام فيقوم المكلف بفعل ما يتوقف على إذن الغير أو حكمه به ، وهو ما أثق أن
بوسع كل عاقل فهمه من كلام " القرافي" وذلك من كلام " الدكتور
" – حفظه الله - ، وكفاك أيها القارئ في إدراك سهولة فهم هذا المعنى أن
" الناصب " استطاع أن يفهمه !! ؛ فمن بعد ذلك لا يستطيع أن يفهمه ؟ !
إذن ؛ فالذي نقله الناصب " وادعى أن فضيلة " الدكتور " قاله ، وهو
أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة ، فذلك حديث
خرافة يا أم عمرى !!
وقد بينا أن هذه القسمة هي الرابعة لما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالصفة
التشريعية وهذا بطبيعة الحال لا يتعرض فيه إلى ما ليس على الصفة التشريعية .
(5/45)
وقد بينا أن
ليس كل ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل هذه الصفة التشريعية ؛ إذ أن
بعض ما يصدر عنه يكون بمقتضى البشرية التي هي أيضاً وصف ملازم لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ؛ فليس كل ما يصدر عنه يكون واجباً ومن ثم كان بعض كلامه - صلى
الله عليه وسلم - إخباراً عن ظنه وليس عن ربه جل وعلا كما في قضية تأبير النخل ،
التي قال عنها " الناصب " لا توجد واقعة أخرى مثلها ، وقد أُلحق بها
إخباره عن عدم العدوى بأنه وقع إخباراً عن ظنه ، ولذا فقد وقع فيه التعليل ؛ فلما
بان له - صلى الله عليه وسلم - ما أجرى الله عز وجل به عادته نهاهم ان يوردوا
ممرضاً على مصح ، وقد سمى ذلك نسخاً عند بعضهم من هذا الاعتبار ، مع أن النسخ في
حقيقته لا يجري على الأخبار ، وقال : " ابن القيم " عن هذا المسلك بأنه
حسن .
وقد سبق أن بينا كل ما أورده " الناصب " من شبهات حول هذا التقسيم ، فلا
أرى وجهاً لإعادة ذكرها .
ثم يقول " الناصب " في نهاية هذا الفصل : " والخلاصة أن هذا
الموضوع ، وهو تقسيم السنة إلى( تشريعية وغير تشريعية ) هو من البدع المحدثة التي
لم يعرفها السلف " .
وكنا قد بينا أنه لا يعاب التقسيم بالحدوث ، وإنما يعاب من جهة غلطه في القسمة أو
وجهها أو ما يورده تحتها من أفرادها ، فيقال :هذه قسمة لا وجه لها ، أو يقال هذه
قسمة غير منظبطة ، أو غير حاصرة ، ولا يقال هذه قسمة جديدة !!؛ إذ ان التقسيم إنما
ينتج عن البحث والتفتيش والسبر الدقيق الذي ينتهي لكشف وجهها وتقسيم أفرادها تبعاً
لذلك الوجه ، واستيعاب أفرادها تحت أقسامها بما يمتنع منه خروج فرد عنها أو تكراره
في أجزائها ، وكنا قد أشرنا إلى ذلك المعنى من قبل ، والمتتبع للتقسيمات كلها
يجدها قد ابتدأها البعض في حين لم تعرف من جهة غيره من قبله ؛ فهي كلها بالنسبة
لمن سبق ذلك التقسيم محدثة بعده .
(5/46)
وأما قول
" الناصب " بعد ذلك : " والحق فيها أن كل ما صدر عنه من قولٍ أو
فعل لم ينسخ هو تشريع عام للأمة " ؛ فهذا ما لم يقله من نقل عنهم إذ أن ما
صدر عنه على جهة التشريع هو وحدة الشرع ، وليس أيضاً ما ذكر انه عام للأمة ؛ لأجل
أن منه ما هو عام لكل أحد لا يتوقف العمل به سوى على علمه به ، ومنه ما هو خاص
يتوقف العمل به على إذن الإمام ، او قضاء الحاكم به ، ومنه كذلك ما يقضي به في كل
الأحوال ، ومنه ما يختص القضاء به أو العمل به على حال معينة ؛ فيعمل به على وفقها
، ويجتهد فيه إذا تغير الحال بما يناسبها، وقد مر بيان ذلك كله ، ولله الحمد.
الفصل الثالث
القرضاوي والكفار
القرضاوي والكفار :
(5/47)
بدأ الناصب في
هذا الفصل بداية حماسية ؛ فلم يضيع وقتاً في تمهيد يحتوى على شيٍ من المدح البارد
قبل أن ينقلب بعده إلى الذَّمِّ الحار ؛ إذ أنه بدأ ببيان موقف " القرضاوي
" من كفار أهل الكتاب أنه مماثل تقريباً لمواقف أهل التنوير ، وهو بذلك يطبع
فضيلة الدكتور بوصمة تُعَدُّ عاراً في عرف أهل الالتزام والصيانة ؛ إذ أن
التنويريين هم جماعة من المفكرين ذوى الثقافة العربية ، وجدوا ما فيه الأمة من عار
التخلف والانحطاط الذي أدى بهم إلى أن يكونوا مغلوبين مستضعفين تحت وطأة الاستعمار
(1) الغربي ، الذي بدا وقد أخذ بأسباب التقدم الحقيقية ، والعلم الدنيوي التجريبي ؛
فراحوا يكيلون لكل شيءٍ يُعَدُّ رمزاً للأمة على أنه سبب تأخرها ؛ فالشريعة أصبحت
عندهم سبباً في التأخر ، والسبيل إلى التقدم يكون بنبذها وتطبيق القوانين والأنظمة
الغربية والعقيدة مليئة بالخرافات التي لابد من طرحها حتى تتقدم الأمة ، والسنة ،
ليست سوى أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لنتعلم منها كيف كانت حياته ، ولا
ينبغي أن يظن أنها تشريع وأما الكتاب العزيز فهو مصدر الإثراء الأدبي للأمة ،
فوقفوا عند بيان المجد الأدبي في هذا المصدر ، وليس هو أكثر من ذلك فهو حافظ للسان
العرب
________________________
قال د 0 أحمد شلبي في موسوعة التاريخ ( 6/418) :
من الواضح أن كلمة الاستعمار من أسماء الأضداد ، فإذا كان اللفظ العربي يفيد أن
الاستعمار انتقال إلى العمران ، فإن واقع الأمر يجعل الاستعمار أداةٌ للتدمير
والتخريب الذي يمس الإنسان والأرض ، والحاضر والمستقبل .
فإذا جئنا إلى معنى الاستعمار في القانون الدولي ، فإن أقرب ما يقال عن الاستعمار
هو أن تضم دولة قوية لأراضيها أرضاً تسكنها شعوب متأخرة ، وتباشر الدولة القوية
على هذه الشعوب صوراً من السيادة والنفوذ واستغلال الأرض والسكان لصالحها ا 0 هـ .
(5/48)
وما ذكره
الدكتور شلبي احدى النظريات في الاستعمار وهناك آراء أخرى لكيلر ، وهاري جونستون ،
ونكروما ، وإن كان الباحثون متفقين على ان الاستعمار هو امتداد النفوذ السياسي إلى
دولة أخرى ثم اختلفوا فيما بعد ذلك ، انظر في الغزو الفكري لنذير حمدان ص268 .
ومبين لتراكيبهم وبلاغتهم وفصاحتهم ، ورأوا في هذه الأفكار الانحطاطية السبيل
الوحيد إلى الرقي بالأمة من ذلك القبو المظلم الذي خمدت فيه ، واستعانوا على
فريتهم تلك بما استقر في أذهان الناس من اعتقادات شعبية خاطئة عن طبيعة الكرامات ،
والرقى والتمائم ، والتعاويذ ؛ فكان بالطبع لكلامهم في هذه النواحي التخريبية حجة
ورونق ظاهر ، ودخلوا منه إلى هدم ما ذكرناه من الحقائق الثابتة من أحاديث صحيحة ،
وآيات قرآنية ، وتشريعات فقهية ، وصار كل شيء بأيديهم لا حرمة له يعبثون به كيف
شاءوا ؛ ليصححوا عقائد الناس في ظنهم ، وأولئك صدق فيهم قول الله تعالى : { ولقد صدق
عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } ، وقوله تعالى : { أفمن زين له
سوء عمله فرآه حسناً } ، ويدعون في هذا أنهم يتبعون المنهج العقلي ، وكذبوا ؛ إذ
لا عقول لهم ؛ لأن العقل يعقل الإنسان عن الخوض فيما لا يعلم ، وهم خاضوا في كل ما
لا يعلمون ، وجعلوا من أنفسهم حكماً على العقل الإنساني ، فما استحسنوه بعقلهم
المجرد فهو حسن ، وما استقبحوه فهو قبيح (1) ، دون أن يملكوا الميزان الحقيقي الذي
توزن به الأمور والذي هو الجمع بين العقل والمعرفة؛ فمن دون المعارف اللازمة يصبح
العقل عاجزاً عن الحكم ، حتى يصير الحكم الصادر عنه ليس سوى عجز وآفة ؛ لكون شرط
إعمال الآلة مفقوداً ، وأما الحكم العقلي في الأصل ؛ فهو دائر بين الوجوب
والاستحالة والجواز(2) ، وهم وتحت دعوى العقل خالفوا أحكامه ؛ فقالوا بمنع ما
يجيزه العقل ، أو
__________________________________________
(5/49)
(1) ... انظر
ما كتبه الراغب الأصبهاني في تفصيل النشأتين ، وتحصيل السعادتين ط 0 دار الغرب
ص140
انظر المنظومة السفارينية مع شروحها للسفاريني (1/58) وابن سلوم ص45 وعبدالرحمن بن
قاسم ص15 ، وابن شطى وابن مانع ص62.
إيجاب ما لا يوجبه العقل ، ومن دون علم يستفاد منه ذلك الإيجاب أو المنع ؛ فلم
يأخذوا من العقل سوى اسمه .
وهذه النسبة إلى العقل صارت تلازم هؤلاء المدعين " التنوير " وهم في
الحقيقة أهل " تجهيل " لنقصهم المعارف والعلوم المؤهلة للخوض في المسائل
العلمية ، وأكثر هؤلاء من الأدباء الذين يسمون بـ "المفكرين" ، وعدد من
"المثقفين" المغترين بمسحة المنطق الزائفة على أقوال حقٍ ، ثم جُرَّتْ
هذه المسحة لمحلات الباطل دون انتباه أو تفريق بين ما هو " مبتدع " في
الدين أو ضعيف من " الحديث " ، وبين ما هو " ثابت " في الدين
، وصحيح من " الحديث " ، فصاروا تحت غطاء الوعي ، والعقل يتصرفون بلا
وعي ولا عقل .
ولكن المنهج العقلاني أسبق من منهج أهل التنوير (1)،وهو الذي بدأه المعتزلة بجعلهم
العقل سيداً حاكماً حتى أوجبوا بعقولهم على الله ما استوجبته تلك العقول مما لا
يجب وجوباً عقلياً(2) ، وفي عصور الاستعمار (3) البغيض للأمة ______________________________________________
أهل التنوير كما يسمون أنفسهم لم يلتفتوا إلى الشرع أصلاً لما بيناه ، بينما
العقلانيون كان غاية صنيعهم تقديم العقل على النقل ، أو تأويل النقل وفق راجح
العقل ، وذلك عند المعارضة مع الاستواء كما لو كان بين ظنى شرعي وظنى عقلي ، والخلط
بينهما شائع .
كما أوجبوا فعل الصلاح ، واختلفوا في الأصلح فالذي عليه البصريون هو وجوب الأصلح
في الدين فقط ، في حين ذهب البغداديون إلى وجوبه في الدين والدنيا ، قال القاضي
عبد الجبار : وذلك عندنا باطل ا 0 هـ ، ثم إنهم فرعوا على ذلك ان العبد خالق
لأفعاله .
(5/50)
انظر شرح
الأصول الخمسة - صلى الله عليه وسلم -134 ، المغني في أبواب العدل والتوحيد
(14/35) وكلاهما للقاضي عبدالجبار ، ونهاية الأقدام في علم الكلام للشهرستاني -
صلى الله عليه وسلم - (405) .
(3) ... النفوذ الاستعماري بدأ ممثلاً في أسبانيا والبرتغال ، وفي أثرها بريطانيا
وفرنسا وهولندا ، انظر الضربات التي وجهت للأمة لأنور الجندي ص233 ، قال العلامة
القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص161 :
ووزع الوطن العربي – قلب الخلافة العثمانية – بين المستعمرين كما توزع الغنائم
والأسلاب ، فلانجلترا : مصر والسودان والعراق والأردن وفلسطين وبلاد الخليج ( ما
عدا السعودية ) ولفرنسا : سوريا ولبنان وتونس و الجزائر ومراكش ( المغرب) .
ولايطاليا : ليبيا والصومال وأرتيريا .
الإسلامية برزت العقلانية في ثوب جديد ، وهو ثوب الإثبات المادي الحسي ، الذي لم
يكن الغرب يؤمن إلا به ، وهنا برز دور الإمام المصلح " محمد عبده " كأحد
الذين جابهوا هذا التيار المادي الإلحادي بإثباتات مادية لأهل الإيمان (1)، وكانت
أجوبته لهم مقنعة ، إلا أنه قد أتته من قبلها استنكارات كثيرة ، ليس الآن مجال
الخوض فيها ، ولكن ما نحب أن نميزه أنه ليس كل العقلانيين أو أنصار الاتجاهات
المادية في فهم المعجزات ونحوها من حقائق الشرع يُعَدُّون من أهل التنوير الذين
يزيفون المعجزات ولا يثبتونها ، ، ويجترئون على الشرع ولا يبالون بحرمته ، وأرادوا
تغيير معالم المجتمع المسلم .
(5/51)
وهنا أخطأ
" الناصب " بعدم التمييز بين الفريقين ؛ فجعل الشيخ " محمد عبده
" رحمه الله مع أولئك الذين لا يعتدون بشرع ولا قرآن ، ولا بسنة ، ولا معجزة
، ويعدون ذلك فيما يعدون من الترهات البالية ، والعقائد المنحلة التي يعتقدها
الضعفة ، كما هو شأن كثير من المنتسبين للتنوير وإن اختلفوا فيما بينهم في قدر ما
يثبتون وما ينفون ، وفي الحجج التي يستعملونها سواء للنفي ، أو لإثبات الفرق بين
ما نفوه وما أثبتوه ، بينما غاية المنهج العقلي تقديم الظنى العقلي على الظنى
الشرعي وتفسير الشرعي بحسبه ، وذلك أصل المنهج .
وهنا أقول للقارئ العزيز : انظر أيَّ بهتانٍ يريد " الناصب " أن يفتريه
على
___________________________________________
ومن ذلك رده على المحاضرة التي ألقاها المستشرق الفرنسي ومستشار الخارجية الفرنسية
في السوربون بعنوان ( الاسلام والعلم ) ، حيث ذهب إلى أن الإسلام عائق للجهود
العلمية فانبرى الإمام محمد عبده للرد عليه في كتابه " الاسلام والنصرانية مع
العلم والمدنية " ، وانظر فصل الدين عن الدولة للكيلاني ص214 ، وما كتبه د 0
محمد فتحي عثمان في كتابه السلفية في المجتمعات المعاصرة ص75 ، والدكتور محمد حسين
الذهبي في التفسير والمفسرون (2/576) .
فضيلة " الدكتور " حفظه الله فيوهم القارئ مقاربة فضيلته لأهل الانحلال
الفكري مقاربة شديدة حتى كادا أن يتحدا لكي يجعل أقواله في هذا الباب على عتبة
السقوط وهاوية الضلال .
فيقول " الناصب " مشبعاً هواه في الإضلال " موقف القرضاوى من
" كفار " أهل الكتاب موقف متحد – تقريباً – مع مواقف أهل الفكر التنويري
منذ محمد عبده إلى اليوم " .
(5/52)
فبدلاً من
الاكتفاء بمناقشة فضيلة " الدكتور " في آرائه وانتقادها راح يصمها
بمطابقة أقوال أهل الانحلال ، ثم تَنَفّلَ " بمحمد عبده " الإمام المصلح
الذي له مكانة عظيمة في قلوب "المصريين" والذي شغل منصب مفتي الديار
المصرية وكان له مكانة علمية متميزة ، رغم ما انتقد عليه به (1) ، وكفى بالمرء
نبلاً أن تعد معايبه .
ثم يقول الناصب " بعد ذلك ، " على تفاوتٍ فيما بينهم في درجات التسامح ،
و " التساهل " مع هؤلاء الكفار " وهكذا بهذه العماية على القارئ
يستهل " الناصب " حديثه، والملاحظ فيه الجمع بين التسامح المحمود في
غالب أنواعه مع التساهل المذموم في غالب أنواعه ؛ فيستعمل " التساهل "
دائماً للتحريص من ذلك المتساهل ؛ إذ الذي يتساهل في الفتيا وأحكامها لا تؤخذ منه
الفتيا ، والذي يتساهل في الرواية ، لا يعتد بروايته حتى توافق ما رواه الأثبات ،
__________________________________________
(1) ... وممن انتقده : د 0 فهد الرومي في كتابه منهج المدرسة العقلية (1/149) ،
وفي كتابه اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/738) ، ومحمد العبدة وطارق
عبدالحكيم في كتابه المعتزلة بين القديم والحديث ص123 .
والمتساهل في نقد الرجال لا يقبل منه ما ينفرد بتعديله ، والمتساهل في تصحيح
الحديث لا يكتفي به في تصحيحه ولذا لما وصف " الحاكم " بالتساهل كان ذلك
من باب الطعن فيما انفرد بتصحيحه ولم يوافق عليه ، ولما وصف " ابن حبان
" بالتساهل في التصحيح فإن "السيوطي" قد دافع عنه قائلاً :
ما ساهل البستى في كتابه
(5/53)
**** بل شرطه
خفَّ وقد وفى به
وهكذا فإن التساهل مذموم ، وما يطلق على أحد في شأن من الشئون دنيوية أو أخروية
إلا كان تنقصاً له في ذلك الشأن ، وهكذا وصم هذا " الناصب " فضيلة
" الدكتور " بالتساهل مع هؤلاء الكفار تنقصاً لمسلكه فيما سلكه من آراء
تتناولهم ، وحرَّص الناس من الوقوع في مثل ذلك .
فهكذا دائماً أيها القارئ العزيز تجد هذا " الناصب " يحاول في كل مرة أن
يتسلط على قارئه ويدخله في عالمه المريض ، ويصور له الأمور من زاوية الضوء الخافت
حيث الأشباح والظلال القاتمة تملأ المكان ؛ فلا يرى سوى خيالات هذا المريض الموهوم
؛ بأنه أصبح كاتباً يؤخذ عنه شيء يتصل بضمائر الناس ووجدانهم وهو دين الله الخالد
في نفوس أهل العرفان .
ثم يتابع " الناصب " خيالاته قائلاً :" وقد أدت به هذه الهزيمة –
ولو كانت خفية ! – إلى تقديم تنازلات على حساب النصوص الشرعية لهؤلاء الكتابيين
لعلها تظهر الإسلام عندهم بمظهر التحضر واللطف والتسامح ، …….الخ "
ثم يبين من هم الذين قدم لهم هذا الهراء الذي يحكيه ويسميه " تنازلاً "
؛ فيقول: لهؤلاء الكتابيين ، وذلك لسببٍ ذكره بقوله :" لعلها تظهر أهل
الإسلام عندهم بمظهر التحضر واللطف والتسامح …….الخ "
(5/54)
فكأن الشرع
عند " الناصب " لا يفي بإظهار أهل الإسلام بمظهر التحضر واللطف والتسامح
…….الخ ، وإنما يظهرهم على خلاف ذلك ، ومن ثم فإن فضيلة الدكتور قدم التنازلات
لعكس القضية التي أتى بها الشرع ، وصور الإسلام على غير صورته ، ولكن الناظر وبكل
المعايير يجد أن الصورة التي يتكلم عن فضيلته أنه حاول أن يبرزها تبدو هي اللائقة
بالإسلام لا دونها ، بل يكاد المرد يقشعر بدنه لو صور له أحد الإسلام على خلافها
كما يريد ذلك " الناصب " الذي يقدم بكلامه الساقط هذا من "الميزان
" صورةً ؛ لا أقول لا يقبلها كل أهل ملة الإسلام ، بل لا يقبلها أهل الملل
جميعاً لو عرضت عليهم ليقبلوا بها على أنها صورة دينهم ، فانظروا إلى "
الناصب " ذلك الذي يحاول أن يقدم أقبح تنازل ليقبل هذه الصورة لدين الله
" الإسلام " بينما يأباها أهل الملل جميعاً ويعد ذلك هو الشرع الحنيف ،
ويدعى أن فضيلة " الدكتور " هو الذي يقدم التنازلات ، ولا يقدم
التنازلات إلا الخاسر ، فهل الخاسر هو الذي لا يقبل بما لا يقبله الناس ، أم الذي
يقبل ما لا يقبله الناس ؟ !! العقل …..العقل يا قوم ؛ فقد ذهبت عقول القوم !! .
ثم يلخص " الناصب " ما استفاده من كتابات فضيلة الدكتور " القرضاوي
" عن طبيعة المجتمع المسلم وعلاقته بغير المسلمين ، ويا ليته أدى حق ما
استفاده من توقير لفضيلته وتوقير لرأيه ، ولكنه لما كان من الصعب أن يكون المرء
عالماً، فرأى أن الأفضل أن يكتفي بأن يكون متعالماً ، واختار من يرقى على كتفيه
فأساء الاختيار ؛ لأن فضيلة " الدكتور " أكتافه أعلى بكثير من أن تكون
مركباً، فمن أراد أن يرتقيها فليبحث له عن عنق من حديد ، وأذكر القارئ الكريم
بالجملة التي استفادها " الناصب " من نقول فضيلة " الدكتور "
، وهي :
أن المجتمع المسلم مجتمع متميز .
الولاء ثابت للمسلمين ، والعداء لغيرهم .
رابطة العقيدة هي التي تربط بين المسلمين جميعاً .
(5/55)
البر والقسط
حق على المسلم لغير المسلم المسالم .
حق الاقتباس جائز للمجتمع المسلم رغم تميزه .
ولما كانت هذه الآراء ليس بوسعه أن ينكرها ؛ فقد ذهب إلى تضييع أثرها وإفقادها
مصداقيتها ، وكأنها مجرد شعارات رفعها فضيلة الدكتور لذر الرماد في العيون ، ثم
يخالف من حيث الواقع العملي كل معاني هذه المقولات .
فقال " الناصب " مبيناً ذلك وعلى عادته جامعاً بين المدح البارد ، والذم
الحار ليكتسب لدى القراء مصداقية تمكنه من القيام بعمله في سهولة ويسر ، وهو ما
كان يتمناه لولا رجال ألزموه الحد ، وبينوا له الضد ، وكشفوا له عن سوء القصد .
وعبارة " الناصب " التي وصفناها بما سبق هي قوله :" وكل هذا لا
خلاف فيه، وهو قول سليم لو لم يتعرض له الدكتور بما يناقض مفهومه في آرائه واختياراته
المتساهلة مع كفار أهل الكتاب ، مما تجعل هذا المجتمع المسلم لا يتميز عنها إلا
بشيء يسير لا يكاد يذكر "
وهو أسلوب من يريد الطعن والسلم معاً ، حتى إذا أوجدت له فارقاً وثانياً وثالثاً ،
قال لك : قلت : إنهما لا يفترقان إلا بشيء يسير ، وذلك ما قصدت باليسير ، ولو كان
الأمر على ما قال فليبين هو حد ذلك الفرق الذي ينبغي في خصوصية المجتمع المسلم عن
غيره وكيف نزل فضيلة الدكتور عن هذه الخصوصية وناقض أصله ، ولكن بدلاً من ذلك
البيان فإن الناصب أتى بجملة من المسائل يريد من خلالها أن يبين تلك المناقضة التي
ادعاها ، وهيهات له ثم هيهات أن يثبتها ؛ فإلى هذه المسائل التي أوردها "
الناصب " لكى نكشف عنها الغطاء ، ونبين كما هو أصبح معتاداً للقراء أخطاء
" الناصب " وأوهامه وقلة معرفته ……..الخ ، فإلى المقصود .
المسئلة الأولى : الدكتور يرى أن الكفار إخوانٌ لنا !!
(5/56)
هكذا ترجم
" الناصب " للمسئلة الأولى التي أراد أن يبين من خلالها كيف نقض فضيلة
الدكتور قواعده ، ووضع علامتي تعجب لتدلا القارىء على أن " الناصب " فهم
من كلام فضيلة " الدكتور " أحد شيئين فتعجب منهما مرتين أولاهما :
" أنه فهم من كلامه : أنهم إخوان لنا في الدين فاستنكر ذلك طبعاً وتعجب منه
" و تعجبنا لفهمه تعجباً أشد من تعجبه .
وثانيهما : أنه فهم من كلامه : أنهم إخوان لنا في الكفر ، فاستنكر ذلك أيضاً وتعجب
، وتعجبنا كذلك لفهمه كالأول وأشد .
وأما أن يدرك أن الكافر والمؤمن قد تربطهما إخوة من نوع آخر ؛ فذلك لا يمكن أن يصل
إليه عقل " الناصب " المبرمج على الفهم في اتجاه خاطيء.
فكأن الكافر لا يكون أخاً للمسلم نسباً ، أو كأنه لا يكون أخاً له وطناً أو غير
ذلك مما يشتركان فيه ، فيكون الكفر قاطعاً للأخوتين ، ورغم ما استدل به فضيلة
الدكتور إلا أن " الناصب " عن ذلك أبكم وأصم ، فسلم في إخوة النسب
مكرهاً للإجماع وبقى عناده في إخوة الوطن وغيرها ، وللرد على ذلك فأننا ننقل من
الكتاب والسنة وأقوال الأئمة ما يدل على جواز ذلك :.
أولاً : الكتاب العزيز :
قال الله تعالى : { وإلى عادٍ أخاهم هوداً } (1) ، { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } ،
وإلى مدين أخاهم شعيباً } { كذبت قوم نوح المرسلين ، إذ قال لهم أخوهم نوح ألا
تتقون } ، { وإذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون } ففي هذه الآيات قد اجمع العلماء من
مفسرين وغيرهم على أنها ليست إخوة الدين ، ذكره " الرازي " (2) وغيره
(3) واختلفوا في نوع هذه الإخوة على قولين :
أحدهما : أنها إخوة القرابة " النسب " ، وهو محكى عن " ابن عباس
" ذكره " القرطبي " ، وعزاه " الألوسي " لكثير من
النسابين ، واختار ذلك " ابن عطية " و " الثعالبى " و "
أبو السعود " ، ولا يعنون بذلك نفي الإخوة في غير ذلك _______________
(5/57)
اختلف في
" هود " هل هو من عاد أو من بني عمومتهم ؟ ، وإلى الأخير ذهب " أبو
حيان " حيث قال : إنه ليس من بني عاد
في تفسيره (14/126).
كالخازن في تفسيره (2/215).
وإنما تفسير المراد بالإخوة في هذه الآيات ؛ لما هو معروف من جواز إطلاق الأخوة
على غير إخوة الولادة ، وقد ذكر " رشيد رضا " الإخوة في هذه الآيات
بإخوة النسب ثم قال :" كما يقال في إخوة الجنس كله ".
ووجه ذلك أن الأخ يستعمل في مطلق القريب ، وذلك على وجه المجاز المرسل، كما يقال :
يا أخا العرب ، والعرب يقولون للواحد من القبيلة : أخو بني فلاً ، يقصدون بذلك
عزوه إلى قبيلته ، ونسبته تمييزاً له عما يشاركه في اسمه ؛ فالأخوة في معنى
القرابة النسبية ظاهرة ، كما قال " السمين الحلبي ".
وثانيهما : أن الإخوة في هذه الآيات ونحوها ليست إخوة النسب ، وعليه فقد فسرت
الإخوة هنا على معنيين :
أحدهما : الصاحب الملازم ، كما في قوله تعالى : { إن المبذرين كانوا إخوان
الشياطين } ، وأيضاً قوله تعالى : { وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } ومن
ذلك قالوا : أخو الحرب ، فالعرب تقول للصاحب أخاً، وإلى ذلك ذهب " النسفي
" (1) واستُدل لهذا القول أيضاً بقوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } ؛
أي : صاحبتها ، وكما قال عليه الصلاة والسلام :" إن أخاً صداء قد أذن(2) ،
وإنما يقيم من أذن ؛ أي : صاحبهم (3).
على أنه قد يفسر ما ذكرناه على نحو المشاكلة والاجتماع في الفعل كما قال
_____________________________
في تفسيره (1/577) .
رواه الترمذي (1/240) ط 0 بشار عواد ، وأحمد ( 4/169) ، وابن ماجه (717) والبيهقي
(1/399) ، قال الترمذي : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم .
والحديث ضعفه الألباني رحمه الله في الإرواء (1/255) ، و السلسلة الضعيفة (1/53) .
انظر تفسير الرازي (14/126) .
(5/58)
ذلك "
ابن عرفة " حيث قال :" الأخوة إذا كانت في غير الولادة كانت للمشاكلة
والاجتماع في الفعل " .
ثانيهما : أنه أخوهم ؛ أي : في الآدمية حيث ينتمي كلاهما إلى آدم ، قال "
الزجاج " (1) : يحتمل أن تكون أخوة الآدمية ، وعلى ذلك فإنه فسر الآيات
السابقة ونحوها على أن الله تعالى ذكرهم بأنه أرسل إليهم رسولاً من جنسهم لا من
الملائكة ، ثم قال :" ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة " ، وقال : قيل
في الأنبياء أخوهم ، وإن كانوا كفرةً ، لأنه إنما يعني أنه قد آتاهم بشر مثلهم من
ولد أبيهم " آدم " عليه السلام ، قال في " اللسان ": "وهو
أحج " (2)
وممن ذهب إلى ذلك أيضاً " الهروى "حيث قال : هو بمنزلة الأخ ؛ لأنه
وإياهم ينسبون إلى أب واحد .
وهذا القول جارٍ في اللغة حيث يستعار الأخ لكل مشاركٍ غيره في أصلٍ أو شيءٍ، ولذا
فقد جرى في عرف أهل اللغة تسمية أخوات كان ، وأخوات إن ، وغير ذلك مما يشترك في
نوع من الأحكام المعروفة ، وقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } لانتسابهم لأصل
واحد هو الإيمان الذي يمثل القرابة الفطرية التي تزيد على القرابة الصورية والنسبة
الولادية .
ومما ذكرناه ؛ فقد ذهب العلامة رشيد رضا إلى جواز إطلاق الإخوة على غير إخوة النسب
والأخوة الدينية ؛ فقال : " وللدين أخوة روحية كأخوة الجنس
_____________________________________________
نقله جمع منهم الخازن (2/216) ، وصديق خان في فتح البيان (4/389) .
لسان العرب (1/90) .
القومية والوطنية " ، وقال في تفسير قوله تعالى: { وإلى عادٍ أخاهم هوداً }
" والآية دليل على جواز تسمية القريب أو الوطني الكافر أخاً " وكلامه
يدل على أصالة أخوة الجنس .
وحكى أنه : " سئل الإمام عبدالله بن أبي ليلى عن اليهودى و النصراني يقال له:
أخ ؟، قال : الأخ في الدار ، واستدل بالآية "، ورواه "أبو الشيخ"
وإلى هذا فقد ذهب فضيلة الدكتور " القرضاوي " ، وقد ذكر قول القائل:
(5/59)
إذا كان أصلى
من ترابٍ فكلها
(5/60)
**** بلادي
وكل العالمين أقاربي
ومما ذكرنا يتضح أن الأخوة من حيث جواز الإطلاق لغةً تسع ما ذكرناه بلا نكارةٍ ،
وذلك من جهة المجاز المرسل كما أسلفنا ، وأنه من حيث دلالات الألفاظ القرآنية
أيضاً لا تمنع ذلك ، بل تؤكد جوازه كما أوردنا .
ثانياً : السنة المطهرة :
وأما السنة ؛ فقد استدل فضيلة الدكتور على الإخوة العامة بين الناس جميعاً بما يلي
:
عن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة هذه الدعوات
الثلاث :
" اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك"
" اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك "
" اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه ، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة "
والحديث أخرجه " أحمد " (1) ، و " أبو داود " (2)، والنسائي
في الكبرى(3) في عمل اليوم والليلة (4) ، وابن السنى في عمل اليوم والليلة ،
والطبراني في معجمه الكبير(5)، وأبو يعلى في مسنده (6) ،والبيهقي في الدعوات
الكبير.
وفي الحديث دلالة واضحة على الإخاء البشري كما قال فضيلة الدكتور ، وعلى أن
الإسلام يعتبر قيمة هذا الإخاء وإن كان دون الإخاء الإيماني بين المؤمنين الذي
يزيد على الإخاء في الإنسانية بالإخاء في رسالة الإسلام السامية ، والتي جعلت إخوة
الإسلام أثبت من إخوة النسب من جهة أن إخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين بينما لا
تنقطع إخوة الدين بمخالفة النسب ، ومن هنا كانت أثبت ، وهذه الإخوة الإيمانية قد عقد
عراها رب العالمين وجعل لها أحكاماً لتحقيقها وتأكيد معناها ، وفصل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - هذه الأحكام وبينها للمسلمين كي يرعوها حق رعايتها ، لكن هذه
الأخوة الإيمانية لا تنافي الإخوة الإنسانية ؛ لأنها كما ذكرنا تزيد عليها ، ولا
منافاة مع الزيادة لأنها تحقق معنى الخصوص ، فلا يلزم منها منافاة العموم ؛ إذ لا
تعارضه ، وكما قال فضيلة
(5/61)
___________________________________________
في مسنده (4/369) .
في سننه برقم 1508 .
(6/30) .
برقم 14 ص60 بتحقيق بشير عيون .
(5/210) .
(13/178) .
"الدكتور :" كل ما في الأمر أن لهذه الإخوة حقوقاً أكثر بمقتضى وحدة
العقيدة والشريعة والفكر والسلوك .
هذا وقد أفاض فضيلته في بيان وجود دلالة هذا الحديث على قيمة الإخاء البشري في نظر
الإسلام فذكر خمسة أوجه نوجزها كما يلي :
إعلانه الإخوة بين العباد جميعاً ، تجمعهم عبوديتهم لله تعالى .
ورود هذا الإعلان منه - صلى الله عليه وسلم - في مناجاته ربه ، وهي حال تشهد
لتقرير الحقائق ومصداقيتها .
اقتران هذا الإعلان بالمبدأين الأساسيين في عقيدة الإسلام ، وهما الشهادتان ، وذلك
يعظم أهمية المبدأ .
تكرار هذا الإعلان في اليوم والليلة على مدى الصلوات المفروضة ، والتكرار بهذا
القدر يدل على العناية والاهتمام به .
وقوع هذا الإعلان مرتبطاً بالصلاة وفي أعقابها مما يدل على اكتمال الهدى به .
(5/62)
وإن الأخوة
الحاصلة بين العباد إما أن يقصد بها العام ، وهو ما يعنى الإخوة العامة بين الناس
جميعاً ، وقد يحتمل أن يكون من باب الظاهر ، أو العام المراد به الخصوص فيكون
المراد به المسلمون خاصة ، والأقرب الأول لعدم منافاته الثاني لما ذكرناه ولأنه هو
الأصل في الإطلاق ، أن العباد تشمل الناس جميعاً ، فيكون قصره على المؤمنين خاصة
مفتقراً لدليل مثل ما جاء في الوصية بالجار ، قال العلماء : " الأحاديث في
إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر " وقد ورد عنه - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال لعائشة رضي الله عنها عند تفريق لحم الأضحية :" ابدئي بجارنا
اليهودي " ، وروى عن عبدالله بن عمر أنه قال في شاةٍ ذبحت في أهله فلما جاء قال
:" أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات – وعزى ذلك لكونه سمع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه
سيورثه " ولذا فإن الأولى هو الأخذ بالإطلاق ، وهو في موضوعنا إثبات الأخوة
العامة بين الناس جميعاً .
ثالثاً : ما ورد عن الأئمة في جواز تسمية الكافر أخاً :
1- ... من ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبد الله بن أبي ليلى حين سئل عن اليهودي
والنصراني يقال له : أخٌ ؟ قال : الأخ في الدار ، واستدل بالآية ؛ أي : { وإلى
ثمود أخاهم صالحاً } .
2- ... ما حكاه أبو جعفر النحاس عن أبي إسحاق في قوله تعالى { وإلى عاد أخاهم
هوداً } ، قال :" قيل له أخوهم ؛ لأنه منهم ، أو لأنه من بني آدم عليه السلام
كما أنهم من بني آدم "
(5/63)
لما جاز أن
يوصف النبي بأبوته للكافرين كما في قوله تعالى على لسان لوط : { قال يا قومِ هؤلاء
بناتي هن أطهر لكم } والمراد بالبنات هنا جميع نساء قومه ، وهو مروي عن ابن عباس ،
وقال به عدد كثير من العلماء ، ويقربه أن بنات لوط لا تكفي قومه ، فكان المراد
عموم النساء ، وهو ما يدل على قوله تعالى في آية أخرى { أتأتون الذكران من
العالمين ، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } وقوله : { أتأتون الرجال شهوة من
دون النساء } ، فدل ذلك على ما ذكرنا من إرادة النساء جميعاً من قوله { بناتي }
وكان بنات قومه كافرات ، لقوله تعالى { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } ؛
فصرح سبحانه بأنه ليس في قوم لوط مسلمٌ إلا أهل بيته ، وبذلك يظهر وصفه لنساء قومه
بأنهن بناته رغم أنهن كافرات ، وبه قال أيضاً من أصحاب " ابن عباس"
" مجاهد " و " سعيد بن جبير " ، وذلك لأنهن في الأصل بنات ،
وهو لأنه نبي فكان كالأب لهن ، وهو اختيار " الرازي " .
كان ذلك المعنى شاهداً لاعتبار الأخ الكافر لكونه من القوم أو لكونه من بني آدم ،
وذلك أن النبي كالأب ؛ فكان الجميع كالإخوة .
وبهذا ومثله فقد احتج فضيلة الدكتور العلامة " يوسف القرضاوي " إمام
العصر على ما أسلفناه من كون الأخوة الإيمانية التي عقدها الله بين المؤمنين وأوجب
لهم بها حقوقاً هي أرفع أنواع الإخوة ، وأقواها صلة ورابطة ، بينما الإخوة
الإنسانية هي الأخوة الأعم التي تربط بين الناس جميعاً بنسبتهم إلى أبيهم آدم ،
وهي وإن كانت رابطة ضعيفة إلا أنها تبقى نوع رابطة ، يفيد ذكرها في الإشفاق على
الخلق ، وصنع الخير لهم ، وتقديم ما ينفعهم ما دام نفعهم مشروعاً وبرهم مطلوباً ،
وأنه وإن قطع الكفر وشائج الإخوة الإيمانية التي هي أبلغ من الإخوة النسبية كما
قدمنا إلا أن الإخوة النسبية ، والإخوة العامة في الآدمية تبقى موصولة بقدرها .
(5/64)
ولكن هذا
المعنى الذي ذكره فضيلة " الدكتور " لم يحسن فهمه الناصب وأغلق عليه
إغلاقاً شديداً حتى إنه لما رد عليه أتى بما هو خارج عن محل النزاع ، فكأنه لم
يحسن تحرير محل النزاع رأساً ، وذلك لأنه لم يحسن التأمل ، بل مجرد النظر بشيء من
التعقل ، وإلا لكان كفانا الخوض في نزاعٍ متوهم ، ولا حقيقة وراءه ترجى ، ولأجل
بيان مدى الغلط الذي وقع فيه " الناصب " فإن أول شيء نبدأ به في ردنا
على ما أورده من آرائه التي هي أقرب إلى الأسقام والسخافات منها إلى الحجج
والدلالات ، فنقول :
تحرير محل النزاع المتوهم في جواز إطلاق لفظ الأخ على الكافر :
لتحرير محل النزاع نبدأ بإثبات الحقائق التي ذكرها العلامة فضيلة "الدكتور
" حفظه الله ؛ والتي تتمثل في :
الإخوة الغالبة في إطلاقات العلماء تشمل ثلاثة أنواع هي : الإخوة النسبية ، الإخوة
الرضاعية ، الإخوة الدينية .
أعلى أنواع الإخوة مطلقاً هي الإخوة الإيمانية لأنها تثبت مع قطع غيرها
أن الأحكام المعقودة شرعاً هي باعتبار الإخوة الغالبة التي بيناها .
جواز إطلاق لفظ الأخوة على غير الأنواع الثلاثة السابقة جائز من حيث اللغة ، ولم
يقم دليل شرعي على منعه ، وإنما جاء بما يجوزه ويدل عليه .
الأخوة في الآدمية مجازية فتحتاج إلى قرينة لإدراك أنها مرادة بالخطاب ، والإخوة
الدينية وإن كانت مجازية إلا أنها مشتهرة باستعمال الشارع لها بكثرة فكانت هي
المرادة غالباً متى انتفت الإخوة الولادية ، أو النسبية ، ما لم تدل قرينة على
اعتبار ما سوى ذلك .
فكان محل النزاع بعد ما بيناه هو :
هل يقال للإنسان الكافر أخ أو أنه لا يجوز أن يقال له ذلك من أي وجه ؟
هذا إذن هو محل النزاع ، ونحن نقول إنه متوهم ؛ لأنه لم يرد في ذلك نزاع ، ولم يأت
المخالفون بما يدل على وجود نزاع في ذلك .
وبما ذكرناه سيتبين للقارئ العزيز كل ما وقع فيه " الناصب " من أخطاء
جلية نبرزها فيما يلي :
(5/65)
أولاً : قال
" الناصب ": " قلت : قد ظلم القرضاوي نفسه عندما ساوى بين المسلم
والكافر وأدخلهما جميعاً تحت مبدأ " الإخوة " بكل ما توحي به هذه الكلمة
من مودة ورحمة وتعاطف وترابط وتناصر وموالاة …..الخ "
وفي هذه المقالة من الناصب قد جمع الكثير من الأمور الردية التي قل أن تجتمع لغيره
حيث جمع بين التطاول والتعدي الممقوتين ، والتلبيس على القارئ ، وخلط الأمور خلطاً
إن كان عن قصد فهو دلالة على خبث الطوية ، وإن كان عن غير قصد فقد دل على
المدلولات السابقة من سوء الفهم ، والاعتباط ، وقلة الفطنة ، ……….الخ .
فأولاً : تطاول على فضيلة " الدكتور " العلامة حيث قال :" قد ظلم
القرضاوي نفسه " ، وكأن " الناصب " فعلاً قد ظن نفسه بمنزلة من
يقوم فضيلة " الدكتور " فراح يعنفه بهذه المقالة ، ونحن بدورنا نقول
للناصب : إنك قد ظلمت نفسك بتجاوزك حدود قدرتك الضعيفة ، وعدم تقديرك لنفسك بما
تستحقه ، وهو الأمر الذي أوقعك في هذه العمايات كلها "
وثانياً : من أين لـ" الناصب " أخذه مساواة المسلم بالكافر ، وهو المميز
للأخوة الإيمانية كما هو مجمع عليه بقوة الرابطة الموجبة للحقوق التي تخلو عنها
الإخوة الإنسانية ؛ فليس دخول المسلم مع الكافر تحت مبدأ الإخوة الإنسانية بمساوٍ
بينهما ، وإنما غايته إيجاب نوع من الحقوق تليق بمثل هذه الرابطة في الأحوال
المشروعة ، كما لا تقتضي الإخوة بين المسلمين التسوية بين البر والفاجر منهم ،
وإنما توجب لهم نوعاً من الحقوق تليق بمثل تلك الرابطة ، وسوف نتكلم عن طرف منها
عند تعليقنا على ما أورده " الناصب " من قوله تعالى : { إنما المؤمنون
إخوة }
(5/66)
وثالثاً : ما
ذكره " الناصب " بقوله : ما توجبه الكلمة من المعاني التي ذكرها ، فيه
خلط ، فالمودة والرحمة والتعاطف والترابط إنما هو بحسب اللائق في تلك الإخوة بما
أتى به الشرع لا ما يمنع منه ، كالإخوة النسبية إن خلت من الإخوة الإيمانية يبقى
لها من الرابطة والمودة والرحمة والتعاطف ما يليق بها بقدرها لا ما قطعه الشرع
بانتفاء الإيمان "
ثم إن " الناصب " خلط في هذه العبارة الطويلة ما يستقبح لكي يحصل به
الشناعة ما لا ينبغي ذكره ؛ فقال :" وتناصر " وإنما التناصر يكون ين أهل
الإيمان فهو مختص بالإخوة الإيمانية دائماً ، ومحل ذكره للكفار لا بموجب الإخوة
كما ذكر، وإنما من حيث إحقاق الحق ، حتى ولو كان لكافر ، فإنه لا يظلم ، وهذه منه
مكيدة للإساءة لقول فضيلة " الدكتور "
ثم أتى بعد ذلك بما هو أشد منها ، وهي " الموالاة " المنتفية بين
المؤمنين والكافرين فلا يجتمعون فيها ، ليوهم بذلك أن مجرد لفظ " الإخوة
" يدعو بها ، ولو كان ذلك كذلك لدعت إليها الإخوة النسبية المجردة عن تحقق
الإخوة الإيمانية ، أو الإخوة الولادية أيضاً المجردة عن الرابطة الإيمانية ، ومع
أنه فهم ذلك جيداً ، إلا أنه أراد أن يوهم أن " الأخوة " المجردة تدل على
الموالاة ؛ فأى تلبيس يقوم به هذا الإنسان الذي خلا قلبه من الإخوة الإنسانية التي
لو وجدت في قلبه لحملته على الشفقة على أخيه في الإنسانية ، وليس في الرابطة
الإيمانية التي يتشدق بها ولا يعرف لها معنى ، ثم يقول بعد ذلك الخ ، ولا أدري
ماذا يقصد بها أعلى من الموالاة التي انتهى إليها ؟ !
ثانياً : يقول " الناصب " بعد ذلك : " وقد ناقض الدكتور بتبنيه
لهذا الرأي الشاذ أصلاً من أصول الإسلام يبين أن الإخوة لا تكون إلا للمسلمين ،
يقول الله تعالى : { إنما المؤمنون أخوة } فحصر الإخوة في المؤمنين دون غيرهم من
الكافرين .
(5/67)
فلاحظ أيها
القارئ العزيز كيف اشتمل كلام " الناصب " على هذه المغالطات التي يمكن
لنا توضيحها فيما يلي :
أنه وصف قول فضيلة الدكتور بالإخوة الآدمية لكون الناس جميعاً أبناء أب واحد ، كما
في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم لآدم " ، بأنه قول شاذ ، وذلك
من دون أن يذكر أحداً منع من الإطلاق على الوجه الذي ذكرناه في تحرير محل النزاع ،
فمن أين استقى هذا الناصب ذلك الوصف سوى من مخيلته.
وصفه بأنه نقض بقوله أصلاً من أصول الإسلام - على قدر فهمه - وذلك فيه مغالطة
صريحة وواضحة لكلام فضيلة الدكتور الذي بين بياناً لا لبس فيه بعدم المنافاة بين
تلك الإخوة والإخوة الدينية الإيمانية التي هي أزيد وأرفع شأناً ، وأما قوله : لأن
الله حصر الإخوة في المؤمنين ؛ فمردود بأن حصره إنما كان للإخوة الدينية وليس
لمطلق الأخوة كالإخوة النسبية وغيرها ، على أننا سوف نفصل قضية الحصر هذه قريباً
والمهم هنا أن نبين أنه لا مناقضة؛ لأن الأخوة المحصورة هي الإخوة الدينية وتلك لا
يدخل فيها الكفار ، بينما الأخوة التي تحدث عنها فضيلة الدكتور هي الإخوة
الإنسانية العامة فلم يكن هناك تناقض إذن ، لكون هذا عام ، وذاك خاص لا يعارضه ،
فكيف ، ومن أين يأتي التناقض إذن ؟
وأما قضية الحصر الذي تكلم الناصب عنها فتحتاج منا إلى بيان يرفع وهم ذلك الناصب ،
حيث إنه من الواضح أنه تعاطى قضيةً لا يعرف أبعادها ، وهو شيء قد اعتدناه منه
وألفناه ، والمهم استبانة القارئ الصواب .
(5/68)
فنقول أولاً :
نازع الحنفية في إثبات الحصر بـ " إنما " وكذلك بعض منكري المفهوم ، ومن
مثبتى المفهوم الآمدى حيث وافقهم على كونها للإثبات فقط لا للحصر ، وإن كان
المعتمد عند أكثر الأصوليين ثبوته وعلى ثبوته فإن ما نريد أن نوضحه للقارئ ، هو أن
الحصر بإنما يفيد حصر المبتدأ في الخبر مطلقاً ، وذلك لأن المبتدأ يكون أخص من
الخبر أو مساوياً لا أعم منه ، والخبر يمتنع أن يكون أعم من المبتدأ لغةً وعقلاً ؛
فيمتنع لكون ذلك يفضي إلى الكذب ، والعرب إنما وضعت للصدق ، ولم تضع للكذب ،
والمساوي يجب أن يكون محصوراً في مساويه ، والأخص محصوراً في أعمه ، ولكن إذا كان الخبر
نكرة وقع الحصر في الخبر دون نقيضه وضده ، وعليه فلا يمنع هذا الحصر ثبوت الخلاف ؛
إذ أن المثبت هنا في حال الحصر بإنما والخبر نكرة هو قضية موجبة جزئية مطلقة وهي
إثبات مطلق الخبر للمبتدأ وتلك يكون نقيضها هو قضية سالبة كلية دائمة مما يعني
ضرورة كذب النقيض إذ أن صدق إحداهما يستلزم كذب الأخرى ، وبافتراضنا صدق الموجبة
الجزئية المطلقة ، فإنه يلزم من ذلك الفرض كذب السالبة الكلية الدائمة ، وهو ما
يعني أن هذا الحصر الذي يكون فيه الخبر نكرة لا يمنع ثبوت الخلاف ، وهو ما يخالف
مطلق الخبر المذكور فلا يضاده ولا يناقضه ، وإنما يمنع فقط ما يضاد مطلق الخبر أو
يناقضه .
وأما إذا كان الخبر معرفة فإنه يقع الحصر في الخبر مع وجوب سلب الخلاف في هذه
الحالة فلا يوصف المبتدأ بغير ذلك الخبر ؛ حتى إذا كان في الواقع له صفة غيرها كان
ذلك تخصيصاً لعموم الحصر .
(5/69)
فإذا علم ذلك
فإن قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } ، فيه حصر المؤمنين في أنهم أخوة ، وتلك
الأخوة إنما هي أخوة الدين الجامع بينهم ، وهو كما ذكرنا حصر في خبر نكرة ؛ فيقتضي
تجويز الخلاف بما لا يتناقض ولا يتضاد مع الأخوة كالعداوة ، والبغضاء ، وغيرهما ،
وأما غير المتناقض معها فيجوز ثبوته ومن ثم فلا تنفي الآية سائر معاني الأخوة
كالأخوة في الرضاعة ، والأخوة النسبية ، وكذا ما نحن بصدده من الإخوة الإنسانية
لما بيناه سابقاً من كونها لا تتناقض ولا تتضاد مع الإخوة الدينية التي تشملها
وتزيد عليها .
فإن كان ذلك كذلك فإن الشأن في هذه الآية الكريمة إنما هو قصر المبتدأ الذي هو
المؤمنون على الخبر الذي هو الإخوة ، وحصره فيه لإفادة أن شأن المؤمنين الأخوة لا
التقاطع والتدابر والتباعد ؛ فهي من أجلى الصفات في المؤمنين ، وكما ذكرنا فلكون
الخبر نكرة فإنه لا يستلزم نفي غير صفة الإخوة عن المؤمنين مما لا يتنافى ولا
يتناقض معها كالمودة والتناصر ، والشدة في الحق ، والتعاون على البر وهكذا من سائر
الصفات ومنها الأخوة غير الدينية .
وهذا القصر خلاف ما فهمه " الناصب " حيث أنه جعل القضية عكسية فحصر
الأخوة في المؤمنين ، وأرجو أن يكون قد فهم ما وقع فيه من الشرح الذي بيناه له
ولغيره من القراء الأعزاء .
(5/70)
ثم إن
"الفخر الرازي" وإن كان قد ذكر أن قوله تعالى : { إنما المؤمنون أخوة }
يدل على الحصر بمعنى أنه: " لا أخوة إلا بين المؤمنين" ، وأما بين
المؤمن وكافر فلا ؛ فإنه عنى بذلك الإخوة الدينية فقط ، إذ أنه قال بعد ذلك "
لأن الإسلام هو الجامع " ، ومن ثم افترق المسلم والكافر عن الإخوة في الدين
لافتراق الجامع ، ومن ثم فلو مات مسلم وليس له إلا أخ كافر فإن ماله يكون للمسلمين
دون أخيه الكافر لانقطاع الأخوة بينهما بالكفر من حيث الأحكام ، وهو بهذا المعنى
قد نفى الأخوة بين الكافرين ، لأن الإسلام يصح أن يكون جامعاً بين المسلمين بينما
الكفر لا يصح أن يكون جامعاً بين الكافرين وبيانه أن الكافر لو مات وليس له أخ من
النسب ، فإنه لا يعطي ماله لأهل ملته الكفار بجامع اشتراكهم في الكفر ، لأن الكفر
جامع فاسد ، والإسلام جامع صحيح ، والجامع الفاسد عاجز عن إفادة الأخوة ، تماماً
كالماء الصحيح يثبت منه نسب الولد ، والماء الفاسد لا يثبت منه نسب الولد ، فلو
كان دين الكفر يجمع الكفار لكان مال الكافر للكفار كما كان مال المسلم للمسلمين
،ولكنه كما بينا ليس جامعاً صحيحاً .
فبان بما ذكرناه أن الأخوة المحصورة هي أخوة الدين ، وتلك لا تثبت إلا بين
المسلمين ، حتى الكفار لا تثبت لهم أخوة دينية معتبرة شرعاً .
(5/71)
ونحن قد حررنا
محل النزاع ، وبينا أنه لا نزاع في أن الإخوة الدينية ثابتة بين المسلمين فقط ،
ولكن الإخوة الإنسانية ليست منقطعة بين الناس جميعاً ، وأن الإخوة الإنسانية لا
تثبت حقاً منع منه الشرع أبداً وبما قدمناه يظهر بجلاء خطأ " الناصب " ،
الذي يتسم في كل قضية عرض لها بالسطحية الفجة ، والفهم الهابط ، والتسرع في إطلاق
الأحكام مما ينم عن كونه حديث العهد بالقراءة والتعلم ، ولكنه شديد الركون إلى معلوماته
التي لا تكفي لأحد أن يقول شيئاً يؤخذ عنه في دين الله تعالى ؛ فالسكوت لأمثال هذا
" الناصب " ستر ، ولكن أبى الله أن لا يستره ، فكشف الغطاء عن جهله
بيديه ، وفضح عجزه في كل شيء أملاه بيديه ، نسأل الله السلامة والستر …..آمين .
ولأن الناصب لم ينتبه لكون الأخوة المعقودة للمؤمنين والتي لا يجوز عقدها لغيرهم
هي الأخوة الدينية فقد سعى يستدل بكل ما هو خارج عن الموضوع دون أدنى انتباه
لخروجه عن محل النزاع فيقول :
" يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : " أي الجميع إخوة في الدين "
، وهل النزاع في هذا يا حاسر الفهم ؟ وهل قلنا بغير ذلك ؟ ، وقد سبق أن بينا
للقراء الأعزاء أن الأخوة بين المؤمنين إنما هي أخوة دينية وهي لا تنصرف لغير
المؤمنين .
ثم يقول الناصب : " ومن الأدلة - أيضاً - على أن الكافر لا يقال له (أخ) قوله
تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ، ثم راح
يفسر ذلك أن من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة فليس بأخ لنا في الدين ، وكأن هذا هو
موضوعنا " أن الكفار إخوةٌ لنا في الدين " ؟؟ فراح يثبت لنا أنهم ليسوا
بإخوةٍ لنا في الدين !! ، فنعم الشرح ما شرح !! ، وذكر دليلاً آخر ، وهو قوله
تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فأثبت لهم كما يقول
" الناصب " الأخوة في الدين دون الكافرين ، ونحن لا ندري ماذا نقول له
عن هذه الغفلة المستحكمة منه عن موضوع النزاع .
(5/72)
ثم يسوق نوعاً
آخر من الدلالات ، وهو : أن الأحاديث التي وردت على لسانه - صلى الله عليه وسلم -
، وجاء فيها ذكر الأخ إنما المراد منها الأخ المسلم كما في قوله - صلى الله عليه
وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه : " أنت أخي في دين الله وكتابه " ؛ فهذا
ومثله ليس فيه أدنى معارضة لما ذكرنا أن الأخوة الدينية إنما هي شعار المؤمنين ،
وهي أسمى معاني الأخوة وأثبتها وليس في ذلك أدنى منافاة لأخوة أعم منها تربط بين
الناس جميعاً ، ولا يثبت لها من الأحكام ما يتعارض مع الشرع في شيء
وكأننا قلنا بوجوب حملها على الأخوة العامة ، فإذا بهذا العبقري الفذ يبين لنا
خطأنا أن العلماء حملوها على الأخوة الخاصة ، لا أدري لماذا يُلبس على القارئ هذا
التلبيس ، ولماذا لم يبين موضوع النزاع للقارئ ويجليه حتى يعرف قارئه أي هوى يقع
فيه ، وأي جهل يرتديه .
فيقول عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه
" ، وكذلك " لا يسوم الرجل على سوم أخيه " ، ونحوها أن العلماء
حملوا هذه الأحاديث على المسلمين خاصة ، وقال : " ولم يقل أحد منهم بأن
الكافر يدخل تحت مسمى الأخ الوارد فيها ؛ لأن هذا الأمر قد استقر عندهم استقراراً
ثابتاً " .
ثم يقول : " إنما كان خلافهم : هل يدخل الكافر الذمي في تلكم الأحكام السابقة
أم لا يدخل ؟ "
وهو في هذا الاستدلال أيضاً وقع في عدة أخطاء يمكن أن نبرزها فيما يلي:
(5/73)
تجاهله لكون
الأخوة الخاصة بين المؤمنين هي الغالبة العامة في الألفاظ الشرعية ، وكذلك معها
الأخوة الحقيقية الولادية ، وأن ذلك لا يحتاج إلى تقرير منه أو من غيره ، وكون ذلك
هو الغالب لا ينفي اعتبار غيره مما يصح قصده باللفظ ، وإن لم يقصد على لسان صاحب
الشريعة - صلى الله عليه وسلم - لأنه بعث لبيان الشرعيات ، والأخوة الإنسانية ليست
منها ، ولذا فإنا قد ذكرنا أثناء تحريرنا لمحل النزاع أن استعمال لفظ الأخ في
اصطلاح الفقهاء يراد به أحد ثلاثة أو جميعهم وهم : الأخ النسبي ( الولادي ) ، الأخ
من الرضاع ، الأخ في دين الله تعالى ، والحقيقة اللغوية تقتصر على الولادية ومن ثم
فإن القول بأن دخول الأخ الآدمي فيها ليس مقصوداً في اصطلاح الشرع ، وهذا مما لا
منازعة فيه ، وإنما المنازعة في البناء عليه من جهة ذلك " الناصب " إذ
أنه بني على ذلك حرمة إطلاق لفظ " أخ " على غير الثلاثة ، وهو ما يكون
الدليل المساق قاصراً عنه بل يكون فيه من وجهٍ تأكيد عكس قضيته ، وهو ما سنبينه
فيما بعد .
ووجه قصر الدليل عن بلوغ حقيقة دعوى " الناصب " أنه دليل إثباتي يثبت
إطلاق لفظ الأخ في عرف الشرع على أحد ثلاثة كما ذكرنا ، وهم من تتعلق بهم الأحكام
الشرعية بسبب نوع أخوتهم ؛ فاستخدمه " الناصب " كدليل منعى فمنع به
إطلاق لفظ " أخ " على غير الثلاثة لا عند الفقهاء في الاصطلاح الشرعي ،
وإنما مطلقاً ، وهو ما لا يفي له به هذا أبداً ، وإنما حَدّ ما استدل به لينتهي
عند أنه لا يطلق عند الفقهاء الأخ على غير هذه الثلاثة ، وليس مقتضى هذا حرمة
إطلاق لفظ " الأخ " على غيرهم لثبوت جواز ذلك بأدلة أخرى كثيرة قد أشرنا
إليها سابقاً ، وهي لا تتعارض مع ما قررنا من كون استعمال لفظ " الأخ " المراد
به اصطلاحاً أحد الثلاثة السابق ذكرهم .
ثم يقول : " وإنما كان خلافهم هل يدخل الكافر الذمي في تلكم الأحكام السابقة
أم لا يدخل ؟
(5/74)
وهنا نبين أن
عدم دخول الكافر الذمي لأنه خارج عن اصطلاح الشرع الذي تعلقت به الأحكام ، وهو
الأخوة الولادية ، والرضاعية ، والدينية ، ومن ثم لم يكن داخلاً ، ومع ذلك فهو
مشمول بتلك الأحكام عند الجمهور ، لا من جهة قصده باللفظ ، وإنما من جهة استحقاقه
لنفس تلك الأحكام أيضاً ، وقد مر قبل ذلك مراعاة حقوق الجوار للكافر ، وإن كان حقه
ناقصاً لكفره ، والآن نتكلم عن استحقاقه لما يستحقه المسلم على أخيه من تلك الحقوق
المذكورة بتمامها لا ينقص عنه فيها ، وذلك عند " الجمهور " كما هو معلوم
خلافاً لطائفة من العلماء رأت اختصاص تلك الحقوق بالمسلم دون غيره لورود ما يدل
على قصرها على المسلم عندهم ، من ذلك ما رواه " مسلم " من حديث عقبة بن
عامر ، وفيه : " المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه
" الحديث ، ولذا فقد ذهب " الأوزاعي " ، وغيره " ابن المنذر
" و " ابن جويرية " ، و " الخطابي " من الشافعية إلى
اختصاص هذه الأحكام بالمسلم لقطع الأخوة بين الكافر والمسلم ، وهو قول "
الخطابي " أو كما قال " ابن المنذر " : " الأصل في هذا
الإباحة حتى يرد المنع ، وقد ورد المنع مقيداً بالمسلم ؛ فبقى ما عدا ذلك على أصل
الإباحة " ، وهذا هو المعتمد عند الحنابلة ، خلافاً للشافعية في المعتمد
عندهم ، وكذا " المالكية" ، " والحنفية " في أن هذه الأحكام
يلحق فيها الذمي المسلم ، وإن لم تكن بينهم إخوة دينية ، حتى كان
"الذمي" عند "المالكية" تحترم خطبته فلا يخطب على خطبته ،
بينما الفاسق لا تحترم خطبته ، " والفرق أنه لا يقر على فسقه بخلاف الذمي
" ، وإن كان داخلاً تحت مسمى " أخ " إلا أن الذمي كان أولى منه
بالاحترام .
(5/75)
فعلى قول
الجمهور بإدخال الكافر الذمي تحت هذه الأحكام ومشاركته فيها للمسلم سواءً ، مما
يدل على أن هذا الدين العظيم يساوي بين الناس في نظره مع اختلاف عقائدهم في حقوقهم
العادية ، وهو أمر ظاهر في الشرع حيث يسوى في كثير من أحكامه وأقضيته بين المسلم
والذمي ، ويجعل يمين الذمي كيمين المسلم في الاستحقاق بسببها عند عدم البينة ، فلا
يختلفان إلا فيما يرجع للعدالة ، ويكون يمين أفسق ذمي يستحق بها مال أصدق تقي من
هذه الأمة حيث لا بينة للنفي فلا يأكل بتقواه ما ادعاه الفاسق لنفسه من الأموال
التي يشهد له بها الظاهر من حوزٍ ونحوه.
كل هذا يحقق أصل المساواة و المشابهة بين المسلم والذمي ويؤكده ولا ينفيه ، وهو
كما أشرنا من قبل عكس القضية التي أراد " الناصب " إثباتها ، ومن ثم
نقول : هذا التكافؤ في الأحكام يؤكد معنى المشابهة بين الطرفين ، وهذه غير حاصلة
إلا في الآدمية التي أثبتنا بها صحة إطلاق لفظ الأخوة بسبب الاشتراك فيها ، وذلك
من قبيل المجاز المرسل كما بينا ذلك من قبل عند كلامنا على الأخوة النسبية ؛ إذ
أنها هي الأخرى مجازية ؛ باعتبار أن الحقيقة للولادية لغةً .
ثم عاود " الناصب " هوايته في إلقاء الترهات ، والنكات السخيفة على أنها
حجج علمية مفحمة لخصمه فقال : " وأما تقسيم القرضاوي " الأخوة "
إلى : أخوة دينية ، وأخوة إنسانية ؛ فهو تقسيم مخترع لم يقل به مسلم يعقل دينه ،
وهذا التقسيم المبتدع لم نسمع به إلا من دعاة التقريب مع اليهود والنصارى ممن
يدعون إلى هذا المذهب الباطل ، وهو مذهب الإنسانية أو وحدة الأديان " .
وهذا الكلام الذي نقلناه عنه بنصه يمتلئ قبحاً وباطلاً وافتراءً وبيان ما ذكرناه
فيما يلي :
قوله عن تقسيم القرضاوي " الأخوة " إلى " دينية ،وإنسانية "
إنه تقسيم مخترع .
(5/76)
فإننا نجيب عن
ذلك بأنه هو كذلك انتقاد مخترع لم ينتقده قبله أحد ، ولا أعتقد قبل قراءتي هذا
الانتقاد أنه يمكن أن يوجهه أحد ، ولكن صار كل ما لا يأتي به أحد ليس غريباً أن
يأتي به " الناصب " المسكين .
ووجه كون هذا الانتقاد مخترعاً أن القسمة لا تنتقد من حيث الحداثة والاختراع ؛ إذ
لا يعيبها ذلك ، وإنما يعيبها القصور في عدم تناولها أفرادها الداخلة تحتها
الموفية بوجه التقسيم ، أو بعدم كونها حاصرة ، أو تامة ، أو باندراج أفرادها تحت
عدة أقسام في آن واحد ، فهذا ما يعاب التقسيم لأجله ، وقد سبق لنا أن ذكرناه .
أما أن يحدث أحد قسمة صحيحة ولا يجرى من قبله على اعتبارها ؛ فهذا أمر لا يعيب القسمة
في شيء ، إذ أن القسمة قد يكون الداعي إليها الحاجة إلى اعتبار جهة ما في التقسيم
لم تكن معتبرة من قبل ، أو لم تكن لها حاجة من قبل ، كما في قسمة الكلمة إلى : اسم
، وفعل ، وحرف ، وقسمة الحديث إلى صحيح ، وحسن ، وضعيف ، وغيرهما من التقسيمات
التي امتلأت بها كتب العلم ، وكلها بالنسبة إلى ما قبل استخراجها وإثباتها تعد
جديدة مخترعة لكنها من حيث مورد القسمة وشروطها صحيحة ، فاعتبرت ، وكذا الشأن في
أي تقسيم ، أنه ينظر إليه من حيث صحته أو عدم صحته ، فلا يمنع عن النظر فيه لأجل
أنه مخترع ؛ فذلك فهم غاية في القصور والضعف .
(5/77)
ثم إن فضيلة
الدكتور " القرضاوى " حين أضاف إلى القسمة الثلاثية التي تكلم بها
الفقهاء والعلماء - الأخوة الإنسانية التي لم يتكلم عنها العلماء باعتبار أنها لا
تتعلق بها أحكام كالاستعمالات الأخرى للفظة الأخوة ، فهو لم يقسم الأخوة بذلك إلى
: دينية ، وإنسانية ، وإنما زاد الأخوة الإنسانية على سائر استعمالات الفقهاء
تحديثاً للخطاب الإسلامي في مجال الدعوة ومخاطبة الناس جميعاً برسالة سامية تنظر
إلى الإنسان باحترام إنسانيته وحقوقها ، لا دعوة عنصرية تضيع حقوق الخلق بقولها :
" ليس علينا في الأميين سبيل " ، ومن ثم فإن فضيلة الإمام العلامة -
حفظه الله وجعله ذخراً للمسلمين - نظر لضرورة توسعة المعنى من حيث الاستعمال في
مجال الدعوة إلى الله تعالى أسوة في ذلك بالأنبياء إذ خاطبوا قومهم بتلك اللفظة ؛
فاستحضروا اشتراكهم معه في جنس البشرية ، ومن ثم كانت هذه التوسعة في المعنى لما
ذكرناه ، وهو متجه بكل المقاييس ؛ إذ أن اللغة تقره ، وقد بينا من كلام أهل اللسان
ما يدل على ذلك ، والشرع المطهر لا يمنعه ، وإنما يوجهه ويؤكده ، وقد قدمنا أيضاً
ما يدل على ذلك من أقوال الأئمة
وأما قول " الناصب " :" لم يقل به مسلم يعقل دينه " ؛ فهذا
تطاول منه وقيح منتن تقوله على فضيلة "الدكتور" العلامة الذي يشهد له
الأعداء والأصدقاء على حد سواء برجحان عقله ، وسمو تفكيره ، وبعد نظره ، وسعة
اطلاعه ، وقد بينا الوجوه التي يجهلها هذا المسكين ، والجهالة لا تبلغ به أن ينحدر
إلى هذا الحد من التطاول ، ولكن الحقد يعمي أهله فلا يرون موطأ قدمهم فيزلون من
الزلات ما لا يمكن مداراته ولا التغاضي عنه .
وأما قوله : " وهذا التقسيم المبتدع " فقد قدمنا أنه لا ضرر في بدع
التقسيم ؛ إذ أنه ينظر إليه من حيث صحته أو فساده ، لا من حيث جدته وقدمه ؛ فإذا
أراد بوصفه بالابتداع إبطاله فهو الذي يعد كلامه باطلاً وافتراءً .
(5/78)
وأما قوله :
" إن هذا التقسيم " لم نسمع به إلا من دعاة التقريب مع اليهود والنصارى
ممن يدعون إلى هذا المذهب الباطل " ، فقد قدمنا أن فضيلة الدكتور لم يقسم
الأخوة إلى قسمين ، وإنما زاد قسماً أهمله الفقهاء لعدم الداعي إليه من حيث تحرير
الأحكام الفقهية ، فكانت زيادته باعتبار وجوده في لسان الدعوة إلى الله عز وجل ،
ولا يضر ذكره عند أهل باطل أن يكون هو في ذاته باطلاً أو مدعاة لباطل ، ولكن ما
حيلتنا أمام هذا الفهم السقيم سوى أن نشرح ونبين مالا يفتقر في أصله إلى بيان .
ثم يلخص بعد هذا الفاصل الهزلى " الناصب " أطروحته التي عارض بها رأى
فضيلة الدكتور ، ونعته بسببها بأوصاف غير لائقة كقوله : ظلم نفسه ، وغير ذلك ،
فيقول في خلاصته التي هي غير خالصة له بأي حال .
" والخلاصة : أنه لا يجوز للمسلم أن يطلق المسلم على الكافر ( أخي ) ؛ لأنه
لا أخوة بينهما في الدين " فكان المفترض من السياق الذي ساقه أنه لا يجوز
للمسلم أن يقول عن الكافر هو أخي في دين الله ، لانتفاء الأخوة الدينية بينهما ،
ولكنه بدلاً من ذلك أطلق نفي الأخوة لعدم تحقق الأخوة الدينية .
ولذا فإننا نقول في المقابل :
الخلاصة : أن الأخوة في الدين هي أعظم معاني الأخوة ، وهي لا تتنافى مع ما دونها
من أخوة الآدمية ، التي لها من الاعتبارات ما لا يتنافى مع ما يقرره الشرع ، ولا
بأس بهذه التسمية في هذا المعنى خصوصاً في مجال الدعوة إلى الله تعالى ، وفي ذلك
يقول المولى جل وعلا : { ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر } ، وكان
من مقتضيات هذا التكريم عدد من الأحكام الشرعية المراعية للحقوق الآدمية .
(5/79)
ثم إن "
الناصب " أراد الاستعانة على فهمه القاصر بذكر رأى عالمين جليلين ، عسى أن
ينصلح برأيهما عوار كلامه فأما أولهما فهو فضيلة العلامة " ابن باز "
رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له العطاء على ما قدم لأمته من خير ، فيقول " ابن
باز " رحمه الله : " الكافر ليس أخاً للمسلم ، والله يقول : " إنما
المؤمنون أخوة " ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم أخو المسلم
" فليس الكافر - يهودياً أو نصرانياً ، أو وثنياً ، أو مجوسياً أو شيوعياً أو
غيرهم -ليس أخاً للمسلم "
ويجاب عن ذلك بما يلي :
فتوى العلامة - ابن باز - رحمه الله ، والتي اشتملت على نفي الأخوة لم تحدد جنس
المنفى ، وذلك قد يحمل على الأخوة الدينية المنفية كما هو معلوم ، ومن ثم فإيرادها
بهذه الصورة لا يفيد في المعارضة بها .
أننا لو قدرنا أنه يقصد نفي مطلق الإخوة ؛ فإن ما ذكره من دلالات لا يفي بهذا
الغرض ، وقد سبق بيان الرد على من احتج بقوله تعالى { إنما المؤمنون أخوة } بأنه
على تقدير إفادته الحصر ؛ فهو حصر للأخوة الدينية إن قلنا : إن معناه " لا
أخوة إلا بين المؤمنين " كما مضى ذلك من كلام " الرازي " ، وبينا
كيف أنه أراد بذلك مجرد نفي الأخوة الدينية ، وأما ما سبق أن ذكرناه في بيان أن
الحصر المذكور في هذه الآية إنما هو حصر للمؤمنين في الأخوة ؛ بأنها هي أجلى
المعاني في حقهم ، فقد بينا أن ذلك لا يفيد القضية المذكورة ، كما أنه لا يوجب ففي
الأخوة الإنسانية.
(5/80)
وأما استدلاله
بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم أخو المسلم " ؛ فذلك إن قيل
فيه بإفادة الحصر أيضاً ، فإنه محمول على الأخوة الدينية ، التي هي غالبة في عرف
صاحب الشريعة ، وحينئذٍ يكون المنفي بين المسلم وغيره هذه الأخوة وأما غيرها فما
كان ثابتاً بالواقع فهو لا ينفي كما تقرر من قبل في حال كلامنا عن حصر المبتدأ في
الخبر إن كان الخبر معرفةً ، ويكون ذلك تخصيصاً لعموم الحصر على القول بأن عمومه
مستفاد من قبل المفهوم ، ولما كانت الأخوة الآدمية ثابتة بواقع الحال كانت كذلك من
المستثنى من ذلك العموم
أنه لا يصح تخطئة عالم من جهة أن عالماً آخر خالفه في الرأى والحجة ؛ فهذا احتجاج
بعالم على آخر ، وكل واحد منهما غني بعلمه وبنظره عن أن يسعى إلى متابعة غيره ،
وقد قدمنا حجة فضيلة " الدكتور " حفظه الله وبينا مدى وجاهة هذه الحجة
من حيث قواعد وأصول الشرع الحنيف وموافقة الأدلة السمعية له .
ومن ثم فإنه إن يكن رأى العلامة " ابن باز " رحمه الله أنه ينفي الأخوة
مطلقاً بين بني البشر ؛ فذلك رأيه ، وهو ليس ملزماً إلا لمن أخذ به واتبعه عليه ،
لا لمن خالفه فيه ورأى غيره .
وأما العالم الآخر الذي استند عليه " الناصب " لكي يتخذ منه جُنة ووقاية
تمنع بيان خطئه ، وتحصن ما ظهر من جهله ، فكان ما نقله عن فضيلة العلامة "
ابن عثيمين " - رحمه الله- " حيث قال :
" أما قول " يا أخي " لغير المسلم ؛ فهذا حرام ، ولا يجوز ، إلا أن
يكون أخاً له من النسب أو الرضاع ، وذلك لأنه إذا انتفت أخوة النسب والرضاع لم يبق
إلا أخوة الدين ، والكافر ليس أخاً للمؤمن في دينه "
(5/81)
وهذا الكلام
من فضيلته فيه ما سبق أن ذكرناه عن كلام فضيلة الشيخ " ابن باز " رحمه
الله من حيث أنه لا يؤتى بكلام عالم معارضة لغيره على جهة الإلزام ، وإنما غاية ما
فعله " الناصب " أن ذكر مخالفة عالمين لفضيلة " الدكتور "
فيما قرره ، وذلك لا يضره في شيء ،ولا يقدح في النتيجة التي توصل إليها .
ولكن يلاحظ على كلام فضيلة العلامة " ابن عثيمين " ما يلي :
أنه بدأ بتحرير حكم المسألة فقال : " فهذا حرام لا يجوز " على جهة القطع
الحاسم لمادة الخلاف ومع ذلك لم يعزز قوله فيها بنقل عن السلف أو العلماء الأجلاء
الموثوق باستدلالهم من المعدودين في المجتهدين أو المحققين ممن سبق ، بينما كانت
أقوال فضيلة " الدكتور " مدعومة بذكر آراء السلف السابقين والمجتهدين
ممن أجاز إطلاق لفظ الأخوة لغير المعاني الثلاثة التي ذكرها فضيلة العلامة "
ابن عثيمين " .
أن فضيلته بنى حكمه المذكور على أن الأخوة لا تطلق إلا على ثلاثة أنواع ، وهي أخوة
النسب ، والرضاع ، والدين فظنه تقسيماً حاصراً ، فبني على ذلك انتفاء صحة إطلاق
لفظ الأخ على غير ذلك ، بينما التقسيم ليس حاصراً ؛ لأنه يقتصر على من تجري عليهم
الأحكام الشرعية ، وذلك باعتبار الأخ النَسبي هو أخ الولادة ، وأما باعتبار أخ
النسب : ما يشترك معه في أب أعلى ؛ فذلك يكون داخلاً فيه الأخ الآدمي للاشتراك في
آدم عليه السلام ، ومن ثم فلا ينتج بالحصر عليه لشموله لهُ ؛ إذ أنه في هذه الحال
داخل تحت الأخوة النسبية العليا كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم
لآدم وآدم من تراب " ، خاصة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب بذلك عن
الأنساب.
(5/82)
أنه بفرض صحة
كلام العلامة " ابن عثيمين " فإن القضية الناتجة هي عدم صحة إطلاق لفظ
الأخ من المسلم على غير المسلم لعدم صحة المشاركة في مقتضى اللفظ ، وذلك لا يستوجب
الحرمة التي نص عليها في حكمه فتلك تتوقف على أدلة غير مذكورة مع هذا الحكم الذي
أثبته.
ونحن لهذا كله ولما بيناه من كلام فضيلة العلامة الدكتور " يوسف القرضاوي
" نجد أن ما قاله فضيلته هو الأقرب لموافقة ظاهر الكتاب العزيز ، والأليق
بهدى السنة النبوية ، والأفضل في مجال الدعوة الإسلامية ، وهو مقبول عند العلماء ،
منطوق به على لسان الأجلاء ، فلا ينبغي انتقاده في قولٍ هذه صفاته ، ومن انتقده في
هذا ظهر من انتقاده آفاته .
ثم بعد ذلك سعى " الناصب " على قلة حيلته في الجواب عما احتج به
القرضاوي ، وزعم أنه يرتكز على شبهتين وكنا قد فصلنا حجج فضيلة العلامة "
الدكتور " من قبل ، ولكن هيا انظروا بما أجاب " الناصب " المسكين .
حيث زعم أن الشبهة الأولى التي احتج بها " الدكتور " هي : " أن
الله قد أخبر عن بعض الأنبياء بأنهم إخوة لأقوامهم " ثم سعى في الجواب عنها
فهرطق قائلاً : والجواب عن الشبهة الأولى :
" هو أن الله قد أخبر بأنه قد بعث هؤلاء الأنبياء إلى أقوامهم ، وأن بينهم
نسباً فليسوا هم غرباء عنهم ، وإنما ذوو قرابة ، وكما قلت سابقاً لا حرج في أن
يسمى المسلم الكافر ( أخاً ) إذا كان نسبياً له – كما سبق - ، وهؤلاء الأنبياء
المذكورون ذوو نسب مع قومهم ؛ فبينهم أخوة نسب لا أخوة دين "
والجواب عما أورده ، نذكر القراء به فنقول :
أنه إذا كانت الأنبياء تبعث في نسب قومها ، فإن إطلاق لفظ الأخوة في ذلك لا يكون
حقيقياً كما ذكرنا من قبل ، وإنما يكون مجازاً مرسلاً لاستعماله في مطلق القريب ،
وقد ذكرنا من توسع في هذا لكل من كان من غير أخوة الولادة ؛ فلكونه ينتسب مثلهم
لأبيهم " آدم " عليه السلام ، وهو ما قال عنه في " اللسان " :
" وهو أحج " .
(5/83)
أن الأخوة جاز
أن تطلق في غير ما ذكر من قبيل المجاز كما هو معلوم فتطلق على الصاحب ، وتطلق على
المشاكل والشبيه ، والمجتمع مع غيره في أصل أو شيء ، ومن ثم جاز أن تطلق على
الكافر من هذا الباب ، وخاصة في مجال الدعوة ، وذلك متسامح فيه لغة ، وغير ممنوع
شرعاً كما بينا .
قوله : فبينهم أخوة نسب لا أخوة دين ، قد بينا من قبل أن الأخوة المقصودة ليست
أخوة دين إجماعاً ، بينما في الأخوة النسبية خلاف في بعضهم مثل " هود "
عليه السلام ؛ إذ قيل فيه إنه ليس من عادٍ ، وقد اختاره " أبو حيان " ،
فهو قد جوز إذن إطلاق الأخ عليه مع كونه ليس من القوم إضافة لمن ذكرنا عنهم ذلك مع
أننا لم نظفر كذلك بنص عن أحدهم يمنع ذلك الإطلاق إن لم يكن الأمر على هذه الصفة .
أنا لو سلمنا أن قد سموا إخوة حتى يكون ذلك أدعى لاستجابتهم من بني قومهم إذا
دعوهم لعبادة الله فإن ذلك يدعوا لمناداة البشرية بهذه الدعوة الجامعة على أنهم
إخوة ، وذلك لعموم هذه الدعوة ، وخصوص غيرها وفي ذلك يقول العلامة " رشيد رضا
" : " وحكمه كون رسول القوم منهم : أن يفهمهم ويفهم منهم ، حتى إذا ما
استعد البشر للجامعة العامة ، أرسل الله خاتم رسله إليهم كافة ؛ فعلم من ذلك أنه
لعموم هذه الدعوة ؛ فإن الداعية بها يخاطب البشرية كلها وليس قومه فقط كما في
دعوات الرسل السابقين ؛ فله أن يخاطبهم في ذلك بما يخاطب الرجل به قومه .
أن النسب لا يقف عند القبيلة ، وإنما يتعداها إلى أصولها ، وهكذا ؛ فيصح قياساً
عليها ، تسمية من لا يشترك معه في قبيلته أخاً ؛ لاشتراكه معه حتماً في أصلٍ أعلى
، وذلك صحيح لغةً ، ولم يرد المنع منه شرعاً .
وأما قول " الناصب " :" قال الألوسي " " معنى كونه عليه
السلام أخاهم ، أنه منهم نسباً ، وهو قول الكثير من النسابين " وقد بينا ما
اختاره " أبو حيان " من أنه ليس منهم ، وإذا كان قول كثير من النسابين
أنه منهم أي – هود – فليس ذلك بقول أكثرهم .
(5/84)
ثم إننا قد
أجبنا عن الأخوة النسبية الغير الولادية بأنها أخوة مجازية ، شأنها شأن سائر معاني
الأخوة المجازية ، ثم أجاب الناصب عن الحجة الثانية لفضيلة الدكتور " يوسف
القرضاوي " – حفظه الله تعالى – قائلاً :
" أما الجواب عن استشهاده بالحديث السابق ؛ فهو أن هذا الحديث ضعيف :"
فقد أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة ، وابن السنى في
عمل اليوم والليلة " .
وفي سنده عندهم ( داود بن راشد الطفاوى ) قال فيه " ابن معين " : ليس
بشيء ، وقال الحافظ : لين الحديث " وقد سبق أن ذكرنا نحن أيضاً تخريج الحديث
فأضفنا إلى " الناصب " رواية " النسائي " في الكبرى ، و
" الطبراني " في " المعجم الكبير " و " أبي يعلى "
في " المسند " ، و " البيهقي " في " الدعوات " .
وإضافة إلى ما ذكره " الناصب " عن " داود بن راشد الطفاوى "
فإنه قال : " وراويه عن زيد بن أرقم هو ( أبو مسلم البجلي ) لم يوثقه غير
" ابن حبان " ، والحديث ضعفه الشيخ الألباني – رحمه الله - في ضعيف أبي
داود "
وجوابنا عما ذكره " الناصب " سيتلخص في أمرين :
( أولهما ) : تضعيفه لكل من " داود بن راشد الطفاوي " ، و " أبى
مسلم البجلى "
فأما " داود بن راشد الطفاوي " فقد ضعفه " الناصب " من قبل
قول " ابن معين " فيه : ليس بشيء ، وقول الحافظ عنه : " لين الحديث
" ، واقتصر على ذلك ، وهو ما يبين فقره الشديد في علم الحديث ، والعجيب أنه
مع فقره ذلك يتكلم كما لو كان محدثاً أصيلاً فيقول : إذاً الحديث ضعيف !! بهذه
البساطة الشديدة ، وبهذا الاطلاع المتواضع جداً على طرق انتقاد الرجال ، وألفاظ
التجريح عند المحدثين ، والذي سنكشف الآن عما به من قلة اطلاع وبحث .
فأما قول " ابن معين " : ليس بشيء ؛
(5/85)
فالذي يعرفه
المهتمون بدراسة ألفاظ النقاد من علماء الجرح والتعديل عن قولة " ابن معين
" : ليس بشيء يدور بين أن يكون الراوي ضعيفاً في روايته غير معتد به ، وقد
يكثر هذا منه ، إلا أنه قد يكون مراده به قلة أحاديثه ، حتى عمم " السخاوي
" في " فتح المغيث " هذا الحكم عن " ابن معين " فجعله
مراده منه ونقله عن " ابن القطان الفاسي " ، وتابعة على ذلك "
اللكنوى " في " الرفع والتكميل " و " التهانوى " في
" قواعد علوم الحديث " ، ولكن رد ذلك الحافظ " ابن حجر " ؛ أي
: رد التعميم وذلك عند كلامه على " عبد العزيز بن المختار " وهو "
بصرى " ، من رجال البخارى ، وقد قال عنه " ابن معين " :" ليس
بشيءٍ " في رواية ابن أبى خيثمة ، بينما في رواية ابن الجنيد وغيره وثقه ،
وقال عنه " الحافظ ": احتج به الجماعة ، وذكر عن " ابن القطان
الفاسي " : أن مراد ابن معين بقوله في بعض الروايات : ليس بشيء ؛ يعني : أن
أحاديثه قليلة جداً ، فهذا هو قول " ابن القطان " ولم يعمم فيه ذلك
الحكم عن " ابن معين " في قوله : " ليس بشيء " حيث قال :
" في بعض الروايات " مثلما ظن السخاوي .
وقد قال " التهانوى " عن قول ابن معين في رجل :" إنه ليس بشيء
" ، ليس معناه أنه مجروح بجرح قوى ، ولعل " الناصب " لم يطالع كتاب
" البخاري " وإلا لاستوقفه عدة أحاديث انتقد " ابن معين "
رجالها بقوله :" ليس بشيء " ، وهم من رجال البخاري ولو فعل لتراجع عن
هذه الجسارة منه بالحكم على حديث بالضعف ليس لأكثر مما ذكره ، ولم ينظر في طبيعة
هذا الجرح خاصة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى في تفسير الآخرين له ، وإضافة إلى
ذلك لم ينظر في قول من عدله ، وهو بالتأكيد لم يذكره بفرض أنه نظر فيه ، فابحث
حينئذ عن العلة في كتمه من عدله
(5/86)
فالحاصل إذن
من تصرف " الناصب " استرخاؤه في البحث إلى حد الكساح ، واستمراؤه الحكم
بلا جهد وكفاح ، وينضاف إلى ذلك طيه ما لا يناسبه عرضه ، وسياقه الكلام كما لو كان
هناك اتفاق تام ، وما الأمر إلا قصور في قصور من فوقه قصور ومن تحته قصور ، ومع
هذا كله فالناصب يصول كالأسد الجسور غير آبهٍ بما يجور .
والناظر في شأن " داود بن راشد الطفاوي " يجد أن كلا من " ابن أبي
حاتم " و " البخاري " سكتا عنه ، وعد الحافظ " ابن حجر "
سكوتهما توثيقاً للمسكوت عنه في غير موضع ، ونقل ذلك عنه " التهانوى "
وأقره ، وقد سبقه إلى ذلك المجد " ابن تيمية " حيث قال في " عكرمة
بن إبراهيم " : فإن " البخاري " ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ،
وعادته ذكر الجرح والمجروحين " وهو توثيق ضمني .
ومما يقوى شأنه كذلك سكوت " أبي داود " عنه ، وفي ذلك ما يدل على مقاربة
حاله ؛ لأن سكوت " أبي داود " مشعر بصلاحية الحديث للاحتجاج به ؛ فكذا
بصلاحية رجاله كما قال " التهانوى " .
ومما يقوى شأنه كذلك أن " ابن حبان " قد وثقه في " الثقات " ،
وذلك لأن توثيق ابن حبان ليس متساهلاً ، وإنما فقط خف شرطه في التوثيق على ما هو
معلوم ، ولذا قال عنه الحافظ " السيوطي " .
ما ساهل البستى في كتابه
(5/87)
**
(5/88)
*** بل شرطه
خف وقد وفى به
حتى ذهب " اللكنوى " في " الرفع والتكميل " ، إلى أن نسبة
" ابن حبان " إلى التساهل قول ضعيف ، وتابعه على ذلك " التهانوى
" ، وإن كان قد وصفه " ابن حجر " بأنه مذهب عجيب وضعه " ابن
حبان " وتابع فيه شيخه " ابن خزيمة " .
وقد قدمنا عن " ابن حجر " قوله في " عبدالعزيز بن المختار "
أنه ثقة ، احتج به الجماعة ، وقد ذكر " ابن حبان " في الثقات عنه :
يخطىء ، وهو هنا لم يذكر شيئاً من ذلك عن " داود " ، مما يل على أنه
عنده أفضل حالاً من ذلك الذي وثقه الجماعة .
وأما قول الحافظ عنه " لين الحديث " فقد استدل بها " الناصب "
على تضعيف حديثه ورده ، وليس الأمر كما ظن ، ولو كلف نفسه عناء بحثٍ لكان وفر على
نفسه هوان الزلل ، وذلك أنه وإن كانت لفظة " لين الحديث" عند أهل النقد
تفيد ضعفاً يسيراً لا يسقط الحديث ، وإنما يحتاج فيها معه لجابرٍ ، إلا أن "
ابن حجر " في كتابه " التقريب " الذي أخذ " الناصب " منه
قولته فنقلها ولم يعيها ، بل وفهمها خطأً على أنها تذهب بالراوي " داود بن
راشد " أو لا تجعله مقبول الحديث إذا تفرد كما هو الحال في الحديث المذكور
:" أن العباد كلهم إخوة " ، وليس الأمر كما فهم ، فلين الحديث عنده في
كتابه هذا يرمز به لمرتبة تفرد راو معين من مرتبة معينة بحديث ما ، وهذه المرتبة
كشف عن حال راويها أنه بين الثقة والضعف ، وهو ما وصفه بـ" لين الحديث "
، وجعله في " المرتبة السادسة " مع " المقبول " ، مما يعني
أنه من مراتب الحسن الذاتي ؛ لأنه جعل السابعة رواية المستورين ، وهم من يقبل
تفردهم ، فعلم بذلك ارتفاع حالهم عن حال المستورين ، وهم رواة الحسن عند "
الترمذي " إذا توبعوا ، وهو ما يعني أن حديث هؤلاء من الحسن لذاته وهذه أمثلة
كثيرة أوردها " الحافظ " في التقريب تشهد لما ذكرناه ، منها :
(5/89)
عامر بن شقيق
الأسدي ، قال عنه ابن حجر " لين الحديث " ، وقد تفرد بزيادة "
تخليل اللحية " في حديث " عثمان في " صفة وضوء النبي - صلى الله
عليه وسلم - " ، فعده تلميذه " السخاوى " مثالاً للحسن الذاتي ،
ولم يتردد أصحاب الصحاح كابن خزيمة " وابن حبان و " الحاكم " و
" الضياء " في التخريج له ، بل سأل " الترمذي " "
البخاري " عن حديث عامر هذا فقال :" هو حسن "، وقال في "
التلخيص " : قال " البخاري " : حديثه حسن ، وقال في نكته على
" ابن الصلاح " ذكر عن " أحمد " فيما حكاه عنه " أبو
داود " في حديث " عثمان " هذا أنه :" أحسن شيء في هذا الباب
"، ولم ينتقده .
وكذا الوليد بن الزوران ، وقد قال عنه الحافظ " ابن حجر " إنه "
لين الحديث " في " تقريبه " ، ثم قال عن حديث له أخرجه " أبو
داود " ، وهو كذلك عن " عثمان " في تخليل اللحية ، فقال : وإسناده
حسن ، وقد قال عن " الوليد " في " التقريب " كما علمت : لين
الحديث .
وكذلك أيضاً " وقاء بن إياس الأسدى " ، وفيه أيضا قال " الحافظ
" :" لين الحديث " ثم ذكر له حديثاً في " قصر الصلاة "
أورده من طريق " الثوري " ، ثم قال عقب ذكره في " تغليق التعليق
:" هكذا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن " الثوري " به وإسناده صحيح
" ، وقد علقه " البخاري " في صحيحه بصيغة الجزم ، ولعل تصحيح
" ابن حجر " له لوجود شواهد له فرفعته عن مجرد الحسن .
(5/90)
وكذلك
عبدالرحمن بن حبيب بن أردك المدني ، قال عنه في " التقريب ":" لين
الحديث " ، وقال عن حديثه :" ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد " وقد حسنه
" الترمذي " وصححه " الحاكم " وأقره صاحب الإلمام " ،
قال عنه في " التلخيص " :" مختلف فيه " قال " النسائي
":" منكر الحديث "، ووثقه غيره ؛ فهو على هذا حسن ، فانظر كيف حسن
حديثه من غير متابعة ، وقد قال عنه :" لين " وكذلك عبدالعزيز بن جريح ،
قال عنه :" لين " ، وحكم على حديث له بالصحة في " التلخيص الحبير
" ، حتى وجد فيمن قال عنهم " ابن حجر ": " لين الحديث "
من روى عنه " مسلم " في " صحيحه " كعبد الله بن أبي صالح
السمان ، وقد روى له مسلم في كتاب " الأيمان " حديثاً واحداً محتجاً به
عن أبيه عن أبي هريرة قال " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"
يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك " وفي رواية أخرى له أيضاً :" اليمين على
نية المستحلف " ، وليس له في صحيح مسلم سوى هذا الحديث بهذين اللفظيين .
وكذا " الوليد بن أبي الوليد "، قال عنه أيضاً " ابن حجر ":
" لين الحديث " وقد روى عنه " مسلم " أيضاً ، وقد وثقه "
أبو زرعة الرازي " ، وابن حبان في " الثقات " ، وقد أثنى عليه
" أبو داود "
وكذا غيرهما كمصعب بن شيبة حيث قال عنه :" لين الحديث " ، وروى له
" مسلم "
ومن ثم فإن صنيع " ابن حجر " الذي ذكرناه فيمن سماهم بأهل " الطبقة
السادسة " لا يشهد لهم بالتوقف حتى تعضد مروياتهم بمتابعة كما فهم ذلك العلامة
" الشيخ احمد شاكر " ، وذلك لأن هذا الشأن إنما هو شأن " الطبقة
السابعة " وهم " المستورون " ، وهم أهل الحسن لغيره عند "
الترمذي " كما تقدم ، ومن ثم فإن من يرتفع شأنه عنهم يدخل في مراتب الحسن
لذاته ، وإن كان في أدناها ؛ إذ الحسن مراتب كالصحيح ، وأدناها هو ذاك المرتفع عن
شأن المستور الذي لم يثبت فيه ما يترك لأجله وهو مقل في الرواية .
(5/91)
وهذا الذي
فهمه العلامة " الشيخ أحمد شاكر " تابعه عليه غيره ، من دون نظر إلى أن
الشيخ " أحمد شاكر " نفسه يستشهد بما دون ذلك كحديث أهل الستر من أهل
الطبقة السابعة ، وضعفاء الثامنة ، بل حتى مجهولي التاسعة .
وقد دفع هذا الفهم بعض المعاصرين إلى اتهام " ابن حجر " بعدم ضبط مقصده
من اللفظ المذكور ، واضطرابه فيه لكونهم فهموا من كلامه دخول أهل " المرتبة
السادسة " في قسم المردود لا المقبول ، وهذه " المرتبة السادسة كانت
اصطلاحاً خاصاً منه في كتابه " التقريب " غير مذكورة في اصطلاح سابقيه
ولا من أتى بعده ، و ذلك بدءاً من " ابن أبي حاتم " ، و انتهاء بـ"
السخاوي " ثم " السندى "، أي في ما أراده بالاصطلاح وليس باللفظ .
وظاهر كلام " ابن حجر " قد لا يدل على ما قاله العلامة " الشيخ
أحمد شاكر " ؛ إذ أنه قال في أهل " الطبقة السادسة ": " من
ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله ، ويشار إليه
بـ:" مقبول حيث يتابع ، وإلا فلين الحديث " .
(5/92)
خاصة وأنه
جعله بعد " المرتبة الخامسة " ، وهي تشمل " الصدوق السيئ الحفظ
"، و " صدوق يهم " و نحو هذا ، ولكن صنيعه – رحمه الله - ، وكذا
جعله " المرتبة السابعة " هي " المستورين " وهي تناظر عند
" الترمذي " من يعتبر حديثه ويكون بالمعاضدة حسناً لغيره ، وما وقع من
انتقاد له في أهل هذه الطبقة انه يصفهم بذلك ويحكم على أحاديثهم من غير متابعة بالحسن
، ويقبل أحاديثهم أصحاب الصحاح حتى مسلماً ، كل ذلك يشهد أن مراد " ابن حجر
" من هذا المصطلح ، وما ذكره في أهل هذه الطبقة إنما يعني به تفرد المقبول
الحديث برواية فيوصف لذلك باللين ولا تكون الرواية عنده مردودة بل مقبولة ، وكما
قدمنا تكون هي من " أدنى الحسن لذاته " ما لم تعضد فتصير كما مر معنا في
الأمثلة السابقة من الصحيح لغيره وذلك اصطلاح خاص له في هذا الكتاب ، ولا يجري هذا
في اصطلاح سائر النقاد ، الذي يقع عندهم هذا الاصطلاح علامة على الجرح ، والرد ،
ولكن يكتب حديثه للاعتبار ، بينما يعد المقبول في اصطلاح كثير من النقاد يصح
الاحتجاج به منفرداً كما أورد الحافظ .
فإذا كان الأمر كذلك لم يكن غريباً على " الناصب " أن يقع فريسة هذا
" الاصطلاح " الذي أطلقه " الحافظ " وأعيا النقاد فهمه .
وقد علمنا فيما سبق ضعف فهم " الناصب " للأمور الواضحات ، ولذا فنحن لا
نقدر على لومه في عدم فهمه مثل هذه المسألة التي يحتاج فهمها إلى سعة بحث ، وتوديع
للكسل والاسترخاء ، والتمني ، وكلها أمور ملازمة لـ" الناصب " لا يمكنه
توديعها بسهولة .
ثم انتقل " الناصب " إلى اعتراض جديد على فضيلة " الدكتور " ،
وعده من علامات تساهله فقال :
اعتراضه على مسمى " الجزية " :
قال : " الناصب " " ومن تساهل " الدكتور " مع كفار أهل
الكتاب أنه يختار تغيير مسمى (الجزية ) إذا أنف منه اليهود والنصارى ولم يرضوه
"
(5/93)
وهنا نقول
للناصب لماذا هذا اللي المتعمد فإذا كان كلام فضيلة " الدكتور " واضحاً
كل الوضوح ، لا لبس فيه ولا غموض فهو يختار تغيير اسم الجزية إذا أنف منه اليهود
والنصارى ، وليس يعترض على المسمى ، بل الاعتراض إنما هو منهم ، وليس على المسمى ،
وإنما هو على الاسم ، فكأنه لا يعرف الطريق إلى الصواب في كل مفردات عبارته ، رغم
أنه ينقل عبارة فضيلة " الدكتور " صريحة وهي قوله : " لئن كان بعض
الناس يأنف من إطلاق هذا الاسم ؛ فليسموه ما يشاءون ؛ فإن نصار بنى تغلب من العرب
طلبوا من عمر أن يدفعوا مثل المسلمين صدقة مضاعفة ، ولا يدفعوا هذه الجزية ، وقبل
منهم عمر ، وعقد معهم صلحاً على ذلك وقال في ذلك : هؤلاء القوم حمقى ، رضوا
بالمعنى وأبوا الاسم ! " .
وعلى الفور يقول " الناصب " : وهذا القول والاختيار منه غير صحيح ؛ لأن
هذا قد يقودنا إلى تغيير المصطلحات الشرعية إرضاءً للناس .
فأما قوله : " غير صحيح " إذا صدرت من " الناصب " ، فالمقصود
منها أنه صحيح لأن " الناصب " لا يدري ما هو الصحيح من غير الصحيح ، ولا
يفرق بين الطين والعجين !! .
وكلام فضيلة " الدكتور " واضح اتصافه بذلك ، فهو لم يقم بتغيير شامل
للمصطلح ، وإنما في حق من أنف ذلك من أهل الذمة ، مما يخشى معه من آثار سلبية ضارة
على المجتمع المسلم ، ما يتوجب معه الاستجابة لمطلبهم وتهدئة ثائرتهم ، واستئثاراً
لهم بمحاسن الإسلام ، كما فعل عمر رضي الله عنه بنصارى بني تغلب .
(5/94)
ولذا لا يقال
له : لا يصح إطلاق القول بأن هذا القول جائز مطلقاً مع جميع اليهود والنصارى ؛
لأنه لم يقل بذلك لجميعهم وإنما لمن أنف منهم تلك التسمية ، والشأن أنه كان مصلحة
المسلمين ، ولا وجه له في الاحتجاج بقول " ابن قدامة " – رحمه الله – في
منع قياس غير بني تغلب عليهم من وجوهه التي ذكرها إذ هو يمنع العموم لا القياس ،
وهي تدل على إلحاق غيرهم بهم متى اتفقوا في شروط الإلحاق ، ولذا فإن الوجوه التي
ذكرها التالية تدل على ذلك :
أن قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرها في حق الجزية ، وفضيلة "
الدكتور " لم يلحق بهم الجميع وإنما ما اقتضت المصلحة إلحاقه ، وليس المراد
إلحاق الكل ، وإنما إلحاق المشابه منهم بهم .
كون العلة في بني تغلب هي الصلح ، ذلك أدعى لموافقة الذميين حين سؤالهم لكونهم في
هذا المعنى أشد من بني تغلب ؛ فليست العلة متخلفة ؛ لكون عقد الذمة في معنى عقد
الصلح وأولى ، وهي علة تتحقق لغيرهم كما هو واضح .
كون بني تغلب ذوى قوة وشوكة ، ويخاف من الضرر منهم ، وهكذا الآن أيضاً اليهود
والنصارى صار لهم قوة وشوكة يخشى من بأسها ؛ فإنه يصنع أيضاً معهم نفس الصنيع ،
حتى قال : ابن قدامة " نفسه – وقد نقله " الناصب " ولم يفهمه - :
" فإن وجد هذا في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية وخيف الضرر بترك مصالحتهم ،
فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم
بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة " .
فالشأن أن فضيلته لا يتكلم عن عموم اليهود والنصارى ، وإنما يتكلم عمن هو داخل في
الدولة المسلمة ، حيث لا قدرة للمسلمين الآن على محاربة الكفار من أهل الكتابين
وغيرهم لتعاظم قوة الكفار وضآلة قوة المسلمين .
أهل الكتاب مسلمون بالحضارة عند الدكتور !
(5/95)
فيقول تحت هذا
العنوان :" ومن تساهله معهم إنه يخطو خطوة بعيدة معهم فيقرر أنهم مسلمون !!
ولكن بالحضارة والثقافة ! " ، وهكذا يذكر هذه الجملة دون تعليق منه اكتفاءً
بوضع علامات التعجب ، لأنه لم يسمع بإسلام الحضارة أو إسلام الثقافة إلا عند
" القرضاوي " !!: إن هذا الذي قاله فضيلة " الدكتور " ليس
أبدا تساهلاً مع أهل الكتاب ، وليس فيه شائبة التساهل أيضاً ، خلافا لمن ظن ذلك
بأفقه المحدود جداً ، بل إن العبارة التي أطلقها فضيلته تحمل الاعتزاز بهذا الدين
وتبين أنه غالب وليس مغلوبا ، وأن حضارته متى أتت على مكان صبغته بصبغتها ، ولم
تصطبغ هي بأي صبغة أخرى ، ولذ فقد جاء الإسلام على بلاد تدين بدين أهل الكتاب ،
فدخلوا في الإسلام وعاش من خالف منهم ولم يدخل في دين الإسلام مغلوباً بحضارة
الإسلام وثقافته ، فصار عارفاً بعادات المسلمين ، وعارفاً بمعاملاتهم ما يجوز منها
وما لا يجوز ، وبمآكلهم ومشاربهم ، ولغتهم التخاطبية في المناسبات وعند اللقاءات
حتى لما صار أهل الذمة في هذه الأزمان يلبسون مثل المسلمين كان من الصعب معرفة
المسلم من الذمي إلا بذكره اسمه ولقبه ، بل وأحياناً لا يكفي ذلك إلا بذكره أنه
كتابي ، وما كان ذلك إلا لاصطباغ هؤلاء بحضارة الإسلام وثقافته ، فوافقوا المسلمين
في أسلوب حياتهم وطريقة تعاملهم ، ومعرفتهم بما يحل في شرعهم ، وما يحرم ، وهذا ما
يطلق عليهم بسببه مسلمون حضارة وثقافة ، وهذا أسلوب مألوف علمياً تسمية الشيء
بصبغته التي اصطبغ بها ، ومن هنا فإن المرء الشامي يصير مصرياً وكذا المصري يصير
شامياً متى أخذ أحدهم عادة البلد الآخر ، رغم كونه ليس مولوداً بها ، ولا أبوه
منها ، إلا أنه لما تغيرت عادته ولهجته نسب إلى البلد التي تغير واصطبغ بصيغة
أهلها ، حتى جرى على ذلك مسائل في الفقه معروفة لمن عالج الفقه وقرأه ، فمن حلف
ألا يتزوج مصرية كانت الشامية المتخلقة بأخلاق المصريات وعادتهن داخلة في
(5/96)
يمينه
بصيرورتها مصرية بالعادة واللهجة ، وإن لم تكن بحسب الأصل والمنشأ .
وهكذا أيضاً يقول المسلمون فيمن سافر إلى البلاد الأوربية وترك العادات الإسلامية
والأخلاق الإسلامية وتفرنخ فيقال عنه : مسلم متفرنج ، لا لأنه كفر بالله العظيم ،
ولكن لاستبداله العادات الإسلامية بأخرى غربية ؛ فهو قد أصبح أوربي الثقافة
والحضارة بتخليه عن أسلوب وثقافة وحضارة الإسلام ، ولكن " الناصب " لم
يسمع عن هذه الأشياء ، ولا ضرر على المسلمين في هذا !!
فإذا عرفنا ذلك كانت عبارة فضيلة " الدكتور " وهي : أنهم مسلمون حضارة
وثقافة ؛ إنما هي رفعة للإسلام وبيان غلبته على ما سواه حتى إنه يعلو ولا يعلى ،
حتى لما ضعف المسلمون وتألب النصارى على بلدانهم لم يستطيعوا خلع حضارتهم من
جذورها العميقة ، ولم يفلحوا في غرس حضارتهم أو فرضها على المسلمين الذين ظلت
حضاراتهم هي السائدة الرائدة ، حتى في حال زوال قوتهم ، وضعف شوكتهم ، وهو بلا شك
أمر يحسب لهذا الدين ، ولو كان بإمكان أهل الكتاب المنازعة فيه لنازعوا ، ولكن
الأمر أوضح من أن ينازع فيه وكأنى بقول دريد بن الصمة :
ولا تخفى الظعينة حيث كانت
(5/97)
**** ولا
النظر الصحيح من السقيم
وقول الآخر :
وكم من عائب رأياً صحيحاً
(5/98)
**** وآفته من
الفهم السقيم .
وينقل " الناصب " عن فضيلته أيضاً في هذا المعنى نقلاً آخر يقف أمامه
أيضاً مندهشاً ؛ لأنه كما ذكر هو عن نفسه أنه لم يسمع هو ولا آباؤه بذلك
فيقول " الدكتور " : " أهل الذمة من أهل الكتاب لهم وضع خاص ،
والعرب منهم لهم وضع أخص لاستعرابهم وذوبانهم في أمة العرب ، وتكلمهم بلغة القرآن
، وتشربهم للثقافة الإسلامية ، واشتراكهم في المواريث الثقافية والحضارية للمسلمين
بصورة أكبر من غيرهم ؛ فهم مسلمون بالحضارة والثقافة ، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة
والطقوس ".
فكون أهل الذمة من أهل الكتاب لهم وضع خاص ، هذه لا اختلاف فيها لأن الذمي له
أحكامه الخاصة دون غيره وأما العرب من أهل الذمة لهم وضع خاص لاستعرابهم إلى آخر
ما ذكر فضيلته ؛ فيشهد له ما فعله عمر رضي الله تعالى عنهم من وضع اسم الجزية عنهم
كما فعل مع نصارى بني تغلب من العرب ، ولكن اختلف في تعدية فعله لغيرهم ، وذلك يصح
شاهداً من حيث الجملة لما ذكره فضيلته من كون العربية التي هي لغة القرآن توجد
جسراً بين المسلمين وإياهم لا يمتد لغيرهم ، ولعل سهولة الإيمان بالنسبة لهم تفوق
غيرهم من جهة معرفتهم لمعاني القرآن وإدراكهم لأسراره البلاغية ، وتمكنهم من
الوقوف بيسر على أحكام الإسلام ، ومعرفة مقاصده السامية في تلك الأحكام الأمر الذي
يختلفون فيه عن غيرهم ، فناسب الشأن تلطف المسلمين معهم ، وذلك لاستئصال كراهية
المخالف لمخالفه من قلبهم حتى يهديهم الله تعالى لدينه .
(5/99)
ونظراً لذلك
الفرق بين العربي وغيره ؛ فقد شدد على مشركي العرب حتى لا يقبل منهم الجزية ، وذلك
لشدة الكفر والشرك من العربي عن غيره ، فلا يقر إلا على الإسلام أو أن يدين بدين
أهل الكتاب فيقر على الجزية ولكن ليس معنى ذلك أن نضع أحكاماً شرعية مخالفة في
معاملة أهل الكتاب من العرب ، وإنما فقط بيان ما لهم من فضل على غيرهم يحسب لهم
حسابه ، ويترفق بهم لأجله ، فالجار كما هو مقرر في الشرع له حق يعظم به عن غيره ،
وهم جمعوا مع الجوار في الأوطان العديد من الأشياء المشتركة معنا ؛ فلها حسابها
وفق ما يقرره الشرع ، ودون تخط لحدوده ومعالمه التي هي معالم الهدى والرشاد لمن
ابتغى فيها هداه .
ومما يدل على أن سلوك هذا المسلك ناجح معهم أن " عمر " رضي الله تعالى
عنه لما تلطف بنصارى بني تغلب أسلم أغلبهم ، فلم يمتنع منهم عن الإسلام إلا فئة
قليلة ، لم يرد الله لهم الهداية .
موادة الكفار :
وبعد هذا الفهم المتدني و التضليل القبيح من " الناصب " ينتقل إلى موضوع
آخر هو ( القرضاوي يرى موادة الكفار ) : هكذا يفتتح " الناصب " حملة
أخرى على فضيلته في رأيه في جواز موادة بعض الكفار ، ولكن " الناصب "
بعمد واستهجان مقزز يضع عنوانه : القرضاوى يرى موادة الكفار .
يقول " الناصب ": " ومن تساهله مع اليهود والنصارى أنه يرى جواز
مودتهم ، وأن الآيات التي تنهى عن ذلك ليست عامة لكل يهودي ونصراني !"ونحن
بدورنا نضع له مائة !! على هذه الجهالات المتكررة" .
(5/100)
فبدلاً من أن
يعقل مراد فضيلة " الدكتور " من " المودة " فيحرر معناها عند
فضيلته أولاً ، ويحرر معناها كذلك في اللغة واصطلاح الفقهاء وينظر فيما اختلف فيها
من الكلام فيجعله مستقيماً مع ما حرره في معناها ، ويحكم في ضوء ذلك على ما أورده
فضيلة "الدكتور " فيكون بذلك قد أسس حكماً منطقياً يصلح لمناقشته فيه ،
ولكنه فعل خلاف ذلك تماماً ؛ فانطلق يذكر أقوال فضيلته ثم يعقبها بتعليقه البعيد
تماماً عن مراد الشيخ ومقصوده ، وما يدفعه إلى ذلك سوى عجلته في الأمور ، التي
تدفق لإطلاق أحكامه البعيدة تماماً عن المصداقية والواقعية ولا يمكن لها أن تروج
حتى على العوران والعميان كما في قول " ابن القيم " في نونيته :
فانظر إلى التلبيس في ذات الفرق
(5/101)
**** ترويجاً
على العوران والعميان
فلا عجب أن نقول إن ما تعجل " الناصب " في تخطئته ووصفه بالخطأ العظيم
إنما هو الصواب الذي قال به الأجلاء وما نقله " الناصب " لا يخالفه عند
تحقيق ما وقع فيه من الاشتباه ، الذي لو كان يغفله أولاً ، ثم عمل على إزالته
ثانياً لما وقع في تلك الورطات التي يحرص على إيقاع نفسه فيها ، ولعل ذلك لرغبته
فقط في النيل من فضيلة " الدكتور " عند من لا يعرف تصريف الكلام ، ولا
يقدر على استبانة الحقائق من الأوهام .
ولكي نضع الأمور في نصابها الصحيح نبدأ بما بدأ به فضيلة " الدكتور "
لإثبات جواز مودة نوع خاص من الكفار هم الداخلون في قوله تعالى :" لا ينهاكم
الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا
إليهم " ؛ فنقول بداية : اختلف المفسرون في هذه الآية على قولين في كونها
محكمة أو منسوخة ؛ فذهب قتادة ، وابن زيد وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وهبة الله بن
سلامة المقرى ، وابن البارزى إلى أنها منسوخة ، نسختها " اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم " .
وأما القول الثاني ، وهو : أنها محكمة لم تنسخ ، قال به " الحسن البصري
" ، واختاره " مكى " و " أبو جعفر الطبرى " وعزاه غير
واحدٍ إلى أكثر المفسرين ، منهم : القرطبي ، و " الشوكاني " ، و "
الشربيني " .
(5/102)
ولا شك أنه
اختيار العلامة " القرضاوي " حيث احتج بالآية على ما ذكره ، والآن جاء
دور بيان تحرير محل النزاع ؛ فنقول : ما هو محل النزاع بين فضيلته والمنكر عليه ؟
، ونجيب قائلين : إن محل النزاع بينهم هو إثبات المودة لنوع من الكفار عند فضيلته
استناداً لبعض نصوص الشرع ، والمنكر ينفيها ، ولكن ما هي المودة التي يثبتها
فضيلته ؟ هذا هو المحل الذي يكون به الابتلاء وهنا لا نرى سعياً من " الناصب
" في الكشف عن " المودة " التي يثبتها فضيلته ويصفها " الناصب
" بالخطأ العظيم ، وهنا نقول : إن فضيلة " الدكتور " يتكلم عن
المودة الظاهرية التي تجرى بحسب التواصل ونحوه بين المسلم والكافر مما يشتمل على
إحسان وإنعام يشكر فيه المنعم ، ويواد لما أنعم به ، وهو أمر فطرى غير ممنوع فإن
النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها ، كما هي مجبولة على بغض من أساء إليها ،
فيبغض المسيء المؤمن لإساءته ، ويحب المحسن الكافر لإحسانه ؛ فليس بغض الأول بغضاً
للإيمان ، وليس حب الثاني حباً للكفر فهذا النوع من الميل هو الداخل في المغفرة في
قوله تعالى : { والله غفور رحيم } أي لما كان باقياً من هذا الميل الغريزي ، ولذا
لم يختلف العلماء في أن موالاة الكافر وموادته والبر إليه بمعنى نصرته وإظهاره لأمره
ومحبته لكفره أن ذلك محرم ، ويستوى فيه ان يكون الكافر حربياً أو ذمياً ، وتلك هي
المحبة الشرعية التي لا تصرف إلا للمؤمن ،وهي الموالاة الباطنة التي لا يستحقها
الكافر بأنواعه ، وهي الموادة الحقيقية التي لا تكون إلا للمؤمنين بخلاف الموادة
الظاهرية التي تكون لمن أظهر الخير لنا ورغم أن هذه الأفعال التي ذكرنا أنها
موالاة ليست هي في الأصل موالاة ؛ إذ أنها في الأصل من عمل القلب ، وما ذكرناه من
عمل الجوارح ؛ إلا انها أعمال لها دلالات صريحة في تحقق موالاة القلب فكانت دالة
عليها ، ولما كانت أعمال القلب لا يمكن الاطلاع عليها ، فإنه يقام للدلالة عليها
(5/103)
ما لا يحتمل
سواها من أعمال الظاهر ولذا قال الشيخ " عبداللطيف بن عبدالرحمن "
:" أصل الموالاة : الحب ، كالنصرة ، والأنس والمعاونة ، والجهاد ، والهجرة ،
وغير ذلك من الأعمال" ، وقد سمى هذه الموالاة بعضهم بالموالاة العامة ، والتي
قال عنها ربنا سبحانه وتعالى :" والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، إلا تفعلوه
تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ، وقال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم
أولياء بعض } ، وممن سمى تلك الموالاة المنهي عنها بالموالاة العامة العلامة الشيخ
" عبد الله بن عبدالعزيز العنقرى " حيث قال :" الموالاة هي
الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم ، وهذه هي " الموالاة
العامة " التي إن صدرت من مسلم لكافر اعتبر صاحبها كافراً ، وأما مجرد
الاجتماع مع الكفار بدون إظهار تام للدين مع كراهة كفرهم ؛ فمعصية لا توجب الكفر
" ، ظاهر قوله : بدون إظهار تام للدين لمكان المداهنة لهم ، أو يترك نية
دعوتهم إلى دين الله كما قد صرح به في مواضع آخر .
وهذه الموالاة العامة والتي يسميها الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ
الموالاة المطلقة العامة ويصفها بأنها كفر صريح ، هي التي يحمل عليها ما سبق من
الأدلة كقوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وأشباه ذلك من الأدلة الواردة
في النهى الشديد عن موالاة الكفار ، ، وأن من والاهم فقد كفر ، فهي بهذا المعنى في
معنى تولى الكفار الذي هو كفر صريح مخرج عن الملة ؛ إذ أن التولى هو الدفاع عن الكفار
وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ، وهناك موالاة تختلف عن تلك العامة وعن ذلك التولي
الصريح في الكفر ، وهي محرمة أيضاً ، لكن لا تصل بصاحبها إلى الكفر ، وهي ما يسمى
بالموالاة الخاصة ، ووجه خصوصيتها
(5/104)
أنها لغرض
مخصوص كمنفعة دنيوية يريد تحصيلها منهم فيداهنهم لأجل تلك المصلحة مع سلامة
اعتقاده وعدم إضماره نية الكفر والردة ، وذلك مثل ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة ،
حيث كان منه إفشاء سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذه " الموالاة " الخاصة " وهي كما ذكرنا محرمة – هي الغالبة في
إطلاق لفظة الموالاة في رأي الشيخ عبدالله بن عبداللطيف ووافقه على ذلك الشيخ
سليمان بن سحمان ، فجعل الموالاة التي هي كفر صريح ، وهي العامة بمعنى التولى ،
وذلك بخلاف الخاصة وأطلق عليها لفظة الموالاة ، فنظم ذلك قائلاً :
وأصل بلاء القوم حيث تورطوا
(5/105)
***هو الجهل
في حكم الموالاة عن زلل
فما فرقوا بين التولى وحكمه
(5/106)
**** وبين
الموالاة التي هي في العمل
أخف ، ومنها ما يكفر فعله
(5/107)
**** ومنها
يكون دون ذلك في الخلل
وتقسيم الموالاة إلى مطلقة وخاصة مأخوذ من كلام القرطبي وأبي بكر بن العربي ، وهو
ما أخذ به من ذكرنا ووافقهم أيضاً على ذلك الشيخ سليمان بن عبدالله بن عبدالوهاب ،
والشيخ حمد بن على بن عتيق ، وهؤلاء قد جعلوا الموالاة دائرة بين الكفر والحرمة ،
ولم يروا لها معنى ثالثاً ، أو قسماً يختلف عن القسمين السابقين بينما رأى غيرهم
قسماً ثالثاً من الموالاة، أي يصح تسميته بالموالاة وليس محرماً ، وإنما هو يدخل
في حكمها في نظر من ذكرنا ، فهو من المحرمات على ما بيناه عندهم ، وهو ما تكون
الموالاة فيه ليست سوى المسامحة والمسالمة والمعاشرة الجميلة في الدنيا ، ومراعاة
المصالح المتبادلة ، والمعاملة بالحسنى في الظاهر ، مع عدم الرضا بحالهم وكفرهم ؛
فجعلوا ذلك من الموالاة غير المنهي عنها وسموها موالاة ، وهي تلك التي سماها الله
في كتابه " البر " في قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم
يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب
المقسطين } ، وممن عبر عن ذلك من المعاصرين فضيلة الشيخ " محمد على السايس
" ، وسبقه إلى ذلك من أهل العلم " الجمال القاسمي " حيث قال
:" لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة ، ولم يخرجوكم من
دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، أي : تقضوا إليهم بالبر ، وهو الإحسان ، والقسط
وهو العدل ؛ فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه ، بل مأمور به في حقهم ، وتسمية
ذلك موالاة لمقابلتها للموالاة المنهي عنها .
(5/108)
فقد عبر
" القاسمي " عن البر والصلة بقوله : " هذا القدر من الموالاة
" الذي هو مما جاء في الكتاب العزيز فسماه موالاةً وهو ما سبقه إليه الخطيب
الشربيني " في تفسيره حيث ذكر في قوله تعالى : { لا ينهاكم الله } كان هذا
الحكم وهو جواز " موالاة الكفار " الذين لم يقاتلوا في أول الإسلام عند
الموادعة وترك الأمر بالقتال " ، فعبر عن ذلك الحكم بالبر والقسط بأنه "
موالاة " وهذا مما يدل على استساغة التعبير بالموالاة الجائزة ، والموالاة
المحرمة ؛ فهو ليس أكثر من اصطلاح مقيد بحكم ، وليس مطلقاً في لسان من استعمله .
(5/109)
وقد عبر آخرون
عن هذا البر المشروع بالمودة ، مثلما فعل " الصاوى " في حاشيتة على
" الجلالين " حيث قال في تفسير قوله تعالى : { لا ينهاكم الله } ؛
" ثم بين هنا أن من كان من الكفار بينهم وبين المسلمين صلح ومهادنة تجوز
مودتهم ولم يكن النهي شاملاً لهم كخزاعة وبني الحارث وعلى هذا تكون الآية محكمة ؛
فيجوز الآن للمسلمين موادة الكفار الذين تحت الذمة والصلح " ، وهو ما مشى
عليه أيضاً جماعة منهم " الخازن " حيث بين أن المودة الحاصلة بالمخالطة
والمعاشرة ليست من المودة المحظورة وكان اقتصار الأكثرين على استعمال اللفظ
القرآني ، وهو " البر وفسروه على أنه اكرامهم والإحسان إليهم قولاً وفعلاً ،
وهو ما عبر عنه الشيخ " محي الدين شيخ زاده " بقوله : برهم بالقول وحسن
المعاشرة والصلة بالمال ، وأخذ من ذلك بعض أهل العلم جواز الاحتفاء بأعيانهم ،
واستدل لذلك بما حكى عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أنه دخل عليه ذمي فأكرمه ؛ فأخذ
عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية ، واستدل منها بعضهم كذلك على جواز
القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ، ولم ننه عنه ، وهو ما نص "
العز بن عبد السلام " على منعه لما فيه من تعظيم شأنهم ، وهو ضد ما أمرنا به
في حقهم ، لكن قال : فإن خيف من شرره ضرر عظيم جاز ؛ لأن التلفظ بكلمة الكفر جائزة
للإكراه ؛ فهذا أولى ، ولكن ما ذكرناه في القيام محمول على الأخذ بجوازه ، وفيه
خلاف معروف ، وهو جائز على المختار وخاصة لمن لا يُحب ذلك له ، وكلام " ابن
عبدالسلام " مخالف لما قرره " ابن وهبان " " من الحنفية
" من جواز القيام له ترغيباً له في الإسلام حيث قال :
وللميل أو للمال يخدم كافر
(5/110)
**** وللميل
للإسلام لو قام يغفر
وقد جعل بعضهم كل مصلحة دينية كالميل للإسلام في جواز القيام لها ، وهو مع ذلك
يشترط فيه أن لا يقصد القائم تعظيماً .
وقد عبر أيضاً بعضهم عن ذلك " البر " بالصلة ؛ فذكروا أن الآية ترخص في
صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ، وقد جرى على ذلك التعبير "
الجمل " و " السمرقندي " و " ابن الجوزي " و "
القرطبي " .
فإذا عرفنا ذلك آن لنا أَنَّ نبين أن استعمال فضيلة " الدكتور " للفظة
" المودة " التي أجاز وقوعها من المسلم للكافر لا تخرج عن استعمال أهل
العلم ، ولا عن مقصدهم فيما صنعوه بالبر والإحسان والصلة ، حتى إن بعض أهل العلم
عبر عن تلك " المودة أو " البر " بما هو أشد في التضييق في اصطلاح
أهل العلم ، وهو " الموالاة " فجعلوا ذلك " البر " من
الموالاة الجائزة " ، وذلك أن تلك المودة التي ذكرها فضيلته ليست سوى المودة
الظاهرية باعتبار صنيع الإحسان الظاهر والمعاشرة بالمعروف ، وليست المودة القلبية
المنهي عنها إلا ما يكون غريزياً فطرياً ، فذلك ليس من المودة الشرعية التي لا
تصرف إلا لأهل الإيمان وهو ما قدمنا قوله ، وفي ذلك لا ينهى الابن عن محبة والده
الكافر للمحبة الغريزية بسبب الرحم ، ولا محبة الزوج لزوجته ونحو ذلك مما هو غريزي
، وذلك من رحمة الله تعالى ، وبذلك فسر قوله تعالى عقب ذلك { والله غفور رحيم } ؛
أي لما بقى في قلوبكم من الرحمة الغريزية لهم .
فبالنظر إلى ما قاله فضيلة " الدكتور " في تفسيره للفظة المودة التي
" أطلقها " وقد بينا جواز إطلاقها باعتبار المودة الظاهرية ، فإنه أيضاً
استعملها في محلها الصحيح ومعناها المقبول ، ولم يأت بها على الوجه المنهى عنه
إطلاقا ، ولكن ماذا عسانا أن نقول فيمن لم يرزق الحسنيين ؛ حسن الفهم ، وحسن الظن
.
(5/111)
فانظر أيها
القارئ العزيز عن المودة التي بين فضيلة " الدكتور " جواز معاملة
الذميين بها حيث قال : " وقد شرعت لنا موادتهم بمؤاكلتهم ومصاهرتهم وحسن
معاشرتهم " وهو بهذا قد عرف المودة بما هو جائز لا المودة المحظورة كما ظن
" الناصب " أو أراد أن يوهم الناس بذلك ، وليس فيما قاله فضيلته أدنى
خطأ حتى يقول عنه " الناصب " ما قاله :" قلت : والجواب عن هذا
الخطأ العظيم الذي وقع فيه الدكتور " ، ونحن نقول له بدورنا : عساك تفهم ذلك
الخطأ الشنيع الذي وقعت فيه أنت ، وليس فضيلته .
وأما قول " الناصب " : " إن هذه الآية ليس فيها ما زعمه من موادة
أحدٍ من الكفار ، وإنما فيها الرخصة بصلة نوع من الكفار ومعاملتهم بالبر والإحسان
من باب المكافأة على صنيعهم " .
وهذه الآية التي يقصدها " الناصب " قد ذكرها وقد استشهد بها فضيلته على
ذلك بها وهي " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " الآية ،
وقد بينا ما ورد فيها من أقوال العلماء ، ومنهم كالصاوي صرح بأنها المودة التي
يجوز معاملة أهل الكتاب بها ، وأما الآية الأخرى ، وهي في سورة المجادلة : "
لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله " ؛ فتلك فرق
عندها المفسرون بين المودة المشروعة ، والمودة المحظورة ، فلا يقال إن المودة بكل
أشكالها وصورها ممنوعة شرعاً ، وهذا ما بيناه سابقاً بجلاء ، وما فسر فضيلة "
الدكتور " به المودة هو داخل في جنس المودة المشروعة ، والآية التي استدل بها
فضيلته ، وادعى " الناصب " أنها معاملتهم بالبر ، فهذا هو المفسر
بالمودة ، فالبر صورة من صور المودة ومعنى من معانيها ، وقد رأينا كيف أخذ من تلك
الآية بعض العلماء جواز احترامهم والاحتفاء بهم وإكرامهم ، والقيام لهم ، وهي بلا
شك معاني زائدة عما ذكره فضيلة " الدكتور " ولو علم "الناصب"
بهم لأدخلهم في ميزانه القادم !! .
(5/112)
ثم يقول
" الناصب " وهذا لا يستلزم مودتهم في القلوب " ، وقد بينا أن
المودة الغريزية متسامح فيها ، والمودة الناشئة عن المخالطة والعشرة والتي لا تصل
إلى حد المودة المحظورة التي عرفناها ، فما دونها لا بأس بها شرعاً ، وهي أيضاً
تسمى " مودة " كما ذكرنا .
ثم يحتج " الناصب " على ما يقوله بقوله تعالى { لا تجد قوماً يؤمنون
بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } قائلاً ؛ فإنها عامة في حق من
قاتل ومن لم يقاتل ، وكأنه لم يقرأ ما ذكره المفسرون في تفسيرهم المودة المحظورة
والمودة الجائزة وهي التي بمعنى البر الذي أشرنا إليه ، فالإحسان وحسن العشرة
والمخالطة هو المودة المشروعة وتلك أيضاً لا تختص بغير أهل الحرب ؛ فهي جائزة
أيضاً لأهل الحرب كذلك ، وفي هذا يقول " الطبرى " في تفسير قوله تعالى :
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } الآية ؛ ولا معنى لقول من قال :
ذلك منسوخ ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب من بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة
بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه ، إذالم يكن في ذلك دلالة له ، أو لأهل
الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح ، قد بين صحة ما قلنا
في ذلك الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها " ، وذلك الحديث
في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي - صلى الله
عليه وسلم - وهي مشركة تريد الدنيا : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أسماء أن
تصلها " .
(5/113)
وأما ما أورده
" الناصب " في معارضة فضيلة " الدكتور " بقول الشيخ " ابن
باز " - رحمه الله - فلا يصح أن يكون رداً على كلام فضيلته ؛ إذ أنه قال
كلامه في الرد على من زعم أن هناك موالاة جائزة للكفار حيث قال : " وفي ذلك
صلة للرحم " وجود على المحاويج ، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم ، وليس من
موالاة الكفار في شيء " ؛ فكلامه ليس فيه رد على فضيلته الذي لم يستعمل لفظة
" الموالاة " ، وإنما استعمل لفظة المودة ، وهذا ذهول من " الناصب
" ومن ناحية أخرى فقد ذكرنا عن بعض أهل العلم استعمال لفظة الموالاة الجائزة
، وهو ذلك القدر الذي سمح به الشرع مع أولئك الكفار .
والشأن في الاصطلاحات خفة أمرها وسهولة التنوع فيها مع اتحاد المعنى المراد ،
وبيانه ، وحينما يحصل الإشكال يقوم المستعمل للفظة ببيان ما يزول به الإشكال كما
وضحنا ذلك من خلال تعرضنا للمودة المنهي عنها ، والمودة الجائزة .
ثم ينتقل " الناصب " بعد ذلك إلى بيان موضوع آخر من تساهلات القرضاوي في
حد زعمه مع الكفار فيقول :
القرضاوي يحترم أديانهم المحرفة":
يقول " الناصب " :" ومن تساهل الدكتور معهم قوله : " نحن
متفقون - أي مع العلمانيين _ على ضرورة النهوض بأوطاننا ،ومتفقون على الاعتزاز
بالإسلام باعتباره دين الأغلبية ، واحترام الأديان السماوية لغير المسلمين ، وأن
الإسلام للمواطنين منهم ثقافة وحضارة ، وإن لم يكن ديناً وعقيدة "
فطريقة " الناصب " في اعتراضه على هذه العبارة توحي أنه لا يعرف معنى
الاحترام وسبحان الله!!لما كان " الناصب " لا يعرف معنى " الاحترام
" في العادة ، وهو أمر واقعي حيث لم يحترم من هو أفضل منه بلاءً ، وأحسن منه
حالاً ، وأكبر منه سناً ، ولا أريد أن أقول وأغزر منه علماً حتى لا تكون نقيصةً
بليغة في حق فضيلة " الدكتور " على قول القائل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره
(5/114)
**** إذا قيل
إن السيف أمضى من العصا
فكان أيضاً لا يعرف معنى الاحترام في اصطلاح الفقهاء ، وهو هنا مخالف لما يجري
غالباً في عادة التخاطب ، حيث عادة الناس احترام الكبير ، وذي المكانة ، أو الحق ،
واحتقار مقابل ذلك ، فكأن " الناصب " ظن أن هذا هو الاحترام المقصود هنا
، فتعالى إنكاره على الفور دون أن يبحث هل ما ظنه هو المقصود أو لا ؟ فلم يدر أن
المراد من الاحترام في الاصطلاح هو الإقرار مع عدم المنع أو العدوان ولذا يقول
الفقهاء عن خمر الذمي وخنزيره خمر محترمة ، فلا يجوز العدوان عليها بالإراقة ، ومن
اعتدي عليها أثم واختلف مع إثمه في ضمانه ، وفيما يجب عليه بهذا الضمان ، وكذلك
الخنزير المحترم ، ولعل " الناصب " إذا مر بهذه الكلمات في كتب الفقه
شطب عليها ظاناً أنها خطأ وكتب بدلاً منها " محتقرة " ، ولعله يزيد في
كتابه بعض تعليقاته النافعة للجهل ، فيقول : وهو خطأ واضح ؛ إذ أنه كيف يحترم
الخنزير وقد أمرنا بقتله !! لكن العجيب أن " الناصب " عندما أخرج شرح
منار السبيل للعلامة ابن جبرين لم يعلق على قول صاحب دليل الطالب " ويجب بذله
لعطشان من أدمي أو بهيمة محترمين " مع ان قصد صاحب الدليل بالآدمي المحترم
يدخل الكافر الذمي ، وقد نقله " الناصب " وكان عنه بمعزل ، وفالله في
عون العلماء أمثال فضيلة " الدكتور " ، إذا تصدى لوزنهم أناس بهذا القدر
العظيم من الجهل ، وسبحان الله في أهل هذا الزمان وصنائعهم ، وهذا القول مني أفضل
من أن نعيب الزمان ولا عيب به سوى أمثال ذلك " الناصب " ألا نجانا الله
من أمثاله ؛ إنه نعم المولى ونعم النصير .
(5/115)
فإذا تقرر ما
ذكرناه ؛ فاعلم – أيها القارئ العزيز – أن المراد باحترام الأديان السماوية
المخالفة لدين الله هو إقرار أهلها عليها بالجزية أو بحسب ما صولحوا عليه ، هذا هو
مقصود الفقهاء أمثال فضيلة " الدكتور " وغيره من سائر فقهاء الأمة على
مر العصور ، الذين يستعملون هذه الكلمة التي طفحت بها كتب الفقه ولكن مع ذلك لم
تقع تحت عين " الناظر " أو وقعت لكن لم يرزق بالفهم، فالحمد لله على
نعمه .
فهكذا تحترم تلك الأديان على أهلها ، بعدم التعرض لهم في اعتقاداتهم ، كما تحترم
كتبهم السماوية ، فلا تمس بسوء ، وإن كانت في اعتقادنا مشتملة على الباطل والتحريف
، فيحرم إتلافها بأنواع الأذى لما فيه من العدوان المحرم ، وهذا فارق حضاري بَيِّن
بين هذه الأمة وبين تلك الأمم الممسوخة حضارياً ، ويكفي للتدليل على ذلك ما كان من
فعلة يهود في هذا القرن واستنجائهم بأوراق المصحف ، وما حملهم على ذلك سوى أنهم
ليسوا إلا مسخ حضاري مشوه ، بينما في شرعنا ما هو ابلغ مما ذكرناه ؛ حيث يُحْتَرم
المكتوب لحرمة الحروف ، وإن بغير العربية .
ونحن بدورنا نقول له : وما هو ذنب فضيلة " الدكتور " إذ أنزل أهل الكتاب
منزلتهم التي أنزلهم الله تعالى وأمرنا بها من احترام عقائدهم ، فلم يفهم "
الناصب " معنى ذلك الاحترام؟ !!
والعجيب أنه يظن أن فضيلة " الدكتور "هو الذي تورط باستعماله للفظة
الاحترام ، والحق أنه هو الذي تورط في إنكاره ما لا يعرفه من مسائل الشرع بجهالة .
حربنا لليهود ليست من أجل عقيدتهم ! :
وتحت هذا العنوان أظهر " الناصب " أنه لا يدري عن هذا الكون شيئاً ؛
فأخذ يهرطق بكلام سنسعى لإيضاحه وترجمته للقارئ ، ومن ثم نرد عليه بعد ذلك .
(5/116)
يحكي هنا
" الناصب " عن فضيلة " الدكتور " قوله لليهود :" إننا لم
نحاربكم من أجل عقيدتكم اليهودية ، ولا عنصريتكم السابقة ، ! ، وهنا يعلق "
الناصب " على كلام فضيلته بقوله :" ففضيلته يرى أن قتال اليهود هو لأجل
قطعةٍ من الأرض إذا خرجوا منها ؛ فقد كفى الله المؤمنين القتال".
وهنا لا أدري ماذا أقول للناصب على هذا الفهم العقيم للأمور ، وإذا كان هو بهذا
الفهم فأين هو عن أمم النصارى التي في شتى بقاع الأرض، وكذا غير اليهود والنصارى
من الأمم ؟ وأي أمة من أمم المسلمين هي التي ستخوض حرباً ضد هذا العالم كله ؟!!
وأين توقيع الأمم الإسلامية على المواثيق الدولية واعترافهم للشعوب بحقهم في العيش
أمنيين في أوطانهم ، وذلك الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار رقم
6225 في دورته الخامسة والعشرين ؛ حيث أعلن المبادئ التالية :
مبدأ امتناع الدول في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة ، أو استعمالها
ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي نحو آخر يتنافى مع
مقاصد الأمم المتحدة .
مبدأ فض الدول لمنازعاتها الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يعرض السلم والأمن
الدوليين ولا العدل للخطر .
وقد وقعت الدول الإسلامية على هذا الميثاق ، وصارت في ضوء هذا التوقيع ملتزمة
بالدفاع عن نفسها ، لا الهجوم على الغير ، ولم يكن ذلك التوقيع فرضاً عليها ولا
كرهاً ، وإنما كان برغبة وإرادة صحيحة واختيار وهي بهذا التوقيع قد اختارت أن
الجهاد الذي يفرض عليها هو الذي تدعو إليه الحاجة لدفع العدوان عنها ، وليس أن
تكون هي البادئة .
(5/117)
والآن نريد أن
نبين الخلاف الفقهي حول قتال الكفار هل هو لكفرهم أو لحربهم ، والسبب في اختلافهم
يرجع إلى آية من كتاب الله ، وحديث من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛
فأما الآية فهي قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا
إن الله لا يحب المعتدين } فهذه الآية تبين أن القتال أولاً إنما أبيح لمن يقاتل ،
فقيل : الآية باقية على عمومها ، ولم تنسخ بقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر
الحرام فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } بل كانت لها في حكم الاستثناء وهي محكمة ،
فكأنه يقاتل منهم من قاتل ، وأما من لا طاقة له على القتال فلا يقتل إن قدر عليهم
، وعليه فلا يقتل الضعفاء كالشيخ الفاني ، والأعمى ، والمعتوه ، ، وأصحاب الصوامع
المنقطعين للعبادة والزمنى ، وكذلك النساء والصبيان بإتفاقٍ ما لم يقاتلا ، وإن
اختلف في علة منع قتلهم ، هل هي نفس علة عدم الإطاقة للقتال ، أو لكونهم أموالاً
للمسلمين ، وذلك قول " الشافعي " ؛ إذ أن العلة الموجبة للقتل عنده إنما
هي الكفر ؛ فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار .
بينما هي عند من لم ير قتل من ذكرنا ليست إلا إطاقة القتال ، ومن ثم استثنى من
القتل من لم يطق القتال ،وكذا من لم ينصب نفسه إليه كأصحاب الصوامع ، والحراث ،
والأجراء ، وهو قول " الجمهور " .
(5/118)
وأما الحديث
فهو ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن قتل النساء والصبيان ، وتعدد
الروايات في هذا المعنى ، منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا
تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا " الحديث رواه أبو
داود عن " أنس " ، وكذا حديث رباح بن ربيعة وفيه " أنه خرج مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ غزاها فمر رباح وأصحاب الرسول - صلى الله
عليه وسلم - على امرأة مقتولة ؛ فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال :
ما كانت هذه لتقاتل ، ثم نظر في وجوه القوم ؛ فقال لأحدهم : الحق بخالد بن الوليد
فلا يقتلن ذريةً ولا عسيفاً ولا امرأةً " وكذا حديث ابن عباس وفيه نهيه - صلى
الله عليه وسلم - عن قتل أصحاب الصوامع فهذا أيضاً في حكم المستثنى من قوله - صلى
الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "
الحديث ، وهو يفيد قتل كل مشركٍ سواء كان راهباً أو غيره وقد أجاب " ابن
تيمية " – رحمه الله – عن قول " الشافعية " في إخراج المرأة من
جواز القتل بأنها صارت سبياً للمسلمين بأنها إنما صارت سبياً لحرمة دمها ، ولا
يقال حرم دمها لكونها صارت رقيقة لأن في هذا دوراً حيث علل الاسترقاق بحرمة الدم ،
وعلل حرمة دمها باسترقاقها ومصيرها مالاً ، ولا يقال أيضاً لأن العلة هي إمكان
استرقاقها وأن تصير مالاً ؛ إذ أنه يجاب عنه بأن يقال : هذه العلة موجودة في
الرجال ؛ فيمكن استرقاقهم ولهذا يخير الإمام في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن
والفداء ، ولا يقال أيضاً : إنما يسترق الرجل إذا أمنت غائلته ، والمرأة مأمونة ،
وذلك لأنه يعود به الأمر جذعاً ؛ فيقال : عاد الأمر إذن إلى خوف الضرر فقتل من لم
يؤمن ضرره على الدين وأهله ، ومن أمن ضرره على الدين وأهله لم يقتل ، وعليه يقتل
الرجال لأنه لا يؤمن ضررهم غالباً ، ولا يقتل النساء لأمن الضرر منهم غالباً ؛ فإن
قاتلن
(5/119)
ولو بالرأي ،
أو آذين ولو باللسان قتلن ، وكذا لم يقتل من أمن ضرره من الرجال . وبهذا التخصيص
أخرج " الجمهور " الأصناف المذكورة من القتل لعدم وجود علة الامتناع
منهم التي هي سبب القتل .
وهذا هو ما يستحق الوقوف عنده ؛ فيقال : ما المراد بعلة الامتناع ؟ .
وهنا جوابان : أحدها : هو قتالنا متى أردنا الدعوة إلى الله تعالى وتمكين
المستضعفين من رفع شعار دينهم ، ويؤيد هذا المعنى ترك قتل من لا قدرة له على
الممانعة ممن لم يطق القتال وكذا من لم ينصب نفسه له ، وهو ما يبين أن القتال ليس
مقصوداً به الكفار لأجل كفرهم ، وإنما لأجل قتالهم ، وعليه يكون حكم الآية: {
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } ليس منسوخاً وأنها كالاستثناء
والتخصيص لقوله تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية ، وهذا على رأى
القائلين باحتفاظ الخاص المتقدم بخصوصه مع العام المتأخر ، وهو أحد قولى
"الحنابلة ".
وعلى هذا القول يكون الممتنع هو من يقاتلنا إذا أردنا نشر دعوة الإسلام أو يحول
بين الناس وبينه وإلا يكونوا ممتنعين ، ومثل ذلك مثل ما كان من بلاد " الحبشة
" ؛ إذ لم تمنع أهل الإسلام من إظهار دينهم ، أو الدعوة إليه ، فلم يكن من
المسلمين قتال لأهلها .
(5/120)
فالشأن مع
هؤلاء أن لا يبدأوا بعدوان لكونهم مسالمين لأهل الإسلام ممتنعين عن الأذى والعدوان
فشأنهم كالمعاهدين بلا جزية ، وقد قال " ابن تيمية " – رحمه الله – بأن
الصحيح : أن العهد المطلق جائز ، ولا يقال بأن قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } يدل على النهي عن
مهادنة الكفار بغير جزية وصغار خلافاً لما كان عليه الحال في أول الأمر حال ضعف
الإسلام ؛ إذ أن محله فيمن حارب ؛ إذ أن القتال كان لأجل الحرب ، ولذا يقول "
ابن تيمية " – رحمه الله – معقباً ذلك : فكل من سالم ولم يحارب لا يقاتل ،
سواء كان كتابياً أو مشركاً" .
خاصةً وإن آية القتال التي نزلت بعد نبذ العهود ، وهي قوله تعالى : { وقاتلوا
المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } ، فكان فيها ذكر القتال لأهل الحرب خاصة .
(5/121)
ولو كان الكفر
موجباً للقتل لم يجز إقرار كافر ولو بجزيةٍ وصغار ، فثبت بذلك أن مجرد الكفر ليس
موجباً ، وإنما الموجب هو الكفر المغلظ ، وتعليظه تارة بردته عن الإسلام ، وتارةً
بحرب صاحبه فإذا كان بسبب حربه كانت الجزية والصغار عليه لدفع شره وعدوانه ، وصده
الغير عن دين الله ، وهو شر يزول بالصغار وهو قبوله لأحكام الإسلام وإجرائها عليه
، والجزية التي يستعين بها أهل الجهاد ، فيقاتل بها المسلمون ويحفظون دمه وماله من
عدوه ، وذلك من تمام الإحسان إليه ، وأما العهد فبه يكف يده ولسانه عن الأذى لأهل
الإسلام ، ولهذا لا يقال إن الجزية والصغار كانت جزاء كفره ، لأن جزاء كفره ، إنما
هو نار جهنم خالدين فيها أبداً ، ، و القتال لم يكن على مجرد كفره ، وإنما أريد به
دفع شر وعدوان ، وصده عن سبيل الله تعالى ، وأما إذا كان بسبب ردته فإن المرتد
يقتل وإن كان عاجزاً عن القتال بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال
فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء "كأبي حنيفة" و " مالك" و
" أحمد " وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمه
الله – كما هو ظاهر في رسالته ، وذلك لقوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم } ، وهو تعليق الحكم بالأمر بالقتال على كونهم يقاتلون ، فدل على أن هذا
علة للأمر بالقتال ، وتأكد ذلك بقوله بعده " ولا تعتدوا " ، والعدوان هو
مجاوزة الحد ، فكان دليلاً على عدم قتال من لم يقاتلنا ؛ لأنه عدوان ، قال "
سعيد بن جبير " و " أبو العالية " و " ابن زيد " :"
ولا تعتدوا " : لا تقاتلوا من لم يقاتلكم ويرشد إليه قوله أيضاً بعد ذلك {
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فدل على عدم جواز الزيادة ،
وهو متضمن المنع من البداءة ، لكونها في معنى الزيادة ، وأولى . ولذا قال تعالى :
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله } ، فكان القتال منعاً لفتنة المسلم
عن دينه وهو أشد من
(5/122)
القتل كما في
قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } ، ومن ثم شرع القتال دفعاً لتلك الفتنة
إبطالاً لسلطان الكافرين على المؤمنين وذلك الذي يوجب قتالهم حتى لا يفتنوا
المسلمين عن دينهم ، ولذا قال تعالى : { حتى لا تكون فتنة } ، وذلك يحصل بعجزهم عن
القتال وأدائهم الجزية فيكون بذلك " الدين لله " لظهور كلمة الإسلام .
وأما دعوى نسخ هذه الآية بقوله تعالى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } فهو مردود من
وجوه :
أحدها : أن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل ، ولا دليل على كون هذه ناسخة
ثانيها : أن هذا جرى متصلاً بالأول ؛ إذ هما في اتصالٍ فالضمير في " واقتلوهم
" عائد على الذين يقاتلون المؤمنين ، ويكون بذلك المعنى أن من قاتل المسلمين
يقاتل في كل حالٍ ، ولا يقتصر في قتاله على حال المسايفة فقط ، وهو ظاهر ، وقد جوز
بعضهم تسمية مثل ذلك نسخاً لكونه رفع توهم وإزالة لظن ، وحقيقته أنه بيان وليس
نسخاً وإن جازت فيه التسمية .
ثالثها : ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن قتل من لا يقاتل ، وليس
لكونه مالاً للمسلمين وقد مر ذكر هذه الآثار كلها ، وهي تدل على منع قتل من لا
يقاتل.
وأما الدعوى بأن قوله تعالى { ولا تعتدوا } " منسوخ " فهي ضعيفة لأن
الاعتداء إنما هو ظلم والله تعالى لا يبيح الظلم قط ، إلا ان يراد بالنسخ البيان
على نحو ما مر ، فيكون بيان الاعتداء المحرم الذي قيل فيه ما سبق أن ذكرناه عن
" سعيد بن جبير " و " أبي العالية " و " ابن زيد "
انه : لا يقاتل من لم يقاتل فذلك الذي يدعى نسخه بآية السيف ، وهي اسم جنس لكل آية
أمر فيها بالجهاد ، وهم يريدون بها في هذا الموضع قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم } ؛ فالجواب عن ذلك أيضاً من وجوه :
أحدها : ان دعوى النسخ تفتقر إلى دليل ، ولا دليل .
(5/123)
ثانيها : أنه
لا تناقض حتى يدعى النسخ ، وذلك لإمكانية الجمع بينهما إذ أن هذه لا تناقض تلك ،
إذ أن هذه قد جاءت مطلقة ، والأولى قد جاءت مقيدة ، وإنه قد خرج من إطلاق هذه من
كان له أمان ، ومن كان له عهد ، فلا يجوز قتاله ، فكذلك إذا لم يكن من أهل القتال
حيث لم يصرح في المطلقة بقتله .
ثالثها : ما سبق ذكره من الآثار الدالة على منع قتل من لا يقاتل .
فإذا علم هذا ؛ فإن " ابن تيمية " – رحمه الله – ذكر في رسالته عن جمهور
السلف والخلف : "أنا لا نكره أحداً على الإسلام ، وإنما نقاتل من حاربنا ؛
فإن أسلم عصم دمه وماله "
(5/124)
وقد ظن قوم أن
الجهاد الطلبي لمن لم يحاربنا وسالمنا ، وليس ذلك صحيحاً ؛ إذ أن المسالم لنا الذي
لا يريد قتالنا ، ولا يقف في وجه الدعوة إلى الله ، لا يكون منه ضرر متعد يجب دفعه
بقتاله، وإنما ضرره على نفسه فهذا لا يبدأ بقتال ، وأما من منع الدعوة إلى الله ؛
فليس شرطاً لقتاله أن يكون قد بدأنا بقتال ؛ فسواء كف عنا أو لم يكف قاتلناه لدفع
ضرره عن المسلمين الواقعين تحت سلطانه حتى لا تكون فتنة ويكون الدينُ كُلُّه لله ،
وقد أخطأ بعضهم حين ظن أن ما نسب إلى "ابن تيمية " في الرسالة المذكورة
لا يصح نسبته إليه ، وراح ينقل عبارات عن " ابن تيمية " من سائر كتبه
يحسب أنها تناقض ما هو مذكور في تلك الرسالة المنسوبة إليه منها ما ورد في كتابه
" الصارم المسلول " ، وفيه :" لما نزلت " براءة ، أمر النبي -
صلى الله عليه وسلم - أن يبتدي جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا أو
لم يكفوا " ، وليس فيها أدنى معارضة ؛ فمن المعلوم أن لفظه جميع هنا خرج من
تحتها أصناف اتفاقاً وهم المستأمنون والمعاهدون ، وبقى ما هو متنازع فيه وهم
المسالمون وهم لا يقال فيهم سواء كفواً أو لم يكفوا ، وإنما هذه تقال في أهل الحرب
؛ فهم يقاتلون بكل حال سواء كفوا أو لم يكفوا حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون
، وقد أوضح " ابن تيمية " – رحمه الله _ هذا الأمر في رسالته تماماً ،
حيث قال في دحض شبهة الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " الحديث فيه كما قال
" ابن تيمية " ذكر الغاية التي يباح لها القتال ، وليس معناه قتال كل
أحدٍ إلى هذه الغاية ، ثم قال :" بل سيرته أن من سالمه لم يقاتله " ،
وهذه هي السيرة تشهد بما قاله " ابن تيمية " بجلاء ، فقد حارب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - من رد دعوة الإسلام ومانَعَها من الروم ، وحاربهم المسلمون
من بعده ، وكذلك " الفرس " ،
(5/125)
وكان منهم
تمزيق كتابه - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا عليهم ، وحاربهم أيضاً المسلمون من
بعده ، وتحقق فيهم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يحارب النبي - صلى
الله عليه وسلم - ولا المسلمون من بعده المسالمين ، وإن لم يؤمنوا فظن البعض أن
" ابن تيمية " يقر بجهاد الطلب للمسالمين في غير محله ، وما ذكروه في
محال كثيرة فمحله المحاربون ؛ إذ أن هؤلاء لا ينتظر بدؤهم بالقتال بل لنا أن
نبادئهم ؛ لأن هؤلاء يُقاتلون اتفاقاً كفوا أو لم يكفوا ولم يخالف في ذلك أحد ،
ولا " ابن تيمية " أيضاً ، وقد أخطأ من ظن أن القتال لا يكون إلا لمن
قاتل فعلاً ، وإن عادى وآذى المسلمين ومنعهم من حرية إظهار العقيدة وإعلان الشعائر
؛ لأن أولئك يقاتلون بكل حالٍ كما أسلفنا .
(5/126)
وهنا ينبغي أن
نحرر موضوع النزاع بين القائلين بجهاد الدفع فقط ، وذلك بتحديد ما يقصدونه بالدفع
؛ فإن كان ما يقصدونه به دفع أذى الكفار وإن لم يقاتلوا ، طلباً لرد ما في نفوسهم
من الشر والأذى للمسلمين . ومنعهم عن ذلك بإلحاق الصغار بهم وإنزالهم على الجزية
عن يدٍ وهم صاغرون كان ذلك المعنى منهم مقبولاً ، وكان موافقاً لقول عامة أهل
العلم المثبتين لنوعي الجهاد الدفعي والطلبي ، ويكون كلاهما بهذا المعنى دفاعاً عن
الإسلام ، وليس دفاعاً محضاً ؛ لأن الهجوم فيه كان بقصد الدفاع والتأمين كما كان
من جهاد الطلب الذي كان منه - صلى الله عليه وسلم - لكل من حارب الله ورسوله ، وإن
لم يبادر بحمل السيف على أمة المسلمين ، وهؤلاء المحاربون إذا تركوا حربهم فإنما يتركونها
بالمسالمة وبذل الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، وهو ما قرره " ابن تيمية "
عن الأكثرين : أنه يجوز مهادنة جميع الكفار بالجزية والصغار ، أي : المحاربون ؛ إذ
يقول بعد ذلك " ابن تيمية " : " وهذا باب الأصل الذي قال به "
الجمهور " وهو أنه كان القتال لأجل الحرب ؛ فكل من سالم ولم يحارب لا يقاتل ،
سواء كان كتابياً أو مشركاً " ، وهكذا أيضاً قال " ابن القيم " حيث
قال :" وهذه كانت سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أهل الأرض ، كان
يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه أو يهادنه ، أو يدخل تحت قهره بالجزية ، فهكذا
بين شأن سيرته - صلى الله عليه وسلم - مع من حاربه ، إنه يقاتله ، وسواء في ذلك
كونه مبتدئاً أو مكافئاً حتى يتحقق أحد أمور ثلاث ، وهي الإسلام أو المهادنة ، أو
الجزية ، وذلك حال عجزهم عن حرب أهل الإسلام فيسالموهم ويبذلوا لهم الجزية عن يدٍ
وهم صاغرون ، وكما سبق أن ذكرنا أن الجزية والصغار لم يكونا جزاء كفره ، بل لحربه
كسراً لشوكته ، وأملاً في إسلامه فهذه الأحوال الثلاثة لا خلاف فيها ، ولو سمى ذلك
باسم جهاد الدفع فقط لم يكن فيه لنا مشاحة ؛ إذ هو اصطلاح
(5/127)
خاص به قد
عرفناه ، ولا يترتب عليه تغيير الأحكام المذكورة ؛ فهو على كل حال دفاعاً عن
العقيدة .
وأما إن قصد القائل بأن الجهاد في الإسلام ليست إلا دفاعاً ضد من بدأ المسلمين
بالقتال فعلاً ؛ فهذا هو القول المردود الذي ترده الأحاديث النبوية ، والسير
الثابتة المروية ، والآيات القرآنية ، فهؤلاء قصروا أهل الحرب على من أشعل الحرب ،
أو عاون الحربيين ، أخذاً من قوله تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في
الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } ، وذلك القصر قاصر كما
هو معلوم .
فإذا علم ذلك بان لنا الجواب الأول عن علة الامتناع التي هي سبب قتل الكافر في قول
" الجمهور " .
وأما الجواب الثاني : أن علة الامتناع إنما هي الامتناع من أن تنالهم أحكام
الإسلام ، ولذلك يقاتلون حتى يكون الدين كله لله تعالى ، وأهل هذه المقالة يرون أن
الامتناع يظل قائماً متى لم يرضوا أن تنالهم أحكام الإسلام ، وإن خلوا بين الناس
والإيمان ، ولم يمنعوا من أسلم منهم عن إسلامه ، أو يفتنوه عن دينه ، وإنما كان
كفرهم على أنفسهم ، وضررهم غير متعد ، فهؤلاء ، وإن سالموا المسلمين ولم يؤذوهم ،
ويلاحظ أن أهل هذه المقالة لا يرون فرقاً بينهم وبين أهل الحرب لمجرد امتناعهم عن
قبول أحكامنا على أنفسهم ، ولذا وجب قتالهم لكي يكون الدين لله ، فينزل أولئك
المسالمون على أحد الأحوال الثلاثة التي ينزل عليها الحربيون سواءً ، وهي الإسلام
، أي قبول أحكامه ، أو المهادنة حين يعجز المسلمون عن الأولى ، أو الجزية عن يدٍ
وهم صاغرون ، حين يعجز أولئك عن دفعنا ، ويرضوا بالجزية لدفعنا عنهم ، رغم أنهم
ليسوا أهل حربٍ لنا ، وهم أهل سلم وموادعة .
(5/128)
ويسمونهم رغم
سلمهم لنا وموادعتهم أهل حرب ، وهم غير ممتنعين من قبول دعوة الإسلام والنظر فيها
، وغير ممانعين لمن أسلم منهم ، ولا فاتنين له عن دينه ، ومع ذلك فأهل هذا الفريق
ينقسمون إلى قسمين : قسم يرى أن هؤلاء إن كانوا غير كتابيين ، وليس لهم شبهة كتاب
كالمجوس فإنهم يقاتلون حتى يسلموا ، ولا يقرون على جزية وصغار ، آخذين في ذلك
بمذهب " الشافعي " و " أحمد في المعتمد من مذهبه ، ثم اختلفوا بعد
ذلك في جواز استرقاقهم على قولين ، هما روايتان عن " أحمد " .
والقسم الثاني : يرون أنهم وإن كانوا غير كتابين إلا أنهم يقرون بجزية وصغار ،
وذلك لأن كل الكفار في ملة الكفر شيء واحد ، وإن جاز ذلك للكتابيين جاز لغيرهم ،
ولم يختص بهم ، وذلك أخذاً بمذهب " مالك " و " أبي حنيفة " ،،
و " الأوزاعي ، و " أحمد" في إحدى الروايتين ، وهي خلاف معتمد
مذهبه ، وإن ذكر " ابن تيمية " أنها المنصوصة عنه صريحاً ، وإن كانت
الأخرى هي اختيار " الخرقي " وغيره ، وكما ذكرنا هي المعتمدة في مذهبه .
فإذا علمنا ذلك ، كان ينبغي لنا أن ننظر في حقيقة بنى عليها أهل هذا " المذهب
رأيهم ، وهي أنه لا توجد دار أخرى سوى دار الحرب ، ودار الإسلام ، ومن ثم كانت دار
الحرب أمام الخيارات الثلاثة السابق ذكرها حتى يكون الدين كله لله تعالى ؛ إذ أن
الدين لا يكون كله لله تعالى حين لاتنالهم أحكام المسلمين ، أو تضرب عليهم الجزية
، وهم في دعواهم تلك غفلوا عن حقيقتين :
(5/129)
إحداهما : أن
الكتابيين في دار المسلمين لا تنالهم أحكام المسلمين فيمالا يترافعون فيه إلينا ،
ولا فيما يحل لهم من مذهبهم الذي أقروا عليه : فيصح بيعهم وشراؤهم لما حرمه شرعنا
، ولا تقام عليهم أحكامنا فيما يقترفونه مما فيه الحد ؛ فيعزرون ولا يقام عليهم
الحد الشرعي فيما لم يقع منهم عدواناً على المسلمين ينبذ به عهدهم فيسألون عن كل
ما فيه حق للعباد ، ولا يسألون فيما يتعلق بحق الله في قول الأكثر فإن كانت لا
تنالهم أحكامنا في أرضنا وتحت سيادتنا في الكثير من معاملاتهم إلا بما يترافعون
فيه إلينا فكيف إن كانوا ليسوا كذلك ، فهم في سعة من الترافع إلينا والتحاكم إلى
شرعنا ، وليس لنا إجبارهم على ذلك في بلادنا ، أفيكون لنا ذلك في بلادهم ؟ !، ومن
ثم فلا غضاضة في أن تكون كلمة الله هي العليا بمعنى أن تكون هي الغالبة وذلك ظاهر
حيث يسمح بقبول دعوة الإسلام في بلاد الكفار ، ولا يسمح بقبول دعوات الكفار في
بلاد المسلمين ، ومن هنا تحقق لكلمة الله تعالى العلو والغلبة ، وهو أمر واضح ،
وذلك بخلاف من تمسك بضرورة نيل أحكام المسلمين لهم ، حتى يكون الدين كله لله ، وقد
بينا في ذلك أنه لا يكون أيضاً فيه الدين كله من حيث المعنى الذي ينشده ، فكان ما
طلبه بقوله لم يحصل له أيضاً به ، فإذا كان كذلك فلماذا لا نقول : إن الجهاد إنما
شرع لنشر دعوة الإسلام ، فمن منع ذلك قوتل كما قال " ابن تيمية " .
ثانيهما : أن الجزية يجوز ترك الإقرار عليها مع المحاربين إذا كانت المصلحة
مصالحتهم على وضعها جاز ذلك ولم يكن ذلك منعاً لكون الدين كله لله ، حيث اقتضته
المصلحة ، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول آية الجزية يقر
المشركين وأهل الكتاب بلا جزية كما أقر اليهود بلا جزية واستمروا على ذلك إلى أن
أجلاهم عمر ، وكان في ترك وضع الجزية عليهم مصلحة للمسلمين لما كان من حاجتهم
إليهم .
(5/130)
فإذا جاز ذلك
مع المحاربين الذين لما نزلت آية الجزية لم يعقد لهم عهد إلا بالصغار والجزية ،
ورفع بذلك ما كان يعقد لهم من العهد بلا جزية ؛ فلأن يجوز مع غير المحاربين ممن لا
يمانعوا المسلمين عن نشر دعوتهم ولا يعادونهم بحرب ، ولا يعاونون من يحاربهم أولى
، ومصلحة المسلمين في ذلك ظاهرة .
وشأن أهل الإسلام مقابلة الإحسان بالإحسان ، حتى إذا ترك الحربيون تعشير تجارتهم
تركوا هم كذلك تعشير تجارة الحربيين ، فإذا ترك الناس قتالهم وحربهم ولم يعينوا
عليهم عدوهم كان رد المسلمين عليهم اللائق بما كان منهم كف الأذى عنهم ومسالمتهم ،
وهو ما حكاه " ابن تيمية " وكذلك " ابن القيم " في بيان سيرة
النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها كانت مسالمة من يسالمه ، ومحاربة من يحاربه
، وهذا يقودنا إلى البحث من جديد في أنواع الديار ، فنقول :
أنواع الديار :
فإذا عُلم ما ذكرناه احتاج الأمر أن نعود إلى الحديث عن قسمة الديار إلى دار حرب ،
ودار إسلام بمعنى هل تنقسم الدنيا باعتبار الحرب إلى دارين هما ما ذكرناهما ، أم
أنها تنقسم إلى أكثر من ذلك فبالنظر إلى ما قرره جمهور الفقهاء ، فإن الدنيا تنقسم
باعتبار الحرب ؛ إذ أنها المؤثرة في هذا التقسيم إلى دار إسلام ، ودار حرب ،
ويتغير وصف الدار تبعاً لحالة الفتح من انتصار للمسلمين ، أو الهزيمة وانكسار
المسلمين وعلى هذا التقسيم تفرعت العديد من أحكام الشريعة بسبب الحرب الدائرة بين
المسلمين وأعدائهم حيث يقصد المسلمون نشر الشريعة في كافة أنحاء الدنيا ، ويتلازم
عندهم الدين والدولة في ما يعرف بدار الإسلام ، ومن ذلك ما قاله الإمام :"
أبو يوسف " رحمه الله حيث قال :
" تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها ، وإن كان جل أهلها من
الكفار ، وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها ، وإن كان جل أهلها من
المسلمين ".
(5/131)
هو ما اعتمده
" الحنفية " في تحديد الدارين ، أن جعلوا العبرة بظهور الأحكام .
وباعتبار آخر ، فإن الضابط عند بعضهم هو بالرجوع إلى الحاكم وديانته والحكم ونوعه
، وذلك مأخوذ من تفسير " الرافعي " للضابط حيث قال : "ليس من شرط
دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون ، بل يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه" .
وقيل : بظهور شعائر الإسلام فيها ، وغلبة المسلمين عليها .
وفي هذا يقول " ابن حزم " مبيناً سبب الخلاف : لأن الدار إنما تنسب
للغالب عليها ، والحاكم فيها، والمالك لها " .
بينما ينقل " ابن القيم " رحمه الله عن الجمهور أن دار الإسلام هي
:" التي نزلها المسلمون ، وجرت عليها أحكام الإسلام " ، ومن ثم فمقابلها
يقول عنه إنها ليست دار إسلام ، ولم يقل عنه دار حرب حيث تشتمل عبارته على دار
الحرب وغيرها ؛ إذ يقول : " وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام
وإن لاصقها " .
فهذه التعريفات تدور حول ثلاثة أشياء أساسية ، وهي : جريان الإحكام ، وتسلط الإمام
، ووجود بعض المسلمين ، فهذه هي الأركان الأساسية لدار الإسلام .
ويعد من علامات كونها دار إسلام مع هذه الأركان الأساسية حصول الأمن للجماعة
المسلمة فيها ، إذ أن ذلك هو الترجمة الصادقة لظهور أحكام الإسلام ، ووجود سلطة
الإمام ، والمراد بالأمن هو عدم الحاجة إلى عقد يوفر ذلك الأمن كعقد الذمة للذميين
في الدار الإسلامية ، وكذا عقد الأمان للحربيين إذا دخلوا دار الإسلام ، وعلى ذلك
فإذا فقد شرط من هذه الشروط الأساسية انتفت دار الإسلام ، وتحققت دار الحرب على
قول جمهور أهل العلم .
وهنا يلاحظ أن التقسيم المذكور كان مبنياً على واقع الحرب للدول غير المسلمة تجاه
الدولة المسلمة ، وكانت هذه الحرب متمثلة في امتناعهم عن قبول دعوة الإسلام ،
والتخلية بين من أراد الإسلام وما أراد .
(5/132)
وحيث لم يتمثل
في الواقع دولة تسمح بنشر الدعوة ، ولا تعادي دولة الإسلام ، أو تفتقد بعض الشروط
المذكورة ومع ذلك تظل دار إسلام ، فقد كان ذلك هو التقسيم الواقعي للديار ، وليس
التقسيم الفرضي ، ولذا لما أظهرت الوقائع أحوالاً متباينة وقع اختلاف الناس فيها ،
من ذلك ما وقع فيه الصلح بين المسلمين والحربيين على أن الأرض لأهلها ، وعليهم
الخراج ، فذلك مما اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال محكية ، وهي أنها : دار إسلام
، وبذلك الصلح صار أهلها أهل ذمة ، وهو ما ذهب إليه الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة
والمالكية .
أو أنها : دار حرب ، وأن هذا الصلح لا يغير من حالها ، وعلى ذلك فإن الكفار في هذه
الدار يقرون بموجب الصلح على كفرهم ، وبغير ضرب جزية عليهم ، وقد ذكر ذلك "
ابن رجب " الحنبلي .
أو أنها : ليست دار إسلام ، ولا دار حرب ، وإنما هي دار عهد ، أو دار صلح ، وهو ما
قال به من " الشافعية " الإمام " الماوردى " ، ومن "
الحنابلة " القاضي " أبو يعلي " حيث ذهبا إلى أن : الخراج الذي
يؤخذ عنهم إنما هو في حكم الجزية ، ولذا متى أسلموا سقط ، ولا تصير أرضهم بذلك
الخراج أرض إسلام ، وتكون دار عهد ، ولهم بيعها ورهنها ، وإذا انتقلت إلى مسلم لم
يؤخذ خراجها ، ويقرون فيها ما أقاموا على الصلح ، ولا تؤخذ جزية رقابهم ، لأنهم في
غير دار الإسلام .
وهذا الكلام منهما واضح في ان هذه الدار تختلف عن الدارين السابقتين ، وأي محاولة
لطرح آخر غير مناسبة لما يلي :
أنه وصف ما يدفعونه بالخراج ، وأنه ليس له حكم الجزية إلا من حيث أنه متى أسلموا
اسقط عنهم وكذلك فقد صرح بأنه لا تضرب جزية على رقابهم
(5/133)
أنه صرح بأن
أرضهم لا تصير دار إسلام ، ولو كان ما يدفعون له حكم الجزية لكانت دار إسلام وأنها
ليست بدار حرب لما وقع بينهما وبين المسلمين من الصلح وإقرارهم على ما صولحوا عليه
من غير مدة ما أقاموا على الصلح ، وقد عرفنا أن دار الحرب يكون بينها وبين
المسلمين أحد ثلاثة أحوال ، وهي المهادنة أو الجزية والصغار ، أو الإسلام ، وليس
من بين ذلك المعاهدة ما أقاموا على الصلح ، وهذا كله يبين انها تختلف في حكمها عن
الدارين .
وقد جرى في التاريخ مثال لهذه الدولة ، وهو بلاد النوبة ، وذلك حيث إن أهل النوبة
مكثوا قروناً دون أن يتمكن المسلمون من فتح بلادهم ، وكان عبدالله بن سعد قد عقد
معهم عهداً ليس فيه جزية حين سألوه الصلح والموادعة ، وشرط عليهم إهداء ثلثمائة
رأس في كل سنة مقابل أن يبذل المسلمون لهم طعاماً بقدره.
وأمضى ذلك الصلح عثمان رضي الله عنه ، والولاة والأمراء من بعده ، ولم تكن تلك
المعاهدة محددة بزمان حتى إنها استمرت أكثر من ستمائة سنة حتى الحكم الفاطمي لمصر
.
وطيلة هذه المدة فإن النوبة لم تعتبر من دار الإسلام ؛ لعدم نفاذ أحكام الشريعة
فيها ، ولا من دار الحرب اعتباراً لهذه المعاهدة بين المسلمين وأهل النوبة ، ولذا
فهي دار عهد ، وإن لم يضرب عليها خراج ؛ فذلك نظراً لمصالح المسلمين التي راعاها
أئمة المسلمين آنذاك .
(5/134)
ومثال آخر ،
وهو ما وقع بين المسلمين وأهل قبرص حيث صالحهم المسلمون بقيادة " معاوية بن
أبي سفيان " على سبعة آلاف ومائتي دينار كل عام ، ولم يكن ذلك جزية ؛ إذ أنهم
كانوا يؤدون أيضاً إلى الروم مثلها ولم يكن المسلمون يمنعونهم أو يحمونهم من الروم
أو غيرهم ، وكانوا يؤذنون المسلمين بمسير عدوهم من الروم " وكان المسلمون إذا
قصدوا عدوهم مروا عليهم ولم يكن من أهل قبرص التعرض لهم ولا مناصرة عدوهم ، وكان
الأمر على ذلك إلى أن أعانوا الروم على غزوة في البحر بمراكب أعطوهم إياها فغزاهم
معاوية في نفس السنة ، وكان ذلك عام 32هـ ؛ ففتح قبرص عنوة .
وبيان كون أرض قبرص إلى حين فتحها دار عهد ، أن أهلها لم يكونوا أهل ذمة ولم تعتبر
قبرص في ذلك الحين جزءاً من دار الإسلام ، ولم تكن أحكام الشريعة نافذة في بلادهم
، ولم تكن كذلك دار حرب لعهد المسلمين إليها بعدم المهاجمة، وشأنها في ذلك شأن
النوبة إذ امتنعت بسبب مقاومتها ووقفت من المسلمين موقفاً حسناً أدى بهم إلى
المعاهدة .
ومثال آخر : لدار المعاهدة ، هو ما وقع من صلح أرمينية في زمان معاوية بن أبي
سفيان ، حيث أعفاهم من الجزية مدة ثلاث سنين على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف
فارس منهم ، وإذا أغار عليها الروم ساهم المسلمون بنجدتها وإمدادها بما تحتاجه وهو
بهذا الشكل يشكل ما يعرف بدار العهد التي هي خلاف دار الإسلام ، ودار الحرب ، وهي
تجري عند من يقول بالدارين على أحدهما : إما دار حرب ، وإما دار إسلام بشروطها .
(5/135)
وهذه وقائع
كما ذكرنا اختلف الناس في تحليلها بناءً على أن التقسيم المعروف لدار الإسلام ،
ودار الحرب إنما كان قائماً بناء على ما كان من الحروب القائمة على قدم وساق ين
المسلمين وغيرهم ، وذلك أنه كان الشأن الغالب حين يعرض المسلمون دينهم على الشعوب
و يمتنع أهلها عن قبوله وعن التخلية بين الناس وبينه ، فكانوا في موقع المحاربين للمسلمين
، ومع ذلك فقد أفرزت الحروب طريقاً إلى المعاهدات غير المؤقتة والتي سمحت بإنشاء
ما يعرف بدار العهد أو المعاهدة ، والتي معها اختفت صورة الحرب ، وحصلت صورة السلم
.
وقد قال" ابن تيمية " رحمه الله في فتوى " ماردين " بما يدل
على اعتبار حصول ما يسمى بالدار الثالثة ، وسماها مركبة وهي التي تأخذ أحكاماً
وسطاً بين الدارين ، وذلك حين سئل في بلد " ماردين " : هل هي بلد حرب أو
بلد سلم؟
فأجاب قائلاً : " وأما كونها دار حرب أو سلم ؛ فهي مركبة ؛ فيها : المعنيان ،
ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا
بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث ، يعامل المسلم فيها بما
يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه " .
(5/136)
فإذا كانت
الحروب قد أوجدت نتيجة لا تنتمي إلى إحدى الدارين ، كان لنا أن ندرك إمكان وجود
هذا القسم قبل الحرب ، وهو ما يجري المجرى السابق ذكره من حيث ارتباطه بالمسلمين
بعلاقة ود وانفتاح على الإسلام بحيث لا يمانع من نشر دعوة الإسلام ، ولا يلزمه
المسلمون بالاحتكام إلى شرعته ، ويبقى الأمر على ذلك ما لم يحدثوا خلاف ذلك من
الحرب للإسلام وأهله ، وهؤلاء الذين ذكرهم " ابن تيمية " - رحمه الله -
بقوله " أهل المسالمة والموادعة " ، وكذلك حينما قال ؛ لأن القتال لمن
قاتلنا ، وقد بينا آنذاك أنه لا يلزم من هذا أن يكون الجهاد رداً على عدوان ، بل
قد يكون ابتداءً وذلك للمحاربين ، فلا يشترط أن نقاتلهم بعد قتالهم لنا ، ولكن متى
تحققنا من امتناعهم عن قبول دعوة الإسلام وحربهم لأهله كان قتالهم سائغاً ولو
ابتداءً ، ونرجو بهذا البيان أن يظهر قولنا من حيث الجهاد الذي هو ضد الكفار كي
تكون كلمة الله هي العليا لمن حاربنا وامتنع من قبول دعوة الإسلام والتخلية بين
الناس وبينه ، ولا يلزم لذلك أن تكون الدول مذعنة لسيطرة الدولة الإسلامية ونفوذها
، وإلا لقوتلت حتى تكون كذلك .
والأمثلة تشهد بوجود بلدان لها هذه الصفة . فلم تكن دار حرب ، ولا دار سلم لعدم
تحقق شروط كل منهما فيها ، ولم يقم المسلمون بغزوها رغم كونها في جوار بلدان
المسلمين وأقرب إليهم من سائر عدوهم ، وهذه البلاد مثل : الحبشة ، والترك .
(5/137)
فأما الحبشة :
فقد ورد فيها ما يدل على عدم اعتبار المسلمين لها دار حرب ، وهي كذلك ليس دار
إسلام لعدم تحقق شروط دار الإسلام فيها ، إذ أن أحكام الإسلام لم تكن نافذة في
بلاد الحبشة ، ومع ذلك فقد وادعها أهل الإسلام ولم يروا مبادءتها بقتال ، وذلك لما
كان بين المسلمين الأوائل وبلاد الحبشة من علاقات طيبة حيث أكرم النجاشي المهاجرين
، ومنعهم من أذى قريش ، وأحسن الرد على كتاب رسول لله - صلى الله عليه وسلم -
فأسلم وذلك في السنة الثامنة من الهجرة ولذا فقد ورد في سنن أبي داود والنسائي
والبيهقي والحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " دعوا الحبشة ما
دعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " ، فقيل : لا يجوز مبادئتهم ، وقيل : الأمر
للرخصة والإباحة وكذا روى النسائي " و " البيهقي " و "
الطبراني " عن " عبدالله بن عمر " رضي الله عنهما عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال :" اتركوا الحبشة ما تركوكم ؛ فإنه لا يستخرج كنز
الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة " ، وقال " الحاكم " : هذا حديث
صحيح الإسناد ، " ولم يخرجاه " ووافقه " الذهبي " .
ولذا فقد قال الإمام " مالك " رضي الله عنه :" لا يجوز ابتداء
الحبشة بالحرب ولا الترك " وكان يقول : لم يزل الناس يتحامون غزوهم ، وقد بين
" ابن رشد " أنه قد انفرد بذلك " مالك " فاستثناهم من الذين
يحاربون وبهذا يظهر لنا أن انقسام الدنيا إلى دار إسلام ودار حرب إنما ذلك باعتبار
الغالب ، وإلا فهناك نوع ثالث ليس من الفريقين قد يترك حربه ابتداءً لموادعته ، أو
ينتهي به الأمر لترك حربه إنتهاءً ، وموادعته لدخوله في حياد مع المسلمين وانقطاعه
عن عداوتهم وبذلك تنحسم فتنتهم فلا يكون من شر لكفرهم إلا على أنفسهم ، ومن ثم
فنحن الآن أمام حالتين :
(5/138)
أولاهما :
الدول التي لا يعتدى عليها ابتداءً وهي الدول التي لا تقاتل أهل الإسلام ولا
تناصبهم العداء ولا تنصر عليهم عدوهم ، ولا تفتن أهل الإسلام عن دينهم ، بل توفر
الحماية والأمن لهم وقد ضربنا لهم مثالاً بالحبشة وما ورد فيها ، وكذا ما ورد في
الترك فإنه مثله .
قال " الخطابي " : إن الجمع بين قوله تعالى " قاتلوا المشركين كافة
" وبين هنا الحديث أن الآية مطلقة والحديث مقيد ؛ فيحمل المطلق على المقيد
ويجعل الحديث مخصصاً لعموم الآية كما خص ذلك في حق المجوس ؛ فإنهم كفرة ، ومع ذلك
أخذ منهم الجزية لقوله - صلى الله عليه وسلم - " سُنوا بهم سنة أهل الكتاب
" ، وذلك التخصيص الذي ذكره عند من يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وهو قول
الجمهور ، وأما عند من لا يرى جواز تخصيصه بالآحاد إلا إذا سبق تخصيصه بنحو
المتواتر أو بالإجماع فيجوز أيضاً لسبق تخصيصه بالذمي باتفاق ، وقيل : يحتمل أن تكون
الآية ناسخة للحديث .
وقول " الخطابي " بحمل المطلق على المقيد أولى ، وأليق بالقواعد إذ
النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال كما هو معلوم فعلى القول باستثنائهم من الأمر
بالقتال ؛فكما مر ذكره إما لكون الترك رخصة ، أو لكونه واجباً فلا يجوز مقاتلتهم
ابتداءً وعلى الأخير فيحتمل ذلك لموادعتهم حيث إن الإتيان بغير المضارع لغة قليلة
في يدع ، فلربما كان لفظ الحديث وادعوا الحبشة ، وهو بمعنى سالموا الحبشة ما
سالموكم ، وهي بهذا المعنى تكون صريحة في ما نحن بصدده من مسالمة وموادعة من
سالمنا ووادعنا ، وإنما يكون قتالنا لمن منعنا من إظهار دين الله تعالى وقاتلنا
إذا أردنا ذلك .
فإن قيل إن المسلمين قد قاموا بغزو الحبشة والترك بعد ذلك ؛ فإن الجواب أن ذلك
إنما وقع بسبب نبد كان منهم ثم عاد الأمر إلى ما كان عليه ، فلا يقال إن المسلمين
بادؤوهم بعد بالقتال لكونه عن نبذٍ عهد الموادعة التي هي شريطة المتاركة ، وليس
لكون الأمر للرخصة والإباحة .
(5/139)
فإذا كان
الأمر كذلك مع أهل الحبشة والترك أمكن قياس غيرهم من الشعوب الموادعة المسالمة
عليهم ، وذلك ظاهر قول " ابن تيمية " عن سيرته - صلى الله عليه وسلم -
من أنه كان يسالم من سالمه ويقاتل من قاتله وقد أشرنا من قبل ، أنه ليس معنى ذلك
أنه يلزم أن يكونالعدو هو البادىء بالقتال ، بل متى عادانا وعرفنا فيهم الشر كان
لنا أن نقاتلهم ، وإن لم يبدأونا ، فمن شاء أن يسمى ذلك دفاعياً فلا بأس ؛ إذ لا
حرج في الاصطلاح وقد بينا أيضاً أن القتال يكون هجومياً كما يكون دفاعياً ، ولكنه
يختص في حال كونه هجومياً بأهل الحرب .
وذلك المسلك هو الأولى لما فيه من الجمع بين الأدلة المتعارضة ظواهرها ، بدلاً من
أن نقول نسخت آية السيف ، وهي قوله تعالى : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات الوارد
فيها الأمر بالإعراض عن المشركين والصفح عنهم وتأمر بقتال من قاتلنا وهو معنى قول
" مالك " رضي الله عنه : "لا ينبغي لمسلم أن " يهريق دمه إلا
في حق ، ولا يهريق دماً إلا بحق " ولذا ؛ فقد قال الفقهاء : الأصل في الدماء
الحطر إلا بيقين الإباحة ، وهو ما يشهد لقول القائلين بالحرب العادلة وقد قال
" الفقيه العلامة " ابن الهمام " في قوله تعالى : " وقاتلوا
المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة " ؛ فأفاد أن قتالنا المأمور به جزاء
لقتالهم ومسبب عنه ، وكذا قوله تعالى : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ؛
أي لا تكون فتنة منهم للمسلمين عن دينهم بالإكراه بالضرب أو القتل "
فإن كان الأمر كذلك فلماذا استقر تقسيم الفقهاء للدنيا على أنها دار حرب أو دار
إسلام ؟
(5/140)
السبب في ذلك
هو ما سبق أن ذكرناه أن ذلك كان باعتبار الغالب ، فلم يكن ذلك التقسيم باعتبار
فرضيات فقهية ، وإنما باعتبار واقع العلاقات بين المسلمين وغيرهم ، والتي كانت
الحرب هي الغالبة عليها ؛ إذ أن نار الحروب لم تهدأ ولم تتوقف ، ولذا فقد بينا أن
هناك بلداناً استثنيت من المباغته بالحرب لكونها موادعة للمسلمين ؛ فأمر المسلمون
بموادعتها ، وكذلك فإن هذا التقسيم لم يكن مستنداً إلى كتاب أو سنة وإنما كما
ذكرنا إنما هو مستند إلى الواقع وليس تقسيماً فقهياً ناشئاً عن الافتراضات الممكنة
جميعها . ولذا فقد أفرزت الوقائع ما اختلف الناس فيه على أقوال ، وهو ما يشهد بأن
هذة القسمة ليست ثنائية باعتبار دليل شرعي ، وإنما بالنظر إلى التفسير الواقعي
بالفعل ، وهو ما ذكرنا أنه يقبل إفرازات جديدة ، حيث إن الافتراضات حول أنواع
الديار لم تستقص أحكامها تبعاً لمختلف الأحوال ، وإنما كان يحكم على كل دار بحسب
ما ينشا لها من أحوال أو يتجدد لها .
والذي يؤكد ما ذكرناه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء ؛ إذ هو قول أكثر فقهاء "
المالكية " ، و " الحنفية " وأحد قولي " الشافعية " وأحد
قولي " الحنابلة " وغيرهم من أن مناط القتل هو الحرابة والمقاتلة
والاعتداء ، وليس الكفر ، وخالف في ذلك الشافعية ، والحنابلة في قولهم المعتمد ،
وقد نصر " ابن تيمية " قول " الجمهور " فقال بالقتل ليس لمجرد
الكفر ، وإنما للكفر المغلظ بردة أو حرابة .
وبهذا البيان يظهر أن الحالة الأولى تؤكد عدم اقتصار الدنيا على دار الحرب ، دار
الإسلام .
(5/141)
ثانيهما :
الدول التي لا يعتدي عليها انتهاءً ، وهي تلك الدول التي تتحول من دار الحرب ،
ولكن لا تصبح دار إسلام لافتقادها لشروط دار الإسلام ومع ذلك فهي تثبت على عدم
الحرب للمسلمين ولا تعاون عليهم عدوهم ، وهي بذلك تكتسب صفة الموادعة والمسالمة أو
الحياد و أقرت بين الفريقين الموادعة لقاء خراج بمقتضى معاهدة مثلما وقع مع أهل
" قبرص" وهو يختلف عن الجزية كما بينا من قبل .
وقد يكون بغير مقابل كما وقع مع بلاد النوبة ؛ إذ أنه لم يقع الاتفاق على أكثر من
مبادلة عدد من الرؤوس تبلغ ثلاثمائة رأس في السنة مقابل قيمتها طعاماً من المسلمين
وأقر ذلك الصلح بغير مدة واستمر من عهد عثمان رضي الله عنه ، وتتابع على إقراره
الولاة والأمراء إلى العهد الفاطمي ، ولم ينقض ذلك العهد طيلة زمن المعاهدة الطويل
إلا مرة واحدة حدث فيها نبذ للعهد ثم أعيدت الأمور إلى ما كانت عليه .
وبهذا يظهر ان ما سبق ذكره من كون أهل الحرب يعرض عليهم الإسلام . أو الجزية ، أو
القتال ؛ فإنما كان ذلك تطميعاً لهم في الإسلام .
(5/142)
؛ إذ هو خير
الثلاثة المخير بينهم ، ولا يدل ذلك على تعيين هذه الثلاثة فقط لأن الأمر منوط بما
فيه مصلحة المسلمين ، وقد تتحقق المصلحة في الإقرار بغير جزية ، وبغير خراج كما
حدث ذلك في واقعة بلاد النوبة ، والتي كانت معاهدة سلم غير مؤقتة بمدة ، ومن غير
ضرب جزية ، وهي بذلك تختلف عن المهادنة التي قد تنهى الحرب بين المسلمين والكفار
إليها ، وهي أيضاً تسمى موادعة ومعاهدة ومسالمة والتي من شأنها أن تكون مؤقتة ،
وقد تكون مطلقة لكن جائزة متى رأى الإمام نقضها فعل ، ولعل ما وقع في النوبة من
صلح كان كذلك ، وإن استمر ستة قرون والذين لا يؤمن شرهم يهادنهم الإمام إلى مدة
معلومة في قول طائفة من أهل العلم واختلف في جواز نبذ عهدهم إليهم إن كانت المدة
معلومة واختلفوا أيضاً في أمدها الذي تنتهي إليه وأما إن كانت المهادنة مطلقة بغير
تحديد مدة كانت جائزة ، ولم تكن واجبة ، بمعنى أنه متى رأى الإمام المصلحة في
نقضها نبذ إليهم عهدهم .
فعلى قسم العالم إلى قسمين كما هو مشهور في كتب الفقه ، وقد بينا وجهه فإنه يسع
المسلمين عقد معاهدات صلح وموادعة مع الكفار إلى مدة أقصاها عشر سنين تجدد حسب
المصلحة في قول الشافعية وأحد قولي " الحنابلة " وقيل : هو ظاهر كلام
" أحمد " واختيار " أبي بكر الخلال " ، وهو ما قاله "
القاضي "، بينما قال " أبو الخطاب " وغيره : " أن ظاهر كلام
" أحمد " جواز الزيادة على ذلك تبعاً لما يراه الإمام من المصلحة وهو
المعتمد ، وهو مذهب " الحنفية " و " المالكية " كذلك ،
ووافقهم " الزيدية " .
(5/143)
وعلى ذلك يجوز
للإمام عقد صلح طويل الأمد مع الحربيين ، أو عقد صلح مطلق معهم على أن يكون جائزاً
غير لازم كما سبق بيانه ، وعليه إذا أراد الإمام نقضه لمصلحةٍ تستدعي ذلك النقض
لزمه نبذ العهد إليهم فإذا علم ذلك كانت نهاية الخلاف بين رأى القائلين بانقسام
الدنيا إلى دارين ، أو إلى ثلاثة آيلة إلى الضيق لما هو ظاهر من المصلحة الواضحة
للمسلمين في تجديد معاهدات السلم مع المخالفين ما داموا غير ناقضين للعهد ، وعلى
ذلك فإن المعاهدات الدائمة تجديداً ، او مطلقة جوازاً مع الالتزام بمقتضاها تقوم
مقام الدار الثالثة المعاهدة في الواقع ، وإن اختلف تخريج كل منهما واعتبارات ذلك
التخريج .
ومع ذلك فإننا نعرض لبيان الرد على من قال بمشروعية قتال المسالمين لإخضاعهم لحكم
الإسلام وسلطانه ، لرفع الحرج عمن ارتأى ذلك الرأى من المعاصرين وعزاه إلى عدد من
العلماء المحققين السابقين خاصة وأنه قد استقر عند كثير من العلماء المعاصرين أن
قتال من لا يقاتل منسوخ بآية السيف ، وصار بها حكم المسالمين على أحد قولين : إما
وجوب قتالهم لإلزامهم بأحكام الإسلام ، وذلك على رأي وعلى الآخر : جواز قتالهم
لإخضاعهم للحكم الإسلامي ، وجعلوا هذا هو معنى قول الإمام الجصاص الرازي :"
ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين ، وإنما الخلاف
في جواز ترك قتالهم في حظره "
(5/144)
وفيه أمور :
أحدها : أن اعتزال المشركين قتالنا لا يعني مسالمتهم ؛ فقد يترك أهل الحرب قتال المسلمين
لعلة فيهم كضعف أو بسبب قوتنا ؛ فيتربصون بنا إلى حين ضعفنا ، ويكون حينذاك منهم
العدوان علينا ، وإنما المسالمة لأهل الإسلام إنما تعني السماح للمسلمين بإعلان
شعائرهم ، وعدم فتنتهم عن دينهم ، والامتناع من الوقوف في سبيل نشر الإسلام حتى
تكون كلمة الله هي العليا ، وهذا هو مقصود المسلمين من الجهاد ؛ إذ أن المقرر
عندهم أن وجوب الجهاد هو كوجوب الوسائل لا المقاصد ، فمتى تحقق غرض المسلمين بدونه
فبها ونعمت ، ولا يلزم من الدعوة إلى الله إكراه أمة الدعوة على التزام أحكام
الإسلام كرهاً ، وإن لم يلتزموا دينه طواعيةً .
فالعبارة التي قالها " الجصاص " قاصرة عن الوفاء بموضوعنا ، وهو سلم
المسالمين من البشر وعدم قتالهم وذلك الذي نقل عن " مالك " بمنع مبادئة
الحبشة والترك بقتال ، ومعلوم أن أحكام الجهاد وقتال الكفار ليست أحكاماً تعبدية
محضة حتى لا يجري فيها التعليل ، ويمتنع فيها القياس والإلحاق والمساواة ، بل هي
كسائر أحكام المعاملات الغالب عليها التعليل ، واعتبار المصالح ، وطرد الأقيسة ،
وشتى صنوف الاجتهادات ، وهو ما يعني أن أي بلد تقف من المسلمين موقف الحبشة تأخذ
حكمها من حيث امتناع المسلمين عن إلحاق الضرر بهم بالمبادئة بقتالهم مع مسالمتهم
للمسلمين ، وعدم معاداتهم لنشر دينهم وإقامة دعوتهم في أراضيهم وإن كانت أمورهم
بأيديهم دون إلزام لم بالتزام أحكام الإسلام ، والدخول تحت سلطان إمام المسلمين .
(5/145)
الثانية : أن
المسالمة من المخالفين تتضح من حيث حصولها عند دعوتهم إلى الإسلام التي هي سابقة
على القتال لمن لم تبلغه دعوة الإسلام ، وعندئذ يتحدد موقف المخاطبين من اختيار
الإسلام ، والدخول بذلك تحت سلطان المسلمين ، أو السماح بنشر مبادئه بين الناس
وعدم الممانعة من ذلك ، ولا محاربة دعوته بتشويه صورته أمام المخاطبين مما يشوش
صورة الإسلام في أذهانهم ، ويمنعهم عن الإيمان به ، كذكر محمد - صلى الله عليه
وسلم - بسوء ، والطعن في شخصه - صلى الله عليه وسلم - ، ونحو ذلك مما ينقض عهد
المعاهد به ، فإذا كان ذلك ، أو امتنعوا عن الدعوة إلى الله وقبولها كان لهم حكم
المحاربين ،وإن اعتزلوا قتالنا ولم يقاتلونا ابتداءً ، فيكون لنا الخيار في قتالهم
متى شئنا للتخلية بين العباد والإيمان بربهم ، ولإزالة سلطان الكفر المانع من
السلوك في سبيل المؤمنين ، ولا يلزم إذا قاتلناهم ، وجنحوا للمسلم أن نجنح ، لأنهم
أهل حرب فلا يختار معهم إلا ما فيه صالح المؤمنين ، فإن كان في السلم لرؤية الإمام
صدقهم ، أوعدم تخوفه من انقلابهم وقوة شوكتهم ، أو لينظروا في أمرهم فيختاروا
الإسلام طواعية ، وغير ذلك من الأغراض النافعة فإنه يختار السلم لذلك . وليس
لكونهم طالبوا به ، لما ذكرناه من ثبوت حربهم للإسلام وأهله ، ومن ثم كانت حرب أهل
الإسلام لهم حرباً عادلة .
(5/146)
الثالثة : ان
حظر قتال المسالمين يختلف عن ترك قتال المشركين بالكلية ، والمهادنة الأبدية معهم
، والذي يؤدى الى سقوط جهاد من تجب أو تشرع مجاهدته على الأقل ، وهو ما لا يقول به
أهل الحرب العادلة ، حيث ان حظر قتال المسالمين لعدم قيام العدوان منهم صورة ومعنى
، وهو الحاصل بإجابتهم لدعوة الإسلام من حيث تلقيها ، وامعان النظر فيها ، وعدم
فتنة من آمن منهم بالإسلام عن دينه وامتناعهم عن القيام عن كل ما يؤدى الى إسقاط
عهد المعاهدين ، فهؤلاء يحظر قتالهم ماداموا على ذلك حتى يغيروا ، وعدم قتال هؤلاء
ليس تضييعاً للجهاد لقيامه معنى حيث ترك قتال السنان لوجود قتال اللسان الذي هو
القيام بالدعوة الى الله ، وكما عد قتال الأمم باللسان بالاعتداء على الإسلام حربا
، حتى يجب بذلك قتل من قاتلت بلسانها من المشركات ، فكذلك كان جهاد المسلمين
باشتغالهم بالدعوة الى الله تعالى فى تلك البلدان المسالمة إقامة للجهاد معنى ،
فلا يتأذى بذلك تعطيل الجهاد فى تلك البلدان .
وحيث لم توجد الموانع الشاغلة عن الإسلام من محاربة إساءة وتضليل لكلام الله تعالى
ورسوله ، والإساءة لمن يعتقده ، فان الذي يغلب على مثل تلك الديار وان طال الزمان
هو دخولهم الإسلام الذي هو مقصود الجهاد في سبيل الله تعالى ،لانه هو الذي عليه
ساطع براهين الحق ، فالشأن أنه مع زوال الحجب المانعة أن ترى أنوار الحق الساطعة .
الرابعة : أنه إن أراد بالاتفاق على عدم حظر قتال من اعتزل قتالنا
"المسالمين"، فان كلامه هذا يكون منقوضا بمنع "مالك" . رضى
الله عنه – قتال أهل الحبشة والترك ، وقد ذكره" ابن رشد " الحفيد ذلك في
الفصل الثاني من فصول كتاب " الجهاد " وعقده في " معرفة الذين
يحاربون " ؛ فبان بذلك اختلافهم في الذين يحاربون ، هل يشرع أو تجب محاربتهم
.
(5/147)
ومما ينبغي أن
يشار إليه أن تأويلات أهل الحرب الشاملة لترك قتال أهل " الحبشة " ، و
" الترك " لم تكن إلا بسبب عدم تفريقهم بين المسالمين ، ومعتزلي القتال
من المعادين ؛ فشملوا الجميع بمشروعية محاربتهم ، وما كان ذلك منهم إلا بسبب غلبة
المعادين وظهور أمرهم ، وندرة المسالمين بالوصف الذي بيناه .
فكان من تأويلاتهم لترك قتال الترك أنه إنما كان بسبب شدتهم وصلابتهم ، وليس
للمسلمين طاقة بقتالهم وهو تأويل عجيب ، وفيه تجاهل شديد لشدة بأس فارس والروم ،
وهما أمتان عظيمتان قوة وبأساً ، حتى كان في جهاد الروم فضل على من سواهم من أهل
الأديان ، ولم يؤمر المسلمون بترك قتالهم ، وإنما أمروا بقتالهم حتى كان رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يأمر بإنفاذ بعث اسامة بن زيد لقتال الروم ، وذلك في مرض
موته - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك الأمر هو الذي دعاء مالكاً " رضي الله
عنه فى القول بأنه لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك ، ويقول : لم يزل الناس
يتحامون غزوهم ، ولو كان تأويلهم سديداً لقال حتى تتهيئوا لأمرهم ولما علق على
تركهم ؛ إذ أنهم لو بدأونا ما وسعنا إلا ردهم ، وكذلك يتأولون نهيه - صلى الله
عليه وسلم - بترك قتال أهل الحبشة لوعورة أرضها ، فيجعلونه للإرشاد والرفق ولو كان
ذلك كذلك أيضاً لما كانت موادعتهم حتى يغيروا من حالهم ، وقيل : كان تربصاً
بإسلامهم بعد إسلام ملكهم ،وجوابه : في الحديث النبوي ما يفيد بقاءهم على الكفر
حتى يغزو جيش منهم الكعبة فيهدمها منهم " ذو السويقتين "أما احتجاج بعضهم
بأن مالكاً أجاز قتالهم ،ففي ذلك نظر من حيث ذلك الإطلاق ، إذ أن "اللخمي
" حكى عن " مالك " أنه قال في " الفرازنة " وهم جنس من
الحبشة: لايقاتلوا حتى يدعوا ، وقال" ابن القاسم " في "الترك"
مثل ذلك ، فعلم من قولهما أنهما يبيحان اذا دعوا فأبوا ،بينما قال في الكتاب
" ابن شعبان " لا يقاتل الحبشة إلا أن يخرجوا من غير ظلم ،
(5/148)
وكذلك الترك ،
قال " مالك " : لم يزل الناس يغزون الروم وغيرهم ، وتركوا الحبشة ، وما
أراهم تركوا قتالهم إلا الأمر "، وهو ما يبين أن التَّرك لم يكن لإرشاد ،
وإنما لأمر أمروا به أو لشأن قام بالناس منعهم عن قتالهم ، وهو إشارة للحديث
الوارد بشأنهم ، وذلك أولى من قول " الدردير" :" وإنما نص على من
ذكر للإشارة إلى أن حديث : " اتركوا الحبشة " محمول على الإرشاد "
والنظر في حال " الحبشة " حال ورود الحديث من مسالمة لأهل الإسلام، وما
آل إليه أمر الترك من نصرة للإسلام يكفي لاستبانة أنه كان لشرع ، وكان كذلك آية
صدق ظاهرة للعيان .
ومن احتج بقتالهم فذلك إنما كان كما ذكرنا لقتالٍ كان منهم ، وخروج من غير ظلم ،
وليس لأجل أن الحديث للإرشاد ولذا فقد قال الأمير – رحمه الله – في إكليله في شرح
قول " خليل " :" وجاز قتال نوب وترك " ، وذلك لأنها في بعض
نسخ " خليل " : بدلاً من " روم " ، وذكر " الأمير "
أن ذلك أولى مما في سائر النسخ لحاجة " النوب " إلى التنصيص لا الروم
حيث لا توهم بشأنهم ، والمراد من " النوب " الحبشة " وإن كان النوب
" كما علمنا غيرهم ، ولذا فإن " الأمير " عدل عن هذه العبارة في
" مجموعه " فقال :" والترك والحبشة يقاتلون كغيرهم " وشرح ذلك
في كل من الإكليل " و " ضوء الشموع " بقوله : وما ورد من تركهم ما
تركونا لم يستمر عليه العمل "، وكذا قوله : ليس له حكم الاستمرار وهو يعني بذلك
أن العمل استمر بذلك لفترة ثم تغير ، وهو ما ذكرنا أنه كان لتغيير منهم ، فكان
الأمر بعد إباحة قتالهم ، بل ووجوبه .
(5/149)
الخامسة :
التسوية بين المسالمين والمعادين ؛ فيكون حكمهما واحداً مما يشهد الشرع بمنعه ؛ إذ
أنه جرى في الشرع التفريق بين الأنواع المختلفة وخصوصاً في هذا الباب فكان للحربي
أحكام تختلف عن الذمي ، وعن المستأمن فلكل من أولئك حكم يخصه يليق بحاله حتى فرق
بين ما لكل من أحكام ، وحقوق عدة فروق ، رغم كون الجميع كفاراً ، إلا أن اختلاف
حال كلٍ فرق بين أحكامهم في فروع عديدة .
فإذا علم ذلك ؛ فكيف يسوى بين من استجاب للدعوة بالنظر فيها والسماح لدعاتها
بإبراز محاسنها ومخاطبة الخلق بها ، دون تشويش على دعوته ، أو فتنة لمن آمن بها عن
دينه ، وهو ما كان سبباً للنهضة للقتال في سبيل الله تعالى ، كما قال ربنا جل وعلا
: " و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله " وبين من لم يرفع بذلك
رأساً ، ولم يرض بالنظر في دين الله ، وفتن من آمن عن دينه ، سواء كف عنا فلم
يقاتلنا ، أو قاتلنا ؛ ففي كلا الحالتين استحق القتال لكونه منع من إظهار دين الله
تعالى وكما قال "ابن تيمية " : " وإذا كان أصل القتال المشروع هو
الجهاد ، ومقصوده أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ؛ فمن
امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين " ؛ فهؤلاء المسالمون لم يمتنعوا بقبولهم
الدعوة للنظر فيها المؤدي للإيمان ، وبعدم فتنتهم من آمن فاستحقوا بذلك ترك قتالهم
، وذلك أيضاً كما قال " ابن تيمية " : " لأن القتال هو لمن قاتلنا
إذا أردنا إظهار دين الله ، وهؤلاء لم يقاتلونا إذ أردنا نشر دعوة الإسلام للعالم
ولم يحولوا بيننا وبين ذلك ، فلا ينبغي التسوية بينهم وبين من قاتلنا لمنعنا عن
نشر دين الله ، أو منعنا وإن لم يبدأنا بالقتال ، فكلاهما مانع من إظهار دين الله
؛ فوجبت مقاتلته إظهاراً للدين وإعلاءً لكلمته .
(5/150)
وهذه الأمور
الخمسة التي أبرزناها في الرد على من احتج بقول "الجصاص " تشير بوضوح
إلى أن هناك طائفة قد غبنت في الذكر والحكم وهم " المسالمون " الذين
يقبلون عرض الدين وبيانه لينظروا فيه ، وهو أمر مقبول عقلاً ، وجاءت الأدلة
باعتباره شرعاً ؛ إذ أن أول ما يقدم للمخالفين هو الإسلام ، وهو خير ما خيروا فيه
، وقبوله يستدعي النظر ؛ إذ أن تغيير عقائد الناس ليس بالأمر الهين ، فكان الشأن
تركهم للتروي والنظر مع عدم امتناعهم من سماع الدعاة إلى الله ، ولا منعهم من
ابتغى الدخول في دين الإسلام أن يدخل فيه مما جعل جهاد اللسان قائماً مقام جهاد
السنان ، فكان الشأن التخلية بينهم وبين ما ارادوا النظر فيه ، وهذا المعنى كان
موجوداً في أهل " الحبشة " كما هو معلوم حينما اعتنق " النجاشي
" الإسلام ، وهو السبب الظاهر في مورد " الحديث " : " دعوا
الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " ، وتأويله بغير ذلك لا يسلم من
مؤاخذة والطعن فيه بالضعف غير مسلم فقد صححه الحاكم ووافقه " الذهبي " ،
وقد حسنه بعض أهل العلم أيضاً ، وإن اتهمه السيد "البليدي " بالوضع ،
فقد نفاه عنه " السخاوي " حتى إنه حسنه عدد من أهل العلم ، وقد أحسن
" الخطابي " رحمه الله – إذ جعل الحديث مخصصاً للآية فأخرجهم من عموم
قتال المشركين ، وذلك التخصيص كما أشرنا لا يحتمل التعبد ، وإنما التعليل ، وعلته
الظاهرة هي ما ذكرنا من حالهم مع أهل الإسلام حينذاك ، ولا يلزم بالطبع بقاء
التخصيص على الدوام لتغير الحال فيتبع ذلك كما هو معروف تغير الحكم ، وليس المراد
عدم قتالهم للأبد وإنما حتى يغيروا : فيقاتلوا حينذاك كغيرهم .
والآن سوف نستكمل حديثنا عن هذه المسئلة بالرد على ما أورده الخصوم – الذين قرروا
مبدأ الحرب " الحرب الشاملة " من أدلة ، ونتبع ذلك ذكر ردودهم على ما
أورده أهل " الحرب العادلة من أدلة .
أولا : حجج أهل الحرب الشاملة وردها على جهة الاختصار .
(5/151)
ويمكن تلخيص
أدلتهم على وجوب أو مشروعيته قتال جميع المشركين بدون استثناء لأنواع المشركين
واختلاف موقفهم من قبول دعوة الإسلام للنظر فيها أو عدمه – فيما يلي :
أولا : النصوص الشرعية التي تقضي بقتال الكافرين وجهادهم دون مراعاة أو تقييد كون
ذلك دفاعا عن عدوان بدر منهم ، وقد أشرنا من قبل الى تلك النصوص فنغتني بسابق
ذكرنا لها عن إعادتها .
وقد اجبنا عن ذلك بأنها ليست ناسخة لما سبقها من الآيات البالغة مائة وأربعاً
وعشرين آية ، وإنما ترفع الحظر عن المؤمنين في القتال وتأمرهم بالمبادئة بقتال عدو
الله وعدوهم بدلاً من الاكتفاء برد عدوانهم ، وتلك المبادئة هي أدعى للرد ، وأشد
هيبة في نفوس الأعداء ، وتحقيقاً لقوله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة }
(5/152)
ولا تعنى هذه
الآيات مبادئة أقوام لم يضمروا لأهل الإسلام شراً ، ولم يكن منهم سوى النظر في دين
الله ليؤمن من شاء منهم ، من غير أن يجد منهم فتنة عن دينه ، ولذا قلنا فيها بقول
" الخطابي " وغيره هي مخصوصة بحديث " دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا
الترك ما تركوكم " ، وكذا الآيات الناهية عن العدوان ، والتي لم تنسخ كما قال
" ابن تيمية " وغيره وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة
، ويؤتوا الزكاة ؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ،
وحسابهم على الله " فذلك الحديث ليس معناه كما قال " ابن تيمية "
وغيره من أهل العلم أنه لا يترك قتال كل أحد من الناس حتى يشهدوا الشهادتين ، لأنه
لو كان معناه هكذا لكان ناسخاً لقوله تعالى " لا إكراه في الدين " ؛ إذ
أنه ليس هناك معنى للإكراه غير القتال حتى يسلم المخالف ، والآية محكمة غير منسوخة
، والخصم يقر بذلك ، فالحديث عند الجميع متروك الظاهر ، ومن ثم فتخصيصه بما ذكرنا
أولى من غيره .
(5/153)
وأما ثانياً :
فهو ما ورد من النصوص الشرعية التي فيها تخيير العدو بين أحد خصال ثلاثة كما سبق
ذكرها وهي الواردة في حديث " بريدة " ، ورواها " مسلم " في
صحيحه وفيه :" فادعهم إلى ثلاث خصال ، ثم فسرها له قائلاً : ثم ادعهم إلى
الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ؛ فإن أبوا فسلهم الجزية ؛ فإن هم أجابوك
فاقبل منهم وكف عنهم ؛ فإن هم أبو فاستعن بالله وقاتلهم ، الحديث ، وهو مفسر لقوله
تعالى : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون " ، وهو ما يعرف بآية الجزية ، وهي التي كفكفت النبي - صلى الله
عليه وسلم - من قتال المشركين إذ ا ما أدوا الجزية وقد كان قبلها لا يكف عنهم ؛
فكانت وضعاً لحالة القتال بفرض الجزية ، وما ورد في الحديث ليس لازماً ، وإنما
التخيير بين الثلاثة هو كما ذكرنا لإظهار بيان فضل الإسلام ، وترغيباً فيه ، وقد ينزل
الإمام الكفار على حكم غير الثلاثة كما مر في بيان الإقرار من غير جزية ، وكذا من
غير مدة .
وأما ثالثاً : وهو ما ورد من أعمال الدولة الإسلامية على مدى عقود طويلة من الزمان
من فتح البلدان المجاورة وإدخالها في النظام الإسلامي ، ولو لم يصدر منهم أي عدوان
على الدولة الإسلامية ، وهو ما يمثل إجماعاً على مشروعية قتال الكفار وإن لم يصدر
أي عدوان منهم ابتداءً .
والجواب عن ذلك هو ما ذكرناه من حل بدء الكفار بالقتال الذين لم يسالموا المسلمين
، وإن لم يبدأونا بالقتال لكونهم محاربين لأمة الإسلام غير موادعين لها ، فجاز بدؤهم
بالحرب إخضاعاً لهم وإبطالاً لسلطانهم الظالم على المسلمين .
(5/154)
وأما محاولة
الاستدلال بأن في حديث الحبشة ما يؤكد القول بمشروعية بدء الكفار بالقتال ولو لم
يصدر منهم اعتداء إلا ما أخرجه الحديث من استثناء " الحبشة " ؛ فذلك
ينطوي على عدم فهم لدلالة الحديث ؛ إذ أن الحديث كما بينا فيه إشارة لإخراج
المسالمين كأهل الحبشة من مشروعية البدء بالقتال ، وذلك دون المحاربين الذي قلنا
بمشروعية مبادئتهم وفاقاً لأهل " الحرب الشاملة " ، وهو الأمر الذي يعني
عدم إمعان هؤلاء في دليل أهل " الحرب العادلة " ، ولذا قال بعضهم بأن
أهل " الحرب العادلة " هم أصلاً يقولون بأن الحرب في الإسلام دفاعية
وليست هجومية ، ولكن لما رأوا في قولهم هذا مصادمة للنصوص ، ومنعاً لنشر الإسلام
قاموا باختلاق مشروعية الهجوم على البلدان التي تحول بين الإسلام ومن أراده من
مواطنيها ، وفي هذا القول مغالطة واضحة ، وتتمثل فيما يلي :
أن القول بالحرب الدفاعية ليس عيباً في حد ذاته ما دام يطبق تطبيقاً غير مخالف
للنصوص ، لأنه ما من حرب هجومية قد قام بها المسلمون ، إلا وهي تحمل ما يمكن أن
تفسر به على أنها دفاعية ، وكما يقولون : إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم ، وما دام
الدفاع لا يفهم منه التزام القيام بالحرب إلا بعد قيام العدو بشن الحرب ابتدءاً ،
وهو ما قد بيناه أنه أسلوب خاطىء في فهم قول أهل " الحرب العادلة " .
أن الحرب ليست هي الوسيلة الوحيدة لنشر الإسلام ، حتى يكون الامتناع عنها حسراً
للإسلام ورسالته ، فالدعوة إلى الله تعالى هي وسيلة أيضاً لنشر الإسلام ، وقد
أسهمت بالفعل في نشر الإسلام في قطاع واسع من البلدان الإسلامية ولا ينبغي النزاع
في هذا.
(5/155)
وأما قول
البعض بأنه كما جوزتم البدء بقتال الممانعين بين الخلق وبين اختيار الإسلام ديناً
وعقيدة ؛ فلم لا تجوزون قتال من امتنع من قبول أحكام الإسلام شريعة كما جوزتم قتال
من منع بين الناس وقبول الإسلام ديناً وعقيدة ؛ فالجواب : أن من احتاج للنظر في
الشريعة ، هو بالبديهة محتاج للنظر في أحكام الشريعة ، فيستأني به في ذلك ، فأهل
المسالمة لأهل الإسلام الذين يسمحون بنشر الدعوة في بلادهم ، ولا يحاربون أهله ،
ولا يفتنونهم عن دينهم هم بمقام المستأني للنظر ؛ فيمهل ولا يعرض عليه السيف ،
بخلاف المحارب لأهل الإسلام المانع لدين الله أن تخالط بشاشته القلوب فذلك معتد ،
ودفع عدوانه عن خلق الله تعالى هو واجب الجهاد الذي شرعه الله تعالى ، ولذا قلنا
بجواز مبادئتهم بالقتال وإن لم يقاتلوا ويعجبني هنا أن أنقل تعليقاً لطيفاً
للأستاذ الدكتور "وهبة الزحيلي" حيث يقول مبيناً أن هذه الحرب وإن كانت
هجومية الصورة إلا أنها دفاعية المعنى فيقول :" وإذا كانت الدول الحديثة
اليوم قد اعتبرت الحرب العدوانية على مصر عام 1956 دفاعاً عن قضاياها ، واعتبرت
إسرائيل هجومها على العرب دفاعاً عن وجودها ومصالحها ، واعتبرت أمريكا حصارها
لكوبا وتدخلها في شؤون الدومينكان ، واعتداءها على شعب فيتنام دفاعاً عن مصالحها
وأغراضها ؛ فالأجدر بنا أن نعتبر أن تشريع الإسلام في الحرب قاصر على محض الدفاع
" الزحيلي آثار الحرب : (128) .
فإن قيل : هذا يلزم عليه إقرار الكفار بغير جزية ، وصغار ؛ فالجواب : أن ذلك جائز
تبعاً لمصلحة أهل الإسلام ، وقد أقرت " الحبشة " بغير جزية وصغار
لمسالمتهم ، وأقرت " النوبة " بغير جزية وصغار بامتناعهم ، وكل ذلك
اتباعاً لمصلحة أهل الإسلام ، حتى أقر أهل الذمة في بلاد المسلمين بغير جزية تبعاً
لتلك المصلحة أيضاً فيما حدث بعد ذلك .
(5/156)
وأما قول
البعض بأن اعتبار الوقوف في وجه الدعوة ومنع الناس عن دينهم اعتداء يوجب الجهاد ،
بينما منع الدعوة أن تكون هي السلطة الحاكمة ليس اعتداءً من باب التحكم ؛ فهو غلط
فاحش ، وذلك لأن قبول الدعوة والدخول في دين الله هو أساس قبول الأحكام . حتى إذا
أسلم الناس لله تعالى ، ولم يتحاكموا إلى شرع الله تعالى ؛ فإنه يكشف عن ذلك السبب
؛ فإن كان بتسلط من الكفار وجب دفع أذى تسلطهم ، وإن لم يمكن دفع أذاهم ؛ فهي كما
قال " ابن تيمية " في فتاواه لأهل " ماردين " بانها دار ثالثة
يعامل فيها المسلم بما يستحقه والكافر بما يستحقه وإن كان بجهل منهم أو شبهة سعى
أهل العلم في إزالتها ، وبيان وجه الحق لجاهله أو لمن التبس عليه .
(5/157)
وأما القول
بأن أهل " الحرب العادلة " قد غلبوا العرف الدولي على نصوص الشرع ؛ فتلك
تهمة غير صحيحة ؛ لأن أهل " الحرب العادلة " قد أقاموا حجتهم من قبل
أدلة الشرع الدالة على صدق مقالتهم ، ولم يقيموا تلك الأدلة مستندين إلى ذلك العرف
المزعوم ، ووجه هذه التهمة أن العرف الدولى لا ينكر الدعوة في الدول الأخرى إلى
الدين ، وينكر في الوقت نفسه مطالبة تلك الدول بتسليم السلطة فيها إلى الأجانب
عنها وإعلان القتال من أجل هذا الغرض ؛ فالجواب على ذلك أن هذا العرف غير محقق على
الأقل ، وإن نودى به ، حتى إن التدين إلى يومنا هذا في البلاد الشيوعية – حال
قيامها – كان محظوراً يعاقب عليه القانون ، وهو ما يخالف ذلك العرف المزعوم صراحة
، وكذلك في العديد من البلدان تحظر على الناس التحول عن أديانهم دون مراعاة لذلك
العرف المزعوم أيضاً ، وتمنع أخرى الدعوة إلى دين مخالف لدين أهل البلد ، وهذا كله
يؤكد عدم مراعاة ذلك العرف في العديد من النواحي ، وبذلك يثبت براءة أهل هذا القول
من مراعاة العرف الدولي المذكور ثم إن مطالبة الدول بتسليم السلطة إلى أجانب
وإعلان القتال لأجل هذا الغرض ، قد أخرجنا منه ومن الوقوع في حرجه أنا لا نقاتل
طلباً في تسلط أجنبي على تلك البلدان ، وإنما لدفع الأذى والظلم عن الإنسان الذي
يريد اختيار الإسلام فيمنع عنه ، وليس للتسلط على البلدان من غير أهلها والترفع
عليهم ونهب خيراتهم إذ أن ذلك السير هو الاتجاه المخالف تماماً لسير دولة الإسلام
التي تحفظ فيها للبلدان الداخلة تحت لوائها كل خيراتها ولأهلها كل حقوقهم فيما
يملكونه مما صالحوا عليه دولة الإسلام حتى منع الإسلام نقل زكاة بلد لغيره حتى
يظهر في كل بلد من بلاد الإسلام نعمته التي أنعم الله بها على أهله .
(5/158)
ولعل هذا
القائل يقصد بمقالته تسليم السلطة إلى أجانب هو أن دولة الإسلام في الأصل حيث هو
الموضوع دولة واحدة ، وهو ما يعني أن كل دويلاته المنضمة تحت لوائه تخضع لسلطة
أجنبي ؛ فالجواب عن هذا أن دخول الدولة تحت النظام الإسلامي يشبه ما تقوم به
الدويلات من الوحدة ، والشأن فيها انها تتم وفق اختيار البلدان وباختيار هذه
البلدان الإسلام ديناً ونظاماً تكون قد ارتضت لنفسها الانخراط في سلك الدولة
الواحدة فلا محل للمخالفة هنا .
وإنما المخالفة التي يشير إليها لا تتحقق وفق قولنا بعدم مهاجمة الدول التي لا
تقوم بأعمال عدائية ضد المسلمين ودينهم .
وأما تلك التي تقوم بفتنة المسلمين عن دينهم فإنه يحق لنا عرفاً ، وهو واجب شرعي
علينا أن ننصر أولئك المستضعفين من المسلمين ، ولا ملامة علينا في شيء من ذلك إن
تم لنا بطريق الجهاد .
وليس أيضاً للعرف الدولي أثر في تلك الدعوة ؛ إذ أنه ينهي عن سلوك الحرب في فض
الخصومات كما هو معلوم فثبت بما ذكرناه براءة أهل " الحرب العادلة " من
تلك التهمة الباطلة ، ألا وهي التأثر بالعرف الدولي المخالف .
ثانياً : الجواب عما أورده أهل الحرب الشاملة من اعتراضات على أدلة أهل الحرب
العادلة :
الدليل الأول : وهو أن قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا
تعتدوا } ،وكذا قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ليس
منسوخاً ولا يلزم ما قاله البعض من قتال الدولة المسلمة لمجرد تبليغ الدعوة، وإنما
بقصد تأمين أهل الإسلام فمتى تحقق ذلك استقر السلم ، وإن كان ذلك لا يتحقق إلا
بإلحاقها بدار الإسلام تحقق بذلك بأي سبيل ممكن .
(5/159)
الدليل الثاني
: قوله تعالى : { فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } فالانتهاء وإن كان
دائراً بين معنيي الشرك والقتال ، إلا ان ذلك في واقع الأمر يعود إلى السبب
المنشيء للقتال ، فالذي يقول هو القتال الذي كان منهم والمحاربة لأهل الإسلام
يجعله هنا كذلك ، والذي يجعل المنشيء للقتال هو الكفر يقول بالانتهاء عن الكفر
والمعنى الأول هو الأقرب لكون سياق الآيات يتعلق بالكفار الذين بدأوا المسلمين
بالقتال .
الدليل الثالث : قوله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ، وألقوا إليكم السلم
فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } فهذا أيضاً مما تناوله أهل" الحرب العادلة
" اعتباراً بظاهره أنه لا يشرع قتال المسالمين الذين لا يفتنون المؤمنين لا
المحاربين إن اعتزلوا القتال ؛ إذ قد يكون ذلك لحيلة ، أو للتربص بالمؤمنين ،
فالذين لا يكون منهم ذلك كمن لم يحصل منهم فتنة للمسلمين أو كان منهم التريث للنظر
في الإيمان ونحو هؤلاء لا يشرع قتالهم بينما رد مقالتهم أهل الحرب الشاملة بأن
الآية تحرم قتال الكفار المعتزلين لقتالنا مما يثبت أنها كانت في المرحلة الأولى
من مراحل تشريع الجهاد ، ويحتجون في ذلك بقول الإمام " الجصاص " :"
ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين ، وإنما الخلاف
في جواز ترك قتالهم ، لا في حظره " وهو ما أجبنا عنه سابقاً بشيء من التفصيل
فليراجع في محله .
(5/160)
الدليل الرابع
: هو الاحتجاج بسيرته - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ أنه لم يبدأ حرباً إلا الحرب
العادلة سواء قبل آية السيف ، أو بعد آية السيف ، حتى إنه لم يقاتل أحداً من
النصارى حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام ؛
فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل ؛ فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد
أسلم ، منهم بغياً وظلماً وهم بهذا قد حاربوا المسلمين أولاً ، فلما كان من قتل
المسلمين فقد أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم سرية زيد بن حارثة
وكانت غزوة مؤتة بعد صلح الحديبية ؛ وقد كان فيهم خالد بن الوليد وقد أسلم بعد صلح
الحديبية فكانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - التي نقلها أهل السير والحديث
والتفسير والفقه تشهد للقائلين بالحرب العادلة ، فلا يقال ترك الابتداء لجواز تركه
، لأنه مع مداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك يضعف معنى الجواز ، ويبطل معنى
وجوب الابتداء وذلك في حق المسالمين ، لا المحاربين الذين ذكرنا مشروعية مبادئتهم
بالقتال . وبهذا يتم بيان قول " أهل الحرب العادلة " ورفع لوم من لامهم
بالتأثر بالعرف الدولي ، بقى أن نقول إنه حتى لو تقرر تقسيم الدنيا إلى دارين حرب
، وسلم فقط ؛ فإنه يراعى في ذلك أيضاً ما يلي :
(5/161)
أولاً : إمكان
عقد المعاهدات المطلقة مع الحربيين ، والعمل بها وفق ما تقتضيه مصلحة الدولة
المسلمة حتى ولو اقتضى ذلك الامتناع عن الغزو لمدة طويلة لما في قيام مصلحة
المسلمين من وجود الجهاد منهم من حيث المعنى . فلا يقال إذن يتوقف الجهاد ، لما في
حفظ المصلحة من قيامه معنى ، ولا يتوقف الجهاد لتخلف صورته وحدها بل لتخلف كل من
الصورة والمعنى حتى جاز للأمة الإسلامية حال قوة عدوها وهي صورة مفروضة وقد وقعت
في عصور الضعف وتكررت كثيراً أن تدفع له الجزية ، وذلك بدلاً من أن تاخذها هي
وتقاتل عليها ، ولكن هذا الذي تفعله حال قوتها ما كان ليستمر في حال ضعفها ، ومع
ذلك فقد عبر الفقهاء عن دفع الجزية للأعداء بأنه إقامة للجهاد معنى ، وذلك لما في
دفع الأمة الجزية من الجهاد بالمال لحماية الدين والنفس وتحقيق مصلحتها التي هي
مقصود الجهاد ، وذلك حينما يكون الإقدام على منعها فيه إذهاب للأمة وتضييع
لمصالحها ، حتى إذا قدرت على منعها وجب الامتناع عن دفعها ، لما في الدفع من تضييع
مصلحة المسلمين وتقوية أعدائهم عليهم ، وهو ممنوع شرعاً ؛ فلزم الامتناع منه ،
فإذا صار بالمسلمين قوة وكان بينهم وبين أولئك الحربيين المعاهدين عهد جائز ، نبذ
إليهم تحقيقاً لمصلحة المسلمين في النيل من عدوهم من غير مخالفة لأوامر الشرع وذلك
ما لم يغدر العدو فلا يحتاج حينئذ إلى نبذ للعهد ، وكل هذا يتفق عليه أهل الحرب
العادلة ،
وإن كان العهد مؤقتا لم يجز النبذ إلا بعد انقضاء مدته عند الجمهور خلافاً لأبي
حنيفة المجوز النبذ إليهم إن كان فيه مصلحة للمسلمين .
(5/162)
وما ذكرناه من
إمكان عقد المعاهدات المطلقة مع الحربيين لا يتنافى مع ما منعه العلماء ؛ إذ أن
منعهم كان فيما يكون على سبيل الوجوب لا الجواز ، كما ذكرناه هنا ، فيكون من
المسلمين عدم النبذ مع جوازه منهم ، تركاً له وتقديماً لما فيه المصلحة من ترك
النبذ ، كترك النبي - صلى الله عليه وسلم - - على حد قولهم – البداءة مع جوازها
طيلة سيرته - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً : ان اصطلاح الحربي على وفق كلام القائلين بانقسام الدنيا إلى دارين لا
يلزم منه أن يكون عدواً ولكنه اصطلاح فقهى الغرض منه بيان توقف الأمان له على عقد
يعقد له إذا أراد الانتقال لدار الإسلام ، وكذلك يحتاج المسلم إلى عقد ليتوفر له
الأمان إذا دخل أرضهم ، ولذا يجوز أن ينشا بين المؤمن وبين الحربي مودة ظاهرية ،
فيحسن إليه المؤمن ويهدي إليه ويكافئه على معروفة ، ويوصى إليه ، وغير ذلك من
أنواع البر مع كونه حربياً ، وذلك الصنيع يكون من باب المكافأة له على إحسانه كما
قال ذلك " الطبرى " وغيره أو لسبب يستدعي ذلك كقرابة أو صلة تستدعي بذل
المعروف ومراعاته .
ثم إن الحربيين قد يرتبطون مع الدولة المسلمة بمعاهدات ومواثيق يصير أهلها بها
معاهدين ، وإن كانت بلادهم كما أشرنا من قبل مختلفاً فيها بين بقائها دار حرب ،
وبين تحولها عنها إلى دار معاهدة ( مسالمة ) على حسب ما بيناه "
ثم إن هذا الكلام كله محله في حال قدرة الدولة المسلمة وتمكنها لا في الحال التي
أصبحنا فيها في عجز وضعف مهين .
(5/163)
ونحن بهذا
العرض نأمل أن نكون قد وضعنا القارئ أمام صورة واضحة عما كتبه " الناصب
" بسطحية فكرية وعلمية مؤلمة ؛ فبمجرد نقل واحد عن " ابن كثير "
ينتهي منه إلى قناعة لا تقبل التشكيك وإلى رأي لا يبقى معه وجود لآراء الآخرين ،
وقد بينا ما في مقالته من المغالطات ، ثم كشفنا للقارئ أصل المسالة الواسعة التي
يخوضها ذلك " الناصب " بجرأة وصلف خاليين من أن يكون لديه أي معرفة
شاملة للمسألة ،بالإضافة إلى أن بحث المسألة كما بينا غير مفيد من الناحية
الواقعية لكوننا الآن نتذيل الأمم ، بينما يطالبنا " الناصب " بأن نشعل
حرباً ضروساً مع العالم تستأصل شأفتنا وتقضي على البقية الباقية فينا ، وما ذكرناه
فيها فقد كان على سبيل الاختصار ؛ لتنبيه القارئ لمطالعة أوسع قبل القيام بإلقاء
التهم العارية عن الصحة ؛ فأي أمر إذن يشين فضيلة " الدكتور " إذا لم ير
القتال للكفار ليس لمجرد الكفر ، وإنما لما كان من الكفر المغلظ منهم كما قال ذلك
" ابن تيمية " ، وهو جمعهم مع الكفر العدوان على حقوق المسلمين واستباحة
حرماتهم وممتلكاتهم ، وما ذكر " الناصب " في كلامه عن أن القتال لا
ينتهى إلا بدفع الجزية ، وامتثال أحكام الإسلام الذي هو الصغار على أصح القولين
عند المحققين ، قد بينا أنه غير لازم ، وأن ذلك إنما ينقضي حسب حال المسلمين ، وما
يقع لهم الأصلح ، فلو كان الأصلح لهم غير ذلك جاز كما بيناه .
(5/164)
وليست مثل هذه
المسائل الطويلة الذيول ، المتشعبة الفروع لتحسم هكذا بحكم لا يستند في إقامته إلا
على فهم أعوج لنقل من مكان واحد في موضع واحد من كتاب تفسير ، ودون مراجعة للكتب
المختلفة المعنية بدراسة واقع وأحكام الجهاد ، والمعاهدات ، والتنقل بين مختلف
البحوث والدراسات التي تناولت ذلك الموضوع حتى يستطيع من يريد أن يتبنى لنفسه
رأياً أن يجد مسوغات حقيقية تصلح لاتخاذها قاعدة لما يبينه من رأى حول ذلك الموضوع
الذي كثيراً ما ألف فيه تأليفاً مستقلاً قديماً وحديثاً لأهميته ، ولحاجة الناس
إلى معرفة العديد عن مختلف جوانبه ، ونرجو أن نكون قد قدمنا للقارئ نبذة كافية حول
هذا الموضوع خاصة وأننا الآن لسنا في معرض استخدام آية السيف بالنظر إلى مآل حالنا
، وقد قال في ذلك بعض أهل العلم : " فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية ،
لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف ،
وإذا قوى المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم
ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها
الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب "
ابن باز ، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ، جمع وإشراف د 0 محمد بن سعد الشوبعر :
(3/193) .
والآن ننتقل مع " الناصب " إلى أمر آخر فيقول تحت عنوان :
أصول مشتركة بيننا وبينهم !!
يقول " الناصب " : " ومن تساهل " الدكتور " معهم ، قوله
" الواقع انه توجد أصول مشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب في الجملة ، منها :
" الإيمان بالله ، والإيمان بوجوب التعبد له والإيمان بالنبوة والوحي
والإيمان بالآخرة ، والإيمان بالقيم الأخلاقية " فيعقب ذلك بقوله .
(5/165)
قلت : "
هذه مبالغة ظاهرة من " الدكتور " ، ولا أدرى ما هو الوصف المناسب لهذا
" الناصب " ، فلا نعرف كيف رأى في ذلك مبالغة حتى يصفها بأنها ظاهرة ،
ثم إن المبالغة يجوز تكذيبها ؛ فما هو مما قاله فضيلة " الدكتور " يجوز
تكذيبه ؟
كم كان المرء يود لو أنه يجد في كلام ذلك " الناصب " ما يرفع الحوار معه
إلى حد أفضل مما يتدنى إليه بفهمه السقيم فيحتاج المرء معه إلى مشقة بالغة لإفهام
من لا قدرة له على الفهم لكي يدرك خطأه" وهيهات لأمثال هذا أن يدركوا ما
وقعوا فيه هيهات
ولا أدري ماذا يريد أن يقول " الناصب " بوصفه عن كلام فضيلة "
الدكتور " إنه مبالغة ظاهرة ، هل يقصد بذلك المبالغة في كونها أصولاً ، أو
كونها مشتركة ، أو في عددها ، فكل ذلك إن كان يقصده فهو هراء ؛ فإذا كان ذلك كذلك
فأين هو موضع المبالغة إذن ؟ !
ثم يستطرد في بلاهة فلسفية قائلاً :" ولو طردنا هذا القول لقلنا بأنه لا يكاد
يوجد خلق من خلق الله ، إلا وبيننا وبينه أصول مشتركة "
وهنا لا أدرى ما هو العجب في ذلك ؟ !
ثم يقول :" حتى الملحد الذي يظن " الدكتور " أن لا صلة بيننا وبينه
فهناك أصول مشتركة تجمعنا وإياه " .
وهنا أيضاً لا أدرى من قال له ، أو من أي موضع من كلام فضيلته وقف على أنه يظن أن
لا صلة بيننا وبينه ، ثم إن فضيلة " الدكتور " لا يتكلم عن " الصلة
" ، وإنما يتكلم عن أصول مشتركة فمن أين وقف على انقطاع الأصول المشتركة معه
من كلام فضيلته ؟ !
ثم راح يعدد في نبوغ مذهل!! مظاهر وأنواع تلك الأصول المشتركة ، وقانا الله وإياكم
شر الجرب الفكري !!
ثم إنه بعد تعداده لهذه الأصول المشتركة بيننا، وبين الإنسان الملحد يقول:
" بل لو قال قائل بأنه لا يكاد يوجد مخلوق إلا بيننا وبينه أصول مشتركة لما
جانب الصواب ؛ فهل يكفي هذا لمودته ، أو التعاون معه ، أو التسامح معه ".
(5/166)
وهذا سخف شديد
؛ إذ أنه يدعى على فضيلته أن كل ما كان بيننا وبينه أصول مشتركة وإن كان كلباً أو
خنزيراً يشترك معنا في أصل الحيوانية أن نواده ، ونتعاون معه ، وكذا ، وكذا مما
يقول ، نعم فإنه يترتب على تلك الأصول المشتركة ما يليق وليس ما ذُكِر .
ما هذا الكذب والاختلاق ، والزور والبهتان ، بل أن هذه الأصول المشتركة بيننا وبين
أهل الكتاب ترتب بسببها أحكام شرعية معينة من حل التناكح والذبائح والإقرار
بالجزية باتفاق ، ونحو ذلك من الأحكام التي نص عليها الشرع لخصوصهم .
فما قاله فضيلة " الدكتور " - حفظه الله - كان من باب بيان وجوه تفريق
الشرع بين أهل الكتاب وغيرهم ، وإعطائهم مزية في أحكام الشريعة عن غيرهم ، ولم يكن
أبداً على نحو ذكر أدلة وبراهين عقلية لاستنتاج عدد من الأحكام الشرعية بناءً على
تلك الأصول المذكورة ، ولكن الآفة تكمن في الهوى الذي يُرى الإنسان ما يود أن يراه
، ويفهمه على النحو الذي يتمناه ، ولهذا يقول " الناصب " هداه الله
:" كل هذا لا يكفي إلا أن يأمرنا الله ورسوله به ، فهما المرجع في علاقتنا مع
البشر دون تحكيم لعقولنا أو لأصول مشتركة موهومة في طبيعة هذه العلاقة" .
عالج الله أفهام المسيئين من هذه الأمة وخلصهم الله من شر الأوهام ….آمين .
ثم بعد ذلك يعقد " الناصب " في نهاية هذا الفصل عنواناً :" لماذا
التساهل معهم " ، وراح تحت هذا العنوان يحلل الأسباب الداعية إلى وقوع فضيلة
" الدكتور " من وجهة نظر " الناصب " في التساهل معهم فيقول :
لماذا التساهل معهم ؟
ثم يعقب قائلاً :" ولنا بعد كل هذا ان نتساءل : لماذا كل هذا التساهل من قبل
" القرضاوي " في التعامل مع أعداء الله من الكفار ومحاولة الظهور بمظهر
المتسامح أمامهم " .
(5/167)
وما أدري ماذا
أقول ؛ فإن كان " الناصب " يرى فضيلته متساهلاً في كل أبواب الفقه ؛ إذ
أنه لا يدرك الفرق بين التيسير المنضبط والتساهل أو التسيب؛فلماذا إذن يصفه في هذا
الباب خاصة بالتساهل ما دام هذا منهجه؟ ، وليس في شيء قاله فضيلة العلامة "
القرضاوي " - حفظه الله - في هذا الباب مما يخالف منهجه في سائر الأبواب حتى
ينعي عليه هنا في هذا الباب خاصة تساهله ، فذلك مما لا معنى له ، إلا إذا أراد
بذلك شدة التساهل !!.
وأما محاولة الظهور بمظهر المتسامح أمامهم ؛ فذلك غير صحيح ؛ إذ أنه متسامح بالفعل
، ولا يصح أن يقال عنه يظهر بمظهر المتسامح لما في ذلك من الإيحاء بالخداع والظهور
على غير الوجه الحقيقي ، الذي يُعرف عن فضيلته دائماً من أنه متسامح مع كل خصومه ،
والمختلفين معه ، وهو وارث لذلك التسامح من نبينا - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ
العلماء ورثة الأنبياء ؛ فليس بعد تسامح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه
ومكذبيه من تسامح ؛ فلم لا يكون فضيلته أيضاً قدوة في التسامح ، ولكن "
الناصب " يحلل وينظر ويفكر في هذا التساهل ؛ فيا ترى إلى أي نتيجة وصل ؟
إنه يقول : " والجواب - فيما ظهر لي - هو أن القرضاوي - هداه الله - يريد
تطمين الدول الكافرة التي يحكمها أهل الكتاب بأن لا خوف عليهم من قيام الحكم
الإسلامي في ديار المسلمين ، حيث إننا سنعاملكم بكل هذا التسامح ؛ فالمطلوب منكم
تمكيننا من الوصول لهذا الحكم ، أو غض الطرف عنا إلى أن نصل إليه في يوم ما !! )
(5/168)
هكذا ظهر
الجواب أمام " الناصب " أسأل الله له الهداية من عمايته ، وكأنه يريد من
المسلمين على ما هم فيه من ضعف وتشرذم أن يقيموا الإسلام بتحدٍ وقوة ليسوا لها
بأهل ، وإن فرض أنهم أهل لهذه القوة ؛ فذلك لا يضعف من لهجة التسامح ، وقد كانت
الجيوش الإسلامية وهي على عتبات الجهاد تذكر أهل البلدان بمآثر الإسلام ، وتؤمن
الناس وتعطيهم العهود لكي تفتح البلاد بسلام هو خير من عَنْوَة ، وكان أهل الإسلام
لا يتعاملون مع من غدر معهم من أهل تلك البلدان بغدر ، وإنما كانوا يقولون ما
عُدَّ قاعدة لهم : " وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر " ، فما كان
من ذلك التودد إليهم لكي تفتح البلدان صلحاً إلا حماية للأرواح من أن تزهق ،
وتغليباً لخطة السلم على خطة الحرب ، وتغليباً للحفاظ على دماء المسلمين من أن
تراق ؛ فكذا أيضاً فعل فضيلته ما يفعله المحاربون الشجعان من عرض خطة السلم
تفادياً للصدام ، وتعريفاً بمحاسن الإسلام تجنيباً للأمة ويلات الفتن والحروب ،
وتنجية لها من تربص الأعداء بها وفق ما تقتضيه الحكمة ، وتنادي به المصلحة العليا
لأمة الإسلام .
ويذكر " الناصب " مدللاً على كلامه بكلام فضيلته إذ يقول - حفظه الله -
: " فالمسيحي الذي يقبل أن يحكم حكماً علمانياً لا دينياً لا يضيره أن يحكم
حكما إسلامياً " .
(5/169)
فهذا الخطاب
من فضيلته إلى المسيحي تبصرة له بعدم لحوقه الضرر بسبب نوع الحكم ، وهو نظير قوله
تعالى : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } ؛
فهي دعوة للنظر في عواقب الإيمان ، وليس تطميناً للخلق بأنه لا ضرر عليهم من
الإيمان على حد فهم " الناصب " - ، ويستكمل حكاية كلام فضيلته فيقول
" حفظه الله " : " فكيف يكون هذا الحكم - بطابعه الرباني الأخلاقي
الإنساني - مصدر خوف أو إزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر ؟ على حين
لا يزعجه حكم لا ديني علماني يحتقر الأديان جميعاً ، ولا يسمح بوجودها - إن سمح -
إلا في ركن ضيق من أركان الحياة ؟ !
وهذا القول من فضيلته إنما يكشف لهم عما يؤدي إليه رفضهم لوجود حكم إسلامي في
الديار الإسلامية من وجود تناقض لديهم قبيح ، وهو على هذا النحو يشبه قوله تعالى
عن أهل الكتاب : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } . وذلك أن أهل
الكتاب بارتضائهم لحكم علماني ونبذهم لحكم المسلمين كأنهم قائلون بلسان حالهم عن
من نبذ الأديان كلها : { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } ؛ فأي عيب في أن يسلك
فضيلته بهم هذا المسلك ، وقد سلكه الله عز وجل معهم ، وأنزله في كتابه
ثم يواصل النقل عن فضيلته في هذا المعنى فيحكي قوله " أيده الله " :
" من الخير للمسيحي المخلص أن يقبل حكم الإسلام ونظامه للحياة ، فيأخذه على
أنه نظام وقانون ككل القوانين والأنظمة ، ويأخذه المسلم على أنه دين يرضى به ربه
ويتقرب به إليه
(5/170)
وهذه حكمة
بليغة من فضيلته ليطيب قلب المسيحي في احتكامه لشرع يخالف معتقده ، وهي أنه لا
يأخذه من جهة مستنده الذي لا يؤمن به ، وإنما يأخذه من جهة تشريعه فهو تشريع له
صفة القوانين تماماً ، فليكن أخذه له من هذه الجهة ، وهذا التوجيه من فضيلته يشبه
ما فعله عمر من تسمية الجزية المأخوذة من نصارى بني تغلب زكاة مع تضعيفها عليهم ،
فالعبرة هو النفاذ إلى المطلوب ما دامت الوسيلة إليه غير خارجة عن منهج الشرع ،
وليس في شيء مما قاله فضيلته خروج عن منهج الشرع عند كل عاقل .
وللأسف فإن " الناصب " عاد في آخر هذا الفصل إلى ممارسة مهنة الطب
النفسي ، لأنه أضاف إليها هذه المرة لمسة من كشف الصوفية حيث قال :" إضافة
أيضاً إلى آثار ( الهزيمة النفسية ) التي يعيشها الدكتور ولا تزال أصداؤها تتردد
في نفسه برغم أنه يحاول إخفاءها على استحياء "
فأما آثار الهزيمة النفسية ؛ فهذا هو تشخيص " الناصب " لحال فضيلة
" الدكتور " ، ولكن لا خوف على فضيلته من تشخيص " الناصب " ؛
فهو حتى الآن لم يصرح له بمزاولتها ، وهو بذلك يعرض نفسه للخطر ، ولكنه لا يبالي
بأي شيء كما هو ظاهر لنا ، فكل شيء عنده مباح بالذات في حق فضيلة " الدكتور
" ولعله سمعه يتصدق بعرضه على الناس فقبل صدقته بلا استحياء .
وأما عن أن أصداء هذه الهزيمة المزعومة التي ما زالت تتردد في نفسه برغم محاولاته
إخفائها على استيحاء ؛ فإننا نرد ذلك الزعم المخالف للحقائق المشاهدة التي تؤكد
بوضوح اعتزاز فضيلته بأمجاد هذه الأمة وانتصاراتها ، وما من كبوة عابرة ، إلا
وبعدها نهضة عارمة ، ومن ثم فليس فضيلته الذي يعيش الهزيمة متخفياً ، بل هو الذي
يحلل الأحداث ليستخرج منها الفائدة ويستخلص الدرس ، ولكن " الناصبين "
لا يعلمون !!.
الفصل الرابع
القرضاوي والديمقراطية
القرضاوي والديمقراطية
(5/171)
وهنا يضيف
" الناصب " فصلاً من تسخيفاته لآراء " فضيلة الدكتور " وبيان
مدى شذوذها ، وهي الطريقة التي اعتدناها منه في ميزانه المختل.
فيستهل كلامه قائلاً :" يؤيد الدكتور " الديمقراطية " ويرى أنها
خير بديل للديكتاتورية ولحكم الطاغوت ."
ويقول انه سيذكر بعد ذلك ملخصاً لرأى " فضيلة الدكتور وبعد بما تيسر من حكمه
على رأى فضيلتة وطبيعي أن ذلك الحكم الصادر عنه هو الذي يوضع في كفة الميزان مقابل
رأى فضيلة الدكتور فتطيش كفة رأيه ؛ لأنه لا يثقل مع حكم الناصب شيء!! .
ثم إنه يبدأ تعليقه بالتماس المعذرة لفضيلة الدكتور فيما ذهب إليه من اللجوء لمسمى
الديمقراطية الغير متماشي مع الشرع في نظر " الناصب " ؛ لأنه قاسى
استبداد الفرد وديكتاتوريته فأراد أن ينعم بالديمقراطية ؛ لأن الضد يهتف بضده، وهو
في ذلك متناسٍ أن فضيلته كذلك قاسى من طغمة غير محتفلة بشرع الله ولا مهتمة به
فلماذا لم يهتف حينئذ بمسمى شرعي في نظر الناصب !! ؟
وأما مناداة فضيلته بشرع الله فذلك أمر محقق في كل مقالاته ومختلف كتاباته التي لا
حصر لها ، ومع ذلك فقد تجاهلها " الناصب " وأكثر من ذلك أنه وَجَّه إليه
الدعوة لَمَّا بح منه صوته ، ولم يتوقف عنه قلمه ومع ذلك يدعوه إلى أن يكون داعياً
لإقامة حكم إسلامي !! ، وسبحان الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة ، ولا تخطيء
موازينه الذر ، بينما موازين العباد تغفل عن القناطير حين تغفل !!!
وكأن " الناصب " يرى أن دعوة فضيلته للديمقراطية نسخت كل ما دعا إليه من
إقامة نظام إسلامي شامل ، بل يتغافل عن ما ذكره " فضيلة الدكتور " في
كون تلك الديمقراطية منضبطة بضوابط الشرع المطهر ، ولا يَعُدُّ ذلك دعوة لإقامة
حكم إسلامي !! فكيف تكون الدعوة لإقامة حكم إسلامي إذن ؟ ! ، إن كانت الدعوة إلى
تقييد كل شيٍ بالشرع الحنيف لا تعد دعوة لإقامة الإسلام نظاماً شاملاً !!
(5/172)
وينعى على
" فضيلة الدكتور " التزامه لفظ الديمقراطية ، وهي مع تهذيبها وتوفيقها
مع الشرع لا تعد " ديمقراطية " فلماذا إذن نحرص على تلك التسمية ولا
نستبدلها حينئذ بالشورى ؟
فالجواب على ذلك واضح وظاهر ، ألا وهو أن المفهوم الذي يعلمه عامة الناس عن
الديمقراطية لا يختلف في جوهره عن المشروع إذ أنه إقامة رأى الأغلبية وتخليصه من
استبداد الأقلية ، ولذا فإن العامة يعرفون جيداً الفارق بين الديمقراطية في جوهرها
، وبين ديمقراطية الغرب المشتملة إلى جانب الميزة المذكورة على السلبيات المشهورة
ولذا فإنهم ينادونويطالبون ليس بديمقراطية الغرب المشتملة على الإباحية الفكرية
والجنسية ، وإنما ببسط الحريات على النحو الذي تهش له الفطر السليمة والنفوس
المستقيمة ، وهو معنى ماثل في الأذهان محقق في الأعيان ؛ فكان التزام ذكره أفضل من
هدمه وأدعى لفهمه حتى إن " الناصب " حينما اقترح بديلاً قال :"
الشورى " مثلاً ، ولعله لم يحقق أو يعزم على هذه التسمية بسبب ما ألفه الناس
من كونها هامشية لا قدرة لها على معالجة الطغيان والاستبداد ، ولم يقترح شيئاً آخر
رغم قوله :" مثلاً "
والذي أجده عيباً ليس في تسمية " فضيلة الشيخ " للديمقراطية المتفقه مع
مبادىء الشرع وقواعده بكل تأكيد ، وإنما النظرة السطحية غير المتعمقة في القضايا ،
وإبداء الرأي قبل سباحة الفكر ، وجولان النظر .
(5/173)
وذلك أنه
وبنظر يسير يمكن للمرء أن يدرك أن القضية المثارة أضعف من أن تجد لها سبب إثارة ؛
إذ أنه مادمنا متفقين على فهم معين للكلمة لا ينبغي فهم خلافه فما وزن قضية
التسمية إذن ما دامت حقيقة المسمى واضحة ومحددة ، وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل
على السطحية ، وكذلك على عدم استيعاب قضايا التاريخ وخاصة قضايا السيرة النبوية
الشريفة التي تفي إطلالة يسيرة عليها بحبس النفس عن الانزلاق في مثل هذه القضية
الخاسرة ، فمن فيض السنة نكتفي بذكر واقعة للاختصار ، ولكونها تفى بالمقصود ، وذلك
أن الأسماء المشهورة للأيام من الأحد إلى الخميس إنما هي تسمية أهل الكتاب أرادوا
؛ أي :اليهود ؛ أن الأحد هو أول يوم ابتدأ الله فيه الخلق والاثنين هكذا يكون ثاني
يوم الخلق ، ومع ذلك فقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأيام في
بيان الأعمال المستحبة في الأوقات الفاضلة كاستحباب الصوم في يومي الاثنين والخميس
، رغم أن هذه الأيام لا تمثل معاني صحيحة لما ذكرناه عن يهود بينما ورد في الصحيح
أن أول أيام الخلق هو يوم السبت ، كما ورد في صحيح مسلم :" إن الله خلق التربة
يوم السبت ، والجبال يوم الأحد " الحديث ، ولذا لم يرد في القرآن ذكر أي من
أيام الأسبوع سوى ما كان منها غير مشتق من العدد وهما السبت والجمعة ؛ لصدقهما ،
وهما غير مشتقين من العدد ، وبذلك تقع الجمعة وتراً كسابع أيام الأسبوع .
ومع ذلك فقد عبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتسمية الخاطئة لما كان بيانه
لفعل الله تعالى في ابتداء الخلق واضحاً فلا يحصل به الغلط ، وتابع الناس على
تسميتهم المشتهرة دون تغيير لها .
(5/174)
فإن علمنا ذلك
ففيم الضجيج حول تسمية علم الناس منها جوهرها الصحيح وردوا ما علق بها من الباطل ،
فإن جاءنا من يريد إلزامنا بباطلها رددناه عليه ، أليس ذلك أسلم وأدعى إلى اجتناب
المهاترات والخوض في ما لا يحتوي على أي فائدة للخائض سوى محاولة الترفع على غيره
بما لا يليق أن يكون سبب رفعه ؟!
ثم يقول " الناصب " " فالديمقراطية الغربية لا تسمى كذلك إلا بأن
تؤخذ مع جميع علاتها " وهذا القول منه صحيح بالنظر إلى التقييد الذي ذكره حيث
إنه لم يقل : ان الديمقراطية هكذا مطلقة ، وإنما قال الديمقراطية الغربية وتلك
يعرف الفدم والفاهم أنها لا تسمى كذلك إلا إذا طابقها في كل معانيها ، ففارق بين
الديمقراطية ، وديمقراطية الغرب ، ولكنه يختم كلامه بنتيجة لا تحققها مقدمته فيقول
:" أما بالتعديل والتغيير والتحريف فسوف تصبح شيئاً آخر لا يمكن تسميته
بالديمقراطية " ، ولكي يحصل على النتيجة الصحيحة يلزمه زيادة لفظة واحدة
فيقول :" لا يمكن تسميته بالديمقراطية الغربية "، وهكذا نحن أيضاً نقول.
أما الديمقراطية فلا ؛ لأن الغرب لا يملكون وصفها على نهجهم ؛ تماماً كلفظة
الدستور ، والقانون ، وغيرها من الاصطلاحات التي تطبق في كل أنحاء الأرض بمفاهيم
وحدود متفاوتة فما يجوز في هذا الدستور لا يجوز في ذاك وما هو خير في تلك القوانين
شر هناك ، وبهذا يتضح معاني كلامنا ويتضح كذلك مدى الخطأ في كلام غيرنا ثم يضرب
مثلاً على ذلك قائلاً :" فمثلها مثل الخمر ، إذا تخللت بنفسها أو بفعل فاعل
فإنها تسمى خلاً ، ولا تسمى خمراً ، وهكذا الديمقراطية "
(5/175)
ونقول له :
كلا ثم كلا فليس هذا كذاك ولا قريباً منه ، شتان بين المثلين ؛ إذ أن الخمر إذا
تخللت تركت أصل طبيعتها وجوهر تسميتها وفارقته بالكلية فصارت اسماً مغايراً لتمام
التحول فيها ، بينما الديمقراطية يختلف الناس في الأخذ بها فيبقى أصلها وحده الذي
يلزم الوفاء به ويعد الخروج عنه توديعاً للديمقراطية معنى ، ولا يقال على من سلك
المسلك المستقيم في تقييد الحريات الشخصية وفق الأعراف السائدة أو الشرائع
الاعتقادية أنه لم يسلك السبيل الديمقراطي مع أخذه بأصل المنهج الانتخابي وقواعده
في إرساء النظم والهياكل التنفيذية في الدولة ، فبان بذلك الفارق بين المثلين حتى
يقال أين ذاك وأين !!
ثم يختم " الناصب " كلامه قائلاً " إذن ، كان الواجب على الدكتور ،
وقد طرق هذا الموضوع المهم أن يدعوا إلى قيام حكم إسلامي " وقد بينا العجب من
هذا الذي قاله آنفاً فنحن به أغنياء عن إعادته ثانياً ، " ففضيلة الدكتور
" دائماً ومنذ سلك مسلك الدعوة إلى الله ما فتئ يدعو إلى حكم إسلامي ، وإلى
تحكيم شرع الله في كل جوانب الحياة ، ومؤلفاته ، وندواته وخطبه وعظاته وكل حركاته
تشهد له بذلك ، وقد بينا كيف رأى فضيلته في سلوك هذا السبيل مع تحصينه بالسياج
الشرعي المتين يعد منهجاً عصرياً مرضياً ، وينتهي إلى صلاح العباد وفق ما سنه
الشرع ، وقد بين فضيلته كيفية كون سبيل اختيار الأغلبية غير خارج عن الشريعة
الغراء بياناً ينتهي عنده كل العناد ويستوجب من كل عاقل وحكيم التسليم بما أتى به
من حجج قويمة وآراء سليمة ؛ فالرجوع إليها وإعادة مطالعتها بحلم وأناه ، ووعي
وبصيرة يهدي إلى الموافقة له بإذنه تعالى .
وقد أحال " الناصب " القارئ للاستفادة على كتب أقل ما يقال عنها إنها لا
تطاول أبداً وبكل الموازين ومختلف المعايير ما كتبه " فضيلة الدكتور "
فكان متقناً أيما إتقان ، ومقارنة غيره به في هذا المضمار لا ينطوي على أدنى تقدير
للرجال .
(5/176)
ثم إن "
الناصب " قد استجلب كتابة أحد المعروفين في ميدان القلم ليحيل القارىء بذلك
عليه فيما تعقب فيه " فضيلة الدكتور " ، والذي بكل أسف لم يكن يعلم أن
فضيلته ما تكلم في قضية من القضايا إلا وكان حديثه فيها من الدقة ، ولم يكن – بكل
أسف – ذلك المتعقب من أهلها فراح يتوهم أخطاء وقع فيها فضيلته ظناً منه جهله
لأسبابها ، والحقيقة أن أعرض عن أسبابها وسنبين بما لا يدع مجالاً للشك أن فضيلته
كان مصيباً تماماً في كل ما قاله ، وأن المتعقب عليه هو المخطىء ، وتلك نتيجة
طبيعية للفارق الكبير بين علم فضيلة الدكتور الذي يعد موسوعياً متعدد العلوم
والمعارف ، وبين المتعقب الذي لا مجال للحديث عن حجمه إذا قورن بفضيلته .
وأبدأ فأقول : إن المتعقب افترض سلفاً – وبدون أدنى دليل أو بينة – خلط فضيلته بين
الجوهر ، والمظهر والنتيجة فقال عن اعتبار فضيلته جوهر الديمقراطية ما ذكرناه أنه
هو : " الخطأ الأول والجوهري الذي ترتب عليه خطأ الفتوى برمتها ، لقد قرر
الشيخ أن جوهر الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم …..إلخ ، وهذا هو ناتج
أساسي من نواتج الديمقراطية أو مظهر بارز من مظاهرها ، ولكنه ليس جوهر الديمقراطية
كما توهم الشيخ ، وإنما الديمقراطية هي – في جوهرها – رفض الثيوقراطية " أي
سلطة الدين .
(5/177)
وفي الحقيقة
فقد كان الكاتب المنتقد بعيداً عن التوفيق غاية في البعد حتى وصل به الأمر إلى
التناقض مع نفسه فقد ادعى أن فضيلة الدكتور خلط بين جوهر الديمقراطية ، ومظهرها أو
نتيجة من نتائجها ، وهو غلط واضح منه لأن الأمر فعلاً كما قال فضيلته من أن جوهر
الديمقراطية أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم وذلك ليس نتيجة للديمقراطية ولا
مظهراً لها ؛ لأن ما كان ثمرة أو نتيجة ولم يكن جوهراً جاز أن يتخلف ويبقى الاسم
على مسماه ، ومن ثم فإن العالم يبقى عالماً وإن أخطأ ، والصواب والحقيقة ثمرة
العلم ، والمظهر قد يختفي ويبقى الاسم كذلك على مسماه فقد يخلع السلطان تاجه ويبقى
مع ذلك سلطاناً ، وهو أمر معروف ، فإذا تقرر ما قررناه من أن جوهر الشيء بفقده
يفقد الشيء بينما مظهر الشيء ونتيجته لا يلزم من فقدها فقده ؛ لأن تخلف كل منهما
يكون لمعنى بخلاف الجوهر ؛ فإنه ينبني على ذلك تصحيح ما قرره فضيلة الدكتور من كون
جوهر الديمقراطية هو ما ذكره لأنه لا يتصور قيامها بدونه وهذه هي حقيقة الجوهر ،
وأما ما قاله " المتعقب " من أن جوهرها هو رفض الثيوقراطية فهو الغلط
بعينه ، وذلك لأنه هو أحد أسباب ظهورها لا جوهرها ، ولأجل ذلك لا تتوقف فهم حقيقة
الديمقراطية عليه ، حتى لو فرض عدمه لصح تصور الديمقراطية بدونه .
وأما وقوع المتعقب في التناقض مع نفسه ؛ فذلك أنه جعل رفض الثيوقراطية هو جوهر
الديمقراطية وهو رفض سلطة الدين ، ثم قال عقب ذلك أنه :" من مترتبات هذا
النصر النهائي للحركة الديمقراطية أن نزعت صفة القداسة عن أي وضع وأي قضية وأي
معنى " فإذا كان رفض تلك المجتمعات الثيوقراطية بما تمثله من (صفة القداسة)
هو جوهر العملية الديمقراطية فكيف يكون هو نفسه نتيجتها !!
(5/178)
ثم يسعى في
بيانه مصادمة الديمقراطية في جوهرها للدين قائلاً :" لأنك إذا قلت – مثلاً –
إن هذا الأمر لا يجوز للناس العمل به بنص القرآن ؛ فأنت بذلك جعلت الحكم لله ،
وليس للشعب ، وطالما سحب الحكم والتشريع من الشعب فقد انتهت قصة : "
الديمقراطية " .
وهذا الكلام منه غير صحيح لما يلي :
أولاً : لكل شعب من الشعوب أو أمة من الأمم ثوابت لا تقبل التغيير ، هذه الثوابت
تكون قد ارتضتها الشعوب بسبب من الأسباب إما اعتقادي ، وإما عرفي ، أو لغير ذلك من
الأسباب ؛ فإذا كان كذلك كانت لشعوبنا التي التزمت أحكام الشريعة على مدى قرون
عديدة أن تجد في ثوابت الشرع ما لا يقبل مساس أي مبدأ به ، وحتى ولو كان ذلك هو ما
يسمى بالديمقراطية ، ولا يمثل التزام تلك الثوابت النابع من عقيدة الشعوب
الإسلامية إلغاءً للعملية الديمقراطية كما لا يمثل التزام أي شعب آخر يمارس
الديمقراطية بثوابت عنده إلغاءً لها .
ثانياً : أن مسئلة الديمقراطية المفترض قيامها في بلاد المسلمين إنما هي تابعة
لاعتقادهم ، ومن ثم فإنه لا تقرر عليهم فئة الالتزام بقطعيات الإسلام ؛ لأنها
المشترك الأدنى بين كل المسلمين ، وإذا كان الأمر كذلك فإن جوهر الديمقراطية كما
عرفناه لم يزل قائماً ؛ لأجل رجوعه لاختيار الناس.
ثالثاً : إن اعتقاد المسلمين على مدى القرون السالفة كلها أن الإسلام دين شامل ،
وهم بذلك يختلفون مع الدول الغربية التي رعت الديمقراطية ، ولا ترى في اعتقادها ما
يدعو إلى ذلك فكان الطبيعي عندهم الثورة على تسلط رجال الدين وسحب البساط من تحت
الكنيسة فنشأت نتيجة ذلك ديمقراطية الغرب ، وهو الأمر الذي يختلف تماماً مع الحال
في بلادنا التي تحرم في كل تشريعاتها ما يخالف أصول الدين القطعية في غالبية دول
المسلمين .
(5/179)
رابعاً : أن
قوله :" فقد انتهت قصة الديمقراطية " يلزمه زيادة لفظ "الغربية
" وليس مطلق الديمقراطية ويتضح لنا مما ذكرناه أن ما قاله " المتعقب
" من حكم أصدره بخطأ الفتوى برمتها إنما هو حكم متعجل من غير مختص على من هو
أكثر منه حلماً وأدق منه اختصاصاً وأخبر منه بدروب الفتيا وأعلم منه بسنن الشرعة .
خامساً : إن تصور الديمقراطية بالصورة التي زعمها " المتعقب " لا وجود
له إذ أنه صورها على أنها كالثوب الواحد يلبسه كل من تمثل بها ، والواضح الجلي
الاختلافات الواضحة بين كل الديمقراطيات الموجودة التي لا تتفق سوى في الجوهر
المتمثل في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع التي تدل على رأى الشعب في انتخابات
شفافة تتمتع بالمصداقية ، فالديمقراطية إذن تتشكل بالمجتمع الذي تعيش فيه فتأخذ
منه ما يزيد على جوهرها من صفات ذلك المجتمع وقناعاته الراسخة .
سادساً : ولو فرضنا تنزلاً أنه إذا حافظنا على قيمنا ، وانتهت قصة "
الديمقراطية " كما زعم المتعقب ؛ فهل هناك من يبكيها ؟ ! أو من يلزمنا بهدم
المبادئ لأجل المحافظة على القصة كما هي ؟ أو من يأمرنا بتغيير اسمها ؟ ! أم أنها
ستبقى ديمقراطية خاصة بنا لها ملامحها المتميزة كشأننا في كل شيء؟! ، أو هكذا
المفترض بنا أن نكون .
سابعاً : أنه لا وصاية على أحد في اختيار المنهج المناسب له ولا في تسميته له ،
وإن سماه الناس ما شاءوا وليس للدول الغربية الأسبق للمنهج الديمقراطي أي وصاية
علينا لأنا اخترنا الديمقراطية وابتدعنا فيها ما يناسبنا ، فهذه بدعة منا ليست
بمحرمة ، ولا يلزمنا تقليدهم في القصة بكاملها لأن القصة الكاملة ليست لدينا حتماً
، فنحن لم نعايش دولة ثيوقراطية حتى نتنكر لها .
(5/180)
ثامناً : إن
ظهور الخلاف بين مفهوم الإسلام والديمقراطية إنما ينشأ لو أن أغلبية الناس رفضت
القطعيات الإسلامية ، ونحن في هذه الحال نكون قد انتقلنا عن الثابت الإسلامي ،
ولكن مع بقائنا على هذا الثابت ؛ فإن النتيجة الحتمية للديمقراطية هي الاتفاق مع
الشرع وليس الخلاف معه ، وإعلان الحرب عليه .
وبهذا كله يظهر لنا خطأ المتعقب فيما أورده على فضيلة "الدكتور" بما لا
يبقى معه أدنى شك في صحة ما قال وخطأ المتعقب عليه .
ثم يقول " المتعقب " عقب ذلك : الواضح تماماً من فتوى الشيخ أنه تصور
الديمقراطية على صورة معينة يأملها ويتمناها ، ثم أصدر فتواه مفصلة على هذا "
الخيال " الذي داعب أمانيه ، لا على الحقيقة التاريخية والموضوعية التي صاغت
مصطلح " الديمقراطية " في الفكر الإنساني الحديث .
ونرد على هذا فنقول بعد ما بيناه فإن الواضح تماماً هو خلاف واضح " المتعقب
" فالصورة التي تمثلها الشيخ إنما هي الحقيقة الواقعة التي يعايشها الناس
ويعرفونها تماماً عن الديمقراطية التي تحكم صناديق الاقتراع بواسطتها مجريات
الأحداث في الدول الديمقراطية .
وأما الحقيقة التاريخية والموضوعية التي صاغت مصطلح " الديمقراطية " فهي
ليست غائبة قطعاً عن ذهن الشيخ الموسوعي الاطلاع ؛ إذ أنها لا يجهلها عامة
المثقفين ، وأغلب العوام ربما كذلك .
(5/181)
ولكن الذي
ينبغي أن يعلم هو أن تلك الحقيقة التاريخية ليست أبداً جزءاً من ذلك المصطلح ،
وإنما هي فقط مجرد تجربة ومعاناة أنتج مخاضها العملية الديمقراطية حتى لا تتحكم
فئة تحت أي مسمى في مصير الأمم بدعوى القداسة وغيرها ، وتلك التجربة لم تخضها
مجتمعاتنا كما ذكرنا ، وإنما ما عهد في أمتنا ما يعد قريباً إلى حد كبير من تلك
الديمقراطية العصرية ، وذلك في أزهي العصور الإسلامية ؛ ابتداء من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - الذي كان يشاور أصحابه ويأخذ برأي أيسرهم ؛ إذ المعلوم أن الأخذ
به يدخل فيه ضمناً رأي الجميع بنوع اعتبار ، وكان إذا أراد أن ينزل منزلاً فأشار
عليه أصحابه بغيره أخذ برأيهم وقد يكون له كارهاً كما في غزوة أحد ؛ إذ كان - صلى
الله عليه وسلم - يكره الخروج من المدينة وكان رأى أصحابه في أغلبهم الخروج فخرج
وهو لذلك كاره .
وينتقل " المتعقب " إلى قول الشيخ : إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية
لا يخطر هذا ببالهم " يعني أن الديمقراطية يلزم منها رفض حاكمية الله – فيقول
: " وأنا في الحقيقة – لم أستوعب قول الشيخ " إن أكثر الذين ينادون
…….إلخ " هل أجرى الشيخ إحصاءً أنتج له هذه الحقيقة ؟ ، وإذا قال مخالفه
" إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية هذا ما يدور ببالهم " ما الذي يرجح
قول أحدهم على صاحبه" ؟
وذلك في نظري تكملة لحديث غير موفق من بدايته إلى نهايته من ذلك الأخ "
المتعقب " فتساؤله هل أجرى الشيخ إحصاءً أنتج له هذه الحقيقة ؟ سؤال لا معنى
له ، ؛ لأن الشيخ لم يجر إحصاء وليس له أن يجري ذلك الإحصاء ليصل إلى تلك النتيجة
؛ فإذا قال المرء إن أكثر أهل أوربا بيض البشرة شقر الشعر يدينون النصرانية ، هل
يلزمه لتلك المقولة أن يلجأ إلى الإحصاء ؟ فالجواب أن مثل هذا أمر مستقر معلوم لا
يحتاج إلى إحصاء حتى كانت العرب تسميهم بني الأصفر لصفرة شعورهم من غير حاجة إلى
إحصاء كما يطالب بذلك " المتعقب"
(5/182)
وهذا فإن
فضيلة الشيخ مستند إلى دعامات قوية وأدلة مادية تؤكد مقالته، فإنه يتكلم عن شعوب
مسلمة مؤمنة بالله تعالى ، يتلى عليهم آيات الله ليل نهار ، وتقام فيهم الجمعات
وتظهر فيهم شعائر الإسلام فيبعد أن يكون ذلك صادراً عنهم ، وقد استمدت قوانينهم من
أحكامه وتشريعاته بالإضافة إلى أن ذلك يوافق الأصل وهو إحسان الظن ثم إن المتعقب
نفسه لا يحقق دعواه بالمخالفة وإنما يفترضها فرضاً ، ولابد للنظر في دعوته أولاً
أن يكون صاحب الدعوة محققاً لها لا متوهماً ظاناً كما فعل " المتعقب "
فلم يقابل دعوى حققها صاحبها بدعوى محققة وإنما بدعوى متوهمة ، وحينما يحقق دعواه
فسنحتكم حينئذ إلى كل أهل حضر ومدر لنعرض عليهم أي الفريقين خير مقاماً ، ويكفي في
رد دعواه انه نفسه لم يتبناها فضلاً عن أنه يدعي تحقيقها بالإضافة إلى أن تلك
الدعوى على خلاف الأصل ، والشأن فيما كان كذلك أن يطالب صاحبه بالبينة وإقامة
البرهان على صحة ما قال ، أي أن المطالبة بالإحصاء ستكون على ذلك " المتعقب "
ومن ادعى ما توهم أنه يمكن أن يُدَّعى في بلد مسلم مستمسك بتعاليم شريعة الله .
ثم يعود المتعقب ليعترف أن المنهج الذي رسمه فضيلة الشيخ لا يختلف معه بشأنه ولكن
يتساءل قائلاً : " ولكن ما الذي يدعوك – يا سيدي – لكي تضع خاتم الديمقراطية
على هذا الحديث وذاك المنهج ؟ ! " فكأنه رد الإشكال ليس إلى حقيقة المسمى
التى جلاها الشيخ ،وإنما إلى الاصطلاح ، ونحن نقول له : إن رد الإشكال إلى
الاصطلاح إن ذلك لهو بعينه التهافت ، وقد ذكرنا فيما سبق الأسباب التي تدعو إلى
استعمال تلك الكلمة وبالمعنى الذي بيناه لإدراك الناس له على نحو لا ضرر فيه ،
بينما غالب المصطلحات الأخرى قد صارت عندهم عقيمة لا تنتج ، وليس في ذلك وضع لخاتم
الديمقراطية ، وإنما هو فقط تسمية الأشياء بما يعرفها في النفوس لا أكثر .
(5/183)
ثم يتساءل
قائلاً : " ما هي بالضبط القداسة التي يحملها لمصطلح غربي التكوين " ولا
أدري من أين أتى بهذه القداسة ، وهل يعرف للمصطلحات قداسة حتى يتساءل عن قداسة هذا
المصطلح أو ذاك ، ولو كان لمصطلح ما قداسة لكانت في حق واضعه أو ما وضع للدلالة
عليه .، ولكن لا توجد على الإطلاق قداسة لمجرد التسمية والاصطلاح .
ويذكره " المتعقب " بمصطلح سابق وهو " الاشتراكية " ويخشى أن
تعاد الكرة فيها مرة أخرى ، ونقول له هذا خطأ ظاهر ؛ إذ أن هوس الاشتراكية إنما
كان بسبب إملاءات السلطة المتسلطة على الخلق حينذاك والتي كانت تدندن للاشتراكية
ولم تكن مطلباً نابعاً من صميم الشعوب على الأقل في البلدان الإسلامية ولهذا فلم
تأت الاشتراكية عن طريق صناديق الاقتراع وإنما أتت فوق الدبابات لتحكم الشعوب
المستضعفة ، فالفارق كبير أيها المتعقب فلا داعي لأن تخشى مكروهاً !!
(5/184)
ثم يواصل
" المتعقب كلامه مكرراً : " إن الديمقراطية ليست ما تُفصله أنت على
مقاسك " ، وقد بينا الرد على ذلك من قبل في أن كل إنسان وكل مجتمع حر في أن
يبتدع ويضيف ما يشاء وما يناسبه إلى الأصول بحسب قناعاته ، وأن الديمقراطية ليست
كما يظن " المتعقب " قميص واحد يلبسه الجميع ؛ إذ أنه لا يوجد مثل ذلك
القميص في الواقع لأن الناس يتفاوتون في أبدانهم ، وكذلك لا توجد مثل تلك الديمقراطية
في الواقع أيضاً ، فيبقى جوهر الديمقراطية مشتركاً بين ديمقراطيات العالم كله ،
وهذا هو المهم في المسألة ثم يقول أيضاً : " الديمقراطية منهج كامل لصيانة
البناء الاجتماعي إما أن تقبله وإما أن ترفضه " فنقول له : من هذا الذي يملك
هذا الحق – أعني – حق تخييرنا بين هذين الأمرين ، ومن أعطاه هذه الوصاية ولأي شيء
يستند في منعنا أو دفعنا في اتجاه من اتجاهين لا نملك بينهما وسطاً ، ومن يردد مثل
هذا الهراء أو يسمح لنفسه بترديده إنما هو الذي يريد أن يفصل الأمور وفق هواه لا
كما هي ، ويريد بعد ذلك الكاتب أن يجعل قبول مبدأ الديمقراطية مساوياً لقبول مبدأ
الثيوقراطية إذا كان ينضاف إلى كل منهما ما يجعله صالحاً لمجتمعاتنا حتى يدعى
" إنه بالقدر الذي تقول فيه : إن الديمقراطية من الإسلام ، يصح القول إن
الثيوقراطية من الإسلام ،!!! ويتعجب من هذه النتيجة التي توصل إليها وحق له أن
يتعجب من ذلك وحق لنا أن نتعجب أكثر منه ،
(5/185)
فالمتعقب بكل
أسف – كما ذكرنا غير موفق في معارضته لفضيلة الدكتور في ما أورده عليه من أوله إلى
آخره إلى حد بعيد ، وهو هنا يمارس هوايته في التصورات الخاطئة مدعياً أنه إذا أمكن
تفصيل ديمقراطية تتناسب مع مجتمعاتنا فإنه يمكن تفصيل ثيوقراطية من نفس النوع كذلك
، وهو خطأ بَيِّن ؛ لأننا أسلفنا أن جوهر الديمقراطية موجود في تحكيم صناديق
الاقتراع في اختيار من يمثل إرادة الشعوب ، وهذا الجوهر هو المشترك الدائم بين كل
ديمقراطيات العالم ، بينما الثيوقراطية ، والتي كما قال " المتعقب "
عنها هنا " الحكم الإلهي " بينما قال عنهما فيما سبق الحكم باسم الله في
الأرض ، وذلك لأنه يختار في كل مقام ما يناسب هواه ؛ فهنا لأجل أنه يريد تجريد
الثيوقراطية من حكم رجال الدين أتى بمعناها على أنها الحكم الإلهي لكي توافق ظواهر
الشرع ، وهناك حينما أراد مصادمة سلطة رجال الدين أتى بما يناسبه والفارق بين
الاثنين كبير ؛ إذا أنه إذا جردت الثيوقراطية من سلطة رجال الدين ؛ فإنه لا معنى
لها لأن ذلك هو جوهرها الذي لا قيام لها إلا به ، وذلك لأن الثيوقراطية كما فسرها
هنا بالحكم الإلهي لكي يتأتى له أن يقول إن الثيوقراطية من الإسلام ، إلا أنه ليس
معنى ذلك أن الله هو الذي يقوم بالحكم طبعاً ، وإنما يقوم به أناس مخولون بالحكم
عنه وهم لأجل ذلك معصومون فيما يصدر عنهم من أحكام ؛ فلأجل ذلك إذا منعنا حكمهم
فإنه بالتالي سينهدم الاصطلاح من أسه وأساسه فلا يكون له معنى ولا شك في مخالفة
معناها ذلك لظواهر الشريعة النافية للعصمة عن غير الأنبياء ، بينما الديمقراطية
التي تحتفظ بالثوابت المذكورة لها قيام مع هذه الثوابت لأنها منها فهي عقيدة
العموم واختيارهم .
(5/186)
ثم ينتقل
" المتعقب " إلى قضية يريد من إثارتها أن يربح المعركة عاطفياً ، وقد
سبق له أن اتهم فضيلة الدكتور بتغليب عاطفته على الدقة والانضباط في الحكم ، بينما
في الحقيقة هو الذي يلجأ إلى العاطفة لتهييج جماهير القراء على الخصم ولشغلها
العقل عن التروى وإصدار الحكم المناسب ، وذلك أنه حكى " أن حزب الفراشة
الإيطالي – حزب المومسات – فرض نفسه على الساحة الحزبية، ودخلت بعض أعضائه
البرلمان الإيطالي لكي يكون " صوت المومس " كافياً لتشريع أي قانون جديد
في المجتمع إذا تساوت الأصوات "
وهنا يتجاهل " المتعقب " الفوارق الشاسعة بين المجتمعين الإسلامي و
الغربي ؛ فإن كان هناك حق ممارسة الدعارة ؛ فمن الطبيعي أن تكون " المومسات
" على حد تعبيره ما هي إلا نساء تمارس حقها في العمل واكتساب الرزق ، فهن إذن
كسائر النسوة العاملات ، وكون المهنة في ذاتها غير جديرة بالاحترام إلا أنها في
نفس الوقت تبقى مهنة جائزة الامتهان والتكسب من خلالها كسائر المهن في المجتمع
التي لا تلقي احتراماً لوضاعتها كالأعمال الدنيا التي يتعفف الناس من الترزق من
خلالها ويتعيرون بالعمل فيها ، ومع ذلك يبقون في دائرة العمل المشروع قانوناً ،
ومن ثم لم يكن للمجتمع أن يتنصل منهن وقد اعترف بعملهن وكدهن لكسب أقواتهن ، ثم
تبقى مسئلة انتخابهن بعد ذلك أمراً يخص الناخبين الذين ربما وجدوا في آرائهن ما هو
جدير بالاحترام ، حيث إن عوار تصرفاتهن لا يمنع كونهن ذوات رأي وتدبير ، فهذه نقرة
، وتلك نقرة أخرى ، وعلى كلٍّ فأمر الثقة فيهن لا يسأل عنه سوى أولئك الذين
انتخبوهن ، فإذا دخلن المجلس كان صوتهن كصوت رئيس المجلس وشرفائه لأن الجميع كما
أشرنا من قبل يمتهنون أعمالاً مشروعة فلا فرق بين أي منهن وسائر رجال المجلس ؛
فالترجيح بصوت إحداهن حين الاقتراع يكون مسئلة بديهية .
(5/187)
وأما هنا في
المجتمعات الإسلامية فالأمر يختلف تماماً حيث لا يسمح باحتراف مهنة الدعارة ،
ويشترط في قبول عضوية البرلمانات المنتخبة أن تكون من أعضاء شرفاء لا يصدر عنهم
أمر مخل بالشرف والأمانة بل إن ذلك الشرط موجود في كل عمل يطالب ربه بصحيفة نزيهة
لكل من يعمل عنده ، فشتان بين ما هنا وبين ما هناك ، و " المتعقب " يعلم
ذلك تماماً ولكنه يمارس دغدغة العواطف بإثارة الكراهية والاشمئزاز من التسمية بذكر
وقائع لا تمت لعالمنا بصلة ، لكى يدفع الناس في الاتجاه الذي يرتضيه . ثم يتظاهر
بتناسي هذه الفوارق ويكمل حديثه قائلاً لفضيلة الشيخ : " ان حزب الفراشة
يمارس حقه الديمقراطي ، وأنك إذا رفضت وجوده أو رفضت دخوله البرلمان ، أو رفضت
الاعتداد بأصوات أعضائه فأنت غير ديمقراطي " .
فهذا الكلام بكل أسف – يتناسى فيه – عامداً أو غير عامد – الفوارق الشاسعة بين
المجتمعين كما أسلفنا ؛ إذ أنه ليس فضيلة الشيخ هو الذي يرفض وجوده بل أن المجتمع
بأكمله يرفضه ، ولا يعترف بمهنة الدعارة مهنة ، ويعتبر كل عمل يخل بالشرف والأمانة
مانعاً من أن يكون صاحبه ممثلاً للشعب وذلك معلوم لكل ذي عينين ، وهذه هي الحقيقة
التي لا مهرب منها أيها " المتعقب " ، وما أوقعك في تلك الأخطاء
المتتابعة شيء سوى أنك أسير فكرة ، فأنت تعجز أن ترى بوضوح آراء الآخرين .
ففضيلة الشيخ دائماً عودنا أن ينظر للأمور دون أحكام مسبقة ، ودون أن يجد في نفسه
تحاملاً على أربابها ، وهو في هذا يذكر دائماً أن الحكمة ضالة المؤمن ، أينما
وجدها التقطتها ؛ فهو أحق الناس بها ، وعمله بذلك هو الذي أكسب آراءه نزاهةً
ومصداقيةً وقوةً ، أسأل الله أن يبقى على نهجه القويم إلى أن يلقى الله تعالى عليه
، غير مفرط ولا متهاون في طلب معرفة الحق من كل طريق يؤدي به إليه ، آمين .
(5/188)
ثم يدعى
" المتعقب " أن مصطلح الديمقراطية المنطلق من الثوابت الإسلامية يرفضه
الغرب ، وهذه دعوى غير مسلمة ، لما ذكرناه من أن ثوابت كل مجتمع موجودة في كل
ديمقراطية في العالم ، وأن الديمقراطية في جوهرها إنما هي الاحتكام إلى صناديق
الاقتراع لتحديد من يحظى بثقة الشعب ، وذلك هو المقصود .
ثم ينتقد " المتعقب " رد فضيلة الشيخ على من زعم أن الاحتكام إلى
الأكثرية غير مقبول شرعاً فيقول : " وبداية أنا أتعجب من كون الشيخ وضع رأى
مخالفيه الذين يرى بطلان قولهم وصدره بأنهم يرون " أن الديمقراطية مبدأ
مستورد ، ولا صلة له بالإسلام " ، فهل يا ترى رأى الشيخ القرضاوي أن
الديمقراطية مبدأ غير مستورد "
(5/189)
وأقول : هنا
يمارس " المتعقب " هواية اللعب على الحبلين ، وهي هواية خطيرة تؤدي
باللاعب إلى السقوط ، وتؤدي بالأفكار إلى الدحوض ، فهو تارة يقول : إن ديمقراطية
الشيخ ليست ديمقراطية بمعناها ، وهو هنا يقول إنها ديمقراطية بمعناها ، ولأجل ذلك
وصفها بالاستيراد ، ويصف فضيلة الشيخ بالخوض في أوهام ، فأي الناس إذن أحق
بالإيهام والأوهام ؟ ! ، إلا إذا كان يقصد باستيراد المبدأ استيراد الاسم فذا عجيب
!! ، وقد بينا تهافته ، فإن كانت ديمقراطية الشيخ ليست هي ديمقراطية الغرب فكيف
يكون إذن قد استوردنا منهم ما ليس منهم ؛ وإن كانت هي ديمقراطية الغرب بمعنى أنها تتفق
معها في جوهرها فكيف ينكر قبل ذلك أنها كذلك ؟ وبعيداً عن هذا التناقض البين ، فإن
الذي لم يفهمه " المتعقب " أن معنى تجويز الشرع للديمقراطية كوسيلة
لتداول السلطة ، وهو الذي يعني بأن الفكرة ذاتها داخلية غير مستوردة ، وما فعله
الآخرون هو تنبيهنا إليها ، وليس إرشادنا إليها تماماً كما تدق الساعة فيتذكر
الإنسان موعداً نسيه ، وإذا لم يكن اتفاق الناس على أبي بكر يدل على المبدأ في
مهده ، وسؤال عبدالرحمن بن عوف الناس في الحضر والمدر أيهما يختار عثمان أو علياً؟
فلما وجد الناس قد اتفقوا على عثمان بايعه ، وغير ذلك مما هو معروف من وقائع
التاريخ يشير بجلاء إلى تأصل المبدأ وقد ذكر فضيلة الشيخ في هذا المعنى ما يفي في
تأكيد المبدأ ولكن تفعيله فقط هو الذي كان المفتقد ، فدعوة الشيخ إلى تفعيل ذلك
الأصل بإثبات مشروعيته ، ليس فيها ما يعني أن الغرب استورده منا ، لما ذكرناه من عدم
تفعيل ذلك في الأصل في مجتمعاتنا من جهة ، ومن جهة أخرى ؛ لأن تجربتهم جاءت بمعزل
عن النظر في تراثنا فيما هو ظاهر ، ولا يبعد أن تكون تلك المجتمعات قد قارنت بين
سطوة رجال الدين في مجتمعاتهم ، والمنزلة التي لهم في مجتمعاتنا فتأثروا بذلك على
النحو الذي أحدث عندهم الثورة المدنية العلمانية
(5/190)
لطبيعة
الفوارق بيننا وبينهم التي تكلمنا عنها من قبل ، وإلا لكانوا أنشأوا ديمقراطية على
غرار ما ندعوا إليه نحن الآن .
ثم ينتقد ما أثبته فضيلة الدكتور من خصائص الديمقراطية إذا أقيمت في مجتمع مسلم
فيردد ما بينا عواره سابقاً فيقول : " فهذا فساد موضوعي ظاهر ؛ فالديمقراطية
لا تعنى بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ونوعية القيم التي يحملها ، فالكل سواء ،
عالم الدين ، والبغي ، والمسلم ، والنصراني " وهنا يلجأ " المتعقب
" إلى العواطف مرة أخرى فيسعى في تأجيج نارها غضباً على تلك الديمقراطية التي
تساوى بين المختلفات وتلحق الأعالى بالأسافل ، وهو في هذا يتناسى أن الناس في نظر
الشرع في الحقوق – أي حقوق أنفسهم – متساوون ، فإذا كان مسلم قد ادعى على غير مسلم
بحق له ليس له بينة عليه فحينئذ يقبل يمين غير المسلم ويكون الاحتكام إليه ، ونفس
الأمر بين التقي والفاجر فيمين الزنديق يستحق بها مال الصديق ؛ لما ذكرناه من أن
الناس في هذه الجهة متساوون ، ولا يلزم من ذلك تساويهم في كل جهة ؛ إذ أنهم في باب
الشهادات يختلفون ، وهكذا .
فإذا كان المجتمع بكل طوائفه يشترك في النفع والضر ، فما يعود بالنفع ينتفع به الجميع
، وكذلك الضر فمن الطبيعي أن يُسْمَع لرأى الجميع ، والكفر لا يمنع صحة الرأي ،
والفسق كذلك ، وإن الله تعالى أيد قولة بلقيس وهي كافرة فقال سبحانه { وكذلك
يفعلون } تعقيباً على قولها { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها
أذلة } .
(5/191)
فقضية
الديمقراطية إذن أن يبدى الجميع رأيه في القضية ، ويكون الغالب هو محل العمل ومحط
الأمل ، ونحن لا نمنع غير المتدينين كما توهم "المتعقب " من أن يبدوا
آراءهم ؛ لأن تلك الآراء لا يلزم فسادها لأجل فساد السلوك أو الاعتقاد، حتى ولو
كانت فاسدة فهي غير قادرة على رد الكثرة الصالحة ، فينطوي الأمر على إشعار هذه
الأقلية بوجودها في المجتمع وانتمائها إليه ، الأمر الذي يذهب من نفسها الحقد
والضغينة تجاهه ، وفي نفس الوقت تلتزم تلك الأقلية بما انتهت إلية رغبة الأغلبية
وإن خالفت هواها ، ونحن بذلك نلتزم من هذه الجهة بالديمقراطية ، ومن ثم فلا يرد
علينا قول المتعقب :" أما إذا قلت بأن حق الممارسة الديمقراطية في المجتمع
المسلم موقوفة على المسلم المتدين ، ولا يدخل فيها غير المتدين ………الخ "
لأننا من حيث قبول الرأي فإننا نسمع للجميع ، ما دام ذلك محدداً بالأطر التي
ارتضاها المجتمع ذو الصبغة الإسلامية كما بين فضيلته ، وقبول الرأي أمر يختلف عن
العمل به.
ثم يعود المتعقب إلى ما يسميه أصل الخلل – حسب تصوره – فيقول : " وهنا نعود
إلى أصل الخلل في تصور الشيخ لماهية الديمقراطية وجوهرها ؛ ففي الديمقراطية الشعب
هو المرجع ، وهو الحاكم ، وهو المشرع ، وهو الثابت الوحيد ؛ فإذا قلت بأن هناك
أموراً لا تخضع للتصويت ، أو لا تدخل مجال التصويت ، فأنت بذلك غير ديمقراطي قطعاً
"
(5/192)
وفي هذه
العبارات يعاود " المتعقب " تكرار خطئه ، وذلك بظنه أن الثوابت
الإسلامية تلغي المسألة الديمقراطية ، ولبيان عدم إلغائها لها نقول عن قوله :
" الشعب هو المرجع ، وهو الحاكم ، وهو المشرع " أي شعب ذلك هل الشعب
الغربي هو مرجعنا ؟ ، أم أنه شعبنا المسلم ؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن شعبنا المسلم
قد ارتضى الالتزام بثابت كونه مسلماً فاختار عدم الخروج على نهج الشريعة ؛ فهل يؤدي
به ذلك الاختيار إلى نبذ الديمقراطية !! ؛ فكون الشعب هو الحاكم لا يعني نقض
حاكمية الله لكون الشعب يختار الحكم بشريعة الإسلام ، فهذا ثابت طبيعي لا أثر له
على إلغاء الديمقراطية قطعاً خلافاً لتوهم " المتعقب " لما ذكرناه من
خصوصية الشعب المسلم ، والأخ " المتعقب " يريد أن يجعل الشعب المسلم
بالديمقراطية غير مسلم ، وهذه يأباها كل عقل سليم ، وإلا فقد التزم شيئاً آخر لا
يصح تسميته ديمقراطية ، وقد بينا غلطه في ذلك فإذا علم ذلك ؛ فإن قول فضيلة
الدكتور " فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع " لا معارضة بينه وبين
المنهج الديمقراطي ، حيث إن هذا الحجب لا يملي على الشعب ، ولكنه صدر منه نتيجة
التزامه بالشرع وليس في ذلك كما ظن " المتعقب " الطعن في صلب
الديمقراطية ، التي بينا صلبها قبل ذلك جيداً ، وأما إذا قرر الشعب عدم الالتزام
بقطعيات الشرع ؛ فإننا حينئذ لن ننشغل بإبطال دعوة الديمقراطية ؛ لأننا حينئذ سنجد
أنفسنا مشغولين بما هو أهم من ذلك وأعظم ألا وهو رد الناس إلى دينهم أولاً رداً
حميداً ؛ إذ أنه لو قدرنا فقدان الالتزام بقطعيات الشرع ، فإننا بصدد الحديث عن
مجتمع غير مسلم ، وتلك قضية أخرى .
ثم يظن المتعقب نفسه بما قاله وكرره كثيراً دون أن يلتفت إليه قليلاً أنه قد وضح
لـ " فضيلة الشيخ " ما كان غافلاً عنه ، والله أعلم بالغافل منهما
واليقظ !!
(5/193)
ثم ينادي
" المتعقب " في حسرة قائلاً : " يا إخواني إنكم بذلك تثيرون
الارتباك والحيرة والتشتت الذهني والنهضوي في عقول وضمائر شباب الصحوة الإسلامية
"
وينادي بإحداث مصطلح جديد يتفق مع الأطر التى ذكر أنه يوافق عليها تماماً ، وهنا
نقول للأخ " المتعقب " : أي الأمرين يثير الحيرة والدهشة : البحث عن
مصطلحات جديدة أو توضيح صحة اعتبار مصطلح معلوم للعامة مقصوده ؟ ! ، وأنه لا
يتنافى وفق هذا المقصود مع الشرع .
أما شباب الصحوة بالذات ؛ فلعل هذا المصطلح بالذات واستعماله يكون معيناً لهم في
تفهم عدة حقائق من أهمها : أنه لا يلزم أن يكون كل ما يدعو به الغرب باطلاً ، أو
أنه يستحق الرد لكونه أتى من عند الغرب وأن ما ينبغي أن يكون إسلامياً يجب أن يكون
بعيداً كل البعد عما هو غربي ، وفي هذا الصدد فقد أشرنا إلى عبارة فضيلة الدكتور :
" من أن الحكمة ضالة المؤمن " ولله الحمد أنه دائماً يطلبها ويسأل الله
الهداية إليها .
ويختم المتعقب حديثه بما ينبغي أن يكون حديثاً له هو فيحدد لفضيلة الشيخ هدفه الذي
غاب عنه ودوره الذي ينبغي أن يهتم به ويطالبه بالنظر فيما قاله في هذا الصدد فيكون
مرجعاً لفضيلته ومعيناً له على الرجوع إلى الله ، وسبحان الله العظيم فإن ما أورده
المتعقب قد بينا نحن تلامذة فضيلة الشيخ عواره وخطأه من صوابه فكيف بفضيلته ، وكيف
يتناسى ذلك "المتعقب " مدى اطلاع فضيله الدكتور الواسع على مختلف كتب
العلم وأصنافه المختلفة وكيفية إحاطته بدروبه الوعرة ، وسلاسة هذه الدروب
وانقيادها له ، والذي نشهد به له أنه ما تكلم في مسئلة أو مشكلة إلا وأعد لها
عدتها المناسبة لها ، وهو بنظره الثاقب لا يروم في بحثه الدائب إرضاء جهة أياًّ
كانت تلك الجهة سوى ما ينتهي به البحث إليه وما يستوثق بالدليل عليه غير هياب ولا
وجل ، كثر المعارض له أم قل .
(5/194)
ومن ثم فإن
الذي يتعرض لآرائه بالنقد ويتعجل في ذلك سيجد نفسه يوماً بعد يوم يتراجع عن أول
مقالته ويبقى ثبات الشيخ على مقالته ، لأنه صبر عليها فلم ينطق بها حتى نضجت وظهرت
دلالتها واتضحت فحينئذ يصدع بها بثبات وروية ، ولقد علمنا منه ذلك جيداً ، فكنا
لرأيه مقدرين ، فكان غالب شأننا استبانه الحق فيما قاله والسعى في نصرته .
وإذا كان الأخ " الناصب " قد استعان بمقالة ذلك " المتعقب "
ليرد بها على فضيلته ، فإننا نقول لهما ولغيرهما : التأني وإمعان النظر قبل
الكتابة بالرد والتعقيب يمنعان المرء من الزلل ، ولذلك فإني أدعوهما إلى كلا
الأمرين معاً عسى أن يوفقا بذلك فيما يريانه من آراء وينتخبانه من أفكار ، والله
هو الهادي إلى سواء السبيل .
الدكتور وقيام الأحزاب في الدولة الإسلامية .
بعد أن انتهى " الناصب " من نقده لديمقراطية " فضيلة الدكتور
" ، واستظهر على ذلك بكاتب قد تعقب فضيلة الدكتور ؛ فأعجب تعقيبه
"الناصب " فنقل كلامه ، وقد بينا فقر كل منهما مجتمعين ومنفردين فما
أغنيا شيئاً عما جاءت به قريحة " فضيلة الدكتور العلامة " ؛ فكان ما
أتيا به ضرباً من الغلط واللغط قد بيناه على نحو شاف كاف بإذن الله .
ثم إن الناصب يقول بعد ذلك مستدلاً على خطأ فضيلة الدكتور ؛ إذ يرى جواز قيام
الأحزاب في الدولة الإسلامية ،وذلك وفق شروط تحمل الصبغة الإسلامية للدولة ، فيقول
الناصب في انتقاده لذلك القول من فضيلة "الدكتور":
" قلت : إذا كنت اشترطت لهذه الأحزاب أن [ تعترف بالإسلام عقيدة وشريعة ،ولا
تعاديه ولا تتنكر له ] ، فما الداعي إذاً لقيامها في ظل حكم إسلامي يطبق شرع الله
ـ، وهو حاصل ولله الحمد ، فلماذا إذن تبقي هذه الأحزاب "
(5/195)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق