اصطلاح ( أهل السنة والجماعة ) او ( الفرقة الناجية ) لم يرد لا في كتاب ولا في سنة ! ، فكيف أصبح هو الفاصل بين الفرقة الناجية وغيرها ؟
- تختلف دلالة السنةِ في الاصطلاح، ففي اصطلاح أهل العقائد تطلقُ السنَّةُ على ما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم –وصحابته الكرام ، وهي بهذا الحدِّ مخرجةٌ للبدعة ، وليس ذلك مقتصراً على الجانب العقديِّ بل يتناول الجانب العمليَّ أيضاً ، فالسنة العملية تقابلها البدعة العملية ، والسنة العقدية تقابلها البدعة العقدية ، وقد عُرف هذا في العهد النبويّ .
تقصد مصطلح أهل السنة والجماعة ؟
- لا ، أقصدُ أنَّه كان معروفاً في العهدِ النبويِّ إطلاقُ مصطلح ( السنَّة ) في مقابل ( البدعة ) ، وقد ثبت في الحديث عن العرباض بن ساريةَ رضي الله عنه أنَّهُ قال : صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا فوعظنا موعظةً وَجِلت منها القلوبُ ، وذرفت منها العيونُ ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّعٍ فأوصنا ، قال : (أوصيكم بتقوى الله ، والسمع و الطاعة ، وإن أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ ، فإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم و محدثات الأمورِ ، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة) ، وهذا حديثٌ صحيح متناً وإسناداً ، وقد أتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ ( السنّة ) في مقابلِ لفظ ( البدعة ) ، وهذا يشمل الجانبين معا الجانب العقديَّ والجانب العمليَّ .
وهذا الجانبُ العمليُّ يخرجُ منه ما كان من بابِ العاداتِ والعقودِ والمعاملات بين الناس ، فهذه الأمور لا تسمى سنَّةً ولا تسمى بدعةً ، وما كان منها مباحاً أو مندوباً إليه كعقد النكاح أو عقد البيع لا يُسمى سنةً ولكن يُقالُ : هو جائزٌ ، ولو كانَ من فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ولا يستثنى من ذلك إلا مسألةٌ واحدةٌ هي مسألة الطلاقِ في حال الحيض أو في طهر قد مسَّ فيه الرجل زوجه فهذا يسمى ( الطّلاق البدعيَّ)، ويسمّى مقابلُه ( طلاق السنَّة ) وهو الطلاق مرةً واحدةً في طهر لم يمسَّها فيه ، وهذه المسألة الوحيدةُ من مسائل المعاملاتِ التي يدخلها وصفُ ( السنّة ) و ( البدعةِ ) ، أما ما سوى ذلك من مسائل البيوعِ والإجارات والأنكحة فلا يسمى شيءٌ منها سنَّةً ، ولا يسمّى ما يقابله بدعة . وفي مقابل هذا الاصطلاح للسنّة والبدعةِ نجد اصطلاحاً آخر في العقائد أضيقَ من هذا يُطلِقُ السنَّةَ على ما يقابل الشيعةَ ، دونَ ما يقابلُ غيرها من البدعِ ، وهذا الاصطلاح هو الشائع اليوم في وسائل الإعلام وطروحات الناس ، فيقولون فلانٌ سنيٌّ وقد يكون ظاهرُ حالِهِ لا يدلُّ على التزامِ سنّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ويقولون في المقابل : فلانٌ شيعيٌّ ، فالمقصود بذلك الانتساب إلى الطائفة .
مصطلح الجماعة
فهمنا الآن أنَّ لفظَ السنةِ كاصطلاحٍ موجودٌ بهذه المعاني التي تفضلتم بعرضها ، فماذا عن مصطلح الجماعة ؟
- الجماعةُ في اللغة تُطلق على الجَمْعِ من الناس ، ولفظ الجماعة بمفهومه اليوم لم يعرف إلا في عهد سيدنا عثمان – رضي الله عنه – عندما خرج عليه الخوارج ظلماً وعدواناً وقتلوه في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فأصبح جمهور المسلمين وسوادُهم الأعظم مع الخليفة فسُمُّوا جماعةً .
والجماعةُ بهذا المعنى الاصطلاحيِّ لم يرد فيها شئٌ من الحديث النبوي الشريف . نعم ، ورد لفظ الجماعة في الحديث النبوي ولكن ليس بهذا المعنى الاصطلاحي .
وهذا الإطلاق الآن لمصطلح ( الجماعة) لم يعد وارداً ، وكثيرٌ من الناس تعوّدوا على إطلاق (السنّة) مع (الجماعة) ، وظنوا أنّ ( السنَّة والجماعة ) مصطلح واحد يطلق على الناجين ، فتسمع بعض العوام في الحرم يسألون الله أن يموتوا على السنة والجماعة ! والموتُ على الجماعة معناه الموتُ على رؤوس الناس !! وليس لدعائهم هذا وجه ، والإنسان يسأل الله أن يموت على الشهادة أو على الإسلام أو على الملة والسنة ، أما لفظ (الجماعة) بمعناه الاصطلاحيّ فبعيدٌ جداً عن زماننا وواقعنا.
وبيانُ ذلك أنّ ( الجماعةَ ) كما أسلفنا تطلقُ على السواد الأعظم من المسلمين الملتزمين بالسنة النبويّةِ المنضوين تحتَ رايةِ الخليفةِ . وقد عُدِمَ الخليفةُ الجامع اليوم ، كما أنّ من كان من المسلمين ملتزماً بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يزد عليه شيئاً هم أقلّ المسلمين ، وليسوا أكثريّةً ، أي : ليسوا السوادَ الأعظم .
مسألةُ السواد الأعظم هذه تثيرُ إشكالاً أرجو منكم توضيحه . لقد وردت الآثار الكثيرة بغربة هذا الدين وغربة أهل الحقّ مما يقتضي قلّتهم ، ووردت في المقابل آثارٌ تشيرُ إلى أنَّ أهل الحق هم السواد الأعظم في الأمة ! فكيف نوفّقُ بين كونهم السواد الأعظم وأنهم هم الغرباء ؟
- لا يلزمُ أن يكونَ أهلُ الحقّ في كل عصرٍ السوادَ الأعظمَ ، فقد يكونون كذلك في زمانٍ دونَ زمانٍ، والحديث الذي رواه ابن ماجه ولفظُهُ : ( عليكم بالسواد الأعظم ) حديث ضعيف ، ولم يرد شيءٌ صحيحٌ يفيد لزوم السواد الأعظم ؛ لأنَّ السواد الأعظم في زمانِهِ صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من المسلمين ، بل لم يكن هناك مسلمون أصلاً ، فكان هو صلى الله عليه وسلم السوادَ الأعظمَ .
وكذلك في آخر الزمان كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الإسلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء » .
هل ينبني على هذا أنَّ أهل السنة والجماعة الآن هم القلة القليلة النادرةُ وعامة الناس يخرجون عن ذلك الوصف ؟
- لا ، لا يقصد هذا ، ولكن يقصد أنَّ من كان ناجياً ملازما للحقِّ ، ملازماً للمعصوم من الوحي المنزَّل ، لم يزد على ذلك هم قلةٌ في كل عصرٍ إلا أنّهم كثروا في الصدر الأول عندما فتح الصحابة – رضوان الله عليهم – الأمصار وربوا الناس ، وليس معنى ذلك أنَّ كلَّ أهل ذلك الجيلِ على تلك الصفةِ الشريفة ، فقد ظهرت في عهد الصحابةِ أمورٌ منكرةٌ فأنكروها وخالفوا أهلها ، بل قد ظهر من بعض الصحابة – رضوان الله عليهم – شيءٌ من المنكرات التي فيها حدود من حدود الله ، وأقام الصحابة الحدود على بعض الأفراد الذين حصل منهم ذلك .
يقول الله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ) [ الحج: 78 ] ، وقال الإمام مالك رحمه الله تعليقاً على هذه الآية : “ أهلُ الإسلام ليس لهم اسم سوى الإسلام وكفى .
فنحن عندما نضيف إلى وصف الإسلام وصف أهل السنّة والجماعة تشريفاً وتمييزاً في اللقب والاصطفاء ألا يكون هذا زيادة عما أمر الله به؟
- لا ، لأنه ليس تميزاً واصطفاء إذ هو لا يعني أنهم وحدهم أهل الإسلام ، وإنما هو تمييز عن المذاهب الأخرى ففي الإسلام كثيرٌ من المذاهب ، وهى ليس محكوماً عليها جميعاً بالنار ، بل حتى المعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم فيهم من هو ناجٍ معذور ، لذلك فإطلاق لقب أهل السنة على طائفة بعينها ليس احتكاراً للحق ولا حصراً للجنة ، فقولنا فلان من أهل السنة ليس معناه أنه من أهل الجنة ، وإذا قلنا فلان ليس من أهل السنة فليس معناه أنّه من أهل النار ، ولا بدّ من فهم هذا .
لكنَّ الوارد في حديث الافتراق : ( كلها في النار إلا واحدة ) ؟
- بالنسبة لهذه الزيادة في الحديث (كلّها في النار إلا واحدة ) والزيادة الأخرى ( كلّها في الجنة إلا واحدة ) ما أظنها تصحّ ، لأنَّ الحديث له طرقٌ كثيرةٌ ، وقد صحح كثيرٌ من أهل العلم الحديث بمجموع هذه الطرق ، فجعلوا الحديث صحيحاً لغيره ، وبعضهم جعله حسناً لغيره بأصله ، والزيادات لا يمكن أن يحصل لها هذا ، لأنّ حكم التصحيح للغير يقع فيما تكرر في كل روايةٍ ، فالطرف المتكرر في كل روايةٍ هو الذي يمكن أن يصحح فيكون صحيحاً لغيره ، أما ما أفردت فيه الزيادة فلا يدخل في الصحة ، ولذلك نقول : إنّ أصل الحديث وهو ثبوت الافتراق صحيح ، والزيادات كلها تترك .
جرّنا الكلام إلى هذا الحديث الشريف .. حديث الافتراقِ ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) ، وكما تفضلتم ورد في روايات معاوية وأنس رضي الله عنهما زيادة : ( كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ) ، وفي رواية عبد الله بن عمرو : ( كلها في النار إلا واحدة قيل: ما هي؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
نسيتُ التعليق على رواية : ( كلُّها في الجنة إلا واحدة ) ، هذه الرواية موضوعة . وبذلك يتبيّن لنا أنّ أصل الحديث صحيحٌ ، وكل الزيادات إما موضوعة أو ضعيفة ، فالزيادات التي تقول : ( كلها في الجنة إلا واحدة ) موضوعة على الراجح ، والزيادات التي تقول : (كلها في النار إلا واحدة) ضعيفة، وأما الإخبار بالافتراق فهو أصل يقوى بالشواهد ، وليس هناك رواية واحدةٌ يعتمد عليها .
الأسوأ في الافتراق
مع هذا الأصل الثابت كما تفضّلتم ، كيف يمكن أن نتصور أنَّ هذه الأمة المحمدية التي هي أمة مرحومة ومفضلة على سائر الأمم والتي هي شطر أهل الجنة ، كيف يمكن أن نتصور أن تكون أسوأ من اليهود والنصارى في الافتراق ؟
- الافتراق ليس عيباً هنا ، والإخبارُ بافتراق اليهود إذا كان هذا قبل نسخ ملتهم ليس عيباً ، ومثل ذلك النصارى .
وأمّا هذه الأمة فقد شرَّفها الله ، وأثنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عليها بأفضل الثناء ، ودلَّت النصوص على أنها ستكون أكبر الأمم كما ثبت في صحيح البخاري عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) ، ومثل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قوله : خرج علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوما فقال : ( عرضت علي الأمم، فجعل يمرُّ النبيُّ معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فرجوت أن يكون أمتي، فقيل : هذا موسى وقومه، ثم قيل لي : انظر، فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل : هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب) .
وقد نَصَّتْ تلك الأحاديث على الافتراق وحصول الخلاف لأن المواضع المحسومةَ بالنصوص على وجهٍ لا يقبل الخلاف قليلةٌ جدا ً ، وما سوى ذلك يرجع فيه إلى الاستنباط والاجتهاد ، وقد قال الله عز وجل : (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) [ النساء : 83 ] ، ومن المعلوم أن عقول الناس متفاوتةٌ ، وأن مداركهم متفاوتة ، فإذا أحيلَ إلى عقولهم واستنباطهم دل ذلك على إمكانية الخلاف.
دخول النار
إذا قلنا بصحة زيادة ( كلها في النار إلا واحدة ) ، فهل يقتضي هذا كفرها ؟
- أنا لا أقولُ بصحة هذه الزيادة ، أما دخول النار فليس ملازماً للكفر دائماً ، فسيدخل النار عدد من المسلمين وهم الجهنميون .
طيّب ، مرة أخرى على القول بصحة الزيادة .. هل تقتضي أنّ هذه الفرق في النار قطعاً ؟
- لا ، فبالنسبة لأحاديث الوعد والوعيد كلّها مقيدة وكذلك آيات الوعد والوعيد كلها مقيدة ، فمثلا حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة ) فيه وعدٌ مطلقٌ ، وهو محمولٌ على التقييد ، وقد قيل للحسن البصري: إنّ ناسا ًيقولون : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قالها وأدى حقها وفرضها ، وهذه القاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبيَّنَ أنَّ جميع آيات وأحاديث الوعد والوعيد مقيدة ، فأحاديث الوعيد كلها مقيدة بالتوبة أو بعمل آخر مكفرٍ ، ومكفرات الذنوب كثيرة جداً ورد فيها الكثير من النصوص ، وأحاديث الوعد كلها مقيدة أيضا بأن يموت الإنسان على الإسلام وأن يؤدي الفرائض وأن يجتنب المحرمات .
هل مسألة التفرق المذكورة في الحديث محمولة على الجانب العقدي فقط ؟
- لا ، الذي أفهمه أنا من الحديث أنه يدلّ على الكثرة ، فاليهود والنصارى أكثر الأمم السابقة ونحن أكثر منهم ، ولا شيء أكثر من هذا.
البغدادي لم يوفق
معنى هذا أنَّ اشتغالَ البغدادي رحمه الله وغيره بتعداد هذه الفرق لم يكن موفقاً ؟!
- نعم ، لم يكن موفقاً .
هذه الألقاب مثل أهل السنة والجماعة وكذلك الألقاب المرادفة مثل أهل الحديث والأثريين وما أشبهها ، هل يمكن تعليق النجاة والهلاك بها وهي ألفاظ لم تكن واردة في النصوص الشرعية ؟
- لا يمكن ذلك ، لأن هذه الاصطلاحات راجعة إلى الصَّنعة والعمل ، فمن كان مختصاً في الحديث قيل عنه : فلان من المحدثين أو من أهل الحديث ، لذلك من كان من أهل الحديث صنعةً فهو من أهل الحديث ، ولا يستقيم ما انتشر الآن من نسبة شخص إلى الأثرِ فيقالُ : فلان الأثريُّ وهو لا يحفظ أثراً بإسناده إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فمثل هذه النسبة وهذا اللقب لا يصح أن يطلق إلا على أهله ، كما أنّه لا يصلح أن يطلق لقب الطبيب أو المهندس إلا على أهله .
ما تقول في قول الإمام أحمد رحمه الله بأنَّ الطائفة المنصورة هم أهل الحديث فقط ؟
- الإمام أحمد رحمه الله يقصد بذلك أهل زمانه فقط ، ويقصد بهم أهل صنعة الحديث الذين كانوا إذ ذاك السواد الأعظم من المسلمين ، والمشتغلون بالحديث في زمان الإمام أحمد رحمه الله هم جمهور علماء أهل السنة .
قضية البعد الزماني
ألا يفهم من كلامه إخراج الفقهاء وغيرهم من الطائفة المنصورة ؟
- لا ، فالفقهاء كلهم من أهل صنعة الحديث ، ونحن الذين بُلِينا بالتفريق بين الحديث والفقه ، ففي زمان الإمام أحمد إذا بحثت في ترجمة أي فقيه فستجده في الأصل محدثاً.. وهذا الأمر اجتهادي ؛ لأنّه مصطلح حادثٌ ولا يمكن أن تحمل عليه النصوص ، الإمام مالك رحمه الله تكلم في البدع التي كانت في زمانه ، ثم جاء الإمام أحمد رحمه الله فتكلم في البدع التي كانت في زمانه .
ولكن في أيام مالك كان من يقول بالقدرية يبدَّع ويكفر ، وكذلك في أيام الإمام أحمد كان من يقول بخلق القرآن يكفَّر؟
- لقد بحث شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في الجزء ( 28 ) من الفتاوى ، وذكر أن محمد بن نصر الخزاعي لم ير التكفير مع أنَّه كان من أصحاب السيف ، وأنَّ الخطابي رحمه الله ذكر أنَّ الذين ذكروا التكفير إنما قصدوا التغليظَ فقط ، وكأنَّ شيخ الإسلام يميل إلى هذا ، أي : إلى كون التكفير هنا يقصد به الإنكار الشديد على من يقوم بهذا الفعل ، حتى إنَّ ابن قدامة قال في الذين قالوا بخلق القرآن : “ لا يُكَفَّرُ داعيتهم المجتهدُ “، لأن الإمام أحمد رحمه الله كان يدعو للمأمون ويقول : لو كان لي دعوة صالحة واحدة لجعلتها للخليفة . والمأمون قطعاً مجتهد ليس جاهلاً ولا معذوراً وقطعاً قال بخلق القرآن ، ولكن لا يكفره أحد من علماء المسلمين ، فلم يرد أنَّ أحداً كفَّرَ المأمون من علماء المسلمين ، نعم قد كفروا من دونه مثل بشر المريسيّ ، وأحمد ابن أبي داود بأقوال أخرى وأيضا بهذه الأقوال من باب التغليظ والنكارة ، ولذلك قال الإمام الذهبي رحمه الله في نهاية ترجمة بشر في كتاب سير أعلام النبلاء : أبى الله أن يكون من قال لا إله إلا الله وشهد بأنَّ محمداً رسول الله ، وصلى الخمس ، وحج ، وصام ، وأدى الزكاة كمن لم يفعل شيئاً من ذلك ونعوذ بالله من البدعة وأهلها .
شيخنا الفاضل ، الجانبُ الأخلاقي في تعريف أهل السنة غائب كثيراً عن السجالاتِ المعاصرة فما تعليقكم على هذا؟
- هذه القضية كمن يقول : أنا على منهج السلف ، وهو على مذهب السلف في الاعتقاد فقط ، ولكنّك إذا ذهبت ونظرت إلى عمله وإلى قيام الليل وصيام النفل والجهاد وجدته على غير ذلك .
هل يستحق مثل هذا لقب ( أهل السنة ) ؟
- لا ، لا يستحق إلا في الجانب الذي هو متحقق فيه فعلاً .
الكل قابل للتفكيك
وهل يمكنُ أن يفكك لقب أهل السنة ويتجزأ؟
- نعم فكل الألقاب قابلةٌ للتفكيك .
هذا معناه أن الناس كلهم ممكن أن يكونوا من أهل السنة باعتبار ما ؟
- نعم ، فكما أنَّ الإسلام والإيمان يزيدانِ وينقصانِ بحيث يمكنُ أن يكون الشخص يوما في أعلى مراتب الإسلام وتارة دون ذلك ، فكذلك أهل السنة مستويات ، والمنتسبون إلى السنةِ متفاوتون في التحقق بها كتفاوت أهل الإيمان في الإيمان .
كيف يستقيم هذا مع كون أهل السنة هم الفرقة الناجية ؟
- النّجاة أمر غيبيٌّ أخرويٌّ ليس لنا نحن أن نفصلَ القولَ فيه ، فلا يمكنُ أن نحكمَ لأحدٍ بجنة ولا بنارٍ إلا من ورد الوحي فيه ، ومن عرفنا أنَّه مات قطعاً على الكفر ، ولذلك فلا يصح أن يزكِّيَ أحدٌ نفسه ويقولَ : إنه ناجٍ أو إنَّه من المتقين ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) [ النجم : 32 ] ، وكذلك نعلم أنَّ كلَّ أهل الإيمان يرجى لهم فضل الله ويخاف عليهم من عذابه تعالى .
إذاً فالحكم على الطائفة المنصورة والناجية يأتي من هذا الباب ؟
- لا ، هناك فرق بين الطائفة المنصورة والطائفة الناجية ، الطائفة المنصورة بحسب الظاهر يكونُ نصرُها في الدنيا ، وقد ضمن الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – وجود فرقة منصورة دائماً لا يضرها من خالفها ، كما ثبت في صحيح البخاري أنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كان يَخْطُبُ فقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ) . فهؤلاء منصورون ولكن نصرهم ليس راجعاً إلى أنفسهم وإنّما لحمايتهم لبيضة الإسلام ، ودفاعهم عنه ، فينصرون بذلك .
وهل يمكن أن يكونوا منصورين غيرَ ناجين؟
- يمكن أن يكون بعضهم معذَّباً ، فالله ينصر الدين بالرجل الفاسد .
وهل يمكن أن تكون الفرقةُ ناجيةً غير منصورةٍ؟
- نعم ، يمكن أن يكون الشخصُ ناجياً غير منصور ، فالإنسان النّاجي له إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة ، وقد لا يكون أصلاً مجاهداً . والنصرُ إنّما يأتي مع الصبر وفي الحديث : ( واعلم أن النصر مع الصبر) . فمن لم يمتحن أصلاً ولم يصبر كيف نحكم عليه بأنه منصور ؟ فالنصر لا يكون إلا مع الصبر والامتحان ، والنجاة يمكن أن تكون من دون هذا .
أفهم مما سبقَ أنَّه يسوغ لنا أن نحكم على طائفةٍ ما بأنّها منصورةٌ ، ولا يسوغ لنا أن نحكم على طائفةٍ بأنها ناجية ؟
- الحكم بنجاةٍ طائفةٍ مّا هو في علم الله ، ولا نحكم بذلك ، إلا فيمن قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - فيهم ذلك كأهل بدر وأصحاب بيعة الرضوان ، وأما من جاء بعدهم فنرجو لهم ونخـاف عليهم جميعاً .
وهل الحكم بالضلال والهدى يدخل تحت هذا الباب ؟
- لا ، لأنَّ الحكم بالضلال والهدى يكون بحسب الظاهر ، فهو حكم قضائي ، فإذا عرف أن ظاهر فلان يقتضي الجرحَ فلك أن تحكم عليه بالجرح ، وكذلك إذا عرفت أنَّ فلاناً ظاهره العدالة فلك أن تحكم عليه بذلك ، والبواطن نكلها إلى الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق