بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد كتبت بحثاً مطولاً في حكم الغناء والموسيقى وناقشت فيه الأدلة الشرعية بالتفصيل وخلصت إلى قوة أدلة المبيحين للغناء والموسيقى ما لم يقترن معهما منكر ومحرم من قول أو فعل .وكنت أعددت ملخصاً لمحتوى الكتاب وذلك لتبسيط وتسهيل الوصول لنتيجة البحث من غير الخوض في تفاصيله . ثم رأيت مناظرة للإمام اابن القيم عقدها في كتابه الكلام على مسألة السماع, وهي مناظرة افتراضية بين طرفين أحدهما يبيح السماع والآخر ينهى عنه . وقد وقف ابن القيم مع الجانب المحرم وأخذ يناظر ويرد على الجانب المبيح .
ورأيتها حسنة في الاقناع وإيصال العلم بطريقة سهلة وشيقة, فعزمت على خوض مثلها ههنا إلا أني وقفت مع الجانب المبيح ورددت على الجانب المحرم, فأعددت هذهالمناظرة وضمنتها خلاصة البحث وكذلك ناقشت فيها بعض تخوفات من يمنع الغناء وينهىعنه . وأسأل الله أن ييسر لي طبع الكتاب كاملاً ونشره والله المستعان .
والمناظرة بين اثنين من طلبة العلم إخوان وأصدقاء اختلفوا في حكم الغناء والموسيقى ولم يمنعهم هذا الاختلاف من الود والاحترام وقبول الآخر والله الموفقوالمستعان .
قال المحرم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال المبيح: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قال المحرم: يا أخي سمعت أنك تبيح الغناء وإن صحبه الموسيقى فهل هذا صحيحعنك ؟
قال المبيح: نعم يا أخي هو صحيح
قال المحرم: وكيف تقول ذلك والأدلة من القرآن والسنة تحرم الغناء وتنهى عنه؟
قال المبيح: يا أخي لو صحت الأدلة من القرآن والسنة على تحريم الغناء أتراني أخالف حكم الله وحكم رسوله؟ معاذ الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلامُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُالْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ولكني بحثت فيأدلة القرآن والسنة فلم أجد نصاً صريحاً صحيحاً في تحريم الغناء أو الموسيقى,ولذلك قلت بالاباحة .
قال المحرم: ليس هناك دليلاً واحداً بل مجموعة من الأدلة والنصوص الصحيحةوالصريحة بارك الله فيك .
قال المبيح: ائتني بهذه الأدلة ننظر فيها واحداً بعد الآخر. ولنبدأ بالأدلةمن كتاب الله تعالى, تفضل .
قال المحرم: أول دليل من كتاب الله تعالى ما قاله رب العالمين سبحانهمخاطباً الشيطان يذمه ويذم طرقه في اغواء البشر قال (وَاسْتَفْزِزْ مَنِاسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) وصوت الشيطان الذي يغوي به البشر هو الغناء,فالغناء صوت الشيطان في غواية الناس وإضلالهم.
قال المبيح: عفواً يا أخي هل قال رب العالمين أن صوت الشيطان المذموم هناهو الغناء ؟
قال المحرم: لا
قال المبيح: فإذا لم يخبرنا الله بأن الغناء هو صوت الشيطان فكيف ادعيت أنتأنه المراد هنا ؟
قال المحرم: من التفسير
قال المبيح: وهل هذا التفسير ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصحأن تحتج به ويكون دليلاً ؟
قال المحرم: لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه تفسير السلف,قال مجاهد بصوتك: باللهو والغناء .
قال المبيح: وهل تفسير مجاهد حجة ودليل ؟
قال المحرم: لا ولكنه تفسير السلف وهو بلا شك أصح من غيره .
قال المبيح: أخطأت بارك الله فيك, فتفسير مجاهد ليس هو تفسير السلف فحسب,فقد صح عن قتادة قال: بصوتك أي بدعائك. وصح عن ابن عباس وهو الصحابي الجليل وشيخالمفسرين قال: صَوْتُهُ كُلُّ دَاعٍ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فلماذا أخذتبقول مجاهد وتركت قول غيره من الصحابة والتابعين ؟!
مع أن تفسير ابن عباس هنا هو التفسير المنطقي السليم الشامل لكل صوت يصد عنسبيل الله, وهو يشمل تفسير مجاهد وغيره .
فكل صوت يدعو إلى سبيل الشيطان من غناء أو موسيقى أو شعر أو نثر أو غير ذلكفهو صوت شيطان , فلو ألقى أحدهم خطبة يصد فيها عن طاعة الله أو يدعو إلى معصيةالله فهي صوت شيطان, ولو ألقى قصيدة شعر يحض فيها الناس على ارتكاب المعاصي فهيصوت شيطان, كذلك لو استخدم الغناء أو الموسيقى في التشجيع على معصية الله فهي كذلك, وليس معنى هذا أن الخطبة أو الشعر أو الغناء حرام على العموم, بل هي وسائل الحكمفيها بحسب الاستخدام . فالآية ليست دليلاً بارك الله فيك .
قال المحرم: هناك آية في كتاب الله أوضح وأقوى في تحريم الغناء .
قال المبيح: وما هي ؟
قال المحرم: قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِلِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) فتوعد الله من يشتري لهو الحديث وهو الغناءبالعذاب المهين وهذا صريح في التحريم .
قال المبيح: هل قال الله تعالى أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم أن لهوالحديث هو الغناء ؟
قال المحرم: لا ولكنه تفسير السلف .
قال المبيح: أخطأت للمرة الثانية, فالحجة في كلام الله وكلام رسوله وليس فيتفسير بعض السلف. ثم إنك لو راجعت تفسير الطبري لوجدت أن السلف اختلفوا في تفسيرالآية فبعضهم فسرها بالغناء وبعضهم فسرها بالشرك أو الحديث الباطل الذي يخوض فيهالمشركون. فقولك تفسير السلف خطأ لأنهم لم يتفقوا عليه فليس بحجة .
قال المحرم: الأمر يختلف ههنا فالكلام ليس في تفسير بعض السلف وإنما الحجةفي تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل وأقسم على أن لهو الحديث هو الغناء .
قال المبيح: لعلك تقصد ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
قال المحرم: بالضبط فإنه قال: الغناء والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاثمرات .
قال المبيح: وهل صح هذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه .
قال المحرم: نعم صح عنه ذلك كما قاله غير واحد من أهل العلم وصححه الامامالألباني رحمه الله .
قال المبيح: هل قمت أنت بتحقيق الأثر بعناية فإنك من طلبة العلم .
قال المحرم: الحقيقة أنا في هذا تبع لما قاله الأئمة في تصحيحه .
قال المبيح: يا أخي لو حققته بنفسك لوجدت في هذا الأثر ثلاث علل وليست علةواحدة فكيف يصح هذا ؟!
قال المحرم: ثلاث علل ! وكيف ذاك ؟
قال المبيح: هذا الأثر لا يُروى إلا من طريق واحد فحسب وهي رواية أبي صخرحميد الخراط عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمععبد الله بن مسعود وهو يُسأل عن هذه الآية " ومن الناس من يشتري لهو الحديثليضل عن سبيل الله بغير علم" فقال عبد الله: الغناء والذي لا إله إلا هو،يرددها ثلاث مرات . وحميد الخراط صدوق يهم ليس بعمدة إذا تفرد وانظر ما قاله ابنحجر في التقريب والذهبي في اختصار السنن الكبير, هذه واحدة والثانية أن أبا معاويةالبجلي وهو عمار الدُّهني لم يسمع من سعيد بن جبير فهو منقطع .
والثالثة أبو الصهباء البكري وهو يصلح في الشواهد والمتابعات ولا يصلح فيالاحتجاج به لاسيما إذا تفرد كما ههنا وقال ابن حجر في التقريب: مقبول. فهذه ثلاثعلل الواحدة منهن كافية في تضعيف الأثر, كيف وقد اجتمعن ؟!
المحرم: قولك أن أبا معاوية الدُّهني لم يسمع من سعيد بن جبير غير صحيح فقدأثبت سماعه من سعيد بن جبير البخاري وابن حبان وهما من الأعلام في هذا الشان .
قال المبيح: يا أخي أنت من طلاب علم الحديث وتعلم جيداً أن الجرح المفسرمقدم على التعديل المجمل, وأن من علم حجة على من لم يعلم. وأي تفسير وبيان أعظم منشهادة المرء على نفسه بعدم السماع ؟!
فقد قال عبد الله بن أحمد في روايته للعلل : حَدثنِي عبيد الله بن عمر القواريريقَالَ سَمِعت أَبَا بكر بن عَيَّاش يَقُول مر بِي عمار الدُّهني فدعوته فَقلت لَهُيَا عمار تعال فجَاء فَقلت لَهُ سَمِعت من سعيد بن جُبَير شَيْئا قَالَ لَا قلتاذْهَبْ .
وهذه رواية ثابتة صحيحة الاسناد وفيها شهادة عمار على نفسه أنه لم يسمعشيئا من سعيد بن جبير. وقد اعتمدها الامام أحمد كما قال العلائي في جامع التحصيل (ص241), كذلك اعتمدها الذهبي في الميزان (3/172) والعقيلي في الضعفاء (3/323) .
وهي دليل مفسر نجزم به على عدم اتصال الرواية بين الدُّهني وسعيد بن جبيرفهي منقطعة, فالأثر عن ابن مسعود غريب ضعيف لا يصح .
قال المحرم: هل تعلم أحداً من أهل العلم ضعَّف هذا الأثر قبلك ؟
قال المبيح: نعم فالأثر ضعفه الحافظ محمد بن طاهر المقدسي في كتابه السماع (ص73) , والحافظ الذهبي في اختصاره لسنن البيهقي (8/4237) , وكذلك ضعفه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/91) ومال هناك إلى أن البخاري رمز بضعفه أيضاً .
قال المحرم: لم يأت هذا التفسير عنابن مسعود فقط, بل جاء كذلك عن ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن .
قال المبيح: نعم جاء عن ابن عباس قال: الغناء وأشباهه. وهو حسن بشواهدهوليس فيه هذا القَسَم المؤكد الذي جزم به ابن مسعود ثم إنه لم يقل الغناء وحسب, بلقال الغناء وأشباهه وهو تفسير يشمل الغناء وغيره من وسائل لهو الحديث وبه قالالطبري: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعهأو رسوله .
لكن يا أخي بارك الله فيك هل الآيةتذم لهو الحديث باطلاق أو أنها تذم من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله؟ أليسهذا منطوق الآية وما نصت عليه ؟
قال المحرم: نعم هذا منطوق الآية .
قال المبيح: إذن ليس في الآية دلالة على تحريم لهو الحديث كالغناء وغيره,بل الآية واضحة الدلالة في الذم والوعيد لمن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللهولا يعني هذا تحريم لهو الحديث باطلاق ولذلك قال الامام الذهبي: الاحتجاج بالآيةعجيب أن لو كان لهو الحديث الغناء فإن الذم وقع على مشتريه ليضل عن سبيل الله ولاريب أن من فعل الطاعات ليضل فقد أثم , فهنا في الحكم وصف يجب اعتباره .ه (الرخصة في الغناء للذهبي ص150)
وقال الشوكاني في فتح القدير (4/270): وَاللَّامُ فِي لِيُضِلَّعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ:«لِيُضِلَّ» أَيْ: لِيُضِلَّ غَيْرَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى وَمَنْهَجِ الْحَقِّوَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ فِي نَفْسِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍوَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَوَرْشٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَبِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: لِيَضِلَّ هُوَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْقَرَأَ بِضَمِّ الْيَاءِ فَمَعْنَاهُ لِيُضِلَّ غَيْرَهُ فَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُفَقَدْ ضَلَّ هُوَ وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَمَعْنَاهُ لِيَصِيرَأَمْرُهُ إِلَى الضَّلَالِ وَهُوَ إن لم يكن يشتري الضلالة فَإِنَّهُ يَصِيرُأَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ أَنَّهُ إِنَّمَايَسْتَحِقُّ الذَّمَّ مَنِ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِهَذَا الْمَقْصِدِ،وَيُؤَيِّدُ هَذَا سَبَبُ نزول الآية . ه
قال المحرم: هناك آيات أخرى يمكن الاستدلال بها على تحريم الغناء
قال المبيح: يا أخي الكريم: الآيات التي ذكرتها والآيات التي تريد أنتذكرها ليس فيها نص صريح يحرم الغناء أو الموسيقى وإنما هي آيات من القرآن الكريمفيها ذكر صوت الشيطان أو لهو الحديث أو السمود أو شهادة ومشاهدة الزور ونحو ذلك,ثم يوردون الآثار عن بعض الصحابة والتابعين في أن المراد بصوت الشيطان ولهو الحديثوهذه الألفاظ القرآنية الشريفة هو الغناء .
وطريقة الاستدلال هذه لا تصح لأمور :
حاصل ما احتج به من يمنع الغناء هو أدلة من التفسير وليس من نص القرآنالكريم والفرق بينهما كبير .
تفسير هذه الآيات لم يرد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى يكون حجةملزمة ودليلاً لا يجوز مخالفته .
تفسير هذه الآيات وقع فيه الاختلاف بين السلف, فمِن قائل بالغناء ومِن قائلبغير ذلك , فالأمر ليس إجماعاً ملزماً يُحتج به .
ثم إنه وعلى صحة تفسير صوت الشيطان أو لهو الحديث بالغناء فالآيات تتحدثعمن يستخدم هذه الوسائل في الاضلال عن سبيل الله تعالى ودعوة الناس إلى ارتكابالمعاصي . أما من يستمع الغناء للتسلية والترفيه وغير ذلك من الأمور المباحة لاليضل عن سبيل الله فلا يدخل في الوعيد ولا يشمله ذم الآيات لمن يفعله, كما قالهكثير من أهل العلم كالشوكاني وابن حزم وأبي حامد الغزالي والذهبي وغيرهم
قال المحرم: لو سلمنا أنه لا يوجد نص في القرآن الكريم يحرم الغناء ففيالسنة نصوص كثيرة وصريحة في التحريم فهل ترفضها وتقول لا أقبل إلا ما ورد في كتابالله فهو حسبنا وكفى ؟!
قال المبيح: معاذ الله أن أرفض حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليهوسلم والله تعالى يقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَىاللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)ويقول سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)ولكن ابتداءً وما أريد تقريره هنا أن ليس في كتاب الله تعالى دليل على تحريمالغناء أو الموسيقى.
قال المحرم: لو سلمنا أنه لا يوجد نص في القرآن الكريم يحرم الغناء ففي السنة نصوص كثيرة وصريحة في التحريم فهل ترفضها وتقول لا أقبل إلا ما ورد في كتاب الله فهو حسبنا وكفى ؟!
قال المبيح: معاذ الله أن أرفض حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ويقول سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ولكن أين هي هذه الأحاديث الصحيحة وقد بحثت عامتها ولا تسلم من الضعف في أسانيدها كما قاله بعض الأئمة من السلف والخلف كابن حزم والحافظ محمد بن طاهر المقدسي والفاكهاني وغيرهم .
قال المحرم: أخطأت يا أخي فهناك حديث المعازف في صحيح البخاري وهو وإن كان بصيغة التعليق لكنه موصول صحيح الاسناد كما قاله جمع مبارك من العلماء والحفاظ, وقد وسّع الحافظ ابن حجر في فتح الباري في بحث هذا الحديث واثبات صحته, كذلك الامام الألباني في تحريم آلات الطرب فراجعهما إن شئت .
قال المبيح: بارك الله فيك قد اطلعت على تحقيقات أهل العلم في المسألة ونعم أنت محق فالحديث الذي ذكرته الراجح فيه أنه صحيح وهو موجود في صحيح البخاري, ولكني لا أرى فيه دلالة صريحة على تحريم الموسيقى .
قال المحرم: كيف ذلك والنص صريح في ذم المعازف؟ وليس من الصواب أن تتأول وتقول ليس المراد بالمعازف آلات الموسيقى فهذا وفقك الله من تحريف الكلم عن مواضعه .
قال المبيح: جزاك الله خيراً على هذه النصيحة ومعك حق فالمعازف المذكورة في الحديث هي آلات اللهو كما نص عليه أئمة اللغة والحديث, وهو المتبادر إلى الذهن والمفهوم من سياق الحديث ولاشك. ولكن اقرأ معي الحديث بنصه كاملاً وفقك الله:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة . ه
انظر بارك الله فيك إلى هذه العقوبة الشديدة, فقد خسف الله بقوم ومسخ آخرين قردة وخنازير. وسؤالي لك مَن هؤلاء الذين استحقوا هذه العقوبة؟ هل هم فقط من يستمعون الغناء والمعازف ؟
قال المحرم: كلا, بل كما جاء في الحديث يستحلون الخمر والزنا ولبس الحرير والمعازف. فهم الذين اجتمعوا على فعل كل هذه الأمور بلا شك .
قال المبيح: أحسنت بارك الله فيك, فالوعيد والعقوبة في الحديث على من استحل هذه الصورة المنكرة لا من استمع للمعازف منفردة فلماذا تقول بأن الحديث يدل على تحريم المعازف في غير هذه الصورة وسياق الحديث لا يدل عليه ؟
قال السيد محمد رشيد رضا: المعازف المنصوص عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث . (ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها. وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة إذ ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما . ه (مجلة المنار17/181)
فقوله (يستحلون) هي على هذه الصورة مجتمعة بدلالة سياق الحديث والعقوبة المترتبة فيه على هذه المذكورات مجتمعة وليست على بعض أفرادها .
فالمعازف في هذا الحديث غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود غيرها وهو شرب الخمر والفسوق ولذلك بوّب الامام البخاري على هذا الحديث فقال : بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. وذلك لأنه هو المقصود ابتداءً وجاءت معه المعازف بالتبع فأخذت حكم المتبوع وليس ذلك حكمها إذا استقلت بذاتها. والوسائل لها أحكام المقاصد, ويثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً كما هو معروف في قواعد الفقه وأصوله .
ولا يصح بحال تنزيل هذه العقوبة المغلظة فيمن يلبس الحرير مثلاً باعتباره أحد المذكورات في الحديث وكذلك الحال في المعازف .
ولولا الأحاديث الصحيحة الصريحة التي جاءت في تحريم لبس الحرير على الرجال لما عُدّ من المحرمات من أجل وروده ههنا, بخلاف المعازف التي لم يصح شيء صريح في تحريمها. بل ما صح صراحة في المعازف هو الاباحة وليس التحريم .
قال المحرم: يا أخي لا تذهب بعيداً هكذا ! أي إباحة هذه التي تزعم وجودها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لعلك تريد إباحة الدف باعتباره من آلات الموسيقى, وهذا خطأ في الاستدلال, لأنه إذا جاءت النصوص بتحريم المعازف عامة ثم جاءت نصوص أخرى بإباحة بعض أفرادها خاصة فهذا الفرد المباح من العموم المحرم يُعامل معاملة استثناء الخاص من العام, ولا يعني هذا نقض الاستدلال بالعموم على باقي أفراده. فتنبه لأصول الاستدلال وفقك الله .
قال المبيح: لا يا أخي الكريم, لا أقصد هذا بالتحديد وإنما أقصد الحديث الصحيح الذي رواه الطبري وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما خطبتين فكان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكَبَر والمزامير فيشتد الناس ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعاتبهم الله عز وجل فقال : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما...الآية . والكَبَر أي الطبل والمزامير معروفة .
فالمعازف كانت موجودة في أعراس الصحابة يستخدمون الدفوف والكَبَر أي الطبل والمزامير من غير نكير من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عاب الله عز وجل على الذين يدعون النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة قائماً وينشغلون باللهو والتجارة, أما في غير ذلك من الأوقات فجائزٌ الانشغال به كما يُفهم من الآية وسبب نزولها المذكور.
ثم قولك جاءت النصوص بتحريم المعازف عامة غير صحيح, وقد بينت لك المراد من حديث المعازف من صحيح البخاري وهو أقوى ما يحتج به من يحرم المعازف وليس فيه دلالة كما شرحته لك, فهذه دعوى منك ابتداءً ولا دليل عليها لعدم وجود النص العام المحرم حتى نقول بالعام والخاص .
قال المحرم: حديث الكبر والمزامير هذا من صححه من أهل العلم ؟
قال المبيح: الحديث اسناده صحيح وصححه الطحاوي ونص على ثبوته في أحكام القرآن (1/155) والحافظ ابن طاهر المقدسي في السماع وصححه مقبل بن هادي الوادعي في (الصحيح المسند من أسباب النزول ص213) وسليم الهلالي ومحمد موسى نصر في كتابيهما (الاستيعاب في بيان الأسباب 3/407) وغيرهم من أهل العلم والمحققين
والجمع بين الأدلة الصحيحة في الباب هو المتعين عند الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية, كذلك بالنظر إلى سياق الحديث ومعرفة مراده قرينة على أن تحريم المعازف هنا لأنها استُعملت من أولئك الأقوام المخسوف بهم وسيلة للحرام وعوناً عليه وداعياً إليه خصوصاً مع ما هو معلوم من حال من يجتمع على ذلك من الفسقة فهي وسائل اتخذت لمعصية الله .
ومن نظر إلى مجموع الأحاديث المذكور فيها الوعيد والعقاب بالخسف والمسخ -على فرض صحتها- فهي مقيدة بذكر الملاهى وبذكر الخمر والقينات والفسق والفجور ولا يكاد حديث يخلو من ذلك، وعليه كان الحكم عند فريق من أهل العلم فى سماع الأصوات والآت المطربة أنه إذا اقترن بشىء من المحرمات أو اتخذ وسيلة للمحرمات أو أوقع فى المحرمات كان حراما وأنه إذا سلم من كل ذلك كان مباحا فى حضوره وسماعه وتعلمه .
قال المحرم: وماذا تقول في إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الجواري يتغنون ويلعبون بالدف فلما دخل ورأى هذا غضب وقال: (أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ) ؟
قال المبيح: أكمل الحديث فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا) فرخًّص لهن فيه ولم يمنعهن .
قال المحرم: نعم ولكن هذه الرخصة خاصة بيوم العيد لذلك نبه الرسول الكريم أبا بكر على هذه الرخصة ولم ينكر عليه قوله أمزامير الشيطان. فدل هذا على صحة قول أبي بكر واستنكاره في غير هذه المناسبة .
قال المبيح: بارك الله فيك هذا الاستدلال قاصر, وقد تعلمنا من علماء الفقه والحديث أن الحكم الشرعي يؤخذ من مجموع الأدلة ولا يؤخذ من دليل واحد إن كان في الباب غيره. وأن الباب لا يتبين خطؤه حتى يجمع طرقه. أليس كذلك ؟
قال المحرم: نعم هو كذلك .
قال المبيح: فلماذا إذن استدللت بموقف أبي بكر هنا وتركت موقفه وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغناء في الأحاديث الأخرى ؟
قال المحرم: وكيف ذاك ؟
قال المبيح: عن أبي بريدة الأسلمي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا . فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عليٌّ وهي تضرب... الحديث. رواه أحمد والترمذي
قال المحرم: وهل هذا الحديث صحيح ؟
قال المبيح: نعم إسناده صحيح وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/330). والحديث صريح في دخول أبي بكر والمرأة تغني بالدف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس واستمع ولم ينكر وهذا يدلك على تغير رأي أبي بكر عن موقفه السابق لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل حادثة غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لأنكر هنا كذلك, لاسيما والمرأة التي تغني هنا أمة بالغة فهي أجنبية عن أبي بكر رضي الله عنه. لكنه لما أنكر هناك وصوبه النبي صلى الله عليه وسلم فسكت هنا واستمع بلا نكير, وأبوبكر رضي الله عنه رجل وقّاف عند كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد تكرر سماع النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الغناء في غير مناسبة وليس في الأعياد أو الأعراس فحسب خلافاً لمن قال بذلك من بعض أهل العلم .
قال المحرم: هناك أحاديث أخرى صريحة في التحريم كحديث أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة . وصححه الألباني
قال المبيح: الحديث فيه شَبِيب بن بشر البجلي وهو مختلف فيه والراجح ضعفه قال البخاري: منكر الحديث. ومن حاول تقويته بالشواهد فقد تساهل فهي طرق يغلب عليها الضعف الشديد ونكارة المتن كطريق ابن أبي ليلى فقد عدها ابن حبان في كتابه المجروحين (2/246) من مناكيره ونقل ذلك عن مشائخه .
قال المبيح: وما سوى ذلك من الأحاديث التي يظهر فيها تحريم الغناء والمعازف فهي ضعيفة الاسناد لا تقوم بها حجة. وما صح منها فليس فيه دلالة على التحريم وليست هي من أحاديث الباب على الصحيح . كحديث النهي عن كسب الزمارة وهي المرأة الزانية كما جاء تفسيره في بعض طرق الحديث عند البخاري وغيره: نهى عن كسب البغي .
أو كحديث تحريم الكوبة وهي النرد على الصحيح وهو ما يؤيده سياق الحديث ومناسبته والأحاديث الأخرى التي تؤيد تفسير الكوبة بالنرد .
قال المحرم: هذا الذي تذهب إليه من إباحة الغناء والموسيقى لم يقل به أحد من أهل العلم قبلك إلا ابن حزم الظاهري وقد رد عليه أهل العلم ونقلوا الاجماع على تحريم الغناء المصحوب بآلات الملاهي. فابن حزم بذلك يعتبر مخالفاً للإجماع وكذلك من أتى بعده ممن وافقوه وأراك منهم للأسف تخالفون الاجماع الثابت في تحريم الغناء والموسيقى .
قال المبيح: لا أنا ولا الامام ابن حزم ولا من وافقه خالفوا إجماعاً . فهذه دعوى لا حقيقة تحتها, ومن نقل الاجماع من أهل العلم فهو معارض بوجود المخالف أولاً وبنقل غيره من العلماء الأثبات للخلاف في المسألة ثانياً ومن علم حجة على من لم يعلم. وقد ثبت عن بعض السلف من الصحابة ومن تبعهم الغناء والترنم به. ونقل الامام الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن عساكر في تاريخ دمشق وغيرهم من أهل العلم عن الأئمة عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ, وابنه عبد الملك, ويعقوب بن أبي سلمة, وابنه يوسف بن يعقوب أبناء الْمَاجِشُونُ وأربعتهم من أهل الفقه والفتيا ومن أئمة السلف وكلهم كانوا يستخدمون المعازف مع الغناء ويبيحون ذلك ولا يحرمونه. كذلك المحدث الامام إبراهيم بن سعد ومذهبه في ذلك مشهور, كذلك ألف الامام ابن قتيبة الدينوري (الرخصة في السماع) وهو من أئمة السلف ومن معاصري الامام أحمد رحمهم الله. كذلك ألف غير واحد من أهل العلم في جواز الاستماع إلى الغناء والموسيقى (باطلاق أو بتقييد) كالحافظ محمد بن طاهر المقدسي في (السماع) وابن حزم في (المحلى) وابن دقيق العيد في (اقتناص السوانح) والذهبي في (الرخصة في الغناء والطرب بشرطه) وغيرهم فأين هذا الاجماع المدعى . وقد نقل الخلاف في جواز الغناء والموسيقى غير واحد من أهل العلم كابن تيمية في مجموع الفتاوى (27/229-230) وابن حجر العسقلاني في فتح الباري (2/443) والشوكاني في نيل الأوطار (8/113) وغيرهم من أهل العلم المحققين الذين أثبتوا الخلاف في المسألة . وألف الشوكاني رسالة مستقلة سماها (إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع) أبطل فيها دعوى هذا الاجماع المزعوم .
وأذكر نفسي وإياك أخي الكريم بمقولة الامام أحمد بن حنبل: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه لعلهم اختلفوا .
قال المحرم: إن من ورد عنهم من السلف إباحة الغناء فإنما ذلك في غناء العرب القديم كالحداء والنصب ونحو ذلك من الأشعار التي يقولونها برفع الصوت ومده من غير هذه الايقاعات الموزونة ولا الموسيقى المقرونة. فلا يصح قياس غناء العرب القديم على غناء الأعاجم وما استحدثه الناس من بعدهم .
قال المبيح: هذه دعوى بارك الله فيك, وما ورد عنهم لاسيما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه هذه التفرقة المزعومة بين غناء وآخر, وإنما ورد عن بعض الصحابة الكرام المنع من الغناء مطلقاً فقد صح هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: الغناء ينبت النفاق في القلب. وورد عن بعضهم التفصيل في الوقت والمناسبة كمن رخص فيه في الأفراح أو الأسفار دون غيرها من الأوقات وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وورد عن بعضهم التغني والترنم في المناسبات وفي غيرها من الأوقات العادية التي يخلو فيها المرء مع نفسه يستروح به. ونقلت لك آنفاً أن الكبر والمزامير وهما من آلات المعازف كانت تستخدم في الأفراح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
أما التفرقة بين غناء وآخر كأن يمدحوا الغناء المجرد ويذموا الغناء المصحوب بالآلات فهذا لم يرد في كلام الصحابة وإنما ظهر في كلام من بعدهم ثم انتشر بعد ذلك في كتب الفقهاء المتأخرين. أما الصحابة فلم يعرفوا مثل هذه التفصيلات ولم يتكلموا بها وقد فتحوا البلاد واختلطوا بأهلها وأخذوا منهم أشياء وتركوا أشياء كما هي عادة الفاتحين للأمم والبلدان عبر التاريخ. ولم يرد عن أحد منهم أنه قال غناؤنا حلال وغناء غيرنا حرام. أو قال عليكم بما تعرفونه من غناء الأعراب كالنصب وغيره, وإياكم وغناء العجم فإنه هو الذي نهى الله عنه. وكيف ينهى الله قوماً عن غناء قومٍ غيرهم وهم لا يعرفونه ؟!
وانظر يا أخي بفهم وتدبر إلى ما رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي باسناد صحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا رَكِبَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ وَلَمْ يُسَمِّ رَدِفَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ تَغَنَّهْ فَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ قَالَ لَهُ تَمَنَّهْ . ه
فهذا الأثر يدلك على أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يفرق في المنع والذم بين غناء وآخر. فهذا غناء الركبان يتغنى به الرجل على دابته ليقطع الطريق, فليس مصحوباً بآلة وليس هو من غناء العجم الموزون!
كذلك ثبت عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم كانوا يستقبلون الجواري في الأزقة معهن الدف فيشقونها. وقَالَ أحمد بن حنبل: الدُّفُّ لَا يُعْجِبُنِي كَسْرَهُ وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَتَشَدَّدُونَ فِيهِ .
وهذا الذي ذهب إليه عبد الله بن مسعود من ذم الغناء مطلقاً ولو كان من غناء الركبان قد فعله جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغنوا به وصح عنهم ذلك كعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد والبراء بن مالك وعبد الله بن جعفر وغيرهم من جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو غناء زمانهم المنتشر بينهم والذي يعرفونه, ولم يرد عن هؤلاء المنع منه أو من غيره, أو التفصيل بين نوع يباح وآخر يذم. فتحميلهم ذم أنواعٍ من غناء الناس في مكان آخر أو في زمان آخر تكلف واضح لا ينبغي صدوره من باحث منصف والله أعلم .
وللامام ابن قتيبة كتاباً سماه الرخصة في السماع لم أطلع عليه ولكن نقل منه بعض أهل العلم ممن اطلعوا عليه, ونقل منه الامام الذهبي في كتابه الرخصة في الغناء والطرب بشرطه فقال: قال ابن قتيبة:
الغناء يروق الذهن ويلين العريكة ويهيج النفس ويجلي الدم ويلائم أصحاب العلل الغليظة وينفعهم ويزيد في فضائل النفس ويوصف لبعض الأمراض , ورأيت لبعض من تكلم على الموسيقى أن الحكماء احتاجوا إلى معرفة الأنغام لمعالجة الأمراض التي تحدث على الأجساد على الوضع الصحيح . ه
فانظر لهذا الامام كيف وصف الغناء والموسيقى وفوائدهما .
قال المحرم: قد أكثرنا في المناقشة أخي الكريم ولو سلمت لك فيما ذهبت إليه ألست بهذا الكلام وتطبيقه في هذه الأيام تفتح باباً عظيماً للشر والفساد وتشجع بذلك أهل الأهواء على التمادي في أهوائهم ومعلوم لك أن سد الذريعة باب من الشريعة .
قال المبيح: يا أخي الكريم الحرام ما حرمه الله وما سكت عنه فليس لأحد تحريمه أو ادعاء فساده وبطلانه فالله أعلم بشئون عباده وقد فصل لنا ما حرم علينا والله لا يحب الفساد .
فلو اقترن بالغناء أيُّ فساد معلوم في الشرع والعقل فساده فحينئذ لا يجوز استعماله كالرقص والعري والألفاظ الفاحشة أو غير ذلك مما حرمه رب العالمين. وهذا الحكم يسري في سائر وسائل اللهو الذي هو مباح في أصله وليس خاصاً بالغناء وحده .
أما أن نغلق على الناس باباً من الترفيه واللهو المباح من أجل ذلك فهذا من التشدد والتضييق وعواقبه لا تأتي بخير ونتائجه عكسية . فمعلوم ومشاهد من حياة الناس أنك إن أغلقت عليهم أمراً لهم فيه رغبة ولهم إليه ميل وحاجة خشية أن يقعوا في شيء محرم فسرعان ما يهرعون ويقعون في الحرام الصريح ويرتكبون الفساد المبين, ويكون حاصل الأمر أنك أغلقت عليهم باباً خشية الفساد فتسببت في وقوعهم في صريح الفساد, وهذا من شؤم التشدد وتحريم ما عفا الله عنه والله أعلم .
وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها ؟ كلا, إنما جاء لتهذيبها والسمو بها وتوجيهها التوجيه القويم. ومعلوم أن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها .
والانسان بطبعه يميل إلى الترنم والتغني, وآذانه تحب سماع الطرب والصوت الجميل. فإذا أردت أن تمحو شيئاً فطر الله الناس عليه فأنت بذلك تغير فطرة الناس وما جُبلوا عليه وهذا منافي لقواعد الشريعة وأصول الدين التي تنص على أن الاسلام هو دين الفطرة وقد جاء بحفظها وتهذيبها لا محوها ومحاربتها .
ومن المعلوم أن إسراف المرء من المباح وكثرة الانشغال به يسبب له أضراراً في بدنه أو سلوكه أو دينه أو في حياته عموماً , فلو أسرف المرء في الطعام أو الشراب فإن ذلك يسبب له أضراراً بدنية كثيرة فهل نقول بحرمة الطعام والشراب لأن كثرته تؤذي البدن ؟!
فسائر المباحات بلا شك تخضع لقوله تعالى (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وفي عصرنا هذا كثير من الشباب بل وكبار السن أيضاً يعكفون على برامج التواصل الاجتماعي كالفيس بوك واليوتيوب ويقضون فيه غالب أوقاتهم ويضيعون بسببه كثيراً من الواجبات, وترى الواحد منا (وعليه سمت الصلاح) وترى الواحدة من أخواتنا (وفيها خصال الخير) وقد سهروا عامة الليل لا في الذكر والدعاء ولا حتى في النوم المفيد للبدن وإنما في المنتديات والجروبات واليوتيوب ورسائل الأصدقاء حتى إذا اقترب وقت الفجر خارت قواهم وانهارت في نوم عميق الله أعلم متى منه يستيقظون. فمثل هذا من الاسراف الذي نهى الله عنه ولا يجوز , وإن كان كل هذه الأمور في أصلها من المباحات وكذلك الأمر في الغناء واللهو وسائر المباحات.
فمن أسرف في المباحات فإن ذلك يؤذيه في نفسه أو يلهيه عن واجبات ربه وهو مخالف لأمر الله تعالى ونهيه عن الاسراف .
قال المبيح: قد بينت لك أخي الكريم خلاصة بحثي وأدلتي فإن كنت مصيباً فالحمد لله وإن كنت مخطئاً فأرجو أن يكون خطأ مغفور فقد اجتهدت وبحثت ما استطعت ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, والله من وراء القصد وهو أعلم بنوايا عباده وهو العفو الغفور سبحانه وتعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
قال المحرم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخي الكريم أسأل أن يبصرنا بالحق ويرزقنا الصدق ولين القلب ورحمة الخلق...آمين .
تمت بحمد الله
كتبه أحمد فوزي وجيه
-----------------
الردود على الانتقادات :
1-المناظرة يا أخي عبارة عن مختصر لبحث مطول وهناك العديد من المؤلفات في إباحة الغناء والموسيقى (باطلاق أو بتقييد) لبعض الأئمة والفقهاء من السلف والخلف كالامام ابن قتيبة الدينوري وهو من تلامذة اسحاق بن راهويه والحافظ محمد بن طاهر المقدسي وابن دقيق العيد والذهبي وابن حزم وغيرهم وسيأتي بيانه في الحلقة القادمة إن شاء الله .
وأراك قد قلدت من حكى الاجماع من أهل العلم بغير بحث ولا اجتهاد منك. وهي دعوى لا دليل عليها والخلاف ثابت وموجود غفر الله لك .
2-قولك أني أغفلت كلام الصحابة والسلف فأين هذا غفر الله لك؟
لعلك تقصد أثر ابن مسعود وقد بينت لك ضعفه أم تقصد أثر ابن عباس وقد ذكرته ولم أغفله كما زعمت, ولكني ذكرت أن الآية تذم من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وليس الذم للهو باطلاق فهنا في الحكم وصف يجب اعتباره بنص الآية كما قال الامام الذهبي وقاله غيره من أهل العلم والتفسير كالشوكاني والغزالي وابن حزم وغيرهم .
وقد ذهب بعض المفسرين من السلف والخلف إلى أن لهو الحديث هو الشرك أو هو لهو مضاف إلى كفر كما روي عن الضحاك وابن زيد ويحيى بن سلام واعتمده من المفسرين الثعالبي وابن عطية وابن جزي .
3-اعترضت على قولي (فالحجة في كلام الله وكلام رسوله وليس في تفسير بعض السلف) ولم أفهم سبب اعتراضك وأكرر لك هنا: نعم الحجة في كلام الله وكلام رسوله وليس في تفسير بعض السلف .
ولم أقل هنا أن الاختلاف تضاد غفر الله لك وإنما قصدي أن السلف ورد عنهم تفسيرات أخرى غير الغناء يمكن من خلالها فهم المعنى والمراد من الآية من مجموع أقوالهم وليس من البعض منها.
فمن الذي يجتزيء هنا غفر الله لك !
4-ألزمتني بكلام غريب لا أدري كيف تجرأت على قوله كمثل قولك (وعلى هذا فالحرير مباح إلا إذا اقترن بالزنا والزنا مباح إلا إذا اقترن بالخمر) !
كيف تفهم هذا غفر الله لك وقد قلت بصريح العبارة (ولولا الأحاديث الصحيحة الصريحة التي جاءت في تحريم لبس الحرير على الرجال لما عُدّ من المحرمات من أجل وروده ههنا)
وكذلك الأمر في المعازف. أما الزنا والخمر فقد تواترت فيها أدلة التحريم وهي من ضروريات الاسلام .
وأغرب منه وأعجب في سردك لالزاماتك الباطلة والتي تدل على قلة فهمك لكلامي كمثل قولك (وعلى هذا يطلع لنا قائل ان الربا حلال لو برضى الطرفين لعدم وجود اكل اموال الناس بالباطل وعدم موافقتهم .. والزنا حلال لو كان برضى الطرفين...)
ما هذا الكلام الغريب؟! اتق الله يا أخي وأنصف إخوانك. أهذا ظنك بأخيك؟ هل تظن أني كتبت هذا لأحل شيئا حرمه الله في رأيك واعتقادك . إنما البحث لاثبات ما حرمه الله وما سكت عنه .
واعلم أن من أباح ما حرّم الله ليس أعظم ذنبا ممن حرّم ما أحل الله فتنبه فإنه موضوع البحث غفر الله لك .
5-ثم إنك تجاهلت تماما الحديث الصحيح الذي ذكرته مؤيدا لصحة ما ذهبت إليه ولا أدري أعن قصد فعلته أم غفلة منك غفر الله لك .
فحديث جابر رضي الله عنه فيه التصريح بأن الصحابة كانوا يستخدمون الطبل والمزامير في أفراحهم. وقال الامام الطبري عقب روايته لهذا الحديث في تفسيره: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ جَابِرٍ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ أَمْرَ الْقَوْمِ وَمَشَاهِدَهُمْ . ه
فهل تقول أن الصحابة بفعلهم هذا يستحلون ما حرّم الله ؟! أم تتهم رأيك الضعيف وتفسيرك الخاطيء للحديث وأنك لابد أن تجمع بين الأدلة لتعرف الحكم الشرعي وتفهم المراد منها فهي تجتمع ولا تختلف غفر الله لك .
6-وهذا الحديث الصحيح لعله لم يطرأ سمعك من قبل فإنك تأخذ العلم تقليداً وليس بالاجتهاد والبحث غفر الله لك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق