بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد كثر القيل والقال عن البدعة ، والحكم على كثير من الأمور بالبدعة ( الضلالة ) .
ومفهوم البدعة غامض عند كثير من المسلمين ، ولاسيما الذين يكثرون من إستخدامها ، والحكم على الأمور بها !
وكلما حلت مناسبة ؛ حدثت فيها نعمة في الإسلام ، وأراد المسلون إحياء ذكراها ، واستثمارها في تجميع الناس ، وتوعيتهم ، وبيان رسالة الإسلام لهم ، وإبعاد الناس – ولو لفترة قصيرة جداً – عن صخب الحياة المادية ، في رحاب بيت من بيوت الله تعالى ، إنبرى أولئك لهم ، ونشطوا في محاربتهم بتوزيع منشورات ، ومطويات ؛ تحارب تللك المناسبة ، وتصم القائمين بها بالبدعة الضلالة ، والانحراف ، والخروج عن سنة رسول الله !
فأحببت أن أجمع في ذلك ، آيات ، وأحاديث ، وأعمال ، وأقوال الخلفاء الراشدين ، والصحابة الكرام ، رضوان الله عليهم ، وكذلك أقوال الأئمة الأعلام ، حتى نكون على بيّنة من أمرنا !
وأنا – مقدّماً – أعلم أنّ أولئك التبديعيين لا يصغون إليّ ، ولو أتيتهم بكل آية ! وذلك لأنهم مُوجَّهون من غيرهم ، وينفذون الأوامر ، ويتركون الأمور ، ويطبقونها بصورة جماعية ، بتوجيهات وبتنظيم ، وأنهم يفعلون ما يظنون أنه الواجب ، والسنة ، ويحاربون غيرهم عليها ، ثم بعد فترة من الزمان يتركون ذلك ، وبتوجيه أيضاً ! ! أو يعيبون غيرهم ، ويطعنون فيهم ، ويصمونهم بالمبتدعة على أمر ما ، ثم بعد فترة هم يفعلون نفس الأمر ، وذلك بأمر ، وتوجيه ، وتنظيم أيضاً ! !
فقد كانوا يعيبون على غيرهم ، ويطعنون فيهم ، فتره من الزمان على السفرات الترفيهية ، والتربوية ، ويصفونها بالبدعة ( طبعاً البدعة الضلالة ! ) ، ثم بعد فترة من الزمان أصبحوا يفعلون هم ذلك ، ويقومون بسفرات ، وبأعداد كبيرة ، ونسوا ما كانوا يعيبون غيرهم عليه ، ويطعنونهم فيه ، وكل ذلك بتوجيه ، وتنظيم ، ثم يقولون : ليس في الإسلام حزبية ، وأحزاب ! !
ولقد قرر شيوخ ، ومسؤولو إحدى الكليات الشرعية ، في محافظة من المحافظات ، بتنظيم تجمع داخل ساحة الكلية ، تضامنا مع إخوانهم ، في استنكار الظلم ، والحيف ، في بقية المحافظات ، واستنكارا لمقتل عدد منهم ، وهو مجرد تجمع ، داخل الكلية ، وليس خارجها ، فقاموا باتصالات بالهواتف الخلوية ، يستأذنون مسؤوليهم ، هل يشاركوا ، أم لا ؟ فجاءتهم الأوامر بعدم المشاركة ، فانسلوا من بين المجموع ، وخرجوا بدون مشاركة ! ! وهكذا . . .
ولذا أقول لو جئتهم بكل آية ، أو دليل ، فلا يغيّر – عندهم – من القضية شيء !
وهـذا لاشـك خطـأ فظيـع فـي المنهج ، والسـلوك ، فقد قال تعالى ، عن اليهود الضُّلّال : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ . . . ) ( ) .
يعني : أنهم لا يؤمنون إلّا باجتهادات علمائهم ؛ الذين يعدّون على أصابع اليد ! ولا يؤمنون باجتهادات غيرهم من الأئمة المجتهدين ؛ ولو كانت اجتهاداتهم حقّاً !
أصلاً لا يعلمون : هل اجتهادات غير علمائهم حق أم باطل ؟ صحيح أم خطأ ؟ صواب أم لا ؟ لأنهم لا يصغون إليهم أصلاً ! ولا يستمعون أو ينظرون إلى أدلتهم ! فالأدلة والصواب والحق ليس مبتغاهم ، بل ما يُؤمرون به ، وما تأتيهم من معلومات وأوامر من جماعتهم ! !
ولهذا قلنا : إن هذا المسلك خطأ فظيع ، ومنهج يشبه إلى حدٍّ بعيد منهج اليهود ! !
وقال تعالى عن المنافقين : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ . . . ) ( ).
يعني : أنهم يعتبرون عامة المسلمين ضُلّال مبتدعون ( سفهاء ) ( ) ، وأنهم هم الناجون فقط من النار ، من بين آلاف الملايين من المسلمين ! !
فمسلكهم ومنهجهم بعيد جداً عن منهج عباد الله تعالى ، الذين بشّرهم الله سبحانه ، وأمر نبيّه سيّدنا محمد أن يبشّرهم بالفوز والجنة ! يقول تعالى :
( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( ) .
فوصف الله تعالى عباده ؛ الذين يستمعون للأقوال جميعاً ( ولاسيما إجتهادات علماء وأئمة المسلمين ) فيتّبعون أحسن وأفضل الأقوال والإجتهادات ، وصفهم بالموحّدين والهُداة وأصحاب العقول !
فهذا شأن الموحدين المخلصين ؛ الذين اجتنبوا طاغوت النفس وهواها ، واستسلموا لله تعالى خالصاً مخلصاً بعيد عن الحزبيات والتعصبات ! !
فكلامنا هنا ليس موجّهاً إلى أولئك ؛ الذين يشبه منهجهم مناهج اليهود والمنافقين ! بل إلى الذين يتّبعون المنهج الذي يمدحه الله تعالى !
إلا إذا أراد الله تعالى هداية عبد من عباده من أولئك ، فسيجعله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه !
و عسى ، ولعلّ ، أن يكون بعضهم من أولئك ؛ ينشد الحقيقة ، ولا يهتم بمن قالها ! بل يهتم بما
قال !
وفي الحقيقة أنا لم أجمع ما جمعته لأولئك ، بل لأناس ينشدون الحقيقة ، فهي ضالّتهم ومبتغاهم ، فلأولئك الأعزة أقدم هذه الرسالة المتواضعة ، أسأل الله تعالى أن يتقبلها منّي ، وأن ينفعني بها ، وسائر من يقرأها بتدبر وتجرد ، إنه سميع مجيب ، ونِعم المولى ونِعم النصير .
ملاحظة :
عند نقلي لأقوال الأئمة ، والعلماء ، قمت بوضع عناوين فرعية على أقوالهم ، وقد استخرجت تلك العناوين من ضمن أقوالهم ، وذلك كي لا يمل القاريء الكريم ، ولا تأخذه السآمة من طول النقل ، وأظن أني قد عزوت كل الأقوال لأصحابها ، وأبدأ النقل بفتح قوس ( [ ) ، ثم لا أسد القوس حتى أنتهي من نقل قول ذلك الإمام ، أو العالم ، وذلك بقوس يدل على انتهاء ما أردت نقله ( ] ) ، ثم أشير في الهامش إلى المصدر ، والمرجع . فلا يحسبن أحد أن تلك الأقوال هي أقوالي !
البدعة في اللغة :
مأخوذة من البدع ، وهو الإختراع على غير مثال سابق ، ومنه قوله تعالى : ( بديع السموات والأرض ) ( ) أي : مخترعهـا علـى غير مثـال سـابق . وقولـه تعالـى : ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ( ) .
[ أَيْ: لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِي، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي وَتَسْتَبْعِدُوا بَعْثَتِي إِلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ قَبْلِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْأُمَمِ ] ( ) .
ويقال : ابتدع فلان بدعة ، يعني : ابتدأ طريقة لم يسبق إليها . ( ) .
وهذا التعريف اللغوي ليس فيه خلاف ، بل هو من المجمع عليه .
البدعة في الشرع
قال الإمام الشاطبي ، رحمه الله : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ( ) .
المضاهي أو المضاهيء : هو الذي يحاول أن يتشبه بغيره ويفعل مثل فعله ( ) .
لقد ذكر الشاطبي ، رحمه الله ، في تعريفه للبدعة ، بأنها طريقة مخترعة في الدين ، وليس هو وحده ذكر ذلك في تعريفها ، بل كل من يذكر تعريفها في الشرع ، يقول بأنها الإختراع في الدين ، فما هو الدين ؟
ما هو الدين ؟
معنى الدين :
الدين هو : ما ذكر في حوار جبريل ، عليه السلام ، مع النبيّ .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الْإِيمَانُ قَالَ الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ
قَالَ مَا الْإِسْلَامُ قَالَ الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ
قَالَ مَا الْإِحْسَانُ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ
قَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّهَا وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا الله ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الْآيَةَ
ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ ( ) .
[ وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جِدًّا، يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الدِّينِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِهِ: " «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» " بَعْدَ أَنْ شَرَحَ دَرَجَةَ الْإِسْلَامِ، وَدَرَجَةَ الْإِيمَانِ، وَدَرَجَةَ الْإِحْسَانِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا ] ( ) .
[ قال القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداءً وحالاً ومآلاً ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إنَّ علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه ] ( ) .
[ وقـال القرطبـي: هـذا الحديث يصلـح أن يقـال لـه أُم السـنة؛ لمــا تضمنه مـن جُمل علــم السـنة ] ( ) .
قال البخاري : جعل ذلك كله من الإيمان ( ) .
[ فمراده بهذا الكلام : أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى جميع ما ذكره في هذا السؤال دينا، والدين هو الإسلام ، كما أخبر الله بذلك . . .
وهو أن الإيمان هو الاعتقادات القائمة بالقلوب، وأصله: الإيمان بالأصول الخمسة التي ذكرها الله في قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285] .
فذكر الله في هذه الآية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والمصير إليه - وهو اليوم الآخر - وهو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان المقرون بالإسلام وفي بعض ألفاظه زيادة ونقص.
وفي رواية البخاري هذه ذكر الإيمان بلقاء الله والإيمان بالبعث فأما الإيمان بالبعث: فهو الإيمان بأن الله يبعث من في القبور.
والإيمان بلقاء الله معناه: الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها . . .
وأما الإسلام المقرون بالإيمان: ففسره بالأعمال الظاهرة من الأقوال والأعمال وهي: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان. وزاد مسلم في رواية من حديث عمر: " وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ". وزاد ابن حبان: " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء ".
وفي رواية البخاري هذه: " أن تعبد الله ولا تشرك به ". والمراد: الإقرار بتوحيده باللسان. وقد يراد به مع ذلك: فعل جميع أنواع العبادات بالجوارح .
وأما الإحسان: ففسره بنفوذ البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه ] ( ) .
وقال الإمام النووي : [ فِيهِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ تُسَمَّى كُلُّهَا دِينًا وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْآدَابِ وَاللَّطَائِفِ بَلْ هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ كَمَا حُكِينَاهُ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ ] ( ) .
أقسام الدين
فالدين هو عبارة عن :
1 – العقيدة والإيمان .
2 – الشعائر التعبدية .
3 – الشرائع القانونية والحلال والحرام .
العقيدة والإيمان
أما العقيدة والإيمان فهو ما وضّحه وبيّنه الكتاب والسنة ؛ الإيمان بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله والملائكة والقدر خيره وشره .
فمن زاد أو نقص في ذلك فهو مبتدع بدعة ضلالة وصاحبها في النار ؛
كأن لم يؤمن بالله تعالى ، أو أشرك به غيره ، سبحانه ؛ سواء في ذاته أو صفاته أو أفعاله .
أو لم يؤمن بالملائكة ، أو بالبعث بعد الموت والحساب ، أو لم يؤمن بأحد الأنبياء والرسل . . . إلــخ ، أو زاد فـي ذلـك ؛ بأن أضـاف إلـى ذلك شـيئاً ، أو أمراً لـم يقله ، ولم يأمر به الله تعالى ولارسوله .
الشعائر التعبدية
أما الشعائر التعبدية ؛ فمن زاد فيها ، أو نقص منها ، فهو مبتدع بدعة ضلالة وصاحبها في النار ؛ كأن زاد فرضاً على الصلوات المفروضة ، أو نقص منها ، أو زاد ركعة أو نقص ؛ كأن جعل الظهر ، أو العصر ، أو العشاء ، ثلاثة ركعات ، أو قدّم من مواقيتها التي حدّدها الشرع ، أو أخّرها ، كأن جعل وقت صلاة الصبح بعد شروق الشمس ، أو قدّم شهر رمضان ، أو أخّره ، أو غيّر من شعائر الحج ، أو زاد ، أو نقص في مقدار الزكاة أو . . . إلخ .
فهذه كلها هي : البدعة الحقيقية ؛ الضلالة ، وصاحبها في النار .
الشرائع القانونية والحلال والحرام
أما الشرائع القانونية والحلال والحرام ؛ فكأن حرّم الحلال ، أو حلّل الحرام الثابت في الشرع ، فهذه بدعة ضلالة وصاحبها في النار .
فالبدعة الضلالة هي ما كانت في الدين ، والدين هو ما ذكرناه من : الإيمان والإسلام والإحسان و . . . :
العقيدة والشعائر التعبدية والشرائع ، الواقعة داخل دائرة القطعيات والثوابت المتفق عليها
فمن بدّل فيها بزيادة أو نقصان ؛ فهو مبتدع بدعة ضلالة ، وهو في النار .
أما إذا لم يغيّر من الدين شيئاً ؛ لا بزيادة ولا بنقصان ، فعمله ليس ببدعة ضلالة ؛ التي صاحبها ضال ، يدخل النار بسببها .
فكل ما لم يخالف الكتاب والسنة وأصول الشريعة فليس ببدعة ضلالة .
إختلاط الأمور
وهنا أمر دقيق ، ربما إختلط على البعض ، ولم يفهمه أكثر الذين يرمون الأئمة والصالحين بالبدعة الضلالة ؛ ألا وهو : أنهم لم يفرِّقوا بين أمرين إثنين :
1- ما سكت عنه الكتاب والسنة .
2- ما خالف الكتاب والسنة وأصول الشريعة .
فظنوا أن الإثنان لا فرق بينهما ! !
على سبيل المثال : إذا أمر الكتاب والسنة بالوقوف – مثلاً – فجلس الناس ، فهنا قد خالفوا
الكتاب والسنة .
أما إذا سكت الكتاب والسنة ؛ فلم يأمرا لا بالوقوف ولا بالجلوس ، فهنا لا الوقوف ،
ولا الجلوس يعتبرا مخالف للكتاب والسنة وأصول الشريعة !
بل حكم الوقوف والجلوس هنا ، يكون بحسب المصلحة والمفسدة الحقيقة ، التي تؤثر على الإسلام ؛ ربما يكون أحدهما ( الوقوف والجلوس ) فرضاً وواجباً ، أو حراماً ، أو مندوباً ، أو مكروهاً أو مباحاً ، حسب ما تقتضيه مصلحة دين الله تعالى ؛ الإسلام الحنيف ، وليس للبدعة الضلالة هنا أي مجال للحكم أو التدخل ! !
فالذين اختلط عليهم الأمر ، حكموا على جميع الأمور التي سكت عنها الكتاب والسنة ، بالبدعة
الضلالة التي أصحابها يدخلون النار !
وحكموا على المصالح المرسلة بالبدعة الضلالة ! !
ما رآه المؤمنون حسناً
قال الإمام بدر الدين العيني ، رحمه الله :
[ والبدعة لُغَة: كل شَيْء عمل عَلى غير مِثَال سَابق،
وَشرعا إِحْدَاث مَا لم يكن لَهُ أصل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي على قسمَيْنِ: بِدعَة ضَلَالَة، وَهِي الَّتِي ذكرنَا، وبدعة حَسَنَة : وَهِي مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا وَلَا يكون مُخَالفا للْكتاب أَو السّنة أَو الْأَثر أَو الْإِجْمَاع ] ( ) .
وقال ، رحمه الله :
[ والبدعة فِي الأَصْل إحْدَاث أَمر لم يكن فِي زمن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ الْبِدْعَة على نَوْعَيْنِ: إِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستحسن فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة حَسَنَة، وَإِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستقبح فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة مستقبحة ] ( ) .
يؤيد ويخدم !
قال الشيخ عطية بن محمد سالم ، رحمه الله :
[ من جاء بعمل لم يكن سابقاً، ولكنه من أمر الدين بمعنى: لم يخالف نصاً في كتاب الله، ولم يعارض نصاً من سنة رسول الله ، بل يؤيد ويخدم ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله ، فهذا من أمرنا وليس بعيداً ولا غريباً عليه . . .
إذاً: قوله: ( من أحدث في أمرنا ) أي: شيئاً جديداً لا صلة له بالدين، ( فهو رد )، أما إذا كان من صلب الدين أو يخدم ما جاء به الدين، فليس ردا . . .
يقولون في الأصول: الإسلام جاء بجلب النفع ودفع الضر، فكل ما فيه جلب نفع للمسلمين فهو داخل في ديننا،
ولكن النفع ليس متروكاً لأهواء الناس ولرغباتهم، ولكن ما شهد به الدين، وهذا باب المصالح المرسلة ، وهو مفتوح على مصراعيه ،
فكل مصلحة لم ينفها الإسلام، وإن لم يأمر بها، لكنها تخدم جانباً من الجوانب الخمسة التي جاء الإسلام بحفظها وتدعيمها، وشرع الحدود لحفظها ] ( ) .
المصالح الضرورية
يقصد الشيخ ، رحمه الله ، بقوله ( الجوانب الخمسة التي جاء الإسلام بحفظهما وتدعيمها ، وشرع الحدود لحفظها ) : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال .
قال الدكتور عبد الكريم زيدان ، وهو يتحدث عن المصالح الضرورية :
[ ويقصد بها المصالح ، التي تتوقف عليها حياة الناس ، وقيام المجتمع ، واستقراره ، بحيث اذا فاتت ، اختل نظام الحياة ، وساد الناس هرج ومرج ، وعمت أمورهم الفوضى ، والاضطراب ، ولحقهم الشقاء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
وهذه الضروريات هي : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال .
وهذه المصالح راعتها الشرائع جميعا ، وان اختلفت في طرق رعايتها ، والمحافظة عليها . والشريعة الإسلامية – هي خاتمة الشرائع – راعتها على أتم وجوه الرعاية ، فشرعت الأحكام لايجادها أولا ، والمحافظة عليها ثانيا ] ( ) .
المقياس والميزان !
وقال الشيخ عطية ، أيضا ، رحمه الله :
[ ويجيب عن ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله : بأن البدعة من حيث اللغة هي : الإيجاد على غير مثال سابق ، و عمر هنا وافق أصلاً شرعيا،ً ومن هنا وضع المقياس والميزان ،
فكل ما وجد بعد زمن رسول الله والخلفاء الراشدين نقيسه على ميزان الشريعة ، فإن وافق أصلاً فيها فهو حسن، وهو إحياء لسنة مماتة، وإن خالف فيها الشرع المعلوم بالكتاب والسنة رددناها على صاحبها ] ( ) .
كل بدعة ضلالة :
إذاً فما معنى حديث رسول الله : كل بدعة ضلالة ؟
[ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته . . . ويقول :
(( أمـا بعد ، فإن خير الحديث كتـاب الله ، وخير الهـدي هـدي محمد ، وشر الأمـور مُحدَثاتهـا ، وكـل مُحدثـة بدعة ، وكـل بدعة ضلالة )) رواه مسلم ( ) ، وفي رواية غيره زيادة (( وكل ضلالة في النار )) .
وعن العرباض بن سارية عن النبيّ أنه قال : (( . . . فإنه من يعشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) ( ) .
[ هذان الحديثان الشريفان هما أقوى ما يتمسك به من يحكم على كل المحدثات الدينية بأنها بدعة ضلالة ، وأن أهلها مبتدعون ضالون من أهل النار ، إذ النص واضح حسب الظاهر (( كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )).
لكن هل لهذا النص وجه من الفهم غير هذا الظاهر الذي يبدو لمن يستدل به على التعميم ؟؟ والجواب : نعم ، والذي يتدبر آيات الكتاب العزيز يدرك هذا .
دلالة (( كل )) :
كلمة (( كل )) قد تأتي والمراد بها التعميم الشامل فيما دخلت عليه ، ومـن ذلك قولــه تعالــى : { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } ، { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا } .
وقد تأتي والمراد بها تعميم هو دون التعميم الشامل لكل ما يصدق عليه اللفظ ، ومن ذلك قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء} ، { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } ، { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } .
ففي الآيات الأولى لا تستطيع أن تتصور شيئاً لا يدخل في عموم ما دخل عليه لفظ (( كل )) .
فالله تعالى بكل شيء عليم ، ويستحيل أن تتصور شيئاً لا يدخل في علمه تعالى .
وكل نفس لا بد أن يذيقها الله تعالى الموت ثم يحييها بعدما أماتها ، ويستحيل أن تتصور أن هناك نفساً من الأنفس لا يذيقها الله تعالى الموت ، وهكذا .
أما الآيات التالية لها فالعموم ليس بالشامل لكل ما دخل عليه لفظ (( كل )) من كل وجه ، وتأمل معاني الآيات وما قاله المفسرون فيها :
معاني الآيات
[ فأما قوله تعالى { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء}
فقد قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيرها :
فإن قال لنا قائل : كيف قيل { فتحنا عليهم أبواب كل شيء} وقد علمت أن باب الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم وأبواب أُخَرُ غيره كثيرة ؟!! .
قيل [ أي قلنا له في الجواب ] : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت ،
وإنما معنى ذلك : فتحنا عليهم استدراجاً منا لهم أبواب كل ما كنا سددنا عليهم بابه عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ، ...
ففتْحُ الله عليهم أبواب كل شيء هو تبديله لهم مكان السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة، ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية ،
وهو فتحُ أبواب كل شيء كان أغلق بابه عليهم مما جرى ذكره .
وأما قوله تعالى { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } فقد قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
وتبييناً لكل ما لقومه وأتباعه إليه الحاجةُ من أمر دينهم .
وأما قوله تعالى { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } فقد قال ابن كثير رحمه الله :
وأوتينا من كل شيء أي مما يحتاج إليه المُلْك .
وأمـا قوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } فقد قال الإمـام الطبري رحمه الله :
وإنما عنى تدمر كل شيء بأمر ربها مما أرسلت بهلاكه ، لأنها لم تدمر هوداً عليه السلام ومن كان آمن به .
وقال ابن كثير رحمه الله : أي تخرب كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب .
فقد بان وظهر أن المراد بقوله تعالى { أَبْوَابَ كُلِّ شَيء} هو بعض الأبواب ، وأن المراد بقوله تعالى { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } هو تفصيل ما يحتاجه قوم موسى من معرفة أمور دينهم ، وأن المراد بقوله تعالى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } هو ما أعطاه الله تعالى لسليمان عليه السلام من الأمور التي يحتاج إليها في تدبير أمور الملك ، وأن المراد بقوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } هو تدمير ما تدمره الريح ، أي هذا المذكور فحسب .
لا يفهم على العموم
[ وعلى هذا فلا يمكن أن نفهم قوله صلى الله عليه وسلم (( وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) على العموم الشامل ،
بل نقول : المعنى أن كل محدثة مما لا يندرج تحت نص من نصوص الكتاب أو السنة ولا يتفق مع مقاصدهما فهو بدعة مذمومة شرعاً ، وكل بدعة بهذا المعنى فهي ضلالة .
فإن قيل : إذا كان لفظ (( كل )) قد يأتي ويراد به التعميم الشامل ، وقد يأتي ويراد به التعميم الشامل من وجه دون وجه ؛ فلم لا نحمل هذا اللفظ الوارد في الحديث الشريف على المعنى الأول حيث إنه هو الظاهر ؟ ! .
لماذا لا يحمل على العموم ؟
[ فالجواب : أنه إذا حملناه على العموم الشامل بإطلاق فإن هذا يؤدي إلى مخالفة ما كان عليه الهدي النبوي وإلـى الحكم على عدد من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبدعة والضلال ( ) ، وهذا محال ، وما أدى إلى المحال فهو باطل .
ثم إن الواجب على أهل العلم هو أن يجمعوا بين الأدلة ، لا أن يضربوا بعضها ببعض فيأخذوا ببعضها ويعرضوا عن بعض ، فذلك سبيل أهل الأهواء ] ( ) .
كل بدعة !
ثم إن الذين ينكرون أن تكون ( كل بدعة ) بمعنى بعض ، هم أيضاً يؤمنون بهذا التفسير ، من حيث يدرون ، أو لا يدرون ! !
وإلا ما الذي أخرج الامور الدنيوية ( السيارات ، الطائرات ، الراديو ، التلفزيون ، الحاسبات ، المكيفـات ، الهواتف ، إلخ . . . ) من هذا الحديث ( كل بدعة ) ، وهذه الأمور أحدثت بعد خير القرون ، وبعد زمن السلف الصالح ؟ !
فإن قيل : إنّ هذه الأمور من أمور الدنيا ، وقد قال النبيّ ، في حديث آخر :
«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»
قلنا : 1 – لم يفرّق حديث ( كل بدعة ضلالة ) بين أمور الدنيا ، وأمور الدين .
بل قال الحديث صراحة : ( كل ) بدعة ضلالة !
ولا شك أن تلك الأمور ( السيارات ، الطائرات . . . ) بدعة ؛ إختراع على غير مثال سابق ! حدثت بعد النبيّ ، وبعد خير القرون !
2 – معنى ذلك : أنّهم لم يأخذوا بحكم حديث ( كل بدعة ضلالة ) وحده ، مستقلاً عن غيره !
بل أدخلوا عليه إستثناءات ، وجمعوا بينه وبين حديث آخر ، فأخرجوا بمعنى شرعيٍّ صحيح .
ولم يأخذوا بمعنى ( كل ) وحده ، وما يدل عليها تلك الكلمة !
فكذلـك فَعـل مَـن قال بالبدعة الحسنة ، إستناداً على أدلة أخرى ! أم يجوز لهم ، ما لا يجوز لغيرهم ؟ !
وقد فسر العلماء هذا الحديث على ضوء الآيات والأحاديث النبوية الأخرى ، ففسروا ( كل ) بـ(بعض ) ! !
لأن نص هذا الحديث ( كل بدعة ) لم يستثنِ – كما ذكرنا – ولم يخرج الأمور الدنيوية ، فما الذي أخرجها ؟ !
لم يقل ( كل بدعة في الدين ) ، ولم يقل ( كل بدعة إلا أمور الدنيا ) ! بل أطلق البدعة ( كل بدعة ) !
فلماذا يكون هذا التفسير والاستثناء مقبولاً هنا ، ومرفوضاً هناك ؟ !
وكذلك إن قيل : أن سياق الكلام هو الذي أخرج الأمور الدنيوية عن البدعة ، وذلك لأن الحديث هو عن الدين !
قلنا : إذاً كلمة ( كل ) هنا فسرت بالسياق ، ولم يؤخذ بمعناها وحده ، وهو المطلوب ، فإن الذين يقولون بالبدعة الحسنة ، قالوا ذلك أيضاً ! !
مسألتان متداخلتان !
وهناك تفسير آخر ! وهو :
إن المسألة التي اختلف فيها الناس ، أو العلماء ليست مسألة واحدة ، بل هي مسألتان تداخل بعضها في بعض ! والفريقان هما على الصواب فيما ذهبا إليه ، كل على حدة !
فالذي يذهب إلى أن كل بدعة ضلالة ، هو على الصواب ، حيث قد ورد في ذلك حديث عن النبيّ .
ولكن خطأه هو في الحكم على المصالح المرسلة ، أو التي لها أصل في الشرع ، أو التي لا تدخل في دائرة تغيير الدين ، وتشويهه زيادة ونقصانا بالبدعة ، وتسمية غير البدعة بالبدعة ، والحكم على أصحابها بالنار !
والذي يذهب إلى أن هناك بدعة حسنة ، هو أيضاً على الصواب ، من حيث الأمثلة التي يأتي بها استدلالا على ذلك ، هي في الحقيقة مصالح مرسلة ، أو لها أصل في الشرع ، أو لا تدخل في تغيير الدين ، وتشويهه زيادة ونقصانا !
ولا يخالف ولا يعارض حديث رسول الله في أنّ كل بدعة ضلالة ، بالمعنى الذي يعارض الأصول !
والأمثلة التي يأتون بها ، هي فعلاً كلها بدع ( لأنها أغلبها حدثت بعد النبيّ ، وبعد خير القرون ) ، ولكنها لا تعارض ولا تخالف الأصول ، التي يقصدها الحديث !
وكلا الفريقين على الحق ، وقوله صواب ! وكل منهما يتحدث عن مسألة غير مسألة الفريق الآخر !
أي : الإختلاف والكلام هو في موضوعين لا موضوع واحد ، وأحد شروط التناقض هو : وحدة الموضوع !
كل ضلالة في النار
أود أن أنقل هنا قولاً للحافظ إبن تيمية رحمه الله حول ( وكل ضلالة في النار ) .
قال رحمه الله :
[ وَقَدْ كَـانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَـلَّمَ يَقُولُ فِـي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فِـي خُطْبَةِ يـَوْمِ الْجُمُعَةِ : خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } ( )
وَلَمْ يَقُلْ: وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ بَلْ يَضِلُّ عَنْ الْحَقِّ مَنْ قَصَدَ الْحَقَّ وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلَا يُعَاقَبُ
وَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مَغْفُورٌ لَهُ.
وَكَثِيرٌ مِنْ مُجْتَهِدِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ قَالُوا وَفَعَلُوا مَا هُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بِدْعَةٌ إمَّا لِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَإِمَّا لِآيَاتِ فَهِمُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُرَدْ مِنْهَا وَإِمَّا لِرَأْيٍ رَأَوْهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ .
وَإِذَا اتَّقَى الرَّجُلُ رَبَّهُ مَا اسْتَطَاعَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: " قَدْ فَعَلْت " ] ( ) .
فهو – رحمه الله – لا يحكم على من يضل عن الحق – إجتهادا – بالنار ، بل يقول إنه مغفور له خطؤه .
إذاً حسب رأي الحافظ إبن تيمية رحمه الله ، أن تلك الزيادة ( وكل ضلالة في النار ) غير صحيحة .
وذلك – إضافة إلى سند ذلك الحديث ( وكل ضلالة في النار ) – فإن المجتهد قد يضل عن الحق – عند اجتهاده – ويخطأ ، وخطأه مغفور له ، بل له أجر الإجتهاد – كما في الحديث الصحيح – فكيف يُحكَم عليه بالنار ؟ !
رفع الملام عن الأئمة الأعلام
وقد سار الحافظ إبن تيمية ، رحمه الله ، على منهج الإمام الشافعي ، عندما قال : رأيى صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب . في قوله رحمه الله :
[ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ وَاسِعَةٌ, وَلَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي بَوَاطِنِ الْعُلَمَاءِ.
وَالْعَالِمُ قَدْ يُبْدِي حُجَّتَهُ وَقَدْ لَا يُبْدِيهَا, وَإِذَا أَبْدَاهَا فَقَدْ تَبْلُغُنَا وَقَدْ لَا تَبْلُغُنا, وَإِذَا بَلَغَتْنَا فَقَدْ نُدْرِكُ مَوْضِعَ احْتِجَاجِهِ, وَقَدْ لَا نُدْرِكُهُ, سَوَاءٌ كَانَتْ الْحُجَّةُ صَوَابًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ, أَمْ لَا ] ( ) .
وقال أيضاً رحمه الله :
[ وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ يَكُونُ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِذَا جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِيهِ تَحْلِيلٌ أَوْ تَحْرِيمٌ أَوْ حُكْمٌ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ التَّارِكَ لَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا أَسْبَابَ تَرْكِهِمْ يُعَاقَبُ؛ لِكَوْنِهِ حَلَّلَ الْحَرَامَ ، أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ ؛ أَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلٍ: مِنْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ الَّذِي أَبَاحَ هَذَا, أَوْ فَعَلَهُ, دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ .
وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ, مِثْلَ المريسي وَأَضْرَابِهِ: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ يُعَاقَبُ عَلَى خَطَئِهِ ] ( ) .
وقال أيضاً رحمه الله :
[ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا .
وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ : إن الْأَحَادِيثَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ ، لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنَةٍ .
ثُمَّ لَوْ فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ ، وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا .
بَلْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ كانوا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِيرِ؛
لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُمْ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَدْ لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَنْ مَجْهُولٍ ؛ أَوْ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ ؛ أَوْ لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ ،
فَكَانَتْ دَوَاوِينُهُمْ صُدُورَهُمْ الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ عَلِمَ الْقَضِيَّةَ ) ( ) .
سنة الخلفاء الراشدين
هناك ملاحظة حول فَهم حديث النبيّ ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي . . . ) :
فقد فهم كثير من المسلمين ، أن للخلفاء الراشدين أن يسُنُّوا سُنَناً غير سنة النبيّ ، إعتماداً على الحديث المذكور !
أي : كأنهم هم أيضاً معصومون عن الخطأ ، ولهم أن يُشَرِّعوا غير ما شرّعه الله تعالى عن طريق رسول الله ، حيث أجاز لهم النبيّ ذلك ! وهذا خطأ في الفهم كبير !
الحاكم هو الله وحده
فقد أجمع المسلون على أن الله تعالى وحده هو الحاكم ، ولا حاكم غيره .
قال الدكتور عبد الكريم زيدان :
[ وعلى هذا فالحاكم ، أي الذي يصدر عنه الحكم ، هو الله وحده ، فلا حكم إلا ما حكم به ، ولا شرع إلا ما شرعه ، وعلى هذا دلّ القرآن وأجمع المسلمون . ففي القرآن قوله تعالى : (( إن الحكم إلا لله )) ( ) (( ألا لَهُ الحكم )) ( ) .
وعلى هذا الأساس كان الحكم بغير ما أنزل الله كفراً ، لأنه ليس لغير الله سلطة إصدار الأحكام قال تعالى (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ( ) .
وما وظيفة الرسل إلا تبليغ أحكام الله ، وما وظيفة المجتهدين إلا التعرف على هذه الأحكام والكشف عنها بواسطة المناهج والقواعد التي وضعها علم الأصول ] ( ) .
وقال الدكتور حمد عبيد الكبيسي :
[ من خصائص الشريعة الإسلامية : أنها تشريع سماوي ، يصدر الحكم فيها عن الله سبحانه ، فالحاكم ومصدر الحكم حقيقة هو الله تعالى ،
أما مايقررِّه علماء أصول الفقه من أن هناك أصولاً وأدلة أخرى للحكم ، فإنهم يعنون بها تلك المسالك التي يكتشف بها حكم الله تعالى ، فهي أصول بالمعنى المجازي لا الحقيقي .
وقد أجمع على هذا المسلمون ، فاتفقوا على أنّ الحاكم هو الله سبحانه ، وأنه لا شرع إلا منه ، وقد استند هذا الإجماع إلى نصوص من الكتاب : ( إن الحكم إلا لله ) ( يوسف : 40 ) ،( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ( المائدة : 49 ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ( المائدة : 47 ) ] ( ) .
وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله :
[ أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه لا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له
أما النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ،
ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
فإذاً الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته ] ( ) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :
[ وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ ... ] ( ) .
معنى اتباع . . سنة الخلفاء الراشدين
إذاً فما معنى قوله : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ؟
معناه : هو شهادة من رسول الله للخلفاء الراشدين المهديين ، بأنهم سائرون على سنة رسول الله لا يحيدون عنها .
فإذا عملوا عملاً لم يعمله النبيّ ، فهو من فهمهم الصحيح لسنة رسول الله ، ولو أن النبيّ كان في مكانهم لعمل ذلك العمل .
فأعمالهم صائبة ، وصحيحة ، ليس فيها بدعة مذمومة ، أو ضلالة ، والله أعلم .
وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، أنه قال :
[ ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة ] ( ) .
وقال الحافظ إبن تيمية رحمه الله :
[ فَإِنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: هُوَ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ بِهِ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد ] ( )
تفسير الإمام الشوكاني للحديث
وقال الشيخ المباركفوري رحمه الله :
[ وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ
وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ
فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ الْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا
وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمُ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ
وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما تَقْضِي قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ
قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لم تجد قال أجتهد رأيي
قال الحمدلله الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ أَوْ كَمَا قَالَ
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ
فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ قُلْتُ ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ
وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنَ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنَ الظُّنُونِ
فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ
وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ محل القدوة وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ
انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ ] ( ) .
وقال الشيخ المباركفوري ، أيضاً ، رحمه الله :
[ قُلْتُ لَيْسَ المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي أَيْ بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا انتهى كلام القارىء
وَقَالَ صَاحِبُ سُبُلِ السَّلَامِ أَمَّا حَدِيثُ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وبن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ وأخرجه أحمد وبن ماجه وبن حِبَّانَ وَلَهُ طَرِيقٌ فِيهَا مَقَالٌ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِسُنَّةِ الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَادِ الْأَعْدَاءِ وَتَقْوِيَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ لِكُلِّ خَلِيفَةٍ رَاشِدٍ لَا يَخُصُّ الشَّيْخَيْنِ .
وَمَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِخَلِيفَةٍ رَاشِدٍ أَنْ يُشَرِّعَ طَرِيقَةً غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ هَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسُهُ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ سَمَّى مَا رَآهُ مِنْ تَجْمِيعِ صَلَاتِهِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ بِدْعَةً وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا سُنَّةٌ فَتَأَمَّلْ ] ( ) .
ومعلوم أن كثيرا من الأعمال لم يعملها النبيّ ، بل عملها الخلفاء الراشدون بعده ، وهو وصّى باتباع سنتهم مع سنته ، باعتبار أن الخلفاء الراشدين سائرون على منهجه الذي ربّاهم عليه ، فالسنة هي الطريقة والمنهج .
فليس معنى الحديث : أنّ للخلفاء الراشدين أن يشرّعوا مع الله تعالى ، ومع رسوله ، كما فهم كثير من المسلمين ذلك خطأ !
بل يعني : أنّ الخلفاء الراشدين فقهاء علماء ، قد فهموا الإسلام ، وهم على الصراط المستقيم !
ترك النبيّ للعمل وهو يحبه
كان النبيّ كثيراً ما يترك عملاً من الأعمال وهو يحبه ، ويود أن يعمله
ولكن كانت هناك أسباب خاصة تمنعه من ذلك ، وهو ليس كغيره حرا يفعل ما يشاء ، بل هو موضع القدوة ، ومحسوب عليه كل حركة وسكنة ، صلى الله عليه وسلم .
فليس كل ما ترك النبيّ من عمل ، يعني ذلك : عدم جواز ذلك العمل !
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : إن كان رسول الله ليدَع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم ( ) .
قال الإمام النووي رحمه الله :
[ قَوْلُهَا لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ ضَبَطْنَاهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يَعْمَلَهُ وَفِيهِ بَيَانُ كَمَالِ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ مَصَالِحُ قُدِّمَ أَهَمُّهَا ] ( ) .
خشية أن يفرض عليهم
وخشيته ليست من فرض الله تعالى ذلك على الناس ، وإلا لو أراد الله تعالى ذلك لفرضه سواءً فعله أو لم يفعله .
ولكن خشيته من أن الناس هُم يفرضون ذلك على أنفسهم ؛ وذلك بحجة أن النبيّ القدوة قد فعله ، وداوم عليه ، إذاً يجب عليهم أن يفعلوه أيضاً ، فيشدّدوا على الناس ما لم يُرد الشارع الحكيم ذلك !
وقد أشار النبيّ إلى ذلك بقوله : فيُفْرَض عليهم بالمبني للمجهول ، أو مبني لِما لم يسمى فاعله ، فلم يقل إن الله تبارك وتعالى يفرضه عليهم .
صلاة السنة بعد العصر
ومن ذلك : عن عائشة ، رضي الله عنها ، أيضاً ، قالت :
( وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاَةِ ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا - تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا ، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ) ( ) .
فمن شفقته على أمته ، ومن رحمته بهم ، لم يصلِّ تلك الركعتان في المسجد ، وإلا لولا ذلك لصلاهما في المسجد .
فإنه ما كان يريد أن يثقل على أمته ، بل كان يحب أن يخفّف عنهم ، صلى الله عليه وسلم ، فمـن أراد أن يفعل ذلـك فـلا حرج عليه ، وإن لـم يفعله رسول الله ، بل ربما يُستحب ذلك ؛ لأن النبيّ ، كان يحب ذلك ، ولكن كان هناك مانع معتبر منعه من ذلك ! وليس هناك مانع يمنعنا من ذلك
معنى ذلك : أن مَن صلاهما في المسجد ، لم يخالف السنة ، وإن لم يفعلها رسول الله ! فإن ترك النبيّ لذلك العمل ، ليس لمكروهية ذلك العمل ، ولا بسبب أن ذلك العمل ليس فيه خير ، كما يفهمه بعض المسلمين فيقول : لو كان فيه خير لفعله رسول الله ! !
تخفيف الصلاة مخافة إفتتان الأم !
ومن ذلك :
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ ) ( ) .
فهو كان يودّ ، ويريد أن يطيل في الصلاة ، ولكن من رحمته وشفقته على الأم يترك ذلك .
يعني : أن ترك النبيّ لعبادة ، أو لعمل ما ، ليس معناه بغضه ، أو كرهه لذلك العمل ، فيعتبره البعض – بناءً على ذلك – أنه مكروه ، أو بدعة ؛ لأن النبيّ لم يفعله ، ولو كان خيراً لعمله النبيّ !
ويشوّشون على المسلمين بقولهم : هل كان رسول الله يعلم ذلك العمل الصالح المتروك ، أم لم يكن يعلمه ؟
فإن قلت : ما كان يعلمه ، فقد رميت النبيّ بالجهل ، وهذا كفر ! !
وإن قلت : كان يعلمه ، فيُقال : هل كان عملاً صالحاً ، أم طالحاً ؟
فإن قلت : كان عملاً طالحاً غير صالحٍ ، فقد حكمت على نفسك !
وإن قلت : لا ، بل كان عملاً صالحاً ، فيُقال : فلِمَ لم يفعله رسول الله ؟ هل أنت أفضل من النبيّ ؟ !
بل زادوا فـي الطنبور نغمـة ! فقالـوا : إنه لم يعمله أحد في القرون الثلاثة ( الصحابة ، والتابعين ، وتابع التابعين ) فلذلك لا يجوز ! !
أي : جعلوا القرون الثلاثة معصومين مشرّعين ! ! فإذا فعلوا شيئاً فهو جائز ، يجوز للمسلم أن يفعله ، وإذا لم يعمله أحد منهم فلا يجوز ذلك ، ويعتبر بدعة ضلالة ! !
علماً بأنهم يعيرون ويعيبون غيرهم ، ويرمونهم بأنهم يقولون بعصمة غير النبيّ ، ومشرعين غيره ، وهم أنفسهم يفعلون أكثر من ذلك وأشد ، وربما لا يدرون !
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
فـإن قيـل : ألم يقـل رسـول الله : ( خَيْرُ النَّـاسِ قَرْنِـي ، ثُـمَّ الَّذِيـنَ يَلُـونَهُمْ ، ثُـمَّ الَّذِيـنَ يَلُـونَهُمْ ) ( ) ؟
قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ هل قال إنهم معصومون مشرعون ، إذا لم يفعلوا شيئاً فلا تفعلوه ؟
بل إنها شهادة من رسول الله لخيرية الناس في تلك القرون ، وبأنهم من أفضل الناس !
وليس معنى ذلك أنهم معصومون ، أو يجمد الدين والحياة في ذلك الزمان !
فإن هذا الفهم يوحي بأن هذا الدين قد جاء لتلك القرون الثلاثة فقط ! فلا يجوز للأئمة والعلماء بعـدهم أن يجتهـدوا ، كمـا اجتهد الأئمة في تلك القرون فقادوا الحياة بالإسلام ؛ وعالجوا مشاكل عصرهم ، وأنزلوا النصوص على واقعهم .
وقد اختلفوا فيما بينهم في اجتهاداتهم ، وفهمهم للنصوص ، وهم كانوا بشراً مكلّفون مثلنا . ولاسيما – غير الصحابة – لم يروا رسول الله ، مثلنا ، وإن كانوا أخير وأفضل منّا .
ومن هنا نفهم : لماذا يُتّهم المسلمون – من قِبل خصومهم – بالرجعية والتخلف ، وأنهم يريدون العودة إلى حياة الصحراء والجِمال ! !
فهذه الأفهام الخاطئة للنصوص لا تخدم هذا الدين ، بل تعين الخصوم في حربهم للإسلام !
ومنه : عن أنس بن مالك قال :
( ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبيّ صلى الله عليه و سلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه ) ( ) .
فيخفف ، مخافة على الأم ، لا أنه ليس في إطالة الصلاة أجر ، أو أفضلية .
عدم وجوب السواك رحمة بالناس !
ومنه : عن أبي هريرة أن النبيّ قال :
( لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ) ( ) .
هو يعلم أن في السواك أجر ، وفضل كبير ، ويودّ أن يوجبه على الناس ، مع كل صلاة ، ولكنه ترك ذلك ، مخافة المشقة على أمته ، فلم يأمرهم به !
أليـس فـي اسـتخـدام السـواك فـي الصـلاة أجـر ؟ فلمـاذا لم يأمر النبيّ أمته بذلك ؟ أليس هو ( إستخدام السواك في كل صلاة ) عمل صالح ترك الأمر به ، وهو يعلم أنه عمل صالح ؟
نعم تركه لرفع المشقة عنهم ، صلى الله عليه وسلم ، لا أنه ما كان يعرفه ، أو ليس فيه أجر ، كما يريد البعض أن يجعل من هذا الفهم الخاطيء قاعدة ، يحارب بها كل عمل صالح يخدم الإسلام ، بدعوى أن رسول الله ، لم يفعله ! !
عدم تأخير صلاة العشاء رحمة بالامة ! :
ومنه : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( أعتم رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا فقام عمر بن الخطاب فقال الصلاة قال عطاء قال ابن عباس فخرج نبي الله صلى الله عليه و سلم كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسه ماء واضعا يده على رأسه فقال ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها هكذا ) ( ) .
وفي رواية لعائشة رضي الله عنها قالت :
( أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي» وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: «لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي» ) ( ) .
إن الأصح ، والأحب إلى النبيّ أن يصلي العشاء في هذا الوقت ، ولكنه ترك ذلك من أجل أن لا يشق على أمته .
فقد ترك ، الأفضل إلى المفضول ، من أجل أن لا يشقّ على المسلمين ، فكيف يُقال في أمر لم يفعله رسول الله ، ولا يخالف الأصول : إنه غير جائز ، لأن النبيّ ، لم يفعله ، ولو كان خيراً لفعله رسول الله ؟ !
التخلف عن السرايا حبا بالصحابة والمسلمين !
ومن ذلك أيضاً : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله :
( لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه ويشق علي أن يتخلفوا عني ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم أحييت ثم قتلت ثم أحييت ) ( ) .
ترك ذلك العمل الصالح ، شفقة على أمته .
فلولم يكن موضع القدوة ، ولو كان حرّا في أن يعمل من الصالحات مايشاء ، لما ترك ذلك .
وترك هذا العمل الصالح الشاق ( عدم التخلف في جميع السرايا ) ، المحبوب لديه ، من أجل أمته ، لأنهم لا يستطيعون الإقتداء به في ذلك ، فتكون حسرة في قلوبهم ، وهو لايحب ذلك لهم ، فترك ذلك العمل الصالح !
تَرْك إعادة بناء الكعبة خوفاً على الناس !
ومنه : عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ قال لها : ( يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم ) ( ) .
الكعبة المشرفة التـي يطوف حولهـا ملايين المسـلمين ، قبلتهم ، ورمز العبودية والتوحيد ، تركها على ما بناها المشركون ، على غير أساس ما بناها نبيّ الله ، وخليله ، إبراهيم عليه السلام .
وكان يودّ أن يهدمها ، ويعيدها كما كان بناها خليل الرحمن ، إبراهيم عليه السلام . ولكن ترك ذلك مخافة على المسلمين أن تنكر قلوبهم .
فهل يصح أن يُقال : لو كان خيراً لفعله رسول الله ؟ !
حزنه وندمه حباً للأمة !
ومنه : عن عائشة رضي الله عنها ، أيضاً أن رسول الله خرج من عندها وهو قرير العين ثم رجع وهو كئيب فقال : دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شَقَقْتُ على أمتي ( ) .
وذكره الإمام بدر العيني رحمه الله فقال : [ قالت عائشة :
دخل عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حَزِين، فَقلت: يَا رَسُول الله! خرجت من عِنْدِي وَأَنت قرير الْعين طيب النَّفس، فَمَا بالك؟ فَقَالَ: إِنِّي دخلت الْكَعْبَة، وودت أَنِّي لم أكن فعلته إِنِّي أَخَاف أَن أكون قد أَتعبت أمتِي من بعدِي) قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ، وَالْحَاكِم وَصَححهُ، وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الدُّخُول فِي حجَّته ] ( ) .
يعني : أنه حزن لدخوله الكعبة الشريفة !
فهل حزنه لهذا الدخول ، وتركه له ، من أجل أنه تبيّن له بأنه ليس بعملٍ صالح ، فيصح بناءً عليه أن يقال : لو كان خيراً لما تركه رسول الله ولفعله مراراً وتكراراً ؟ !
أم أنه عمل صالح مرغوب ومندوب إليه ، ولكنّه ، تركه حتى يبيّن للمسلمين أنه لا حرج على مَن لم يدخلها ؟ !
ماذا نفهم من هذه الأحاديث ؟
في هذه الأحاديث الكثيرة المباركة وغيرها ، حِكَم ، وعِبَر كثيرة ، ولكن الذي يهمنا هنا في موضوعنا هو :
1 – كان النبيّ يحب أن يعمل كثيراً من الأعمال الصالحة ، ولكنه كان يتركها ، لا كرهاً لها ، ولا لأنها ليس فيها خير ، ولا لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعرفها ، ولكن رحمة وشفقة على أمته أن يثقل عليهم ، ولولا ذلك لعملها ، ومن ذلك – كما ورد في الأحاديث التي عرضناها - :
أ – كان أحياناً لا يصلي بعض النوافل في المسجد ، مخافة أن يُثَقِّل على أمته .
ب – كان يحب أن يُطَوِّل في الصلاة ، ولكنه يترك ذلك ويتجوّز فيها كراهية أن يشق على الأمّ .
ج – كان يحب أن تستعمل أمته كلهم السواك مع كل صلاة ، وكان يحب أن يوجبه عليهم ، ولكنه ترك ذلك من أجل أن لا يشق عليهم .
د – كان يحب أن يؤخر صلاة العشاء إلى أن يذهب عامة الليل ، ويعتبرها هو وقتها ، وكان يود أن يأمرهم فيصلوها هكذا ، ولكنه ترك ذلك ، وصلى معهم في الوقت المعلوم عندنا ، خشية أن يشق على أمته .
هـ - كان يحب أن لا يتخلف عن سرية ، ولكنه ترك ذلك خشية أن يشق على أمته .
و – كان يحب أن يهدم البيت الحرام ، الذي بنته قريش قبل البعثة ، على غير ما بناه نبيّ الله إبراهيم عليه السلام ، فيعيد بناءه على قواعد ما بناه نبيّ الله إبراهيم عليه السلام ، ولكنه ترك ذلك شفقة ورحمة بالناس أن يؤثر ذلك على إيمانهم ، وتعظيمهم للبيت .
ز – كان يحب أن يدخل الكعبة الشريفة ، فيصلي فيها ، وقد صلّى فيها ، ثم تمنى أن لم يكن فعل ذلك ، وتركه خوفاً من أن يشق على أمته ويتعبهم في الإقتداء به في ذلك .
2 – وفي هذه الأحاديث المباركة ردّ واضح على الذين يقولون للأعمال الصالحة : لو كان فيها خير لفعلها رسول الله !
ومن فضل الله تعالى أن وصلتنا هذه الأحاديث المباركة ، وتحدث رسول الله فيها بوضوح وصراحة ، أنه يحب أعمالاً صالحة ، ولكنه يتركها رحمة وشفقة على أمته ، وإلا لو كان حراً في تصرفاته ، وأعماله لعملها !
وكم من أعمال ربما كان يحبها ، وتركها – ولم يتحدث عنها – رحمة ، وشفقة !
أعمال عملها هو ونهى عنها غيره
وأحياناً كان لا يستطيع إخفاء عمل من الأعمال الصالحة التي كان يعمله ، بل يظهر ذلك إضطراراً ، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يُقلّدونه ، ويعملون مثله ، فينهاهم عنها ، فلا ينتهون ، فيوافقهم كنوع من العقوبة لهم إشفاقا عليهم ، ورحمة بهم ، لكي ينتهوا ، وذلك مثل صوم الوصال( )
النهي عن صوم الوصال
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :
( نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوصال قالوا إنك تواصل قال ( إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى ) ( ) .
عن أبي هريرة قال :
[ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْوِصَالِ فِى الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ( وَأَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ) ،
فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: ( لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ ) ، كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا.
قال المهلب : لما نهاهم عليه السلام عن الوصال فلم ينتهوا ، بين لهم أنه مخصوص بالقوة بقوله : (إنى لست كهيئتكم) ، لأن الله يطعمه ويسقيه، فأرادوا تحمل المشقة فى الاستنان به ، والاقتداء به، فواصل بهم كالمنكل لهم على تركهم ما أمرهم به من الرخصة، فبان بهذا أن الوصال ليس بحرام، لأنه لو كان حرامًا ما واصل بهم ، ولا أتى معهم الحرام الذى نهاهم عنه ] ( )
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله :
[ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ما رواه بن عمر وأبو هريرة أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن الْوِصَالِ رِفْقًا لِأُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْوِصَالِ فَلَا حَرَجَ لِأَنَّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ جَمَاعَةٌ يُوَاصِلُونَ الْأَيَّام . . .
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ لَا يَكْرَهَانِ أَنْ يُوَاصِلَ الرَّجُلُ مِنْ سَحَرٍ إِلَى سَحَرٍ لَا غَيْرَ
وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَيْضًا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ
قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنَّ لِي مُطْعِمًا يطعمني وساقيا يسقيني . . .
وَكَرِهَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ الْوِصَالَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَمْ يُجِيزُوهُ لِأَحَدٍ
وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الْوِصَالِ
وَأَنَّهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ .
وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ الزَّجْرُ وَالْمَنْعُ
وَقَالُوا لَمَّا قَالَ لَهُمْ أَنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْوِصَالَ لَهُ خَاصَّةً لَا لِغَيْرِهِ كَمَا خُصَّ بِسَائِرِ مَا خُصَّ ] ( ) .
فها هنا ينهى رسول الله ، نهياً صريحاً عن صوم الوصال ، ومع ذلك لا ينتهي كبار الصحابة والأئمة عن ذلك ! !
هل عدم انتهائهم عن ذلك ، يُعتبر منهم عصياناً ومخالفة لسنة رسول الله ؟ !
لا شك أنه لا يُعتبر ذلك عصياناً منهم ومخالفة ، لأن رسول الله نهاهم رحمة بهم وشفقة ، ولم ينههم من أجل أنّ ذلك الصيام ليس بعملٍ صالح !
تقبيل الصائم لزوجه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :
( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ ) ( ) .
يعني : لا تفعلوا أنتم ذلك ؛ بحجة أنّ رسول الله فعله ، لأنّكم لستم مثل رسول الله !
لسنا مثل النبيّ
قال الإمام السيوطي رحمه الله :
[ قَالَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا يدل على أَن مَذْهَب عَائِشَة منع الْقبْلَة مُطلقًا فِي حق غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنَّهَا فهمت خصوصيته بِجَوَاز ذَلِك ويباشر وَهُوَ صَائِم قَالَ النَّوَوِيّ معنى الْمُبَاشرَة هُنَا اللَّمْس بِالْيَدِ وَهُوَ من التقاء البشرتين ] ( ) .
وقال الإمام النووي رحمه الله :
[ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ قَالَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ حَاجَةُ النَّفْسِ وَوَطَرُهَا يُقَالُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ إِرْبٌ وَأَرَبٌ وَإِرْبَةٌ وَمَأْرَبَةٌ أَيْ حَاجَةٌ قَالَ وَالْإِرْبُ أَيْضًا الْعُضْوُ
قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْقُبْلَةِ وَلَا تَتَوَهَّمُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ مِثْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِبَاحَتِهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَيَأْمَنُ الْوُقُوعَ فِي قُبْلَةٍ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا إِنْزَالٌ أَوْ شَهْوَةٌ أَوْ هَيَجَانُ نَفْسٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ لَا تَأْمَنُونَ ذَلِكَ فَطَرِيقُكُمُ الِانْكِفَافُ عَنْهَا ] ( )
هل فِعل النبيّ بموجب ؟
ولذلك [ ذهب الحنفية وغيرهم رحمهم الله تعالى إلى أن فعل النبيّ لا يكون موجباً – أي واجباً – خلافاً لبعض أصحاب الشافعي ومالك رحمهم الله ، فإنهم قالوا : إن فعله الذي ليس بسهوٍ ولا طبعٍ ولا مخصوصٍ به موجبٌ .
إلا إذا كانت المواظبة على الفعل من غير ترك مع الإقتران بوعيدٍ فهو دليل الوجوب كما أفاده ابن الهمام في باب الإعتكاف واعتمده ابن نجيم .
بدليل المنع عن الوصال في الصيام ، حيث دلّ أن فعله ليس بموجب .
وكذلك بدليل خلع نعليه في الصلاة :
عن أبي سعيد الخدريّ قال : بينما رسول الله يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقَوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال :
(( ما حملكم على إلقائكم نعالكم ؟ )) . قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا .
فقال رسول الله (( إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً )) . وقال (( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذىً فليمسحه وليُصلِّ فيهما )) ( ) .
فـدلّ أن فعـلـه ليــس بمـوجب وإلا لَزِم التنـاقض ، إذ كيف ينهـاهم عن الـواجب ، ويـستغرب من فعلهم له ؟ !
فإن قال قائل : فماذا تقولون في قوله : ( صلّوا كما رأيتموني أصلي ) ( ) ، و ( خذوا عني مناسككم ) ( ) ؟
قيل : الوجوب استُفيد بقوله لا بالفعل ، ولو كان الفعل موجباً لما احتيج إلى الأمر ] ( ) .
يرضى للناس ما لا يرضاه لنفسه
ولقد كان يرضى للناس ، من العبادات ، رحمة بهم ، مالا يرضاه لنفسه .
صلى حتى انتفخت قدماه !
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ : أَتَكَلَّفُ هَذَا ؟ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ : « أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » ( ) .
قال الإمام بدر العيني رحمه الله في شرحه لحديث :
[ وَفِيه: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصم الدَّهْر وَلَا قَامَ اللَّيْل كُله ( ) ، وَإِنَّمَا ترك ذَلِك لِئَلَّا يقْتَدى بِهِ فَيشق على الْأمة، وَإِن كَانَ قد أعطي من الْقُوَّة مَا لَو الْتزم ذَلِك لاقتدر عَلَيْهِ، لكنه سلك من الْعِبَادَة الطَّرِيقَة الْوُسْطَى فصَام وَأفْطر وَأقَام ونام ] ( ) . فترك ذلك رحمة بأمته .
أفلح إن صدق !
بينما نراه ييسر على الناس ، بخلاف من يشدد على الناس ، وييسِّر على نفسه ، فيعمل بخلاف سنة النبيّ .
[ عن طلحة بن عبيد الله :
أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثائر الرأس فقال يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة فقال ( الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا ) .
فقال أخبرني ما فرض الله علي من الصيام فقال ( شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا ) .
فقال أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة فقال فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم شرائع الإسلام
قال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ] ( ) .
فانظر إليه كيف يشدد على نفسه ، وكيف يسهّل على الناس أمر دينهم ؟ وانظر إلى الفرق بينه وبين ذلك الأعرابي !
ترَك النبيّ أموراً ، وأباحها لغيره
وبالمقابل ، قد ترك رسول الله أموراً ، قد أباحها لغيره ، منها :
أكل الثوم والبصل
( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ (خُضَرَاتٌ) مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي ) ( ) .
قال الإمام ابن بطال رحمه الله :
[ فى هذا الحديث من الفقه إباحة أكل الثوم؛ لأن قوله: (من أكل) لفظ إباحة . . . وقد أكل الثوم جماعة من السلف ] ( )
وقال الإمام النووي رحمه الله :
[ فَهَذِهِ الْبُقُولُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِه ] ( ) .
ومع أنها حلال ، ما كان النبيّ يأكلها ، بل يكرهها ، ومع ذلك لم يحرمها على الناس !
أكل الضبّ
( سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّبُّ فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ ) ( ) .
( عن ابْنَ عَبَّاسٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ فَأَهْوَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ أَخْبِرْنَ (أَخْبِرِي) رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَي ) ( ) .
رفع رسول الله يده عن الضبّ ، ولم يأكله ، وكان يعافه ، ومع ذلك لم ينهى خالداً عن أكله ، وهو يأكله ، ورسول الله ينظر إليه !
أمثاله في الشريعة
قال الإمام ابن بطال ، رحمه الله ، :
[ فإن قيل: فهل نجد فى الشريعة مثل هذا مما أباحه النبى عليه السلام لأمته ولم يفعله هو فى خاصة نفسه فتسكن النفس إلى ذلك؟
قيل: بلى وذلك أنه عليه السلام أباح لأصحابه أكل الضب على مائدته ولم يأكله هو وبين علة امتناعه منه فقال : ( لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه )
ومثله أنه لم يأكل الثوم والبصل والخضروات المنتنه الريح وأباحها لأمته ، وقال: ( إنى أناجى من لا تناجى ) وقال مرة : ( إنه يحضرنى من الله حاضرة )
فكذلك أباح الكي وكرهه فى خاصة نفسه عليه السلام ] ( ) .
فليس كل ما لم يفعله النبيّ هو حرام ، لا يجوز فعله بإطلاق .
لم يفعله رسول الله !
والذين يبدّعون الأمور ، بدعوى أن النبيّ لم يفعلها ! أو أن الصحابة لم يفعلوها ! نقول :
1 – أن غير النبيّ ليس بحجة ! في فعله أو تركه !
2 – أن هؤلاء يخالفون إجماع العلماء ولا سيما الأصوليين ! حيث أن الأصوليين عرّفوا السنة بالاتفاق : أنها ما أُثر عن النبيّ من قول أو فعل أو تقرير !
فهؤلاء يظهر من كلامهم – من غير أن يشعروا – أنهم لا يعتبرون أقوال النبيّ ، ولا تقريراته سنة ، بل يعتبرون أفعاله فقط هي السنة ، بل هي واجبة ! !
ولهذا دائماً ينكرون على الأعمال الصالحة التي يعملها غيرهم – وهي لا تخالف الأصول – بأنها لم يفعلها رسول الله !
علماً أنّ علماء الحنفية وغيرهم – كما ذكرنا – لا يعتبرون أفعاله واجباً أصلاً !
فعلى سبيل المثال :
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً، فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ ،
فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ،
فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ ( ) وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ ،
قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا، أَيْ رَبِّ قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا : وَيَسْتَغْفِرُونَكَ ،
قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ " ( ) .
فهذا الحديث هو من أقوال النبيّ ، فهل لا يُؤخذ به ، إلا مقرونا بفعل من النبيّ ، أو من أصحابه ؟ ! !
ومن قال ذلك ؟ ! !
لا نشبه النبيّ في كل شيء !
والقصد من إيراد هذه الأمثلة من الأحاديث المباركة ، هو أن نقول : نحن لا نشبه النبيّ في كل شيء !
فقد كـان لـه خصوصيته ، يعمل أعمالاً صالحة ، وينهى عنها أصحابه ، إشفاقاً ورحمة للأمـة ،
ويدع أعمـالاً صالحة ، وهو يحب ، ويود أن يعملها ، لكن يتركها ، حباً لأمته ، وإشفاقاً عليهم ، لا كرهاً لتلك الأعمال ، ولا لأنها غير جائزة ، ولا لأنه لا يعرفها ،
ولكن خشية أن يُفرض عليهم – بفرضها الناس على أنفسهم وغيرهم ، بدعوى أن النبيّ ، كان يعملها – ولولا ذلك لعملها صلى الله عليه وسلم !
السنة من حيث كونها تشريعاً ، وغير تشريع !
وبهذه المناسبة نود أن نذكر أمراً هاماً ، يتعلق بهذا الموضوع ، وهو تقسيم السنة إلى : سنة تشريعية وسنة غير تشريعية !
[ السنة . . . ما صدر عن رسول الله ، غير القرآن من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، وهذا الذي صدر عنه : منه ما لا يكون مصدراً للتشريع ، ومنه ما يكون مصدراً للتشريع العام أو الخاصّ .
أ – ما لا يكون مصدراً للتشريع :
وهو ما صدر عن رسول الله ، باعتباره بشراً وإنساناً كالأكل والشرب ، والقيام والقعود ، والنوم والمشي ، واللبس ، والتزاور ، والمساومة في البيع والشراء .
ومن هذا القبيل ما صدر عنه وكان سبيله سبيل التجارب ، والعادة الشخصية ، أو الاجتماعية ، كالذي ورد فـي شـؤون الزراعـة والطبّ ، أو كان سبيلُه التدبيرَ الإنسانيَّ في شؤون الحياة ، كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية ، وتنظيم الصفوف في الموقعة الواحدة ، واختيار أماكن النزول ، وما إلى ذلك .
فكلُّ ما نقل من هذا ، ليس شرعاً يتعلَّق به طلب الفعل أو الترك ، وإنما هو من الشؤون البشرية ، التي ليس مسلكُ الرسول فيها تشريعاً ، ولا مصدرَ تشريع .
ومع هذا ، فقد كان من الصحابة من يقتفي أثر الرسول ويحرص على متابعته في ذلك ، كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : فإنه كان يتتبع مثلَ هذه الأفعال والتصرفات ، ويقتدي بالرسول فيها ، وهذا مسلكٌ عَليٌّ ، ومنهجٌ سامٍ ، لا يقدر عليه إلا ذو حظٍّ عظيم .
ب – ما يكون مصدراً للتشريع العامِّ أو الخاصِّ :
فالتشريع العام : ما يصدر عن الرسول ، على وجه التبليغ بصفة أنه رسول ، كأن يبيِّنُ مجملاً فـي الكتـاب ، أو يخصِّص عـامّاً ، أو يقيد مطلقاً ، أو يبين شأناً في العبادات ، أو الحلال والحرام ، أو العقائد والأخلاق ، وما إلى ذلك .
فهذا تشريعٌ عامٌّ أبداً ، يجتنب المكلف ما كان منهيّاً عنه ويفعل ما كان مأموراً به ، لا يتوقف في ذلك على شيء سوى العلم به ، والوصول إليه .
والتشريع الخاص نوعان : خاصٌّ بالذات ، وخاصٌّ بالوصف .
فالخاص بالذات : أفعاله ، أو تصرفاته ، التي دلَّ الدليل على أنها من خصوصياته ، كتزوجه بأكثر من أربع ( ) ، وكون زوجاتِه أمَّهاتٍ للمؤمنين ( ) ، لا يحلُّ لأحدٍ أن يتزوجهن بعده ( ) ، وكشهادة خزيمة له وحده ( ) ، وكوصال الصيام في رمضان ( ) ، وهذا القسم خاصٌّ بذات الرسول ، لا يشاركه فيه أحدٌ من الأمة ، ولا يقتدى به فيه .
والخاصُّ بالوصف : ما يصدر عنه بوصف الإمامة والرياسة العامة ، مثل : صرف أموال بيت المال في جهاتها ، وجمعها من محالِّها ، وتولية القضاة والولاة ، وعقد المعاهدات ،
فهذا ليس تشريعاً عامّاً ، بل هو خاصٌّ بمن اتَّصف بالوصف الذي انبت عليه هذه التصرُّفات ؛ فلا يجوز الإقدام عليها لكلِّ أحدٍ من تلقاء نفسه ، بحجة أن النبيّ فعله أو طلبه .
ومن هذا النوع ما يصدر عنه بوصف القضاء ، فإنه كما كان رسولاً ورئيساً عامّاً ، كان قاضياً ، يفصل في الدعاوى والخصومات .
وما صدر عنه بهذا الوصف ليس تشريعاً عامّاً ؛ حتى يجوز لأي إنسان أن يقدم عليه بناءً على قضائه ، بل على المكلف أن يتقيد في ذلك بقضاء القاضي ،
فمن كان له على آخر حقٌّ ، وجحده ، وله عليه بينة ، فليس له أن يأخذه بنفسه ، بناءً على أن رسول الله حكم بالبينة ، بل إنه يتقيد بحكم الحاكم
وعدم الاتِّفاق في بعض الوقائع والقضايا على الجهة التي صدر عنها تصرف رسول الله ، أو خفاء هذه الجهة ، قد أوقع الفقهاء في خلافٍ في طبيعة الحكم .
من ذلك قول النبيّ : (( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )) ( ) .
فاختلف العلماء في الجهة التي صدر عنها هذا الحديث ،
فذهب أبو حنيفة إلى أنه صدر عنه باعتبار إمامته ، فلا يكون حكماً عامّاً ، ولا يجوز لأحد إحياء الأرض الموات التي ليس لأحد حقٌّ فيها إلا بإذن الإمام .
وذهب الجمهور إلى أن ذلك صدر منه بطريق التبليغ والفتوى ، فهو حكمٌ عامٌّ ، وعلى هذا : لكلِّ أحد أن يحيي الأرض الموات ، وتكون له ، أذن الإمام ، أو لم يأذن .
ومن ذلك ما روي أنَّ رسول الله ، قال لهند بنت عتبة رضي الله عنها – لما قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني – : (( خذي من ماله بالمعروف ، ما يكفيك ويكفي بنيك )) ( ) .
فأفاد هذا الحديث أنَّ رسول الله أباح لهند أن تأخذَ من مال زوجها بدون علمه ، وهذا قدر متفق عليه بين الفقهاء ، إلا أنهم اختلفوا في تكييف الواقعة ، واعتبارها من باب الفتوى أو القضاء .
فبعض الفقهاء – ومنهم الإمام الشافعي – اعتبرها من قبيل الإفتاء ؛ فيجوز لكلِّ امرأة أشبه حالُها حالَ هند أن تأخذ من مال زوجها بدون علمه وإذنه ما يكفيها ويكفي بنيها بالمعروف ، ليس هذا فحسب بل قالوا أيضاً : يجوز لكلِّ من ظفر بحقِّه أن يأخذه بغير علم خصمه ،
وبعضهم ذهب إلى أن هذا الإذن كان قضاءً منه ؛ فلا يجوز لامرأة أخرى أن تأخذ من مال زوجها مثلما أجيز لهند إلا بحكم الحاكم ، ولا يجوز أيضاً لأحد أن يأخذ حقَّه من غريمه إلا بقضاء قاضٍ ] ( ) .
إتِّباع النبيّ !
ثم أن هناك مَن يدّعي أنه يتّبع النبيّ في أعماله ، وأنه سائر على منهجه وسنته ، ولكنه ادعاء خال من البرهان !
فالنبيّ كان في قمة التقوى ، والخشوع ، والعبادة ، والتواضع ، والعبودية ، فأين الثرى من الثريا ؟ !
على سبيل المثال :
إن المدّعي يصلي ثمان ركعات تراويح ، لا تجاوز ساعة ، بل ربما – في الأكثر – لا تجاوز نصف ساعة ، وربما في الأغلب خاوية من خشوع القلب والجنان ، ثم يذكر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ ، وَلَا فِي غَيْرِهِ ، عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً !
ويقتصر – في الحديث – على هذه الجملة ولا يكملها ! والتي تكملته هي :
يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي ( ) .
فيأخذون بعدد الركعات في الحديث ، وهي ثمان ركعات بدون الوتر ، ويتركون صفات تلك الركعات ؛ التي وصفها نفس الحديث : بـ( حسنهن وطولهن ) ( ) .
علماً بأنه كان يصليها وحده في البيت ، ولا يفرضها على الناس خلفه ، ولا يحمّلهم المشقة !
فلهذا القيام صفتان : العدد ، والكيفية .
فلماذا الإقتداء بالنبيّ يكون باختيار العدد فقط ، دون الكيفية ؟ !
ثم إنّ رسول الله لم يكن فظّاً ، غليظ القلب ، حاشاه ، ولا ربّى أصحابه على ذلك !
وهـذا كـلام الله تعالــى يمدحهـم فيصفهـم بقولـه تعالى : ( أَذِلَّةٍ على المُؤمنين أَعِزَّةٍ على الكافرين ) ( ) !!
أَذِلَّةٍ على المُؤمنين !
فاتِّباع النبيّ لا يكون بأداء بعض ظواهر العبادات ، خالية من الروح ، والقلب ، الذي هو المراد ، والمقصد الأساس من العبادات : ( قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون ) ( )
( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ( ) .
( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) ( ) .
ثم إن اتِّباع النبيّ يكون بحبه ، وتوقيره ، كحب الصحابة ، وتوقيرهم له ، لا مجرد حكاية ظواهر أعماله ، واعتباره مجرد رجل ، جعله الله تعالى مبلّغاً رسالته إلينا ، فبلّغ ثم رحل ! !
هل كان رسول الله مجرد إنسان عادي ؟ !
ومن أعظم البدع : اعتبار رسول الله مجرد رجل ، كُلِّف بأمرٍ ، فأدّاه ، ثم انتهى أمره ! !
إن الله تعالى وملائكته يصلّون على النبيّ !
يقول الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( ) .
إن الله تعالى بعظمته ، وجلاله ، وكبريائه ، يصلّي على رسول الله ، سيّدنا محمد ، ثم ملائكته الكرام يصلّون عليه !
ثم أمر الله تعالى المؤمنين ، أن يُصلّوا عليه !
وقال الله تعالى : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( ) .
فيجب أن يكون رسول الله ، أحب من الآباء ، والأبناء ، والإخوان ، والأزواج ، والعشيرة والأموال ، والتجارة ، والمساكن ، وإلا بعكس ذلك ، يكون ذاك العبد فاسقاً !
وحبّه ليس معناه اتّباعه ، كما يريد البعض أن يضلّ الناس بذلك !
بل الحبّ : شعور وإحساس ، ورابطة قلب ، بين صاحبه وبين المحبّ !
واتّباعه دليل من أدلة حبّه ، فالمحب لمن يحبّ مطيع .
فهناك أمران : حبه ، واتّباعه .
فلو كان الحب بمعنى الإتباع ، لكان في اتّباع القوانين والإلتزام بها ، دلالة على الحب ! وليس كذلك ، فكم من إنسان يطبق قانوناً ويلتزم به ، وهو لا يحبّه !
قال الحافظ ابن القيّم ، رحمه الله ، :
[ ودل على أن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره،
ولا يكفي ذلك في العبودية، حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما.
فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ،
ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله ] ( ) .
الآن يا عمر ! !
( عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ ) ( ) .
و( عَنْ أَنَسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا
وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) ( )
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ !
ويقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ .
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ .
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) ( ) .
قال الحافظ ابن كثير ، رحمه الله :
[ فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه أنه سمع صوت رجلين فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا،
فَجَاءَ فَقَالَ: أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟
ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ،
فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام، لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَفِي قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا .
ثُمَّ نَهَى عَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَجْهَرُ الرَّجُلُ لِمُخَاطِبِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ ،
بَـلْ يُخَاطَـبُ بِسَـكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَعْظِيمٍ ؛ وَلِهَذَا قَــالَ : { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، كَمَا قَالَ: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النُّورِ: 63] .
وَقَوْلُهُ : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }
أَيْ: إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَغْضَبَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَغْضَبُ اللَّهُ لِغَضَبِهِ، فَيُحْبِطَ اللَّهُ عَمَلَ مَنْ أَغْضَبَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي ] ( ) .
فَخِّموهُ وشَرِّفوهُ مع التوقير والتواضع !
وقال سبحانه : ( لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) ( ) .
[ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا تَدْعُوهُ بِاسْمِهِ كَمَا يَدْعُو بَعْضُكُمْ بَعْضًا يَا مُحَمَّدُ يا ابن عَبْدَ اللَّهِ
وَلَكِنْ فَخِّمُوهُ وَشَرِّفُوهُ، فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي لِينٍ وَتَوَاضُع ] ( ) .
[ وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت ] ( ) .
[ فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِعْظَامًا لَهُ وَإِجْلَالًا ] ( ) .
أمر الله تعالى أن يُهاب ويُبَجَّل ويُعَظَّم ويسود !
وقال الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، :
[ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم ،
قال: فَقُولُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وأن يسود.
وقال مقاتل فِي قَوْلِهِ لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
يَقُولُ: لَا تُسَمُّوهُ إِذَا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عَبْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ شَرِّفُوهُ فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُشَرِّفُوهُ، هَذَا قَوْلٌ، وَهُوَ الظاهر من السياق، كقوله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] إلى آخر الآية.
وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون ] ( ) .
فالمقصـود : أن رسول الله ليس إنساناً مثله مثل باقي الناس ! بل هو أحب العباد إلى الله تعالى ؛ ربّ السماوات والأرض ، رب العرش ، رب العالمين !
وهو رحمة مهداة للعالمين ، وسيد ولد آدم ، عليه الصلاة والسلام !
و أن هذا الدين هو دين ودّ ، ومحبة ، وتوقير ، واحترام ، ولا سيما بين المؤمنين ونبيّهم ! وليس مجرد شكليات ، ورسوم ، خاوية من الروح والمحبة ، تنفّذ كالأوامر العسكرية !
وفي أغلب الأحيان لا تنفّذ أوامره ، بل تشوّه !
فأتباعه يجب أن يكونوا مثله ؛ رحمة مهداة !
و مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ !
[ عن عبد الله بن المبارك أن امرأة قالت لعائشة اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكشفت لها عنه فبكت حتى ماتت ] ! ( )
هذه هي المحبة !
خير القرون
إن خير القرون على الإطلاق ، هو قرن النبيّ ، مع أصحابه ، رضوان الله عليهم .
( عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ) ( ) .
و( عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: « الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ» ) ( ) .
الصحابة ، رضوان الله عليهم
لاشك أن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، هم خير الناس ، ولاسيما الخلفاء الراشدين ، وكبارهم ، كيف لا وهم قد ربّاهم رسول الله بهدي ، وأوامر ، وتوجيهات مباشرة ، من الله تعالى ، قرابة ربع قرن .
شهادة عبد الله بن مسعود لهم
[ قال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا يُؤمَنُ عليه الفتنة. أولئك أصحابُ محمدٍ أبرً هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا ،
قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامِة ديِنه ، فاعرِفُوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقال حُذيفةُ بن اليمان : يا معشرَ القُرَّاءِ! استقيموا وخُذُوا طريقَ مَن قبلَكم، فواللهِ لقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدَا، ولئِنْ أَخذتُم يمينًا وشَمالاً لقد ضَلَلتم ضلالاً بعيدًا ] ( ) .
قال الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله :
[ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِكَمَالِ بِرِّ الْقُلُوبِ مَعَ كَمَالِ عُمْقِ الْعِلْمِ . . .
فَإِنَّ أَهْلَ بِرِّ الْقُلُوبِ وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ وَصَلَاحِ الْمَقَاصِدِ يُحْمَدُونَ عَلَى سَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْمَذْمُومَة . . .
وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا أَبَرَّ الْخَلْقِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهُمْ عِلْمًا . . .
وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا - مَعَ أَنَّهُمْ أَكْمَلَ النَّاسِ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا - أَقَلَّ النَّاسِ تَكَلُّفًا
يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَتَانِ مِنْ الْحِكْمَةِ أَوْ مِنْ الْمَعَارِفِ مَا يَهْدِي اللَّهُ بِهَا أُمَّةً وَهَذَا مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ ] ( ) .
قول الشافعي ، رحمه الله
وقال ابن تيمية ، رحمه الله ، أيضاً :
[ وَقَالَ غَيْرُهُ: ( يقصد غير ابن مسعود ) " عَلَيْكُمْ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بِمَا يَكْفِي وَمَا يَشْفِي وَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ كَامِنٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ " . . .
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِسَالَتِهِ :
" هُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَفَضْلٍ وَكُلِّ سَبَبٍ يُنَالُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ يُدْرَكُ بِهِ هُدًى
وَرَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا " . . .
وَغَايَةُ مَا عِنْدَ السَّلَفِ: أَنْ يَكُونُوا مُوَافِقِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
فَإِنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ: هُوَ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ بِهِ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ] ( ) .
قول مسروق ، رحمه الله
[ وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَا سُئِلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَعِلْمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ عِلْمُنَا قَصُرَ عَنْه ] ( ) .
[ وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ ] ( ) .
إن الله نظر في قلوب العباد !
[ قال ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ: فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ " ] ( ) .
[ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إِنَّ اللَّهَ تبَارَكَ وَتَعَالَى نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ،
ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءِ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ ،
فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ سَيِّئٌ ] ( )
وقال الحافظ ابن تيمية ، أيضاً ، رحمه الله :
[ وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، كَلَامٌ جَامِعٌ، بَيَّنَ فِيهِ حُسْنَ قَصْدِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ بِبِرِّ الْقُلُوبِ، وَبَيَّنَ فِيهِ كَمَالَ الْمَعْرِفَةِ وَدِقَّتَهَا بِعُمْقِ الْعِلْمِ، وَبَيَّنَ فِيهِ تَيَسُّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَامْتِنَاعَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ بِقِلَّةِ التَّكَلُّفِ . . .
وَالَّذِي قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَقٌّ، فَإِنَّهُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; حَيْثُ قَالَ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» "
وَهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، الْوَسَطُ الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَيْسُوا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَلَا مِنَ الضَّالِّينَ الْجَاهِلِينَ . . .
بَلْ لَهُمْ كَمَالُ الْعِلْمِ وَكَمَالُ الْقَصْدِ، إِذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرَ الْأُمَمِ، وَأَن لَا يَكُونُوا خَيْرَ الْأُمَّةِ، وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ] ( ) .
أبو بكر الصدّيق
وقال ابن تيمية ، رحمه الله ، أيضاً :
[ وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ
كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ
وَأَبـُو بـَكْرٍ الصِّدِّيـقُ أَكْمَـلُ مَعْرِفَـةً بِمَـا جَــاءَ بـِهِ وَعَمَـلًا بِـهِ فَهُـوَ أَفْضَـلُ أَوْلِيَـاءِ اللَّهِ إذْ كَانَتْ أُمَّـةُ مُحَمّـَدٍ صَلَّـى اللَّهُ عَلَيْـهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ] ( ) .
وقال الحافظ ابن تيمية ، أيضاً ، رحمه الله :
[ وأفضل هذا المجتمع الفريد ، الذين هم أفضل أتباع الأنبياء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه
فقد أخرج البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنّا نُخيِّر بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنُخَيِّر أبا بكر، ثم عُمرَ بن الخطاب، ثُمّ عُثمان ابن عفَّان - رضي الله عنهم ( ) .
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : (( لو كنتُ مُتّخِذاً من أُمَّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي )) ( ) .
وأخرج البخاري من حديث محمد بن الحَنَفِيِّة قال: قُلتُ لأبي [ علي بن أبي طالب ] : أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: (( أبو بكر)) ] ( ) .
عمر بن الخطاب
[ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَطُّ إِلَّا وَأَنَا يُخَيَّلُ لِي أَنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ .
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنَّا نَبْعُدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ .
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: كَانَ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَالرَّجُلِ الْمُقْبِلِ، لَا يَزْدَادُ إِلَّا قُرْبًا . . . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ . وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيْهَلَا بِعُمَرَ، كَانَ إِسْلَامُهُ نَصْرًا، وَإِمَارَتُهُ فَتْحًا .
وَقَالَ أَيْضًا: كَانَ عُمَرُ أَعْلَمَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَفْقَهَنَا فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَعْرَفَنَا بِاللَّهِ،
وَاللَّهِ لَهُوَ أَبْيَنُ مِنْ طَرِيقِ السَّاعِينَ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ يَعْرِفُهُ النَّاسُ
وَقَالَ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَنَّ عِلَمَ عُمَرَ وُضِعَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَوُضِعَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عَلَيْهِمْ،
وَقَالَ أَيْضًا لَمَّا مَاتَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَحْسَبُ هَذَا قَدْ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَإِنِّي لَأَحْسَبُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعِلْمِ ذَهَبَ مَعَ عُمَرَ يَوْمَ أُصِيبَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَا صَنَعَ عُمَرُ فَخُذُوا بِرَأْيِهِ .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ عُمَرُ مِيزَانًا لَا يَقُولُ كَذَا وَلَا يَقُولُ كَذَا .
وَهَذِهِ الْآثَارُ وَأَضْعَافُهَا مَذْكُورَةٌ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَيْسَ مِنْ أَحَادِيثِ الْكَذَّابِينَ ، وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا هَذِهِ الْآثَارُ الْمَذْكُورَةُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ] ( ) .
فما ظنك بأناس ربّاهم رسول الله ، وعلّمهم ، وأدّبهم قرابة ربع قرن ، تحت رعاية الله ، تعالى وبصره ؟
فهم الصحابة والخلفاء للدين
فلننظر الآن كيف كان فهمهم لهذا الدين العظيم ؟ وكيف كان تعاملهم مع التطورات ، والأحداث والمستجدات في عصرهم ؟
وسنعرض بعض الأمثلة في ذلك :
جمع القرآن في خلافة أبي بكر الصدّيق :
1 – ( عنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ
وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ
فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي
وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ
قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ ، وَلاَ نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ
فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ
قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ ) ( ) .
كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله ؟
فهاهنا اجتمع ثلاثة من أكابر الصحابة ؛ إثنان منهم من الخلفاء الراشدين ؛ وهما أبو بكر الصدّيق ، وعمر بن الخطاب ، وثالثهم عالم من علماء الصحابة ، وأعلمهم بعلم الفرائض – الذي هو من أصعب العلوم – وهو زيد بن ثابت ، رضوان الله عليهم ،
ثلاثتهم متفقون على أنهم يريدون أن يفعلوا شيئاً لم يفعله رسول الله ، أي : يريدون أن يحدثوا بدعة ! ! ( البدعة الحسنة بلا شك ! )
بدعة لغوية
هل هي بدعة لغوية ، وليس بدعة شرعية ؟ نعم ، هي بدعة لغوية !
فما هو تعريف البدعة اللغوية ؟ هي : الإختراع على غير مثال سابق ! وابتداء طريقة لم يُسبق إليها !
التعالم على الصحابة !
هناك مَن يتعالم على أولئك الأعلام ، من الصحابة ، رضوان الله عليهم ، وكأنه يحسب نفسه أنه أعلم منهم ، وأفقه ! فيزعم أنهم لم يأتوا بشيءٍ جديد ! !
إذاً لماذا هذه الرهبة ، وهذا التردد من أبي بكر الصدّيق أولاً ، وهو أعلم الصحابة ، ثم من زيد بن ثابت ثانياً ، رضي الله عنهم ؟
هل كانوا بهذه السذاجة ، والفقر من العلم – حاشاهم – بحيث لم يعلموا ما يعلمه صغار طلبة العلم ، بل أصغر من طلبة العلم بكثير ، من الأميين وأشباههم ؛ في أنهم لا يأتون بشيء جديد ؟ !
حتى أقنع عمربن الخطاب أبا بكر الصدّيق ، بعد مراجعة كثيرة ، ثم أقنع الصدّيق زيداً بالمسألة ؟
هو والله خير !
فاقتنعوا جميعاً أن هذا أمرٌ لابد منه ؛ لقد استجد أمرٌ ، لم يكن موجوداً في حياة النبيّ ،
فإن لم يتداركوا الأمر فسوف تتضرر الأمة جميعاً ، ولاسيما هو لا يتعارض مع كتاب الله ، ولا مع سنة رسوله ، بل هو الخير ، الذي حثَّهم عليه كتاب الله تعالى ، حيث يقول الله سبحانه : ( يا أيُّها الّذين آمَنُوا اركعُوا واسجُدوا واعبُدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تُفلحون ) .
وهذا كان جواب عمر بن الخطاب لأبي بكر الصدّيق ، ثم جواب أبي بكر لزيد بن ثابت ، بعد انشراح صدورهم للأمر ، رضي الله عنهم : ( هو والله خير ) ! .
ليس هناك نص خاص في المسألة !
وبالملاحظة والتدقيق في نص الرواية ، وما دار من النقاش والحوار ، نلاحظ أنه لم يأتِ أحدٌ منهم بآية من كتاب الله خاصة بالموضوع ، ولا بحديث من أحاديث النبيّ ،
ولا قال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما : إنك خليفة رسول الله ؛ من الخلفاء الراشدين المهديين الذي أمرنا النبيّ بالتمسك بسنتهم ، ولا قال أبو بكر الصدّيق شيئاً من ذلك لزيد بن ثابت !
بـل بفهـمهـم ، وفقههم العظيم ، الذي أخذوه عن القرآن ، والنبيّ ، فعلوا هذا الخير العظيم ( هو والله خير ) !
ليس كل مستحدث هو بدعة ضلالة !
[ وهذا يعني أنهم ما كانوا يرون أن كل مستحدث في الدين هو بدعة ضلالة ،
وأنه إذا تحققت خيريته - من حيث التوافق مع الكتاب والسنة وتحقيق مقاصدهما - فإنه إذ ذاك يكون حسناً ] ( ) .
هكذا أُنزلت
2 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا ،
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ
ثمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا فَقَالَ لِي أَرْسِلْهُ
ثُمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأْ فَقَرَأَ قَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ فَقَالَ هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَؤُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ ) ( ) .
كلاكما محسن
و( عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلاَفَهَا
فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا ) ( ) .
إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك على سبعة أحرف
( عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ ،
فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ»، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»
ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: «أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»،
ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا ) ( ) .
[ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أمتك على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا مَعْنَاهُ لَا يَتَجَاوَزُ أُمَّتُكَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ وَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي السَّبْعَةِ
وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ نَقْلُ السَّبْعَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِالتَّخَيُّرِ فِيهَا وَإِنَّهَا لَا تُتَجَاوَزُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ] ( ) .
الإقتصار على حرف واحد ومنع غيرها !
[ عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ ، فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ ، مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ ،
فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ ، اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ ؛ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ ،
فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وعَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ : إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وزَيْد بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ ، فَفَعَلُوا ، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ ،
وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا ، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ ، أَوْ مُصْحَفٍ ، أَنْ يُحْرَق ] ( ) .
فالقرآن الكريم نزل على سبعة أحرف على رسول الله ، كما قال هو . أنزله جبريل عليه السلام ، بأمر الله تعالى .
وقـال للمختلِفَين لكل منهما - عند قراءته خلافاً للآخر - : (( هكذا أنزلت )) ! وقال لغيرهما : (( كلاكما محسن )) ! .
ويقول جبريل عليه السلام للنبيّ : إن الله يأمرك أن تقرأ أُمّتُك القرآن على سبعة أحرف .
وبقـي الحـال هكـذا في زمن النبيّ ، ثم زمن أبي بكر الصدّيق ، ثم زمن عمر بن الخطاب ، ثم فترة من خلافة عثمان بن عفان .
ثم اتفقوا على الإقتصار على قراءة القرآن على حرف واحد ، ومنع غيرها ، لأسبابه المعتبرة .
إجماع جمهور الصحابة !
[ أَخْرَجَ بن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا
قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لقد بَلغنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا
قُلْنَا فَمَا تَرَى قَالَ أرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ قُلْنَا فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ ] ( ) .
وقال الإمام بدر الدين العيني ، رحمه الله :
[ وَمن طَرِيق مُصعب بن سعد قَالَ ( علي بن أبي طالب ) : أدْركْت النَّاس متوافرين حِين أحرق عُثْمَان الْمَصَاحِف، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِك أَو قَالَ: لم يُنكر ذَلِك مِنْهُم أحد ] ( ) .
وظاهر هذا الأمر ، أقول : ظاهر هذا الأمر هو خلاف سنة النبيّ ، وهديه ، وخلاف أمر الله تعالى ، وتيسيره للأمة .
وظاهر الأمر أن هناك نصوص في المسألة ، وليس فيها مجال للإجتهاد ، حيث لا إجتهاد مع النص .
وعليكم بسنتي ، يقتضي تقديم سنته على سنة الخلفاء الراشدين !
ومع ذلك لا يجرؤ أحد أن يقول : الذين فعلوا ذلك وهم الصحابة الكرام ، وفيهم خليفتين راشدين ( عثمان وعليّ ) رضوان الله عليهم ،
لا يجرؤ أحد أن يصمهم بالبدعة ، ويقول إنهم مبتدعون ، بدعة ضلالة ، والتي صاحبها في النار !
علماً بأنه كان هناك أمر من الله تعالى ، وهدي ثابت للنبيّ في الموضوع كما ذكرنا !
ولكن بما أن الصحابة ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين ، هم أفقه وأعلم الناس ،
حيث فقهوا روح الإسلام ، ومبادئه ، ومقاصده ، فَهُم بعملهم هذا خدموا دين الله تعالى ، الذي جاء به النبيّ ، خدمة عظيمة .
ولم يكونوا – حاشاهم – سذج سطحيين ، لا يفقهون القول ، ولا يهتدون .
ولم يكونوا مخالفين لدين الله تعالى ، ولا لمنهج رسول الله ، وما كانوا ليفكروا في ذلك مجرد تفكير ، وما كان يخطر ببالهم ذلك ، مجرد خاطرة .
ولذلك استحقوا ، وبجدارة مدح الله تعالى لهم ، ووصف النبيّ لهم بأنهم خير القرون ، ووصى بالإهتداء بسنتهم : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) ( ) ، والسنة هي الطريقة والمنهج ، بل وصّانا بأن نعض عليها بالنواجذ ! !
وما ذلك إلا لأنه كان يعلم – من الله تعالى – بأنهم لا يحيدون عن سنته ، وهديه ، ورضوان الله تعالى عليهم .
ضوال الإبل
3 – ( عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا
قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ ، أَوْ لأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ
قَالَ ضَالَّةُ الإِبِلِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ )( ) .
أمر النبيّ وهديه في ضوال الإبل
( فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا لَكَ وَلَهَا ؟ ) ، ( مَا لَكَ وَلَهَا ؟ ) يعني : دَعْهَا ) .
هذا كان أمر النبيّ وهديه وسنته في موضوع ضالة الإبل .
غضب حتى احمر وجهه !
أخرج البخاري في صحيحه ، رحمه الله :
( . . . وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ ؟ فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، وَقَالَ : مَا لَكَ وَلَهَا ؟ ) ( ) .
قال الإمام ابن بطال رحمه الله :
[ كذلك غضب حتى احمر وجهه حين سئل عن ضالة الإبل وقال: (ما لك ولها. . . ] ( ) .
لا يُتعرض لها !
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله :
[ وَفِيهِ أَنَّ ضَالَّةَ الْإِبِلِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهَا لِاسْتِقْلَالِهَا بِأَمْرِ نَفْسِهَا ] ( ) .
النهي عن أخذ ضالة الإبل !
قال الإمام بدر الدين العيني ، رحمه الله ، :
[ قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا كَانَ غَضَبه استقصاراً لعلم السَّائِل وَسُوء فهمه، إِذْ لم يراع الْمَعْنى الْمشَار إِلَيْهِ وَلم يتَنَبَّه لَهُ، فقاس الشَّيْء على غير نَظِيره، فَإِن اللّقطَة إِنَّمَا هِيَ اسْم للشَّيْء الَّذِي يسْقط من صَاحبه وَلَا يدْرِي أَيْن مَوْضِعه، وَلَيْسَ كَذَلِك الْإِبِل، فَإِنَّهَا مُخَالفَة للقطة إسما وَصفَة، فَإِنَّهَا غير عادمة أَسبَاب الْقُدْرَة على الْعود إِلَى رَبهَا لقُوَّة سَيرهَا، وَكَون الْحذاء والسقاء مَعهَا، لِأَنَّهَا ترد المَاء ربعا وخمساً، وتمتنع من الذئاب وَغَيرهَا من صغَار السبَاع، وَمن التردي وَغير ذَلِك، بِخِلَاف الْغنم فَإِنَّهَا بِالْعَكْسِ، فَجعل سَبِيل الْغنم سَبِيل اللّقطَة.
قلت: فِي بعض ما ذكره نظر، وَهُوَ قَوْله: اللّقطَة اسْم للشَّيْء الَّذِي يسْقط من صَاحبه إِلَى قَوْله: وَصفَة. فَإِن الْغنم أَيْضا لَيْسَ كَذَلِك، فَيَنْبَغِي أَن يكون مثل الْإِبِل على هَذَا الْكَلَام، مَعَ أَنه لَيْسَ مثل الْإِبِل.
وَقَوله أَيْضا : وتمتنع من الذئاب ، فَإِن الجواميس تمْتَنع من كبار السبَاع فضلا عَن صغارها ، وتغيب عَن صَاحبهَا أَيَّامًا عديدة ترعى وتشرب ثمَّ تعود، فَيَنْبَغِي أَن تكون مثل الْإِبِل مَعَ أَنه لَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (مَا لَك وَلها) فِيهِ نهي عَن أَخذهَا ] ( ) .
النهي عن التعرض لها !
وقال الإمام القسطلاني رحمه الله :
[ قال ابن دقيق العيد: لما كانت مستغنية عن الحافظ والمتعهد وعن النفقة عليها بما ركب في طبعها من الجلادة على العطش والحفاء عبّر عن ذلك بالحذاء والسقاء مجازًا ،
وبالجملة فالمراد بهذا النهي عن التعرّض لها لأن الأخذ إنما هو للحفظ على صاحبها إما بحفظ العين أو بحفظ القيمة، وهذه لا تحتاج إلى حفظ لأنها محفوظة بما خلق الله فيها من القوّة والمنعة وما يسر لها من الأكل والشرب ] ( ).
ضالة الإبل في زمن عثمان وعليّ رضي الله عنهما !
وبقي حكم ضالة الإبل هكذا في زمن النبيّ ، وخلافة أبي بكر الصدّيق ، وخلافة عمر بن الخطاب ،
إلى خلافة عثمان بن عفان ، حيث أمر بأخذها ، وتعريفها ، ثم تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها !
وجعل عليّ بن أبي طالب في خلافته حمىً لها ، يأخذها ، ويحبسها ، حتى يأتي صاحبها فيأخذها !
هل هذا منهما مخالف لأمره وهديه وسنته ؟
وربما ( قاصر النظر ) ينظر إلى هذا العمل ، فيرى أنه مخالف لأمر ، وسنة النبيّ ، وبالتالي فإن الصحابة ، رضي الله عنهم ، والخليفتان الراشدان ، قد خالفوا النبيّ .
ولكن الذي يدقق النظر يرى أنه تحقيق للغاية ، التي كان النبيّ ينشدها ويريدها ، بغضبه ذلك ، ونهيه عن إمساكها ، وهي : وصولها إلى صاحبها !
والصحابة ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين ، رضوان الله عليهم ، كانوا فقهاء أئمة ؛ يفقهون الكلام ، ويفهمون مقاصده ،
فعملوا بما يقتضيه تغيّر الحال ، والظروف ، وتغيير الوسائل ، للوصول إلى الغايات ، والمقاصد الثابتة .
إختلاف الأحكام باختلاف الأحوال !
قال الإمام أبو الوليد الباجي ،رحمه الله ، :
[ وَهَذَا كَانَ حُكْمُ ضَوَالِّ الْإِبِلِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا كَانَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ،
فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِا لَمَّا كَثُرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَثُرَ تَعَدِّيهمْ عَلَيْهَا أَبَاحُوا أَخْذَهَا لِمَنْ الْتَقَطَهَا وَرَفَعَهَا إلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَوْا رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا،
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَرَ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ بِتَعْرِيفِهَا ثُمَّ أَبَاحَ لَهُ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ وَجَدَ بَعِيرًا فَلْيَأْتِ بِهِ الْإِمَامَ يَبِيعُهُ يَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي بَيْتِ الْمَال . . .
وَهَـذَا مَعْنَـى مَــا رُوِيَ عَـنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُور ] ( )
ضوال الإبل في زمن عثمان
وقال الإمام ابن بطال رحمه الله :
[ وقد باع عثمان ضوال الإبل، وحبس أثمانها على أربابها ورأى أن ذلك أقرب إلى جمعها عليهم لفساد الناس ] ( )
[ عن مالك أنه سمع بن شِهَابٍ يَقُولُ كَانَتْ ضَوَالُّ الْإِبِلِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِبِلًا مُؤَبَّلَةً تَنَاتَجُ لَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ
حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا ثُمَّ تُبَاعُ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا ] ( )
وقال الإمام الزرقاني رحمه الله :
[ (لَا يُمْسِكُهَا أَحَدٌ) لِلنَّهْيِ عَنِ الْتِقَاطِهَا (حَتَّى إِذَا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِتَعْرِيفِهَا) بَعْدَ الْتِقَاطِهَا خَوْفًا مِنَ الْخَوَنَةِ
(ثُمَّ تُبَاعُ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا أُعْطِيَ ثَمَنَهَا) لِأَنَّ هَذَا أَضْبَطُ لَه ( ) ] ( ).
صلاة التراويح
4 – ( عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا ) ( ).
التراويح في زمن النبيّ ، وخلافة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ،
فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ ) ( ) .
نِعم البدعة هذه
( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ
فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ
ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ
قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ،
وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه ) ( ) .
فهـا هـو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يعترف بعظم لسانه أن ما فعله هو والصحابة معه ( بدعة ) !
أي : ما عمله لم يكن له مثال سابق ! وأنها بدعة حسنة بقوله : ( نِعم البدعة هذه ) ،
وهو أول مَن قال بالبدعة الحسنة من الصحابة رضوان الله عليهم !
إختلاف تراويح عمر عن تراويح النبيّ
[ وقد يُظن أن صلاة التراويح التي جمع عمر رضي الله عنه لها الناس هي امتداد للتي صلاها عليه الصلاة والسلام ،
والواقع أنها تختلف عنها ، وذلك أن عمر دخل المسجد مرة بعد انقضاء صلاة العشاء ، فوجد الناس يصلون وهم أوزاع وأشتات متفرقون ، فرأى أن يجمعهم على قارئ واحد ، فجمعهم على أبيّ بن كعب ،
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في جوف الليل ،
ثم إن عمر دخل المسجد مرة فرآهم يصلون مجتمعين ، ووجد ذلك خيراً من التفرق ، إلا أن انشغالهم بالصلاة في هذا الوقت عن القيام في الثلث الأخير ليس الأفضل ، ولذا فإنه قال : نعم البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون .
أي لو حرص الناس على القيام بالسنة تماما لناموا في هذا الوقت وقاموا في الثلث الأخير ، ولكن لو غلب على الظن أن معظمهم لن يتحقق له ذلك فالأولى أن يشغلوا الوقت بعد صلاة العشاء بالقيام ، وأن يجتمعوا ولا يكونوا متفرقين ،
ومن ههنا يقول عمر رضي الله عنه عن الاجتماع للقيام في هذا الوقت إنه بدعة ، ولكن نعم البدعة هذه .
بدعة لغوية لا شرعية !
ويقول بعض الناس إن البدعة هنا لغوية لا شرعية ،
فأقول : سمها ما شئت ، فليس الخلاف في التسمية ،
ولكن هل صلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس شيئا من قيام رمضان بعد صلاة العشاء ؟!!
فإن وجدت ذلك فهذا الذي فعله عمر سنة ، وإلا فقد استحدثه عمر لما يتحقق فيه من الخير ، وسماه بدعة ، وقال : نعم البدعة ] ( ) .
هناك مَن يردّ على الصحابة عامة ، وعلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب خاصة ، رضي الله عنهم ، من حيث يدري ، أو لا يدري ! بقوله : ليس في الإسلام بدعة حسنة ! !
وبقوله : وقد تجد بعض المبتدعة ، وبعض من يسهل عليهم الأخذ بالبدع ، أو التهاون بشأنها يقولون : هذه بدع حسنة ! !
فعمر بن الخطاب إذاً – حسب قول هذا المتعالم - يتهاون بشأن البدعة ، وهو مبتدع ! ولكن هو – صاحب هذا الإفتراء – لا يتهاون بشأنها ، بل هو أكثر تقوى ، وإخلاصاً ، وفهماً ! !
فعمر بن الخطاب ، الذي هو في مقدمة السلف الصالح ، وفي قمتهم ، بحسب رأي أولئك المتعالمون : إما جاهل لايعرف السنة والبدعة ، أو هو ضال ، قد انحرف عن السنة ، وحاشاه من كلا الطعنين
صلاة الضحى
5 – ( عَنْ مُوَرِّقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لاَ إِخَالُه ) ( ) .
عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، يراها بدعة !
( عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صلَاتهم فَقَالَ بِدعَة ( ) ) ( ) .
نِعمت البدعة
[ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن بن عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَإِنَّهَا لَمِنْ أَحْسِنِ مَا أَحْدَثُوا . . .
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صلَاتهم فَقَالَ بِدعَة
وروى بن أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَج عَن الْأَعْرَج قَالَ سَأَلت بن عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ بِدْعَةٌ وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ وَمَا أَحَدٌ يُسَبِّحُهَا وَمَا أَحْدَثَ النَّاسُ شَيْئًا أحب إِلَيّ مِنْهَا
وروى بن أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ بن عمر قَالَ مَا صَلَّيْتُ الضُّحَى مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ أَيْ فَأُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا عَلَى نِيَّةِ صَلَاةِ الضُّحَى بَلْ عَلَى نِيَّةِ الطَّوَافِ ] ( ) .
يظهر أن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، حسب آراء المتعالمين ، هو أيضا : إما أنه جاهل ؛ حيث يطلق على البدعة كلمة ( حسنة ) ، أو إنه ضال منحرف عن السنة ،
وهو وأبوه لم يصلا من العلم ما وصل إليه هؤلاء المتعالمون !
وحاشا ابن عمر وأبيه من كلا الظنين السيئين !
عائشة ، رضي الله عنها ، وسبحة الضحى
( عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ . . . وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا ) ( ) . هذا لفظ البخاري .
أما رواية مسلم فهي :
( ما رأيت رسول الله يصلّي سُبحة الضحى قط وإني لأُسَبّحُها ) .
مربط الفَرَس !
بغض النظر عن أن صلاة الضحى سنة ، أم لا ؟ ، صلاها النبيّ ، أم لا ؟ فهي ليست موضوعنا هنا ،
بل موضوعنا هو ، أن عبد الله بن عمر – عالم من علماء الصحابة – يرى، ويؤمن بأنهـا بدعة ، لم يصليها النبيّ ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا هو يصليها ، ومع هذا يقول عنها : نعمت البدعة ، ويقول : ما أحدث الناس شيئاً أحب إليّ منها !
وعائشة ، أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، تقول : ما سبّح رسول الله سُبحة الضحى قط وإني لأُسبحها !
لا آمر بها ولا أنهى عنها !
( عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُ رَأَى أُنَاسًا يُصَلُّونَ صَلاةَ الضُّحَى، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلاةً مَا صَلاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَنْ سُبْحَةِ الضُّحَى، قَالَ: لَا آمُرُ بِهَا، وَلا أَنْهَى عَنْهَا، وَلَقَدْ أُصِيبَ عُثْمَانُ، وَمَا أَدْرِي أَحَدًا يُصَلِّيهَا، وَإِنَّهَا لَمِنْ أَحَبِّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ إِلَيَّ ) ( ) .
ويظهر أن الذين كانوا يصلونها أكثرهم من غير الصحابة :
قال الإمام ابن بطال ، رحمه الله ، :
[ وقال مسروق: كنا نقرأ فى المسجد فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم فنصلى الضحى،
فبلغ ابن مسعود ذلك، فقال: لم تحملوا عباد الله ما لم يحملهم الله؟ إن كنتم لابد فاعلين ففى بيوتكم.
وكان أبو مجلز يصلى الضحى فى منزله. وكان مذهب السلف الاستتار بها وترك إظهارها للعامة، لئلا يرونها واجبة.
وفى قولها: (وإننى لأسبحها) دليل أنها صلاة مندوب إليها مرغب فيها، وقد روى عنها أنها، قالت: لو نشر لى أبواى من قبرهما ما تركتهما، فالتزامها لها لا يكون إلا عن علم عندها من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ] ( ) .
قوله رحمه الله : ( فالتزامها لها لا يكون إلا عن علم عندها من النبي ّ )
إن كان يقصد بأنها كانت فقيهة ، وعالمة ، وفاهمة لمنهج رسول الله في عمل الخير ، إذا لم يعارض نصاً ، فقوله صحيح .
أما إن كان قصده : أن في صلاة الضحى نصاً عندها عن رسول الله فخطأ ، كيف وهي ، رضي الله عنها ، تقول بصريح العبارة : ما سبّح رسول الله سبحة الضحى قط ! وما رأيت رسول الله يصلي سبحة الضحى قط !
إلا إذا كانت من باب أن النبيّ كان يدع أعمالاً يحبها ، مخافة أن تُفرض على الناس ، فهذا ما نريد نحن إثباته !
ومسروق وجماعته ، وأبو مجلز ليسوا من الصحابة .
علماء فقهاء
إن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، ولاسيما كبارهم ، وعلماؤهم ، قد تفقهوا ، وتعلّموا الدين على يدي رسول الله ، وبتوجيهات مباشرة من الله تعالى ، ورسوله ، وإرشاداته قرابة ربع قرن ؛ عُمْر النبوّة ، كما ذكرنا سابقا .
فَهُـم كـانوا أفقه النـاس ، وأعلمهم ، وهم أئمـة ، وقدوة لمـن بعدهم في فهمهم للدين عن رسول الله .
ولقد بلّغهم النبيّ الرسالة أتم تبليغ ، وأدّى الأمانة ونصح ، وكان أعظم مربّي ومعلم ، فتخرج في مدرسته عمالقة ، علماء ، صالحون ، لم يشهد التاريخ مثلهم – حاشا الأنبياء عليهم السلام -
فكانوا عظماء ، فقهاً ، وعملاً ، بعيداً عن الجمود ، والسذاجة ، والتحجر !
فلننظر كيف كان الوحي ينير لهم الطريق ، ويهديهم ، فيمضون على نور من ربّهم ، ثم انطلقوا في أرجاء المعمورة يخرجون الناس – بإذن الله وهديه – من الظلمات إلى النور !
آيات وأحاديث ، هي معالم في الطريق !
هناك آيات ، وأحاديث كانوا في ظلها يتقلبون ، فيتفقهون ، ومن ثم يتفاعلون ، ويتعاملون .
ونذكر بعضاً منها ، على سبيل المثال ، لا الحصر :
وافعلوا الخير
1 – قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( ) .
[ وجه الإستدلال أن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بفعل الخير أمراً مطلقاً ،
فالظاهر الإذن في فعل كل ما يظهر خيره وتتحقق مصلحته إلاّ إذا كان مندرجاً تحت نص من نصوص النهي ] ( ) .
وكان جواب عمر بن الخطاب للخليفة أبي بكر ، ثم جواب أبي بكر لزيد بن ثابت ، في حوار ، ونقاش جمع القرآن : هو والله خير ! !
ربما كان استدلال عمر بن الخطاب ، ثم أبي بكر الصدّيق ، رضي الله عنهم جميعا ، نابع من هذه الآية الكريمة ! !
عمل مثقال ذرة !
2 – قوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) .
[ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّيهَا الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ حِينَ سُئِلَ عَنْ زَكَاةِ الْحُمُرِ فَقَالَ: «مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .
وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَائِشَةُ بِحَبَّةِ عِنَبٍ، وَقَالَا: فِيهَا مَثَاقِيلُ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خيثم: مَرَّ رَجُلٌ بِالْحَسَنِ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَهَا قَالَ: حَسْبِي قَدِ انْتَهَتِ الْمَوْعِظَةُ ] ( ) .
من سَنّ
3 – قوله : (( مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده )) ( ) .
قال الإمام النووي ، رحمه الله تعالى ، :
[ وفي هذا الحديث تخصيص قوله (( كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) ، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة ، وقد سبق بيان هذا ، وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام ] ( ) .
إعتراض عجيب !
هناك من يفسر ، ويقصّر حكم هذا الحديث ، على سبب وروده !
وسبب ورود هذا الحديث الشريف هو – كما ذكره الإمام مسلم ، رحمه الله ، في صحيحه :
[ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ : فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ
فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [النساء: 1] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء: 1] وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: { اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ } [الحشر: 18] « تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ ، مِنْ دِرْهَمِهِ ، مِنْ ثَوْبِهِ ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ »
قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا ، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ ، قَالَ : ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً ، فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً ، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ » ] ( ) .
فهل يدّعون أنّه لا يُؤخذ من الحديث حكماً عاماً ، ويقتصر فقط على الصدقات – كما وردت في الحديث – والنبيّ يقول : مَن سنّ في الإسلام سُنَّةَ حَسَنَة ؟
ولننظر كيـف فهـم وشـرح الإمــام النـووي ، رحمـه الله ، الحديث ( شـرح العلماء ، دون تعصب ) ؟ :
[ ( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا ) إِلَى آخِرِهِ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالْخَيْرَاتِ وَسَنِّ السُّنَنَ الْحَسَنَاتِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ اخْتِرَاعِ الْأَبَاطِيلِ وَالْمُسْتَقْبَحَاتِ
وَسَبَبُ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا فَتَتَابَعَ النَّاسُ وَكَانَ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ لِلْبَادِي بِهَذَا الْخَيْرِ وَالْفَاتِحُ لِبَابِ هَذَا الْإِحْسَانِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ
وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُحْدَثَاتُ الْبَاطِلَةُ وَالْبِدَعُ الْمَذْمُومَةُ
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْبِدَعَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ وَاجِبَةٌ وَمَنْدُوبَةٌ وَمُحَرَّمَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمُبَاحَة ] .
فاقتصار حكم الآيات والأحاديث ، على أسباب النزول ، وعلى أسباب الورود ، هو بدعة ، من ورائها هوىً وتعصب ذميم !
ولقد قال أحدهم ، عندما ذُكر له قوله تعالى : ( وذَكِّرهُم بأيام الله ) في الإستدلال به على جواز الإحتفال بالمولد النّبوي ؛ باعتبار أن مولده من أفضل أيام الله تعالى ، بمعنى نعمته عز وجل ! ( )
قال : إن هذا كان أمراً لموسى عليه السلام ! ! !
وإذا حكمنا بهذا الحكم العجيب ، الغريب ، فمعنى ذلك أن القرآن ، وأحكامه ، لا تصلح إلا لمن نزلت الآيات الكريمة بسببهم ، وهي ما تسمى بأسباب النزول ! ! !
التعصب يفعل بصاحبه الأفاعيل ، ويدفعه لمعارضة البديهيات !
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب !
ومن المعلوم أن هناك قاعدة أصولية – تكاد تكون من محفوظات الجميع – تقول : العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
[ وقد لخص الإمام الطوفي في الحجة ، على أن العبرة بعموم اللفظ ، في وجهين.
أحدهما: أن الحجة في لفظ الشارع لا في سببه، وإذا كان الأمر كذلك، وجب مراعاة اللفظ عمومًا وخصوصًا ، كما لو ورد ابتداء على غير سبب ،
فلو سألت امرأة زوجها الطلاق ، فقال: "كل نسائي طوالق" عمهن الطلاق مع خصوص السبب، ولو سأله جميع نسائه الطلاق ، فقال : " فلانة طالق" اختص الطلاق بها ، وإن عم السبب .
الوجه الثاني : أن أكثر أحكام الشرع العامة وردت لأسباب خاصة ،
كورود حكم الظهار في أوس بن الصامت ، وحكم اللعان في شأن هلال بن أمية ،
فلو كان السبب الخاص يقتضي اختصاص العام به ، لما عمت هذه الأحكام ،
لكنه باطل بالإجماع ". انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 503-504" ] ( ) .
أي : إن أكثر أحكام الشرع من الحلال والحرام ، والفرض والواجب ، جاءت لأسباب خاصة بأشخاص معينين .
فهل يعني ذلك أن تلك الأحكام لا تشمل غيرهم ؟ ! وقد عممها الله تعالى ، وعممها رسول الله وعممها الأئمة والعلماء ، أي : تشمل جميع المكلفين ! !
ولا أظن أن المتعصبين يقولون بذلك ، ولكن الهوى تعمي وتصم ، وتوقع صاحبها في التناقضات !
وإلا فما معنى قوله : إن هذا كان أمراً لموسى ، في قوله تعالى : ( وذَكِّرهُم بأيام الله ) ؟ والجميع يعلمون أنّ هذا كان أمراً لموسى ، عليه السلام ! ولكن هل يعني : أنه ليس لغير موسى ، عليه السلام ، أن يذكر الناس بنِعَم الله عليهم ؟
وقد قال نوح ، عليه السلام ، لقومه ، قبل موسى بقرون ، كما ذكر الله ، تعالى ، ذلك بقوله :
( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) ( ) .
قال الحافظ ابن كثير ، رحمه الله :
[ وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَسْتَسْقِيَ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار.
ومنها هَذِهِ الْآيَةُ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}
ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي سَتُنْزِلُ بِهَا الْمَطَرَ ) ( ) .
فهـل يصـح أن يُعترض علـى الخليفة الراشـد عمر بـن الخطـاب ، وكذلـك علـى الحــافظ ابـن كثير ، رحمه الله ، هنا ، بأن يُقال لهما : كيف تستدلان بتلك الآية الكريمة ، وهي تتحدث عن قول نوح ، عليه السلام ، لقومه ؟ !
معنى سَنَّ أي : أحيا ! ! !
ولا ينتهي عجبي من تعصب البعض – الذين يدّعون ، ويزعمون أنهم يحاربون التعصب ! ! حيث يدفعه تعصبه هذا ، إلى لَيّ عنق النصوص بالقوة ، ليعطي معنىً ، من قناعته المسبقة ، وهواه ، فيزعم أن سنّ بمعنى : أحيا ! ! !
فيقول : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " من سن في الإسلام سنة حسنة " . . . فالمراد به : من أحيا سنة ( ) ؛
لأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بمناسبة ما فعله أحد الصحابة من مجيئه بالصدقة في أزمة من الأزمات، حتى اقتدى به الناس وتتابعوا في تقديم الصدقات ! ! ( ) .
ضارباً عرض الحائط ، اللغة العربية وقواميسها ، في معنى : سنّ ، وأحيا ! !
أول من سَنَّ القتل !
ولا ندري ماذا يقول ، وكيف يفسر قول رسول الله :
( لاَ تُقْتَـلُ نَفْـسٌ ظُلْمًـا إِلاَّ كَـانَ عَلَـى ابْـنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْـلٌ مِنْ دَمِهَا ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ) ؟ ؟ ! !
فهل أحيا سنة القتل ، بعد أن كانت ميتة ، أم كان هو أول إنسان ابتدأ القتل ، كما يقول جميع العلماء والأئمة والعقلاء ؟ !
أول من سَنَّ الركعتين عند القتل !
وكيـف يفـسر قــول أبــي هريــرة - الـذي رواه البخـاري فـي صحيحـه – عـن خُبَيب : ( فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَوْلاَ أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُو ) ( ) ؟ !
فهل سنّ رسول الله ذلك قبله ، وماتت هذه السنة فأحياها خُبَيب ؟ !
هل علّمه رسول الله ذلك بنص خاص ؟ !
وهذا من البديهيات ، التي لا تحتاج إلى دليل وإثبات ! ولكن ماذا نفعل مع قوم ، تحتاج البديهيات عندهم إلى دليل ، وإثبات ؟ !
أول من سَنَّ للعرب الحداء للإبل !
[ وَقَالَ ابْن سَيّده سمي مُضر لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعا بِشرب اللَّبن الماضر أَي الحامض وَهُوَ أول من سنّ للْعَرَب الحداء لِلْإِبِلِ
لِأَنَّهُ كَانَ حسن الصَّوْت فَسقط يَوْمًا من بعيره فَوَثَبت يَده فَجعل يَقُول وايداه وايداه فأعنقت لَهُ الْإِبِل ] ( ) .
أول من سَنَّ الدِّيَة مائَة من الإبل !
[ وَاخْتلفُوا فِي أول من سنّ الدِّيَة مائَة من الْإِبِل ،
فَقَالَ ابْن إِسْحَاق : عبد الْمطلب ، وَقيل : القلمس ،
وَقيل : النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة قتل أَخَاهُ لأمه فوداه مائَة من الْإِبِل من مَاله ،
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: وثب ابْن كنَانَة على عَليّ بن مَسْعُود فَقتله ، فوداه خُزَيْمَة بِمِائَة من الْإِبِل ،
فَهِيَ أول دِيَة كَانَت فِي الْعَرَب ،
وَقيل : قتل مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن أَخَاهُ زيدا فوداه عَامر بن الضَّرْب مائَة من الْإِبِل ، فَهِيَ أول دِيَة كَانَت فِي الْعَرَب ] ( )
أول من سَنَّ الكفر والقتل !
[ رَبنَا أرنا الَّذين اضلانا من الْجِنّ والأنس نجعلهما تَحت اقدامنا ليكونا من الاسفلين وَالْمرَاد من الْجِنّ إِبْلِيس وَمن الانس قابيل لِأَنَّهُمَا أول من سنّ الْكفْر وَالْقَتْل ] ( ) .
فهل هؤلاء أيضاً أول من أحْيَوا سنة مَن قَبْلَهم ، فيا ليت شعري ، سُنَّةَ مَن أحياها إبليس ؟ !
من أحياها ، وعمل بها ، وبيّنها ! !
ثم إذا كان سَنَّ بمعنى : أحيا ، كما قال بعضهم :
[ والصدقة ليست بدعة؛ لأنها مأمور بها بالكتاب والسنة ، فهي سنة حسنة ، من أحياها وعمل بها وبينها للناس حتى عملوا بها واقتدوا به فيها ؛ كان له من الأجر مثل أجورهم ] ! !
وإذا كـان معنـى سَنَّ : أحيا ، فهل كان للإسلام أو لرسول الله ، سنة سيئة - حاشا ذلك – فمَن أحياها ، وعمل بها ، واقتد الناس به فيها ؛ كان عليه من الوزر مثل أوزارهم ؟ ! ! !
فانظر إلى أين يؤدي الجهل والتعصب بأصحابهما ؟ !
دعوني ما تركتكم !
4 – قوله : ( دعوني ما تركتكم ، إنما هلك مَن كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) . وفي رواية (( بكثرة سؤالهم )) ( ) .
ليس كل مسكوت عنه محرماً !
[ في هذا الحديث دلالة قوية واضحة على أنه ليس كل مسكوت عنه محرماً ، لأنه قسم الواجب على المكلف إلى قسمين :
• أحدهما يجب فعله على قدر الاستطاعة وهو المأمور به .
• وثانيهما يجب اجتنابه وهو المنهي عنه .
ولو كان كل مسكوت عنه محرماً لقال فإذا نهيتكم عن شيء أو لم أقل فيه شيئاً فاجتنبوه ، فتأمل ] ( ) .
والحديث ، بصريح العبارة ، يدل على النهي عن سؤال النبيّ في كل شيء !
أي : يدل علـى أن الأصـل فـي الأشـياء ، والتصرفـات ، الإبـاحة ، إلا مـا نهى عنه النبيّ ، ( دعوني = لا تسألوا ) ، ( ما تركتكم = سكتُّ ، ولم أنهكم عن ما تفعلوه من عند أنفسكم ) !
أي : إفعلوا مـا ترونه خيراً ، ولا تسألوا ، طالما أنا ساكت عنكم ، فإذا كان ما تفعلونه غير حسن ، أو كان شره أكثر من خيره ، فسأنهاكم عنه !
الأصل في الأشياء الإباحة !
[ ( الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ ) ، فكلُّ شيءٍ مباحٌ ما لم يرِدْ دليلٌ ينقلهُ من تلكَ الإباحةِ إلى غيرهَا من الأحكامِ التَّكليفيَّة ،
فلا يُدَّعى وجوبٌ أو استحبابٌ أو تحريمٌ أو كراهَةٌ إلاَّ بدليلٍ ناقلٍ إليها من الإباحةِ .
وهذا أصلٌ استُفيدَ من نصوصٍ صريحةٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وهو مناسبٌ للمعقولِ الصَّريح .
فإنَّ من أعظمِ مقاصدِ التَّشريعِ: رفع الحرجِ، والإباحةُ تخييرٌ، ورفعُ الحرج ثابتٌ بها، بخلافِ ما هوَ مطلوبُ الفعلِ أو التَّركِ ، فإنَّ المكلَّف محتاجٌ إلى تكلُّفِ القيامِ به ممَّا تحصلُ له به المشقَّةُ ،
والأشياءُ لا حصرَ لها، فإنْ عُلِّقتْ بغيرِ الإباحَةِ من الأحكامِ التَّكليفيَّةِ لزمَ منها تكليفٌ غيرُ مُتناهٍ ، وهذا لا يتناسبُ معَ قُدرةِ المكلَّفٍ ، ومعَ الرَّحمةِ بهِ .
والله امتنَّ على عبادهِ بالإباحةِ للأشياءِ فسخَّر لهُم ما في السَّماواتِ والأرضِ نعمةً منه ورحمةً .
قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [الجاثية:13] ، وقال : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } [البقرة: 29] ،
وقال تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الأعراف: 32] .
وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في الفقهِ، فإنَّ الأصلَ في كلِّ شيءٍ الحلُّ حتَّى يوجدَ من الشَّرعِ دليلٌ يُخرجُه من الحلِّ ،
وأنَّ ما يخرجُ من الحلِّ إلى حُرمَةٍ أو كراهةٍ مفصَّلٌ في الكتابِ والسُّنَّة ، وهو محصورٌ معدودٌ يُمكنُ أن تُستقصى أفرَادُه ،
ألم تقرأْ قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] ،
وقوله : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } …. [الأنعام: 145] ،
وقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ....} [الأعراف: 33] ،
وقوله : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام: 119] ؟
وحتى الَّذي يجري المنعُ منه عن طريقِ القياسِ فإنَّه لا يحوِّلُ الأصلَ إلى أن يُقالَ : ( الأصلُ في الأشياءِ الحُرمَةُ ) ،
فلو وصَـلَ القيـاسُ بأصحـابِهِ إلــى هــذا المعنى المعكوس لكانَ ذلكَ دليلاً بنفسهِ على فسادِ قياسِهِمْ ] ( ) .
فَحُرِّم من أجل مسألته !
ولقد خوّف النبيُّ الصحابةَ ، من السؤال ، فقال :
( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ ) ( ) .
قال تعالى :
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } ( ) .
قال الإمام ابن كثير ، رحمه الله ، :
[ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَنْ كَثْرَةِ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } [الْمَائِدَةِ: 101]
أَيْ: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تَفْصِيلِهَا بَعْدَ نُزُولِهَا تُبَيَّنُ لَكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوا عَنِ الشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ؛ فَلَعَلَّهُ أَنْ يُحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ .
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: " إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " .
وَلَمَّا سُئِل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَإِنْ سكتَ سكتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ؛ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا .
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ حُكْمَ الْمُلَاعَنَةِ ( ) .
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ( ) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِنْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ" . وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّ. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لوجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ". ثُمَّ قَالَ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " الْحَدِيثَ. وَهَكَذَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: نُهينا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيب، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: إِنْ كَانَ لَيَأْتِيَ علَيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَأَتَهَيَّبُ مِنْهُ، وَإِنْ كُنَّا لَنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما سألوه إلا عن ثنْتَي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الْبَقَرَةِ:219] ، وَ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 217] ، وَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [الْبَقَرَةِ: 220] يَعْنِي : هَذَا وَأَشْبَاهُه ] ( ) .
على العبد أن يأخذ بعفو الله !
قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) :
[ لم ينقطع حكم هذه الآية. بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه. بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله. ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا. لمّا سأله رفيقه عن مائه: أطاهر أم لا؟ ] ( ) .
كان الدين عندهم فطرياً ، ساذجاً ، وحنيفياً ، سمحاً !
قال الشيخ محمد رشيد رضا ، رحمه الله :
[ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا أَرَادَ اللهُ - تَعَالَى - أَنْ يَقُصَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَسْوَتِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ لِلْاعْتِبَارِ بِهَا. وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ: أَنَّ التَّنَطُّعَ فِي الدِّينِ وَالْإِحْفَاءَ فِي السُّؤَالِ، مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِي الْأَحْكَامِ، فَمَنْ شَدَّدَ شُدِّدَ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) (5: 101، 102) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (( وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ )) وَقَدِ امْتَثَلَ سَلَفُنَا الْأَمْرَ فَلَمْ يُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ فِطْرِيًّا سَاذَجًا وَحَنِيفِيًّا سَمْحًا، وَلَكِنْ مِمَّنْ خَلَفَهُمْ مَنْ عَمَدَ إِلَى مَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَ لَهُ أَحْكَامًا اسْتَنْبَطَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَأَكْثَرُوا مِنْهَا حَتَّى صَارَ الدِّينُ حِمْلًا ثَقِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ فَسَئِمَتْهُ وَمَلَّتْ، وَأَلْقَتْهُ وَتَخَلَّتْ ] ( ) .
سكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان !
5 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسـكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسـيان فلا تبحثوا عنها )) ( ) .
من الحكمة أن لا يسألوا !
[ هذا الحديث نص في أن الله تعالى سكت عن أشياء رحمة للأمة ، ولعله كان من الحكمة أن ولا يسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لئلا ينـزل فيها تحريم بسبب السؤال ، فإذا انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فليبحث المجتهدون في إلحاقها بما يناسبها ، فيكون للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد ، فيقع التفاوت في الأجر ، ولو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وبيّن حكمها لوجب امتثال حكمه ولما وقع ذلك التفاوت ، والله أعلم ] ( ) .
فلا تبحثوا عنها !
(( وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها )) !
أي : بما أنه لم يأتِ فيها حكم بالحرام ، أو بعدم الجواز ، فافعلوها ، ولا تسألوا عنها ؛ هل هذا الذي أفعله حرام ، أم لا ؟ !
فبما أنه لا يعارض نصاً من القرآن ، أو نصاً من حديثي ، وهديي ، ويخدم إحدى المصالح الخمسة فلا بأس به ، سواء فعلته أنا ، أم لا ! فافعلوه أنتم ، ولا تسألوا ، ولا تبحثوا ، ولا تدققوا !
فإذا كان الذي تفعلونه حراماً ، أو غير جائز ، فسوف أنهاكم عنه ، وأُخبركم بحكمه أنا ، من غير أن تسألوا أنتم ! !
وهو بمعنى قوله : دعوني ما تركتكم !
وما سكت عنه فهو مما عفا عنه !
( عن سلمان قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) ( ) .
الحرام ما حرّم الله !
[ ( الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ) أَيْ بَيَّنَ تَحْلِيلَهُ ( فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) أَيْ بَيَّنَ تَحْرِيمَهُ (فِي كِتَابِهِ) يَعْنِي إِمَّا مُبَيَّنًا وَإِمَّا مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ :
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا لِئَلَّا يَشْكُلَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي صَحَّ تَحْرِيمُهَا بِالْحَدِيثِ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ هُوَ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ أَوِ الْإِشَارَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ لِحَدِيثِ إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْتَهَى (وَمَا سَكَتَ) أَيِ الْكِتَابُ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ بَيَانِهِ أَوْ وَمَا أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْ بَيَانِ تَحْرِيمِهِ وَتَحْلِيلِهِ رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ (فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ) أَيْ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ وَأَبَاحَ فِي أَكْلِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما في الأرض جميعا . . . قُلْتُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِضْرَارِ وَأَمَّا مَا إِذَا كَانَتْ مُضِرَّةً فِي الْآجِلِ أَوِ الْعَاجِلِ فَكَلَّا ثُمَّ كَلا ] ( ) .
قل لا أجد فيما أوحي إليَّ مُحَرّماً !
( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا،» فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ " وَتَلَا { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ) ( ) .
فاقبلوا من الله عافيته !
قال الإمام الشوكاني ، رحمه الله ، !
[ وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَقَالَ: سَنَدُهُ صَالِحٌ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ بِلَفْظِ «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنْ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، وَتَلَا { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم: 64] » .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ « إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا. وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا » .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ: " كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ " الْحَدِيثَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ « فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا » . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } [المائدة: 101] الْآيَةَ، كُنَّا قَدْ اتَّقَيْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْحَدِيثَ.
وَالرَّاجِحُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ عَمَّا كَانَ وَعَمَّا لَمْ يَكُن ] ( ) .
الذين آمنوا وعملوا الصالحات !
على هدي هذه الآيات المباركة ، والأحاديث النبوية الشريفة – وغيرها كثير – تعلّم الصحابة وتفقهوا ، فذهبوا يعملون من الصالحات ، ما لا نص خاص صريح فيه ، والنبيّ يحثُّهم ، ويُشجِّعهم بصورة غير مباشرة !
فتربَّوا ، تربية عالية ، سامية ، وأُشرِبوا روح الإسلام ، ولبّه ، فاجتهدوا في الصالحات ! منها – على سبيل المثال – :
عجبت لها . فُتحت لها أبواب السماء !
1 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنَ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟» قَالَ رَجُلٌ مَنِ الْقَوْمِ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ: « فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ» .
أليس هذا حثٌّ ، وتشجيع للصالحات ؟ !
[ الظاهر من سياق الرواية أن ذلك الصحابي لم يكن قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في جعل هذا الذكر في استفتاح الصلاة ، ولو كان ذلك عن أمره وتعليمه لما عجب لذلك ، وإنما كان ذلك عن اجتهاد من ذلك الصحابي ، ومحل الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك الاجتهاد ، ولو كان من المحظور على المرء المسلم أن يأتي بشيء في العبادة دون دليل خاص لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقال له كيف تفعل في الصلاة شيئاً قبل أن آذن لك فيه ؟ ! ] ( )
ونلاحظ أنه اجتهاد في العبادة ؛ الصلاة ! !
لم يقُل بأساً !
( عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟» فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا» فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا» ) .
هل هناك أفضل من هذا الحثّ ، والتشجيع ؟ !
أيُّهم يكتبها أول !
( عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ : كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ : فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ ، قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ : مَنِ الْمُتَكَلِّمُ ؟ قَالَ : أَنَا ، قَالَ : رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا ، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ ) .
جواز إحداث ذكر في الصلاة !
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ، رحمه الله :
[ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلَاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذا كَانَ غير مُخَالف للمأثور ] ( )
المأموم يشرع له الزيادة !
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي ، رحمه الله :
[ وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأموم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد - في رواية - ] ( ) .
وما يدريك أنها رُقية !
2 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْقِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضِيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمُ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ، ثُمَّ قَالَ - قَدْ أَصَبْتُمُ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ .
فلم يعنِّف !
2 - وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلَا{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّف .
فضحك رسول الله ، ولم يقل شيئاً !
[ وفي السنن لأبي داود من حديث عمرو بن العاص- رضي الله عنه- قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي. فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إنِّي سمعت الله يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) قال: " فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقل شيئا ] ( ) .
صلى بنا وهو جنب !
عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ ، وأنه أصابهم برد شديد لم يروا مِثْلَهُ فَخَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدِ احْتَلَمْتُ الْبَارِحَةَ فَغَسَلَ مَغَابَتَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: "كيف وجدتم عمرا وأصحابه"؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى بِنَا وَهُوَ جُنُبٌ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمْرٍو فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَبِالَّذِي لَقِيَ مِنَ الْبَرْدِ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَلَوِ اغْتَسَلْتُ مُتُّ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عمرو ( ) .
أخبروه أن الله يحبه !
3 - عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِ فَيَخْتِمُ بِ - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لأَىِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ .
إجتهاداً منه !
[ وهذا الحديث ظاهر في أن أمير السـرية كان يختم القراءة في الصلاة بـ { قل هو اللهُ أحد } اجتهاداً منه ، لأنه صفة الرحمن جل وعلا ، فكان جزاؤه أن يحبه الله تعالى لحبه إياها ] ( ) .
أصحابه استنكروا فعله !
[ عن أنس بن مالك: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما استفتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها إما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم. وكان يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبروه الخبر. فقال (( يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ )) قال: إني أحبها قال: (( حبك إياها أدخلك الجنة )) .
هذا الحديث خرجه الترمذي في (( جامعه )) عن البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر - فذكره وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
وإنما لم يخرجه البخاري - هاهنا - مسنداً؛ لأن حماد بن سلمة رواه عن ثابت، عن حبيب بن سبيعة، عن الحارث، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الدارقطني: هو أشبه بالصواب . . . وخرجا في (( الصحيحين )) معنى هذا الحديث من رواية أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (( سلوه لأى شيء يصنع ذلك )) ؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (( أخبروه أن الله يحبه )) .
وقد دل حديث أنس وعائشة على جواز جمع سورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة من صلاة الفرض؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينهه عن ذلك.
ويدل على أنه ليس هو الأفضل؛ لأن أصحابه استنكروا فعله وإنما استنكروه لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في صلاتهم؛ ولهذا قال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (( ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ )) .
فدل على أن موافقتهم فيما أمروه به كان حسناً، وإنما اغتفر ذلك لمحبته لهذه السورة ] ( ) .
فعمل هذا الصحابي الجليل – الذي كانوا يرون أنه أفضلهم – رضي الله عنهم ، هو كان مخالفاً لما عهدوه من عمل النبيّ ، وأصحابه في صلاتهم ! ولهذا استنكر أصحابه فعله !
ومع هذا لم يعنّفه النبيّ ، ولم يستنكر عليه ذلك ، ولم يقل له : لماذا تفعل ما لم أسنه أنا ؟ !
بل استفسر عن ذلك ( ) فلما أخبر سبب فعله ، بشَّره بحب الله تعالى له ! !
تلبية رسول الله !
4 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَك .
وكان عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، يزيد فيها !
عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَزِيدُ فِيهَا: " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ .
كان النبيّ لا يزيد على هذه الكلمات !
قال الحافظ ابن حجر ، رحمه الله ، :
[ وَقَالَ فِي آخِرِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْه قَالَ بن عُمَرَ كَانَ عُمَرُ يُهِلُّ بِهَذَا وَيَزِيدُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ وَهَذَا الْقَدْرُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَيْضا عِنْده عَن نَافِع عَن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ فَعرف أَن بن عمر اقتدي فِي ذَلِك بِأَبِيهِ
وَأخرج بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرْفُوعِ وَزَادَ لَبَّيْكَ مَرْغُوبًا وَمَرْهُوبًا إِلَيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ .
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَن أخرجه من حَدِيث بن عمر وبن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ مَا أَحَبَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة يَعْنِي الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ وبن ماجة وَصَححهُ بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ قَالَ كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحق لبيْك وَبِزِيَادَة بن عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ
وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ ثُمَّ فَعَلَهُ هُوَ وَلَمْ يَقُلْ لَبُّوا بِمَا شِئْتُمْ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا بَلْ عَلَّمَهُمْ كَمَا عَلَّمَهُمُ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ .
ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ فَقَالَ إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ فَهَذَا سَعْدٌ قَدْ كَرِهَ الزِّيَادَةَ فِي التَّلْبِيَةِ وَبِهِ نَأْخُذُ انْتَهَى
وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يزِيد عَن بن مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُلَبِّي بِغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا تقدم عَن عمر وبن عُمَرَ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ إِلَخْ .
قَالَ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ تَلْبِيَتُهُ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ
قَالَ وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ ذَا الْمَعَارِجِ وَذَا الْفَوَاضِلِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَرْفُوعَةِ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَتِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَبِه صرح أَشهب وَحكى بن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةَ قَالَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ حَكَى أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنِ الشَّافِعِيِّ يَعْنِي فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَغَلِطُوا بَلْ لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ فَإِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَن بن عُمَرَ حَفِظَ التَّلْبِيَةَ عَنْهُ ثُمَّ زَادَ مِنْ قِبَلِهِ زِيَادَةً
وَنَصَبَ الْبَيْهَقِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَقَالَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرْفُوعِ أَحَبُّ وَلَا ضِيقَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا قَالَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ زَادَ فَحَسَنٌ وَحَكَى فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ وَلَا ضِيقَ عَلَى أحد فِي قَول مَا جَاءَ عَن بن عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارِ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى وَهَذَا أَعْدَلُ الْوُجُوهِ فَيُفْرِدُ مَا جَاءَ مَرْفُوعًا وَإِذَا اخْتَارَ قَوْلَ مَا جَاءَ مَوْقُوفًا أَوْ أَنْشَأَهُ هُوَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِمَّا يَلِيقُ قَالَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ بِالْمَرْفُوعِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالثَّنَاءِ مَا شَاءَ أَيْ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْمَرْفُوعِ ] ( ) .
هل إستأذن الصحابة رسول الله في الزيادة ؟ !
[ قد يقال : إن هذا لا دلالة فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في الزيادة على ألفاظ التلبية .
والجواب : هل استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزيادة ؟!! وقد كان جابر رضي الله عنه قريبا من رسول الله عليه الصلاة والسلام في تلك الرحلة المباركة ، يرصد أحوال المناسك ، فالظاهر أنه يذكر استئذان الناس في زيادة الألفاظ لو وقع ، وإذ لم يذكر ذلك فالظاهر عدم الوقوع .
وإذا كان كثير من الناس قد انطلقوا يلبون بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيدون فيها فهذا يعني أنه قد استقر في أذهانهم _وهم في أواخر السنة العاشرة _ أن باب الأذكار فيه سعة ، وأن مثل تلك الزيادة تعبر عما في مكنون كثير من القلوب من مشاعر إيمانية وخضوع وتضرع وابتهال لله رب العالمين ، بينما يؤْثر آخرون الالتزام بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي علمها للناس والتزم هو بها ، وكل على خير ] ( ) .
زيادات في العبادات !
وهذه الزيادات على تلبية النبيّ ؛ التي جاء بها الناس من عند أنفسهم ، هي زيادات في العبادة ؛ وهي الحج ! والتي قَبْلها كانت في الصلاة ! وهما ركنان من أركان الإسلام ، أعني : الصلاة والحج ! !
موضع الشاهد
وموضع الشاهد من هذه الأحاديث هو : أن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، كانوا يعملون أعمالاً صالحة ، من غير أن يكون فيها نص خاص من القرآن ، ومن السنة ، بل على العكس ، كانت هناك سنة ، وعهد منه ! فزادوا على ذلك باجتهاداتهم ، قبل إقرار النبيّ ذلك ! !
تنبيه على عدم الخروج عن الموضوع ! !
هذا هو لب موضوعنا ! فلا يخرج عنه أحد فيقول : لقد أقرّهم النبي ، فأصبحت هذه الزيادات سنة ، بإقرار النبيّ ! !
فنحن نتحدث عن تربية ، وفهم ، وفقه الصحابة ، رضي الله عنهم ، في عمل الصالحات ، قبل إقرار النبيّ ! !
السنة التقريرية !
بل نتيجة تربية القرآن ، والنبيّ ، للصحابة ، رضي الله عنهم ، أصبحت أعمالهم الصالحة الإجتهادية - التي لا تخالف نصا ً، وهدياً عاماً ، أو قاعدة شرعية ، وتخدم إحدى المصالح الضرورية – أصبحت جزءاً من سنة النبيّ !
تعريف السنة عند الأصوليين !
فتعريف السنة – كما ذكرنا – في إصطلاح الأصوليين هو : ما صدر عن النبيّ ، غير القرآن ، من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، فهي بهذا الإعتبار دليل من أدلة الأحكام ، ومصدر من مصادر التشريع !
السنة التقريرية !
[ وهي سكوت النبيّ عن إنكار قول ، أو فعل صدر في حضرته ، أو في غيبته ، وعلم به .
فهذا السكوت يدل على جواز الفعل ، وإباحته ، لأن الرسول لا يسكت عن باطل ، أو منكر .
ومن أمثلة هذا النوع من السنة : سكوته ، وعدم إنكاره لعب الغلمان بالحراب في المسجد ، وسكوته عن غناء جاريتين ، كانتا تغنيان بغناء حماسي في يوم عيد ( ) .
ومثل السكوت في الدلالة على جواز الفعل ، استبشاره به ، أو اظهار رضاه عنه ، أو استحسانه له .
بل هذا الرضا ، أو الاستحسان أظهر في الدلالة على جواز الفعل .
ويلاحظ هنا ان اباحة الفعل ، المستفادة من سكوت النبيّ لا تعني ان الفعل لا يكون إلا جائزاً فقط ، فقد يكون الفعل واجباً بدليل آخر ، وعلى هذا فمجرد سكوت النبيّ لا يفيد أكثر من إباحة الفعل
، وقد يستفيد الفعل صفة الوجوب ، أو الندب من دليل آخر ] ( ) .
ثوابت ومتغيّرات
والقصد ، والغاية من الأمثلة التي ذكرناها ، سواء كانت في العبادات ، أو المعاملات : أن في هذا الدين العظيم ثوابت ، لا تتغير بتغيّر الزمان ، والمكان ، فهي ثابتة ثبوت الرواسي ، وإلى يوم القيامة .
وهناك متغيّرات ، تتغيّر بتغيّر الزمان ، والمكان ، وحسب الظروف ، والمستجدات .
وهناك خطوط حمراء ، لا يُسمح ، ولا يجوز لأحد أن يتخطّاها ، ويتجاوزها ، وهي : الدين بمعناه الذي ذكرناه بأقسامه الثلاثة :
1 – العقيدة والإيمان 2 – الشعائر التعبدية 3 – الشرائع القانونية والحلال والحرام .
فلا يجوز أي تغيير ، ولا إحداث أي زيادة ، أو نقصان فيه .
أما خارج هذا الحدود ، فتتغيّر الوسائل ، والمتغيّرات ، وتستحدث وسائل جديدة ، وحديثة ، ومتغيرة ، للوصول إلى الغايات ، والمقاصد الثابتة .
ويتغيّر الزمان ، والمكان ، وتستحدث أمور ، ومشاكل ، وأساليب جديدة ، تحتاج إلى علاج ،ودواء ، وجواب مناسب مع العصر !
فباب الإجتهاد مفتوح للعلماء والأئمة ، الذين هم في مستوى الأحداث !
خير الأمور أوسطها !
[ ومن خصائص تيار الوسطية الإسلامية: الموازنة العادلة بين الثوابت والمتغيرات في الإسلام، وتحديد ذلك بوضوح، حتى لا تختلط الأوراق، وتذوب الحواجز، وحتى لا نجور على أحد الطرفين لحساب الطرف الآخر، وحتى لا نجمد ما من شأنه الحركة والمرونة، ولا نغير ما من شأنه الثبات والدوام.
ومن ثم كان لزاما علينا أن نحدد ما الثوابت، وما المتغيرات في رسالة الإسلام ؟
الثوابت الخالدة في العقائد
1 - أما الثوابت فتتمثل أولا في ( العقائد ) التي تمثل فكرة الإسلام الكلية عن الألوهية والعبودية، وبعبارة أخرى عن الله وعن الإنسان وعن الكون بشقيه: المنظور وغير المنظور، وإذا استعملنا التعبير القرآني والنبوي قلنا: عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وموقف الإسلام هنا موقف المخبر عن حقيقة هذه الأشياء، الموجب للإيمان بها كما هي، بلا تهوين ولا تهويل.
وهذه الأشياء ليست إلا حقائق ثابتة، غير قابلة للتطور أو التغيير.
الله عز وجل
فالله جل جلاله ـ هو الله منذ الأزل: أحد صمد ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) .
الملائكة
والملائكة جزء من "عالم الغيب" وهم من خلق الله وجنوده التي لا يعلمها إلا هو، وهم ( عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) .
فهم يمثلون "قوى الخير" من عالم الغيب، كما أن الشياطين تمثل "قوى الشر".
كتب الله تعالى
وكتب الله هي النصوص الإلهية المخبرة الآمرة الناهية، المرشدة إلى ما يطلبه الله من عباده من الإيمان والعمل، وآخرها والمهيمن عليها هو القرآن الكريم .
رسل الله تعالى عليهم السلام
ورسل الله هم سفراؤه تعالى إلى خلقه، بعثهم مبشرين ومنذرين، (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) أرسلهم بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فليس بعده نبوة ولا رسالة.
اليوم الآخر
واليوم الآخر هو اليوم الموعود، الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، ويقفون بين يديه للحساب والجزاء، فتوفى كل نفس ما كسبت، وتجزى بما عملت، فإما إلى جنة وإما إلى نار.
حقائق ثابتة
وكل هذه أخبار عن حقائق ثابتة، لا تتطور ولا تتغير، سواء كان الناس في العصر الحجري أم في العصر النووي، وسواء كانوا يركبون الجمال، أم يركبون سفن الفضاء.
في العبادات
2. وتتمثل الثوابت كذلك في ( العبادات ) التي فرضها الله على عباده، قياما بواجب شكره، وحق ربوبيته لهم، مثل الشعائر الركنية الأربع، التي تمثل أركان الإسلام ومبانيه العظام: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وما يكملها من نوافل تقرب المرء من ربه، وتزيد من رصيده عنده، وما يلحق بها من عبادات أخرى مثل الذكر والدعاء وتلاوة القرآن.
فهذه العبادات ثابتة باقية، لا يدخل عليها تطوير ولا تغيير في جوهرها وأصولها.
الأركان الأربعة
فالصلوات خمس في اليوم والليلة، وكل صلاة منها عدد معروف من الركعات، وكل ركعة منها أقوال وأفعال معينة: قيام وقراءة وركوع وسجود، وتكبير وتسبيح وتشهيد وتسليم.
وستظل هذه هي الصلاة، عاش الناس في القرن الأول أو الثلاثين، كانوا يسكنون في الأكواخ أو في ناطحات السحاب، وكذلك الزكاة والصيام والحج.
مسائل في أداء هذه الفرائض يحدثها التطور
ولكن قد نجد مسائل في أداء هذه الفرائض، قد يحدثها التطور، فتحتاج إلى اجتهاد جديد، في ضوء النصوص الثابتة والقواعد الشرعية المقررة، كالصلاة بالنسبة لرواد الفضاء،
وأين تكون قبلة من يصلي فوق القمر؟
والصلاة والصيام في المناطق القطبية والقريبة منها
وصلاة من لا يجد وقت العشاء،
وإحرام ركاب الطائرات في الحج أو العمرة،
والزكاة في الأموال النامية الجديدة كالعمارات والمصانع والأسهم وغيرها،
وتناول الحقن المغذية أثناء الصيام،
وتسجيل القرآن الكريم في اسطوانة أو شريط: هل له حكم المصحف أم لا؟
التطور في تطبيق هذه العبادات
وقد يدخل التطور في تطبيق هذه العبادات، كاستخدام البوصلة في تحديد القبلة، أو مكبرات الصوت في الأذان، أو المراصد في رؤية الهلال، أو الحاسبات الآلية في حساب الزكاة، أو الطائرات في نقل الحجيج، ولكن مثل هذه التطورات لا علاقة لها بالعبادات ذاتها.
جوهر العبادات لا يتغيّر
المهم أن جوهر العبادات لا يتغير، ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، فهي من الثوابت الخالدة في رسالة الإسلام ولا جدال.
في القيم الأخلاقية
3. ومن الثوابت كذلك: ( القيم الأخلاقية العليا )، وأمهات الأخلاق العملية التي تحدد علاقة الإنسان بربه كالإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عقابه،
علاقة الإنسان بغير ربّه
وعلاقته بنفسه مثل: النظافة والعفة والحياء والصبر والشجاعة والعزة ومحاسبة النفس،
وتحدد علاقته بأسرته مثل: الرعاية لحقوق الزوجية، وحقوق البنوة، وبر الوالدين وصلة الرحم،
وتحدد علاقته بالمجتمع مثل: قول الصدق، وإنجاز الوعد، والوفاء بالعهد، ورعاية الأمانة، ورحمة الصغير، وتوقير الكبير والعدل مع الصديق والعدو، والبر بالناس وفعل الخير للجميع، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتمها.
أمهات الرذائل
وفي الجانب السلبي: أمهات الرذائل التي حذر الإسلام منها أشد التحذير، مثل: القتل والسرقة والزنى والشذوذ الجنسي وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والحسد والبغضاء والكبر والرياء وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، والكذب، والغيبة والنميمة، والخيانة، وسوء الظن، والغدر والقسوة والظلم، فكل هذه حرام، بل من أكبر المحرمات إلى الله.
هذه كلها ثابتة راسية كالجبال
وهذه كلها، سواء في الجانب الإيجابي أم السلبي ـ ثابتة راسية كالجبال، فالعفة الجنسية مثلا فضيلة واجبة، والزنى رذيلة محرمة، عاش الإنسان في بدو أو حضر. وفي مجتمع زراعي، أو صناعي. والحياء فضيلة لازمة، وخصوصا للأنثى، أمية كانت أو متعلمة، في القرن الأول، أو في القرن العشرين أو الأربعين، وهكذا، فمضى الزمن، وتطور الأوضاع، لا يحيل الفضائل إلى رذائل، ولا يقلب الرذائل إلى فضائل .
في الأحكام القطعية
4. ومن الثوابت أيضا: ( الأحكام القطعية ) في شئون الفرد والأسرة والمجتمع والحكم والخلافات الدولية، التي ثبتت بالنصوص القطعية وأجمعت عليها الأمة، واستقر عليها الفقه، مثل: إباحة الطلاق، وتعدد الزوجات، بما يتبعها من قيود وشروط، وإيجاب النفقة على الزوج، وإعطائه درجة القوامة على الأسرة، وتوريث الأولاد: للذكر مثل حظ الأنثيين.
ومثل: شرعية الملكية الفردية، وحل البيع وحرمة الربا، وإيجاب الرضا في العقود، والوفاء بها، والترخيص في بيع السلم، وجواز الرهن، والوكالة والحوالة ونحوها من العقود:
ووجوب إقامة الحدود ـ بشروطها ـ على المرتكبين لجزائها، والتعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة .. الخ.
الوحدة الفكرية والشعورية والسلوكية
فهذا النوع من الأحكام هو الذي يمثل ( الوحدة الفكرية والشعورية والسلوكية ) للأمة، على اختلاف البيئات والأقطار، وتغيرالأعراف والعصور.
المتغيرات المتجددة
وفيما عدا هذه الثوابت الراسيات، نجد جل أحكام الشريعة قابلة للاجتهاد وتعدد الأفهام.
والاجتهاد علاقة ثلاثية بين المجتهد وبين الواقعة والدليل، ومهما يحاول المجتهد أن يتحرر من ذاتيته، وينظر إلى الدليل بتجرد وموضوعية، فالواقع أن المجتهد ابن زمانه وبيئته، ولابد أن يتركا "بصماتهما" على تفكيره، شاء أم أبى. كما أن الواقعة نفسها حدث متأثر بزمانه ومكانه، من حيث وقعها على الأنفس وتأثيرها على الناس.
تتغير الأحكام الثابتة بالإجتهاد
ولا عجب أن تتغير هذه الأحكام الثابتة بالاجتهاد، بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وهي الموجبات التي تؤثر في اجتهاد المجتهد وفتوى المفتي، وقضاء القاضي.
وهنا كتب الإمام ابن القيم فصله الممتع في كتابه الشهير "إعلام الموقعين" عن تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد والنيات،
ومما نقله في ذلك ما ذكره عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر على قوم من التتار أيام سطوتهم وطغيانهم، وكانوا يشربون الخمر سادرين في لهوهم ومنكرهم فأنكر عليهم بعض أصحابه، فقال لهم ابن تيمية: دعهم، فإن الله إنما حرم الخمر، لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل الأنفس وسفك الدماء!
وكتب الإمام شهاب الدين القرافي المالكي فصله القيم في كتابه "الاحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام" عن تغير الفتوى بتغير العوائد والأعراف فيما كان من الأحكام مبنيا عليها.
وكتب بعدهما علامة الحنفية ابن عابدين ـ الذي أصبحت حاشيته الشهيرة ورسائله عمدة المتأخرين في المذهب ـ رسالته المسماة "نشر العرف فيما بنى من الأحكام على العرف".
تتغير الأحكام الثابتة بالنصوص الظنية
وليس هذا التغير مقصورا على الأحكام المبنية على العرف فقط، أو الأحكام الثابتة بالاجتهاد فيما لا نص فيه، عن طريق القياس والاستحسان، والاستصحاب وغيرها فحسب.
بل يدخل في ذلك كثير من الأحكام الثابتة بالنصوص الظنية أيضا، وبخاصة هذا النوع من الأحكام، الذي بنى على رعاية مصلحة زمنية أو عرف قائم، فينبغي إذا تغيرت المصلحة أو تغير العرف، أن يتغير الحكم، فإنه يدور مع علته وجودا وعدما.
الميزان ميزان أهل مكة
مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "الميزان ميزان أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة".
فالحديث يقصد إلى تقرير مبدأ هام في التعامل بين الناس، وهو الرجوع في المعايير إلى ما انضبط واشتهر عند أهله، وأصبح من الدقة والإتقان عندهم بحيث يحتكم إليهم، ويعول عليهم.
وقد كان أهل مكة أهل تجارة وتعامل بالموزونات: الدراهم والمثاقيل والأواقي ونحوها، فضبطوها وأتقنوها،
أما أهل المدينة فكانوا أهل زرع وثمر، فكان جل تعاملهم بالمكيلات، من المد والصاع، ونحوهما، فضبطوها وأتقنوها .
فجاء هذا الحديث النبوي الشريف يقرر الرجوع في كل معيار إلى البلد الذي عرف به، واختص بأحكامه وتدقيقه، فاعتبر المرجع في الميزان أهل مكة والمرجع في المكيال أهل المدينة.
إذا جد موازين أو مكاييل أخرى وأيسر وأسهل
ولكن إذا جد في عصر ـ كما في عصرنا هذا ـ موازين أو مكاييل أخرى وأيسر في الحساب وأسهل في التعامل، مثل الجرام، والكيلو جرام، ونحوها من المعايير العشرية، فهل يقف الحديث النبوي المذكور عقبة دون هذا التطور؟
كلا، فإن هذا النص إنما ورد، بناء على وضع قائم قد تغير، وهو يسعى إلى هدف معين في ضبط معاملات الناس، وهو ما يتحقق على وجه أفضل بالانتقال إلى هذه المعايير الجديدة، فإذا اعتبرنا هذه المعايير، فقد عملنا بروح الحديث وحققنا في الواقع هدفه الذي ورد لأجله، وإن لم نعمل بلفظه.
ولذلك قبل المسلمون في أنحاء العالم التعامل بهذا النوع من المعايير الجديدة، دون نكير من أحد، فكان إجماعا على جوازه.
نصاب الزكاة
ومن ذلك النص على أن لزكاة الأثمان أو النقود نصابين أحدهما للذهب، والثاني للفضة، وبينهما تفاوت شاسع، بحيث يمكن أن يكون الشخص غنيا تجب عليه الزكاة إذا قدر ما معه من النقود بالفضة، فإذا قدرته بالذهب تغير الوضع، وربما أصبح فقيرا يستحق الزكاة!
فهل قصد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؟ أم تصادف أن كان هناك نقدان يتعامل الناس بهما أحدهما من الذهب والآخر من الفضة، ويصرف أحدهما بقيمة معينة من الآخر.
والآن قد تغير الحال كله، ولم يعد ثمة نقود ذهبية، ولا فضية تذكر، فلابد من النظر في أصل الفضة واعتبار أحد النقدين هو الأساس في تقدير النصاب . . .
أنتم أعلم بأمر دنياكم
وهناك بعد ذلك شئون الحياة المتغيرة من زراعة وصناعة، وطب وهندسة، وما إلى ذلك من العلوم التجريبية وتطبيقاتها في الحياة اليومية، فهذه ونحوها متروكة لعقول البشر وتجاربهم وممارستهم ـ ليس عليهم إلا أن يحكموا فيها منطق الفعل والعمل والتجربة، وهي التي ورد في مثلها الحديث الصحيح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
التوازن بين الثبات والتطور
والإسلام بهذا التوازن يجمع بين الثبات والتطور، أو الثبات والمرونة في تناسق بديع.
إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.
الثبات على الأصول والكليات. والمرونة في الفروع والجزئيات،
الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.
الإسلام دين الفطرة
والإسلام بهذا، يتسق مع طبيعة الحياة الإنسانية خاصة. ومع طبيعة الكون الكبير عامة. فقد جاء هذا الدين مسايرا لفطرة الإنسان، وفطرة الوجود.
أما طبيعة الحياة الإنسانية نفسها. ففيها عناصر ثابتة باقية ما بقى الإنسان. وعناصر مرنة قابلة للتغير والتطور.
فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام، ملائمة لفطرة الكون، وفطرة الإنسان، جامعة بين عنصر الثبات وعنصر المرونة والتطور.
بالثبات والتطور يعيش المجتمع المسلم
وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم، أن يعيش ويستمر ويرتقي، ثابتا على أصوله وقيمه وغاياته،
متطورا في معارفه وأساليبه وأدواته.
فبالثبات، يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى، أو التفكك إلى عدة مجتمعات، تتناقض في الحقيقة، وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة.
وبالمرونة، يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته، حسب تغير الزمن. وتغير أوضاع الحياة، دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية.
الخطر كل الخطر في تغيير الموازين !
الخطر كل الخطر على الحياة الإسلامية أن نثبت ما من شأنه المرونة والتطور، أو نطور ما من شأنه الثبات والخلود، فتضطرب الحياة وتختل الموازين ] . ( ) .
أقوال العلماء في البدعة :
عرضت أقوالهم ، غاضاً الطرف عن مراتبهم ، وتاريخ وفياتهم .
1 - الإمام الشافعي ، رحمه الله .
[ قال الإمام الشافعي ، رحمه الله : المحدثات من الأمور ضربان : أحدهما ما أُحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً ، فهذه البدعة الضلالة ، والثاني ما أُحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا ، فهذه محدثة غير مذمومة ، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه . وقال رحمه الله : البدعة بدعتان : بدعة محمودة ، وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود ( ) ، وما خالف السنة فهو مذموم
وقال الإمام الشافعي في صلاة الاستسقاء : ولا آمر بإخراج البهائم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرجها ، فإن أخرجت فلا بأس .
2 - الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله .
وأما الإمام أبو عبد الله أحمد ابن حنبل رحمه الله فقد جاءت عنه عدة أقوال في هذا المعنى ، ومن ذلك ما ذكره ابن قدامة في المغني إذ قال : قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن التعريف في الأمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس ، قد فعله غير واحد . وروى الأثرم عن الحسن أنه قال : أول من عرَّف بالبصرة ابن عباس . وقال أحمد : أول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث . وقال : الحسن وبكر ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة . قال أحمد : لا بأس به ، إنما هو دعاء وذكر لله . فقيل له : تفعله أنت ؟ . قال : أما أنا فلا .
فانظر إلى دقة الإمام أحمد رحمه الله في الفقه ، وقف عند قوله (( لا بأس به إنما هو دعاء وذكر لله )) مع عدم فعله إياه ، فكأنه يرى أن لزوم المساجد عشية يوم عرفة بالأمصار لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون ولا أحد من كبار الصحابة ، لكن فعله اثنان من صغار الصحابة وبعض التابعين ، فهو أمر مستحدث ، لكنه لا يعدو كونه دعاء وذكراً لله تعالى ، فهو لا بأس به عنده ، ويراه مع ذلك خلاف الأولى ، وإلا لفعله ] ( ) .
3 - سلطان العلماء ، العز بن عبد السلام .
قال الإمام عز الدين بن عبد السلام ، الشافعي ، رحمه الله :
[ الْبِدْعَةُ فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى: بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ، وَبِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَنْدُوبَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَبِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَالطَّرِيقُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمَنْدُوبِ فَهِيَ مَنْدُوبَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمَكْرُوهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمُبَاحِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ .
وَلِلْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ :
أَحَدُهَا: الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ اللُّغَةِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: تَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: الْكَلَامُ فِي الْجُرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ، وَقَدْ دَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيَّنِ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلِلْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ أَمْثِلَةٌ :
مِنْهَا: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْمُرْجِئَةِ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْمُجَسِّمَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ.
وَلِلْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ :
مِنْهَا: إحْدَاثُ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ .
وَمِنْهَا كُلُّ إحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ .
وَمِنْهَا: صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ .
وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ .
وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي الْجَدَلِ فِي جَمْعِ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ إذَا قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَلِلْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَمْثِلَةٌ :
مِنْهَا: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ،
وَمِنْهَا تَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا تَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ أَلْفَاظُهُ عَنْ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَلِلْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ :
مِنْهَا: الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ .
وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ.
وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيَجْعَلُهُ آخَرُونَ مِنْ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ كَالِاسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْبَسْمَلَةِ ] ( ) .
4 - الإمام القرافي ، المالكي ، رحمه الله .
قال رحمه الله :
[ اعلم أن الأصحاب فيما رأيت متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره والحق التفصيل وأنها خمسة أقسام :
قسم واجب وهو ما تتناوله قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع فإن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا وإهمال ذلك حرام إجماعا
فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه .
القسم الثاني محرم وهو بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث وجعل المستند لذلك كون المنصب كان لأبيه وهو في نفسه ليس بأهل .
القسم الثالث من البدع مندوب إليه وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشريعة كصلاة التراويح وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس وكان الناس في زمن الصحابة معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فيتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح وقد كان عمر يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النظام ولذلك لما قدم الشام ووجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب وأرخى الحجاب واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية وسلك ما يسلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا فقال له لا آمرك ولا أنهاك ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إلى هذا فيكون حسنا أو غير محتاج إليه فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والقرون والأحوال فلذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديما وربما وجبت في بعض الأحوال .
القسم الرابع بدع مكروهة وهي ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادات ومن ذلك في الصحيح ما خرجه مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات كما ورد في التسبيح عقيب الصلوات ثلاثة وثلاثين فيفعل مائة وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة آصع بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع وقلة أدب معه بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده والخروج عنه قلة أدب والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه ولذلك نهى مالك عن إيصال ست من شوال لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في سننه أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فبهذا هلك من كان قبلنا فقال له عليه السلام أصاب الله بك يا ابن الخطاب يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فاعتقدوا الجميع واجبا وذلك تغيير للشرائع وهو حرام إجماعا .
القسم الخامس البدع المباحة وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق ففي الآثار أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ المناخل للدقيق لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة .
فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشريعة وأدلتها فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرهما .
وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر عما يتقاضاها كرهت فإن الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع
ولبعض السلف الصالح يسمى أبا العباس الأبياني من أهل الأندلس ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع ولا تبتدع اتضع ولا ترتفع من تورع لا يتسع ] ( )
5 - الإمام النووي ، والإمام محمد الزرقاني .
وقال الشيخ محمد بن علي بن حسين ، رحمه الله ، مفتي المالكية بمكة المكرمة ( 1367 هـ ) :
[ وَإِلَيْهَا ذَهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الزَّرْقَانِيِّ فَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُوَطَّإِ: وَتَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَحَدِيثُ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ عَامٌّ مَخْصُوصٌ قَالَ: وَالْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ وَتُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى مُقَابِلِ السُّنَّةِ، وَهِيَ مَا لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اهـ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَيْخُ الْأَصْلِ فَفِي الْعَزِيزِيِّ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الْعَلْقَمِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْبِدْعَةُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِي الشَّرْعِ هِيَ إحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي آخِرِ الْقَوَاعِدِ الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ ] ( ) .
6 - الإمام ابن بطال .
قال ، رحمه الله :
[ قول عمر: (نعم البدعة) فالبدعة اختراع ما لم يكن قبل، فما خالف السنة فهو بدعة ضلالة، وما وافقها فهو بدعة هُدى، وقد سئل ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعم البدعة ] ( ) .
7 - الحافظ ابن حجر العسقلاني ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ وَقَول عمر نعمت الْبِدْعَة هُوَ فعل مَا لم يسْبق إِلَيْهِ فَمَا وَافق السّنة فَحسن وَمَا خَالف فضلالة وَهُوَ المُرَاد حَيْثُ وَقع ذمّ الْبِدْعَة وَمَا لم يُوَافق وَلم يُخَالف فعلى أصل الْإِبَاحَة ] ( ) .
وقال أيضاً ، رحمه الله :
[ وَالْبِدْعَةُ أَصْلُهَا مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ وَتُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ فِي مُقَابِلِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ مَذْمُومَةً وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَحْسِنٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ حَسَنَة وَأَن كَانَت مِمَّا تَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَقْبَحٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ مُسْتَقْبَحَةٌ وَإِلَّا فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الْمُبَاحِ وَقَدْ تَنْقَسِمُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَة ] ( ) .
8 - الإمام بدر العيني ، الحنفي ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ والبدعة لُغَة: كل شَيْء عمل عَليّ غير مِثَال سَابق، وَشرعا إِحْدَاث مَا لم يكن لَهُ أصل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي على قسمَيْنِ: بِدعَة ضَلَالَة، وَهِي الَّتِي ذكرنَا، وبدعة حَسَنَة: وَهِي مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا وَلَا يكون مُخَالفا للْكتاب أَو السّنة أَو الْأَثر أَو الْإِجْمَاع ] ( ) .
وقال أيضاً ، رحمه الله :
[ ثمَّ الْبِدْعَة على نَوْعَيْنِ: إِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستحسن فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة حَسَنَة، وَإِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستقبح فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة مستقبحة ] ( ) .
9 - الإمام السيوطي ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ الْبِدْعَة مَا على غير مِثَال سَابق وَتطلق فِي الشَّرْع على مَا يُقَابل السّنة أَي مَا لم يكن فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَنْقَسِم إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة ] ( ) .
وقال أيضاً ، رحمه الله :
[ ( وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا )
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : يَعْنِي الْمُحْدَثَات الَّتِي لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة أَصْل يَشْهَد لَهَا بِالصِّحَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاة بِالْبِدَعِ
( وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة )
قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا عَامّ مَخْصُوص ، وَالْمُرَاد غَالِب الْبِدَع قَالَ أَهْل اللُّغَة الْبِدْعَة كُلّ شَيْء عُمِلَ عَلَى غَيْر مِثَال سَابِق قَالَ الْعُلَمَاء : الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام : وَاجِبَة وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة وَمَكْرُوهَة وَمُبَاحَة ؛ فَمِنْ الْوَاجِبَة نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة الْمُبْتَدِعِينَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
وَمِنْ الْمَنْدُوبَة تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط وَغَيْر ذَلِكَ
وَمِنْ الْمُبَاحَة التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ
وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص يُؤَيِّدهُ قَوْل عُمَر فِي التَّرَاوِيح : نِعْمَتْ الْبِدْعَة وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحَدِيث عَامًّا مَخْصُوصًا قَوْله كُلّ بِدْعَة بِكُلٍّ بَلْ يَدْخُلهُ التَّخْصِيص مَعَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى تُدَمِّر كُلّ شَيْء ] ( ) .
10 - الإمام القسطلاني ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ والبدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وفي الشرع أحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فإن كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة. قال إمامنا الشافعي -رحمه الله- البدعة بدعتان محمودة ومذمومة فما وافق السُّنّة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم وأخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي وعند البيهقي في مناقب الشافعي: أنه قال المحدثات ضربان ما أحدث مخالفًا كتابًا أو سُنّة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه بدعة الضلالة وما أحدث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة ] ( ) .
11 - الإمام السندي ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ قَوْلُهُ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا) أَيْ فِي شَأْنِنَا فَالْأَمْرُ وَاحِدُ الْأُمُورِ أَوْ فِيمَا أَمَرْنَا بِهِ فَالْأَمْرُ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ أُطْلِقَ عَلَى الْمَأْمُورِيَّةِ وَالْمُرَادُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الدِّينُ الْقَيِّمُ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ رَأْيًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَنَدٌ ظَاهِرٌ أَوْ خَفِيٌّ مَلْفُوظٌ أَوْ مُسْتَنْبَطٌ فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ أَيْ مَرْدُودٌ وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَاجِبُ الرَّدِّ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ رَدُّهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اتِّبَاعُهُ وَالتَّقْلِيدُ فِيهِ وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ ضَمِيرَ فَهُوَ رَدٌّ لِمَنْ أَيْ فَذَاكَ الشَّخْصُ مَرْدُودٌ مَطْرُود ] ( ) .
12 - الحافظ ابن رجب ، الحنبلي ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَالْمِيزَانِ لِلْأَعْمَالِ فِي ظَاهِرِهَا كَمَا أَنَّ حَدِيثَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مِيزَانٌ لِلْأَعْمَالِ فِي بَاطِنِهَا، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ لِعَامِلِهِ فِيهِ ثَوَابٌ، فَكَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ . . . فَهَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّارِعِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِ هَاهُنَا: دِينُهُ وَشَرْعُه ] ( ) .
13 - الشيخ إسماعيل الأنصاري ، رحمه الله .
قال ، رحمه الله :
[ أحدث : أنشأ واخترع .
في أمرنا : ديننا .
ما ليس منه : من الدين ، بأن لا يشهد له شيء من أدلة الشرع و قواعده العامة ] ( ) .
المنطوق والمفهوم
لقد ذكر الحافظ ابن رجب ، الحنبلي ، رحمه الله ، في قوله كلمتين ، حول حديث ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ) ، تتعلق بأصول الفقه ، وهما : ( المنطوق ) و ( المفهوم ) .
أصول الفقه
[ ولا شك أن فقهاء الشريعة الإسلامية ، رحمهم الله تعالى ، وضعوا لنا علماً جليل القدر ، عظيم الفائدة ، لا مثيل له عند أمم الأرض قاطبة ، لا في القديم ، ولا في الحديث ، ذلك هو علم أصول الفقه .
وكان الغرض من وضعه ، وبناء صرحه ، وتوضيح معالمه ، وجوانبه ، ومعانيه خدمة الإسلام عن طريق فهم كتاب الله ، وسنة رسوله ، واستنباط الأحكام من نصوصهما ، ومن المصادر المعتبرة ، في ضوء قواعد ، ومعاني هذا العلم . . .
حيث إن استنباط الأحكام الشرعية ، من مصادرها المعتبرة شرعاً ، لا يكون عن هوى ، وكيفما اتفق ، بل لابد من مسالك معينة ، يسلكها المجتهد ، وقواعد يسترشد بها ، وضوابط يلتزم بمقتضاها ، وبهذا يكون اجتهاده مقبولاً ، ووصوله إلى الأحكام الصحيحة ، ممكناً ، ميسوراً ] ( ) .
وهذا يكون عن طريق علم أصول الفقه .
دلالة النص
وقد بُحِث في هذا العلم الجليل ، مصطلح ( دلالة النص ) .
وهي : [ دلالة اللفظ على أن حُكم المنطوق ، أي المذكور في النص ، ثابت لمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم التي تفهم بمجرد فهم اللغة ، أي يعرفها كل عارف باللغة دون حاجة إلى اجتهاد ونظر .
وحيث ان الحكم المستفاد عن طريق دلالة النص يؤخذ من معنى النص لا من لفظه سماها بعضهم (( دلالة النص )) . وسماها آخرون بـ (( فحوى الخطاب )) لأن فحوى الكلام هو معناه وسماها الشافعية (( مفهوم الموافقة )) . . .
فإذا دلّ النص بعبارته على حكم في واقعة معينة ووجدت واقعة أخرى تساوي الأولى في العلة أو هي أولى منها . . . بمجرد فهم اللغة وبأدنى نظر وبدون اجتهاد وتأمل ، فإنه يتبادر إلى الفهم أن النص يتناول الواقعتين . . .
فقوله تعالى ( فلا تَقُل لَهُما أُفٍّ ) . النص دلّ بعبارته على حرمة التأفيف للوالدين من الولد ، لما في هذه الكلمة من إيذاء لهما ، فيتبادر إلى الفهم أن النص يتناول حرمة ضربهما وشتمهما لما في الضرب والشتم من إيذاء وإيلام أشد مما في كلمة ( أُفٍّ ) فيكون الضرب والشتم أولى بالتحريم من التأفيف ، فيكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ، وهذا المعنى واضح لا يحتاج إلى اجتهاد أو قياس ] ( ) .
مفهوم المخالفة
[ أما مفهوم المخالفة فهو دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه ، أي أن يكون المسكوت عنه مخالفاً للمنطوق به في الحكم ، والحكم الأول يسمى منطوق النص ، والحكم الثاني الثابت للمسكوت عنه يسمى مفهومه المخالف أو دليل الخطاب . . . لأن الخطاب دلّ عليه . . .
مثاله : قوله تعالى ( وَمَن لَمْ يَسْتَطع منكم أن يَنْكِح المُحْصَناتِ المُؤْمِنات فَمِمَّا مَلَكتْ أَيْمانكم مِنْ فَتَيَاتِكُم المُؤمِنَات ) .
[ أَيْ: مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَهْرِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ، فَلْيَتَزَوَّجِ الْأَمَةَ الْمُؤْمِنَة ] ( ) .
هذا معنى الآية الكريمة . أما المفهوم المخالف لها فهو :
1 – عدم إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند القدرة على نكاح الحرائر .
2 – النهي عن نكاح الإماء غير المؤمنات .
قال الإمام ، الخازن ، رحمه الله :
[ وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين :
أحدهما أن لا يجد مهر حرة . . .
والشرط الثاني وهو خوف العنت على نفسه وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم ] ( ) .
أي : إن وجد مهر الحرة ، أو لم يخشَ على نفسه الزنا ، فلا يجوز أن يتزوج الأَمَة ! !
من أين جاء المفسرون ، رحمهم الله ، بهذه الشروط ، لولا فهمهم للآية الكريمة ، عن طريق مفهوم المخالفة ؟ !
وكذلك قول النبيّ : (( في السائمة زكاة )) . المفهوم المخالف : عدم وجوب الزكاة في غير السائمة .
وقوله : (( فمن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع )) . المفهوم المخالف : ان ثمرة النخلة غير المؤبرة لا تكون للبائع ( ) .
ما ليس منه
ومن هذا الباب ، يُفسّر حديثنا ، الذي نحن بصدده :
( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ) . أي : من أنشأ واخترع في ديننا هذا ما ليس منه فهو ردّ . أما من أنشأ واخترع في ديننا هذا ما هو منه فليس برد . طبقا لقاعدة مفهوم المخالفة المعتبرة في الشرع واللغة .
ولقد عرضنا أقوال العلماء ، والأئمة في هذا الأمر ، ولا بأس أن نذكّر ببعضها :
قول الحافظ ابن رجب ، رحمه الله : [ ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود ] .
قول الإمام القسطلاني ، رحمه الله : [ فإن كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة . . . الشافعي أنه قال : . . . وما أحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك ( أي : الكتاب أو السنة أو الأثر أو الإجماع ) فهذه محدثة غير مذمومة ] .
وقول الإمام السندي ، رحمه الله : [ المعنى على ما ذكره القاضي في شرح المصابيح مَن أحدث في الإسلام رأياً لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر أو خفي ملفوظ أو مستنبط فهو رد عليه أي مردود ] .
وقول الشيخ إسماعيل الأنصاري ، رحمه الله : [ بأن لا يشهد له شيء من أدلة الشرع وقواعده العامة ] .
إيراد في غير محله
[ في هذا الحديث الشريف تحذير ووعيد لمن يحدث في أمر الدين شيئاً وهو ليس منه ، وأنه مردود عليه ، وهذا حق لا مرية فيه .
لكن إيراد هذا الحديث في معرض الإستدلال به على أن عملاً ما من بدع الضلالة هو إيراد في غير محله .
إذ قد يكون ذلك العمل داخلاً فيما هو من الدين ، لا فيما ليس منه .
فيعود السؤال : ما الدليل على أن ذلك العمل ليس من أمور الدين ؟
لأنه إذا كان مندرجاً تحت نص من نصوص الإذن العامة أو المطلقة ولم يعارض نصاً آخر فلِمَ لا يكون من المأذون فيه ؟ ! !
فظهر بهذا أن هذا الحديث يُبيّن أن ما أحدث مما ليس من الدين مردود على صاحبه ، وليس فيه البتة أن كل ما أحدث فهو ليس من الدين ] ( ) .
البدع المستحسنة لا أصل لها ! !
فماذا نقول لمن يردّ على كل هؤلاء الأئمة ، من الصحابة ، وغيرهم ، بقوله : يا أخي كثير من المبتدعة يفعلون أشياء يتعبدون بها ويقولون : نعمت البدعة ( ). . . والنبيّ يقول : (( كل بدعة ضلالة )) إذاً ليس في البدع ما يمدح ، وعلى هذا التقسيم الذي يذكره بعضهم من بدع مستحسنة وبدع قبيحة هذا لا أصل له ! !
الذين يقولون بالبدعة الحسنة ، أو المحمودة !
هؤلاء جميعهم - إلا نفرا ً منهم - ورد عنهم ذلك قولاً ، والبقية ورد ذلك عنهم عملا ! :
عمر بن الخطاب ، عبد الله بن عمر ، عبد الله بن عباس ، أم المؤمنين عائشة ، أبي بكرة ، الحسن ،مسروق ، وأبي بكرة ، ومحمد بن واسع ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ، العز بن عبد السلام ، النووي ، محمد الزرقاني ، ابن بطال ، ابن حجر العسقلاني ، القسطلاني ، بدر الدين العيني ، السيوطي ، القرافي ، القرطبي ، ابن رجب الحنبلي ، السندي ، إسماعيل الأنصاري . . .
وقد تركنا أسماء كثيرين ، من العلماء ، المتأخرين ، الذين قالوا بالبدعة الحسنة ، رضي الله عن الجميع ، ورحمهم !
هل يجري الإجتهاد في العبادات كما يجري في المعاملات ؟ !
بعض الناس في عصرنا يقولون – تقليداً - : ليس هناك قياس في العبادات ، ويستدلون بنصوص ، وأقوال عامة ، ليس فيها ما يسند قولهم ، ويصوبه ، فأحببنا هنا أن نصحح خطأهم ، في هذا الباب ، حتى نقطع دابر المشاغبة في هذا الموضوع !
[ أطلق البعض منع حصول القياس والإجتهاد في العبادات فقصره على أمور المعاملات ، وهذا الإطلاق ليس سليماً .
إذ الأمور التعبدية منها ما هو معقول المعنى فيقاس عليه ، ومنه ما هو غير معقول المعنى فيمنع القياس والإجتهاد فيه .
مثال ما هو غير معقول المعنى : عدد أوقات الصلاة ، وعدد ركعات الفرض ، وكون الركوع واحداً والسجدة اثنتين ، وعدد أشواط الطواف ، وعدد أشواط السعي ، وعدد حصوات الجمار ، ومعظم أعمال الحج ، وجميع أصول العبادات ، فإنها لم تدرك لها علة ، وإن كان بعض العلماء وضعُوا لها أسراراً وحِكماً .
فهذه الأمور لا يصح الإجتهاد بها بل نتعبد الله بها كما وردت .
وما هو معقول المعنى كثير جداً نذكر له أمثلة لا على وجه الحصر :
1 – قاس النبيّ الحج عن الغير على دَين العباد في وجوب تأديته ، وكذلك الصوم عن الميت
وهو وإن لم يعتبر حكماً ثابتاً بالقياس بل بالنص لأنه مُنح صلاحية التشريع إلا أنه قد فتح الباب أمام الأمة في القياس بصورة عامة وفي العبادات بصورة خاصة إذ الحج والصوم عبادتان .
2 – قاس عمر تقبيل الصائم زوجته في عدم الإفطار على المضمضة .
3 – قاس عمر ميقات ذات عرق لمن أتى للحج أو العمرة من العراق على أقرب ميقات يوازيه وهو قرن المنازل إذ النبيّ جعل المواقيت أربعة وزاد عمر ذات عِرْق .
4 – قاس عثمان آذان الجمعة الأول على آذان الفجر الأول بعلة أن الآذان الأول في الفجر شرع في عصره لتنبيه النائمين وآذان الجمعة الأول لتنبيه الغافلين المشغولين بالأسواق والأعمال
5 – قاس الجمهور جواز صلاة السنة التي لها سبب في الأوقات المكروهة على قضائه سنة الظهر بعد العصر .
6 – قاسوا دخول المرفقين في مسح اليدين في التيمم على دخولهما في غسل اليدين في الوضوء . . .
7 – قاس من قال بأن سنة الجمعة القبلية مؤكدة على سنة الظهر القبلية ، كما قاس من اعتبرها نافلة كابن تيمية وابن القيم الجمعة على العيدين في عدم وجود سنة مؤكدة قبل صلاتها .
8 – وقاس الحنفية مساحة الماء إذا كانت عشراً في عشر على البحر في الكثرة وتحمل النجاسة .
9 – قاس الحنابلة الإطعام في كفارة القتل على كفارة الظهار وافطار نهار رمضان بالجماع .
10 – كما قاسوا طهارة سؤر الفارة على الهرة في انها من الطوافين والطوافات .
11 – كما قاسوا صحة اتمام المسافر صلاته المجموعة جمع تقديم إذا نوى في اثناء الفرض الثاني الإمامة ، أو دخلت السفينة بلده قبل اكماله للثانية على اكمال الثانية المجموعة جمع تقديم للمطر وانقطع المطر .
12 – كما قاسوا من أكمل الأولى والثانية وهو مسافر ثم أقام قبل دخول الثانية في عدم إعادة الثانية في وقتها ، على المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة في عدم الإعادة .
13 – قاس أبو الخطاب من الحنابلة وجوب الزكاة في العصفر والورس على وجوبها في الزعفران .
14 – كما قاس الإمام أحمد في رواية غسل سائر النجاسات سبعاً إحداهن بالتراب على غسل ما نجسه الكلب أو الخنزير .
15 – كما قاس الحنابلة بطلان طهارة صاحب العذر كالسلس إذا توضأ ولبس خفه ثم زال العذر على المتيمم إذا وجد الماء .
16 – وقاس القاضي من الحنابلة وبعض الشافعية الكلام القليل والكثير في الصلاة نسياناً على الأكل في الصيام ، كما قاسوا الوجوب الموسع في الصلاة على التكفير في الوجوب الموسع بين العتق والإطعام والكسوة .
17 – قاس الإمام أحمد – في رأي له – لزوم القيام بقدر ما يستطيع ممن لم يتمكن من القيام التام في الصلاة لخوف أو لأن السقف نازل على قيام الأحدب .
18 – قاس الحنابلة والمالكية جواز افطار من يصوم شهرين متتابعين كفارة في مدة المرض ، على حيض المرأة في عدم اعتبار مدته قاطعة للتتابع .
19 – قاس الشافعية مس حلقة الدبر في نقض الوضوء على مس الفرج .
20 – قاس الشافعية دم ترك الواجبات في الحج على دم التمتع في الإنتقال من الدم إلى الصوم عند العجز عنه ، لأن وجوبه في التمتع لترك واجب الإحرام بالحج من الميقات .
21 – قاسوا التحري في الأواني إذا اختلط الطاهر منها بالنجس ، على التحري بجهة القبلة .
22 – قاس الحنفية وجوب الكفارة في الأكل والشرب عمداً في نهار رمضان على الإفطار بالجماع .
23 – قاس مالك إسقاط الصلاة عن فاقد الماء على صلاة الحائض في جواز تأخيرها .
24 – قاس أبو حنيفة والشافعي إجزاء التيمم للجنب بنيّة رفع الحدث الأصغر إذا نسي الجنابة على صحة الوضوء من البول والغائط .
25 – كما قاس مالك قضاء صلاة الليل إذا فاتت بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح على صلاة الوتر – وهو رأي للإمام مالك .
26 – قاس أبو حنيفة والثوري والأوزاعي تأخير الصلاة من فاقد الماء والتراب إلى أن يقدر عليهما ثم يقضي على تأخير الصيام للحائض .
وهذا غيض من فيض من المسائل المقيسة في العبادات ، وما هذا القياس إلا اجتهاد وقول بالرأي ، فاطلاق منع القياس في العبادات وعدم جواز احداث شيء منها غير مسلم كما عرفت من ذي قبل . . .
ملاحظة : ما استشهدت به فيما مضى لجواز القياس في العبادة قد لا يكون ثبوت حكمها في القياس فقط بل ان بعضها جاءت بها السنة أيضاً والقياس مؤكد لها . ولكني استشهد بها لجواز الإجتهاد في العبادة وانه وقع من السلف الصالح ] ( )
أي : لا يقولن أحد : أن فلان مسألة جاء فيها نص كذا ، وكذا ، لأن الإمام الذي ذهب إلى ذلك الأمر ، قاله قياساً على غيرها من العبادات ، لا اعتماداً على نص خاص ! ! وهو المطلوب هنا !
تعالوا إلى كلمة سواء !
خروجاً من هذا الخلاف ، الذي لا يخدم ديننا ، ولا سيما في هذا العصر ، لماذا لا نتفق على مصطلح ، يرضي الطرفين ! وهو : بدل أن نقول بدعة حسنة ، أو محمودة ، فلنقل : مصلحة مرسلة ! !
وذلك لأن الخلاف بين الطرفين غير حقيقي !
فالذي يقول : كل بدعة ضلالة ، وفي النار ، يؤمن بالمصالح المرسلة ، بل ربما يسمي كثيرا من الذي يطلق عليه الفريق الآخر إسم : بدعة حسنة ، أو محمودة ، يسميه مصلحة مرسلة !
والفريق الذي يذهب إلى البدعة الحسنة ، والمحمودة ، لا يضره أن يسمي تلك الأمور بالمصالح المرسلة !
وبالحوار الهاديء ، والأخوي ، والمسؤول ، سنصل بإذن الله تعالى إلى قناعة تامة ، وتقريب وجهات النظر ، إذا صحت النيّات ، ووضعنا رقابة الله تعالى نصب أعيننا ، ولم نقصد غير مرضاته تعالى ، بغض النظر عمن يرضى ، أو لا ؟ ! !
المصالح المرسلة
ويحسن بنا هنا أن نعرض معنى المصلحة المرسلة ، وأقوال العلماء في ذلك ، حتى نكون على بيّنة من الأمر .
[ المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المضرة أي المفسدة . فلها جانب ايجابي هو ايجاد المنفعة ، وجانب سلبي هو دفع المفسدة . . .
والمصالح منها ما شهد الشارع له بالاعتبار ، ومنها ما شهد له الشارع بالالغاء ، ومنها ما سكت عنه .
فالأولى هي المصالح المعتبرة ، والثانية هي المصالح الملغاة ، والثالثة هي المصالح المرسلة
المصالح المعتبرة :
وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرَّع لها الاحكام الموصلة إليها كحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، فقد شرع الشارع الجهاد لحفظ الدين ، والقصاص لحفظ النفس ، وحد الشرب لحفظ العقل ، وحد الزنى والقذف لحفظ العرض ، وحد السرقة لحفظ المال .
وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجوداً وعدماً جاء دليل القياس ، فكل واقعة لم ينص الشارع على حكمها وهي تساوي واقعة أخرى ، نص الشارع على حكمها ، في علة هذا الحكم ، فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه .
المصالح الملغاة :
وبجانب المصالح المعتبرة توجد مصالح متوهمة غير حقيقية أو مرجوحة ، أهدرها الشارع ولم يعتد بها بما شرعه من أحكام تدل على عدم اعتبارها وهذه هي المصالح الملغاة .
ومن أمثلة هذا النوع من المصالح مصلحة الأنثى في مساواتها لأخيه في الميراث فقد ألغاها الشارع بدليل قوله تعالى (( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )) . ومثل مصلحة المرابي في زيادة ماله عن طريق الربا ، فقد ألغاها الشارع بما نص عليه من حرمة الربا ، قال تعالى (( وأحل الله البيع وحرم الربا )) فلا يصلح الربا طريقاً لاستثمار المال أو زيادته .
ومثل مصلحة الجبناء القاعدين عن الجهاد في حفظ نفوسهم من العطف والهلاك ، فقد ألغى الشارع هذه المصلحة المرجوحة بما شرعه من أحكام الجهاد . . . وهكذا .
ولا خلاف بين العلماء في أن المصالح الملغاة لا يصح بناء الأحكام عليها .
المصالح المرسلة :
وبجانب المصالح المعتبرة والمصالح الملغاة توجد مصالح لم ينص الشارع على إلغائها ولا على اعتبارها . . وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين .
فهي مصلحة لأنها تجلب نفعاً وتدفع ضرراً . . وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه . . فهي ، إذاً تكون في الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه ، وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة . . مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وقتل الجماعة بالواحد ] ( ) .
[ حجية الاستصلاح ( المصلحة المرسلة ) :
من يتأمَّل كلام الأصوليين في أمر الاستصلاح ، والعمل بالمصالح المرسلة ، والآراء التي ينسبونها إلى الأئمة المجتهدين : يجد أنَّ فيما ذكروه اضطراباً وغموضاً .
فقد ذكر الإسنويُّ مذاهب متعددةً في الاحتجاج بالمصالح وقال : وفيه ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه غير معتبر مطلقاً ، قال ابن الحاجب : وهو المختار ، وقال الآمديُّ : إنه الحق الذي يتَّفق عليه الفقهاء .
الثاني : أنه حجَّة مطلقاً ، وهو مشهور عن مالك ، واختاره إمام الحرمين ، وقال ابن الحاجب : وقد نقل أيضاً عن الشافعي ، وكذلك إمام الحرمين ، إلاَّ أنه شرط فيه أن تكون تلك المصالحُ مشبهةً بالمصالح المعتبرة .
الثالث : وهو رأي الغزاليِّ ، واختاره المصنف ( البيضاوي ) : أنه إن كانت المصلحةُ ضروريةً ، قطعيةً ، كلية اعتبرت ، وإلاَّ فلا .
ويقول الغزاليُّ : (( فالمنقول عن مالك رحمه الله الحكم بالمصالح المرسلة ، ونقل عن الشافعي فيه تردُّد ، وفي كلام الأصوليين أيضاً نوع اضطراب فيه )) .
إلاّ أنَّ الزركشيَّ رأى في حكاية مذاهب الأئمة رأياً آخر ، فقال : (( وقد اشتهر انفرادُ المالكية بالقول بالمصلحة المرسلة ، وليس كذلك ، فإنَّ العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلاَّ ذلك )) .
والقرافيُّ أيضاً حقَّق أن المصلحة معمولٌ بها في عامَّة المذاهب ، فقال : (( والذي جهل أمرهو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها ، وعند التحقيق هي عامَّة في المذاهب )) .
ومما يرجِّح ما ذهب إليه القرافيُّ والزركشيُّ : أن من يتأمل تطبيقات المصالح المرسلة ، لا يجد فيها خلافاً يعتدُّ به بين الأئمة : من اشترط منهم شروطاً للأخذ بها ، أو من لم يشترط .
وإذا كان الإمام الشافعيُّ يشترط في المصلحة أن تكونَ مشابهةً لمصلحة معتبرة ، وإذا كان كثيرٌ من الأصوليين يشترطون في المصلحة المقبولة أن تكون ضروريةً ( أو حاجية ) عامة قطعية ؛ فإن مالكاً – وهو لم يضع شروطاً للعمل بالمصلحة – لم يقبل كلَّ مصلحة أيضاً ، وفي هذا يقول الآمديُّ : (( إن مالكاً – إن صحَّ النقل عنه بالقول بالمصالح – لا يقول بذلك في كلِّ مصلحة ، بل فيما كان من المصالح الضرورية ، الكلية ، الحاصلة قطعاً )) .
فعلى هذا فإنَّ نظر المجتهدين متقاربٌ في الاحتجاج بالمصلحة ، وما نقل من خلاف فيها بينهم فإنما هو خلاف في الأسلوب والمنهج .
فمالك اعتبرَ المصالح دليلاً فقهيّاً مستقلّا ، قعَّد له المالكيةُ قواعدَ اجتهاديةً خاصّةً به ، أما الشافعيُّ فإنه يرى أن الأخذ بهذه المصالح لا ينبغي أن يكون شيئاً يعجر اسم القياس عن الدلالة عليه ، بل اعتبره وجهاً من وجوه القياس .
وبهذا نصل إلى أن ما قاله القرافيُّ والزركشيُّ له وجه كبير من الصحة ، حيث إن أصحابَ المذاهب المختلفة يتأثرون في استنباط أحكام للفروع بوجوه المصالح والمناسبات المعقولة وإن كان بعضهم لا يراها دليلاً مستقلّاً ، بل يرى ربطَها بقياس فقهيٍّ .
بعد هذا ، ينقدح في الخاطر سؤال : وهو أنه إذا كان أمر المصالح بهذا الوضوح وهذا القرب ، وإذا كان الأئمة في تفريعاتهم قد عملوا بتلك المصالح ، والأصوليون قاموا بتأصيل تلك الفروع : فما أساس هذا الاضطرابِ الذي عانت منه المصالحُ المرسلة ، حتى ذهب ذاهبون إلى ردِّها مطلقاً ، وذهب آخرون إلى وضع شروط للأخذ بها ، تخيَّل أن القولَ بها متعسِّر أو متعذِّر ؟ .
ولا نجد للإجابة على هذا السؤال أفضلَ مما ذكره القرافيُّ في هذا الصدد ، إذ يقول : (( وإنما فرَّ أكثرُ علماء الأمة من تقرير هذا الأصل تقريراً صريحاً مع اعتبار كلِّهم له ، خوفاً من اتِّخاذ أئمة الجور إياه حجّةً لاتِّباع أهوائهم ، وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم ، فرأوا أن يتَّقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ، ولو بضربٍ من الأقيسة الخفية ، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدقِّ مسالك العلة في القياس ، ولم ينيطوها باجتهاد الأمراء والحكَّام ، وهذا الخوف في محله ، لكن لم يقِ الأمةَ من أهواء الحكام كما ينبغي ؛ إذ كان يوجد في عهد كلِّ ظالم – من علماء السوء – من يمهِّد له الطريقَ ، ولو لبعض ما يريد من اتِّباع الهوى )) .
فإذاً : الظروف واختلاف البيئات هي أساس هذا الاضطراب .
فمن ضيَّق سبيل الأخذ بالمصالح المرسلة ، وشدَّد في شروطها ، فإنه يراعي واقعه الذي يعيشه ويحسُّه ؛ إذ يرى الحكَّام لا يألون جهداً في الحصول على ما تهفو إليه أهواؤهم ، ويريدون في نفس الوقت إضفاءَ الشرعيةِ على تصرُّفهم وسلوكهم ؛ ليتخلصوا من نفرة أبناء أمتهم ، فيميلون إلى علماءِ السوء ؛ ليمهدوا لهم سبيلَ ما يريدونه ، بابتنائه على المصلحة أو غيرها .
فنظر علماؤنا – رحمهم الله – إلى هذه العوامل ، فوجدوا أن التصريحَ بجواز العمل بالمصالح المرسلة يفتح باباً لهؤلاء وهؤلاء ، فأوصدوه في وجوههم .
ومن أجاز العملَ بها من أسلافنا ، فكأنه لم يُبْتَلَ في عصره بمثل هذه الشرور ، بل كان الحقُّ رائدَ الجميع ، ومعرفة الحكم الشرعي غايتهم وطلبتهم ، والكلُّ يصدر في تفكيره ، وما يذهب إليه ، عن الرغبة في خدمة الشريعة الغرَّاء ، والدفاع عن تعاليمها وأحكامها ، فجزاهم الله عن شريعته وعباده خيرَ الجزاء وأحسنَه .
هذا : ولحجية الاستصلاح ( المصالح المرسلة ) أدلة كثيرةٌ ، نذكر منها :
1 – عُلِمَ بالاستقراء ، وتتبُّع أسرار التشريع : أن الغرضَ الأساسيَّ ، والمقصودَ الأصليَّ من تشريع أحكام المعاملات إنما هو تحقيق مصالح الناس ، بجلب المنافع لهم ، ودفع المضارِّ عنهم ، وإذا لم يوجد في الواقعة نصٌّ ، أو إجماع ، أو قياس ، كان الحكم فيها بما يحقِّق المصلحة ، ويكون هذا الحكم الذي بُني على مراعاة المصلحة موافقاً للشرع ؛ لأن تشريعاتِ المشرِّع إنما قصد بها تحقيقُ المصلحة .
2 – إنَّ الأصحابَ رضوان الله عليهم أفتوا بعد وفاة رسول الله في حوادثَ ووقائعَ ، لم تكن معهودةً ، ولا معروفة في عهد الرسول ، وكانت فتاواهم فيها مبنيةً على مراعاة المصالح المرسلة وحدها ] ( ) .
إن الذي يفرّ من مصطلح ( البدعة الحسنة ) إلى ( المصالح المرسلة ) قد يستظل من الرمضاء بالنار !
وذلك لأن حسب الأمثلة التي ذُكرت ، وقال عنها أصحابها : نعمت البدعة ، قد نرى أن تلك البدعة في بعض جزئياتها لها أصل ، يرجعها إليها منكرو البدعة الحسنة .
أما المصالح المرسلة ، فحسب تعريف الأئمة ، والعلماء لها ، فهي ليس لها أصل ، ترجع إليه إلا قواعد عامة ، مثلها مثل ما يسمونه بالبدعة الحسنة ! ! أقرأ مرة أخرى هذا التعريف والشرح : [ وبجانب المصالح المعتبرة والمصالح الملغاة توجد مصالح لم ينص الشارع على إلغائها ولا على اعتبارها . . وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين .
فهي مصلحة لأنها تجلب نفعاً وتدفع ضرراً . . وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو الغائه . . فهي ، إذاً تكون في الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه ، وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة ]
ولقد قال أشد الناس تهرّباً من مصطلح ( البدعة الحسنة ) إلى ( المصالح المرسلة ) الإمام الشاطبي ، رحمه الله :
[ (الثَّالِثُ) مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ . . . وَالثَّانِي: أَنْ يُلَائِمَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى جِنْسٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلُ، الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ ] ( ) .
وربما كان هو ، رحمه الله ، أول من حاول أن يؤول الأمور ، التي سماها أصحابها بالبدعة الحسنة ، فيسميها بالمصالح المرسلة ، ولا مشاحة في الإصطلاح ، كما ذكر العلماء ، والأئمة .
وما عدا رسول الله فليس بأحد معصوم عن الخطأ ، فكل يؤخذ من قوله ، ويترك إلا رسول الله ، فليس قول ، ورأي الإمام الشاطبي ، رحمه الله ، بأولى من قول ، ورأي غيره !
والإختلاف بين الأئمة ، والعلماء ، هو في فهم النصوص ، وليس في أن أحدهم دليله نص ، وغيره ليس له دليل !
وهذا الإختلاف يبقى ما بقيت السماوات ، والأرض ! ولو اتقى المسلمون الله تعالى ، لكان هذا الإختلاف في وجهات النظر ، النابع من اختلاف الفهم في النصوص ، كان رحمة – وهو كذلك في الحقيقة – ولم يكن نقمة ، بادخال حظوظ النفس ، وأهوائها في الموضوع المطروح ! !
ولم تكن العلاقة بين الأئمة ، والعلماء من السلف الصالح ، علاقة كُره ، وبُغض ، وهجر ، مع كل ذلك الاختلاف ، الذي كان بينهم في وجهات النظر ، والفهم في النصوص والاجتهاد ؟ !
وجود الخلاف في خير القرون !
[ وجود الخلاف في خير قرون الأمة :
لقد كان الخلاف موجودا في عصر الأئمة المتبوعين الكبار: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، ولم يروا فيه شرا، ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه بالعنف أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم له.
بل قيل للإمام أحمد، وكان يرى نقض الوضوء من الرعاف وسيلان الدم الكثير: هل تصلي خلف من خرج منه الدم ولم يتوضأ؟ فأجاب مستنكرا: كيف لا أصلي خلف مالك، وسعيد بن المسيب ؟! (وكانا لا يريان النقض بذلك).
وقبل الإمام أحمد سجل للإمام مالك موقفه التاريخي بعد ما ألف كتابه الشهير (الموطأ) بتكليف من الخليفة العباسي، أبي جعفر المنصور، فقد أراد أن يحمل الناس على ما فيه من آراء وأحكام بسلطان الدولة، وبعبارة أخرى: أراد أن يجعل منه قانونا عاما لدولة الخلافة، يلتزم به الكافة وتلغي الآراء والاجتهادات الأخرى .
قالوا: "لما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة آمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره، فقال: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم". ويحكى نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكا في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل سنة مضت قال: وفقك الله يا أبا عبد الله! حكاه السيوطي.
بل كان الخلاف موجودا في عصر شيوخ الأئمة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار من تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم .
بل كان الخلاف موجودا في عصر الصحابة، نظرا لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص، أو لاتجاهاتهم النفسية في التشديد والتخفيف، كما ذكرنا ما كان بين ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اختلاف في الاتجاه.
بل أقول: إن الخلاف وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأقره ولم ينكره كما في قضية صلاة العصر، في بني قريظة، وهي مشهورة، وفي غيرها من القضايا.
يقول حكيم الإسلام الدهلوي في (الحجة البالغة):
إن أكثر صور الاختلاف بين الفقهاء لا سيما في المسائل التي ظهر فيها أقوال الصحابة في الجانبين كتكبيرات التشريق، وتكبيرات العيدين، ونكاح المحرم، وتشهد ابن عباس وابن مسعود، والإخفاء بالبسملة وبآمين والإشفاع والإيتار في الإقامة ونحو ذلك إنما هو في ترجيح أحد القولين، وكان السلف لا يختلفون في أصل المشروعية، وإنما كان خلافهم في أولى الأمرين، ونظيره اختلاف القراء في وجوه وقد عللوا كثيرا من هذا الباب بأن الصحابة مختلفون، وأنهم جميعا على الهدى.
ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ويسلمون قضاء القضاة، ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم، ولا ترى أئمة المذاهب في هذه المواضع إلا وهم يضجعون القول ويبينون الخلاف، يقول أحدهم: هذا أحوط، وهذا هو المختار، وهذا أحب إلي، ويقول: ما بلغنا إلا ذلك، وهذا كثير في المبسوط، وآثار محمد رحمه الله، وكلام الشافعي رحمه الله.
ثم خلف من بعدهم خلف اختصروا كلام القوم، فقووا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم.
والذي يروي عن السلف من تأكيد الأخذ بمذهب أصحابهم وأن لا يخرج منها بحال فإن ذلك إما لأمر جبلي، فإن كل إنسان يحب ما هو مختار أصحابه وقومه، حتى في الزي والمطاعم، أو لصولة ناشئة من ملاحظة الدليل، أو لنحو ذلك من الأسباب، فظنه البعض تعصبا دينيا حاشاهم من ذلك.
وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها.
وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت في الفجر، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومنهم من يتوضأ من مس الذكر، ومس النساء بشهوة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك.
ومنهم من يتوضأ مما مسته النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك.
ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة أو أصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية، وغيرهم، وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرا ولا جهرا.
وصلى الرشيد إماما، وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه، ولم يعد، وكان أفتاه الإمام بأنه لا وضوء عليه.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟
روي أن أبا يوسف ومحمدا كانا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس، لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده.
وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبا من أبي حنيفة رحمه الله، فلم يقنت تأدبا معه. وقال أيضا: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق.
وقال مالك رحمه الله للمنصور أو هارون الرشيد ما ذكرنا عنه سابقا.
وفي البزازية عن الإمام الثاني ـ وهو أبو يوسف رحمه الله ـ أنه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: إذا نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" أهـ.
وسئل الإمام الخجندي رحمه الله عن رجل شافعي المذهب ترك صلاة سنة أو سنتين، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، كيف يجب عليه القضاء، أيقضيها على مذهب الشافعي أو على مذهب أبي حنيفة؟ فقال: على أي المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها جاز. انتهى.
وفي جامع الفتاوى أنه إن قال حنفي: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثا، ثم استفتى شافعيا فأجاب: أنها لا تطلق، ويمينه باطل فلا بأس بالاقتداء بالشافعي في هذه المسألة، لأن كثيرا من الصحابة في جانبه.
قال محمد رحمه الله في أماليه: لو أن فقيها قال لامرأته: أنت طالق البتة وهو ممن يراها ثلاثا، ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية، وسعه المقام معها، وكذا كل فصل مما يختلف فيه الفقهاء من تحريم أو تحليل أو اعتاق أو أخذ مال أو غيره، ينبغي للفقيه المقضي عليه الأخذ بقضاء القاضي، ويدع رأيه، ويلزم نفسه ما ألزم القاضي، ويأخذ ما أعطاه.
قال محمد رحمه الله : وكذلك رجل لا علم له، ابتلي ببلية فسأل عنها الفقهاء فأفتوه فيها بحلال أو بحرام، وقضى عليه قاضي المسلمين بخلاف ذلك، وهي مما يختلف فيه الفقهاء، فينبغي له أن يأخذ بقضاء القاضي ويدع ما أفتاه الفقهاء، انتهى.
بل وجد الخلاف بين الملائكة والأنبياء :
وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن الملائكة قد اختلفوا بل اختصموا بينهم وذلك بقوله تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) (سورة ص: 69).
وإن الأنبياء قد اختلفوا فيما بينهم أيضا.
إختلف موسى وأخوه هارون، عليهما السلام، إلى حد أن أخذ موسى بلحية أخيه، ولامه أشد اللوم بعد عبادة بني إسرائيل العجل السامري قال: (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. ألا تتبعن، أفعصيت أمري؟ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) (سورة طه: 92-94) وفي سورة أخرى قال له: (فلا تشمت بي الأعداء) (الأعراف: 150).
واختلف موسى والخضر عليهما السلام في مواقف ثلاثة انتهت بافتراقهما قال: (هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) وهو ما فصلته سورة الكهف.
واختلف داود وابنه سليمان عليهما السلام في حكم الغنم إذ نفشت في زرع القوم، وأشار القرآن إلى أن الصواب كان مع الابن، ولكنه أثنى على الاثنين جميعا فقال: (ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما ) (سورة الأنبياء: 79).
وصح في الحديث اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في مصير الرجل الذي قتل مئة نفس، ثم خرج تائبا إلى القرية الصالحة ومات في الطريق، أيحكم له بحكم القرية الظالمة التي عاش عمره فيها وقتل من قتل، أم يحكم له بحكم القرية الخيرة التي كانت وجهته إليها .
وبعبارة أخرى: أيحكم له بعمله أم بنيته؟ بالأول حكم ملائكة العذاب، وبالثاني حكم ملائكة الرحمة، وقد بعث الله ملكا يحكم بينهم، فحكم لملائكة الرحمة.
وثبت في الحديث كذلك محاجة آدم وموسى حول سبب الخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض، والاستقرار فيها، وهل كان أكل آدم من الشجرة سبب ذلك أو لا؟ وأن آدم حج موسى.
وثبت في الحديث أيضا اختلاف داود وسليمان في شأن المرأتين اللتين اختصمتا في طفل تدعي كل منهما أنه ابنها، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما! فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله! هو ابنها. فقضى به للصغرى".
وإذا كان الخلاف والاختصام قد وقع بين أكرم الخلق على الله من الملائكة الكرام والأنبياء العظام، لاختلاف زوايا الرؤية، ووجهات النظر، واتساع العلم وضيقه، فكيف نطمع أن نمحو الخلاف بين غيرهم ممن لا عصمة لهم، وليس فيهم ملك مقرب ولا نبي مكرم؟ ] ( ) .
وقال الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله :
[ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَنْ عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ وَمَنْ عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ] ( ) .
وقال أيضاً ، رحمه الله :
[ فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية. والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: " لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه " والحديث في الصحيحين.
فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح، وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.
ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل، إذا كان فيه تاليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل، كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه، وكذلك لو كان ممن يري المخافتة بالبسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتاليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا ] ( ) .
وقال أيضا ، رحمه الله :
[ فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا. وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة ] ( ) .
ديننا ؛ دين محبة ، واحترام ، واعتراف بالفضل !
[ قال الربيع وحرملة سمعنا الشافعي يقول: الناس في الفقه عيالٌ علي أبي حنيفة ] ( )
[ وروى الربيعُ عن الشافعي، يقول: مَن أرادَ أن يعرفَ الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه. كذا في (( تعاليق الأنوار )) ( )
[ وقال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدًا أتقى ولا أورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل ] ( ) .
[ كان أحمد بن حنبل كثير الثناء على الشافعي، قَالَ أبو سعيد القرماني: قَالَ أحمد بْن حنبل: إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة سنة ما يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم الكذب. فنظرنا فإذا في المائة عمر بن عبد العزيز في رأس المائتين/ الشافعي .
وفي رواية: عن أحمد قَالَ: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر لَهُ، وقال له ابنه عبد اللَّه: يا أبه، أي رجل كان الشافعي؟ فإني أسمعك تكثر من الدعاء لَهُ، قَالَ: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما من عوض .
وقال أحمد لإسحاق بن راهويه: تعالى حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله، فذهب بِهِ إلى الشافعي.
وقال صالح بن أَحْمَد: مشى أبي مع بغلة الشافعي، فبعث إليه يحيى بن معين ما رضيت إلّا أن تمشي مع بغلته، فَقَالَ: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك ] ( ) .
علاقات الأكابر ، والصالحين !
هذه كانت علاقة الأكابر ، والأئمة ، والصالحين ! كان علمهم ، وعملهم ، واجتهادهم لله ، لم تكن فيه حظوظ النفس ، الخاطئة ، ولهذا كثر بينهم المدح ، والثناء ، والدعاء ، من بعضهم لبعض !
لم يكن بينهم التنابز بالألقاب ، الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه الكريم – حاشاهم – ولم يكونوا من العصاة ، الذين يجعلون وصايا النبيّ ، وأوامره خلف ظهورهم ! !
ولهذا لم يعرفوا الحسد ، والبغضاء ، والتكبّر ، ولم يبغِ بعضهم على بعض ، والذي هو – البغي – سبب كل هذه الأمراض المهلكة ، ومصدره ، ومنبعه هو الهوى ، والنفس الأمّارة بالسوء !
ولا يمتّ بأي صلة بدين الله وشرعه ، والإجتهاد في سبيله ، وإن زعم الزاعمون !
فالتفرق ، والبغضاء ، والتدابر ، ليس سببه كتاب الله ، وسنة رسوله ، حاشا لله ! ! بل هو حب الرياسة ، والتعصب الذميم ، والظلم ! !
يقول الله تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) .
ويقول تعالى : ( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) .
ويقول تعالى : ( وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .
[ فالبغي.. بغي الحسد. وبغي الطمع. وبغي الحرص. وبغي الهوى.. هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج والمضي في التفرق واللجاج والعناد.
وهذه حقيقة.. فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب، القوي الصادع المشرق المنير..
ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى، أو في نفسيهما جميعاً.. فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق:
«فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ» ..
هداهم بما في نفوسهم من صفاء، وبما في أرواحهم من تجرد، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق. وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة:
«وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب. وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق، ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات..
هو الله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط أولئك يدخلون في السلم، وأولئك هم الأعلون ] .
بِئس التفرّق ، والبغضاء ، والشحناء ، في سبيل رعونات النفس ، وأهوائها المهلكة ، باسم الدين ، وباسم الله تعالى ، وباسم رسوله !
فلا يحسبنّ هؤلاء ، أنّ الله تعالى غافلاً عما يعملون، من الظلم ، والبغي باسمه سبحانه !
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) الشعراء : 227
أما بعد !
فهذا الدين العظيم لم يأتِ لعصر ، أو زمن معين ، ولا لقوم معينين ، بل جاء لكل العصور ، والأزمان ، ولكل أمة ، وأقوام ، ولكل الأصقاع ، والمكان .
ولهذا اشتمل على الثوابت ، والمتغيرات .
والمتغيرات فيه لِتصلح لكل زمان ، ومكان ، ولِتواجه كافة الأحداث ، والمستجدات ، التي تستحدث ، وتستجد عبر القرون ، والأزمان ، ولتحل جميع المشاكل ، والصعاب .
الفتوى تتغير !
ولقد أجمع العلماء على أن الفتوى تتغيّر ، بتغيّر الزمان ، والمكان ، والأشخاص ، والأحوال .
وقد حدث اختلاف في الفتوى ، في المسألة الواحدة ، في مدرسة واحدة ، من مدارس المذاهب الإسلامية ، ولمّا يمضِ على وفاة إمام ذلك المذهب ولا جاوز ، ربع قرن !
حيث قال تلاميذه ، الذين خالفوه في فتواه ، في تلك المسألة : هذا اختلاف زمان ، ومكان ، لا اختلاف دليل ، وبرهان !
وقالوا : لو كان الإمام موجوداً الآن بيننا لغيّر فتواه ، ولقال بقولنا !
والجميع يعلم ، أن للإمام الشافعي ، رحمه الله ، قولان ؛ قول قديم في العراق ، وقول جديد في مصر ! وليس ذلك إلا لاختلاف البيئة ، والمكان !
الاحتفال بذكرى مولد النبيّ !
ولقد أحدث الناس بعد عصر النبيّ ، وبعد عصر الصحابة والتابعين ، الإحتفال بذكرى مولد النبيّ ، فحكم عليهم بعض العلماء ، والناس بالبدعة الضلالة ، وأنهم مبتدعون آثمون ، وهم في النار و . . . إلخ ! !
علماً بأن هذا الإحتفال ليس فيه زيادة ، أو نقصان في الدين ، والذي هو : العقيدة والإيمان ، والشعائر التعبدية ، والشرائع والحلال والحرام !
وليس فيه معصية ، بل هو – كما معلوم – تجمع في مسجد ، وقراءة قرآن ، وخطب ، ومواعظ ، ومديح ، وإطعام . .
لو كان خيراً لفعله النبيّ !
فإن قيل : لو كان خيراً لفعله النبيّ !
نقول – بعد أن أوضحنا خطأ هذا الإعتراض – : هذا الإعتراض يوجه إلى عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، رضي الله عنهما ، عندما زادا على تلبية النبيّ في الحج
ويوجه إلى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، لصلاتها الضحى !
ويوجه إلى عثمان ، وعليّ ، وبقية الصحابة ، رضوان الله عليهم ، وكذلك التابعين معهم ، لمنعهم الناس من قراءة القرآن بالأحرف السبعة !
وعلى كل مستحدث ، أحدثوه بعد النبيّ ؛ من صلاة التراويح ، بهذه الصورة ، التي هي عليها الآن !
وإحداث عثمان أذاناً آخراً لصلاة الجمعة !
ولأخذهم ، وتغييرهم حكم ضوال الإبل ، و . . . إلخ
فيقال لكل هؤلاء : لِمَ عملتم ذلك ، فلو كان خيراً لفعله رسول الله ؟ !
فإن قالوا : لقد استحدثت أمور ، وظروف اقتضت تغيير تلك الأحكام !
نقول : ومَن هو الذي يجعل عصرنا مع عصر النبيّ ، والصحابة ، سواء ؟ !
ألم تستحدث أمور ، وظروف في عصرنا ، غير التي كانت في عصر النبيّ ، والسلف الصالح ؟
عصرنا وعصرهم !
لقد دانت لهم الأكاسرة ، وملوك الروم كانوا يعطون الجزية للخليفة حينذاك عن يد وهم صاغرون ! !
وكانت شريعة الإسلام تحكم العباد ، والبلاد ! وكل يوم يدخل الناس في دين الله أفواجا !
واليوم المسلمون يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ! وتحقق ما أنبأنا النبيّ ؛ فقد تداعت الأمم على المسلمين كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها !
والشيخ الكبير فينا ، الذي جاوز عمره مائة سنة – على ندرتهم ، إن لم يكونوا معدومين – يموت وهو لم يرَ في حياته الحكم بشريعة الله تعالى ، لأنه فتح عينيه على الحياة ، وإذا أحكام ، وشرائع البشر تحكمه ، وإذا حياة جاهلية ، غريبة عن الإسلام ، تحيط به !
ولهذا يستغرب ، عندما يسمع من ينادي بتحكيم الإسلام ، وشريعته في الحياة ! ويعده من بدع هذا العصر ! وأنه لم يسمع بهذا من آبائه الأولين !
فهل عهد الاستخلاف ، كعهد الاستضعاف ؟ !
ليس لغير الله تعالى أن يشرّع !
فإن قيل : أولئك كانوا صحابة وتابعون ، أي : لهم الحق في إحداث ما يرون فيه مصلحة !
قلنا : هذه الخصوصية لهم من أين أتيتوا بها ؟
فإن قالوا : من مدح النبيّ لهم ؛ خير القرون قرني . . . الحديث ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين . . . الحديث .
قلنا : ذكرنا سابقاً ؛ أن هذا القول شهادة نبوية لهم ، بأنهم من أفضل الناس ، وأنهم لا يحيدون عن المنهج ، وليس معنى ذلك ، أن لهم أن يشرعوا من دون الله ما يشاؤن ، وأن الخير ليس في غيرهم !
فهذه الشهادة تشبه شهادة النبيّ للعشرة المبشرة بالجنة ، رضوان الله عليهم ، فليس معنى ذلك أن غيرهم من الصحابة لا يدخلون الجنة !
ثم إن الخلفاء الراشدين ، في أمة محمد لا يقتصر على أولئك الأربعة العظام ، بل الخير في أمته إلى يوم القيامة !
ومن كان يعتقد أن لغير الله تعالى أن يشرّع ، كالنبيّ المعصوم بالوحي ، فليراجع إيمانه ودينه لينظر هل فيه لغير الله تعالى حق الحكم ، والتشريع ؟ !
كيف ورسول الله وهو نبيّ ، ورسول من الله تعالى ، يقول الله سبحانه فيه : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) النجم : 3 - 4 ، فكيف بغيره
مشاركتهم في الهدي الظاهر !
وإن من أشد الناس إظهاراً لعداوة البدع بعد عصر الصحابة بسبعة قرون ، هو الحافظ ابن تيمية رحمه الله ، وإن أشد كتابه في ذلك ، هو كتابه : ( إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ) ، فاقرأ ما يقوله في مشاركة ، ومخالفة اليهود ، والنصارى في الهدي الظاهر ، حسب تغيّر الزمان ، والحال :
[ ومما يوضح ذلك أن كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ ذلك لأن اليهود إذ ذاك كانوا لا يميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس لا بعلامة ولا غيرها
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى .
وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك .
ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة .
فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا ] ( ) .
وهو ، رحمه الله ، مع تشدّده في منع الاحتفال بذكرى مولد النبيّ ، واعتباره له بدعة ، يقول :
[ وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا ] ( ) . فكيف يكون المولد بدعة ضلالة ، وصاحبها في النار ، ومع هذا قد يثيبهم الله تعالى ؟
ولا شك أن الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله ، هو ، وغيره من العلماء ، ليسوا بأنبياء ، ولا معصومين ، فكل واحد منهم يؤخذ من قوله ، ويُردّ .
قيام المقتضى !
ثم قول الحافظ ابن تيمية ، رحمه الله ، :
[ فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص ] ( ) .
نقول – بعد أن ذكرنا خطأ القول : لو كان خيراً لفعله النبيّ ، أو فعله السلف – : أي مقتضىً كان قائماً في عصر السلف ، وهم كانوا كما يقول الشاعر :
يا من رأى عمراً تكسوه بردته
و الزيت أُدم له و الكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً
من بأسه و ملوك الروم تخشاه !
ويقول :
أين الرشيد و قد طاف الغمام به
فحين جاوز بغداداً تحداه
ملك كملك بني التاميز ما غربت
شمس عليه و لا برق تخطاه
هل عصرنا يشبه عصر السلف ؟ !
كانوا مشغولين بالإسلام !
لقد كان النبيّ حيّاً في قلوبهم ، ماثلة ذكراه أمامهم ، ثيابه لم تُبل ، وأوانيه لم تُكسر !
وشريعته - كما ذكرنا سابقاً – كانت تحكمهم ، والإسلام في إقبال ، وانتشار !
منهم من كان يسيح في الأرض ، لإزالة الطواغيت ، والظالمين ، وهدم الجدران ، والسدود أمام الشعوب ، ليتسنّموا الحرية ، ويخرجوا من ظلمات الكفر ، والشرك ، والظلم ، والجاهلية إلى نور الإسلام !
ومنهم من كان ينشر العلم ، ويتفرغ له ، ويقضي على الجهل ، عن طريق حلقات العلم ، والفقه ، والفتوى !
ومنهم من كان يسير قُدُماً في بناء دولة العدالة ، والمساواة ، والحرية ، تمهيداً لبناء الحضارة الإنسانية ، العالمية !
ومنهم من كان يربّي جيلاً قرآنياً ، ربّانياً ، خاشع القلب ، ذاكر اللسان ، متواضعاً هيّناً ، ليّناً ، ليكونوا قدوة ، وأسوة للأجيال القادمة ، كافة !
جميعهم كانوا مشغولين بالإسلام ، يعيشون له ، ويموتون من أجله !
هل نحن معهم ، وعصرنا مع عصرهم سواء ؟
وفينا مسلمون ، وأبناء مسلمين ، لا يعرفون إسم والد النبيّ ؟
طبيعة عصرنا تقتضي التيسير !
[ طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه ، وكيف طغت المادية على الروحية ، والأنانية على الغَيرية ، والنفعية على الأخلاق ، وكيف كثرت فيه المغريات بالشر ، والمعوقات عن الخير ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر ، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال ، ومن بين يديه ومن خلفه ، تريد أن تقتلعه من جذوره ، وتأخذه إلى حيث لا يعود .
وهي تيارات تحركها وتغذيها قوى ضخمة ، تمدها بالتمويل والتخطيط والتوجيه ، وتسهل لمن اتبعها طريق الشهوات ، وربما طريق الوصول إلى المناصب والدرجات .
والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية ، بل في معركة دائمة ، فقلما يجد من يعينه ، وإنما يجد من يعوقه .
ولهذا ينبغي لأهل الفتوى أن ييسروا عليه ما استطاعوا ، وأن يعرضوا عليه جانب الرخصة أكثر من جانب العزيمة . ترغيباً في الدين ، وتثبيتاً لأقدامه على طريقه القويم .
العلم الرخصة من ثقة !
وقد نقل الإمام النووي في مقدمات (( المجموع )) كلمة حكيمة للإمام الكبير – إمام الفقه والحديث والورع – سفيان الثوري . قال فيها : (( إنما العلم الرخصة من ثقة ، أما التشديد فيحسنه كل أحد ! )) .
فالعالم حقاً – في نظر الثوري رحمه الله – من يراعي الرخص والتيسير على عباد الله ، شرط أن يكون ثقة في علمه ودينه .
وكان منهج الصحابة ومن تخرج على أيديهم هو التيسير والرفق بالناس ، ثم بدأ التشديد يدخل على العلماء شيئاً فشيئاً ، وعصراً بعد عصر ، حتى أصبح هو طابع المتأخرين .
روى الحافظ أبو الفضل بن طاهر في كتاب (( السماع )) بسنده عن عمر ابن إسحاق من التابعين قال : كان من أدركت من أصحاب محمد أكثر من مائتين ، لم أرَ قوماً أهدى سيرة ، ولا أقل تشديداً منهم .
وهكذا كان علماء السلف : إذا شدّدوا فعلى أنفسهم ، أما على الناس فييسرون ويخففون .
ولقد وصفوا الإمام المزني صاحب الشافعي في معرض الثناء عليه . بأنه (( كان أشد الناس تضييقاً على نفسه في الورع ، وأوسعه في ذلك على الناس )) .
وكذلك وصفوا الإمام التابعي الجليل محمد بن سيرين ، قال تلميذه عون : كان محمد أرجى الناس لهذه الأمة . وأشدهم أزراً على نفسه .
هذا وزمنهم زمن الإقبال على الدين فكيف بزماننا والناس مدبرون عنه ؟ .
إننا أحوج ما نكون إلى التوسعة على الناس ] ( ) .
ماذا يغيّر الإحتفال من الدين ؟ !
ثم ماذا يغيّر الاحتفال بتلك المناسبة ، في دين الله ؟
ماذا يغيّر من العقيدة ، والإيمان ؟ وماذا يغيّر من الشعائر التعبدية ؟ وماذا يغيّر من الحلال ، والحرام ؟
يقال : إن السلف لم يعملوا به ! وإن لم يعملوا به ؟ فهل زماننا ، وزمانهم واحد ؟ ألم يتغيّر من زمانهم شيء ، بعد قرابة ألف سنة ؟
إن زماننا وعصرنا يتطلب منّا أن نحدث كل يوم مناسبة دينية ، لنستثمرها في تعريف ديننا ، ورسولنا للناس ، وللعالم !
فهل من المعقول ، والمنطق ، أن نقيس حال المسلمين في زماننا ، وهو حال الضعف ، والإستضعاف ، بحال السلف ، والذي كان حال القوّة ، والإقتدار ، والإستخلاف ؟
لماذا أحدثوا ؟ !
لماذا أحدث الخليفة الراشد عثمان بن عفان أذاناً في صلاة الجمعة ، والصحابة ، رضوان الله عليهم ، وافقوه على ذلك ؟ .
يقال في الجواب – وهو صحيح – : أن هناك تغييراً حدث ، لم يكن موجوداً في زمن النبيّ ، إقتضى تلك الزيادة !
لماذا غيّروا ظاهر أمر النبيّ بترك الإبل الضالة ، فلم يتركوها كما أمر النبيّ ؟
الجواب : لأن ظروفاً جديدة استجدت ، لا تشبه الظرف الذي كان فيه النبيّ !
لماذا أحدث الخليفة الراشد عمر بن الخطاب صلاة التراويح بصورتها التي نراها الآن ؟
لأن عمل عمر بن الخطاب ليس كعمل النبيّ ، فلا يُخشى أن يوجبه أحد على الناس ، بخلاف عمل النبيّ !
لماذا منعوا الناس من قراءة القرآن بالأحرف السبعة ، التي نزل بها جبريل ، عليه السلام ، وأمر الله تعالى أن يقرأ المسلم بها ؟
لأن الظروف تغيرت !
الجواب : لأن ظروفاً استجدت ، وأمراً حدث ، مغايراً لما كان عليه النبيّ !
ولسنا هنا لتتبع كل الأحداث ، التي استجدت ، وغيّر الصحابة ، والأئمة الأمور فيها !
والمقصود هو : يجب علينا أن نفهم عصرنا ، وزماننا ، وواقعنا الذي نعيش فيه ، حتى يكون إنزالنا الأحكام عليه صحيحاً صائباً ! ويجب علينا أن نفرق بين النصوص ، وبين إجتهادات الأئمة ، والعلماء ، الذين اجتهدوا في فهم النصوص ، حسب زمانهم ، وعصرهم !
الواجب شيء ، والواقع شيء ، ولكل زمان حكم !
يقول الحافظ ابن القيّم ، رحمه الله :
[ وهذا يختلف باختلاف الامكنة والازمنة والقدرة والعجز فالواجب شئ والواقع شئ والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع فلكل زمان حكم والناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الارض فلو منعت إمامة الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعطلت الاحكام وفسد نظام الخلق وبطلت اكثر الحقوق ومع هذا فالواجب اعتبار الاصلح فالاصلح وهذا عند القدرة والاختيار واما عند الضرورة والغلبة بالباطل فليس إلا الاصطبار والقيام بأضعف مراتب الانكار ] ( ) .
جنايته على الدين أعظم !
وقال ، رحمه الله ، أيضاً :
[ ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم واحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل اضر ما على أديان الناس وابدانهم والله المستعان ] ( ) .
إعتراضات ، لا دلالة فيها !
هناك من يعترض ، ويستدل بآيات ، وأحاديث ، لا دلالة فيها لما يذهب ويفهم ، ونحن لا نريد أن نطيل في الرد ، فقد ذكرنا ما يكفي ويشفي .
حيث ذكرنا – من الآيات الكريمة ، والأحاديث النبوية ، وأقوال الأئمة ، والعلماء – أصول وقواعد ، وأسس وموازين ، يوزن بها كل الأمور ، والمستحدثات .
إلا إذا أراد البعض اللجاج ، والخصومة ، فهؤلاء لو أتيت لهم بكل آية ما اقتنعوا ، وما تركوا ما تعصّبوا عليه ، لأن رجوعهم إلى الحق يُعتبر عيباً ! وهو قد عُرف بهذه الآراء ، فكيف يتركها ، ولو جئت لهم بكل آية ؟
إلا من خاف الله تعالى ، وكانت مرضاة الله تعالى غايته ، ومبتغاه ، وأولئك قليل ، كالغراب الأبيض !
أول من أحدث الإحتفال بالمولد النبوي !
يقولون : الفاطميون ، والرافضة هم الذين أول من أحدثوا بدع الإحتفال بالمولد .
ويقصدون بقولهم هذا :: أن أهل البدع ، والضلال هم مصدر هذه البدعة ؟ !
1 - فهل يعني قولهم هذا : أن البدعة إذا كان أهل السنة ، والإستقامة هم مصدرها ، فسوف تؤخذ عنهم ، ولا تُرد عليهم ؟ !
وهذا ما لا يقولونه ! فما فائدة قولهم ذاك إذاً ؟
2 – هل يعني قولهم هذا : أن كل شيء كان مصدره أهل البدعة ، والضلال فلا يؤخذ به ؟ !
وهذا غير صحيح أصلاً !
لأن النبيّ اتخذ خاتما ، لختم رسائله إلى ملوك الروم ، وغيرهم ، أخذ ذلك منهم .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قَالَ: قَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، قَالَ: «فَاتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» .
من غير أي تردد ، أو إحراج ! ولم يقل كيف نقلد أولئك ، ونأخذ منهم ؟ !
وَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ ( ) .
و [ (الدَّوَاوِين) جمع ديوَان بِكَسْر الدَّال وَقد تفتح فَارسي مُعرب وَهُوَ الدفتر وَالْمرَاد مَا هُوَ مَكْتُوب فِيهِ ] ( ) .
وقد أخذها من الفرس !
و النعوش قد اتخذت فى خلافة أبى بكر، وكان أول من اتخذت له فاطمة بنت رسول الله، لأنها قالت لهم عند وفاتها: إنى امرأة ضئيلة يرانى الناس بعد وفاتى، فأحب أن يستر نعشى بالثياب. وقالت أم سليم، وأسماء بنت عميس أنهما رأتا فى أرض الحبشة النعوش، وأنها للناس مغطاة، فاتخذ لها نعش، فاتخذت فيه وبقى الناس إلى يومنا هذا على ذلك .
الحكمة ضالة المؤمن
و الحكمة ضالة المؤمن، وأن كلمة الحق مقبولة من قائلها ، سواء كان صالحاً ، أو فاسقاً، فإن العبرة بالقول لا بقائله، قال العيني: [ وفيه [ أي حديث : صدقك وهو كذوب ] جواز تعلم العلم ممن لم يعمل بعلمه ] ( ) .
[ إنَّ كلمة الحكمة ربما تكلم بها من ليس لها أهل ثم وقعت إلى أهلها فهو أحق بها من غيره كما أنَّ صاحب الضالة لا ينظر إلى خساسة من وجدها عنده، كذلك المؤمن لا ينظر إلى خساسة من تفوه بالكلمة الحكمة بل يأخذها منه أخذ صاحب الضالة إياها ممن هي عنده والمراد بالكلمة الجملة المفيدة، والحكمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، ويدل على معنى فيه دقة ] ( ) .
هل معك من شعر أميّة بن أبي الصلت شيء ؟ !
« وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ: " هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " هِيهِ " فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ: " هِيهِ " ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَالَ: " هِيهِ " حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ » .
[ وَالْغَرَضُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْسَنَ شَعْرَ أُمَيَّةَ وَاسْتَزَادَ مِنْ إِنْشَادِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَعْثِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ، وَيُوَافِقُ حَدِيثَ: «الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ» ] ( ) .
بيت القصيد هنا : أن نبيّن خطأ من يقول بعدم جواز أخذ أي شيء عن أهل البدع ، والضلال ! فهذا هو موضوعنا هنا !
أكملت لكم دينكم !
2 - ومما استدلوا به : قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) .
ومَن قال بأن الدين لم يُكمل ؟ ومَن قال بأن الإحتفال بمولد النبيّ هو زيادة في الدين ؟
وماذا يُقال للخلفاء ، والصحابة ، والأئمة ، الذين أحدثوا أموراً لم يفعلها النبيّ ؟ :
الزيادة في التلبية في الحج ؟ ! زيادة الأذان في صلاة الجمعة ؟ ! صلاة الضحى لمن لايراها سنة ؟ ! الجلوس في المسجد ، عشية يوم عرفة للذكر ، والدعاء ؟ ! صلاة التراويح ، كما أبدعها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ؟ ! . . . إلخ ؟
هل كل هؤلاء كانوا يؤمنون بأن الدين لم يُكمل ، وأنه يحتاج إلى تكميل من قِبَلهم ؟ !
لقد تركتكم على مثل البيضاء !
3 – ومنه : قوله : لقد تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك !
وأي دليل لهم في هذا الحديث ؟ !
إن في هذا الحديث شهادة للنبيّ بأنه بلّغ الرسالة ، واضحة بيّنة ، لا غموض فيها ، ولا إبهام !
وماذا عن حكم المسكوت عنه ؟ ماذا عن المستجدات ؟ ولماذا أحدث الخلفاء ، والصحابة ، والأئمة ، أموراً بعد وفاة النبيّ ؟
هل أحدثوا ذلك ، لأن النبيّ لم يتركهم على مثل البيضاء ؟
ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ؟ !
4 – ومنه : قوله : ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ، ولا تركت شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه .
وهذا أيضاً فيه شهادة للنبيّ بتبليغه الرسالة ، أكمل تبليغ !
وإن الخلفاء ، والصحابة ، الذين أحدثوا تلك الأمور بعد النبيّ ، هل خطر ببالهم ، مجرد خاطرة أن النبيّ ترك أموراً مما أمر الله بها ، لم يبلّغها ؟ !
بل إن هذه الآيات الكريمة ، والأحاديث النبوية الشريفة ، لدليل واضح على أن هناك ثوابت تفصيلية فيهما ، لا تتغير ما دامت السماوات والأرض ، وأن هناك متغيرات ؛ تتغير بتغير الزمان والمكان ؛ مبنيّة على قواعد ، وأصول عامة ، ثابتة ، بلّغ النبيّ كل ذلك ، أتم ، وأكمل تبليغ ! !
وليس في المحدثات التي حدثت ، وتحدث بعده - ولا تعارض النصوص ، أو الأصول ، والقواعد العامة ، التي بيّنها ، وفيها مصلحة – ليس فيها أي إستدراك على الدين ، بل هي مبنيّة على تلك القواعد ، والأصول التي ترَكَنا عليه ، مثل البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك !
ختاماً
لقد عرضنا الآيات الكريمة ، والأحاديث النبوية الشريفة ، والأصول ، والأسس ، والقواعد الأصولية ، والفقهية ، وأقوال الأئمة ، والعلماء ، حتى تكون كل هذه ميزاناً ، توزن به كل محدثة تحدث ، وليس هناك أي داع لمناقشة تلك المحدثات ، كل على حدة !
أسأل الله تعالى أن يهدي قلوبنا إلى نوره ، وصراطه المستقيم ، وأن ينهي ، وينزع من قلوبنا كل شرك ، ورياء ، فلا نحارب المسلمين ، ودين الله تعالى ، بدوافع التعصب ، والأهواء النفسية ، باسم الله ، وباسم الدين ، وباسم الصحابة ، والتابعين ، وأتباعهم بإحسان .
ولنتذكر أن الله عليم بذات الصدور ، وأنها :
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ .
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ . وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
فهرس المصادر
1 – القرأن الكريم
2 - الجامع الصحيح المختصر : محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي : دار ابن كثير، اليمامة – بيروت الطبعة الثالثة، 1407 – 1987 ، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة - جامعة دمشق .
3 - المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ) ، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي : دار إحياء التراث العربي – بيروت .
4 - مسند الإمام أحمد بن حنبل : أحمد بن حنبل ، المحقق : شعيب الأرنؤوط وآخرون : مؤسسة الرسالة ، الطبعة : الثانية 1420هـ ، 1999م .
5 - سنن أبي داود : أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ) ، المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد : المكتبة العصرية، صيدا – بيروت .
6 - سنن الترمذي : محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ) تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5) : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر
الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م .
7 - سنن ابن ماجه : ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273هـ) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي : دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي .
8 - السنن الكبرى وفي ذيله الجوهر النقي : أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ، مؤلف الجوهر النقي: علاء الدين علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني المحقق، الناشر: مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند ببلدة حيدر آباد ، الطبعة: الطبعة: الأولى ـ 1344 هـ .
9 - سنن الدارمي : أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي (المتوفى: 255هـ) : دار الكتاب العربي – بيروت ، الطبعة الأولى، 1407
تحقيق: فواز أحمد زمرلي , خالد السبع العلمي .
10 - المعجم الكبير : سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ) ، المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي : مكتبة ابن تيمية – القاهرة ، الطبعة : الثانية .
11 - صحيح ابن خزيمة : أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ) ، المحقق: د. محمد مصطفى الأعظمي : المكتب الإسلامي – بيروت .
12 - المستدرك على الصحيحين : أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ) تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا : دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة: الأولى، 1411 – 1990.
13 - فتح الباري شرح صحيح البخاري : أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي : دار المعرفة - بيروت، 1379 , رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي ، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب ، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز .
14 - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج : أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي ، (المتوفى: 676هـ) : دار إحياء التراث العربي – بيروت ، الطبعة: الثانية، 1392.
15 - فتح الباري ـ لابن رجب : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن شهاب الدين البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب : دار ابن الجوزي - السعودية / الدمام - 1422هـ ، الطبعة : الثانية ، تحقيق : أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد .
16 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري : أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855هـ) : دار إحياء التراث العربي – بيروت .
17 - إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري : أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين (المتوفى: 923هـ) : المطبعة الكبرى الأميرية، مصر
الطبعة: السابعة، 1323 هـ .
18 – شرح صحيح البخاري لابن بطال - نسخة : الشاملة 11000 .
19 - الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج : عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) ، حقق أصله، وعلق عليه: أبو اسحق الحويني الأثري : دار ابن عفان للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية – الخبر ، الطبعة: الأولى 1416 هـ - 1996 م .
20- تنوير الحوالك شرح موطأ مالك : عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) : المكتبة التجارية الكبرى – مصر ، عام النشر: 1389 - 1969 هـ .
21 - حاشية السيوطي على سنن النسائي (مطبوع السنن) : عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) : مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب ، الطبعة: الثانية، 1406 – 1986
22 - حاشية السندي على سنن ابن ماجه = كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه : محمد بن عبد الهادي التتوي، أبو الحسن، نور الدين السندي (المتوفى: 1138هـ) : دار الجيل - بيروت، بدون طبعة .
23 - شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك : محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ـ سنة الوفاة 1122 : دار الكتب العلمية ، سنة النشر : 1411 ، مكان النشر : بيروت .
24 - المنتقى شرح الموطإ : أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ) : مطبعة السعادة - بجوار محافظة مصر ، الطبعة: الأولى، 1332 هـ .
25 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى (المتوفى: 1353هـ) : دار الكتب العلمية – بيروت .
26 - جامع العلوم والحكم : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي : دار المعرفة - بيروت
الطبعة الأولى ، 1408هـ .
27 - نيل الأوطار : محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ) ، تحقيق: عصام الدين الصبابطي : دار الحديث، مصر ، الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م .
28 - شرح سنن ابن ماجه - الإعلام بسنته عليه السلام : مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري المصري الحكري الحنفي، أبو عبد الله، علاء الدين (المتوفى: 762هـ) ، المحقق: كامل عويضة : مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية ، الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1999 م .
29 - الاستذكار : أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463هـ) ، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض : دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1421 – 2000 .
30 - التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثا النووية ، ومعها شرح الأحاديث التي زادها ابن رجب الحنبلي : فضيلة الشيخ العلامة / إسماعيل بن محمد الأنصاري ( يرحمه الله ) ، الباحث في دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية .
31 - التيسير بشرح الجامع الصغير : زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031هـ) : مكتبة الإمام الشافعي - الرياض
الطبعة: الثالثة، 1408هـ - 1988م .
32 - قوت المغتذي على جامع الترمذي : عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) ، إعداد الطالب: ناصر بن محمد بن حامد الغريبي ، إشراف: فضيلة الأستاذ الدكتور/ سعدي الهاشمي : رسالة الدكتوراة - جامعة أم القرى، مكة المكرمة - كلية الدعوة وأصول الدين، قسم الكتاب والسنة ، عام النشر: 1424 هـ .
33 - منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري : حمزة محمد قاسم ، راجعه: الشيخ عبد القادر الأرناؤوط ، عني بتصحيحه ونشره: بشير محمد عيون : مكتبة دار البيان، دمشق - الجمهورية العربية السورية، مكتبة المؤيد، الطائف - المملكة العربية السعودية ، عام النشر: 1410 هـ - 1990 م .
34 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح : علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014هـ) : دار الفكر، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، 1422هـ - 2002م
35 – شرح الأربعين النووية : عطية بن محمد سالم (المتوفى : 1420هـ) ، مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية .
36 تفسير القرآن العظيم : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة : دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة : الثانية 1420هـ - 1999 م .
37 - معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى : 510هـ) ، المحقق : عبد الرزاق المهدي : دار إحياء التراث العربي –بيروت ، الطبعة : الأولى ، 1420 هـ .
38 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل : ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفى: 685هـ) ، المحقق: محمد عبد الرحمن المرعشلي : دار إحياء التراث العربي – بيروت ، الطبعة: الأولى - 1418 هـ .
39 - لباب التأويل في معاني التنزيل : علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن (المتوفى: 741هـ) ، المحقق: تصحيح محمد علي شاهين: دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة: الأولى - 1415 هـ .
40 – تفسير القرآن الكريم (ابن القيم) : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) ، المحقق: مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية بإشراف الشيخ إبراهيم رمضان : دار ومكتبة الهلال – بيروت ، الطبعة: الأولى - 1410 هـ .
41 - في ظلال القرآن : سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385هـ) : دار الشروق - بيروت- القاهرة ، الطبعة: السابعة عشر - 1412 هـ .
42 - محاسن التأويل : محمد جمال الدين القاسمي مصدر الكتاب : برنامج تاج الأصول من أحاديث الرسول .
43 - تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) : محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني (المتوفى: 1354هـ) : الهيئة المصرية العامة للكتاب
سنة النشر: 1990 م .
44 – الرسالة : الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) ، المحقق: أحمد شاكر : مكتبه الحلبي، مصر
الطبعة: الأولى، 1358هـ/1940م .
45 - المستصفى في علم الأصول : أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى : 505هـ)
المحقق : محمد بن سليمان الأشقر ، الناشر : مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان ، الطبعة : الأولى، 1417هـ/1997م .
46 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام : أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء (المتوفى: 660هـ) ، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد : مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة ، (وصورتها دور عدة مثل: دار الكتب العلمية - بيروت، ودار أم القرى - القاهرة) ، طبعة: جديدة مضبوطة منقحة، 1414 هـ - 1991 م .
47 - الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ) : عالم الكتب ، الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ .
48 - الرد على الجهمية والزنادقة : أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ) ، المحقق: صبري بن سلامة شاهين الناشر: دار الثبات للنشر والتوزيع ، الطبعة: الأولى .
49 - تيسيرُ علم أصول الفقه : عبد الله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع العنزي ، الناشر: مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان ، الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997 م .
50 - مجموع الفتاوى : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ)
المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم : مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية ، عام النشر: 1416هـ/1995م .
51 - جامع المسائل لابن تيمية : تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى : 728هـ)
تحقيق : محمد عزير شمس ، إشراف : بكر بن عبد الله أبو زيد : دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
الطبعة : الأولى ، 1422 هـ .
52 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: محمد رشاد سالم ، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة : الأولى ، 1406 هـ - 1986 م .
53 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: ناصر عبد الكريم العقل : دار عالم الكتب، بيروت، لبنان ، الطبعة: السابعة، 1419هـ - 1999م .
54 - فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه: تقي الدين أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)المحقق: د. عبد العزيز بن محمد الفريح ، الناشر: مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة ، الطبعة: المجلد 13، العدد 22، ربيع الأول 1422هـ / مايو (أيار) 2001م .
55 – سنة الجمعة : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: أبو عبد الله سعد المزعل : دار ابن حزم، بيروت، لبنان الطبعة: الأولى، 1415هـ/1994م .
56 - إعلام الموقعين عن رب العالمين : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) ، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم : دار الكتب العلمية - ييروت
الطبعة: الأولى، 1411هـ - 1991م .
57 – صفة الصفوة : جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)
المحقق: أحمد بن علي : دار الحديث، القاهرة، مصر ، الطبعة: 1421هـ/2000م .
58 - تعظيم قدر الصلاة : أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: 294هـ) المحقق: د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي : مكتبة الدار - المدينة المنورة ، الطبعة: الأولى، 1406 هـ .
59 - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك : جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) ، المحقق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا : دار الكتب العلمية، بيروت ، الطبعة: الأولى، 1412 هـ - 1992 م .
60 - الاعْتِصَام
المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)
تحقيق ودراسة: الجزء الأول: د. محمد بن عبد الرحمن الشقير ، الجزء الثاني: د سعد بن عبد الله آل حميد ، الجزء الثالث: د هشام بن إسماعيل الصيني : دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية ، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م .
61 - لسان العرب : ابن منظور ، المحقق : عبد الله علي الكبير + محمد أحمد حسب الله + هاشم محمد الشاذلي ، دار النشر : دار المعارف ، البلد : القاهرة .
62 - البدعة المحمودة بين شبهات المانعين واستدلالات المجيزين - صلاح الدين بن أحمد الإدلبي .
63 - 75 – الرسول – سعيد حوى . دار السلام . مصر – القاهرة . الطبعة السابعة : 1425 هـ - 2005 م .
فهرس المواضيع
المواضيع الصفحات
مقدمة ................................................................................................ 1
البدعة في اللغة ..................................................................................... 3
البدعة في الشرع ................................................................................... 3
معنى الدين .......................................................................................... 3
أقسام الدين .......................................................................................... 5
العقيدة والإيمان ..................................................................................... 5
الشعائر التعبدية ..................................................................................... 6
الشرائع القانونية والحلال والحرام ................................................................. 6
ما رآه المؤمنون حسنا .............................................................................. 6
يؤيد ويخدم .......................................................................................... 7
المصالح الضرورية ................................................................................ 7
المقياس والميزان ................................................................................... 8
كل بدعة ضلالة .................................................................................... 8
دلالة (( كل )) ....................................................................................... 8
معاني الآيات ....................................................................................... 9
لا يفهم على العموم ................................................................................ 10
لماذا لا يحمل على العموم ......................................................................... 10
كل بدعة ............................................................................................ 10
مسألتان متداخلتان .................................................................................. 11
كل ضلالة في النار ................................................................................ 12
رفع الملام عن الأئمة الأعلام ..................................................................... 12
سنة الخلفاء الراشدين .............................................................................. 13
الحاكم هو الله وحده ................................................................................. 14
معنى اتباع . . سنة الخلفاء الراشدين .............................................................. 15
تفسير الإمام الشوكاني للحديث ..................................................................... 15
ترك النبيّ للعمل ويحبه ......................................................................... 17
خشية أن يفرض عليهم ............................................................................. 17
صلاة السنة بعد العصر ............................................................................ 18
تخفيف الصلاة مخافة افتتان الأم .................................................................. 18
عدم وجوب السواك رحمة بالناس ................................................................ 18
عدم تأخير صلاة العشاء رحمة بالأمة ............................................................ 19
التخلف عن السرايا حبا للصحابة ................................................................. 19
ترك إعادة بناء الكعبة خوفا على الناس .......................................................... 20
حزنه ، وندمه حبا للأمة ....................................................................... 20
ماذا نفهم من هذه الأحاديث ....................................................................... 20
أعمال عملها هو ، ونهى عنها غيره ......................................................... 21
النهي عن صوم الوصال ......................................................................... 22
تقبيل الصائم لزوجه .............................................................................. 23
لسنا مثل النبيّ ................................................................................. 23
هل فعل النبيّ ، بموجب ؟ .................................................................... 24
يرضى للناس ما لا يرضاه لنفسه ............................................................ 24
صلى حتى انتفخت قدماه ......................................................................... 25
أفلح إن صدق ..................................................................................... 25
ترك النبيّ أمورا ، وأباحها لغيره ........................................................... 26
أكل الثوم ، والبصل .............................................................................. 26
أكل الضب ........................................................................................ 26
أمثاله في الشريعة .................................................................................. 27
لا نشبه النبيّ ، في كل شيء ................................................................... 28
السنة من حيث كونها تشريعا ، وغير تشريع ..................................................... 28
اتباع النبيّ ....................................................................................... 30
هل كان رسول الله مجرد إنسان عادي ........................................................ 31
إن الله تعالى يصلي على النبيّ ................................................................. 32
الآن ياعمر .......................................................................................... 32
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ .......................................................... 33
فخموه وشرفوه مع التوقير والتواضع .............................................................. 33
أمر الله تعالى أن يهاب ويبجل ويعظم ويسود ...................................................... 34
خير القرون .......................................................................................... 35
الصحابة رضوان الله عليهم ......................................................................... 35
شهادة عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، لهم .................................................. 35
قول الشافعي رحمه الله .............................................................................. 36
قول مسروق رحمه الله .............................................................................. 36
إن الله نظر في قلوب العباد ......................................................................... 36
أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه .................................................................... 37
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ................................................................... 38
فهم الصحابة ، والخلفاء للدين ...................................................................... 38
جمع القرآن في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .......................................... 38
كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله ........................................................... 39
بدعة لغوية .......................................................................................... 39
التعالم على الصحابة ................................................................................ 39
هو والله خير ......................................................................................... 40
ليس هناك نص خاص في المسألة .................................................................. 40
ليس كل مستحدث هو بدعة ضلالة ................................................................. 40
هكذا أنزلت ........................................................................................... 40
كلاكما محسن ........................................................................................ 41
إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف ..................................................... 41
الإقتصار على حرف واحد ومنع غيرها ........................................................... 41
إجماع جمهور الصحابة ............................................................................. 42
ضوال الإبل .......................................................................................... 43
أمر النبيّ ، وهديه في ضوال الإبل ............................................................. 43
غضب حتى احمر وجهه ........................................................................ 44
لا يتعرض لها ....................................................................................... 44
النهي عن أخذ ضالة الإبل .......................................................................... 44
النهي عن التعرض لها ............................................................................. 44
ضالة الإبل في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ............................................. 45
هل هذا منهما مخالف لأمره وهديه وسنته ..................................................... 45
إختلاف الأحكام باختلاف الأحوال ................................................................. 45
ضوال الإبل في زمن عثمان رضي الله عنه ....................................................... 46
صلاة التراويح ....................................................................................... 46
التراويح في زمن النبيّ ، وخلافة أبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما .... 47
نعم البدعة هذه ....................................................................................... 47
إختلاف تراويح عمر رضي الله عنه ، عن تراويح النبيّ ...................................... 47
بدعة لغوية لا شرعية ................................................................................ 48
صلاة الضحى ........................................................................................ 48
عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، يراها بدعة ................................................. 48
نعمت البدعة ......................................................................................... 49
عائشة رضي الله عنها ، وسبحة الضحى .......................................................... 49
مربط الفرس ......................................................................................... 49
لا آمر بها ، ولا أنهى عنها ......................................................................... 50
علماء فقهاء .......................................................................................... 50
آيات وأحاديث ، هي معالم في الطريق ............................................................ 51
وافعلوا الخير ........................................................................................ 51
عمل مثقال ذرة ...................................................................................... 51
من سنّ ............................................................................................... 52
إعتراض عجيب ..................................................................................... 52
العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .......................................................... 53
معنى سنّ ، أي : أحيا ............................................................................... 53
أول من سنّ القتل .................................................................................... 53
أول من سنّ الركعتين عند القتل .................................................................... 53
أول من سنّ للعرب الحداد للإبل .................................................................... 54
أول من سنّ الديّة ، مائة من الإبل .................................................................. 54
أول من سنّ الكفر ، والقتل .......................................................................... 54
من أحياها ، وعمل بها ، وبيّنها ..................................................................... 54
ليس كل مسكوت عنه محرما ........................................................................ 55
الأصل في الأشياء الإباحة ........................................................................... 56
فحرّم من أجل مسألته ................................................................................ 56
على العبد أن يأخذ بعفو الله .......................................................................... 58
كان الدين عندهم فطريا ، ساذجا ، وحنيفيا سمحا .................................................. 58
سكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان .......................................................... 58
من الحكمة أن لا يسألوا .............................................................................. 59
فلا تبحثوا عنها ....................................................................................... 59
وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ..................................................................... 59
الحرام ما حرّم الله .................................................................................... 59
قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما .................................................................... 59
فاقبلوا من الله عافيته .................................................................................. 60
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ........................................................................ 61
عجبت لها . فتحت لها أبواب السماء ................................................................. 61
لم يقل بأسا ............................................................................................. 62
أيهم يكتبها أول ........................................................................................ 62
جواز إحداث ذكر في الصلاة ........................................................................ 62
المأموم يشرع له الزيادة .............................................................................. 62
وما يدريك أنها رقية .................................................................................. 63
فلم يعنف ............................................................................................... 63
فضحك رسول الله ولم يقل شيئا ................................................................... 63
صلى بنا وهو جنب .................................................................................... 63
أخبروه أن الله يحبه .................................................................................... 64
إجتهادا منه ............................................................................................. 64
أصحابه استنكروا فعله ................................................................................ 64
تلبية رسول الله ..................................................................................... 65
وكان عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، يزيد فيها .............................................. 66
كان النبيّ لا يزيد على هذه الكلمات .............................................................. 66
هل استأذن الصحابة رسول الله في الزيادة ....................................................... 67
زيادات في العبادات ................................................................................... 68
موضع الشاهد ........................................................................................ 68
تنبيه على عدم الخروج عن الموضوع ............................................................. 68
السنة التقريرية ....................................................................................... 69
تعريف السنة عند الأصوليين ........................................................................ 69
السنة التقريرية ....................................................................................... 69
ثوابت ومتغيرات .....................................................................................70
خير الأمور أوسطها .................................................................................70
الثوابت الخالدة في العقائد ...........................................................................70
الله عز وجل .........................................................................................71
الملائكة ..............................................................................................71
كتب الله تعالى .......................................................................................71
رسل الله تعالى عليهم السلام .......................................................................71
اليوم الآخر .........................................................................................71
حقائق ثابتة .........................................................................................71
في العبادات ........................................................................................72
الأركان الأربعة ...................................................................................72
مسائل في أداء هذه الفرائض يحدثها التطور ....................................................72
التطور في تطبيق هذه العبادات ..................................................................72
جوهر العبادات لا يتغير ..........................................................................73
في القيم الأخلاقية .................................................................................73
علاقة الإنسان بغير ربه ..........................................................................73
أمهات الررذائل ...................................................................................73
هذه كلها ثابتة راسية كالجبال .....................................................................73
في الأحكام القطعية ................................................................................74
الوحدة الفكرية والشعورية والسلوكية .............................................................. 74
المتغيرات المتجددة ................................................................................. 74
تتغير الأحكام الثابتة بالإجتهاد ..................................................................... 74
تتغير الأحكام الثابتة بالنصوص الظنية ........................................................... 75
الميزان ميزان أهل مكة ........................................................................... 75
إذا جد موازين أو مكاييل أخرى وأيسر وأسهل .................................................. 75
نصاب الزكاة ....................................................................................... 76
أنتم أعلم بأمر دنياكم ............................................................................... 76
التوازن بين الثبات والتطور ...................................................................... 76
الإسلام دين الفطرة ............................................................................... 77
بالثبات والتطور يعيش المجتمع المسلم .......................................................... 77
الخطر كل الخطر في تغيير الموازين ........................................................... 77
أقوال العلماء في البدعة .......................................................................... 77
1 – الإمام الشافعي ، رحمه الله ................................................................. 77
2 – الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله .......................................................... 78
3 – سلطان العلماء ، العز بن عبد السلام ...................................................... 78
4 – الإمام القرافي ، المالكي ، رحمه الله ...................................................... 80
5 – الإمام النووي ، والإمام محمد الزرقاني .................................................. 81
6 – الإمام ابن بطال ، رحمه الله ............................................................... 82
7 – الحافظ ابن حجر العسقلاني ، رحمه الله .................................................. 82
8 – الإمام بدر العيني ، الحنفي ، رحمه الله ................................................... 82
9 – الإمام السيوطي ، رحمه الله ............................................................... 83
10 – الإمام القسطلاني ، رحمه الله ............................................................ 83
11 – الإمام السندي ، رحمه الله ................................................................ 84
12 – الحافظ ابن رجب الحنبلي ، رحمه الله ................................................... 84
13 – الشيخ إسماعيل الأنصاري ، رحمه الله .................................................. 84
المنطوق والمفهوم ................................................................................ 85
أصول الفقه ....................................................................................... 85
دلالة النص ....................................................................................... 85
مفهوم المخالفة .................................................................................... 86
ما ليس منه ........................................................................................ 87
إيراد في غير محله ............................................................................... 87
البدع المستحسنة لا أصل لها .................................................................... 88
الذين يقولون بالبدعة الحسنة أو المحمودة ...................................................... 88
هل يجري الاجتهاد في العبادات كما يجري في المعاملات ؟ ................................. 88
تعالوا إلى كلمة سواء ............................................................................ 91
المصالح المرسلة ................................................................................ 91
المصالح المعتبرة ................................................................................ 92
المصالح الملغاة .................................................................................. 92
المصالح المرسلة ................................................................................ 92
حجية الاستصلاح ( المصلحة المرسلة ) ...................................................... 93
وجود الخلاف في خير القرون ................................................................. 96
بل وجد الخلاف بين الملائكة والأنبياء ......................................................... 98
ديننا ؛ دين محبة ، واحترام ، واعتراف بالفضل .............................................. 100
علاقات الأكابر ، والصالحين ................................................................... 101
أما بعد ............................................................................................ 102
الفتوى تتغير....................................................................................... 102
الإحتفال بذكرى مولد النبيّ ...................................................................... 103
لو كان خيرا لفعله النبيّ ...................................................................... 103
عصرنا وعصرهم ................................................................................ 104
ليس لغير الله تعالى أن يشرع .................................................................... 104
مشاركتهم في الهدي الظاهر ..................................................................... 105
قيام المقتضى ..................................................................................... 106
كانوا مشغولين بالإسلام .......................................................................... 106
طبيعة عصرنا تقتضي التيسير ................................................................... 107
العلم الرخصة من ثقة ............................................................................. 107
ماذا يغيّر الإحتفال من الدين ...................................................................... 108
لماذا أحدثوا ؟ ..................................................................................... 108
لأن الظروف تغيرت ............................................................................. 109
الواجب شيء ، والواقع شيء ، ولكل زمان حكم ............................................... 109
جنايته على الدين أعظم .......................................................................... 110
إعتراضات ، لا دلالة فيها ....................................................................... 110
أول من أحدث الإحتفال بالمولد النبوي ...................................................... 110
الحكمة ضالة المؤمن ............................................................................. 111
هل معك من شعر أمية بن أبي صلت شيء ؟ .................................................. 112
أكملت لكم دينكم .................................................................................. 112
لقد تركتكم على مثل البيضاء .................................................................... 112
ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ............................................. 113
ختاما .............................................................................................. 113
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق