الأحد، 9 يوليو 2023

شد الرحل لزيارة القبر الشريف بين المجيزين والمانعين ( دراسة مقارنة )

 فقد أدت بعض المسائل عند كثير من المسلمين إلى الفرقة والنزاع بل وأحيانا إلى التبديع والتكفير بل وأحيانا إلى الاقتتال والحرب, مع أنها من مسائل الخلاف الفرعية التي لا يجوز فيها النكير سواء على من أجاز أو على من منع , ومن هذه المسائل مسألة شد الرحل لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم

وهذا بحث موجز في حكم شد الرحل لزيارة القبر الشريف عسى أن يسهم في تخفيف الاحتقان حول هذا المسألة من الطرفين ( المجيزين والمانعين ) وقد جعلته في أربعة مباحث :

المبحث الأول : حالات زيارة القبر الشريف

المبحث الثاني : بعض أقوال من نسب إليهم المنع من شد الرحل

المبحث الثالث : بعض أقوال المجزين من المذاهب الأربعة وغيرها

المبحث الرابع : الأدلة للمجيزين والمانعين

المبحث الأول: حالات زيارة القبر الشريف

الحالة الأولى :  أن يكون ذلك من غير شد رحل :

وهذه الحالة لا خلاف في استحبابها بل هي من أعظم القربات وأجل الطاعات , وقد حكي الإجماع على ذلك جماعة , قال القاضي عياض المالكي في الشفاء 2/71 :

( و زيارة قبره صلى الله عليه و سلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها و فضيلة مرغب فيها ) اهـ

وقال الوزير ابن هبيرة الحنبلي في الإفصاح 1 / 297 :

( واتفقوا على استحباب زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما المدفونين معه ، وندبوا إليه ) اهـ

وقال الإمام ابن تيمية الحنبلي كما في مجموع الفتاوى 27/225 :

( ولكن أطلق كثير منهم [ أي أهل العلم ] القول باستحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و سلم وحكي بعضهم الإجماع على ذلك وهذا مما لم يذكر فيه المجيب - يعني ابنُ تيمية نفسَه -  نزاعا في الجواب ) اهـ

وفي مجموع الفتاوى أيضا 27/ 242 :

(ومنها  أنه احتج بإجماع السلف والخلف على زيارة قبره وظن أن الجواب يتضمن النهى عما أُجمع عليه ) اهـ

وقال الحافظ ابن حجر الشافعي في فتح الباري 3/66 :

(زيارة النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع ) اهـ

وقال اللكنوي الحنفي في التعليق الممجد :

(اتفقوا على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات وأفضل المشروعات , ومن نازع في مشروعيته فقد ضل وأضل ) اهـ

كلام آخر للإمام ابن تيمية في المسألة :

لابن تيمية كلام آخر غير ما سبق يمنع فيه من زيارة القبر الشريف حتى من غير سفر ففي الفتاوى الكبرى 5/146 ومجموع الفتاوى 27/26 :

( وأما زيارته فليست واجبة باتفاق المسلمين !!!، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة !!! ، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة : الصلاة عليه والتسليم فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ) اهـ

وفي مجموع الفتاوى أيضا 27/243 :

( لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا وإن لم يسمى هذا زيارة , بل يكره لهم ذلك عند غير السفر !! كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين !!!) اهـ

وفي مجموع الفتاوى أيضا 27/309 :

( إن إتيان مسجد رسول الله وقصد ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد وأن يتخذوا قبره عيدا أو وثنا وأنه قال لهم ( صلوا على حيثما كنتم ) وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولى منه عند قبره وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد سواء قصد ذلك أو لم يقصده !! والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع ) اهـ

وفي الرد على الأخنائي ص 385 :

(ولهذا كان الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين إذا دخلوا المسجد ... لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره ...

ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بل هذا من البدع !!! التي أنكرها الأئمة والعلماء وإن كان الزائر ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها !!! ) اهـ

وفيه أيضا ص 386 :

( ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم ... ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعا !!! وحسا كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر , وقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فلا تستحب !!! هذه الزيارة في حقه ولا تمكن ) اهـ

وله كلام كثير غير ما سبق في كتابه في الرد على الأخنائي فيه المنع من الزيارة ولو من غير شد رحل وهذا القول غريب جدا لم يقل به أحد قبل ابن تيمية فيما أعلم وهو مخالف للأحاديث في زيارة والقبور ومخالف لفعل الصحابة والسلف وعمل الأمة عبر القرون

ففي نيل الأوطار 5/156 :

( وقد رويت زيارته صلى الله عليه وآله وسلم عن جماعة من الصحابة منهم : بلال عن ابن عساكر بسند جيد وابن عمر عند مالك في الموطأ وأبو أيوب عند أحمد وأنس ذكره عياض في الشفاء وعمر عند البزار وعلي عليه السلام عند الدارقطني وغير هؤلاء ولكنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لذلك إلا عن بلال ) اهـ

ولذا قال الإمام اللكنوي في إبراز الغي :

( وأما نفس زيارة القبر النبوي فلم يذهب أحد من الأئمة وعلماء الملة - إلى عصر ابن تيمية - إلى عدم شرعيتها بل اتفقوا على أنها من أفضل العبادات وأرفع الطاعات ... وأول من خرق الإجماع فيه وأتى بشيء لم يسبق إليه عالم قبله هو ابن تيمية ) اهـ

فإن قيل كيف الجمع بين كلام ابن تيمية الأخير وكلامه السابق في استحباب الزيارة من غير سفر وإقراره للإجماع في ذلك ؟

فالجواب – كما هو ظاهر في كلامه - هو : أنه يقصر الزيارة على من قدم من سفر فقط , فالإجماع والاستحباب ينصب عنده على من قدم من سفر فقط , كما أن ذلك السفر لا بد أن يكون القصد فيه غير القبر , فإن كان القادم من أهل المدينة فليقصد الرجوع لبلده وإن كان من غير أهلها فليقصد الصلاة في المسجد , وذلك واضح من نصوصه السابقة

والحالة الثانية :

أن يكون ذلك بشد الرحل ويكون المقصود بالشد هو القبر والمسجد معا :

وهذه أيضا لا خلاف في استحبابها حتى ابن تيمية رحمه الله يرى ذلك ففي مجموع الفتاوى 27/226 :

( من المعلوم أن مسجد النبي يستحب السفر إليه بالنص والإجماع فالمسافر إلى قبره لابد إن كان عالما بالشريعة أن يقصد السفر إلى مسجده فلا يدخل ذلك في جواب المسألة فإن الجواب إنما كان عمن سافر لمجرد زيارة قبورهم والعالم بالشريعة لا يقع في هذا فإنه يعلم أن الرسول قد استحب السفر إلى مسجده والصلاة فيه وهو يسافر إلى مسجده فكيف لا يقصد السفر إليه فكل من علم ما يفعله باختياره فلا بد أن يقصده ) اهـ

وفي مجموع الفتاوى 27/292 :

(احتجوا بنقل من نقل من العلماء أن زيارة النبي فضيلة مرغب فيها وسنة مجمع عليها وهؤلاء نقلوا الإجماع على الزيارة لا على السفر لمجرد القبر ولو نقلوا الإجماع على السفر للزيارة فمعلوم أن المسلمين يقصدون المسجد والقبر , ولا يقصد القبر دون المسجد إلا جاهل  وإذا قصد الزائر المسجد والقبر جميعا فالمجيب لم يذكر القولين في هذه الصورة وإنما ذكرهما فيمن لم يسافر إلا لمجرد زيارة القبور ) اهـ

والحالة الثالثة :

أن يكون ذلك بشد الرحل ويكون المقصود بالشد هو القبر وحده دون المسجد :

وهذه الحالة لا تكاد توجد عند من يزور القبر الشريف فلا تكاد تجد زائرا وإلا وتكون نيته زيارة القبر والصلاة في المسجد معا , وهذه الحالة هي التي وقع فيها الخلاف :

فذهب جماهير العلماء وهو ما عليه المذاهب الأربعة إلى استحباب ذلك

ومن أهل العلم من أوجب ذلك كما سيأتي إن شاء الله

وذهب الإمام ابن تيمية إلى النهي عن ذلك وتبعه على ذلك بعض أهل العلم

قال الشوكاني في نيل الأوطار 3/105 : ( وقد اختلفت فيها أقوال أهل العلم :

فذهب الجمهور إلى أنها مندوبة

وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنها واجبة

وقالت الحنفية : إنها قريبة من الواجبات .

وذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنف المعروف بشيخ السلام إلى أنها غير مشروعة ، وتبعه على ذلك بعض الحنابلة ، وروى ذلك عن مالك والجويني والقاضي عياض ) اهـ

ثم قال في ختام المبحث : ( وهذا كله في شد الرجال وأما الزيارة فمشروعة بدونه ) اهـ

وسيأتي الكلام إن شاء الله عن المنقول عن مالك والجويني والقاضي عياض في ذلك، وهل نصوصهم تدل على المنع ؟!

وقال ابن حجر في فتح الباري 3/66 :

( قال الكرماني : وقع في هذه المسالة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصُنف فيها رسائل من الطرفين

قلت - القائل ابن حجر-:  يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين بن تيمية وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية وهي مشهورة في بلادنا , والحاصل إنهم ألزموا بن تيمية بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكرنا صورة ذلك وفي شرح ذلك من الطرفين طول وهي من أبشع المسائل المنقولة عن بن تيمية ) اهـ

وقال العراقي في طرح التثريب 6 / 43 :

( وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة وأنه ليس من القُرب بل بضد ذلك ، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السِّقام ) اهـ

وقال الصنعاني كما في مجموع رسائله ص 183 :

( وإذا تحققت مما أسلفنا عرفت أن ابن تيمية رحمه الله بالغ في مسألة شد الرحل وحملها ما لا تحتمل من المقال وقد عرفت أن حاصل النهي عن شد الرحل إلى مسجد غير الثلاثة للصلاة فيه وما عدا هذا باق على أصل الإباحة في مطلق الأسفار وقد تنضم إليه ما تصير به واجبة أو محرمة أو مندوبة أو مكروهة ) اهـ

المبحث الثاني: بعض أقوال من نسب إليهم المنع

1- الإمام مالك :

تقدم معنا قول الشوكاني في نيل الأوطار 3/105 : (وروى ذلك عن مالك والجويني والقاضي عياض ) اهـ

وقد نسب غيره للإمام مالك القول بكراهة شد الرحل لزيارة القبر الشريف لما اشتهر عنه من أنه كان يكره أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذه النسبة لا تُسلّم من وجوه :

أولا : أن الإمام مالك أيضا كره أن يقال زرت الكعبة , ففي نفس الرواية عنه أنه كره أن يقال زرت الكعبة وكره أن يقال زرت النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يقال : مالك يكره زيارة الكعبة !!!

ثانيا : أن كلامه ليس فيه الإشارة إلى شد الرحل بل مطلق الزيارة فهل يقال إن مالكا كان يكره زيارة القبر الشريف ولو من غير شد رحل

ثالثا : أن كلامه واضح في أن مراده لفظ : ( زرت القبر ) لما فيه من عدم التوقير وهذا واضح من السياق وهو الذي أطبق عليه المالكية وغيرهم

ففي المدونة 1/396 :

(قال ابن القاسم : وكان مالك يكره أن يقول الرجل طواف الزيارة ، قال وقال مالك : وناس يقولون زرنا قبر النبي عليه السلام ، قال : فكان مالك يكره هذا ويعظمه أن يقال إن النبي يزار ) اهـ

وقال عياض في الشفاء ص 54 :

( قال أبو عمران رحمه الله : إنما كره مالك أن يقال طواف الزيارة وزرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم بعض وكره تسوية النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس بهذا اللفظ وأحب أن يخص بأن يقال سلمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً فالزيارة مباحة بين الناس وواجب شد المطي إلى قبره صلى الله عليه وسلم ) اهـ

قال القاضي عياض تعقيبا على قول أبي عمران :

( يريد بالوجوب هنا وجوب ندب وترغيب وتأكيد لا وجوب فرض ، والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لو قال زرنا النبي لم يكرهه ) اهـ

وقال القرافي في الذخيرة 3/270

( وكره مالك تسمية طواف الزيارة وقولهم زرنا قبر النبي تعظيما له لأن العادة أن الزائر متفضل على المزور ) اهـ

وفي شرح الخرشي على خليل 2/344 :

( وكذلك يكره أن يسمى طواف الإفاضة بطواف الزيارة ، لأن الزيارة لفظ يقتضي التخيير مع أن طواف الإفاضة ركن فكأنه تكلم بالكذب ...

وكذلك يكره أن يقال زرنا قبره عليه السلام , أو زرنا النبي عليه السلام ; لأن الزيارة تشعر بعدم ترجح الفعل مع أن زيارته من أعظم القرب التي يرجح فعلها على تركها , بل إنما يقال قصدناه , أو حججنا إلى قبره عليه السلام ) اهـ

وفي فتح الباري 3/66 :

( ومن جملة ما استدل به - ابن تيمية - على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم

وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع ) اهـ

لكن هناك نص آخر يُحكى عن مالك في المسألة ففي مجموع فتاوى ابن تيمية 1/304 :

( وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي فقال مالك : إن كان أراد القبر فلا يأته وان أراد المسجد فليأته ثم ذكر الحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه ) اهـ

ونحوه أيضا في مجموع الفتاوى 27/385

ولم أقف على هذا النص في كتب الإمام مالك ولا كتب المالكية ولا مسندا , ولو كان هذا هو لفظه لتناقله الناس المالكية وغيرهم , فلعله مذكور بالمعنى من قبل القاضي إسماعيل هذا أو من قبل ابن تيمية وأصل كلامه هو ما سبق من كراهته قول : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم

فإن صح هذا النص الأخير فظاهره أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند مالك ليست قربة ولو من غير شد رحل وهذا مخالف للإجماع بل ظاهره النهي عن الزيارة ولو من غير شد رحل !!!وهذا غريب جدا

2- لإمام ابن بطة العكبري :

قال ابن بطة في الإبانة الصغرى ص 92 :

( ومن البدع البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحل إلى زيارتها ) اهـ

وليس في كلام ابن بطة ذكر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم , لكن قد يقال يشمله عموم كلامه , وفي مقابله يمكن أن يقال : القبر الشريف مستثنى بالإجماع فلا يشمله كلام ابن بطة العكبري , وفي مقابل المقابل يمكن أن يقال : الأصل بقاء العام على عمومه حتى يأتي المخصص ولا نعلم مخصصا من كلام ابن بطة

3- الإمام الجويني ( الأب):

نقل عنه ذلك جماعة في معرض شد الرحل لقبور الصالحين ومنهم النووي في شرح مسلم 9/106 حيث قال :

( واختلف العلماء في شد الرحال وأعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره ) اهـ

ومنهم ابن حجر في الفتح 3/65 حيث قال :

( واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة ) اهـ

وبالرجوع إلى نص إمام الحرمين ( الابن ) الذي فيه نقل كلام أبيه أبي محمد الجويني نجده كالتالي قال إمام الحرمين :( إذا نذر أن يأتي مسجدا من المساجد سوى المسجد الحرام قال العلماء : فإن كان المسجد الذي عينه غير مسجد المدينة ومسجد القدس فلا يلزم بالنذر شيء أصلا فإنه ليس في قصد مسجد بعينه غير المساجد الثلاثة قربة مقصودة وما لا يكون قربة ولا عبادة مقصودة فهو غير ملزم بالنذر , وكان شيخي ! يفتي بالمنع عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد , وربما كان يقول : يكره , وربما كان يقول : يحرم بعدما يظهر النهي ) اهـ  انظر المجموع للنووي 8/369 وروضة الطالبين 3/324 وشفاء السقام ص121و123

فكلام إمام الحرمين كان في معرض الشد لمسجد غير المساجد الثلاثة وليس في نقله عن أبيه النهي عن السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره من القبور , لكن كلامه عام فظاهره يشمل النهي عن الشد لغير الثلاثة المساجد ولو كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومن باب أولى قبر غيره

لكن في مقابله يمكن أن يقال : قبره صلى الله عليه وسلم مستثنى بالإجماع فلا يشمله كلام الجويني وفي مقابل المقابل يمكن أن يقال : الأصل بقاء العام على عمومه حتى يأتي المخصص ولا نعلم مخصصا من كلام الجويني

وقد نقل بعض الأئمة كابن حجر وابن عابدين عن الجويني أنه يستثني السفر لزيارة القبر الشريف ففي فتاوى ابن حجر 2/ 24 :

(زيارة قبور الأولياء قربة مستحبة وكذا الرحلة إليها وقول الشيخ أبي محمد لا تستحب الرحلة إلا لزيارته صلى الله عليه وسلم رده الغزالي ... ) اهـ

وفي حاشية ابن عابدين 2/242  : (ومنع منه بعض أئمة الشافعية إلا لزيارته [ صلى الله عليه وسلم ] قياسا على منع الرحلة لغير المساجد الثلاث ) اهـ

4- القاضي عياض :

حكي عنه ذلك جماعة في معرض شد الرحل لقبور الصالحين ومنهم النووي وقد تقدم معنا قوله :

( وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره ) اهـ

ومنهم ابن حجر في الفتح 3/65 وقد تقدم معنا قوله :

( وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة ) اهـ

ولم أستطع أن أقف على لفظ عياض حتى نعلم هل كلامه في القبور عامة كما تقدم عن غيره أم في قبر النبي صلى الله وسلم ولا أظن ذلك , وقد ذكر السبكي في شفاء السقام عن عياض المالكي أنه قال في الشفاء :

( ويستحب أن يزور النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يحج ويعتمر ) اهـ

ولم أجده بهذا اللفظ في نسختي من الشفاء فإما أنه في نسخة أخرى أو هو وهمٌ من السبكي وأستبعد ذلك

5- القاضي حسين :

لم أقف على من نسب ذلك إليه إلا الحافظ في الفتح حيث قال كما تقدم عن الفتح 3/65 :

( قال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة ) اهـ

وهذا النص قد أخذه ابن حجر عن النووي في شرح مسلم لكنه عند النووي كما تقدم عن شرح مسلم 9/106 بلفظ :( فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره ) اهـ

وليس فيه ذكر للقاضي حسين وظاهر أنه تحرف القاضي عياض إلى القاضي حسين فإما أن يكون من النساخ أو هو وهمٌ من الحافظ لكن يشكل عليه أن الحافظ ذكر عياض بعد ذلك

وعلى كل فلم أقف على أحد نقل ذلك عن القاضي حسين غير ابن حجر ولو كان القاضي قد قال ذلك لنقله غيره ويؤيد عدم صحة هذا النقل عن القاضي حسين ما ذكره السبكي في شفاء السقام عن القاضي حسين الشافعي أنه قال : ( إذا فرغ من الحج ... يأتي المدينة ويزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ) اهـ

6- الإمام ابن عقيل الحنبلي :

في المغني لابن قدامة 2/100 :

(فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد ، فقال ابن عقيل :لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد متفق عليه, والصحيح إباحته وجواز القصر فيه )اهـ

وقد نقل ابن الجوزي نص ابن عقيل في تلبيس إبليس ص 448 وهو في معرض شد الرحل لزيارة القبور , وليس في كلام ابن عقيل ذكر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقال فيه كما قيل في كلام الجويني وغيره

7- الإمام ابن الأثير :

قال ابن الأثير في جامع الأصول 9/283 في شرح حديث لا تشد الرحال :

( هذا مثل قوله " لا تعمل المطي" وكنى به عن السير والنفر ، والمراد : لا يقصد موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى هذه الأماكن الثلاثة تعظيما لشأنها وتشريفا ) اهـ

فظاهره العموم لكن يمكن أن يقال أن القبر الشريف خارج عن ذلك بالإجماع فلا يشمله كلام ابن الأثير , ويقال فيه ما تقدم عند قول الجويني وغيره

8- الإمام ابن تيمية :

وأقواله في النهي عن ذلك كثيرة وقد تقدم بعضها ومن ذلك أيضا ما في الفتاوى الكبرى 5/146 ومجموع الفتاوى 27/26 حيث قال :

( وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده ، فهذه المسألة فيها خلاف ، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء !!! أن هذا غير مشروع ولا مأمور به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ) اهـ

وفي مجموع الفتاوى 27/220 : (

السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها احد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله ولا استحب ذلك احد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة!! ) اهـ

وقال كما في مجموع الفتاوى أيضا 27/228 :

( معلوم لكل من رأى الجواب أنه ليس فيه تحريم لزيارة القبور لا قبور الأنبياء ولا غيرهم إذا لم يكن بسفر ولا فيه دعوى الإجماع على تحريم السفر بل قد صرح بالخلاف في ذلك ) اهـ

والمجلد السابع والعشرون ملئ بأقواله في المنع من ذلك بل قد تقدم معنا أنه يمنع حتى من الزيارة من غير شد رحل إلا لمن قدم من سفر

9- الإمام ابن القيم :

وقد حصل لابن القيم - كما حصل لشيخه - بسبب ذلك محنة ذكرها أهل التواريخ ففي عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي ص 179 مخطوط :

( وكان السبب في ذلك أنه أفتى فتيا وذكر فيها أن زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام لا تشد إليها الرحال كقبر إبراهيم الخليل وقبر محمد النبي صلى الله عليه وسلم ،واتفق أن شمس الدين ابن القيم سافر إلى القدس ورقى على منبر ووعظ وذكر هذه المسألة وقال : ها أنا من هاهنا أرجع ولا أزور الخليل وجاء إلى نابلس وعمل مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى إنه قال :

لا يزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسجده !! فقام عليه الناس فحماه منهم والي البلد وكتب أهل القدس ونابلس إلى دمشق بصورة ما وقع فطلبه القاضي المالكي فتودد وصعد إلى قاضي القضاة ابن مسلم وتاب وأسلم على يده فقبل توبته وحكم بإسلامه !!! وحقن دمه ولم يعزره لأجل الشيح تقي الدين ابن تيمية ) اهـ  ونحو ذلك ذكر الحصني في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد ص 122

10- الإمام ابن رجب :

قال أبو زرعة العراقي في طرح التثريب 6 / 43 :

( وكان والدي رحمه الله يحكي أنه كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحيم بن رجب الحنبلي في التوجه إلى بلد الخليل عليه السلام فلما دنا من البلد قال : نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحل لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية

قال فقلت نويت زيارة قبر الخليل عليه السلام , ثم قلت له أما أنت فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم  لأنه قال ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع وأما أنا فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه قال ( زوروا القبور ) أفقال إلا قبور الأنبياء ؟ قال : فبهت !! ) اهـ

لفت نظر :

بناء على ما سبق فأول من صرح – فيما وقفت علي - بالنهي عن شد الرحل لزيارة القبر الشريف هو الإمام ابن تيمية رحمه الله , ثم تبعه على ذلك تلامذته وبعدهم الكثير , أما النهي عن شد الرحل لزيارة القبور عموما دون ذكر القبر الشريف فأول من صرح بالنهي عن ذلك - فيما وقفت عليه - هو الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله ثم تبعه على ذلك الكثير

المبحث الثالث: بعض أقوال المجزين

أولا : من أقوال الحنفية في ذلك :

في فتح القدير للكمال ابن الهمام 3/179 :

( زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال مشايخنا رحمهم الله تعالى : من أفضل المندوبات وفي مناسك الفارسي وشرح المختار : أنها قريبة من الوجوب لمن له سعة ...

هذا والحج إن كان فرضا فالأحسن أن يبدأ به ثم يثني بالزيارة , وإن كان تطوعا كان بالخيار , فإذا نوى زيارة القبر فلينو معه زيارة المسجد ... والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله سبحانه في مرة وأخرى ينويهما فيها لأن في ذلك زيادة تعظيمه صلى الله عليه وسلم وإجلاله ويوافق ظاهر ما ذكرناه من قوله عليه الصلاة السلام : لا تعمله حاجة إلا زيارتي ) اهـ

وفي حاشية الطحطاوي على المراقي 2/745 :

( زيارة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إن كان الحج فرضا قدمه عليه ، وإلا تخير والأولى في الزيارة تجريد النية لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقيل : ينوي زيارة المسجد أيضا نهر , لأنه من المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال ) اهـ

وفي حاشية ابن عابدين 2/242 ذكر زيارة شهداء أحد ثم قال :

( استفيد منه ندب الزيارة وإن بعد محلها وهل تندب الرحلة لها كما اعتيد من الرحلة إلى زيارة خليل الرحمن وأهله وأولاده وزيارة السيد البدوي وغيره من الأكابر الكرام لم أر من صرح به من أئمتنا ومنع منه بعض أئمة الشافعية إلا لزيارته قياسا على منع الرحلة لغير المساجد الثلاث ورده الغزالي ...) اهـ

ثانيا :من أقوال المالكية في ذلك :

في مواهب الجليل للحطاب 2/556 :

(في المتيطية : وقولنا إن عليه الحج بعد العمرة والقصد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل فإن ترك مع ذلك العمرة أو القصد حط له من الأجرة بقدر ما يرى انتهى ) اهـ

وفي المواهب أيضا 3/344 :

( قال العبدي من المالكية في شرح الرسالة : وأما النذر للمشي إلى المسجد الحرام والمشي إلى مكة فله أصل في الشرع وهو الحج والعمرة وإلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم , وقبره أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس وليس عنده حج ولا عمرة فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه فالكعبة متفق عليها ويختلف أصحابنا في المسجدين الآخرين انتهى من خلاصة الوفا ) اهـ

وفي المدخل لابن الحاج 1/254:

( وقد نقل ابن هبيرة في كتاب اتفاق الأئمة قال : اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى على أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم مستحبة ونقل عبد الحق في تهذيب الطالب عن أبي عمران الفاسي أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة قال عبد الحق يريد وجوب السنن المؤكدة .

والحاصل من أقوالهم أنها قربة مطلوبة لنفسها لا تعلق لها بغيرها فتنفرد بالقصد وشد الرحال إليها , ومن خرج قاصدا إليها دون غيرها فهو في أجل الطاعات وأعلاها فهنيئا له , ثم هنيئا له اللهم لا تحرمنا من ذلك بمنك يا كريم ) اهـ

وفي منسك الإمام خليل بن إسحاق المالكي صاحب المختصر المشهور بمختصر خليل الذي عليه المعول عند المالكية قال :

(فإذا خرج الإنسان من مكة فلتكن نيته وعزيمته وكليته في زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة مسجده وما يتعلق بذلك ، لا يشرك معه غيره ، لأنه عليه الصلاة والسلام متبوع لا تابع ، فهو رأس الأمر المطلوب والمقصود الأعظم ) اهـ

وفي المعيار المعرب للونشريسي 1/321 :

( قال أبو القاسم العبدوسي : وأما الخروج إلى زيارة قبور الصالحين والعلماء فجائز طال السفر أو قصر وممن نص على ذلك الإمام أبو بكر ابن العربي في القبس في شرح الموطأ...) اهـ

ثالثا : من أقوال الشافعية في ذلك :

قال الإمام النووي في الأذكار ص 306 :

( فصل في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكارها :اعلم أنه ينبغي لكل من حج أن يتوجه إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن فان زيارته صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات ) اهـ

وقال في المجموع 8/256 :

( واعلم أن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وأنجح المساعي , فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحب لهم استحبابا متأكدا أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته صلى الله عليه وسلم وينوي الزائر من الزيارة التقرب وشد الرحل إليه ... )اهـ

وقال في منسكه المسمى بالإيضاح ص 214 :

( إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة تربته صلى الله عليه وسلم فإنها من أهم القربات ) اهـ

وقال ابن حجر الهيتمي في الحاشية عليه :

( الحديث يشمل زيارته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً ، ويشمل الذكر والأنثى ، الآتي من قرب ومن بعد ، فيستدل به على فضيلة شد الرحال لذلك ، وندب السفر للزيارة إذ للوسائل حكم المقاصد ) اهـ

وقال النووي في السفر لقبور الصالحين :( قال الشيخ أبو علي : لا يكره ولا يحرم ولكن أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة وهذا حسن لا يصح عندي غيره ) اهـ المجموع للنووي 8/369 وروضة الطالبين 3/324

وفي فتاوى ابن حجر 2/ 24 :

( زيارة قبور الأولياء قربة مستحبة وكذا الرحلة إليها وقول الشيخ أبي محمد لا تستحب الرحلة إلا لزيارته صلى الله عليه وسلم رده الغزالي بأنه قاس ذلك على منع الرحلة لغير المساجد الثلاثة مع وضوح الفرق فإن ما عدا تلك المساجد الثلاثة مستوية في الفضل فلا فائدة في الرحلة إليها وأما الأولياء فإنهم متفاوتون في القرب من الله تعالى ونفع الزائرين بحسب معارفهم وأسرارهم فكان للرحلة إليهم فائدة أي فائدة ) اهـ

وقال العراقي في طرح التثريب 6 / 43 :

( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) استدل به على أنه لو نذر إتيان مسجد المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه ذلك ; لأنه من جملة المقاصد التي يؤتى لها ذلك المحل بل هو أعظمها وقد صرح بذلك القاضي ابن كج من أصحابنا فقال : عندي إذا نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء وجها واحدا ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان ) اهـ

وقال ابن جماعه في هداية السالك في المناسك :

( إذا انصرف الحجاج والمعتمرون عن مكة شرفها الله تعالى وعظمها، استحب لهم استحباباً مؤكدا أن يتوجهوا لمدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للفوز بزيارته صلى الله عليه وسلم فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي ) اهـ

وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/485 :

( حبه [ صلى الله عليه وسلم ] المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب وشد الرحل إلى قبور الأنبياء والأولياء لئن سلمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" فشد الرحل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم مستلزم لشد الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده ) اهـ

وقال الماوردي في الأحكام السلطانية ص195 :

(فإذا رجعوا سار بهم [ الأمير ] على طريق مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع لهم بين حج بيت الله وزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رعاية لحرمته وقياما بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعادات الحجيج المستحسنة ) اهـ

رابعا : من أقوال الحنابلة في ذلك :

قال ابن قدامة في المغني 3/346 :

( فصل : ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ... ) ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة في الزيارة ثم قال : ( وإذا حج الذي لم يحج قط من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد الطرق ولا يتشاغل بغيره ) اهـ

وفي الشرح الكبير للمقدسي 3/512 :

( فإذا فرغ من الحج استحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما ) اهـ

وفي الإنصاف 4/53 :

( قوله فإذا فرغ من الحج : استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه هذا المذهب وعليه الأصحاب قاطبة ، متقدمهم ومتأخرهم .

وقال في الفصول : نقل صالح وأبو طالب : إذا حج للفرض لم يمر بالمدينة لأنه إذا حدث به حدث الموت كان في سبيل الحج . وإن كان تطوعا : بدأ بالمدينة . ) اهـ

وفي كشاف القناع للبهوتي 2 / 515 :

( تنبيه : قال ابن نصر الله : لازم استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم استحباب شد الرحال إليها ؛ لأن زيارته للحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحل . فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم ) اهـ

وفي المغني لابن قدامة 2/100 :

( فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد ، فقال ابن عقيل : لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد متفق عليه

والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وكان يزور القبور وقال : زوروها تذكركم الآخرة ) اهـ

وفي الإقناع للحجَّاوي 1/ 179 :

( ويترخص إن قصد مشهداً ، أو قصد مسجداً ، ولو غير المساجد الثلاثة ، أو قصد قبر نبي أو غيره ) اهـ

وفي شرحه كشاف القناع للبهوتي 1 / 505 :

(أو غيره  كولي ، وحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد أي لا يطلب ذلك ، فليس نهياً عن شدها لغيرها خلافاً لبعضهم ) اهـ

وأقوال العلماء والأئمة من المذاهب الأربعة في ذلك أكثر من أن تحصر وإذا أردت المزيد وخصوصا عن المتقدمين فراجع شفاء السقام ص 63 وما بعدها فقد ذكر استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قول طائفة كثيرة ومنهم :

عياض المالكي في الشفاء حيث قال ( ويستحب أن يزور النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يحج ويعتمر ) اهـ  ولم أجده بهذا اللفظ في نسختي من الشفاء

والمحاملي في التجريد حيث قال :

( ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ) اهـ

والقاضي حسين الشافعي حيث قال

( إذا فرغ من الحج ...يأتي المدينة ويزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ) اهـ

والروياني الشافعي حيث قال :

( يستحب إذا فرغ من حجه أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ) اهـ

وأبي العباس السروجي الحنفي في الغاية حيث قال :

( إذا انصرف الحاج والمعتمرون من مكة فليتوجهة إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره فإنها من أنجح المساعي ) اهـ

والكلوذاني الحنبلي في الهداية حيث قال :

( وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه ) اهـ

وابن حمدان الحنبلي في الرعاية حيث قال :

(ويسن لمن فرغ من نسكه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه ) اهـ

خامسا: من غير المذاهب الأربعة

الإمام ابن حزم :

في المحلى لابن حزم 2/244 :

( من نذر طاعة لله عز وجل لزمه الوفاء بها فرضا ... مثل أن يقول : لله علي صدقة كذا وكذا ... أو زيارة قبر نبي أو رجل صالح ... أو أي طاعة كانت - : فهذا هو التقرب المجرد ) اهـ

وفي مجموع رسائل الصنعاني قال 181:

( وبذلك تعلم صحة قول ابن حزم إن الخروج لآثار الأنبياء يستحب صحيح ! مع القول بفحوى الخطاب أيضا ولكن في النفس من قوله ( مستحب ) شيء لم نجد دليلا على غير الإباحة الأصلية ) اهـ

الإمام الصنعاني :

له رسالة في حكم شد الرحل لزيارة القبر الشريف وهي ضمن مجموع رسائله الذي طبعته دار البشائر من ص 165-185 وهذه بعض المقتطفات منها :

قال ص 178 - 181: ( في الرواية الأخرى بلفظ إلى مسجد فتبين أن المنهي عنه السفر للصلاة في مسجد غير الثلاثة ووجه النهي واضح لأنه لا ينبغي أن يخرج من وطنه إلا في مطلب دين أو دنيا ...

وأما السفر لزيارة قبور الأنبياء أو الأولياء والقرابة والآباء فهذا لم يتعرض له الحديث بقصد وفهم من فهم من الصحابة النهي عنه كما عرفت ...

في الحديث ( إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة ) وإذا تقرر هذا فالمنهي عنه صريحا إلى مسجد غير الثلاثة بقصد الصلاة فيه فعلى هذا لا نهي عن شدها إلى مسجد غير الثلاثة لطلب علم أو زيارة أخ في الله ...

فالخروج لزيارة القبور لم يشمله النهي لأنه شد رحل لغير مسجد ولغير صلاة فيه وهذا باق في قسم المباح من الأسفار أو يكون مستحبا ويرجا ثوابه أو يكون لمجرد الزيارة بدعة لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن سلف الأمة ...

وبذلك تعلم صحة قول ابن حزم إن الخروج لآثار الأنبياء يستحب صحيح مع القول بفحوى الخطاب أيضا ولكن في النفس من قوله ( مستحب ) شيء لم نجد دليلا على غير الإباحة الأصلية ) اهـ

وقال ص 184 : ( واعلم أنه تكرر من ابن تيمية رحمه الله الاستدلال بالإجماع والإجماع الذي هو حجة قد قال عنه إمامه الإمام أحمد : إن من ادعاه فهو كذاب كما نقلنا نصه بهذا في ( الرسالة والجواب عن صاحب نجد محمد بن عبد الوهاب والله المرجع والمآب ) اهـ

ولكنه في موضع آخر من سبل السلام يميل إلى المنع ففي 3/ 394 :

( ودل [ حديث لا تشد .. ] بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة كزيارة الصالحين أحياء وأمواتاً لقصد التقرب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني وبه قال القاضي عياض وطائفة ... وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرّم واستدلوا بما لا ينهض وتأوّلوا أحاديث الباب بتأويل بعيد ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل ) اهـ

فهما قولان له ولا أشك أن المتقدم هو ما في سبل السلام والمتأخر هو ما في تلك الرسالة إذا لو كانت الرسالة قبل السبل لأشار إليها ولو أدنى أشارة

المبحث الرابع: الأدلة

أولا : أدلة الجمهور :

أولا : الإجماع :

تقدم معنا أن طائفة كبيرة من أهل العلم نقلوا الإجماع على استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ولم يستثن أحد قبل ابن تيمية – فيما نعلم – حالة السفر وشد الرحل بل أطلقوا الاستحباب , بل ونص الكثيرون على أنه لا فرق في الزيارة بين شد الرحل وغيره ولو كانت الزيارة بسفر منهي عنها لاستثنوها من الإجماع

ثانيا : الآيات القرآنية :

ومنها قوله تعالى : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول ... )

قال الشوكاني :

( ووجه الاستدلال بها أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث : الأنبياء أحياء في قبورهم , وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءا ) اهـ نيل الأوطار 3/105

وفي معجم الطبراني 9/220 :

عن عبد الله بن مسعود قال: إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وما فيها , وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها : "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" اهـ

قال الهيثمي 7/71 : (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) اهـ

ففرح ابن مسعود بهذه الآية ظاهر في أنه عامة

ومنها قوله تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ... ) الآية

قال الشوكاني :

( والهجرة إليه صلى الله عليه وسلم في حياته الوصول إلى حضرته وكذلك الوصول بعد موته ) اهـ

نيل الأوطار 3/105

ثالثا : الأحاديث الواردة :

في مشروعية زيارة القبور على العموم كقوله صلى الله عليه وسلم :زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة .

رواه مسلم

والنبي صلى الله عليه وسلم داخل في ذلك دخولا أوليا وكذا الأنبياء والصالحين

رابعا : الأحاديث الواردة :

في خصوص زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم ومنها :

حديث حاطب رضي الله عنه :

ففي سنن الدارقطني 2/278 :

( عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ) اهـ

وفيه هذا الرجل المبهم ولكن له شواهد كثيرة ستأتي

حديث عمر رضي الله عنه:

ففي مسند الطيالسي 1/12 وسنن البيهقي 5/245:

عن رجل من آل عمر عن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا ) اهـ

قال البيهقي: هذا إسناد مجهول . بعني بسبب الرجل من آل عمر

حديث ابن عمر رضي الله عنه:

ففي سنن البيهقي5/246:

( عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي) اهـ

قال الهيثمي 3/666 :( رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه حفص بن أبي داود القارئ وثقه أحمد وضعفه جماعة من الأئمة ) اهـ

لكن تابعته عائشة بنت يونس امرأة ليث بن أبي سليم كما في المعجم الكبير 12/406 والأوسط 1/94

قال الهيثمي 3/667 : (رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عائشة بنت يونس ولم أجد من ترجمها ) اهـ

حديث ابن عمر أيضا :

ففي سنن الدارقطني 2/278:

(عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من زار قبري وجبت له شفاعتي ) اهـ

وعبيد الله هو المكبر وهو ثقة من رجال الصحيح وهو كذلك في الدارقطني وقد اختلف أهل العلم في هل هو في هذا الحديث المصغر أم المكبر ؟

وإذا كان المكبر فقد توبع كما في التلخيص لابن حجر, ورواه البزار قال الهيثمي في المجمع 3/666 :

( رواه البزار وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف .) اهـ

وعبد الله هذا ليس في إسناد الدارقطني لكن في إسناد الدارقطني موسى بن هلال قال أبو حاتم مجهول

قال الحافظ في التلخيص : أي مجهول العدالة , ولكن موسى قد تابعه مسلمة الجهني كما في شفاء السقام للسبكي ص 16

حديث ابن عمر آخر :

في المعجم الكبير 12/291 الأوسط 5/16 :

( عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا على أن أكون له شفيعا يوم القيامة ) اهـ

قال السبكي في شفاء السقام ص 16 : صححه ابن السكن

حديث ابن عمر أيضا :

ففي الدر المنثور : ( وأخرج ابن حبان في الضعفاء وابن عدي في الكامل والدارقطني في العلل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حج ولم يزرني فقد جفاني " اهـ

قال الحافظ في التلخيص 2/267 : (ورواه الخطيب في الرواة عن مالك في ترجمة النعمان بن شبل وقال إنه تفرد به عن مالك عن نافع عن بن عمر بلفظ من حج ولم يزرني فقد جفاني وذكره بن عدي وابن حبان في ترجمة النعمان والنعمان ضعيف جدا وقال الدارقطني الطعن في هذا الحديث على ابنه لا على النعمان ) اهـ

حديث آخر لابن عمر :

رواه أبو الفتح الأزدي في فوائده : بسنده إلى ابن عمر مرفوعا : (من حج حجة الإسلام ، وزار قبري ، وغزا غزوة ، وصلى في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه ) اهـ شفاء السقام ص34

حديث ابن عباس رضي الله عنه:

ففي ضعفاء العقيلي 3/457 :

(حدثنا سعيد بن محمد الحضرمي حدثنا فضالة بن سعيد بن زميل المأربي حدثنا محمد بن يحيى المأربي عن بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له شهيدا يوم القيامة أو قال شفيعا"،

وهذا يروى بغير هذا الإسناد من طريق أيضا فيه لين ) اهـ

قال الحافظ في التلخيص الحبير 2/226: ( ورواه العقيلي من حديث بن عباس وفي إسناده فضالة بن سعيد المأربي وهو ضعيف ) اهـ لكن كلام العقيلي يدل على وجود متابعة

حديث أنس رضي الله عنه :

ففي شعب البيهقي 3/489 :

(عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة ) اهـ

وفي 3/490 بلفظ ( من زارني محتسبا في المدينة كان في جواري يوم القيامة )اهـ

وفي التلخيص 2/267 :

(عن أنس أخرجه بن أبي الدنيا في كتاب القبور قال نا سعيد بن عثمان الجرجاني نا بن أبي فديك أخبرني أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك مرفوعا من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة وسليمان ضعفه بن حبان والدارقطني ) اهـ

حديث آخر لأنس :

ففي كنز العمال : ( ومن زارني بعد موتي وجبت له شفاعتي ) الديلمي - عن يحيى بن سعيد العطار عن سعيد بن ميسرة - وهما واهيان - عن أنس ) اهـ

ورواه ابن النجار في الدرة الثمينة كما في شفاء السقام ص 37 وزاد : وما من أحد من أمتي له سعه ثم لم يزرني فليس له عذر ) اهـ

حديث جابر رضي الله عنه :

ففي كنز العمال ( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن جاورني بعد موتي فكأنما جاورني في حياتي ) عد وأبو الشيخ وهب - عن جابر  اه

حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

روى اليعقوبي في فوائده بسنده إلى أبي هريرة مرفوعا ( من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ومن زارني وجبت له شفاعتي ) اهـ شفاء السقام ص36

حديث علي رضي الله عنه:

روى الحسيني في أخبار المدينة عن علي مرفوعا : من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزني فقد جفاني ) اهـ

وذكره ابن النجار في الدرة الثمينة وأبو سعيد النبسابوري في كتابه شرف المصطفى كما في شفاء السقام 39

مرسل بكر بن عبد الله :

روى الحسيني في أخبار المدينة عن بكر بن عبد الله مرفوعا : من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ) اهـ شفا السقام ص4

مرسل غالب بن عبيد الله :

ففي مصنف عبد الرزاق 9/267 :

(عن غالب بن عبيد الله رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : من زارني يعني من أتى المدينة كان في جواري ) اهـ

والأحاديث الواردة في ذلك منها الحسن لذاته كما تقدم ومنها الحسن لغيره ولو فرض أنها كله ضعيفة فمن المعلوم أن الضعيف يصير حسنا بشاهد واحد فكيف إذا كانت الشواهد أكثر من عشرة إنها بذلك قد بلغت حد التواتر ومن المعلوم أن المتواتر لا تشترط العدالة في نقلته .

وقد صحح الحديث بمجموع طرقه طائفة من أهل العلم قال الحافظ في التلخيص 2/267 :

( طرق هذا الحديث كلها ضعيفة لكن صححه من حديث ابن عمر أبو علي بن السكن في إيراده إياه في أثناء السنن الصحاح له وعبد الحق في الأحكام في سكوته عنه والشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين باعتبار مجموع الطرق ) اهـ

وفي المقاصد الحسنة للسخاوي ص 648 : ( قال الذهبي : طرقه كلها لينة لكن يتقوى بعضها ببعض لأن ما في روايتها متهم بالكذب قال ومن أجودها إسنادا حديث حاطب ) اهـ

وقال الصنعاني كما في مجموع رسائله ص 183 :

(وأما شد الرحل لمجرد زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ففيه أحاديث وإن لم تسلم عن مقال فمجموعها ينهض للاستدلال على مشروعية ذلك وندبه ولم يعارضها نهي إلا ما تكلفه ابن تيمية من أخذه من حديث لا تشد الرحال ) اهـ

وقال اللكنوي في التعليق الممجد :( وأكثر طرق هذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة لكن بعضها سالم عن الضعف القادح وبالمجموع يحصل القوة كما حققه الحافظ ابن حجر في ( التلخيص الحبير ) والتقي السبكي في كتابه

( شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام ) ، وقد أخطأ بعض معاصريه ، وهو ابن تيمية ، حيث ظن أن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة بل موضوعة ) اهـ

خامسا : الآثار ومنها :

أثر كعب الأحبار :

في سنن الدارمي 1/57 :

(حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني خالد وهو بن يزيد عن سعيد هو بن أبي هلال عن نبيه بن وهب : أن كعبا دخل على عائشة فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كعب : ما من يوم يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم يضربون بأجنحتهم ويصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه ) اهـ

وفيه كاتب الليث ولكنه قد توبع ففي الزهد لابن المبارك 558 قال : أخبرنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد ... به , وفي شعب البيهقي 3/492 : أخبرنا أبو بكر حدثني محمد بن الحسين نا قتيبة بن سعيد أنا ليث بن سعد عن خالد بن يزيد ... به ,

وفي الحلية لأبي نعيم 5/390 : حدثنا إبراهيم ثنا محمد ثنا قتيبة ثنا الليث ... به ,

وفي العظمة لأبي الشيخ 3/1019 : حدثنا أحمد بن إبراهيم المصاحفي حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني قتيبة حدثنا ليث... به

أثر علي بن أبي طالب :

عند ابن عساكر عن علي قال : ( من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جواره ) وفي إسناده عبد الملك بن هارون وفيه مقال كما في نيل الأوطار 3/10

قصة بلال :

ففي تاريخ دمشق لابن عساكر 2/256 عن أبي الدرداء قال لما دخل عمر الشام سأل بلال أن يقره به ففعل ...ثم إن بلالاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني فانتبه حزينا وركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ... ) اهـ

وذكر القصة المزي في التهذيب في ترجمة بلال وقال السبكي في شفاء السقام ص 39 :

( روينا ذلك بإسناد جيد ولا حاجة إلى النظر في الاسنادين اللذين رواه ابن عساكر بهما، وإن كان رجالهما معروفين مشهورين )

وذكره السمهودي في وفاء الوفاء 2 /408 وقال : سند جيد

وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3/105 : ( وقد رويت زيارته صلى الله عليه وسلم عن جماعة من الصحابة منهم بلال عند ابن عساكر بسند جيد )

وهذا كان من بلال بمحضر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نكير بل باستحسان منهم

أثر عمر وكعب الأحبار :

في فتوح الشام : ( لما صالح عمر أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه قال له عمر رضي الله عنه : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته فقال كعب : أفعل ذلك يا أمير المؤمنين فلما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) اهـ من شفاء السقام ص 56

أثر عمر بن الخطاب أيضا :

في مصنف عبد الرازق 5 / 133 و أخبار المدينة لعمر بن شبه 1 / 49 عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو كان مسجد قباء في أفق من الآفاق، ضربنا إليه أكباد المطي ) اهـ

ففيه جواز شد الرحل إلى غير الثلاثة المساجد

أثر سعد بن أبي وقاص :

ففي تاريخ المدينة لعمر بن شبه 1/42 : ( عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين ، أحب إلىَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل ) اهـ

قال ابن حجر في الفتح : 3 /69 : إسناده صحيح

أثر سعد بن أبي وقاص أيضا :

ففي تاريخ مكة للفاكهي رقم 2596 : ( عن سعد بن أبي وقاص قال : لو كنت من أهل مكة ما أخطأني جمعة لا أصلي في مسجد الخيف ولو يعلم الناس ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل ، لأن أصلي في مسجد الخيف ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين فأصلي فيه ) اهـ

فهذا يدل على جواز شد الرحل لغير المساجد الثلاثة كمسجد قباء والخيف فمن باب أولى قبر سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم

أثر عمر بن عبد العزيز :

في شعب البيهقي 3/491 : (حدثنا عبد الله بن يوسف الأصفهاني أنا إبراهيم بن فراس بمكة حدثني محمد بن صالح الرازي نا زياد بن يحيى عن حاتم بن وردان قال : : كان عمر بن عبد العزيز يوجه بالبريد قاصدا إلى المدينة ليقرىء عنه النبي صلى الله عليه وسلم السلام . ) اهـ

وذكر ابن أبي عاصم في منسكه : ( أن عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام ثم يرجع ) وذكر ذلك ابن الجوزي في مثير العزم الساكن كما في شفاء السقام ص55 , وذكره عياض في الشفاء 2/71 ,

وفي البداية والنهاية 9/189 : ( ولم يحج عمر ابن عبد العزيز في أيام خلافته لشغله بالأمور ولكنه كان يبرد البريد إلى المدينة فيقول له سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ) اهـ

وهذا كان بمحضر من التابعين من غير نكير بل باستحسان

وذكر ابن العماد في الشذرات 7/126 : أن الفيرزآبادي صاحب القاموس وجه خطابا للسلطان جاء فيه : ( كان من عادة الخلفا سلفا وخلفا أنهم كانوا يبردون البريد لتبليغ سلامهم إلى حضرة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه فاجعلني جعلني الله فداك ذلك البريد فلا أتمنى شيئا سواه ) اهـ

سادسا : واحتج من قال بالمشروعية أيضا بأنه :

( لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الأعمال ، ولم ينقل أن أحدا أنكر ذلك عليهم فكان إجماعا)  اهـ نيل الأوطار 3/10

ولم يزل ذلك أيضا دأب الأئمة ففي تاريخ اين عساكر 36/178 أن الإمام عبد الرزاق الصنعاني سافر قاصدا لزيارة القبر الشريف حيث قال :

( أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور أنا أبي أبو العباس أنا عبد الوهاب بن عبد الله بن عمر المري نا محمد بن سليمان الربعي نا أبو الحسن محمد بن الفيض النسائي نا إبراهيم بن عبد الله بن همام قال سمعت عبد الرزاق بن همام يقول : حججت فصرت إلى المدينة لزيارة قبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ... ) اهـ

وفي تاريخ ابن عساكر أيضا 9 /5 في ترجمة الإمام أبي عثمان الصابوني : ( قبض روحه في بعض ثغور أذربيجان متوجها إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه محمد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ) اهـ

سابعا : قالوا :

إذا سألنا من يقول بمشروعية السفر لزيارة المسجد للحديث الوارد في ذلك : ما هو سبب تفضيل المسجد على غيره وتخصيصه بالسفر ؟ فسيقول : إن سبب تفضيل المسجد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فبه صار المسجد فاضلا , فنقول له : المسجد صار فاضلا به صلى الله عليه وسلم فقصد أصل الفضل صلى الله عليه وسلم بالزيارة أولى من قصد ما اكتسب الفضل منه وهو المسجد وهذا ظاهر

ثانيا : أدلة من قال بالمنع :

أولا : حديث لا تشد الرحال وقد جاء عن :

أبي هريرة : في البخاري 1/398 ومسلم 2/1014:

( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى)

وفي رواية لمسلم 2/1015: ( قال : تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد ) بدون الحصر

وعن أبي سعيد : عند أحمد 3/45 بلفظ : (نما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس ) اهـ

وقد أجاب الجمهور : عن حديث لا تشد الرحال بأجوبة :

الجواب الأول : أن الاستثناء فيه لا يمكن أن يكون على إطلاقه حتى المانعين لا يمكن أن يجعلوه على إطلاقه فلا يقول أحد بأنه لا يجوز شد الرحال للتجارة وطلب العلم وصلة الأرحام والسياحة وغير ذلك من الأغراض مع أنها داخلة في العموم

إذا فلا بد من التقدير عند الجميع , فالجمهور قدروا ( لا تشد الرحال إلى مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد) كما هو في الرواية الأخرى ففي مسند أحمد 3/64 : ( عن شهر قال سمعت أبا سعيد الخدري وذكرت عنده صلاة في الطور فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) اهـ

قال العراقي في طرح التثريب 6 / 43 عن هذا الحديث :

( ويدل على أنه ليس المراد إلا اختصاص هذه المساجد بفضل الصلاة فيها وأن ذلك لم يرد في سائر الأسفار ... فبين أن المراد شد الرحل إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة لا كل سفر . والله أعلم  اهـ

وقال ابن حجر في فتح الباري 3/66 :

( قال بعض المحققين : قوله إلا إلى ثلاثة مساجد المستثنى منه محذوف فأما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة أو أخص من ذلك لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله أعلم )اهـ

وقال الشوكاني في نيل الأوطار :

( وقد أجاب الجمهور عن حديث شد الرحل بأن القصر فيه إضافي باعتبار المساجد لا حقيقي قالوا : والدليل على ذلك أنه قد ثبت بإسناد حسن في بعض ألفاظ الحديث : لا ينبغي للمطي ...

وأجابوا ثانيا بالإجماع على جواز شد الرحال للتجارة وسائر مطالب الدنيا ، وعلى وجوبه إلى عرفة للوقوف ، وإلى منى للمناسك التي فيها، وإلى مزدلفة، وإلى الجهاد والهجرة من دار الكفر، وعلى استحبابه لطلب العلم .) اهـ

الجواب الثاني :

أنه مع كون القصر فيه إضافيا فليس المراد هو النهي بل المراد الإخبار بفضيلة هذه الثلاثة علي غيرها بدليل الرواية الأخرى التي عند أحمد 3/350 وصححه ابن حبان 4/495 ولفظه :

(عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق ) اهـ

ويؤيد هذا ما سبق ذكره من الآثار الواردة عن الصحابة في شد الرحل لمسجد قباء ومسجد الخيف قال النووي في شرح مسلم 9/106:

( والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة والله أعلم )اهـ

وفي المغني لابن قدامة 2/100 :

( وأما قوله عليه السلام : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فيحمل على نفي التفضيل لا على التحريم وليست الفضيلة شرطا في إباحة القصر فلا يضر انتفاؤها . ) اهـ

قال الحافظ في فتح الباري 3/65 :

( وأجابوا عن الحديث باجوبة منها : أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز وقد وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ لا ينبغي للمطي أن تعمل وهو لفظ ظاهر في غير التحريم ) اهـ

الجواب الثالث :

أن الحديث في النذر ولزوم الوفاء به فلا يلزم في غير الثلاثة قال الحافظ في فتح الباري 3/65 :

( ومن الأجوبة أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به قاله بن بطال وقال الخطابي اللفظ لفظ الخبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة ) اهـ

الجواب الرابع :

أن الحديث في قصد المساجد الثلاثة للاعتكاف قال الحافظ في فتح الباري 3/65 :

( ومن الأجوبة أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال لا يعتكف في غيرها وهو أخص من الذي قبله ولم أر عليه دليلا ) اهـ

ثانيا : الآثار في النهي عن شد الرحل لغير الثلاثة :

أثر ابن عمر : ففي مصنف عبد الرزاق 5/135 :

(عن عرفجة قال قلت لابن عمر إني أريد أن آتي الطور قال إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى ودع عنك الطور فلا تأته )اهـ

أثر أبي بصرة : وفي مسند أحمد 6/397 الطبراني في المعجم الكبير 2 / 310 :

( عن أبي بصرة الغفاري قال : لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه قال: فقلت له : لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت قال : فقال ولم ؟

قال : فقلت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، المسجد الأقصى ، ومسجدي ) اهـ

والجواب عن هذه الآثار واضح فإن الآثار في زيارة مسجد الطور وقد تقدم أن الجمهور يقدرون المستنثى منه بـ ( إلى مسجد ) كما جاء في الرواية الأخرى

ثالثا :حديث لا تتخذوا قبري عيدا :

ففي مصنف عبد الرزاق 3/577 وابن أبي شيبة 2/150 :

( عن علي بن حسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فدعاه فقال ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم) اهـ

والجواب عنه من وجوه :

أولا : أن الحديث ضعيف قال ابن كثير في تفسيره 3/677:  

( في إسناده رجل مبهم لم يسم ، وقد روي من وجه آخر مرسلاً ...فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة فنهاهم ) اهـ

وظاهر من كلام ابن كثير أنه يوجه النهي إن صح لأمر غير الزيارة وهو إساءة الأدب

ثانيا : أنه ليس في قوله صلوا علي حيث ما كنتم نهي عن الزيارة أو السفر لها

قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/483 :  

( هذا مرسل، وما استدل الحسن - في فتواه - بطائل من الدلالة، فمن وقف على الحجرة المقدسة ذليلا مُسَلِّما مصليا على نبيه، فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلل والحب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في مصلاه إذ الزائر له اجر الزيارة واجر الصلاة عليه، والمصلى في سائر البلاد له اجر الصلاة فقط فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ) اهـ

ثالثا : أنه ليس في قوله : لا تتخذوا قبري عيدا نهي عن الزيارة أو السفر لها قال الشوكاني في نيل الأوطار :

( وأجابوا عن حديث : لا تتخذوا قبري عيدا بأنه يدل على الحث على كثرة الزيارة لا على منعها ، وأنه لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيدين ويؤيده قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تتركوا الصلاة فيها كذا قال الحافظ المنذري.

وقال السبكي : معناه أنه لا تتخذوا لها وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه ، أو لا تتخذوه كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع للهو وغيره كما يفعل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلا للزيارة والدعاء والسلام والصلاة ثم ينصرف عنه .) اهـ

هذا آخر المطاف والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحب وأتباعه

---
فيجب التفريق بين الأمور التالية :

- أولا : لا بد من التفريق بين العبادة بالمعنى الأعم (وهو مطلق الطاعة) , والعبادة بالمعنى الأخص والتي من فعلها لغير الله تعالى وقع في الشرك (وهي الخضوع بنية التعبد) .
فإن إتقان العمل هو من العبادة بمعنى الطاعة , فمن فعله متقرباً به إلى الله تعالى فقد عبد الله تعالى , لكنّ من أتقن عمله متقرباً بذلك إلى مديره ومسؤوله فلا يقال أنه أشرك ..
والسجود بنية التعبد هو من العبادة بالمعنى الثاني , فمن فعله متقرباً إلى الله تعالى فقد عبد الله تعالى , ومن فعله متقرباً به إلى مخلوق فقد وقع في الشرك ..

فأداء العبادة بالمعنى الأعم لغير الله تعالى -كالزواج والبيع والشراء والإحسان إلى الجار- لا يكون شركاً ..
أمّا أداء العبادة لغير الله تعالى بالمعنى الأخص –وهو الخضوع بقصد التعبد- فهو شرك في كلّ حال , كما هو في السجود لغير الله تعالى بقصد التعبد ..

- ثانياً : لا بد من التفريق بين العبادة بمعنى الفعل العبادي (ما يمكن فعله تقرباً إلى الله) , والعبادة بمعنى الخضوع بنية التعبد ..
فإن الفعل العبادي (المتعبد به) لا يكون عبادة بالمعنى الأخص إلا مع نية التعبد , فأداء الفعل المتعبد به ليس شركاً إلا إذا كان مقروناً بنية التعبد لغير الله تعالى , أمّا أداء العبادة بالمعنى الثاني فهو شرك مخرج من الملة ..

فإن القيام في الصلاة عبادة لله تعالى ولو كان لمجرد بضع دقائق , لأن القائم قصد بذلك الفعل التعبد لله تعالى , إلا أن القيام لغير الله تعالى ليس شركاً إلا بنية التعبد له , فإن الجندي يقف بتأدب أمام قائده الساعات الطوال دون أن يقصد عبادته فلا يكون مشركاً , ولكن لو اقترن مع ذلك الفعل العبادي (القيام) نية التعبد لغير الله تعالى كان شركاً كوقوف الهندكي أمام الأوثان ..

فليس كل فعل أمكن فعله تقرباً إلى الله يكون أداؤه لغير الله تعالى شركاً , بل الضابط في كونه شركاً أو غير شرك هو "نية التعبد"
وهذه النية هي التي تجعل هذا الفعل العبادي (وهو ما أمكن فعله تقرباُ إلى الله تعالى) عبادةً تارة وعادة تارة أخرى!
فالامتناع عن الطعام فعل عبادي , فإذا نوى الإنسان به العبادة والصيام كان عبادة وطاعة , وإذا نوى به مجرد الحمية لم يكن عبادة وطاعة ..

وعلى هذا فإن السجود فعل عبادي (يصح أن يفعل تقرباً إلى الله) ..
وهذا الفعل العبادي يكون عبادة لله تعالى إذا قصد فاعله التعبد لله كمن يسجد لله تعالى في صلاته..
ويكون فعله شركاً بالله إذا قصد فاعله التعبد لغير الله تعالى كمن يسجد للشمس ...
وفعله بغير نية التعبد بل للتكريم والاحترام مباح في شرائع من سبقنا كما في سجود الملائكة لسيدنا آدم وسجود إخوة سيدنا يوسف وأبويه له ...
وفعله بغير نية التعبد بل للتكريم والاحترام محرم وبدعة في شريعتنا للأدلة الناسخة ...
وفعله دون قصد التعبد أوالتكريم بل للتطبب مباح ..
ومثله الطواف ...
فمن طاف بالكعبة بنية التعبد لله تعالى فهو مثاب مأجور , ومن طاف بها بنية عبادتها فهو مشرك مأزور , ومن طاف بقبر ولي أو نبي بقصد التعبد لله تعالى فهو مبتدع لأنه فعل فعلاً غير مشروع , ومن طاف بقبر ولي أو نبي بقصد التعبد للولي أو النبي فهو مشرك شركاً أكبر

فالفارق في جميع ذلك هو القصد والنية ..
وهذا ما صرح به علماء المذاهب الأربعة , وصرح به علماؤنا الشافعية , وقد نظمه بعضم عندما فرّق بين العبادة والقربة والطاعة بقوله (كما في البجيرمي على الخطيب) :

وَطَاعَةٌ بِالِامْتِثَالِ كَالنَّظَرِ **** وَقُرْبَةٌ مِنْ عَارِفِ رَبِّ الْبَشَرِ
عِبَادَةٌ لِنِيَّةٍ مُفْتَقِرَهْ **** حَقَائِقُ الثَّلَاثِ جَاءَتْ شُهْرَهْ


وارجع في ذلك إلى الكتب التالية عند المذاهب الأربعة :
حاشية البجيرمي على الخطيب , حاشية الجمل , شرح المنفرجة , حاشية قليوبي وعميرة , حاشية العدوي , شرح مختصر خليل , البحر الرائق , دليل الفالحين , بداية المجتهد , الموافقات , الأشباه والنظائر , المغني , بدائع الصنائع , إعانة الطالبين , وغيرها

ولذا الحلف بغير الله شرك, فلو كان بلا علم او مع عدم حضور الذهنب فهو شرك غير مخرج من الملة لعدم قيام الحجة او لوجود المانع..., و ان كان مع علم و نية التعبد للمخلوق فهو أكبر

الحلف بغير الله تعالى محرم وشرك أصغر , ولم يقل أحد من العلماء أنه شرك أكبر , وليس ذلك لعدم قيام الحجة ووجود المانع , بل لو قامت الحجة وانتفى المانع فلا يكون فاعله مشركاً ما لم ينو العبادة لغير الله تعالى ..

أمّا إن كان مع نية التعبد للمخلوق فهو شرك , لأن نية التعبد لغير الله تعالى تجعل العمل شركاً أكبر , وحينئذ فلا بد من قيام الحجة وانتفاء المانع الذي تقصده للحكم بخروج فاعله من الملة أو لا , وليس هذا مختصاً بالحلف , بل لو حجل شخص على رجل واحدة ونوى بفعله ذلك التعبد لمخلوق فقد وقع في الشرك الأكبر , ووقوعه في الشرك لا يعنى وقوع الشرك عليه ..

و كذلك السجود, و كذلك الطواف و كذلك كل عبادة,,,,
إدراجك السجود والطواف مع الحلف بغير الله غير سديد , لما مر ..

فالوقوع في الكفر و الشرك كفر اكبر ولا يشترط استحلال ذلك..
نعم , الوقوع فيهما كفر أكبر , لكن الفعل لا يكون كفراً وشركاً إلا إذا نوى فاعله التعبد لغير الله تعالى , فإذا قام شخص بالطواف حول قبر ولي بقصد عبادته فقد اقترف الشرك الأكبر , سواء استحل ذلك الفعل أو لم يستحله , فكلامي ليس منصبّا على استحلال الفعل أو عدمه

واما النقول فما اسهل ان نأتي بنقول تخالف تلك النقول,
أرجو أن تتحفنا بنقلها من كتب المذاهب الأربعة ..

و النقول التي نقلتها بعضها محمول على: بدعة شركية, و منكر كفري , و مكروه كراهة تحريمية

أرجو منك أن تميز لي الأقوال المحمولة على البدعة الشركية , والأقوال المحمولة على المنكر الكفري , والأقوال المحمولة على الكراهة التحريمية , فمقصودي من النقول هو الكلام على الطواف بالقبر , وقد أتيت بهذه النقول للدلالة على أن الطواف بالقبور محرم وليس شركاً (إذا خلا عن قصد التعبد لغير الله تعالى ) , فبين لي من تلك النقول على ماذا حُمل الطواف بالقبور ..
المسألة انتشرت في القرن السادس ولذا فلا كلام للمتقدمين فيها, و من تكلم فيها من اهل القرن السادس فانما وصفوها بأنها بدعة دون تفصيل, و من المعلوم ان كلمه بدعة يدخل فيها البدع الشركية, و البدع الكفرية

من المعلوم أن النووي متقدم على ابن تيمية وابن القيم والبهوتي والرحيباني والدهلوي , وقد صرح بحرمة الطواف بالقبر ولم يقل أنه شرك , وقد ذكر حرمة الطواف بالقبر ضمن أمور أخرى هي محرمة وليست شركاً بالاتفاق , ففهم كلامه بأنه حكم على الطواف بالقبر بالبدعية الشركية غير سديد , وكلامه واضح لا لبس فيه ..

منهم من يفصل فيقول ان نوى بها التقرب الى الله فهي بدعة, و ان نوى التقرب الى صاحب القبر فذاك كفر مخرج من الملة, الا ان هذا التفصيل غريب ولا حاجة اليه

بل التفصيل هذا هو التحقيق والصواب , فإن الخضوع –سواء كان سجوداً أو طوافاً- لا يكون أداؤه لغير الله تعالى شركاً إلا بنية التعبد لغير الله تعالى , فمقوّم العبادة ما قارنها من قصد التعبد .. لان حديثنا انما هو عن تلك العبادات بعد ان تُقام الحجة على الفاعل, و من اقيمت عليه الحجة بتحريم الطواف حول القبر فأصر فلا يُتصور في فعله الا الشرك و ان زعم انه انما يتقرب لله,,, لا يكون الفعل شركاً إلا بنية التعبد لغير الله تعالى , لأن كثيراً من الأعمال تشترك في الصورة لكنها مختلفة في الحكم , فالسجود لغير الله تعالى يكون أحياناً شركاً كمن سجد لغير الله تعالى بقصد التعبد له , أو كمن كان سجوده أمارة من أماراة الكفر والتكذيب كالسجود للشمس أو الصنم , وقد يكون مباحاً كسجود الملائكة لسيدنا آدم , وقد يكون محرماً كسجود الصحابي للنبي –صلى الله عليه وسلم- , ولا يقال أن من يسجد بنية العلاج والاستطباب أنه وقع في شرك أو محرم , وذلك تبعاً لنيته ..

بل من عبد غير الله و قال انما اعبد الله فبُين له ان ذلك حرام فأصر فهو كافر لا اشكال في ذلك سواءُ أزعم انه يتقرب لله او لغير لله, و هو بذلك مشابه للكفار في قولهم: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ", و نحن نكفر بالاعمال و ليس فقط بالأقوال,,,

لا يمكن الحكم على شخص بأنه عبد غير الله تعالى إلا بالنظر إلى قصده , فما دام أنه يقول أنا أعبد الله فلا يصح الحكم عليه بأنه عابد لغيره , وتشبيهه بالكفار في قولهم : "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى "بعيد جداً , فإن الكفار يصرحون بأنهم قصدوا عبادتهم حيث قالوا : (مَا "نَعْبُدُهُمْ" إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) , فيصرحون بأنهم يعبدونهم ولم يقولوا أننا لا نعبدهم!! بخلاف من قال أنني لا أعبد صاحب القبر وإنما أعبد الله بالطواف حول قبره , فقد عَبَد الله تعالى بما لم يشرعه له ..

وليس هذا مختصاً بالطواف , بل كل خضوع لا يكون أداؤه لغير الله تعالى شركا إلا إذا اقترن بنية التعبد لغير الله , كالسجود والذبح وغيرها , وهذا ما تدل عليه نصوص الأئمة من المذاهب الأربعة , وأنقل كلام النووي من أئمتنا الشافعية كمثال, فقد قال في الروضة عن الذبح (كتاب الضحايا ج3):
( قال : وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواءً كان الذابح مسلما أو نصرانياً , وفي تعليقة للشيخ إبراهيم المروروذي رحمه الله أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه , لأنه مما أهل به لغير الله تعالى , واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه نازل منزلة السجود له , وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة , فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته , وكان فعله كفرا كمن سجد لغيره سجد عبادة , وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه , فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيما لها لأنها بيت الله تعالى أو الرسول لأنه رسول الله –ص- فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة , وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل : أهديت للحرم أو للكعبة , ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان فإنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود , ومثل هذا لا يوجب الكفر , وكذا السجود للغير تذللا وخضوعا , وعلى هذا إذا قال الذابح : باسم الله وباسم محمد , وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي أن لا يحرم , وقول من قال لا يجوز ذلك يمكن أن يحمل على أن اللفظة مكروهة , لأن المكروه يصح نفي الحواز والإباحة المطلقة عنه , ووقعت منازعة بين جماعة ممن لقيناهم من فقهاء قزوين في أن من ذبح باسم الله واسم رسول الله –ص- هل تحل ذبيحته؟ وهل يكفر بذلك؟ وأفضت تلك المنازعة إلى فتنة , والصواب ما بيناه , وتستحب الصلاة على النبي –ص- عند الذبح , نص عليه في الأم , قال ابن أبي هريرة لا تستحب ولا تكره ) .

شخص طاف بقبر فبُين له أن هذا بدعة لا تجوز, فأصر على ذلك, أيقال عن هذا انه انما اصر على معصية؟ أم يُقال في مثله أن الرجل وقع في الشرك؟
و
 كذلك رجلٌ سجد لغير الله فبُين له أن هذا لا يجوز, أيقال في صنيعه أنه وقع في معصية أم يقال انه وقع في الشرك؟!
و
 كذلك رجل بُين له أن الحلف بغير الله شرك, فأصر على ذلك عالماً غير ساه ولا غافل عن حكم المسألة أيُقال في صنيعه أن شرك أصغر و كفى؟!



أخي الكريم ..
الحكم بالشرك على الفعل ليس متوقفاً على معرفة فاعله بحرمة فعله أم لا , بل متوقف على كون الفعل في نفسه عبادة لغير الله تعالى أم لا , فإذا كان الفعل عبادة لغير الله تعالى وتبيّن لفاعله ذلك ثم قام به فهو مشرك شركاً أكبر , أمّا إن كان الفعل أصلاً ليس بعبادة لغير الله تعالى وتبيّن لفاعله حرمته ثم قام به فلا يحكم عليه بالشرك ..

فالرياء مثلاً شرك أصغر , فمن صلّى رياءً بعد معرفته حرمة الرياء فلا يقال أنه وقع في الشرك بل وقع في محرّم , وكذلك الحلف بغير الله تعالى شرك أصغر , فمن تبيّن له حرمته ثم قام بالحلف بغير الله فقد وقع في الحرام لا في الشرك ..

ولا تلازم بين استحلال الفعل وبين معرفة حرمته , فمعظم العصاة يعرفون حرمة معاصيهم , لكنّ ذلك لا يعني أنهم يستحلون تلك المحرمات , فالاستحلال عمل قلبي لا بدّ أن يصرّح به صاحبه لنعرف ذلك , ومع هذا فلا نحكم على أولئك العصاة بالكفر لأنهم يعرفون حرمة معاصيهم , لأن الأصل في المسلم عدم استحلال الحرام ...

وعلى هذا , فإن الطواف بالقبر أو السجود عنده دون نية التعبد لغير الله ليس شركاً في نفسه , فإذا تبين لفاعله حرمته ثم قام به فلا يعدّ مشركاً بل هو مبتدع , أمّا الطواف بالقبر بنية التعبد لغير الله فهو شرك في نفسه , فإذا تبيّن لفاعله أنّه شرك ثم قام به فهو مشرك شركاً أكبر ..


و أعجب من تفريقك بين الحلف بغير الله و بين الطواف بالقبر! أيكون الحلف بغير الله شركاً (اصغراً في حالة و اكبراً في حالة) بينما الطواف بالقبر و الذبح عنده و السجود له "محرم لا أكثر"؟!


الحلف بغير الله تعالى معصية وشرك أصغر في نفسه , والكبيرة لا تصبح شركاً أكبر بمجرد معرفة صاحبها بحرمتها , إلا باستحلالها أو قصد التعبد لغير الله بفعلها ..

وأنا لم أقل أنّ الطواف بالقبر والذبح عنده والسجود له محرم لا أكثر , بل قلت :
( فالسجود لغير الله تعالى يكون أحياناً شركاً كمن سجد لغير الله تعالى بقصد التعبد له , أو كمن كان سجوده أمارة من أماراة الكفر والتكذيب كالسجود للشمس أو الصنم , وقد يكون مباحاً كسجود الملائكة لسيدنا آدم , وقد يكون محرماً كسجود الصحابي للنبي –صلى الله عليه وسلم- , ولا يقال أن من يسجد بنية العلاج والاستطباب أنه وقع في شرك أو محرم , وذلك تبعاً لنيته ..)

فالسجود بنيّة التعبد لغير الله شرك أكبر , أمّا إن كان السجود لغير الله تعالى دون تلك النيّة فلا بد من معرفة نيّة فاعله , فإننا نعلم أن سجود الملائكة لله تعالى هو بقصد التعبّد له تعالى , وسجودهم لغيره تعالى (وهو سيدنا آدم) كان بنيّة التكريم لا التعبد له فلم يكن شركاً , وذلك تبعاً للنية المقترنة به , مع أن صورة الفعل لم تتغير في الحالتين ..


فالحلف بغير الله بدون نية التعبد أعظم عند الله من السجود لغير الله؟!

ما يُفهَم من كلامي أن الحلف بغير الله بنيّة التعبد له , أعظم من السجود لغير الله بغير نيّة التعبّد له بل بنية التكريم مثلاً , فإنّ الحلف بغير الله تعالى بنيّّة التعبّد له شرك أكبر كالسجود لغير الله بنيّة التعبّد له , أمّا الحلف بغير الله دون تلك النيّة فهو شرك أصغر عند الجمهور وعند بعضهم مكروه ..

وهناك أمور أخرى في كلامك سأعلق عليها لاحقاً خشية الإطالة , وحتى لا نشتت الموضوع أسألك :
لماذا يعتبر سجود الملائكة لله تعالى عبادة له , ولم يكن سجودهم لسيدنا آدم عبادة له , مع أن كلاً منهما سجود؟! ولماذا يعتبر سجود الشخص لقبر النبي دون نية التعبد شركاً , ولم يكن سجود إخوة سيدنا يوسف له شركاً , مع أنّ الكل سجود لغير الله تعالى؟


--
من المعلوم أن من صرف شيئاً من العبادة لغير الله تعالى فقد أشرك شركاً أكبر , لكن يجب التفريق بين الفعل العبادي إذا صرف لغير الله تعالى بنية التعبد وبغير نية التعبد , فقد سجد الملائكة لسيدنا آدم –والسجود فعل عبادي- ولم يكن بنية التعبد له , فلم يكن سجودهم ذلك شركاً لخلوه عن قصد التعبد , إلا أن مَن سجد لغير الله تعالى بقصد التعبد فقد أشرك شركاً أكبر ..

والطواف كذلك فعل عبادي , ولا يكون عبادة وصرفهه للمخلوق شركاً إلا إذا قصَد الطائف التعبّد لغير الله تعالى , أو اعتقد في المخلوق شيئاً من خصائص الربوبية , أواستحقاق الإلهية , فمن طاف بقبر نبي أو ولي بقصد ((التعبّد للنبي أو الولي)) أو ((باعتقاد صفة من صفات الربوبية فيه واستحقاقه للألوهية)) فقد أشرك وكفر كفراً أكبر , ومن طاف بقبر نبي أو ولي وقصد ((التعبد لله تعالى)) عند ذلك القبر دون أن يقصد التعبد للميت ودون أن يعتقد فيه شيئاً من خصائص الربوبية والألوهية , فقد ابتدع ولا يقال أشرك , لأنّ الطواف لم يثبت إلا حول الكعبة , فمن قاس غير الكعبة عليها فليس له دليل على ذلك , وبالتالي فقد ابتدع أمراً ليس له أصل في الشريعة الغراء , وبهذا حكم الأئمة الفقهاء من المذاهب الأربعة :



الأحناف :



جاء في "الفتاوى العزيزية" للإمام عبد العزيز الدهلوي الحنفي ما نصه :
السؤال : هل يُكفر من يطوف بالقبور أم لا ؟
الجواب : إن الطواف بقبور الصلحاء والأولياء بدعة بلا شبهة , لأنه لم يكن في الزمان السابق , إلا أنه اختلف فيه هل هو حرام أم مباح؟ فذكر البعض في كتب الفقه أنه مباح , والحق أنه لا يباح ؛ لأنه يلزم فيه مشابهة الكفّار فإنهم يطوفون بالأصنام , وأيضاً إن الطواف لم يعهد في الشرع إلا للكعبة , فتشبيه قبر صالح بها غير مستحسن , لكن القول بكفر من يعمله وإخراجه من دائرة الإسلام شنيع وقبيح جداً , وكذلك التكفير في حق المكفر قبيح جداً , فقط ).


المالكية :



قال ابن الحاج المدخل :
( فترى من لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة , ويتمسح به ويقبله , ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم يقصدون به التبرك ، وذلك كله من البدع )


الشافعية :



قال النووي في المجموع :
ولا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر. قاله أبو عبد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما كان يبعد منه لو حضره في حياته، هذاهو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بكثرة مخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم)

وقال ابن جماعة في المناسك :
(( وليحذر مما يفعله جهلة العوام من الطواف بقبره صلى الله عليه وسلم..فإن ذلك من المنكرات ))

وقال الإمام أبو شامة المقدسي في الباعث في إنكار البدع والحوادث :
( قال ابن الصلاح: (( ولا يجوز أن يطاف بالقبر، وحكى الإمام الحليمي عن بعض أهل العلم: أنه نهى عن إلصاق البطن والظهر بجدار القبر ومسحه باليد، وذكر أن ذلك من البدع , قال: وما قاله شبيه بالحق ))

وقال السيوطي في "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" :
ومن البدع أيضاً: أكل العوام التمر الصيحاني في الروضة الشريفة بين المنبر والقبر، وطوافهم بالقبر الشريف ، ولا يحل ذلك , وكذلك إلصاقهم بطونهم وظهورهم بجدار القبر، وتقبيلهم إياه بالصندوق الذي عند رأس النبي –ص- ومسحه باليد , وكل ذلك منهي عنه) .


الحنابلة :



قال البهوتي في كشاف القناع:
(وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ عِنْدَهُ) أَيْ الْقَبْرِ (وَتَجْصِيصُهُ وَتَزْوِيقُهُ، وَتَخْلِيقُهُ وَتَقْبِيلُهُ وَالطَّوَافُ بِهِ وَتَبْخِيرُهُ وَكِتَابَةُ الرِّقَاعِ إلَيْهِ، وَدَسِّهَا فِي الْأَنْقَابِ وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالتُّرْبَةِ مِنْ الْأَسْقَامِ) لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ).

وفي مطالب أولي النهى:
((وَكَذَا) يَحْرُمُ (طَوَافٌ بِهَا) ، أَيْ : الْقُبُورِ ، (خِلَافًا لَهُ)، لِصَاحِبِ " الْإِقْنَاعِ " (هُنَا) حَيْثُ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ صَرَّحَ بِالْحُرْمَةِ).

---
 الرد على بض التعليقات ::::
1- لقد قلت أخي الكريم : (ولابد من مراعاة واقع الحال حالَ التفصيل حتى لايكون كلاماً نظرياً لا وجود له فيالخارج أو هو من قبيل النادر فيكون له حكم المعدوم , وكل من طالع حال هؤلاء الطوافين بالقبور أدرك أنهم يصرفون قدرا بالغا من التعظيم لهؤلاء المقبورين والتوجه إليهم بقلوبهم )

إن الحكم على هؤلاء الطوافين بأنهم يصرفون قدراً بالغاً للمقبورين وأنهم يتوجهون إليهم بقلوبهم , مخالفُ لما يصرحون به بالليل والنهار , فهم يقولون بأننا لا نصرف لهم ذلك ولا نقصد عبادتهم ولا نحبهم ونعظمهم إلا كمحبتنا لكل ولي من أولياء الله تعالى الذين أُمرنا الشرع بحبهم , أضف إلى ذلك أن ما يقوم بالقلوب أمر غيبي , فلا يعلم ما في القلوب إلا علّام الغيوب , وحسبنا أن نحكم على ما ظهر لنا من الأفعال دون ما يقوب بالقلوب من النوايا والحركات ..

2- وقلت : (السجود لبعض البشر يحتمل تفصيلاً عند بعض المتأخرين فقد يكون في بعض صوره من قبيلكبائر الذنوب العظام إن كان سجد بقصد التحية والاحترام لا التعظيم العبادي ..ولكن الأصل فيه أنه كفر بالله عز وجل ناقل عن الملة لما تقرر في جميع النفوس أنه من أخص مظاهر العبادة في الشريعة المحمدية, بخلاف ما لو سجد لله وجعل القبر في جهته فهذا نعم لايكون كفراً بل بدعة وحراماً لأن هناك فرقا بين السجود لشيء والسجود إلى شيء..وفيه تفصيل أيضاً فقد يسجد لله ويجعل القبر بينه وبين القبلة قاصدا بذلك معنى معيناً فيه تشريك
وإنما قلت :الأصل في السجود لغير الله أنه كفر..لأن هذه الحالة التي تسمى سجود احترام لا يكاد يحق فيها مصداق خارجي بعد البعثة النبوية إلا على سبيل التعظيم المشوب بمعنى التعبد ولو من وجه خفي والتقرب للمسجود له بذلك الخضوع التذللي ..)

إن السجود من أخص مظاهر العبادة في جميع الشرائع , والأصل فيه النظر إلى قصد فاعله , فلما كان سجود الملائكة لسيدنا آدم تكريما لم يكن شركاً , وإذا صدر السجود لغير الله من مسلم فالأصل حمله على عدم إرادته التعبد لغير الله تعالى , بقرينة إسلامه وتوحيده وإنكاره أن يكون متقرباً إلى المخلوق بفعله , فالقول بأنه لا يكاد يصح فيه مصداق خارجي بعد البعثة النبوية ليس صحيحاً , لأن التعظيم المشوب بالتعبد -ولو من وجه خفي- والتقرب للمسجود له.. إنما هوأمر قلبي , والتهجم على قلوب الناس ادعاء لعلم الغيب , والأصل في المسلم حمل فعله على عدم التعبد والتقرب للمسجود له ..

ولهذا قال الذهبي في كتابه معجم الشيوخ (1/73):
( ألا ترى الصحابة من فرط حبهم للنبي –ص- قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: لا، فلو أذن لهم لسجدوا سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة , كما سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف، وكذلك القول في سجود المسلم لقبرالنبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلا , بل يكونعاصيا. فليعرف أن هذا منهي عنه وكذلك الصلاة إلى القبر ) .

وقال في سير أعلام النبلاء في ترجمة الحسن ابن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ( 4 / 483) :
( فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلا مسلما مصليا على نبيه فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب , وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في صلاته , إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه , والمصلي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط , فمن صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشرا , ولكن من زاره صلوات الله عليه وأساء أدب الزيارة أو سجد للقبر أو فعل ما لايشرع فهذا فعل حسنا وسيئا , فيعلم برفق والله غفور رحيم , فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلا وهو محب لله ولرسوله , فحبه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار , فزيارة قبره من أفضل القرب وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء , لئن سلمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه : ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) فشد الرحال إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- مستلزم لشد الرحل إلى مسجده , وذلك مشروع بلا نزاع , إذ لا وصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده , فليبدأ بتحية المسجد ثم بتحية صاحب المسجد , رزقنا الله وإياكم ذلك آمين) ..

وهذا ما صرح به جملة من المحققين ..

فجاء في الفتاوى الهندية :
(مَنْ سَجَدَ لِلسُّلْطَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ أَوْ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَكْفُرُ , وَلَكِنْ يَأْثَمُ لِارْتِكَابِهِ الْكَبِيرَةَ , هُوَ الْمُخْتَارُ ) .

- وفي الخادمي على الدرر :
( تقبيل الأرض والانحناء ليس بجائز بل محرم ) .

- وقال النووي في روضة الطالبين :
( قلت: وسواء في هذا الخلاف في تحريم السجدة ما يفعل بعد صلاة وغيره , وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الضالين من السجود بين يدي المشايخ فإن ذلك حرام قطعا بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها وسواء قصد السجود لله تعالى أو غفل , وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر , عافانا الله تعالى والله أعلم ) .

- وفي حواشي الشرواني :
(ومما يحرم ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ ولو إلى القبلة أو قصده لله تعالى , وفي بعض صوره ما يقتضي , الكفر عافانا الله تعالى من ذلك ) .

- وفي فتح المعين :
(وسجود الجهلة بين يدي مشايخهم حرام اتفاقا) .

- وقال الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر :
( من ثم قال أصحابنا تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً ) .

- وجاء في حاشية البجيرمي على الخطيب :
( َقالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَا يَفْعَلُهُ عَوَامُّ الْفُقَرَاءِ وَشَبَهُهُمْ مِنْ سُجُودِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ الْمَشَايِخِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ بِطَهَارَةٍ وَتَوَجُّهٍ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَقَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ ذَلِكَ تَوَاضُعٌ وَتَقَرُّبٌ وَكَسْرُ نَفْسٍ وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ ، فَكَيْفَ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِمَا حَرَّمَهُ؟! ....
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : هَذَا السُّجُودُ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ ، وَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ كُفْرًا , وَمِثْلُهُ بُلُوغُ حَدِّ الرُّكُوعِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ .
وَإِنَّمَا قَالَ وَيُخْشَى إلَخْ , وَلَمْ يَجْعَلْهُ كُفْرًا حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّجُودِ بَيْنَ يَدِي الْمَشَايِخِ لَا يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الشَّيْخِ كَتَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْبُودًا ، وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ ذَلِكَ , كَمَا فِي ع ش عَلَى م ر ) .
(ع ش : الشبراملسي , م ر : الشمس الرملي )

- وفي مطالب أولي النهى :
(( أَوْ سَجَدَ لِصَنَمٍ أَوْ كَوْكَبٍ ) كَشَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ ؛ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
( وَيَتَّجِهُ السُّجُودُ لِلْحُكَّامِ وَالْمَوْتَى بِقَصْدِ الْعِبَادَةِ كَفْرٌ ) قَوْلًا وَاحِدًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ( وَالتَّحِيَّةُ ) لِمَخْلُوقٍ بِالسُّجُودِ لَهُ (كَبِيرَةٌ ) مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ ، وَالسُّجُودُ لِمَخْلُوقٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ ( مَعَ الْإِطْلَاقِ ) الْعَارِي عَنْ كَوْنِهِ لِخَالِقٍ أَوْ مِخْلَاقٍ (أَكْبَرُ إثْمًا وَأَعْظَمُ جُرْمًا , إذْ السُّجُودُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَهُوَ اتِّجَاهٌ حَسَنٌ ) ) .
وقال أيضاً :
(( وَيَتَّجِهُ ) أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ لِجَامِدٍ أَوْ مُتَحَرِّكٍ وَلَوْ بِنِيَّةِ التَّهَكُّمِ - وَيُسْتَتَابُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ( غَيْرَ نَحْوِ صَنَمٍ وَكَوْكَبٍ ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّيَّارَةِ أَوْ الثَّوَابِتِ ، فَإِنَّ السُّجُودَ لِذَلِكَ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ) .

- وجاء في كشاف القناع في باب شروط من تقبل شهادته , أثناء ذكره جملة من الكبائر :
(( وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْعِصْيَانِ ) لِحَدِيثِ { لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ( وَتَرْكُ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ( وَنُشُوزُهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ ( عَلَى زَوْجِهَا وَإِلْحَاقُهَا بِهِ وَلَدًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِتْيَانُهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ ( فِي الدُّبُرِ وَكَتْمُ الْعِلْمِ عَنْ أَهْلِهِ ) عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إظْهَارِهِ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ الدُّنْيَا وَالْمُبَاهَاةُ وَالْجَاهُ وَالْعُلُوُّ عَلَى النَّاسِ وَتَصْوِيرُ ذِي الرُّوحِ وَإِتْيَانُ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ وَتَصْدِيقُهُمَا وَالسُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ إلَى بِدْعَةٍ ( أَوْ ضَلَالَةٍ وَالْغُلُولُ وَالنُّوَاحُ ) يَعْنِي النِّيَاحَةَ ( وَالتَّطَيُّرُ ) ) .

- وجاء في الإقناع :
( ومما يحرم ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ ولو إلى القبلة، أو قصده لله تعالى , وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر )

- وقال الشوكاني في السيل الجرار :
( وأما قوله )ومنها السجود لغير الله) فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصداً لربوبية من سجد له، فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عز وجل وأثبت معه إلهاً آخر، وأما إذا لميقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيراً لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيماً له، فليس هذا من الكفر في شيء، وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه جنى ) .

فكون السجود مظهراً من مظاهر العبادة لا يستلزم كفر من قام به لغير الله تعالى , فأي مظهر من مظاهر العبادة لا يكون أداؤه للمخلوق شركاً إلا إذا كان بقصد التعبد كما قلت فيما مضى , وهذا هو الفرق بين العبادة بمعنى الفعل العبادي والعبادة بمعنى الخضوع بقصد التعبد الذي بينتُه سابقاً ..


3- قلت : (فمعظم من ينقَل عنهم على عقيدة الأشاعرة..(وليس ابن حجر أشعريا على التحقيق ولكن متأثر بهم وفرق بينهما) وفيما يتعلق بهذا المبحث ,جدير بالذكر أن الأشاعرة مرجئة ومتأخروهم غلوا في الإرجاء ..)

هذا كلام مضحك!! هل أصبح أهل السنة الأشاعرة مرجئة! إذاً فاحكم على فقهاء الأمة الكبار بالإرجاء , فيبدوا أنك تملك مفهوماً خاصاً للإرجاء , وليس هنا محل الكلام على ذلك ..

مع أنّ الإرجاء ليس له علاقة بتفصيل الأئمة وتفريقهم بين السجود للمخلوق بنية التعبد أو بنية التكريم , إذ تفصيلهم ناشئ عن كون النيّة مقوم العبادة , فهناك بعض مظاهر العبادة تكون عبادة لله تعالى في حال , وتكون عبادة لغير الله تعالى في حال آخر , وتكون عادة في حال ثالث , وهناك أعمال تعتبر عبادة واجبة في حال وعبادة مندوبة في حال وعادةفي حال ثالث , مع أن صورة العمل لم تتغير في جميع ذلك , إلا أن النية قد تغيرت فتغير الحكم تبعاً لها , فتمييز العبادات من العادات وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض متعلق بالنية والقصد ..

--

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق