بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
له رب العالمين والصلاة والسلام على رسول
الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما
بعد
فهذه
حلقة من سلسلة : ( وكونوا عباد الله إخواناً ) كتبتها أو بالأحرى جمعتها من أقوال
علماء الأمة وأئمتها أقصد بها تجميع وتوحيد صفوف المسلمين ، ولا سيما في هذا العصر
الذي تجمع فيه أعداء الله ورسوله ولا سند لهم ولا أصل في إجتماعهم هذا إلاّ محاربة
الله ورسوله ، وهم أبعد ما يكونون عن الإتفاق والإجتماع .
وتفرق
فيه عباد الله ، أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين فرقاً وأحزاباً تبادل بعضها بعضاً الحقد والكراهية ، بل
المحاربة والسباب والشتائم والتهم ! علماً " بأنّ أكثر الإختلاف - كما يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب ، وهو أن
يكون كلّ واحد من المختلفين مصيباً فيما يثبته مخطئاً في نفي ما عليه الآخر كما
أنّ القارئَين – يقصد الصحابيين اللذين اختلفا في القراءة حتى زجرهم النبي وقال : كلاكما محسن – كلّ منهما كان
مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه ، مخطئاً في نفي حرف غيره ، فإنّ أكثر الجهل
إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب ، لا في الإثبات ، لأنّ إحاطة الإنسان
بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه . . . " .
هذه
كلمات خليقة بأن تكتب بماء من ذهب ، فرحمة الله ورضوانه على شيخ الإسلام ابن تيمية
.
إنّ
من أكبر أسباب الإختلاف بين المسلمين هو أنّ كلاً منهم يرى نفسه على الحق الذي لا
ريب فيه ، والصواب الذي لاشكّ فيه من غير أن يتعب نفسه فيطلع على أدلة وحجج أخيه
الذي يخالفه ، فربما لو اطلع عليها لطبقّت الآية الكريمة عليه : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم
عسى أن يكونوا خيراً منهم ،
ولا يليق أبداً بالمؤمن الكيّس الفطن أن يكون متعصباً معرضاً عن ما لا يشتهيه
بدعوى أنه خطأ وباطل من غير أن يطلع عليه !!
يقول
تعالى : يا
أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على
ما فعلتم نادمين !!
من
هذا الباب رأيت بعض المسائل قد أصبحت سبباً في تفرق المسلمين واختلافهم ، فبدأت
أجمع في كلّ مسألة أقوال العلماء والأئمة من الفريقين ومناقشتهما على ضوء الكتاب
والسنة وأقوال العلماء والمفسرين والمحدثين .
وغرضي
هو تقريب الشقة بين المسلمين المختلفين لا على حساب الحق والكتاب والسنة ، بل على
أساس الحق والكتاب والسنة إن شاء الله ، فإن أصبت فمن محض فضل الله تبارك وتعالى ،
وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان ، أسأل الله العظيم الرحمة والغفران .
وآخر
دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين .
توطئة
:
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من
يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلاّ
الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده ورسوله . اللهم صلِّ على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم الدين .
إنّ
عدم فهم النصوص الشرعية فهماً صحيحاً دقيقاً يؤدي إلى الإنحراف والبعد عن الغاية
التي جاءت النصوص من أجلها ، ويُبعِد عن الهدف المرسوم المتوخاة منها تحقيقه .
وهذا
له آثاره السلبية قد لا تكون خطيرة جداً إذا ما اقتصر على المخطيء وحده . ولكن إذا
تعدى هذا الفهم الخاطيء إلى غيره وبُني عليه تصورات وسلوك وأحكام على المسلمين وعلى
الجماعات في الساحة الإسلامية فهذا خطره جسيم وأثره وبيل !
مثال
على الخطأ في الفهم المقتصر على صاحبه :
1- عندما نزل قول الله سبحانه : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود جعل
عدي بن حاتم عقالاً
أبيضاً وآخر أسوداَ تحت وسادته فجعل ينظر في الليل فلا يستبين له ، ثم غدا على
رسول الله وذكر
له ذلك ، فبين له رسول الله بأنّ
المقصود هو سواد الليل وبياض النهار .
2- ( عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي إجتمعن عنده فقلن : أيتنا أسرع لحوقاً
بك ؟ قال : (( أطولكن يداً )) ، فأخذن قصبة فجعلن يذرعنها ، وكانت سودة أسرعهن
لحوقاً به وكانت أطولهن يداً فكان ذلك من كثرة الصدقة ) .
وأما
المثال على الفهم الخاطيء المتعدي إلى غيره :
1- عن أسلم ابن أبي عمران قال : حمل رجل من
المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس :
ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية ، إنما أنزلت فينا ،
صحبنا رسول الله وشهدنا
معه المشاهد ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا : قد
أكرمنا الله بصحبة نبيه ونصره
حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد وقد وضعت
الأحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيها ، فنزل فينا : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة فكانت
التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد
.
2- فهم الخوارج لقوله تعالى : إن الحكم إلاّ لله حيث اعترضوا على علي ابن أبي طالب في قضية التحكيم وقالوا : لا حكم إلاّ
لله ، فردّ عليهم بقوله المشهور : ( كلمة حقّ يراد بها الباطل ) .
إنّ
الخطر ليس في الخطأ القاصر على صاحبه والذي يمكن علاجه ببيان المسألة وتوضيحها ،
بل الخطر كلّ الخطر في الأخطاء التي تتعدى ضررها وتبنى عليها تصورات وسلوك وأحكام
على المسلمين وعلى الجماعات الإسلامية والتي تؤدي إلى إرباك الصف وزعزة الثقة
وتنفير المسلمين وإبعادهم عن أئمة المسلمين وعلمائهم ، وهذه جهود تصب في صالح
أعداء الله ورسوله وتقوية ومناصرة لهم في حربهم على المسلمين .
ولقد
رأينا في المثال الأول كيف تدارك الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الموضوع وأصلح
الخطأ وصحح المسار والمسلمون بدورهم إمتنعوا وسلموا تسليماً .
بينما
الخوارج أوغلوا في الخطأ ومضوا في طريقهم يقتلون المسلمين ويدعون أهل الأوثان كما
وصفهم الحديث ولا يلتفتون إلى نصح ناصح ولا إلى تحذير المسلمين حتى قال فيهم
عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : قاتلهم الله ذهبوا إلى آيات نزلت في الكفار
فجعلوها في المسلمين .
فالتثبت
واجب في فهم النصوص ولاسيما التي تبنى عليها أحكام خطيرة تمس أمن واستقرار الأمة
الإسلامية .
ومن
هذا الباب فهم بعض المسلمين من حديث رسول الله : (( لا حلف في الإسلام )) ، فقد ذهبوا –
بناءً على هذا الحديث – إلى حرمة قيام الجماعات الإسلامية ووصفها بالبدع والضلال
والانحراف . . . .الخ ، هذه التهم والسباب والشتم بدعوى أنّ قيام هذه الجماعات
يؤدي إلى التفرق والشقاق وشرخ جدار الوحدة بين المسلمين .
الوحدة
الإسلامية :
ولاشكّ
أنّ تحقيق الوحدة الإسلامية واجب بالكتاب والسنة والإجماع :
يقول
الله تعالى : إنما
المؤمنون إخوة .
ويقول
:
واعتصموا
بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين
قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً . . . .
ويقول
رسول الله :
(( إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، ولاتحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا
وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره . .
التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره – بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كلّ
المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله ))
.
ويقول
أيضاً :
(( لا تختلفوا فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا )) .
ولكن
المقصود بالوحدة هنا هو وحدة الأمة على أساس مباديء الإسلام ، بحيث لا يفرقهم شيء
من أمور الجاهلية كالعداوة والبغضاء والعصبية والتفرقة العنصرية والعرقية . . . . الخ . فالوحدة هنا تأتي في مقابل هذه
الأمور وليس المراد بها اختلاف الأمة في أمور لم يمنع الشارع الخلاف فيها أصلاً ،
وإلاّ لو كان المقصود الإختلاف مطلقاً لكان الصحابة رضوان الله عليهم أول من شرخوا
جدار الوحدة ، وشقوا صفوف المسلمين ثم يأتي من بعدهم الأئمة والعلماء وأئمة
المذاهب الأربعة وعلماء الأمة كلهم ، وذلك لأنهم اختلفوا فيما بينهم في أمور
اجتهادية كما سنوضح ذلك إن شاء الله ، ونوضح أنّ هناك ثمة أمور أباح لنا الشارع أن
نجتهد فيها .
معنى
كلمة ( الحزب )
وقبل
أن نبين معنى الحديث (( لا حلف في الإسلام )) وأقوال العلماء فيه ، نود أن نسلط
الضوء على كلمة ( الحزب ) ، هل هي كلمة شرعية لاضير في استخدامها ، أم هي كلمة شرّ
وبدعة لا يجوز استخدامها والتسمي بها ؟
معنى
كلمة ( الحزب ) : جماعة الناس ، والجمع أحزاب ، والأحزاب : جنود الكفار تألبوا
وتظاهروا على حزب النبي ،
وهم : قريش وغطفان وبنو قريظة . وقوله تعالى : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، الأحزاب هاهنا : قوم نوح وعاد وثمود ومن
أهلك بعدهم . وحزب الرجل : أصحابه وجُنده الذين على رأيه والجمع كالجمع .
والمنافقون
والكافرون : حزب الشيطان ، وكلّ قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق
بعضهم بعضاً بمنزلة عادٍ وثمود وفرعون أولئك الأحزاب . وكلّ حزب بمالديهم فرحون : كلّ طائفة هواهم واحد . . . والحزب : الصنف
من الناس ، قال ابن الأعرابي : الحزب : الجماعة . . . والحزب : الطائفة .
وعرف
الإمام الشوكاني كلمة ( الحزب ) فقال :
" . . . والحزب : الصنف من الناس ، من
قولهم : حزبه كذا : أي نابه كذا ، فكأنّ المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة
التي تنوب . وحزب الرجل أصحابه ، والحزب : الوِرد ، وفي الحديث : (( فمن فاته حزبه
من الليل . . )) ، وتحزبوا : اجتمعوا ، والأحزاب الطوائف " .
ونستطيع
من خلال التعريفين السابقين أن نقول :
الحزب
هو جماعة من الناس أو صنف أو طائفة اجتمعوا وتشاكلت قلوبهم وأعمالهم ، وهم أصحاب
الرجل وجنده الذين على رأيه ، وهواهم واحد .
ومن
خلال التعريف نستنبط هذه المفردات :
1- اجتماع مجموعة من الناس .
2- لهم غاية واحدة وهدف واحد ( هواهم واحد ) .
3- لهم صفات مشتركة ( تشاكلت قلوبهم وأعمالهم )
.
4- لهم آراءهم وأفكارهم الخاصة بهم ( أصحاب
الرجل وجنده الذين على رايه ) .
5- مجندين أنفسهم لتحقيق هدفهم وغايتهم ( وجنده
الذين على رأيه ) .
6- وبما أنّ هواهم واحد ، وتشاكلت قلوبهم
وأعمالهم ، وعلى رأي قائدهم فهم - إذاً - لهم منهج خاص يسيرون ويتربون عليه ،
وإلاّ كيف تتوحد مفاهيمهم وصفوفهم ؟ فالحرمة تنصبّ على أيّ من هذه المفردات ؟ :
(1) - إنّ إجتماع الناس ليس بحرام إذا لم يكن هذا
الإجتماع على أمر حرمه الشارع ونهى عنه وكان فيه ضرر للبلاد والعباد . بل بالعكس
إنّ الشرع أمر بالإجتماع وحض عليه ونهى عن التفرق وعن الإنفرادية . . قال رسول
الله :
(( يد الله مع الجماعة )) ، وفي حديث
معاذ بن جبل :
(( إنّ الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية وإياكم
والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة ) .
وفي الأثر : أخرج أحمد عن جابر بن سمرة أن عمر بن الخطاب قال في خطبته المشهورة التي خطبها بالجابية : ( عليكم بالجماعة
، وإياكم والفرقة ، فإنّ الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد ، ومن أراد بحبوحة
الجنة فليلزم الجماعة ) .
(2) إنّ وجود غايات وأهداف للناس والجماعات ليس
بحرام ولا ممنوع إذا لم تكن هذه الغايات والأهداف خبيثة شريرة مما نهى الشارع عنها
، بل على العكس فوجود الإنسان في الدنيا بلا غاية ولا هدف هو الحرام وهو الذي
أنكره الشرع ونهى عنه : أفحسبتم
أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ، أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها . . . إن هم
إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ .
(3) إنّ وجود صفات مشتركة للناس ليس بحرام إذا
كانت هذه الصفات غير ذميمة وغير منهية شرعاً بل على العكس إنّ الإسلام أمر
المسلمين بالتوحيد قلباً وقالباً : (( من تشبّه بقوم فهو منهم )) ، (( خالفوا
المشركين . . )) ، (( خالفوا اليهود والنصارى )) .
(4) إنّ وجود آراء وأفكار خاصة للجماعة ليس بحرام
إذا كانت هذه الآراء والأفكار ليست بالباطل ولا بالتي تخالف الشرع والتي تدخل في
باب الإجتهاد في خدمة الإسلام والمسلمين ، وأوضح دليل على ذلك وجود المذاهب
الأربعة المعترفة بها من جميع الأمة الإسلامية على مدى قرون طويلة من غير إنكار
معتبر .
(5) إنّ الجندية في سبيل تحقيق الغايات والأهداف
ليست بحرام إذا لم تكن في سبيل الشيطان والطاغوت ، بل على العكس هي واجبة لتحقيق
الغايات والأهداف النبيلة السامية التي تخدم الإسلام والمسلمين : وإنّ جندنا لهم الغالبون ، ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله . . .
(6) إنّ وجود منهج للسير والتربية ليس بحرام إذا
لم يكن هذا المنهج باطلاً يؤدي إلى الكفر والفسوق والضلال ، بل على العكس إنّ
المنهج واجب ، والتنظيم أوجب ، حتى إننا نرى في شعيرة الصلاة وهي عبادة محضة كيف
أنّ الشارع حثّ على أدائها جماعة بصورة منظمة لايجوز الدخول فيها قبل الإمام ومن
رفع رأسه قبل الإمام معرض أن يجعل الله رأسه رأس حمار ، ومن خرج منها قبل الإمام
بطلت صلاته و . . . وهكذا . وقد قال الله سبحانه وتعالى مادحاً للمسلمين : وأمرهم شورى بينهم وقال : وشاورهم في الأمر ،
فأي من هذه المفردات التي ذكرناها هي حرام لذاتها ؟
فإذا
اجتمعت مجموعة من الناس على خير ، وكان المنهج الذي يسيرون عليه حقاً ، والفكرة
التي يحملونها طيبة ، والصفات المشتركة التي بينهم حسنة ، وجهادهم وجنديتهم كانت
في سبيل الله ، ورافق ذلك كله تجرد للحق وحبّ للخلق ، فهل هناك مسلم يستطيع أن
يقول إنّ ذلك حرام أو مكروه ؟
إذن
فاستخدام كلمة ( الحزب ) المجردة ليس بحرام ولا مكروه ، بل هو على أقل تقدير مباح
شرعاً ، وذلك لمجيئها في القرآن الكريم ووصف عباد الله المسلمين المؤمنين بها من
الله سبحانه وتعالى .
قال
تعالى : أولئك
حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون .
وقال
تعالى : فإن
حزب الله هم الغالبون .
فقد
ذكر الله سبحانه في تلك الآيات الكريمات صفات حزب الله وهم :
قوم
آمنوا بالله واليوم الآخر تشاكلت قلوبهم وأعمالهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ،
وينصرون الله ورسوله والمؤمنين ، ويؤثرون الله ورسوله على الأهل والعشيرة و. . .
الخ .
ومقابل
هؤلاء هناك حزب الشيطان :
قال
تعالى : أولئك
حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون .
وهم
قوم اجتمعوا على الباطل ومحاربة الله ورسوله والنفاق والكذب والفساد و . . . الخ .
فلاشكّ
هؤلاء ( حزب الشيطان ) غير أولئك ( حزب الله ) وإن كانت الطائفتان تشملهما كلمة (
الحزب ) .
ويستدل
بتلك الآيات التي أوردناها أنّ كلمة ( الحزب ) ليست محمودة أو مذمومة في ذاتها ،
بل تكون محمودة إذا أضيفت إلى الحق كما في قوله تعالى : حزب الله ،
ومذمومة إذا أضيفت إلى الباطل : أولئك
حزب الشيطان .
ولهذا
لم ير أئمتنا وسلفنا الصالح أي حرج في استخدام كلمة ( الحزب ) . فمن ذلك :
1- قالت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله
عنها : ( إنّ نساء رسول الله كنّ
حزبَيْن فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة ، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول
الله .
. ) .
2- قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في
تفسيره جامع البيان في تأويل آي القرآن ( 25 / 148 ) :
(
وقوله " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " يقول تعالى ذكره : أم ظنّ الذين
اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا وكذبوا رسل الله وخالفوا أمر ربهم وعبدوا
غيره أن نجعلهم في الآخرة كالذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا الصالحات فأطاعوا
الله وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، كلاّ ما كان الله ليفعل
ذلك لقد ميّز بين الفريقين فجعل حزب الإيمان في الجنة وحزب الكافرين في السعير . .
) .
وقال
أيضاً ( 6 / 272 ) :
(
. . . فتبين حينئذ كلّ حزب عياناً المحق منهم من المبطل )
وقال
عن حزب الله وحزب الشيطان ( 28 / 25 - 27 ) :
(
يعن تعالى ذكره " استحوذ عليهم الشيطان " : غلب عليهم الشيطان فأنساهم
ذكر الله أولئك حزب الشيطان : يعني جنده واتباعه ، " ألا إنّ حزب الشيطان هم
الخاسرون " : يقول : ألا إنّ جند الشيطان وأتباعه هم الهالكون المغبونون في
صفقتهم ، " أولئك حزب الله " يقول أولئك الذين هذه صفتهم جند الله
وأولياؤه ، " ألا إنّ حزب الله " يقول : ألا إنّ جند الله وأولياؤه ،
" هم المفلحون " يقول هم الباقون ، المنجون بإدراكهم ما طلبوا والتمسوا
ببيعتهم في الدنيا وطاعتهم ربهم . . . ) .
3- قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره
الجامع لأحكام القرآن ( 8 / 20 ) :
(
. . يوم الفرقان ، أي اليوم الذي فرقت فيه بين الحق والباطل وهو يوم بدر ، يوم
التقى الجمعان ، حزب الله وحزب الشيطان . . . ) .
وقال
أيضاً ( 18 / 1 ) :
(
. . . أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون " قال سعيد بن أبي سعيد
الجرجاني عن بعض مشايخه قال داود :
" إلهي ! منْ حزبك وحول عرشك ؟ فأوحى الله إليه : ( يا داوود الغاضّة أبصارهم
، النقية قلوبهم ، السليمة أكفهم أولئك حزبي وحول عرشي ) .
4-
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله :
(
وأما لفظ " الزعيم " فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين ، قال تعالى :
ولمن
جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ،
فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال : هو زعيم . فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على
ذلك ، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك .
وأما
" رأس الحزب " فإنه رأس الطائفة التي تتحزب ، أي تصير حزباً ، فإن كانوا
مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون ، لهم ما
لهم ، وعليهم ما عليهم . وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا ، مثل التعصب لمن دخل في
حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم ، سواء كان على الحق والباطل ،
، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة
والإئتلاف ، ونهيا عن التفرقة والإختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ، ونهيا
عن التعاون على الإثم والعدوان ) .
5-
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله :
(
. . . أولئك حزب الله ، أي جنده الذين
يمتثلون أوامره ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه ، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه
تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم . . . ) .
وقال
أيضاً ( 5 / 193 ) :
(
. . . حزب الشيطان أي جنده وأتباعه ورهطه ، " ألا إنّ حزب الشيطان هم
الخاسرون " ، أي الكاملون في الخسران حتى كأنّ خسران غيرهم بالنسبة إلى
خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة وكذبوا على الله وعلى نبيه
وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة . . ) .
تعدد
الجماعات :
فإذا
ما انتهينا من بيان جواز استخدام كلمة ( الحزب ) ومشروعيته نعرج على موضوع تعدد
الجماعات والأحزاب الإسلامية القائمة في الساحة . هل إنّ تعدد الجماعات أو الأحزاب
في ظل الدولة الإسلامية جائز شرعاً أم حرام ؟
قبل
أن نبين حقيقة هذه المسألة نود أن نوضح أصل الخلاف بين المسلمين بعضهم مع بعض هل
يجوز شرعاً أم هو حرام ؟
نقول
باديء ذي بدء : إنّ الإختلاف بين المسلمين ضرورة :
ضرورة
دينية ، وضرورية لغوية ، وضرورة بشرية ، وضرورة كونية .
أما
إنه ضرورة دينية ، فلأن الله تعالى أنزل كتابه منه آيات محكمات ( قاطعات الدلالة )
هنّ أم الكتاب ، وأخر متشابهات محتملات الدلالة ، وبعبارة أخرى : جعل نصوص الدين
منها ما هو قطعي في ثبوته وفي دلالته ، أو فيهما معاً ، ومنها ما هو ظني في ثبوته
أو في دلالته أو فيهما معاً . وفي الظني تختلف الأفهام والإجتهادات لا محالة .
وأما
أنه ضرورة لغوية ، فلأن الدين قائم على نصوص لغوية ، واللغة فيها الحقيقة والمجاز
، والصريح والكناية ، والمجمل والمفصل ، والظاهر والمؤول ، والخاص والعام ،
والمطلق والمقيد ، وهذه كلها مجالات متسعة لاختلاف العقول والآراء ، كما هو مشاهد
في علم الأصول ، وعلم الفقه ، وعلم التفسير للقرآن وشروح الحديث .
وأما
أنه ضرورة بشرية ، فلأن البشر منهم من يميل إلى التشديد ، ومن يميل إلى التيسير ،
ومنهم من يجنح في فهمه إلى الظواهر ، ومنهم من يميل إلى المقاصد ، كما علمنا في
قضية صلاة العصر في بني قريظة ، ومنهم من يفتح عليه في الإستنباط ، ومنهم من لا
يوفق إلى ذلك .
وأما
أنها ضرورة كونية ، فلأنّ الكون كله قائم على ظارهرة ( التنوع ) أو ما يسميه
القرآن ( إختلاف الألوان ) ويراد بها : إختلاف الأنواع والأصناف .
والإنسان
جزء من الكون ، فلابدّ أن يخضع لسننه العامة .
ثمّ
إنّ الإختلاف رحمة للأمة .
وأما
الإعتقاد أنّ الإختلاف في الفروع رحمة بالأمة وتوسعة عليها ، فذلك لأنّ الرأي أو
المذهب قد يصلح لزمن ولا يصلح لآخر ، وقد يحسن في بيئة ولا يحسن في أخرى ، وقد
يليق بفرد أو جماعة خاصة ، ولايليق بغيرهم
.
ولهذا
كان ظهور آراء واجتهادات أو مذاهب متعددة رحمة بالأمة ، وتوسعة لها ، لتختار من
الآراء ما هو أرجح في نظرها ، وقد يرجح الرأي على غيره : تحقيقه لمصالحها ، وعلاجه
لمشاكلها ، وقد شرع الله الأحكام لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد .
وقد
روى ابن عبدالبرّ عن القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة في المدينة قوله : "
لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز : ما وددت أنّ الصحابة لم يختلفوا ، لأنهم لو
قالوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول
أحدهم كان في سعة " ، قال أبو عمر ابن عبدالبرّ : " هذا فيما كان طريقه
الإجتهاد " ، كما قال أيضاً : " مايسرني أنّ لي باختلافهم حُمْر النَّعم
" .
وأهم
من هذا أنهم لما اختلفوا ، عرفنا من ذلك مشروعية الإختلاف فيما بيننا ، ولم تضق
صدورنا به ، ووسع بعضنا بعضاً ، فلسنا أفضل من أصحاب النبي .
روى
ابن سعد في طبقاته عن القاسم بن محمد قوله : " كان اختلاف أصحاب رسول الله رحمة للناس " .
وروى
عنه ابن عبدالبر قال : " لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد ، أيّ ذلك أخذت به لم يكن في نفسك شيء
" .
وروى
عنه قال : " لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاّ رأى أنه في
سعة ورأى أنّ خيراً منه قد عمله " .
وسئل
القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه ، فقال للسائل : " إن
قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة
، وإذا لم تقرأ ، فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة " .
وروى
ابن عبدالبر أيضاً عن يحيى بن سعيد قال : " ما برح أولوا الفتوى يفتون ،
فيحلل هذا ويحرم هذا ، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك ، ولا يرى المحلل أنّ المحرم
هلك لتحريمه " .
وقد
روي أنّ هارون الرشيد قال للإمام مالك بن أنس : نكتب هذه الكتب ( يعني الموطأ )
ونفرقها في آفاق الإسلام ، لتحمل عليها الأمة ، فقال له : " يا أمير المؤمنين
: إنّ اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة ، كلّ يتبع ما صح عنده ، وكل على
هدى ، وكل يريد الله تعالى " .
وصنف
رجل كتاباً في الإختلاف فقال له الإمام أحمد : " لا تسمه كتاب الإختلاف ولكن
سمه كتاب السعة " .
وقد
سبقه إلى ذلك أحد التابعين ، وهو طلحة بن مصرّف فقد روى عنه موسى الجهني قال :
" كان طلحة إذا ذكر عنده الإختلاف قال : لا تقولوا : ( الإختلاف ) ولكن قولوا
: ( السعة ) " ! .
وقد
قال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه الشهير ( المغني ) : " إنّ الله تعالى
جعل هذه الأمة مع علمائها ، كالأمم الخالية مع أنبيائها ، وأظهر في كلّ طبقة من
فقهائها أئمة يقتدى بهم ، ويُنتهى إلى رأيها ، وجعل في سلف هذه الأمة من الأعلام
من مهد بهم قواعد الإسلام ، وأوضح بهم مشكلات الأحكام ، إتفاقهم حجة قاطعة ،
واختلافهم رحمة واسعة ، تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم . . .
" .
إحتمال
صواب المخالف ( تعدد الصواب ) :
واعلم
- أخي المسلم - أنّ كلّ رأي لمن يخالفك يحتمل أن يكون صواباً ، كما يحتمل رأيك
أيضاً أن يكون خطأً .
وهذا
ما ينسب إلى بعض السلف ، وبعضهم ينسبه إلى الشافعي أنه قال : " رأيي صواب
يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " .
واحتمال
الخطأ في رأي المجتهد أو المفكر أو الباحث ، مع احتمال الصواب في رأي من يخالفه ،
يقرب المسافة بين الرأيين أو الفكرين ، على خلاف من يقول من المتعصبين المتشددين :
رأيي هو الصواب الذي لايحتمل الخطأ ورأي غيري هو الخطأ الذي لايحتمل الصواب .
وهذا
هو الخطأ بعينه ، لأنّ من يقول هذا يضفي قدسية وعصمة لرأيه وفكره ، وكأنه وحي يوحى
، مع أنه فكر بشري غير معصوم ، فمن أين يؤمن عليه الخطأ ؟
وبعضهم
يقول : رأيي صواب لأنه يعتمد على نص من قرآن أو حديث ! ونقول لهذا : صحيح أنك
تعتمد على نص معصوم موحى به من الله ، ولكن فهمك للنص ليس وحياً ، وليس معصوماً ،
فقد تكون وقفت عند ظاهر النص ، ولم تغصْ في فحواه ومقصده ، كالذين أبَوا صلاة
العصر في الطريق ، وصلوها قضاءً بعد أن وصلوا إلى بني قريظة فقد أخطأوا فهم النص ،
وإن لم يلمهم النبي لأنهم
معذورون بل مأجورون أجراً واحداً ، لخطأهم في فهمهم واجتهادهم .
بل
هناك من ينكر مقولة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) على
أساس أنّ نسبة الآراء الإجتهادية في احتمالها للصواب والخطأ متساوية من ناحية .
ومن
ناحية أخرى هناك من الفقهاء ، أو من الأصوليين من يصوِّب آراء المجتهدين جميعاً ،
ويسمون ( المصوّبة ) ، وهم يرون أن الصواب هو ما انتهى إليه رأي المجتهد ، وهو
الذي كلفه الله تعالى به . والآخرون يرون أنّ الصواب إنما هو رأي واحد ( هو الصواب
عند الله ) وسائر الآراء تكون مخطئة وأصحابها مأجورون .
ونعتقد
أن هذا هو الصحيح ، وعليه يدل القرآن والسنة جميعاً ، أما القرآن فلقوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ
نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً
وعلماً ، فأشار إلى فهم أحدهما للصواب ، وإن كان
كلاهما من أهل الحكم والعلم .
وأما
السنّة ، فللحديث المتفق عليه : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران ،
وإذا حكم الحاكم ثم أخطأ فله أجر )) .
ونعتقد
أن تعدد الصواب ممكن في بعض المسائل والقضايا ، إذ تكون القضية ذات أوجه محتملة ،
فتتسع لأكثر من رأي ، ويكون كلّ منها مصيباً إذا نزّل على وجه معين أو حالة معينة
.
وقد
يكون كلّ منها مصيباً ، ولكن أحدهما أخذ بالعزيمة ، والثاني أخذ بالرخصة ، أو
أحدهما أخذ بالجائز المشروع والثاني أخذ بالأفضل .
وهذا
ما يصدق في كثير من الأمور الخلافية ، كما في ألفاظ الآذان والإقامة ، من الإيتار
والتثنية ، ومن القنوت في الصبح أو الوتر ، ومن وصل الشفع بالوتر ، أو إفراد
الركعة الآخرة ، إلى آخر ما ورد من هذا القبيل .
وقد
ذكر الإمامان ابن تيمية وابن القيم : أنّ كلا الأمرين جائز ، وإن كان الأفضل هو ما
داوم عليه النبي ،
ولكن لايجوز أن ينكر المخالف على الآخر في ذلك لأنّ هذه الصور كلها مشروعة .
ومن
ذلك تعدد القراءات في كتاب الله ، فكلها صواب ولاشك برغم اختلافها ، ولقد قال رسول
الله لصحابيين
اختلفا في قراءة : (( كلاكما محسن ، لاتختلفوا فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا
)) .
بل
إذا صحت القراءتان وتواترتا ، فلا يجوز أن نقول : هذه القراءة أحسن أو أفضل من تلك
، لأنّ كلتيهما قرآن ، فلايجوز أن يقال : مالك يوم الدين أولى
من ملك
يوم الدين أو
العكس ، بل هما سواء ، وفي القرآن نفسه ما يؤيد كلاّ منهما .
وإذا
أخذنا برأي ( المصوِّبة ) فإن تعدد الصواب ممكن بل واقع في كلّ المسائل الخلافية .
رفع
الخلاف غير ممكن :
وإذا
كان الإختلاف ضرورة ورحمة وتوسعة ، فإنّ محاولة رفعه ومحوه ليست في صالح الأمة من
ناحية ، لأنها تحرمها من ثراء التنوع ، ومن نعمة الإختيار ، وليست ممكنة من ناحية
أخرى ، لأنها منافية لسنة الله تعالى في اختلاف خلقه ، كما قال تعالى : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا
يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم . قال بعض المفسرين : أي وللإختلاف خلقهم ،
لأنّه خلق لكل منهم عقلاً يفكر به ، وإرادة يرجح بها ، فلابدّ أن تختلف العقول في
تفكيرها ، والإرادات في ميولها واختيارها .
وقد
رأينا بالتجربة أنّ محاولة رفع الخلاف - التي يحاولها أصحاب مدرسة الرأي الواحد -
تزيد الخلاف ولاتنقصه ، كما وجدنا الذين يعملون على ( محو المذاهب ) لم يزيدوا على
أن كانوا هم مذهباً خامساً ، أو مذهباً تاسعاً !
ولو
كان الخلاف شراً ، ما أقرّ النبي أصحابه
في نفيرهم إلى بني قريظة أن يختلفوا ، ولعنف أحد الفريقين وخطّأه ولكنه لم يفعل ،
فدلّ على مشروعية الإختلاف .
ولو
كان الإختلاف كلّه شراً ما أجاز لأصحابه الذين بعثهم إلى البلدان المختلفة أن
يفتوا الناس باجتهاداتهم وآرائهم ، مثل علي ابن أبي طالب ومعاذ بن جبل وغيرهما .
كما دلّ على ذلك حديث معاذ فيما لم يجد فيه كتاباً ولا سنّة : قال : " أجتهد
رأيي ولا آلو " .
وسواء
صح هذا الحديث أم لم يصح ، فإنّ البعيد عن رسول الله لابد أن يفتي وأن يقضي برأيه ، إذ المسافات كانت بعيدة ،
وإرجاء كلّ فتوى حتى يرسل إلى النبي غير
مقبول ولا معقول .
لا
إنكار في المسائل الخلافية :
لايجوز
أن ينكر مجتهد على مجتهد مثله في مسائل الإجتهاد ، إذ ليس أحد المجتهدين بأولى
بالصواب ما دامت العصمة منتفية عن الجميع ، وقابلية الصواب والخطأ متساوية عند
الجميع .
ولاغرو
أن رأينا المحققين من علماء الأمة يرون عدم جواز الإنكار - ناهيك بالتغليظ فيه -
على الأمور المختلف في حكمها بين الأئمة والفقهاء بعضهم وبعض .
رأي
النووي في شرح مسلم :
قال
الإمام النووي في شرح مسلم - وهو يشرح حديث : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده
. . . الخ )) - : " ثمّ العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأئمة ، أما
المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأنّ على أحد المذهبين : كلّ مجتهد مصيب . وهذا هو
المختار عند كثير من المحققين ، أو أكثرهم ، وعلى المذهب الآخر : المصيب واحد ،
والمخطيء غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه "
.
بل
نقول : هو مأجور أجراً واحداً ، كما صح في الحديث .
رأي
ابن رجب :
وقال
العلامة ابن رجب في ( جامع العلوم والحكم ) : " والمنكر الذي يجب إنكاره : ما
كان مجمعاً عليه ، فأما المختلف فيه ، فمن أصحابنا من قال : لايجب إنكاره على من
فعله مجتهداً فيه ، أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً ، واستثنى القاضي ( أي أبو
يعلى ) في ( الأحكام السلطانية ) ما ضعف فيه الخلاف ، وكان ذريعة إلى محظور متفق
عليه ، قال : كنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنى " .
ما
نقل عن الثوري :
وهذا
الرأي مروي عن الأئمة الكبار من المتقدمين . فقد روى أبو نعيم في ( الحلية ) عن
الإمام الكبير سفيان الثوري أنه قال: " إذا رأيت من يعمل العمل الذي اختلف
فيه ، وأنت ترى غيره فلا تنهه " .
وكذلك
روى الخطيب البغدادي في كتابه ( الفقيه والمتفقه ) عن الثوري قوله : " ما
اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به " .
رأي
ابن تيمية :
وقد
سئل الإمام ابن تيمية عن والٍ له مذهب أو رأي معين في بعض البيوع أو الشركات ، هل
له أن يلزم الناس باتباع مذهبه ، ويمنع الآخرين من التعامل وفق مذاهبهم ؟
فأجاب
: " ليس له منع الناس من مثل ذلك ، ولا من نظائره ، مما يسوغ فيه الإجتهاد ،
وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع " .
واسترشد
هنا بموقف مالك ، حين استشاره الرشيد - أو أبو جعفر - أن يحمل الناس على ( موطئه )
في مثل هذه المسائل ، فأبى ذلك وقال : " إنّ أصحاب رسول الله تفرقوا في
الأمصار ، وقد أخذ كلّ قوم من العلم بما بلغهم ( وفي رواية : فإذا حملتهم على أمر
واحد تكون فتنة ) " . ومن هنا كان بعض العلماء يقول : إجماعهم حجة قاطعة ،
واختلافهم رحمة واسعة .
وفي
موضع آخر سئل عمن قلد بعض العلماء في مسائل الإجتهاد ، فهل ينكر عليه أو يهجر ؟
وكذلك يعمل بأحد القولين ؟
فأجاب
:
" الحمد لله . مسائل الإجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم
يهجر ، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه ، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد
القولين عمل به ، وإلاّ قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين
" .
تقرير
السيوطي :
ولاغرو
أن جعل الحافظ السيوطي من ( القواعد الشرعية ) التي ينبغي أن تراعى في الفتوى
والقضاء هذه القاعدة الخامسة والثلاثين : " لا ينكر المختلف فيه ، وإنما ينكر
المجمع عليه " .
تطبيق
ابن عبدالوهاب :
ومن
تطبيقا ت هذه القاعدة : ما ذكره شيخ الجزيرة محمد بن عبدالوهاب عندما تكلم عن (
التوسل ) وهو الأمر الذي ينصب أتباعه من أجله المعارك مع المخالفين ، ولكن الشيخ
رحمه الله تناوله بهدوء أهل العلم ورزانتهم فقال : " فكون بعضهم يرخص بالتوسل
بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي ،
وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه . فهذه المسألة من مسائل الفقه ، ولو كان الصواب
عندنا قول الجمهور : أنه مكروه ، فلا ننكر على من فعله ، ولا إنكار في مسائل
الإجتهاد " .
وهذه
هي المسألة بعينها ، التي أنكر فيها أتباع الشيخ في عصرنا بشدة على الأستاذ البنا
قوله في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين : " والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى
الله تعالى بأحد من خلقه : خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة
" .
هذا
مع أنّ الكلام في هذا الأصل لم يخرج قيد شعرة عما قرره الشيخ إبن عبدالوهاب ولكن
الأتباع كثيراً ما يغلون ويتطرفون ، والخير في الإعتدال أبداً .
وقال
شيخ الإسلام ابن تيمية : " إنّ هذه المسائل الإجتهادية لا تنكر باليد وليس
لأحد أن يلزم الناس بإتباعه فيها . ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له
صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه .
التسامح
في المختلف فيه :
ومعنى
( التسامح في المختلف فيه ) : أن ننظر بصدر واسع ، ومن أفق رحب ، إلى المسائل التي
أختلف فيها الأئمة ، وتعددت فيها مذاهب الأمة فلا نتعصب لرأي ضد رأي ، ولا مذهب ضد
مذهب ، ولا إمام ضد إمام آخر ، باعتبار أنهم كلهم على هدى ، وجميعهم على خير ، وكل
منهم بذل وسعه في طلب الحق ، مبتغياً وجه الله تعالى ورضاه ، فيما نعلمه عنهم ،
ولا نعلم عنهم جميعاً إلاّ خيراً .
وإذا
آمنا بما ذكرناه من مباديء وركائز : من حيث إنّ الإختلاف ضرورة لابدّ منها ، وأنه
رحمة وتوسعة للأمة ، واحتمال صواب رأي المخالف ، وإمكان تعدد الصواب ، وعدم إمكان
جمع الناس على رأي واحد ، وعدم جدواه أيضاً ، وأنّ المخطيء في اجتهاده من أهل
العلم مأجور على خطئه أجراً واحدا ، وأنه لا إنكار في المسائل الإجتهادية أو
الخلافية ، : فهذا كلّه وغيره يؤدي إلى نتيجة مهمة ، وهي أن يسامح بعضنا بعضاً ،
ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه .
ولا
يضيق بهذا الإختلاف أو ينظر إلى من خالفه نظرة عداوة أو ريبة وتنقص ، إلاّ من ضاق
صدره ، وضاق أفقه ، ولم يستوعب المعاني السالفة ، التي يتبناها وكشفنا الغطاء عنها
، ولم يحط خبراً بما كان عليه سلف الأمة في خير قرونها ، ومن بعدهم من أعلام
العلماء ، وأفذاذ الفقهاء ، ممن أعزّ الله بهم الدين ، ونفع بعلومهم المسلمين .
ولم يكن الإختلاف بينهم في الآراء والفروع ليفرق جماعتهم ، أو ليهدم أخوتهم ، أو
ليفتح ثغرة للشيطان ليوقع بينهم العداوة والبغضاء ، كما يوقعها بين أهل الخمر
والميسر .
والتسامح
مع المخالف ، والتماس العذر له ، وأكبر من ذلك : إحترام رأيه واجتهاده ، هو الشائع
بين أئمة السلف رضي الله عنهم .لهذا لم يكن يعيب بعضهم على بعض ، بل كان بعضهم
يعذر بعضاً ، ويقدر بعضهم بعضاً ، ويحب بعضهم بعضاً ، ويصلي بعضهم خلف بعض ، بل قد
يدل أحدهم مستفتيه أن يذهب إلى عالم آخر ، أو حلقة أخرى ، تيسر له ، وتوسع عليه ،
بل قد يقلد مذهب المخالف عند الحاجة .
إحترام
رأي المخالف في الفروع والأخذ به عند الحاجة :
قال
الإمام الأوزاعي في الذي يقبّل امرأته : ( إن جاء يسألني قلت : يتوضأ ، وإن لم
يتوضأ لم أعب عليه ) .
وقال
الإمام أحمد في الركعتين بعد العصر : ( لا نفعله ولا نعيب من فعله ) .
وتناظر
علي بن المديني ويحيى بن معين في مسجد الخيف حول مس الذكر وهل ينقض الوضوء ؟ بحضور
أحمد بن حنبل ، وقال يحيى : يتوضأ منه ، واحتج بحديث بُسرة بنت صفوان ، واحتج علي
بحديث قيس بن طلْق وقوله :
(( إنما هو بضعة منك )) ثمّ احتج يحيى بقول ابن عمر ، واحتج علي بقول عمار ، فقال
أحمد : ( عمار وابن عمر استويا ، فممن شاء أخذ بهذا ، ومن شاء أخذ بهذا ) .
وذكر
ابو داود في مسائله عن الإمام أحمد قال : قلت لأحمد : فرجل لا يرى من مسّ الذكر
وضوءاً ، أصلي خلفه وقد علمت أنه مسّ ؟ قال : نعم .
وقال
ابن قدامة في ( المغني ) :
فأما
المخالفون في الفروع كأصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي فالصلاة خلفهم صحيحة غير
مكروهة ، نص عليه أحمد ، لأنّ الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل بعضهم يأتمّ
ببعض ، مع اختلافهم في الفروع ، فكان ذلك إجماعاً
. . فإن علم أنه يترك ركناً أو شرطاً يعتقده المأموم دون الإمام ، فظاهر
كلام أحد صحة الإئتمام به .
قال
الأثرم : سمعت أبا عبدالله يسأل عن رجل صلى بقوم وعليه جلود الثعالب ؟
فقال
: إن كان لبسه وهو يتأول : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) يُصلّى خلفه .
قيل
له : أفتراه أنت جائزاً ؟
قال
: لا ، نحن لا نراه جائزاً ، ولكن إذا كان هو يتأول فلا بأس أن يصلى خلفه .
والإمام
أحمد كان يرى الوضوء من الحجامة والفصد ، فسئل عمن رأى الإمام احتجم ، وقام إلى
الصلاة ، ولم يتوضأ : أيصلى خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب ؟
ومذهب
أبي حنيفة وأصحابه : الوضوء من خروج الدم ، ورأى أبو يوسف هارون الرشيد إحتجم وصلى
ولم يتوضأ ، وكان مالك أفتاه بأنه لا وضوء عليه إذا احتجم ، وصلى أبو يوسف خلفه ،
ولم يعد الصلاة .
واغتسل
أبو يوسف في الحمام ، وصلى الجمعة ، ثمّ أخبر بعد الصلاة : أنه كان في بئر الحمام
فارة ميتة ، فلم يعد الصلاة ، وقال : نأخذ بقول إخواننا من أهل الحجاز : ( إذا بلغ
الماء قلتين لم يحمل الخبث ) .
وروى
أن الشافعي رحمه الله ترك القنوت في صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الحنفية في مسجد
إمامهم ببغداد فقال الحنفية : إنه فعل ذلك تأدباً مع الإمام .
ونقل
عن الشافعي : أنه اشترى الباقلاء من منادي السكك ، فأكل - وهو يرى حرمة الأكل من
الباقلاء وغيرها مما تجب فيه الزكاة قبل إخراجها وقت الوجوب - وأنه صلى بعدما حلق
،وعلى ثوبه شعر كثير ، وكان وقتئذٍ يرى نجاسة الشعر على مذهبه القديم ، فقيل له في
ذلك ؟ فقال : ( حيث ابتلينا ناخذ بمذهب أهل العراق ) .
وقال
المناوي : حكى الزركشي أن القاضي أبا الطيب ( من الشافعية ) أقيمت صلاة الجمعة
فهمّ بالتكبير ، فزرق عليه طير ، فقال : أنا حنبلي ، فأحرم ولم يمنعه عمله بمذهبه
تقليد المخالف عند الحاجة .
وقال
ابن تيمية : ( ثمّ من المعلوم المتواتر عن سلف الأمة أنّ بعضهم مازال يصلي خلف بعض
. . فمازال الشافعي وأمثاله يصلون خلف أهل المدينة ، وهم لا يقرأون البسملة سرأَ
ولا جهراً ) .
وقال
أيضاً : ( مذهب أهل المدينة أنّ الإمام إذا صلى ناسياً لجنابته وحدثه ، ثمّ علم
أعاد هو ولم يعد المأموم ، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان ،
وعند أبي حنيفة : يعيد الجميع ، وقد ذكر ذلك رواية عن أحمد ، والمنصوص المشهور عنه
كقول مالك ، وهو مذهب الشافعي .
واستخلف
الخليفة أبا يوسف ( صاحب أبي حنيفة ) في صلاة الجمعة ، فصلى بالناس ، ثمّ ذكر أنه
كان محدثاً فاعاد ، ولم يأمر الناس بالإعادة ، فقيل له في ذلك ، فقال : ربما ضاق
علينا الشيء ، فأخذنا بقول إخواننا المدنيين ! مع أنّ صلاة الجمعة فيها خلاف كبير
لكون الإمام شرطاً فيها ) .
إحالة
المستفتي إلى المذهب الأيسر عند الحاجة :
ومما
أثر من أدب السلف رضي الله عنهم : أن يحيل أحدهم المستفتي إلى من يعلم أنه ييسر
عليه في فتواه ولا يجد في ذلك حرجاً ، ما دام العالم الآخر ثقة ، غير متلاعب
بالدين .
قال
أبوبكر الخلال : أخبرني الحسين بن بشار المخرمي قال : سألت أحمد بن حنبل عن مسألة
في الطلاق ؟
فقال
: إن فعل حنث .
فقلت
: يا أبا عبدالله أكتب لي بخطك ، فكتب لي في ظهر الرقعة ( قال أبو عبدالله : إن
فعل حنث ) .
قلت
: يا أبا عبدالله ، إن أفتاني إنسان ؟ يعني : لا يحنث ؟
فقال
لي : تعرف حلقة المدنيين ؟
قلت
: نعم - وكانت للمدنيين حلقة عندنا في الرصافة في المسجد الجامع - فإن أفتوني حل ؟
قال
: نعم .
ترك
بعض السنن لتأليف القلوب :
ومن
دلائل تسامح السلف : أنهم أجازوا ترك بعض السنن والمستحبات في العبادات ونحوها ،
من أجل تأليف القلوب ، وعملاً بالحديث الشريف : (( بشروا ولا تنفروا )) متفق عليه
.
عن
عبدالرحمن بن يزيد قال :
كنا
مع عبدالله بن مسعود بجمع
( أي مزدلفة ) ، فلما دخل مسجد منى قال : كم صلى أمير المؤمنين ؟ قالوا : أربعاً ،
فصلى أربعاً .
قال
: فقلنا : ألم تحدثنا أن النبي صلى
ركعتين وأبابكر ركعتين ؟!
فقال
: ( بلى ، وأنا أحدثكم الآن ، ولكن عثمان كان إماماً ، فما أخالفه ، فالخلاف شرّ
) .
وروي
أنّ الإمام الشافعي رحمه الله ترك القنوت في صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الحنفية
في مسجد إمامهم ببغداد ، على خلاف مذهبه . وفسروا ذلك بإنه فعله تأدباً مع الإمام
أبي حنيفة ، أو تألفاً لقلوب أتباعه ، وكلاهما من الأدب الرفيع .
وقال
ابن عبدالبر في التمهيد : سمعت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبدالملك بن هاشم رحمه الله
يقول : كان أبو إبراهيم بن إسحق بن إبراهيم شيخنا يرفع يديه كلما خفض ورفع على
حديث ابن عمر في الموطأ ، وكان أفضل من رأيت وأفقههم وأصحهم علماً وديناً .
فقلت
له : فلم لا ترفع أنت فنقتدي بك ؟
قال
لي : ( لا أخالف رواية ابن القاسم ، لأن الجماعة لدينا اليوم عليها ، ومخالفة
الجماعة فيما قد أبيح لنا ليس من شيم الأئمة )
.
قال
محمد بن رافع : كنت مع أحمد بن حنبل وإسحاق عند عبدالرزاق فجاءنا يوم الفطر ،
فخرجنا مع عبدالرزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير ، فلما رجعنا من المصلى دعانا
عبدالرزاق إلى الغداء ، فقال عبدالرزاق لأحمد وإسحاق : رأيت اليوم منكما عجباً ،
لم تكبّرا !
قال
أحمد وإسحاق : يا أبابكر ، نحن كنا ننظر إليك : هل تكبّر فنكبّر ؟ فلما رأيناك لم
تكبّر أمسكنا .
قال
: أنا كنت أنظر إليكما : هل تكبران فأكبّر
.
فانظر
أدب الأكابر بعضهم مع بعض ، ودع عنك الأصاغر الذين حرموا الأدب !
وقال
شيخ الإسلام في إحدى فتاويه : ( إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت
معه ، سواء قنت قبل الركوع أو بعده ، وإن كان لا يقنت لم يقنت معه ، ولو كان
الإمام يرى استحباب شيئ والمأمومون لايستحبونه ، فتركه لأجل الإتفاق والإئتلاف كان
قد أحسن ) .
ثمّ
استدل رحمه الله بقول النبي لعائشة
: ( لولا أنّ قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت لهم الكعبة ، ولألصقتها بالأرض ،
ولجعلت لها بابين باباً يدخل الناس منه ، وباباً يخرجون منه )) ، فترك الأفضل عنده
لئلاّ ينفر الناس .
وكذلك
لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأمّ قوماً لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم فقد
أحسن .
وقال
رحمه الله في موضوع آخر من فتاويه :
ولذلك
استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف
المأمومين . . .
فلو
كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها ، وكان المأمومون على خلاف رأيه
، ففعل المفضول عنده ، لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك
الفضيلة كان جائزاً حسناً . أ.هـ.
وقال
ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 2 / 47 ) :
قال
أبن عقيل في ( الفنون ) : لا ينبغي الخروج عن عادات الناس الا في الحرام، فإن
الرسول ()
ترك الكعبة وقال لولا حدثان قومك بالجاهلية . ( مجموع الفتاوى 24/195 ) وترك أحمد
الركعتين قبل المغرب لإنكار الناس لهما ، وذكر في (الفصول) عن الركعتين قبل المغرب
: وفعل ذلك إمامنا أحمد ثم تركه وأعتذر بأن قال : رأيت الناس لا يعرفونه .
ترك
الإنكار على ما تعارف عليه أهل كل بلد :
ومن
دلائل التسامح عند علماء السلف : تركهم الإنكار على ما تعارف عليه أهل كلّ بلد ،
مما توارثه الخلف عن السلف .
روى
الدارمي بسنده عن حميد قال : قلت لعمر بن عبدالعزيز لو جمعت الناس على شيء ؟ فقال
: ما يسرني أنهم لم يختلفوا . قال : ثمّ كتب إلى الآفاق أو الأمصار : ليقض كلّ قوم
بما اجتمع عليه فقهاؤهم .
وهذا
له أصل فيما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم .
فعن
عبيدة السلماني قال : قال علي بن أبي طالب : أقضوا ما كنتم تقضون ، فإني أكره الإختلاف
حتى يكون للناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي
.
وقد
قال أحمد في رواية المروذي : لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد
عليهم .
وقال
مهنا : سمعت أحمد يقول : من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه من شربه فليشربه
وحده . أ.هـ.
وسئل
أحمد عن رجل يصلي في مسجد وهو يشرب من النبيذ ما يسكر منها أيصلي خلفه ؟ قال : إذا
كان متأولاً ولم يسكر فأرجو ، فإن سكر لم يصل خلفه .
قال
: ونحن نروي عمن كان يشرب .
قال
ابن الجنيد : سمعت يحيى بن معين يقول : تحريم النبيذ صحيح ولكن أقف ولا أحرمه ، قد
شربه قوم صالحون بأحاديث صحاح ، وحرمه قوم صالحون بأحاديث صحاح .
ودخل
أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وزهير بن حرب على خلف بن هشام يسألونه ، فلما أرادوا
الإنصراف قال لأحمد : أي شيء تقول في هذا ياأبا عبدالله ؟ لقنينة نبيذ كانت أمامه
( وكانت الجارية تريد أخذها لما رأت قدومهم فقال لها : دعيها يرى الله شيئاً فأكتمه عن الناس ؟ )
قال
أحمد : ليس ذاك إليّ ، ذاك إليك . قال : كيف ؟ قال أحمد : قال النبي : (( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ))
والرجل راع في منزله ومسؤول عما فيه ، وليس للخارج أن يغير على الداخل شيئاً .
وسئل
ابن تيمية عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان ، فهل يجوز
له منع الناس ؟
فأجاب
: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الإجتهاد ، وليس معه نص
من كتاب ولا سنة ولا إجماع ،ولا ما هو في معنى ذلك .
وروى
الحافظ أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن عبدالله بن الحكم قال : سمعت مالك بن أنس
رحمه الله تعالى يقول : ( شاورني هارون الرشيد في أن يعلق " الموطأ " في
الكعبة ،ويحمل الناس على ما فيه ، فقلت : لا تفعل ، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان
، وكل عند نفسه مصيب ، فقال : وفقك الله يا أبا عبدالله ) .
وتروى
هذه القصة أنها وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور . ولعلها تكررت مع المنصور
والرشيد . فقد روى ابن سعد في " الطبقات " عن محمد بن عمر الأسلمي -
الواقدي - قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ( لما حج المنصور قال لي : إني قد عزمت
على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ ، ثمّ أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين
منها بنسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ، ولا يتعدوه إلى غيره . فقلت : يا أمير
المؤمنين ، لا تفعل هذا ، فإنّ الناس قد سيقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ،
ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبقت إليهم ، ودانوا به من اختلاف الناس ، فدع
الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم ) .
وبهذه
النقول كلها - فضلاً عما تقدم من الركائز والقواعد - يتبين لنا صحة ( القاعدة )
الذهبية التي وضعها ودعا إليها العلامة السلفي المجدد الشيخ محمد رشيد رضا رحمه
الله صاحب مجلة ( المنار ) وتفسير ( المنار ) وهي التي تقول : ( نتعاون فيما
اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ) . وقد شكك في صحة هذه القاعدة
بعض الأخوة السلفيين ، وها نحن نرى صحتها في ضوء الأدلة التي سقناها .
نقل
الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 16 / 10 ) في ترجمة الإمام الشافعي عن الإمام الحافظ أبي موسى يونس بن
عبدالأعلى الصدفي المصري ، أحد أصحاب الإمام الشافعي أنه قال : ما رأيت أعقل من
الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ، ثمّ افترقنا ، ولقيني ، فأخذ بيدي ، ثمّ قال :
( يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟! ) قال الذهبي
: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام ، وفقه نفسه ، فمازال النظراء يختلفون .
وفي
" سير أعلام النبلاء " أيضاً ( 11 / 370 ) في ترجمة الإمام إسحاق بن
راهويه : ( قال أحمد بن حفص السعدي شيخ ابن عدي : سمعت أحمد بن حنبل - الإمام -
يقول : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحق ، وإن كان يخالفنا في أشياء ، فإن الناس
لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ) .
فليس
العيب - أخي المؤمن - في الخلاف ، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول
الناس وآرائهم .
فالإسلام
قد شرع الإجتهاد ، وجعل للمجتهد أجرين أذا أصاب ، وأجراً إذا أخطأ ، وأقرّ الرسول أصحابه على الإجتهاد في فهم ما أمرهم به
من صلاة العصر في بني قريظة ، ما بين حرفي يتقيد بلفظ النص ، وآخر ينظر إلى مقصد
النص . وأقر معاذاً على
أن يعمل باجتهاده لا يألو ، فيما لم يجد فيه كتاباً ولا سنة ، وذلك حين بعثه إلى
اليمن .
أسباب
الإختلاف :
ومقتضى
هذا أن تختلفالأحكام الفرعية باختلاف الإجتهادات والأفهام - ضرورة - ولا يمكن أن
تتحد في هذه الفرعيات والآراء والمذاهب لأسباب عدة ، أهمها وابرزها :
1-إختلاف
العقول في قوة الإستنباط ، وإدراك الدلائل والخوض إلى اعماق المعاني ، وارتباط
الحقائق بعضها ببعض ، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود
اللغة وقوانينها ، والناس في ذلك جد متفاوتين فلابدّ من خلاف .
2-
ومنها : سعة العلم وضيقه ، وإنّ هذا بلغه ما لم يبلغ ذلك ، والآخر شأنه كذلك . وقد
قال الإمام مالك لأبي جعفر المنصور حين أراد يحمل الناغس على الموطأ : ( إنّ أصحاب
رسول الله تفرقوا
في الأمصار وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة ) .
3-
ومنها : إختلاف البيئات ، ولهذا رأينا فقه العراقيين مختلفاً عن فقه الحجازيين ،
بل رأينا الفقيه الواحد تختلف به البيئة فيختلف رأيه ، حتى لنرى الإمام الشافعي
يفتي بالقديم في العراق ، ويفتي بالجديد في مصر ، وهو في كليهما آخذ بما استبان له
، وما اتضح عنده ، ولا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما .
4-
ومنها : اختلاف الإطمئنان القلبي الى الرواية عند التلقي لها فبينا نجد هذا الراوي
ثقة عند هذا الإمام ، تطمئن إليه قلبه وتطيب إليه نفسه ، وتطيب بالأخذ عنه ، تراه
مجروحاً عند غيره بما علم من حاله .
5-
ومنها : اختلاف تقدير الدلالات ، فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد
مثلاً وذاك لا يقول معه به ، وهذا يأخذ بالحديث المرسل ، وهذا لا يأخذ به .
كل
هذه الأسباب جعلتنا نعتقد أنّ الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل ،
بل هو يتنافى مع طبيعة الدين ، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير
العصور ، ويماشي الأزمان ، وهو لهذا سهل مرن هين لين لا جمود فيه ولا تشديد .
نعتقد
هذا فنلتمس العذر كلّ العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات ونرى أن هذا الخلاف لا
يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب ، وتبادل الحب والتعاون ، وأن يشملنا وإياهم
معنى الإسلام السابغ ، بأفضل حدوده ، وأوسع مشتملاته . ألسنا مسلمين وهم كذلك ؟
ألسنا نمحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك ؟ أولسنا نحن مطالبين
بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا ؟ ففيم الخلاف إذن ؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً
للنظر كرأيهم عندنا ؟ ولماذا لا نتفاهم في جو من الصفاء والحب إذا كان هناك ما
يدعو إلى التفاهم ؟ هؤلاء أصحاب رسول الله كان يخالف بعضهم بعضاً في الإفتاء فهل أوقع ذلك إختلافاًُ
بينهم في القلوب وهل فرق وحدتهم ؟ أو مزق
رابطتهم ؟ أللهم لا . وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد . وإذا كان هؤلاء قد
اختلفوا وهم أقرب الناس عهداً بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام فما بالنا نتناحر في
خلافات لا خطر لها ؟ وإذا كان الأئمة - وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد
اختلف بعضهم على بعض وناظر بعضهم بعضاً ، فلم لا يسعنا ما وسعهم ؟ وإذا كان الخلاف
قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها ، كالآذان الذي ينادى به خمس مرات في
اليوم الواحد ووردت به النصوص والآثار فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى
الرأي والإستنباط ؟
إختلاف
التنوع لا التضاد :
واعلم
- أخي المؤمن - إنه لا يعتبر كل اختلاف مذموماً محضوراً ، فهناك من الإختلاف ما هو
سائغ مشهور ومن الإختلاف ما هو مردود ممنوع . والتمييز بين النوعين مطلوب بل واجب
، حتى لا يخلط الجهال بين ما يقبل من الخلاف وما لا يقبل وما له مستغ في النظر
الشرعي وما ليس له مساغ ولا قبول بحال . فمن الإختلاف المقبول والسائغ والمشروع :
( اختلاف التنوع ) . وقد عرف الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي هذا اللون من إختلاف
التنوع ورحب به ولعل أبلغ من تحدث عن هذا الإختلاف وفرق بينه وبين اختلاف التضاد
هو شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تكلم عنه في أكثر من كتاب ونكتفي بأن نقتبس منه بعض ما سجله في كتابه الفريد " إقتضاء
الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم " ، قال رحمه الله : ( إعلم أن أكثر الإختلاف
بين الأمة ، الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب ، وهو أن يكون كلّ واحد من
المختلفين مصيباً فيما يثبته مخطئاًَ في نفي ما عليه الآخر ، كما أن القارئين كل
منهما كان مصيباً في القراءة في الحرف الذي علمه مخطئاً في نفي حرف غيره ، فإن
أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب ، لا في الإثبات ، لأن
إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه . .
أما
أنواع الإختلاف فهي في الأصل نوعان : إختلاف تنوع واختلاف تضاد ، واختلاف التنوع
على وجوه : منه :
ما
يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً كما في القراءات التي اختلف فيها
الصحابة ، حتى زجرهم عن الإختلاف رسول الله ، وقال : (( كلاكما محسن )) . ومثله اختلاف
الأنواع في صفة الآذان والإقامة ، والإستفتاح والتشهدات وصلاة الخوف ، وتكبيرات
العيد ، وتكبيرات الجنازة ، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه وإن كان قد يقال : إن
بعض أنواعه أفضل .
ثمّ
تجد الكثير من الأمة في ذلك من الإختلاف ، ما أوجب إقتتال طوائف منهم على شفع
الإقامة وإيتارها ، ونحو ذلك ، وهذا عين المحرم ، ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد
كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر ، أو النهي عنه
، ما دخل به فيما نهى عنه النبي .
ومنه
ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد
يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات وتقسيم
الأحكام وغير ذلك ، ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى الطائفيتن وذم الأخرى .
ومنه
ما يكون المعنيان غير ، لكن لا يتنافيان ، فهذا قول صحيح ، وهذا قول صحيح ، وإن لم
يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر ، وهذا كثير في المنازعات جداً .
ومنه
ما يكون طريقتان مشروعتان ، ورجل أو قوم قد سلكوا هذا الطريق وآخرون قد سلكوا
الأخرى . وكلاهما محسن في الدين .
ثمّ
الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما ، أو تفضيلها بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا
نية وبلا علم . . )
ثمّ
تحدث الشيخ عن اختلاف التضاد إلى أن قال :
(
وهذا القسم الذي سميناه إختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد ،
لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه ، وقد دل القرآن على حمد كلّ واحدة من
الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي كما في قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ،
وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم وترك آخرون .
وكما
في قوله : وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان ، وكلاً آتينا حكماً
وعلماً . وكما في إقرار النبي يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ولمن أخرها إلى أن وصل
إلى بني قريظة .
وكما
في قوله : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله
أجر )) . ونظائره كثيرة . أ.هـ. .
الإختلاف
في العقيدة :
قد
يقول بعض المسلمين : إنّ هذا الذي قلته ونقلته هو الإختلاف في الأمور الفرعية
الفقهية الإجتهادية ، وهذه لا بأس بها ، ولا يختلف فيها المسلمون ، ولكن الذي لا
نقبله هو الإختلاف في العقيدة ، والذي تكون فيه إحدى الطائفتان المختلفتين على
ضلال وباطل والأخرى على هدى وحق .
ونقول
في الجواب : إعلم - أخي المؤمن - أن مسائل العقيدة أيضاً فيها أصول وفروع ، وليسا
- كما هو معلوم - سواء .
ولسنا
نعتقد أن المسلمين إختلفوا فيما بينهم في أصول العقيدة ، أما في الفروع فقد وقع
الإختلاف بين السلف من الصحابة وأتباعهم بإحسان .
فهذه
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمداً رأى ربه وقالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ،
بينما جمهور العلماء على رأي ابن عباس ولا يبدعّون المانعين الذين وافقوا أم
المؤمنين رضي الله عنها .
كما
أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحيّ لما قيل أنّ النبي قال : (( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ))
الإختلاف
في العقيدة :
قد
يقول بعض المسلمين ، إنّ هذا الذي قلته ونقلته هو الإختلاف في الأمور الفرعية
الفقهية الإجتهادية ، وهذا لا بأس بها ، ولا تختلف فيها المسلمون ، ولكن الذي لا
نقبله هو الإختلاف في العقيدة ، والذي يكون فيه إحدى الطائفتين المختلفتين على
ضلال وباطل . والأخرى على هدى وحق .
ونقول
في الجواب : إعلم - أخي المؤمن - إنّ مسائل العقيدة أيضاً فيها أصول وفروع وليسا -
كما هو معلوم - سواء .
ولسنا
نعتقد أنّ المسلمين اختلفوا فيما بينهم في أصول العقيدة ، أما في الفروع فقد وقع
الإختلاف بين السلف من الصحابة وأتباعهم بإحسان .
فهذه
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمداً رأى ربه وقالت : من زعم أنّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، بينما جمهور العلماء على
رأي ابن عباس ولا يبدّعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها .
كما
أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحيّ لما قيل إنّ النبي قال : (( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم )) فقالت : إنما قال :
إنهم ليعلمون الان أن ما قلت لهم الحق . بالرغم من أنّ الموتى يسمعون خفق النعال
كما ثبت عن رسول الله :
(( ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلاّ رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام )) ،
إلى غر ذلك من الأحاديث الصحيحة ومع هذا فقد تأولت أم المؤمنين رضي الله عنها .
وكذلك
مسالة معراج رسول الله إلى
السماء ، فهي من الأصول التي إن خالف فيها أحد فهو كافر ضال . أما هل كان بالروح
والجسد أم بالروح فقط ، يقظة أو في المنام ؟ فهو من فروع العقيدة التي اختلف فيها
العلماء ، ولا تكفير فيها ولا تضليل ولا تبديع !
السلفية
والإختلاف في العقيدة :
بل
إن في مدرسة واحدة وهي ( السلفية ) قد وقع إختلاف في أمور العقيدة ، فهذا الشيخ
الألباني رحمه الله وهو ينسب نفسه إلى مدرسة السلفية في عصرنا ، قد خالف وأنكر على
شيخ الإسلام ابن تيمية أموراً في العقيدة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية هو أشهر من نار
على علم في هذه القضية .
وسنعرض
بعض ذلك إستدلالاً على ما قلناه :
1-
قدم العالم بالنوع وحوادث لا أةل لها :
وهي
من مسائل أصول الإعتقاد .
ذكر
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدة مواضع من كتبه بأن الحوادث لا أول لها مع
كونها مخلوقة لله تعالى . من تلك المواضع الكثيرة قوله :
أ- في ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول )
على هامش ( منهاج السنة ) ( 1 / 245 ) ما نصه : " قت : هذا من نمط الذي قبله
، فإن الأزلي هو نوع الحادث لا عين الحادث " أ.هـ .
ب- في كتابه ( شرح حديث عمران بن الحصين ) صحيفة
193 ما نصه : " وإن قدر أن نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا
عقل بل هي من كماله " أ.هـ.
ت- وقال أيضاً في ( موافقة صحيح المنقول لصريح
المعقول ) ( 2 / 75 ) ما نصه : " وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا
يجعلون النوع حادثاً بل قديماً " أ.هـ.
وقد
أثبت العلماء ذلك على شيخ الإسلام ابن تيمية ، منهم الحافظ ابن حجر في ( شرح صحيح
البخاري ) ( 13 / 410 ) إذ قال عند ذكره لحديث (( كان الله ولا شيء معه )) ما نصه
:
[
وهو أصرح ف الردّ على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب ، وهي من مستشنع
المسائل المنسوبة لابن تيمية ، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي
في هذا الباب على غيرها مع ان قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في
بدء الخلق لا العكس ، والجمع يقدم على الترجيح بالإتفاق " إنتهى من الفتح .
وقال
في هذه المسألة الحافظ ابن دقيق العيد أيضاً كما في ( الفتح ) ( 12 / 202 ) ما نصه
:
"
وقع هنا من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أنّ المخالف في حدوث العالم
لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع ، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على
الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواتراً عن صاحب الشرع ، قال : وهو تمسك ساقط إما عن
عمىً في البصيرة أو تعام ، لأنّ حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع
والتواتر بالنقل ) أ.هـ من الفتح .
وقد
أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ( نقد مراتب الإجماع ) ص168 أن يكون هناك
إجماع على ( أن الله لم يزل وحده ولا شيء معه غيره ) .
ردّ
الشيخ الألباني رحمه الله لعقيدة ابن تيمية هذه وإعلانه رفضها :
أ-قال
الشيخ الألباني رحمه الله في ( سلسلة الأحاديث الصحيحة ) ( 1 / 208 ) عن حديث : ((
إنّ أول شيء خلقه الله تعالى القلم )) ما نصه :
"
وفيه رد أيضاً على من يقول بحوادث لا أةل لها ، وأنه ما من مخلوق إلاّ ومسبوق
بمخلوق قبله ، وهكذا إلى ما لا بداية له ، بحيثيمكن أن يقال : هذا أول مخلوق ،
فالحديث يبطل هذا القول ويعين أنّ القلم هو أول مخلوق ، فليس قبله قطعاً إيّ مخلوق
، ولقد أطال ابن تيمية الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها
، وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول ، ولا تقبله اكثر القلوب " . ثمّ
قال بعد ثلاثة أسطر : " فذل القول منه غير مقبول ، بل هو مرفوض بهذا الحديث ،
وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية هذا المولج ، لأنّ الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم
الكلام . . " إنتهى .
ب-
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في شرحه للعقيدة الطحاوية ( طبع المكتب الإسلامي
الطبعة الأولى 1398 هـ - 1978 م ) ص35 ما نصه :
"
فإني أقول الان : سواء كان الراجح هذا أم ذلك ، فالإختلاف المذكور يدل بمفهومه على
أن العلماء اتفقوا على أنّ هناك أول مخلوق ، والقائلون بحوادث لا أول لها مخالفون
لهذا الإتفاق ، لأنهم يصرحون بأن ما من مخلوق إلاّ وقبله مخلوق ، وهكذا إلى ما لا
أول له ، كما صرح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه ، فإن قالوا العرش أول مخلوق ، كما
هو ظاهر كلام الشارح ، نقضوا قولهم بحوادث لا أول لها . وإن لم يقولوا بذلك خالفوا
الإتفاق : فتأمل هذا فإنه مهم ، والله الموفق " أ.هـ.
2-
فناء النار :
وهو
أيضاً من مسائل الإعتقاد ، لأنها لا تذكر في باب الوضوء من كتب القه ولا في غير
ذلك من الأبواب كالإجارة والنكاح وغيرها .
قلا
الشيخ الألباني رحمه الله ي مقدمة كتاب ( رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء
النار ) لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ص7 ما نصه :
"
فأخذت في البطاقات نظراً وتقليباً ، قما قد يكون فيها من الكنوز بحثاً وتفتيشاً ،
حتى وقعت عيني على رسالة للإمام الصنعاني ، تحت اسم ( رفع الأستار لإبطال أدلة
القائلين بفناء النار ) في مجموع رقم الرسالة فيه ( 2619 ) ، فطلبته ، فإذا فيه
عدة رسائل ، هذه الثالثة منها . فدرستها دراسة دقيقة واعية ، لأن مؤلفها الإمام
الصنعاني رحمه الله تعالى ردّ فيه على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم
ميلهما إلى القول بفناء النار ، بأسلوب علمي رصين دقيق ، ( من غير عصبية مذهبية
ولا متابعة أشعرية ولا معتزلية ) كما قال هو نفسه رحمه الله تعالى في آخرها . وقد
كنت تعرضت لرد قولهما هذا منذ أكثر من عشرين سنة بإيجاز في ( سلسلة الأحاديث
الضعيفة ) في المجلد الثاني منه ( ص71 - 75 ) بمناسبة تخريجي فيه بعض الأحاديث
المرفوعة ، والآثار الموقوفة التي احتجا ببعضها على ما ذهبا إليه من القول بفناء
النار ، وبينت هناك وهاءها وضعفها ، وأنّ لابن القيم قولاً آخر ، وهو أن النار لا
تفنى أبداً ، وأن لابن تيمية قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار ، وكنت
توهمت يومئذ أنه يلتقي فيها مع ابن القيم في قوله الآخر ، فإذا بالمؤلف الصنعاني
يبين بما نقله عن ابن القيم ، أن الرد المشار إليه ، إنما يعني الرد على من قال
بفناء الجنة فقط من الجهمية دون من قال بفناء النار ! وأنه هو نفسه - أعني ابن
تيمية - يقول : بفنائها ، وليس هذا فقط بل وإن أهلها يدخلون بعد ذلك جنات تجري ن
تحتها الأنهار ! وذلك واضح كل الوضوح في الفصول الثلاثة التي عقدها ابن تيمية لهذه
المسألة الخطيرة في كتابه ( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ) ( 2 / 167 - 228 ) ،
وقد حشد فيها ( من خيل الأدلة ورجلها ، وكثيرها وقليلها ، ودقها وجلها ، وأجرى
فيها قلمه ، ونشر فيها علمه وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل ، واستنفر كل قبيل
وجيل ) كما قال المؤلف رحمه الله ، ولكنه أضفى بهذا الوصف على ابن تيمية ، وابن
القيم أولى به وأحرى لأننا من طريقه عرفنا رأي ابن تيمية ، في هذه المسألة ، وبعض
أقواله فيها ، وأما حشد الأدلة المزعومة وتكثيرها ، فهي من ابن القيم وصياغته ،
وإن كان ذلك لا ينفي أنه تلقى ذلك كله أو جله من شيخه في بعض مجالسه ) أ.هـ.
وقال
الشيخ الألباني أيضاً في مقدمة ( رفع الأستار ) ص25 ما نصه :
"
فكيف يقول ابن تيمية : ( ولو قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة ) ! فكانت
الرحمة عنده لا تتحقق إلاّ بشمولها للكفار والمعاندين الطاغين ! في هذه المسالة
الخطيرة ؟! " أ.هـ.
دفاع
عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه :
وقد
دافع عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ، الأستاذ عبدالكريم
صالح الحميد في كتابه ( القول المختار لبيان فناء النار ) ( طبع مطبعة السفير -
الرياض ، الطبعة الأولى 1412 هـ ) فقال في رده على الشيخ الألباني رحمه الله (
ص13- 14 ) ما نصه :
"
فصل : الباعث لكلامنا في هذه المسألة : كنت أسمع من يقول : في كتب ابن القيم أشياء
ما تصلح مثل حادي الأرواح وغيره ، والبعض يقول : لعل ذلك قبل إتصاله بشيخه أو أنه
دخل عليه من ابن عربي ولا أدري ما المراد ولكني أنفي أن يكون في كتب ابن القيم شيء
ما يصلح ! حتى وصلت إلى نسخة ( رفع الأستار ) للصنعاني وفيها مقدمة الألباني
وتعليقه ، فلما قرأت المقدمة عرفت السر الذي من أجله تكلم من تكلم بكتب ابن القيم
فقد رأيت تهجماً عنيفاً من الألباني على الشيخ وتلميذه لا صبر عليه حيث قال : سقطا
بما سقطا به أهل البدع والأهواء من الغلو في التأويل وأن ابن القيم إنتصر لشيخه في
ذلك . . . وأن ابن تيمية يحتج لهذا القول بكل دليل يتوهمه ويتكلف في الرد على
الأدلة المخالفة له تكلفاً ظاهراً . وقال: حتى بلغ بهما الأمر إلى تحكيم العقل
فيما لا مجال له فيه كما يفعل المعتزلة تماماً . حتى زعم أن تأويل المعتزلة
والأشاعرة لآيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه ونزوله إلى السماء ومجيئه
يوم القيامة وغير ذلك من التأويل أيسر من تأويل ابن القيم النصوص من أجل القول
بفناء النار . وقال : فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية زلت به القدم فقال قولاً لم يسبق
ليه ولا قام الدليل عليه . وغير ذلك من طعن الألباني وقدحه على الشيخ وتلميذه في
مقدمة ( رفع ألستار ) . فلذلك كتبت في المسألة دفاعاً عنهما وبياناً بأن الحق
معهما وأنا على بصيرة من ذلك ، حيث دعوت للمباهلة من أول المسألة ولو غلط الشيخ
وتلميذه في هذه المسألة لم يوجب ذلك ولا بعض ما قاله الألباني كيف والحق والصواب
معهما في ذلك ، وقد تكلما فيه دفاعاً عن الإسلام كما تقدم ، فرضي الله عنهما
وجزاهما خير الجزاء . فانا أهيب بمن تعجل الإنكار أن يراجع الصواب ويدع الإصرار
" أ.هـ.
3-
إستقرار الله على العرش :
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ( بيان تلبيس الجهمية ) ( 1 / 568 ) :
"
ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف علىعرش عظيم
أكبر من السموات والأرض ، فكيف تنكر أيها النفاج أن عرشه يقله . . . "
وكذلك
صرح بلفظة الإستقرار التي لم ترد في كتاب ولا سنة ، الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
حيث قال في ( شرح لمعة الإعتقاد ) ( ص41 ) :
"
وهو استواء حقيقي معناه العلو والإستقرار . . . " أ.هـ.
رد
الشيخ الألباني على هذه العقيدة :
قال
الشيخ الألباني رحمه الله في مقدمة ( مختصر العلو ) ص17 الطبعة الأولى 1401 هـ ،
حيث قال :
"
ولست أدري ما الذي منع المصنف - عفا الله عنه - من الإستقرار على هذه القول ، وعلى
جزمه بأن هذه الأثر منكر كما تقدم منه ، فإنه يتضمن نسبة القعود على العرش لله ، وهذا يستلزم نسبة الإستقرار عليه لله تعالى
وهذا مما لم يرد ، فلا يجوز إعتقاده ونسبته إلى الله " أ.هـ.
4-
قعود الله سبحانه على العرش :
قال
الحافظ أبو حيان في تفسيره ( النهر الماد ) ( 1 / 254 ) ما نصه :
"
وقرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرنا وهو بخطه سماه كتاب العرش ( وهو غير
الرسالة العرشية المطبوعة ) : إن الله تعالى يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكاناً
يقعد فيه معه رسول الله تحيّل
عليه التاج محمد بن عبدالحق البارنباري وكان أظهر أنه داعية له حتى أخذه منه
وقرأنا ذلك فيه " أ.هـ.
وقد
اثبت هذه العقيدة الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه ( بدائع الفوائد ) ( 4 /
841 ) حيث قال :
"
قال القاضي : صنف المروزي كتاباً في فضيلة النبي وذكر فيه إقعاده على العرش . . . " ثم قال ابن القيم :
" قلت : وهو قول ابن جرير الطبري وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير وهو
قول أبي الحسن الدارقطني ، ومن شعره فيه :
حديث
الشفاعة عن احمد إلى أحمد المصطفى
مسنده
وجاء
حديث باقعاده على العرش فلا
نجحده
أمروا
الحديث على وجهه ولا تدخلوا فيه ما
يفسده
ولا
تنكروا أنه قاعد ولا تنكروا
أنه يقعده " إنتهى كلام الحافظ ابمن القيم .
إنكار
الشيخ الألباني لذلك ورده عليه :
قال
الشيخ الألباني رحمه الله في مقدمة ( مختصر العلو ) ص20 :
"
قلت : وقد عرفت أن ذلك لم يثبت عن مجاهد ، بل صح عنه ما يخالفه كما تقدم . وما
عزاه للدارقطني لا يصح إسناده كما بيناه في ( الأحاديث الضعيفة ) ( 780 ) وأشرت
إلى ذلك تحت ترجمة الدارقطني الآتية ، وجعل ذلك قولاً لابن جرير فيه نظر " .
وقال
الشيخ الألباني رحمه الله في آخر تلك الصحيفة :
"
وخلاصة القول : إن قول مجاهد هذا - وإن صح عنه - لا يجوز أن يتخذ ديناً وعقيدة ،
ما دام أنه ليس له شاهد من الكتاب والسنة ، فيا ليت المصنف إذ ذكره عنه جزم بردّه
وعدم صلاحيته للإحتجاج به ، ولم يتردد فيه " .
5-
إثبات الحركة لله تعالى :
قال
الحافظ ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 2 / 4 -
المطبوع على هامش منهاج السنة - ما نصه :
"
وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرماني
وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما ، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة ، وأنّ ذلك هو مذهب
أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين . . . " ثم قال : " وقال
عثمان بن سعيد وغيره إنّ الحركة من لوازم الحياة فكل حيّ متحرك ، وجعلوا نفي هذا
من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين إتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم
" أ.هـ.
رد
الشيخ الألباني لهذه العقيدة :
قال
الشيخ الألباني رحمه الله في مقدمة كتاب ( مختصر العلو ) ص16 ما نصه :
"
( ويقولون في الله ما لا يجوزه الشرع ولا العقل من إثبات الحركة له والنقلة والحد
والجهة والقعود والإقعاد ) فيعني هذا الذي نحن في صدد بيان عدم ثبوته " .
الكلام
السابق الذي هو بين قوسين ( ) هو قول الشيخ الكوثري ينقل عنه الشيخ الألباني
مُقِرّاً له .
نكتفي
- أخي المؤمن - بهذا القدر ، وهو كاف في إثبات ما أردناه أمام الإختلاف بين السلف
في تصحيح الأحاديث وتضعيفها فهو غني عن البيان .
لا
حلف في الإسلام :
والآن
- اخي المؤمن - نأتي إلى بيان الحديث : (( لا حلف في الإسلام )) .
أخرج
الإمام البخاري في صحيحه ( 2 / 803 ) عن عاصم قال : قلت لأنس : أبلغك أنّ النبي قال : (( لا حلف في الإسلام )) ؟ فقال : قد حالف النبي بين قريش والأنصار في داري .
نفهم
من هذا الحديث أنّ أنس بن مالك يثبت
الحلف بين المسلمين ، ويستدل بعمل النبي له .
والسنة
هي ما أثر عن النبي من
قول أو فعل أو تقرير .
ورسول
الله لا
يتناقض في أقواله وأفعاله . وإذا ظهر ذلك لبعض الناس فقد أوتي ذلك من قِبله .
إذن
ظهر أن ما أثبته النبي غير
ما نفاه .
فالحلف
الذي نفاه شيء ، والذي أثبته وحرّض عليه شيء آخر !
أخرج
الإمام مسلم في صحيحه ( 4 / 1961 ) عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله : (( لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في
الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدّة )) .
ففي
هذا الحديث - كما هو واضح - ينفي رسول اله نوعاً من الحلف ، ويثبت نوعاً آخر ويبين أن الإسلام لم يزده
إلاّ شدة .
والذي
يظهر - أخي المؤمن - من جمع الأحاديث والآثار وأقوال العلماء ما يلي :
كان
الناس في الجاهلية يعيشون نظام القبائل والعشائر ، وكان كل واحد منهم ينتسب إلى
عشيرة فيقاتل تحت رايتها ، ويدافع عنها ظالمة كانت أو مظلومة ، وإذا ما جاء رجل
غريب ، أو لم يكن له عشيرة وقبيلة ، كان لابد له من أن يحالف إحدى القبائل
والعشائر حتى لا يُظلم ولاتُهضم حقوقه ، فيصبح واحداً منهم فيرثهم ويرثونه ،
ويدافع عنهم ويدافعون عنه بالحق والباطل .
فلما
جاء الإسلام ، وحّد القبائل ، وأصبح الناس أمة واحدة ، يعيشونتحت راية واحدة ،
أخوة متحابين بعضهم أولياء بعض ، فلم يكن الناس بحجاجة إلى هذا النوع من التحالف ،
ولهذا جاء النهي عنه .
أنظر
- أخي العزيز - إلى الحديث الذي أخرجه الإمام ابن خزيمة في صحيحه ( 4 / 26 ) عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمعت النبي عام الفتح وهو يقول :
((
أيها الناس ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلاّ شدة ولا حلف في
الإسلام ، المسلمون يدٌ على من سواهم يجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم . . .
)) .
وأخرج
الإمام عبدالرزاق في مصنفه عن عمرو بن شعيب قال : قضى رسول الله أنه من كان حليفاً في الجاهلية فهو على
حلفه وله نصيبه من العِقل والنصر يعقل عنه من حالف وميراثه لعصبته من كانوا وقال :
(( لا حلف في الإسلام وتمسّكوا بحلف الجاهلية فإنّ الله لم يزده في الإسلام إلاّ
شدة )) .
وأخرج
أيضاً عن عمرو بن شعيب قال : قضى عمر بن الخطاب أن من هلك من المسلمين لا وارث له يعلم ولم يكن مع قوم يعاقلهم
ويعاودهم فميراثه بين المسلمين في مال الله الذي يقسم بينهم .
إذن
ظهر من هذا ، أنّ الحلف الذي نفاه رسول الله هو هذا الحلف الذي يأوي من لا قبيلة له ولا عشيرة إلى إحداها
حفاظاً على حياته وحقوقه .
وقد
جاء الإسلام وانتشر الأمن والأمان وأصبح الناس أمة واحدة فانتفى الحاجة إلى هذا
الحلف .
أما
الحلف الذي لم يزده الإسلام إلاّ شدة فهو التعاون على البرّ والتقوى وردّ الظلم
والعدوان كحلف الفضول الذي كان في الجاهلية ، واشترك رسول الله فيه .
قال
الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم ( 16 / 81 ) :
"
. . . وحديث لا حلف في الإسلام وحديث أنس : آخى رسول الله بين قريش والنصار في داري بالمدينة ، قال القاضي : قال الطبري
: لا يجوز الحلف اليوم فإن المذكور في الحديث والموارثة به وبالمؤاخاة كله منسوخ
لقوله تعالى وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض .
وقال الحسن : كان التوارث بالحلف فنسخ بآية المواريث .
قلت
: أما ما يتغبق بالإرث فيستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء .
وأما
المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى ، والتناصر في الدين والتعاون
على البر والتقوى ، واقامة الحق فهذا باق لم ينسخ وهذا معنى قوله في هذه الاحاديث : (( وأيّما حلف كان في
الجاهلية لم يزده الاسلام إلّا شدّة )) .
واما
قوله :
(( لاحلف في الاسلام )) فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه والله
اعلم ] .
وقال
الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ( 4/473 - 474 ) :
[
لا حلف في الاسلام : الحلف بكسر المهملة وسكون اللام بعدها فاء : العهد ، والمعنى
: أنهم لايتعاهدون في الاسلام على الأشياء
التي كانوا يتعاهدون عليها في الجاهلية كما سأذكره وكان عاصما يشير بذلك الى ما
رواه سعد بن ابراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن ابيه عن جبير بن مطعم مرفوعاً : ((
لاحلف في الاسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة )) . اخرجه
مسلم . ولهذا الحديث طرق منها عن أم سلمة مثله ، اخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة عن
ابيه وعن عمرو بن شعيب عن جده قال : خطب رسول الله على درج الكعبة فقال : (( أيها الناس . . )) فذكره نحوه .
أخرجه عمر بن شبة . وأصله في السنن .
وعن
قيس بن عاصم انه سأل رسول الله عن
الحلف فقال : (( لا حلف في الاسلام ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية )) . أخرجه أحمد
وعمر بن شبة واللفظ له .
ومنها
عن ابن عباس رفعه : (( ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الاسلام الا شدّة وحدّة
)) . أخرجه عمر بن شبة واللفظ له وأحمد وصححه ابن حبان .
ومن
مرسل عدي بن ثابت قال : ارادت الأوس ان تحالف سلمان فقال رسول الله مثل حديث قيس بن عاصم اخرجه عمر بن شبة
.
ومن
مرسل الشعبي رفعه : لاحلف في الاسلام وحلف الجاهلية مشدود .
وذكر
عمر بن شبة إن أول حلف كان بمكة حلف الأحابيش ، إن امراة من بني مخزوم شكت لرجل من
بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة تسلط بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عليهم فأتى
قومه فقال لهم : ذلت قريش لبني بكر فانصروا إخوانكم ، فركبوا الى بني المصطلق بن
خزاعة فسمعت بهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة فاجتمعوا بذنب الحبش بفتح المهملة
وسكون الموحدة بعدها معجمة وهو جبل بأسفل مكة فتحالفوا : إانّا لَيَدٌ على غيرنا
ما رسى حبش بمكانه . وكان هذا مبدأ الأحابيش .
وعند
عمر بن شبة من مرسل عروة بن الزبير مثله ثم دخلت فيهم القارة .
قال
عبدالعزيز بن عمر : انما سموا الأحابيش لتحالفهم عند حبش ثم اسند عن عائشة إنه على
عشرة أميال من مكة .
ومن
طريق حماد الرواية سموا لتحبشهم أي تجمعهم .
قال
عمر بن شبة : ثم كان حلف قريش وثقيف ودوس وذلك ان قريشا رغبت في وج وهو من الطائف
لما فيه من الشجر والزرع فخافتهم ثقيف فحالفتهم وادخلت معهم بني دوس وكانوا
اخوانهم وجيرانهم ثم كان حلف المطيبيبن وازد .
واسند
من طريق ابي سلمة رفعه : ما شهدت من حلف الا حلف المطيبين وما احب ان انكثه وان لي
حمر النعم .
ومن
مرسل طلحة بن عوف نحوه وزاد : ولو دعيت به اليوم في الاسلام لاجبت .
ومن
حديث عبدالرحمن بن عوف رفعه : شهدت وأنا غلام مع عمومتي المطيبين فما أحب أن لي
حمر النعم وإني نكثته ، قال وحلف الفضول وهم : فضل وفضالة ومفضل تحالفوا فلما وقع
حلف المطيبين بين هاشم والمطلب واسد وزهرة قالوا : حلف كحلف الفضول ، وكان حلفهم :
ان لا يعين ظالم مظلوما بمكة . وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها :
إن
القادم من اهل البلاد كان يقدم مكة فربما ظلمه بعض اهلها فيشكوه الى من بها من القبائل
فلا يفيد فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه الى أن عقدوا الحلف ، وظهر
الاسلام وهم على ذلك . وسيأتي بيان ما وقع في الاسلام من ذلك في اوائل مناقب
الانصار وفي اوائل الهجرة .
قوله
قد حالف رسول الله ،
قال الطبري : ما استدل به انس على اثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه
فان الإخاء المذكور كان في اول الهجرة وكانوا يتوارثون به ثم نسخ من ذلك الميراث
وبقي ما لم يبطله القرآن وهوا التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم كما
قال ابن عباس الا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له وقد ذهب الميراث …
وقال
الخطابي : قال ابن عينية : حالف بينهم أي اخى بينهم ، يريد ان معنى الحلف في
الجاهلية معنى الأخوة في الاسلام لكنه في الاسلام جار على احكام الدين وحدوده ،
وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم فبطل منه ما خالف حكم
الاسلام وبقي ما عدا ذلك على حاله .
واختلف
الصحابة في الحد الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية والاسلام فقال ابن عباس : ما
كان قبل نزول الآية المذكورة جاهلي وما بعدها اسلامي .
وعن
علي : ماكان قبل نزول للإيلاف فهو جاهلي .
وعن
عثمان : كل حلف قبل الهجرة جاهلي وما بعدها اسلامي .
وعن
عمر : كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود ، وكل حلف بعدها منقوض .
اخرج
كل ذلك عمر بن شبة عن ابي غسان محمد بن يحيى باسانيده اليهم ، واظن قول عمر اقواها
.
ويمكن
الجمع بان المذكورات في رواية غيره مما يدل على تاكد حلف الجاهلية ، والذي في حديث
عمر ما يدل عاى نسخ ذلك ] .
وقال
الحافظ ابن حجر ايضاً (فتح الباري ) (10/502) :
[
عن عاصم قال سمعت انس بن مالك يقول حالف .. فذكره بلفظ المهاجرين بدل قريش فقيل له
اليس قال : لا حلف في الاسلام ؟ قال : قد حالف .. فذكر مثله وزاد مرتين او ثلاثا .
واخرجه مسلم بنحوه مختصرا .
وعرف
من رواية الباب تسمية السائل عن ذلك وذكره المصنف في الاعتصام مختصرا خاليا عن
السؤال ، وزاد في اخره : وقنت شهرا يدعوا على احياء من بني سليم . وحديث القنوت من
طريق عاصم مضى في الوتر وغيره .
واما
حديث المسؤل عنه فهو حديث صحيح اخرجه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي قال : لا حلف في الاسلام وايما حلف كان
في الجاهلية لم يزده الاسلام الا شدة . واخرجه الترمذي من حديث عمر بن شعيب عن جده
ولفظه ؛ واخرج البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن ابي اوفى نحوه باختصار،
واخرج ايضا احمد وابو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبدالرحمن بن عوف
مرفوعا : شهدت مع عمومتي حلف المطيبين فما احب ان انكثه . وحلف المطيبين كان قبل
المبعث بمدة ، ذكره ابن اسحاق وغيره : وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على ان
ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خلال الخير واستمر ذلك بعد المبعث .
ويستفاد
من حديث عبدالرحمن بن عوف انهم استمروا على ذلك في الاسلام ، والى ذلك الاشارة في
حديث جبير بن مطعم ، وتضمن جواب انس انكار صدر الحديث لان فيه نفي الحلف وفيما
قاله هو اثباته .
ويمكن
الجمع بان المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالما ، ومن
اخذ الثار من القبيلة بسبب قتل واحد منها ، ومن التوارث ونحو ذلك . والمثبت ما عدا
ذلك من نصر المظلوم والقيام في امر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة
والمواردة وحفظ العهد . وقد تقدم حديث ابن عباس في نسخ التوارث بين المتقاعدين .
وذكر
الراوي انهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك .
وقال
ابن عينية : حمل العلماء قول انس : حالف على المؤاخاة .
قلت
ولكن سياق عاصم عنه يقتضي انه اراد المحالفة حقيقة الا لما كان الجواب مطابقا .
وترجمة البخاري ظاهرة في المغايرة بينهما . وتقدم في الهجرة الى المدينة : باب كيف
آخى النبي بين
اصحابه وذكر الحديثين اللمذكورين هنا اولا ولم يذكر حديث الحلف ، وتقدم ما يتعلق
بالمؤخاة المذكورة هناك .
قال
النووي : المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع ، واما التحالف على طاعة الله
ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو امر مرغوب ] .
وقال
الامام الآبادي (عون المعبود في شرح سنن ابي داود ) (8/100- 102 ) :
[
باب في الحلف : لا حلف في الاسلام بكسر الحاء المهملة وسكون اللام : المعاهدة
يتعلق بالفساد . وايما حلف : ما فيه زائدة ، كان في الجاهلية : المراد منه : ما
كان من المعاهدة على الخير كصلة الارحام ونصرة المظلوم وغيرهما لم يزده الاسلام
الا شدة الا شدة أي تاكيدا وحفظا على ذلك ، كذا في شرح المشارق لابن مالك .
قال
القاضي : قال الطبري : لا يجوز الحلف اليوم فان المذكور في الحديث والموارثة به
وبالمؤاخاة كله منسوخ لقوله تعالى : واولو الارحام بعضهم اولى ببعض .
وقال
الحسن : كان التوارث بالحلف فنسخ بآية المواريث .
قلت
اما مايتعلق بالارث فنسخت فيه المحالفة عند جماهير العلماء ، عند جماهير العلماء
واما المؤخاة في الاسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين
والتعاون على البر والتقوى واقامة الحق فهذا باق لم ينسخ ، وهذا معنى قوله صلى
الله عليه وسلم وايما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام الا شدة .
واما
قوله :
لا حلف في الاسلام فالمراد به حلف التوارث ، والحلف على ما منع الشرع منه والله
اعلم . كذا في شرح صحيح مسلم للنووي رحمه الله .
وقال
في النهاية : اصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والانفاق فما كان
منه في الجاهلبة على الفتن والقتال بين القبائل والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه
في الاسلام بقوله :
لا حلف في الاسلام .
وما
كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الارحام كحلف الطيبين وما جرى مجراه
فذلك الذي قال فيه النبي :
وايما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام الا شدة . يريد : من المعاقدة على
الخير ونصرة الحق .
وبذلك
يجتمع الحديثان وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الاسلام ، والممنوع منه ما خالف حكم
الاسلام . وقيل المحالفة كانت قبل الفتح وقوله : لا حلف في الاسلام ، قاله زمن
الفتح . انتهى .
وقال
ابن كثير بعد ايراد حديث جبير بن مطعم : وهذا نص فالرد على من ذهب الى التوارث
بالحلف اليوم كما هومذهب ابي حنيفة واصحابه ورواية عن احمد بن حنبل ، والصحيح قول
الجمهور ومالك والشافعي واحمد في المشهور عنه ، ولهذا قال تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان
والأقربون ،
أي : ورثة من قراباته من ابويه واقربيه وهم يرثونه دون سائر الناس . انتهى .
قال
المنذري : واخرجه مسلم . حالف أي : اخى . في دارنا ، أي بالمدينة على الحق والنصرة
والاخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس : الا النصرة والنصيحة والرفادة ويوصى له ،
وقد ذهب الميراث . لاحلف في الاسلام ، أي : لا عهد على الاشياء التي كانوا
يتعاهدون عليها في الجاهلية ، كذا في شرح البخاري للقسطلاني مرتين او ثلاثا ، أي :
قال انس قوله حالف الخ مرتين او ثلاثا .
قال
المنذري : واخرجه البخاري ومسلم بنحوه ] .
اذن
نستطيع الان – اخي العزيز – ان نفهم الحديث استنادا الى اقوال علمائنا وائمتنا
فنقول :
لا
معاهدة في الاسلام على نصر المعاهد ولو كان ظالما ، وعلى اخذ الثار من القبيلة
بسبب قتل واحد منها ، وعلى التوارث ، وعلى ما خالف حكم الاسلام ومنع الشرع منه .
اما
المعاهدة على نصر المظلوم ، والقيام في امر الدين ، والمصادقة والمواردة ، وحفظ
العهد ، والمؤخاة في الاسلام والمعاهدة على طاعة الله ، والتناصر في الدين
والتعاون على البر والتقوى ، واقامة الحق ، فهذ المعاهدة لم يزدها الاسلام الا شدة
أي تاكيدا وحفظا على ذلك .
ومن
نافلة القول ان نقول :
ان
كل جماعة من الجماعات الاسلامية العاملة اليوم في الساحة انما هي تعاهدت على
القيام في امر الدين ، وعلى طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعون على البر
والتقوى ، واقامة الحق ونصر المظلوم ، والمصادقة والموردة ، وحفظ العهد .
ولم
تعاهد على الثارات الجاهلية والغارات ، وعلى ما خالف حكم الاسلام ومنع الشرع منه .
اما
ان كل واحدة منها تدعي انها على الحق والصواب وان غيرها على الباطل والخطأ فهذا
موضوع اخر .
اما
ان يدعي احد انه من الفرقة الناجية وان غيرها من اهل الضلال والاحزاب ، فهذا
يستطيع كل واحد ان يدعيه . هذه وليعلم هو وجماعته انهم حزب من هذه الاحزاب سواء
شاءوا ام ابوا .
تعدد
الجماعات او الاحزاب
لا
شك ان الزمان سيلد من الوسائل والنظم في الحكم ، وفي الإدارة ، وفي المصالح
المرسلة ، الشيء الكثير ما دامت للناس عقول واجتهادات ونظريات ومذاهب ، وما دامت
الحياة مستمرة والنوازل والقضايا متجددة ، كتجدد الصناعات والإختراعات التي غيرت
شكل الحياة في كثير من جوانبها وافاقها ، والمسلمون ليسوا في معزل من هذا كله ولا
يمكن ان تقف عجلة الحياة عندهم ، او عجلة التفكير والاجتهادات فيما يصلحهم ويرتقي
بمجتمعهم ، انهم ليسوا منعزلين عن العالم ، ولا عن آفاقه ووسائه ونظرياته ، وكثير
من المسائل والمشاكل كانت في الماضي عسيرة الحل ، او مستحيلة التذليل ، فتوصلت
العقول والإجتهادات الى تذليلها وحلها ، او تيسيرها او تسهيلها ، من هذه الأمور
تحقيق المصالح في مجال سياسة الشعوب ، لإن السياسة كما يقول ابن العقيل :
[
( هي ما كان فعلا يكون الناس معه اقرب الى الصلاح وابعد عن الفساد ، وان لم يضعه
رسول الله ولا
نزل به الوحي ) ، فان اردت بقولك : ( الا ما وافق أي لم يخالف ما نطق به الشرع )
فصحيح ، وان اردت : ( لا سياسة الا ما نطق الشرع ) فغلط ، وتغليط للصحابة رضي الله
عنهم ، فقد جرى للخلفاء الراشدين من الأفعال و الإجتهادات ما لا يجحده عالم بالسنن
، ولو لم يكن الا تحريق عثمان المصاحف ، فانه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة
الأمة ] . ولقد رأت بعض الامم في هذا
العصر ان افضل وسيلة لمنع ظلم السلطات هو قيام رقابة شعبية قادرة لها سند قانوني
بمراقبة الحاكم في برامجه وتصرفاته ، وتسطيع ان توقفه اذا تعدى وان تستدرك عليه
اذا اخطأ ، وان تستبدل به غيره ان رغبت الأمة في ذلك .
نرجع
الآن الى السؤال الذي طرحناه سابقاً : هل تعدد الجماعات او الأحزاب في ظل الدولة
الإسلمية او قبلها جائز شرعا ام حرام ؟
الجواب
:
انه
لا يوجد مانع شرعي من وجود اكثر من حزب سياسي داخل الدولة الإسلامية ، اذ المنع
الشرعي يحتاج الى الى نص ولا نص .
بل
ان هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر ؛ لأنه يمثل صمام امان من استبداد فرد
او فئة معينة بالحكم ، وتسلطها على سائر الناس ، وتحكمها في رقاب الآخرين ، وفقدان
أي قوة تستطيع ان تقول لها : لا ، او : لم ؟ كما دل على ذلك قراءة التأريخ ،
واستقراء الواقع .
كل
ما يشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية وجودها أمران اساسيان :
1. ان تعترف بالاسلام –عقيدة وشريعة- ولا
تعاديه او تتنكر له ، وان كان لها اجتهاد خاص في فهمه في ضوء الأصول العلمية
المقررة .
2. الا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام وللأمته
، ايا كان اسمها وموقعها .
فلا
يجوز أن ينشأ حزب يدعوا الى الإلحاد او الإباحية او اللادينية ، او يطعن في
الأديان السماوية ، او في الإسلام خاصة ، او يستخف بمقدسات الاسلام : عقيدته او
شريعته او قرآنه ، او نبيه عليه الصلاة والسلام .
واجب
النصح والتقويم للحاكم :
وذلك
ان من حق الناس في الاسلام – بل من واجبهم – ان ينصحوا للحاكم ، ويقوموه اذا اعوج
، ويامروه بالمعروف ، وينهوه عن المنكر ، فهو واحد من المسلمين ؛ ليس اكبر من ان
ينصح ويؤمر وليسوا هم اصغر من ان ينصحوا او يامروا .
واذا
اضعت الامة الامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فقدت سر تميزها ، وسبب خيريتها ،
واصابتها اللعنة كما اصابت من قبلها الامم ، ممن كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
وفي
الحديث : (( اذا رايت امتي تهاب ان تقول للظالم يا ظالم ، فقد تودع منهم )) .
وفي
الحديث الاخر (( ان الناس اذا راوا الظالم ، فلم ياخذوا على يديه ، اوشك الله ان
يعمهم بعقاب من عنده )) .
وعندما
ولي ابو بكر الخلافة قال في اول خطبة له :
(
ايها الناس ان احسنت فاعينوني ، وان اسات فقوموني .. اطيعوني ما اطعت الله فيكم ،
فان عصيته فلا طاعة لي عليكم ) .
وقال
عمر : ( ايها الناس من راى منكم في اعوجاجا فليقومني ) فقال له رجل : والله لو
راينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا ! فقال عمر : ( الحمد لله الذي جعل في
المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه ) !
ولكن
علمنا التاريخ ، وتجارب الامم ، وواقع المسلمين : ان تقويم اعوجاج الحاكم ليس
بالامر السهل ولا بالخطب اليسير ، ولم يعد لدى الناس سيوف يقومون بها العوج ، بل
السيوف كلها يملكها الحاكم .
تنظيم
النصح والتقويم في صورة قوى سياسية
والواجب
هو تنظيم هذا الامر لتقويم عوج الحكام بطريقة غير سل السيوف ، وشهر السلاح .
وقد
استطاعت البشرية في عصرنا – بعد صراع مرير ، وكفاح طويل – ان تصل الى صيغة للامر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتقويم عوج السلطان ، دون اراقة للدماء . وتلك هي
وجود ( قوى سياسية ) لا تقدر السلطة الحاكمة على القضاء عليها بسهولة ، وهي : ما
يطلق عليها ( الاحزاب ) .
ان
السلطة قد تتغلب بالقهر او الحيلة على فرد او مجموعة قليلة من الافراد ، ولكنها
يصعب عليها ان تقهر جماعات كبيرة منظمة لها امتدادها في الحياة وتغلغلها في الشعب
، ولها منابرها وصحفها وادواتها في التعبير والتاثير .
فاذا
اردنا ان يكون لفريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها واثرها في
عصرنا ، فلا يكفي ان تظل فريضة فردية محدودة الاثر ، محدودة القدرة ، ولا بد من
تطوير صورتها ، بحيث تقوم بها قوة تقدر على ان تامر وتهى ، وتنذر وتحذر ، وان تقول
عندما تؤمر بمعصية : لا سمع ولا طاعة . وان تؤلب القوى السياسية على السلطة اذا
طغت ، فتسقطها بغير العنف والدم .
ان
تكوين هذه الاحزاب او الجماعات السياسية ، اصبحت وسيلة لازمة لمفاومة طغيان
السلطات الحاكمة ومحاسبتها ، وردها الى سواء السراط ، او اسقاطها ليحل غيرها محلها
، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة ، والقيام بواجب النصيحة والامر
بالمعروف ، وما لايتم الواجب الا به فهو واجب .
تصور
غير صحيح للدولة الاسلامية :
وربما
يتصور بعض المخلصين ان الدولة التي تحكم بشرع الله ، وترجع في كل امرها الى حكمه ،
لا تحتاج الى كل هذا ، فهي دولة ملتزمة وتقف عند حدود الله تعالى .
فعلى
العاملين ان يجاهدوا حتى تقوم هذه الدولة المنشودة : فاذا قامت كانت كما وصفها
الله تعالى : الذين
ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .
وحينئذ
عليهم ان يسلموا لها الزمام ، وان يمنحوها كامل الولاء والطاعة والتاييد .
واحب
ان اقول لهؤلاء : ان الدولة الاسلامية ليست هي الدولة الدينية التي عرفت في
مجتمعات اخرى ، اعني : انها دولة مدنية تحتكم الى الشريعة ، رئيسها ليس (اماما
معصوما ) ، واعضاؤها ليسوا (كهنة مقدسين ) بل هم بشر يصيبون ويخطئون ، ويحسنون
ويسيؤن ، ويعدلون ويجورون ، ويطيعون ويعصون ، وعلى الناس ان يعينوهم اذا احسنوا وعدلوا ، ويقوموهم اذا اساءوا ، ويرفضوا
امرهم اذا امروا بمعصية ، كما قال ابو بكر في خطابه الاول ، بل كما قال النبي : (( السمع والطاعة حق على المرء مسلم فيما
احب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فاذا امر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )) .
واذا
انتفت العصمة والقداسة فكل الناس بشر ، لا يؤمن ان تغرهم الحياة الدنيا ويغرهم
بالله الغرور ، فيستبدوا ويظلموا ، واشد انواع الإستبداد خطرا : ما كان باسم الدين
، فاذا لم توضع الضوابط ، ونهيا السبل لمنعه من الوقوع ، وازالته اذا وقع ، حاق
الضرر بالامة ، واصاب شرره الدين ايضا .
ولهذا
كان ايجاد قوى منطمة تعمل في وضح النهار ، وتقدر على ان تعين المحسن وتقوم المسيء
، امرا يرحب به الشرع ويؤيده ، لما وراءه من جلب المصالح ودرء المفاسد .
واكبر
الخطأ أن تظن الدولة ، أو يطن بعض الموالين لها : أن الحق معها وحدها ، والصواب
دائماً في جانبها وان من خالفها فهو علخطأ بل على باطل .
ولقد رأينا المعتزلة حين استقلو بالحكم ،
وانفردا بالسلطان في عهد الخليفة المأمون بن الرشيد وفي عهد الواثق والمعتصم ومن
بعد ، ارادوا ان يفرضوا رايهم على الكافة ، وان يمحوا الراي الآخر ، من خريطة
الفكر ، وقاوموا بالسيف والسوط راي الفئات الاخرى ، التي لاترى رايهم في القضية
الكبرى التي اثاروها ، والمعروفة في تاريخ العقيدة والفكر باسم قضية (خلق القرآن)
.
وكانت
محنة عنيفة شديدة العنف ، اوذي فيها رجال كبار وائمة عظام ، على راسهم الإمام
الرباني التقي الورع : احمد بن حنبل .
وسجل
التاريخ على القوم الذين زعموا انهم أهل العقل واحرار الفكر ، هذه الجريمة المخزية
التي يندى لها الجبين ، وهي : جريمة اضطهاد المعارضين في الراي ، الى حد السجن
والضرب والتعذيب ، ولو كانوا من كبار العلماء وائمة الأمة العظماء .
تعدد
الأحزاب في السيسة كتعدد المذاهب في الفقه :
وعندما
نجيز مبدا التعدد داخل الدولة الاسلامية ، فليس معناه ان تعدد الاحزاب ، والتجمعات
بتعدد اشخاص معينين ، يختلفون على اغراض ذاتية ، او مصالح شخصية ، فهذا حزب فلان ،
وذالك حزب علان ، وآخر حزب هبان بن بيان . جمعوا الناس على ذواتهم ، واداروهم في
افلاكهم .
ومثل
ذلك : التعدد المبني على اساس عنصري ، او اقليمي ، او طبقي ، اوغير ذلك من افرازات
العصبية ، التي يبرأ منها الاسلام .
انما
التعدد المشروع هو : تعدد الأفكار والمناهج والسياسات ، يطرحها كل فريق مؤيدة
بالحجج والاسانيد ، فيناصرها من يؤمن بها ، ولا يرى الاصلاح الا من خلالها . ويرفضها
من يرى الصلاح او الاصلاح في خلافها .
وتعدد
الاحزاب في مجال السياسة : اشبه شيء بتعدد المذاهب في مجال الفقه .
ان
المذهب الفقهي هو مدرسة فكرية ، لها اصولها الخاصة في فهم الشريعة ، والاستنباط من
ادلتها التفصيلية في ضوئها ، واتباع المذهب هم في الاصل تلاميذ هذه المدرسة ،
يؤمنون ادنى الى الصواب من غيرها ، واهدى سبيلا ، فهم اشبه بحزب فكري التقى اصحابه
على هذه الاصول ، ونصروها بحكم اعتقادهم انها ارجح واولى ، وان كان ذلك لايعني
بطلان ما عداها .
ومثل
ذلك الحزب : انه مذهب في السياسة ، له فلسفته واصوله ومناهجه المستمدة اساساً من
الاسلام الرحب .
واعضاء
الحزب اشبه باتباع المذهب الفقهي ، كل يؤيد ما يراه اولى بالصواب ، واحق بالترجيح
.
قد تلتقي مجموعة من الناس على ان الشورى ملزمة
، وان الخليفة او رئيس الدولة ينتخب انتخابا عاما ، وان مدة رئاسته مقيدة بسنوات
محددة ، ثم يعاد انتخابه مرة اخرى ، وان اهل الشورى هم الذين يرضاهم الناس عن طريق
الانتخاب ، وان للمراة حق الانتخاب وحق الترشيح للمجلس ، وان للدولة حق التدخل
لتسعير السلع ، وايجار الارض والعقار واجور العاملين ، وارباح التجارة ، وان الارض
تستغل بطريق المزارعة لا طريق المؤاجرة وان في المال حقوق سوى الزكاة ، وان الاصل
في العلاقات الخارجية السلم ، وان اهل الذمة مواطنون في دار السلام يعفون من
الجزية اذا ادوا الخدمة العسكرية ، وضريبة التكافل ، وهي ما يقابل الزكاة التي
تؤخذ من المسلم .. وانهم يمثلون في المجلس النيابي …… الخ .
وقد
تلتقي مجموعة من المحافظين يعارضون اولئك ( المجددين ) او ( ادعياء التجديد ) في
نظرهم فيرون الشورى معلمة لا ملزمة ، وان رئيس الدولة يختاره اهل الحل والعقد ،
ويختار مدى الحياة ، وانه هو الذي يعين اهل الحل والعقد ! وان الانتخاب ليس وسيلة
شرعية ، وان المراة ليس لها حق الترشيح ولا حق التصويت ، وان الاقتصاد حر والملكية
مطلقة ، وان الاصل في العلاقات الخارجية هو الحرب ، وان الخليفة او رئيس الدولة هو
صاحب الحق في اعلان الحرب او قبول السلم ، وغير ذلك من الافكار والمفاهيم التي
تشمل الحياة الاجتمماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها .
وقد توجد مجموعة اخرى لا هي مع هؤلاء ولا مع
اولئك ، بل توافق هؤلاء في اشياء واولئك في اشياء .
فاذا
انتصرت فئة من هذه الفئات ، واصبحت مقاليد السلطة بيدها ، فهل تلغي الاخرى من
الوجود وتهيل على افكارها التراب ، لمجرد انها صاحبة السلطان ؟
هل
الاستيلاء على السلطة هو الذي يعطي الافكار حق البقاء ؟ والحرمان من السلطة يقضي
عليها بالفناء ؟
ان
النظر الصحيح يقول : لا ، فمن حق كل فكرة ان تعبر عن نفسها ما دام معها اعتبار
وجيه يسندها ، ولها انصار يؤ يدونها .
الاحزاب
مذاهب في السياسة والمذاهب احزاب في الفقه :
اما
ما ننكره في ميدان السياسة فهو ما ننكره في ميدان الفقه : التقليد الغبي والعصبية
العمياء واضفاء القداسة على بعض الزعامات كانهم انبياء ، وهذا هو منبع الوبال
والخبال .
ان
الاحزاب هي مذاهب في السياسة ، كما ان المذاهب هي احزاب في الفقه !
التعدد
والاختلاف :
ومن
الشبهات التي اثيرت هنا : ان مبدا التعدد او التعددية – كما هو المصطلح السائد –
يتنافى مع الوحدة التي يفرضها الاسلام ، ويعتبرها صنو الايمان ، كما يعتبر
اللإختلاف او التفرقة اخا للكفر والجاهلية .
وقد
قال تعالى : واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
واولئك لهم عذاب عظيم .
وفي
الحديث : (( لا تختلفوا فان من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا )) .
واود
ان انبه هنا على حقيقة مهمة ، وهي ان التعدد لايعني بالضرورة التفرق ، كما ان بعض
الاختلاف ليس ممقوتا ، مثل الاختلاف في الراي نتيجة الاختلاف في الاجتهاد ، ولهذا
اتلف الصحابة في مسائل فرعية كثيرة ، ولم يضرهم ذلك شيئا . بل اختلفوا في عصر
النبي في
بعض القضايا مثل اختلافهم في صلاة العصر في طريقهم الى بني قريظة . وهي قضية مشهورة
، ولم يوجه الرسول الكريم لوما الى أي من الفريقين المختلفين .
وقد
اعتبر بعضهم هذا النوع من الاختلاف من باب الرحمة التي وسع بها على الامة وفيها
ورد الاثر (( اختلاف امتي رحمة )) وفيه الف كتاب ( رحمة الامة باختلاف الأئمة ) .
ونقلوا
عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز انه لم يكن يود ان الصحابة لم يختلفوا ؛ لأن
اختلافهم فتح باب السعة والمرونة واليسر لللأئمة بتعدد المشارب وتنوع المنازع .
وبعضهم
جعل من اختلاف الرحمة يتمثل في اختلاف الناس في اختلاف الناس في علومهم وصناعاتهم
، وبذلك تسد الثغرات وتلبى الحاجات المتعدد والمتنوعة للجماعات .
والقرآن
يعتبر اختلاف شرا ، بل الإختلاف بين الناس قسمان : اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد ،
والأول محمود والآخر مذموم .
تعدد
الجماعات العاملة للاسلام :
لا
امنع من ان تعدد الجماعات العاملة للاسلام ما دامت الوحدة متعذرة عليهم ، بحكم
اختلاف اهدافهم ، واختلاف مناهجهم ، واختلاف مفاهيمهم ، واختلاف ثقتهم بعضهم ببعض
.
على
ان يكون هذا التعدد تعدد تنوع وتخصص ، لا تعدد تعارض وتناقض ، وان يقف الجميع صفا
واحدا في كل القضايا المصيرية التي تعلق بالوجود الاسلامي ، وبالعيدة الاسلامية ،
وبالشريعة الاسلامية ، وبالامة الاسلامية .
وعلى
اية حال ، يكون حسن الظن والتماس العذر : فضيلة يتصف بها جميع الأطراف ، لا تأثيم
ولا تضليل ولا تكفير ، بل تواص بالحق ، وتواص بالصبر ، وتناصح في الدين ، مع
التزام الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن .
ومثل
هذا التعدد أو الإختلاف - اختلاف التنوع - لا يؤدي إلى تفرق ولا عداوة ، ولا يلبس
الأمة شيعاً ، ويذيق بعضهم بأس بعض ، بل هو تعدد واختلاف في ظل الأمة الواحدة ،
ذات العقيدة الواشجة . فلا خوف منه ، ولا خطر فيه ، بل هو ظاهرة صحية ، شأنها شأن
تعدد المذاهب الفقهية .
التعدد
مبدأ مستورد :
ومن
الشبهات التي تثار هنا أيضاً ، ما يقال : إنّ التعدد الحزبي مبدأ مستورد من
الديمقراطية الغربية ، وليس مبدأ إسلامياً أصيلاً نابعاً منا ، وصادراً عنا ، وقد
نهينا أن نتشبه بغيرنا ونفقد ذاتيتنا ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .
والواجب
أن يكون لنا استقلالنا الفكري والسياسي ، فلا نتبع سنن غيرنا شبراً بشبر وذراعاً
بذراع .
ونحن
نقول : إنّ الذي نهينا عنه ، وحذرنا منه ، هو : التقليد الأعمى لغيرنا بحيث نغدو
مجرد ذيول تتبع ولا تُتْبَع ، وتمضي خلف غيرها في كلّ شيء ( حتى لو دخلوا جحر ضبّ
لدخلتموه ) ! كما صور ذلك الحديث النبوي الصحيح .
والتشبه
الممنوع بغير المسلمين هو : ما كان تشبهاً فيما هو من علامات تميزهم الديني ، كلبس
الصليب للنصارى ، والزنار للمجوس ، ونحو ذلك ، مما يدخل صاحبه في زمرة المتشبه بهم
ويحيله كأنه واحد منهم .
أما
الإقتباس منهم فيما عدا ذلك ، مما هو في شؤون الحياة المتطورة ، فلا حرج فيه ، ولا
جناح على من فعله ، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها .
وقد
حفر الرسول خندقاً
حول المدينة ، ولم تكن مكيدة تعرفها العرب ، إنما هي من أساليب الفرس قيل : إنّ
سلمان أشاد
بها .
واتخذ
الرسول خاتماً
يختم كتبه حين قيل : إنّ الملوك لا يقبلون الكتاب إلاّ إذا كان مختوماً .
واقتبس
عمر نظام
الخراج ، ونظام الديوان .
واقتبس
معاوية نظام
البريد .
واقتبس
من بعده أنظمة مختلفة .
وعلى
هذا لا غضاضة ولا حرج من اقتباس مبدأ التعدد الحزبي من الديمقراطية بشرطين :
أولهما
: أن نجد في ذلك مصلحة حقيقية لنا، ولا يضرنا أن نخشى من بعض المفاسد من جراءه ،
المهم أن يكون نفعه أكبر من ضرره ، فإن مبنى الشريعة على اعتبار المصالح الخالصة
أو الغالبة ، وعلى إلغاء المفاسد الخالصة أو الراجحة ، وقوله تعالى في الخمر
والميسر : قل
فيهما إثم كبير ومنافع للناس ولإثمهما أكبر من نفعهما أصل هذا الباب .
وثانيهما
: أن نُعدّل ونطور فيما نقتبسه ، حتى يتفق مع قيمنا الدينية ومثلنا الأخلاقية ،
وأحكامنا الشرعية ، وتقاليدنا المرعية .
ولا
يجبرنا أحد أن نأخذ النظام بحذافيره وتفاصيله ، ومنها : التعصب للحزب بالحق
والباطل ، ونصرته ظالماً أو مظلوماً ، على ظاهر ما كان يقوله العرب في الجاهلية :
" أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قبل أن يعدل الرسول عليه الصلاة
والسلام مفهومها ، ويفسرها تفسيراً يجعل لها معنى آخر ، فنصره ظالماً بأن تأخذ فوق
يده ، وتمنعه من الظلم ، بذلك تنصره على هوى نفسه ، ووسوسة شيطانه .
لمن
الولاء ؟
ومن
الشبهات التي أثيرت كذلك : ما قيل أنّ وجود أحزاب داخل الدولة الإسلامية يقسم ولاء
الفرد بين حزبه الذي ينتمي إليه ، ودولته التي بايعها على السمع والطاعة والنصرة
والمعونة .
هذا
صحيح إذا كان الفرد سيتخذ موقف المعارضة للدولة في كلّ شيء ، والتأييد لحزبه في
كلّ شيء . وهذا ما لا نقول به .
إنّ
ولاء المسلم إنما هو لله ورسوله ولجماعة المؤمنين ، كما قال تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ
حزب الله هم الغالبون .
وانتماء
الفرد المسلم إلى قبيلة أو إقليم ، أو جمعية ، أو نقابة ، أو اتحاد أو حزب أو مذهب
: لا ينافي انتماءه للدولة وولاءه لها .
فإنّ
هذه الولاءات والإنتماءات كلها مشدودة إلى أصل واحد ، هو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين
، والمحظور كل المحظور : هو اتخذا الكافرين أولياء من دون المؤمنين : أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله
جميعاً ، يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء .
وإذا
كان النمط الحزبي المعهود هو تأييد الفرد لحزبه في مواقفه ، وإن اعتقد أنه مبطل
بيقين ، ومعارضة الدولة وإن اعتقد أنها على حق ، فهذا ما لا نقرّه ولا ندعو إليه ،
وما ينبغي تعديله إلى صيغة تتفق وقيم الإسلام وأحكامه وآدابه .
الإمام
علي يقرّ وجود حزب الخوارج :
وإذا
رجعنا إلى تراثنا الخصب ، وإلى سنة الراشدين خاصة - وهم الذين أُمرنا أن نتَّبع
سنتهم ونعض عليها بالنواجذ - نجد أنّ أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وكرم الله وجهه : سمح بوجود حزب مخالف
له في سياسته ومنهجه إلى حدّ إنتهى به إلى اتهامه بالكفر والمروق ، وهو ابن
الإسلام البكر ، ولم يكتفوا بهذا الموقف النظري الفكري ، فسلوا عليه السيوف ،
وأعلنوا عليه الحرب ، واستحلوا دمه ودم من ناصره ، بدعوى أنّه حكّم الرجال في دين
الله ، ولا حكم إلاّ لله بنص القرآن الكريم : إن الحكم إلاّ لله .
وحين
سمع الإمام علي هذه
الكلمة ، ردّ عليهم بجملته التي أصبحت مثلاً يرويه التاريخ ، وذلك قوله : كلمة حقّ
يراد بها باطل !
ومع
هذا لم يلغ وجودهم ، ولم يأمر بمطاردتهم وملاحقتهم ، حتى لا يبقى لهم أثر ، بل قال
لهم في صراحة وجلاء : لكم علينا ثلاث : ألاّ نمنعكم مساجد الله ، ولا نحرمكم من
الفيء ما دامت أيديكم في أيدينا ، ولا نبدأكم بقتال .
هذا
وهم الخوارج الذين يمثلون المعارضة المسلحة ، والقوة التي بلغت بها الشجاعة حدّ
التهور .
والعلمانيون
يصورون الدولة الإسلامية المبتغاة بأنها الدولة التي لاتسمح بصوت يرتفع ، أو برأي
يعارض ، أو بجماعة تقول : لِمَ ؟ بله : لا !
والواقع
ينطق بأن في الساحة قوى مختلفة وجماعات متعددة ، تنطلق من الإقرار بالإسلام ،
والإنقياد له ، ولكنها مختلفة الرؤى والمفاهيم ، والبرامج والخطط ، فإذا قدر
لبعضها أن يمتلك زمام السلطة بوسيلة أو بأخرى ، فهل يأذن لسائر الجماعات والقوى
بالبقاء والاستمرار أو يقضي عليها بأن تختفي من المسرح ، وتتوارى إلى الأبد ؟
إنّ
الأرشد والأوفق : أن تظل هذه القوى في الساحة داعية موجهة ، آمرة بالمعروف ، ناهية
عن المنكر ، ناصحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
تعدد
الأحزاب والقوى قبل قيام الدولة :
وإن
كان تعدد الأحزاب والقوى السياسية مشروعاً في ظل الدولة الإسلامية ، الملتزمة
بأحكام الإسلام ، فمن باب أولى أن يكون تعدد الجماعات والأحزاب مشروعاً قبل قيام
دولة الإسلام ، فلا مانع أن يوجد في ساحة العمل الإسلامي أكثر من جماعة تسعى
لإقامة المجتمع المسلم ، والدولة المسلمة ، وتجاهد في سبيل الله بكلّ وسيلة مشروعة
.
فتوى
جريئة بتحريم تكوين الجماعات لنصرة الإسلام :
ومما
يجب التنبيه عليه ، ولا يحسن السكوت عنه هنا : ما يشيعه بعض الأفراد وبعض الفئات
التي تحمل النسب الإسلامي ، من أفكار تتعلق بهذا الجانب .
من
ذلك ما صدر لبعضهم من حكم أو فتوى تجعل اي تكوين ، أو إنتساب إليها : عملاً محرماً
، وابتداعاً في الدين بم يأذن به الله ، سواء سميت هذه المؤسسة جماعة أم جمعية أم
حزباً ، أو ما شئت من الأسماء والعناوين .
وهذه
جرأة غريبة على دين الله ، وتهجم على الشرع بغير بيّنة ، وتحريم لما أحلّ الله
بغير سلطان . فالأصل في الأشياء والتصرفات المتعلقة بعادات الناس ومعاملاتهم
الإباحة .
وتكوين
الجماعات العاملة للإسلام منها .
بل
الصواب أن تكوين هذه الجماعات مما توجبه نصوص الشرع العامة ، وقواعده الكلية .
فالله تعالى يقول : وتعاونوا
على البر والتقوى ، ويقول : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .
والرسول
يقول
: (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ))
، (( يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار )) .
والقاعدة
الفقهية تقول : ( ما لايتم الواجب إلاّ به فهو واجب ) ، ومن المؤكد أنّ خدمة
الإسلام في هذا العصر ، والمحافظة على كيان أمته ، والعمل لإقامة دولته ، لا يمكن
أن يتم بجهود فردية متناثرة هنا وهناك ، بل لابد من عمل جماعي يضم القوى المتشتتة
، والجهود المبعثرة ، والطاقات المعطلة ، ويجند الجميع في صف منتظم ، يعرف هدفه ،
ويحدد طريقه .
يؤكد
هذا أن القوى المعادية للإسلام ، والتي تعمل لأهداف مضادة لأهدافنا ، لا تعمل
متفرقة بل في صورة كتل قوية ، ومؤسسات جماعية كبرى ، تملك أضخم القوى المادية
والبشرية .
فكيف
نواجهها فرادى متفرقين ، والمعركة تقتضي رصّ الجميع في صف واحد ، كما قال الله
تعالى : إن
الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنّهم بنيان مرصوص .
وقال
الخليفة الأول أبو بكر الصديق للقائد
الذي بعثه : ( حاربهم بمثل ما يحاربونك به : السيف بالسيف والرمح بالرمح . . . . )
.
إنّ
العمل الجماعي لنصرة الإسلام ، وتحرير أرضه ، وتوحيد أمته ، وإعلاء كلمته : فريضة
وضرورة ، فريضة يوجبها الدين ، وضرورة يحتمها الواقع ، والعمل الجماعي يعني :
تكوين جماعات أو أحزاب تقوم بهذا الواجب .
جماعات
من المسلمين ، لا جماعة المسلمين :
وهناك
على النقيض من هذه الفكرة فكرة أخرى : ترى العمل الجماعي فريضة ، وتحصر هذه
الفريضة في جماعة معينة ترى أنها وحدها تمثل الحق الخالص ، وما سواها هو الباطل : فماذا بعد الحق إلاّ الضلال .
وبعبارة
أخرى : تصف هذه الفئة نفسها بأنها (( جماعة المسلمين )) وليست مجرد (( جماعة من
المسلمين )) وما دامت هي جماعة المسلمين ، فكلّ من فارقها فقد فارق الجماعة ، وكلّ
من لم يدخل فيها ، فليس في جماعة المسلمين !
وكلّ
ما جاء من أحاديث عن (( الجماعة )) ولزوم (( الجماعة )) ومفارقة (( الجماعة ))
تنزل على جماعتها .
وهذا
النوع من الإستدلال ، وتنزيل النصوص على غير ما جاءت له ، يفتح باب شرّ وفتنة على
الأمة ، لأنه يضع الأدلة في غير مواضعها .
ومن
هؤلاء من يجعل الحق مع جماعته أو حزبه دون غيره ، لمبررات موضوعية ، يسبغها على
حزبه أو جماعته وحدها ، وينفيها عمن سواها .
وكثيراً
ما يضع بعضهم أوصافاً فكرية وعملية ، عقدية وخلقية ، يحدد بها (( جماعة الحق )) أو
(( حزب الحق )) لتنطبق على جماعته دون غيرها ، وهذا نوع من التكلف والتعسف لا يقبله
منطق العلم .
وثمت
آخرون يجعلون التقدم الزمني هو المعيار الأوحد ، فمن سبق غيره فهو الجدير بأن يكون
ه9و صاحب الحق ، أو محتكر الحق والحقيقة .
حتى
زعم بعض الأحزاب في بعض البلاد الإسلامية أنه وحده يمثل الحق ، لأنه الحزب الأول
الذي أخذ زمام المبادرة ، وكلّ حزب يشكل بعد ذلك يجب أن يلغي نفسه ، ولا حقّ له في
البقاء لأنّ قبول الجماهير له بمثابة المبايعة له ، وفي الحديث : (( إذا بويع
لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما )) .
إنّ
هذه الفتاوى الجاهلة الجريئة من أناس لم ترسخ أقدامهم في علوم الشريعة ، هي تورد
الأمة شرّ الموارد ، وتوقعها في شرّ المهالك . ولقد قال بعض الفقهاء في العصور
الماضية حين رأى فتاوى بعض من ينتسبون إلى العلم : ( لَبَعض من يفتي الناس اليوم
أحق بالسجن من السرّاق ! وذلك لأنّ السراق يفسدون دنيا الناس ، وهؤلاء يفسدون
عليهم دينهم ) .
فكيف
لو رأى أولئك الفقهاء ما نقرأ أو نسمع من فتاوى زماننا ؟! ولا حول ولا قوة إلاّ
بالله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق