الجمعة، 7 يوليو 2023

عقائدُ الأشاعرةِ في حوارٍ هادئٍ مع شُبهاتِ المناوئين _ بقلم صلاح الدِّين بن أَحمد الإدلبي

بسم الله الرحمن الرحيم




 (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)  
الحمد لله رب العالمين ، القائل في كتابه المبين: [فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] [ ] .
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، القائل لأمته : [ إياكم والظنَّ ، فإن الظنَّ أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ههنا ، التقوى ههنا ، التقوى ههنا] وأشار إلى صدره [بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وعرضه وماله] [ ] .
وبعد ، فقد كتب أحد الباحثين كتاباً يبين فيه ـ حسب دعواه ـ منهج الأشاعرة في العقيدة ، أخرجهم فيه من دائرة [السُّنة] ، وعدهم طائفة من أهل [البدع] ، وعمّق التباغض والتدابر بين المسلمين، يرى نفسه متقرباً بذلك إلى الله تعالى ، حيث إنه ـ في ظن نفسه ـ  يبين حقيقة مذهب الأشاعرة ، ويقوم بواجب نصرة الكتاب والسنة ؛ إذ يكشف ضلالهم وانحرافهم ، ويقول : إنه من المتخصصين في علم العقيدة ، المؤسس على الكتاب والسنة ، ومذهب السلف الصالحين .
ولقد كان الباحث ـ سامحه الله ـ  متجنياً  ـ في بحثه هذا ـ  على الأشاعرة ، بعيداً عن الروح العلمية ، ومن مظاهر ذلك :
أنه ينسب أقوالاً كثيرة للأشاعرة وهم لم يقولوا بها ، ولا يذكر نصوص كلامهم من كتبهم ، ولا تتعدى النصوص التي نقلها عنهم عدد أصابع اليد الواحدة ، وينبغي لمن يرد على آخر أن يذكر قول المردود عليه بنصه ، ليرى القارئ ما إذا كان صاحب الرد قد نقل كلام المردود عليه من كتبه ، أومن كتب أهل مذهبه ، أومن كتب خصومه أحياناً!!! ـ كما فعل الباحث سامحه الله ـ، وليرى القارئ ما إذا كان صاحب الرد قد فهم كلام المردود عليه بدقة ـ في حالة النقل من كتبه ـ  أو لا ؟.
وأنه لا يذكر أدلة الأشاعرة من الكتاب والسنة على أقوالهم ، ليظهرهم على أنهم على غير الكتاب والسنة ، وربما كان لهم في المسألة أدلة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة فلا يذكرها ويغفلها تماماً ، ولكن حيث إن المسألة لغوية وقد استأنسوا فيها ببيت من الشعر لشاعر غير مسلم ؛ فإن الباحث يذكر البيت الشعري ـ مع إغفال الأدلة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة تماماً ـ ويقول : 
[ واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً ] ، 
ويقول : [ ثم أسسوا مذهبهم وبنوه في أخطر الأصول والقضايا ، الإيمان ، القرآن ، العلو، على بيتين غير ثابتين عن شاعر نصراني ....] .
وأنه يكتفي بسرد ما قاله الأشاعرة وما نسب إليهم مع التنفير والتسفيه دون أن يذكر الأدلة على إبطال تلك الأقوال .
وأنه لم يحدد المراد ببعض المصطلحات التي يستخدمها في بحثه والتي قد تكون مثار خلاف ، فكلمة [السلف] عندما يعزو إليهم بعض الأقوال فإنه لم يحدد مراده بها ، فهل السلف هم الصحابة ؟ أو الصحابة والتابعون ؟ أو الصحابة والتابعون وأتباع التابعين ؟ وهل يدخل معهم من جاء بعد تلك القرون الثلاثة كالإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن حبان والبيهقي رحمهم الله تعالى ؟؟ وهل يدخل معهم عثمان بن سعيد الدارمي والآجري والبربهاري وابن بطة واللالكائي رحمهم الله تعالى؟ ؟ وهل أقوال هؤلاء يُحتج بها أو يحتج لها؟ ؟ ؟ أي هل هي صحيحة قطعاً حيث لا يتطرق إليها الخطأ فيحتج بها على من خالفهم فيها من أهل العلم ؟ أو هي محتملة للصواب والخطأ محتاجة ـ حتى في حال صوابها ـ إلى ذكر الأدلة من الكتاب والسنة فيحتج إذاً لها لا بها ؟ ؟ ؟ .
وكلمة [أهل السنة] لم يحدد مراده بها ، ويبدوأن المراد بها عنده ابن تيمية وابن القيم ومن وافق فهمه فهمهما ، وإلا فهو ليس من أهل السنة مهما بذل من جهد واعتناء بالسنة النبوية رواية ودراية وفهماً !!! . 

وأخيراً فقبل ذكر الأدلة والاحتجاج فكنت أود لو أن الباحث كان منصفاً ودقيقاً في تصوير مذهب الأشاعرة ، بحيث يلخص مذهبهم كما هو في كتبهم ، لا كما هو في كتب مخالفيهم ، ثم يبين ـ بالأدلة ـ ما الذي في كتبهم وفي كتب مخالفيهم من صواب ومن خطأ .
ويحسن هنا أن أورد ما كتبه ابن تيمية رحمه الله ناقداً وناصحاً لأحد العلماء ، وأنا أوجهه للباحث لعله يستفيد منه ، قال: [فإنه دائماً يقول قال أهل الحق ، وإنما يعني أصحابه ، وهذه دعوى يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها ، فإن أهل الحق الذين لا ريب فيهم هم المؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة ، فأما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق ويُشْعِرَ بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل: فهذا حال أهل الأهواء والبدع ، ... فليس الحق لازماً لشخص بعينه دائراً معه حيث دار لا يفارقه قط إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم] [ ].
 
فإن قلت أين الدليل على أن الباحث متجن على الأشاعرة؟ فالجواب الواضح البين ـ بإذن الله تعالى ـ ستجده في قراءتك لهذا الكتاب .
وأحب أن أبادر إلى القول بأنني لست أشعرياً مقلداً ، والحمد لله الذي أنعم علي بمحبة الكتاب والسنة والتعلق بهما منذ نعومة الأظفار ، مع محبة الاتباع على بصيرة والنفور من التقليد الأعمى ، وعليه فإنني إذا قرأت في كتب الأشاعرة ـ رحمهم الله تعالى ـ  أو في كتب غيرهم فإني أقبل منها ما أجد له دليلاً يدل على تثبيته وتأييده ، وأرفض منها ما أجد دليلاً على بطلانه ، وأتوقف فيما لا أجد ما يؤيد قبوله أو يؤكد بطلانه . 
وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينـزل شآبيب رحمته ومغفرته ورضوانه على روح شيخي الذي سمعته يقول: [لا تقلِّد في العقيدة] . 
أقول إنني لست أشعرياً مقلداً بمعنى أنني لا ألتزم بكل ما في كتب الأشاعرة ، وإن كنت أرى أن معظم ما قالوه صواب ، ومن مآخذي على الأشاعرة إجمالاً دخولهم في الفلسفة وتبنيهم طرقها ومناهجها ، دون التنبه إلى عقم تلك الطرق والمناهج ، فنحن أمة أغنانا الله تعالى بالطرق القرآنية في إثبات العقائد ، ولا حاجة لنا إلى غيرها ، ومن كان من هذا في شك فلينظر ـ على سبيل المثال ـ في الشامل لإمام الحرمين والمطالب العالية للإمام فخر الدين الرازي ـ رحمهما الله وغفر لهما ـ ، فإنه يرى فيهما الإغراق الشديد في الطرق الفلسفية العقيمة التي لا تعطي اليقين ، ولا توصل إلى الهداية .
أما مذهب الأشاعرة الذي يتصوّره الباحث فمعظم تلك التصورات مغايرة لما في كتب الأشاعرة ، فإن يكن ذلك مذهباً لبعضهم فإني أبرأ  إلى الله منه .
هذا وإني أرى من الواجب علي أن أسهم ببيان بعض ما وقع في كلام الباحث ، تجلية للحق ، وإبراء للذمة ، سائلاً المولى ـ تعالى ـ أن يجنبني الزلل ، وأن يلهمني السداد ، بفضله ومنّه وتوفيقه ، فما كان في هذا البيان من صواب فبمحض توفيق الله تعالى ، وله الفضل والمنّة ، وما كان فيه من خطأ فمن عجزي وتقصيري ، وأستغفر الله منه .
وهذا أوان الشروع في المقصود:

قال الباحث :
[فالأشاعرة ... هي أكبر فرق المرجئة الغلاة ، ولن أستعجل نتائج بحثي ، ولكن حسبي أن أدّعي دعوى وأطرحها للمناقشة وأقبل  ـ بكل سرور ـ  من يدلي بوجهة نظره فيها] . 

أقول:

1 ـ  لقد أحسن الباحث إذ قدم بحثه بأنه دعوى ، وأنه يطرحها للمناقشة ، وأنه يقبل ـ بكل سرور ـ  من يدلي بوجهة نظره فيها .
لكن يؤخذ عليه أنه كثيراً ما يذكر الدعوى ولا يأتي بالبينة ، كيف وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [البينة على المدعي واليمين على من أنكر] [ ] ؟
2 ـ  لقد وقع الباحث هنا في تناقض واضح إذ يقول [هي أكبر فرق المرجئة الغلاة ، ولن أستعجل نتائج بحثي ، ....] . 
أفليس قوله عن الأشاعرة [هي أكبر فرق المرجئة الغلاة] قبل البدء بالبحث هو من استعجال النتائج؟ !!! .
3 ـ  اتهام الأشاعرة بأنهم من المرجئة بل من المرجئة الغلاة: قول عظيم ، وبهتان جسيم . 
ما الذي يقوله المرجئة؟ وما الذي يميزهم عما سواهم من الفرق؟ قال ابن أبي العز: [المرجئة يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة] [ ] .
فهل وجدت أيها الباحث ـ سامحك الله وغفر لك ـ  أن الأشاعرة يقولون لا يضرُّ مع الإيمان ذنب ؟ ؟ بل هل وجدت هذا منقولاً عن واحد من الأشاعرة؟ ؟ !!! . هذا ما لا يقوله أشعري قط .
أرجوك أن تستعدَّ للجواب عند أحكم الحاكمين ، [ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ] [ ] .
 
قال الباحث:
[ إنها مسألة مذهب بدعي له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي ، حيث تمتلئ به كثير من كتب التفسير وشروح الحديث وكتب اللغة والبلاغة والأصول فضلاً عن كتب العقائد ... ، وقد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه ، تشرف عليها هيئات رسمية كبرى ، ويغذوها المستشرقون بما ينبشونه من تراثه ويخرجون من مخطوطاته ] .

أقول: 
1 ـ  قول الباحث عن المذهب الأشعري [ له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي] فهذا صحيح ، لكن قوله عنه [ مذهب بدعي ] فهذا يحتاج إلى أدلة ، فهلا أبرزت أدلتك ـ أيها الباحث ـ  بعد تحديد نقط الابتداع في المذهب الأشعري !!![ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ][ ] .
2 ـ  قول الباحث عن المذهب الأشعري بأنه [قد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه] فلا أدري ما المقصود بهذه المحاولات الضخمة؟ ولا أين هي؟ وليت الباحث يذكرها ! . 
3 ـ وقوله [ويغذُوها المستشرقون] فما أبعده عن الحقيقة !!! فهل أحصى الباحث ما أسهم المستشرقون في نشره من كتب التراث الإسلامي ووجد تركيز المستشرقين على نشر كتب الأشاعرة في العقيدة؟ !!! ما أظن الباحث فعل ذلك ، وما أظنه يتبنى مثل هذا المنهج العلمي . 
المستشرقون يهتمون بكافة فروع المعرفة ، وقد نشروا  أو أسهموا في نشر كثير من كتب التراث الإسلامي ، ومن ذلك قسم من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم للواقدي ، والطبقات الكبرى لابن سعد ، والسيرة النبوية لابن هشام ، ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ، والكلم الطيب من أذكار النبي صلى الله عليه وسلم لابن تيمية ، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ، وطبقات الحفاظ للذهبي ، وبعض كتب القراءات ، والوقف والابتداء ، والرسم القرآني ، وطبقات الفقهاء ، والأنساب ، ومصطلح الحديث ، والجرح والتعديل ، والنحو، وكثير من كتب الفلسلفة ، والتصوف ، وعلم الكلام ، وكتب الأشاعرة[ ] . وقد طبع بعناية المستشرقين أربعة وعشرون جزءاً حتى الآن من كتاب الوافي بالوفيات للصفدي ، ولم يتم ، ولا أدري لم ينسى الباحث أن المستشرقين قد طبعوا "الرد على الجهمية" للدارمي في "ليدن"؟ ؟ !!! وهذا من كتب العقيدة التي أثنى عليها الباحث ، وجعله قريناً لمؤلفات الإمام أحمد والبخاري وغيرهما ، فتأمل !!! . 
فما هذا الربط بين الأشاعرة وبين المستشرقين؟ ! وما دوافعه؟ ! ولمصلحة مَنْ؟ !!! .
 
قال الباحث:
[الأشاعرة هم الذين كفروا وما يزالون يكفرون أتباع السلف ، بل كفروا كل من قال إن الله تعالى موصوف بالعلو، وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لشيخ الإسلام ، وهو ما لم يفعله أهل السنة بعالم أشعري قط ، ... ولولا الإطالة لأوردت بعض ما تصرح به كتب عقيدتهم من اتهامه بالزندقة والكفر والضلال . وانظر عن القدامى: الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية شيخ الإسلام كافر ، وكتاب الحصني دفع شبه من شبه وتمرد ، ... ومن ذلك قول صاحب حواشي على شرح الكبرى للسنوسي [ابن تيمية أي الحنبلي المشهور زنديق وبغضه للدين وأهله لا يخفى] . 

أقول: 
1 ـ  هل كفَّر الأشاعرة أتباع السلف؟ !!! .
وهل كفَّر الأشاعرة كل من قال إن الله تعالى موصوف بالعلو؟ !!! أين وجد الباحث هذا؟!!! [ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ] [ ] .
2 ـ  هل كفَّر الأشاعرة ابن تيمية؟ وهل صرحت كتب عقيدتهم باتهامه بالزندقة؟ :
لقد كفَّر ابنَ تيمية رحمه الله أحدُ فقهاء الحنفية وهو علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري المتوفى سنة (841 هـ) ، وكفَّر كلَّ من يطلق عليه لقب شيخ الإسلام .
ولكن علاء الدين البخاري ـ رحمه الله وغفر له ـ  ليس بأشعري ولا يمثل المذهب الأشعري ، ويكفيك أنه كان ينهى عن النظر في كلام الإمام النووي ويقول هو ظاهري [ ] . ورد عليه ابن ناصر الدين بكتابه الذي سماه "الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية شيخ الإسلا م كافر" ، حيث ذكر فيه أسماء عشرات العلماء من المعاصرين لابن تيمية وغيرهم من الذين سموا ابن تيمية شيخ الإسلام ، فهل كان أولئك كافرين ؟ !!!. ومن أولئك المعاصرين لابن تيمية من كان بينهم وبينه خصومة علمية ظاهرة وأطلقوا عليه مع ذلك كلمة شيخ الإسلام ، وأخص منهم بالذكر عالمين كبيرين من كبار علماء الأشاعرة ، هما الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السـبكي المتوفى سـنة(756هـ)، ومحمد بن علي بن عبد الواحد ابن الزملكاني المتوفى سنة (727هـ) . فهل بعد هذا الإنصاف إنصاف؟ ! .
فأولئك المعاصرون لابن تيمية لم يكفروه ، بل اعترفوا له بالمكانة العلمية ، وأطلق كثير منهم عليه لقب شيخ الإسلام [ ] .
ومن العلماء الذين جرت بينهم وبينه خصومة علمية قضاة المذاهب الأربعة ، ولو كفروه لحكموا باستتابته وبقتله إذا لم يتب ، ولكن ذلك لم يقع .
وقد قرظ الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله كتاب "الرد الوافر" الذي صنفه ابن ناصر الدين رداً على علاء الدين البخاري ، وأثنى في تقريظه على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وأشار إلى المسائل التي أنكرت عليه ، فقال: [ وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس ، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الإنصاف ، ... ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً  بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع ، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق ، ولا يُحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه ،... والمسائل التي أُنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ، ولا يصرُّ على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً ، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه ، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب ، فالذي أصاب فيه ـ وهو الأكثر ـ يستفاد منه ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه ، بل هو معذور ، لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه ،...] .
3 ـ  لقد كان الفقيه الشـافعي الشـيخ تقي الدين الحصني أبو بكر بن محمد المتوفى سـنة (829هـ) ـ رحمه الله وغفر له ـ يحمل على ابن تيمية ـ رحمه الله ـ  ويكفره ، فما الذي أخذه عليه؟ وما مستنده في ذلك؟ 
قال الحصنيُّ: [... فمن ذلك ما أَخبر به أَبو الحسن علُّي الدمشقي في صحن الجامع الأُموي عن أَبيه أنه قال: كنا جلوساً في مجلس ابن تيمية ، فذكّر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال: واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا] [ ] .
ونقل الحصني عن تفسير أَبي حيان الأندلسي المسمى بالنهر عند تفسير قول الله تعالى [ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ] [ ] ، أَنَّ أَبا حيَّان قرأ في كتاب العرش لابن تيمية وهو بخطِّه أَنه قال فيه: [إِنَّ الله يجلِس على الكرسي وقد أَخلى مكاناً يُقعد معه فيه رسول الله صلَّى الُله عليهِ وسلَّم][ ] .
ونقل الحصنيُّ عن ابن تيمية أَنه قال في الكلام على حديث النـزول المشهور: [إِنَّ الله يَنزل إِلى سماء الدنيا إلى مرجةٍ خضراءَ وفي رجليه نَعلان من ذهب] [ ] .
وقال الحصني عن ابن تيمية [مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم ، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم والشيخين ، وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأنه من الملحدين ، وجعْلِ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ، ذكر ذلك في كتاب له سماه الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم ، وقد وقفت في كلامه على المواضع التي كفَّر فيها الأئمةَ الأربعة] [ ] .
وقال عنه في موضعٍ آخر: [وأَما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتةَ ولا يعتبره ، سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز ،... وإشاعته هو وأتباعه أَنَّ الطلاق الثلاث واحدةٌ: خزعبلات ومكر ، وإلا فهو لا يوقع طلاقاً على حالف به ، ... وإن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تستُّراً وخديعة ، وقد وقفت على مصنف له في ذلك] [ ] .
وقال عنه متحدثاً عن سبب إدخاله السجن: [وكان السبب في اعتقاله وحبسه أَنه قال لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، وأَنَّ زيارة قبور الأَنبياء لا تُشد إليها الرواحل كغيرها ، كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلَّى الله عليه وسلم ، ثم إنَّ الشَّاميين كتبوا فتيا أيضاً في ابن تيمية لكونه أَول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأَولين والآخرين ، فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطراً بأَشياء ، وآخر القول أَنه أَفتى بتكفيره ، ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين ابن جهبل الشافعي ، وكتب تحت خطِّه كذلك المالكي ، وكذلك كتب غيرهم ، ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ، ... فجمع السُّلطان لها القضاة ، فلما قرئت عليهم أَخذها قاضي القضاة بدرُ الدين ابنُ جماعة وكتب عليها [القائل بهذه المقالة ضالٌّ مبتدع] ، ووافقه على ذلك الحنفيُّ والحنبلُّي ، فصار كفره مجمعاً عليه][ ]. ثم ذكر الحصني حضور كتاب السُّلطان إلى نائب البلد وأَنَّ فيه: [ورسْمنا بقراءةِ الفتوى على القضاة والعلماء ، فذكروا جميعاً من غير خلف أَنَّ الذي أَفتى به ابنُ تيمية في ذلك خطأ مردود عليه ، وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقاً][ ] .
يبدو أَنَّ من أهم مآخذ الحصني على ابن تيمية ـ رحمهما الله ـ هو ما بلغه عنه أَنَّه قال [واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا] !!! ولكن أين السَّند؟ ؟ السند هو أَنَّ هذا أَخبر به أَبو الحسن علُّي الدمشقي عن أَبيه ، فمَن أبو الحسن علي الدمشقي؟ ومن أبوه؟ وهل كان كل واحد منهما عدلاً ضابطاً؟ أَم إِنهما من المجاهيل الذين يروون المناكير؟ ! يبدو أَنهما  أَو أَحدهما على الأَقل من النوع الأخير ، والدليل على ذلك هو أن كتب ابن تيمية رحمه الله مملوءة بالرد على التشبيه والمشبهين ، فلا شك في أن هذا الخبر مختلَق مكذوب . لكن كيف غفل الشيخ تقي الدين الحصني عن نقده سنداً ومتناً؟ !!! سامحه الله وغفر له [ ] .
ولابن تيمية ـ سامحه الله وغفر له ـ كلمات توهم التشبيه إيهاماً ، وليس هو ممن يقول [كاستوائي هذا] ، بل يقول ليس استواؤه كاستواء المخلوقين . 
أَمَّا مسأَلة إِقعاد الله تعالى لنبيِّنا محمدٍ صلَّى الُله عليه وسلَّم معَه على العرش؛ فابن تيمية ـ سامحه الله ـ يقول بها ، لأَنَّه يذكر الأَثر الوارد في هذا عن مجاهدٍ رحمه الله ، ولا يتعقبه سنداً ولا متناً ، ولكنَّه لا يقول إِن الله تعالى قاعدٌ على العرش كقعود المخلوقين ، ومن المواطن التي ذكره فيها ما نقله من كتاب السُّنة لأَبي بكر ابن أَبي عاصم إِذ قال: وقال أَبو بكر: حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً] [ ] قال: [يُقعده معه على العرش] [ ] . ولم يذكر أنَّ ليثاً هذا هو ابن أَبي سُليم ، وأنَّه كان قد اختلط .

وأَمَّا القول بأَنَّ كتبَ ابن تيمية مشحونةٌ بالتشبيه والتجسيم فليس فيها تصريح بذلك[ ].
وأما الإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم والشيخين وتكفير ابن عباس وتضليل ابن عمر وتبديعه وتكفير الأئمة الأربعة فهذا في واد وابن تيمية رحمه الله في واد آخر ، وكتبه مشحونة بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب محبته وتوقير الصحابة والثناء على الأئمة الأربعة . ولا أدري أَين وجد الحصني ـ سامحه الله ـ  هذه الطَّامات؟ وكيف نسبها لكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أَصحاب الجحيم" ؟؟ ولا أَستبعد أَن يقوم أَحد الوضاعين بكتابة مثل هذه الافتراءات وينسبها لابن تيمية رحمه الله ويأتي بها إلى الحصني وغيره ليوغر صدورهم على ابن تيمية .
ولا يغيبن عن بالك الافتراءاتِ الشنيعة الكثيرة التي نسبها ابنُ حزم إلى الباقلانيِّ رحمهما الله تعالى ، مما تجد كتب الباقلاني مشحونة بنقيضها ، وهذا يجعلك لا تتردد في أَنها من فعل أَحد الوضَّاعين الأَفاكين .
وأَما أَنَّ ابن تيمية رحمه الله لا يوقع طلاقاً على حالف به سواء كان بالتصريح أو الكناية أَو التعليق أَو التنجيز وأَنه يشيع مسألة وقوع التطليقات الثلاث واحدة تستراً وخديعة: فهذا من أَعجب العجب ، فابن تيمية يوقع الطلاق الصادر بالتصريح والكناية والتنجيز كما يوقعه سائرُ العلماء ، وخالفهم في مسألة الطلاق المعلَّق ، إِذ لا يقول بوقوعه حالةَ وجود المعلَّق عليه مطلقاً ، بل يستثني ما إِذا كان قصد الحالف به الحثَّ على فعل شيء أَو المنع من فعله ، كما أَنه لا يقول بوقوع ثلاث تطليقات لمن جمعهن في لفظ واحد ، ويرى أَن الواقع بذلك تطليقةٌ واحدة فقط . فمسألة الرد على ابن تيمية رحمه الله فيما انفرد به من مسائل الطلاق شيء واتهامه بأنه لا يوقع طلاقاً على حالف به شيءٌ آخر !!! . 
وأَمَّا قول ابن تيمية رحمه الله بتحريم شدِّ الرَّواحل لزيارة قبور الأنبيـاء ـ فضلاً عن غيرهم ـ  فهو يقول بهذا ، لكنَّ القول بأَنه أَول من أَحدث هذه المسألة غيرُ مسلَّمٍ ، فقد نقل ابن حجر في فتح الباري نحواً من ذلك عن أَبي محمد الجويني والقاضي عياض وغيرهما ، وأَما القولُ بأنَّ هذه المسألةَ لا تصدر إِلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين صلَّى الُله عليه وسلَّم فهذا كذلك غير مسلَّم ، وأين هذا من ذاك؟ !!! فقد يحمل بعضُ أَهل العلم حديث النبي صلى الله عليه وسلَّم [لا تُشَدُّ الرِّحالُ إِلا إِلى ثَلاثةِ مَساجد] على ظاهر العموم ، ولا يستثني منه إلا ما ورد دليل خاص على إِباحته ، وهذا المسلك مخالف لقول جمهورِ أَهل العلم ، وهو اجتهادٌ من قائله ، لكنه لا ينافي تعظيمَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وتوقيرَه ومحبَّته . 
وليس من المقبول أَن يقول الحصني إِن برهان الدين الفزاري كتب أَشياء على فتوى ابن تيمية بتحريم شدِّ الرحال لزيارة القبر الشريف وأَنه [أَفتى بتكفيره ووافقه ابن جهبل ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته] !! فإنه لا يقبل حتى ينقل نصوص كلامهم ، لأننا وجدناه ينقل نصوصاً ليس فيها تكفير ويفسرها بالتكفير !!! فإنه نقل نصَّ القاضي الشافعي بدر الدين ابن جماعة وأَنه كتب على تلك الفتوى [القائل بهذه المقالة ضالٌّ مبتدع] ، وعقب ذلك النقل بقوله [ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعاً عليه] !!!. ولا أدري كيف يستقيم هذا بعد أَنَّ حكم القاضي بدرُ الدين ابن جماعة بالضلال والابتداع ثم يجعله الحصني تكفيراً ويقول [فصار كفره مجمعاً عليه] !!!. ثم إِنَّ الحصني نقل كتاب السُّلطان إِلى نائب البلد وأَنَّ القضاة والعلماء الذين قُرِئت عليهم فتوى ابن تيمية [ذكروا أَنَّ الذي أَفتى به في ذلك خطأٌ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعِه من الفتوى] ، وليس في شيءٍ من ذلك رميه بالكفر أَو الزندقة . 
ويبدو أَن الحصني ـ سامحه الله وغفر له ـ  كان قد امتلأ غضباً وسخطاً على ابن تيمية فتضَّخمت أَخطاؤه ـ بالإِضافة إلى المفتريات عليه ـ  في قلبه وعقله ، وأَخرجته عن سمت الاتِّزان ، فقال ما قال ، والواجب على المسلم العدلُ في حالة الحبِّ والكره ، فقد قال الله تعالى [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ][ ] .
لكن إِذا كان قد وقع الحصني في تكفير ابن تيمية كما وقع في ذلك عصريُّه علاء الدين البخاري فإِنَّ جمهور الأشاعرة لم يقعوا في تكفيره ، ولم يتهموه في دينه ، وأَثنوا عليه فيما يرون أَنه أَصاب فيه، وانتقدوه فيما يرون أَنه أَخطأ فيه نقداً يتناسب في القوَّة مع شدَّة الخطأ الذي يرون أَنه وقع فيه . 
4ـ أَما ما قاله صاحب الحواشي على شرح الكبرى للسنوسي إِذ قال عن ابن تيمية [زنديق وبغضُه للدِّين وأَهلِه لا يخفى]؛ فهي كلمة لا تستحق أَن توضع في معرض الحديث عن الأَشاعرة وابن تيمية ، فمن هو قائلها؟ ؟ وما موقعه بين علماء الأشاعرة؟ ؟ !: 
قائلها هو الشيخ إِسماعيل بن موسى بن عثمان الحامدي المتوفى سنة (1316هـ) ، فهو من المتأَخرين جداً ، فلا يمكن أَن يقرن قوله بكلام المتقدِّمين من الأَشاعرة ، ولعلَّه قرأَ [دفع شُبَه من شبَّه وتمرَّد] للحصني فقال ما قال ، رحمهم الله جميعاً وغفر لنا ولهم . 
5ـ  اشتهر عن كثير من العلماء المتأخرين النفورُ الشَّديد من ابن تيمية رحمه الله ، ومع ذلك فقد قال بعضهم كلماتٍ في حقِّه فيها إِنصاف ، فأَحببت أَن أَذكر ما وجدته من ذلك: 
قال السُّيوطي: [وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه "نصيحة أَهل الإيمان في الردِّ على منطق اليونان" ...] . ثم قال في ذكر المجتهدين: [وفي هذا العصر شيخ الإسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية ، وصفه غيُر واحد بالاجتهاد ، منهم الشيخ ولُّي الدين العراقي في "فتاويه"][ ] .
وقال الفقيه الحنفي الصُّوفي ابن عابدين: [وقد سبق إِلى نقل ذلك أَيضاً شيخُ الإسلام تقي الدين أحمد ابنُ تيمية الحنبلُّي في كتابه "الصَّارم المسلول" ] [ ] .
وقال أَحد مشايخ الطريقة الصُّوفية الرفاعية المشهور بالصيَّادي في جملة وصاياه لأَتباع الطريقة: [المادة (122): محبَّة العلماء العاملين الذين يريدون إِعلاء كلمة الله تعالى ولو أغلظوا على خدَّام الطرُق العلية في دروسهم ومؤلفاتهم ، إِن علمت أَنَّ ذلك لله تعالى ، لا لغرضٍ نفساني ، ولو خامر بعض كلمات البعض منهم شدة وغلظة وتخلل ذلك الغلط ، ككلمات الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى وأَمثالِه] [ ] .
ومواقف الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى من أَتباع الطريقة الرِّفاعية مع النقد القاسي والتجريح الشديد معلومةٌ ومشهورةٌ ، إِلا أَنه لا يتكلَّم في شيخ الطريقة الرِّفاعية السَّيدِ أَحمدَ الرِّفاعيِّ رحمه الله تعالى بشيءٍ . 
وقال الشيخ يوسف النبهاني من كبار الصوفيين ببيروت في القرن الرابع عشر الهجري: [وابن تيمية هو إِمام كبير ، وعلَم شهير ، من أَفراد أَئمة الأُمة المحمدية الذين تفتخر بهم على سائر الأمم ، ولكنه مع ذلك غيرُ معصوم من الخطأ والزلل ، فقد أخطأ في مسائلَ قليلةٍ ـ منها هاتان المسألتان ـ خطأ فاحشاً خالف فيه جمهورَ الأُمة من السَّلف والخلف ، كما بين ذلك كثير من المحققين ، ... وابن تيمية وإِن أخطأ في هذه المسائل المعدودة فقد أَصاب بمسائل لا تعدُّ ولا تحصر ، نصرَ بها الدين المبين ، وخدم بها شريعة سيد المرسلين ، صلَّى الله عليه وسلَّم] . ثم قال: [اعلم أني أَعتقد في ابن تيمية وتلميذيه ابن القيم وابن عبد الهادي أَنهم من أَئمة الدين ، وأَكابر علماء المسلمين ، وقد نفعوا الأُمة المحمدية بعلمهم نفعاً عظيماً وإن أساءوا غاية الإساءة في بدعة منع الزيارة والاستغاثة وأَضَروا بها الإسلام والمسلمين أضراراً عظيمة][ ] . 
فانظر إِلى كلمات هؤلاء العلماء والصُّوفيين وما فيها من إِنصاف ، على الرغم من تباعد المناهج وتباين المشارب ، فرحمة الله تعالى ومغفرته لنا ولهم جميعاً إِن شاء الله . 
6ـ هل اضطهد الأَشاعرةُ ابنَ تيمية؟ : 
لم ير الأَشاعرة في ابن تيمية كفراً ولا زندقةً ، وبالتالي فإنهم لم يحكموا عليه بالقتل ، وإنما رأَوا فيه ضلالاً وابتداعاً في بعض المسائل ، فحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى ، دون أن يوقعوا عليه الضرب أو الجلد . 
وكم أَودُّ لو اكتفوا بإِقامة مجالس المناظرة مهما طالت وتعددت وامتدَّ بها الزمن حتى يظهر الُله الحقَّ في كل مسألة على لسان صاحب الحق فيها ، [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] [ ] . 
وقبل التسرُّع في الحكم على الأشاعرة في موقفهم من ابن تيمية ـ رحمهم الله وغفر لنا ولهم جميعاً ـ ؛ تصور أن ابن تيمية كان هو القاضي وصاحب الكلمة النافذة عليهم في ذلك الوقت ؛ فهل كان سيكتفي بالحكم عليهم بمثل الذي حكموا هم به عليه؟ !!! ما أظنُّ ذلك . 
7 ـ من الغريب أن يقول الباحث [... وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لشيخ الإسلام ، وهو ما لم يفعله أَهل السُّنة بعالم أَشعري قط] . 
فهل كان من يسمِّيهم الباحث أَهل السُّنة يكفُّون ألسنتهم عن تكفير أَي عالم أشعري؟ ! ما أظن ذلك . 
وأَكتفي بنقل جزء من كلام ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ ظاهره أَنه يكفِّر خصومه الذين دعوه للحضور من الأمراء والقضاة ومن معهم ، إِذ يقول: [فإِنه في آخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة جاء أَميران رسولين من عند الملأ المجتمعين من الأمراء والقضاة ومن معهم ...] ثم قال [فأخذا الجواب وذهبا ، فأطالا الغيبة ، ثم رجعا ولم يأتيا بكلام محصل إِلا طلب الحضور ، فأَغلظت لهم في الجواب ، وقلت لهم بصوت رفيع: يا مبدِّلين ، يا مرتدين عن الشَّريعة ، يا زنادقة] [ ] . فمن هم المعنيُّون بأَنهم مبدِّلون ومرتدُّون عن الشريعة وزنادقة؟؟ الأميران المرسلان من قبل الملأ؟ أو الملأ الذين أَرسلوا الرسولين من الأمراء والقضاة والعلماء الذين معهم؟؟!!! . 
8 ـ  وأَما الألفاظ التي ليس فيها تكفير ولكنها من السبِّ الذي يجب على المسلم ـ فضلاً عن العالم ـ أَن ينـزِّه عنه لسانَه وقلمه فاقرأْ هذا المثال: 
قال ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ : [كما يقال الأَشعرية مخانيثُ المعتزلة ، والمعتزلة مخانيث الفلاسفة] . ثم قال: [... وإِنما اعتقادهم أَنَّ القرآن غيرُ موجود ، لفظته الجهمية الذكور بمرَّة والأشعرية الإناث بعشرِ مرات] [ ] . فهل التلفُّظ بمثل هذا مما يليق بعالم من علماء المسلمين؟!!! .
9 ـ هل كان من يسمِّيهم الباحث أَهل السُّنة يكفُّون أَيديهم عن اضطهاد أَي عالم أَشعري؟! ما أَظن ذلك . 

وأَكتفي ببعض النقول التي تبين لك شيئاً من حقيقة الأمر: 
قال ابن أَبي يعلى في ترجـمة الشـريف أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى العباسي المتوفى سـنة (470 هـ) وهو يصف ما جرى بينه وبين أَبي نصر عبد الرحيم ابن أَبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري المتوفى سنة (514هـ) : [فوصل إلى مدينة السَّلام بالجانب الشرقي ولدُ القشيري ، وأَظهر على الكرسي مقالةَ الأشعري ، ولم تكن ظهرت قبل ذلك على رؤوس الأَشهاد ، لما كان يلحقهم من أَيدي أَصحابنا وقمعهم لهم ، فعظُم ذلك عليه ، وأَنكره غايةَ الإنكار ، ... فاشتدَّ أَزر أَهل السُّنة ، وقويت كلمتهم ، وأوقعوا بأَهل هذه البدعة دفعات ، وكانت الغلبة لطائفتنا طائفة الحقِّ ، ...][ ]. وتأَمَّل قول ابن أبي يعلى [لما كان يلحقهم من أَيدي أصحابنا وقمعهم لهم]!!! . وابن أبي يعلى كان ممن صحب الشريف أبا جعفر ولازمه خمسَ سنين .
وقد ذكر ابنُ رجب نحواً من هذه الواقعة ، وكان مما قال: [ومضمون ذلك أَنَّ أَبا نصر ابن القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأَربعمائة ، وجلس في النِّظامية ، وأَخذ يذمُّ الحنابلة وينسبهم إِلى التجسيم ، ... فاتفق جماعة من أَتباعه على الهجوم على الشريف أَبي جعفر في مسجده والإيقاع به ، فرتب الشريف جماعة أَعدهم لردِّ خصومه إِن وقعت ، فلما وصل أولئك إِلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجرِّ ، فوقعت الفتنة ، وقُتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون ، ...] [ ] .
 
قال الباحث: 
[فيا عجباً لهؤلاء القوم ، يكفِّرونه ثم يدَّعون أَنهم وإياه على مذهب واحد ويشملهم جميعاً اسم السنة والجماعة !! ...]
ثم قال: [إِن مصطلح أَهل السنة والجماعة يُطلق ويراد به معنيان:
[المعنى الأَعم: وهو ما يقابل الشِّيعة ، ... وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأَشاعرة ، ... 
[المعنى الأَخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأَهل الأهواء ، ...وهذا المعنى لا يدخل فيه الأَشاعرة أبداً ، بل هم خارجون عنه ، وقد نص الإِمام أحمد وابن المديني على أنَّ من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أَهل السنة وإِن أصاب بكلامه السنة حتى يدعَ الجدل ويسلِّم للنصوص ، فلم يشترطوا موافقة السُّنة فحسب ، بل التلقي والاستمداد منها ، ... والأشاعرة ـ كما سترى ـ  تلقَّوا واستمدّوا من غير السُّنة ولم يوافقوها في النتائج ، فكيف يكونون من أَهلها؟ !] . 

أقول:
1ـ الباحث يقول كلامَه هذا في معرض حديثه عن الأَشاعرة وابن تيمية ، فهل قال الأشاعرة إِنهم وابن تيمية على مذهب واحد؟ ؟ !!! . 
2ـ لا أَدري لمَ يتعجب الباحث فيما لو قال الأَشاعرة إِنهم وابن تيمية يشملهم جميعاً اسم السنة والجماعة وقد بيَّن هو نفسه أَنَّ هذا المصطلح يطلق ويراد به المعنى الأَعم ويُطلق ويراد به المعنى الأَخص؟ !! .
فإِن كان الأَشاعرة أَو بعضُهم قد قالوا ذلك فعلاً فلا شك في أَنهم أَرادوا المعنى الأعمَّ الذي يقابل الشِّيعة وسائر الفرق ، فما وجه التعجب من ذلك؟ !! بل الباحث نفسه يقبل دخول الأشاعرة تحت اسم السنة والجماعة بهذا المعنى ، فلم تنكر ـ أيها الباحث ـ على الأشاعرة ولا تنكر على نفسك؟ ! . 
3ـ يرى الباحث أَنَّ اسم السنة والجماعة بالمعنى الأَخص يقابل المبتدعة وأَهل الأهواء وأَنَّ الأشاعرة لا يدخلون فيه أبداً .
ويرى الباحث أَن الأشاعرة تلقَّوا واستمدوا من غير السُّنة وأَنهم لم يوافقوها في النتائج ، وقال: فكيف يكونون من أَهلها؟ ! . فهل عندك ـ أيها الباحث ـ  دليل على هذه الدعاوى؟! أَو إِن الدعوى يمكن أَن تُقبل بدون دليل؟ !!! . 
وإِذا  أَردت ـ أَيها القارئ المنصف ـ أَن تعلم ماذا قدَّم الباحث من أَدلة على أَنَّ الأشاعرة تلقوا واستمدوا من غير السُّنة ؛ فاقرأْ ماسطَّره مما سيأتي في الموضوع الأول الذي عنونه بمصدر التلقي ، وتأمل هل في ذلك دليل على صحة الدعوى؟ ! . وإذا أردت أن تعلم ماذا قدم من أدلة على أنهم لم يوافقوا السنة في النتائج فاقرأ وتأمل ما سطره مما سيأتي في المواضيع التي تلي الموضوع الأول .
4ـ  هجوم الباحث على الأشاعرة واتهامهم بأنهم يتلقون ويستمدون ـ في العقيدة ـ من غير السنة وأنهم لم يوافقوها في النتائج مع الثناء الكبير على ابن تيمية: يوحي للقارئ بأن ابن تيمية لا يستمد ـ في العقيدة ـ من غير السنة وأنه لم يخالفها في النتائج ، والمظنون به والمعروف عنه ـ رحمه الله وغفر له ـ أنه شديد الحرص على اتباع السنة ، ولكن لا بد هنا من وقفة صغيرة:
لم لا يتعامل الباحث مع علماء الأشاعرة وابن تيمية وسائر العلماء ممن قبلهم ومن بعدهم بمنهج واحد؟ ؟ لم لا يزن أقوالهم بغض النظر عن قائلها بميزان واحد؟ ألا وهو العرض على كتاب الله تعالى وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فما شهدت له النصوص بالقبول فهو المقبول ، وما شهدت له بالرد فهو المردود . 
وما أجمل كلمة الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ التي مرت قريباً ، حيث يقرظ كتاب الرد الوافر لابن ناصر الدين ، فقد قال بعد الثناء على ابن تيمية والإشارة إلى الأشياء التي أنكرت عليه: [ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب ، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه] .
وإذا نظرنا بهذا المنظار المنصف فلا بد من أن نقول للباحث: إن ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أصاب في أشياء وأخطأ في أشياء ، ومن المجانبة للإنصاف تقديره لدرجة التقديس ، ورفعه إلى مرتبة تكاد تصل به إلى العصمة التي لا يستحقها مَن سوى الأنبياء والمرسلين ، حتى إن أقوال سابقيه ولاحقيه من العلماء توزن ـ عند كثير ممن فُتنوا به لحد التقديس ـ بالعرض على كلامه ، لا على نصوص الكتاب والسنة وأساليب اللغة وموازين العقول !!! . 

والذي يتتبع كلام ابن تيمية ـ رحمه الله وغفرله ـ في العقيدة يجد أن فيه خللاً في عدد من المواضع، وهذه إشارات لبعضها:

أ ـ  رأى ابنُ تيمية قولَ ابنِ حزمٍ [وأن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه] فعلَّق ابنُ تيمية قائلاً: [هذه العبارة ليست في كتاب الله ، ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ... ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين] [ ] .

أقول:
من العجيب الغريب أن يقول ابن تيمية عن هذه العبارة [ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] وقد قال صلى الله عليه وسلم [كان الله ولم يكن شيء غيره]؟ !! [ ] . 
ومن العجيب الغريب أن يرجح رواية أخرى من روايات الحديث وهي [كان الله ولم يكن شيء قبله] [ ] على الرواية الأولى معرضاً تمام الإعراض عن منهج أئمة الحديث في الترجيح بين الروايات . وطرق هذا الحديث مبثوثة في أكثر من عشرين مصدراً من مصادر السنة النبوية ، فلم يكلِّف نفسه عناء الرجوع إلى المصادر لجمع الطرق ، واكتفى بالطريقين المرويين في مصدر واحد ، وهو صحيح البخاري . ولو أنه أنفق من عمره سنوات لجمع طرق هذا الحديث ومعرفة اللفظ الراجح حقاً وهو [ولم يكن شيء غيره] ؛ لجنب نفسه وأتباعه الوقوع في عدد من البدع الاعتقادية ، كالقول بالقدم النوعي للعرش وجواز وقوع حوادث لا أول لها [ ] .
ومن العجيب الغريب أن يقول إن هذه العبارة لا تعرف أو لا يعرفها هو عن أئمة المسلمين ، ومعناها منقول عن عدد من أئمة المسلمين منهم يزيد بن هارون ـ شيخ الإمام أحمد ـ ، والإمام أحمد ، وابن جرير الطبري ، وابن حبان ، والبيهقي ، والقاضي أبو يعلى ، وغيرهم ، وجاء معناها في الاعتقاد القادري الذي كتب للخليفة العباسي القادر بالله !!! فكيف غفل ابن تيمية عن هذا؟! .
والأعجب أنه هو نفسه ينقل عن الإمام أحمد أنه يقول [كان الله ولا شيء] [ ] ، وينقل في معرض الثناء والإقرار قول عمرو بن عثمان المكي رحمه الله: [الله تعالى واحد لا كالآحاد ، ... خلصت له الأسماء السنية ، فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق ، ... فكان هادياً سيهدي ، وخالقاً سيخلق ، ورازقاً سيرزق ، وفاعلاً سيفعل] [ ] ، وإذا كان الله تعالى مستحقاً في قديم الأزل لاسم [الخالق] بمعنى القدرة على الخلق عندما يشاء ذلك وبمعنى أنه سيخلق ؛ فهذا يعني أنه كان في الأزل وحده ولم يكن شيء غيره ولم يكن شيء معه ، فكيف غفل عن هذا؟ ! .

ب ـ  ذكر ابن تيمية رحمه الله حديث الأوعال [ ] ورد على من حاول الطعن فيه وقال [هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم فهو مروي من طريقين مشهورين ، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر] [ ] .

أقول:
حديث الأوعال روي من طرق عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عَميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ ] . فقالوا: لا . فقال: [إن بعد ما بينهما ... ، ثم السماء فوقها كذلك ، ... ثم فوق السابعة بحر ... ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك] .
وفي غمرة الدفاع عن هذا الحديث المنكر الذي يرتب السموات بعضها فوق بعض ثم يجعل فوقهن بحراً ثم ثمانية أوعال ثم الله تبارك وتعالى وكأنه سبحانه في جهة مكانية ؛ فإن ابن تيمية ـ سامحه الله ـ يدعي أن هذا الحديث مروي من طريقين مشهورين وأن القدح في أحدهما لا يقدح في الآخر !! .
والحديث معروف ومشهور في عدد من المصادر بالسند الذي ذكرته ليس له غيره ، وهو سند ضعيف بيِّن الضعف ، فيه سماك بن حرب وعبد الله بن عميرة: 
فأما سماك بن حرب فقد وثقه ابن معين وأبو حاتم ، لكن ضعفه شعبة وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري وغيرهم ، وقال أحمد: مضطرب الحديث . وقال النسائي: ليس ممن يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث لأنه كان يقبل التلقين . وأما عبد الله بن عَميرة فقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الإمام مسلم: تفرد سماك بالرواية عنه . وقال إبراهيم الحربي: لا أعرفه . وقال ابن حجر في التقريب: مقبول . ومراد ابن حجر بقوله هذا أنه يقبل في المتابعات لا فيما انفرد به ، وذكره في ثقات ابن حبان لا ينفعه لما عرف من تساهل ابن حبان . 
فمثل هذا السند لا يصلح للاحتجاج به في الأحكام فكيف يحتج به في العقائد؟ !!!‍‍‍‍.

جـ ـ  وقف ابن تيمية ـ سامحه الله ـ على بعض الآثار التي فيها القول عن الله تبارك وتعالى بأنه [أبدى عن بعضه] ، فراح يثبتها ويدافع عنها ، وقال: [وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض ؛ فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ذاكرين وآثرين] . وذكر الأثر الوارد في ذلك من طريق [عمرو بن عثمان الكلابي قال: حدثنا موسى بن أعين ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال: إذا أراد الله أن يخوف عباده أبدى عن بعضه للأرض ، فعند ذلك تزلزل ، وإذا أراد الله أن يدمدم على قوم تجلى لها عز وجل] [ ] . ثم نقل عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل أنه قال: [حدثني أبي قال: حدثنا أبو المغيرة الخولاني قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة أنه قال: إن الله إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل ، وإذا أراد الله أن يدمر على قوم تجلى لها] . ونقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال معلقاً على ذلك: [أما قوله أبدى عن بعضه فهو على ظاهره وأنه راجع إلى الذات ، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا ما يخرجها عما تستحق ، ... ولا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض ، كما أطلقنا تسمية يد ووجه لا على وجه التجزئة والتبعيض][ ] [ ] .

أقول:
هل الأثر المنسوب لعكرمة هنا ثابت عنه؟ ؟ إن السند من عبد الله بن أحمد إلى عكرمة رواته ثقات ، ولكن كتاب السنة لعبد الله بن أحمد غير ثابت عن مؤلفه ، ولا تصح نسبته إليه ، لأن في سند النسخة راوياً غير معروف ، وإذا لم يكن معروفاً أصلاً فكيف يعرف أنه من أهل الصدق أو لا؟. فكل النصوص المروية في هذا الكتاب لا يمكن إثباتها منه ، لأن البناء المبني على أساس ضعيف كله ضعيف . وإذا افترضنا جدلاً صحة نسبة هذا القول لعكرمة مولى ابن عباس فهل هو حجة؟ !! إن قول الصحابي إذا تطرق إليه الاحتمال أنه قاله باجتهاده أو مما تلقاه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بحجة في الأحكام ، فكيف يكون قول التابعي حجة؟!! وإذا لم يكن قول التابعي حجة في الأحكام فمن باب أولى في العقائد ، ومن باب أولى إذا تطرق إليه الاحتمال بأنه تلقاه عن بعض أهل الكتاب ـ كما هنا ـ ، فتنبه !! . 
أما الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ففي سنده عمروبن عثمان الكلابي ، وهذا قد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ . وقال عنه أبو حاتم الرازي: كان شيخاً أعمى بالرقة ، يحدث الناس من حفظه بأحاديث منكرة . وضعفه العقيلي والدارقطني ، وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث . أفمثل هذا يكون حجة؟ !! وكيف غفل ابن تيمية  ـ سامحه الله ـ  عن الاشتغال بنقد السند قبل أن يقول [فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة .... ذاكرين وآثرين]؟ !!! فهل نطقوا به يذكرونه من تلقاء أنفسهم؟ ! أو نطقوا به يأثرونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! أو لا هذا ولا ذاك؟ !!! . 
ومن العجيب الغريب أن ينقل ابن تيمية مع الإقرار قول القاضي أبي يعلى ـ سامحمهما الله ـ  أن قول القائل عن الله تبارك وتعالى [أبدى عن بعضه] هو على ظاهره !!! وأنه راجع إلى الذات !!! وأنه لا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض !!! . 
فهل بعد هذا التناقض ـ يا ذوي الحجى ـ تناقض أظهر منه؟ ! يقولون بإثبات لفظ البعض على الله وأنه راجع إلى الذات وأنه على ظاهره !!! ثم يقولون إن إطلاق هذا على معنى لا يؤدي إلى التبعيض ليس بممتنع !!! فكيف هو [بعض] وكيف لا يؤدي إلى التبعيض؟ !!! . ثم يقولون [كما أطلقنا تسمية يد  ووجه  لا على وجه التجزئة والتبعيض] !!! يخلطون القول في الذات بالقول في الصفات ، إذ من الممكن أن يقال إن لله تعالى صفات كثيرة ، وإن العلم والسمع والبصر من صفات الله ، وهي بعض صفات الله جل وعلا ، وإن هذا لا يؤدي إلى التجزئة والتبعيض على الله ، وإذا أثبتنا لله تعالى صفة اليد وصفة الوجه فنقول إنها من صفات الله ، وإن إثباتها صفات لا يؤدي إلى التجزئة والتبعيض على الله ، لكن هل من الممكن أن نثبت شيئاً  أو أشياء هي [بعض الذات] ثم نقول إن هذا لا يؤدي إلى التجزئة والتبعيض على الله؟!!! تعالى الله عن هذا علواً كبيراً . 

د ـ  ذكر ابن تيمية حديثاً مرفوعاً يوهم ظاهره تأييد هذا المعنى فقال: [وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل ما رواه الترمذي في جامعه ، قال: حدثنا عبد الله بن عبدالرحمن يعني الدارمي قال: أنبأنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، ـ قال حماد هكذا ، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى ـ ، قال: فساخ الجبل وخرَّ موسى صعقاً][ ]. ثم ذكر من طريقين عن أسباط ، عن السدِّي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال: [فلما تجلى ربه للجبل: ما تجلى منه إلا مثل الخنصر] [ ] .

أقول:
من الغريب إيراد ابن تيمية للحديث المرفوع الذي رواه الترمذي في معرض تأييده [أن يقال في صفات الله لفظ البعض] !!! ولعل هذا هو مستنده إذ قال: [وهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة ذاكرين وآثرين] !!! والحديث المرفوع ليس فيه في رواية الترمذي أكثر من [أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً فقال: فساخ الجبل وخرَّ موسى صعقاً] . أما الذي قال هكذا ووضع طرف الإبهام على أنملة إصبعه اليمنى فهو حماد بن سلمة ، وقد فعل الراوي عنه سليمان بن حرب مثلما رآه فعل ليوضح بذلك لمن يروي عنه كيف فعل حماد ، وليس في هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هكذا ، ولا أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولا ثابتاً  البناني رحمه الله . وعلق الترمذي على هذا الحديث ـ رغم صحة إسناده ظاهراً ـ  بقوله [هذا حديث حسن صحيح غريب] ، ولعله يعني في جمعه بين الصحة والغرابة صحة السند وغرابة المعنى . 
فإن قيل: لقد روى جماعة من الرواة هذا الحديث عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه ، وأن الذي وضع الإبهام على طرف الخنصر هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن حميداً الطويل قال لثابت لما حدث بهذا الحديث: تقول هذا؟ ! . فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس وأنا أكتمه؟ !! . فأقول: بلى ، لقد رواه جماعة عن حماد بن سلمة بهذا ، ولكن تفرد حماد به يوقع في النفس ريبة ، سيما وقد قال فيه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وربما حدث بالحديث المنكر . وقال ابن معين: من سمع من حماد الأصناف ففيها اختلاف ومن سمع منه نسخاً فهو صحيح . وقال الإمام أحمد: كان يخطئ . وأشار بيده أي كثيراً . وأقرَّ ابن حبان أنه ممن يخطئ وأنه قد كثر خطؤه ، وقال الإمام الذهبي: إمام ثقة له أوهام وغرائب . وإذا كان ذلك كذلك فالأولى أن يتوقف عن رواية ينفرد بها حماد بن سلمة ويستغربها مثل الإمام الترمذي ويدرجها ابن الجوزي في الموضوعات . 
ثم إن حماد بن سلمة ـ رحمه الله ـ  قد خولف في هذه الرواية المستغربة سنداً ومتناً ، فأما في الإسناد فقد جاءت هذه الرواية من طريقين لابأس بهما عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس موقوفة لا مرفوعة ، وأما المتن فقد جاء اللفظ عن أنس رضي الله عنه أنه قال: [أشار إليه بيده] أو قال بأصبعه [فتعفر الجبل بعضه على بعض] [ ] . وليس فيها تفسير فلما تجلى ربه للجبل بوضع الإبهام على طرف الخنصر .
فلله در الإمام الترمذي الذي اختار من الطرق الكثيرة المروية عن حماد: الطريق الذي لا يصرح بنسبة اللفظ الموهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى الصحابي ولا التابعي ، ونصَّ مع ذلك على أنه [غريب] . 
ومما يزيدنا استبصاراً في أن لحماد روايات منكرة في العقائد: ما رواه ابن عدي من ثلاثة طرق عنه عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء] [ ] . فتأمل واعجب !!! . 
أما الأثر الذي ذكره عن ابن عباس أنه قال [ما تجلى منه إلا مثل الخنصر] فلا يصح عن ابن عباس ، لأن أسباطاً والسدي فيهما ضعف ، فأما أسباط بن نصر فقد وثقه ابن معين ، وقال فيه البخاري: صدوق . وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس . وذكره ابن حبان في الثقات . لكن سئل أحمد: كيف حديثه؟ فقال: ما أدري . وكأنه ضعفه . وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعفه . وقال: أحاديثه عامية سقط مقلوب الأسانيد . وقال النسائي: ليس بالقوي . وقال ابن معين في رواية: ليس بشيء . واشتد إنكار أبي زرعة الرازي على الإمام مسلم أنه أخرج من أحاديث أسباط هذا في صحيحه . فلا شك في أنه صدوق ، كما لا شك في أنه كثير الأوهام . وأما إسماعيل بن عبد الرحمن السدي فقد وثقه أحمد والعجلي وغيرهما ، لكن ضعفه ابن معين والعقيلي ، وقال أبو زرعة: لين . وقال أبو حاتم: يكتب حديثه . فلا شك في أنه صدوق ، كما لا شك في أن له بعض الأوهام .
فمثل هذا السند إذا لم تعضده المتابعات فليس حجة في الأحكام ، فكيف يكون حجة في العقائد؟ !!! . 
فاللفظ الذي يوهم التبعيض في حق الله تعالى ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أنس ولا عن ابن عباس رضي الله عنهم .

هـ ـ  قال ابن تيمية: [وروى الثوري وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة ، بعضهم عن ابن أبي نجيح وبعضهم عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير في قوله تعالى في قصة داود وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب قال: يدنيه حتى يمس بعضه] [ ] .

أقول:
عبيد بن عمير من التابعين ، وقول التابعي ليس بحجة في الأحكام ، فكيف يكون حجة في العقائد؟ !!! . وربما كان مصدر هذا القول رواية من روايات أهل الكتاب ، والله أعلم . 

و ـ  نقل ابن تيمية مع الإقرار أن الإمام أحمد قال: [وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك؟ . قال: نعم ، يا موسى ، هو كلامي ، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ، ولي قوة الألسن كلها ، وأنا أقوى من ذلك ، وإنما كلمتك على قدر ما تطيق ، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمتَّ . قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا: صف لنا كلام ربك . قال: سبحان الله ، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟! . قالوا: فشبهه لنا . قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله] [ ] . وعلق ابن تيمية فقال: [هو صريح في أنه كلمه بصوت ، وكان يمكنه أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت وبدون ذلك الصوت] [ ] . 

أقول :
لم يبحث ابن تيمية عن إسناد مرسل الزهري قبل اعتماده مصدراً من مصادر العقيدة ، وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث عن جرير بن جابر الخثعمي عن كعب [ ]. فانظر كيف صارت أقوال كعب الأحبار معتمدة في العقيدة !!! . 
وقد روى البيهقي نحوه من طريقين عن علي بن عاصم أنه قال: أخبرنا الفضل بن عيسى قال: حدثنا محمد بن المنكدر قال: حدثنا جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[ ]. لكن لا بد من النظر في السند أولاً ، فأما علي بن عاصم فهو الواسطي وهو ضعيف ، وكان يخطئ ويصرُّ على الخطأ فاتهمه لذلك عدد من الأئمة بالكذب ، وأما الفضل بن عيسى فهو الرقاشي ، وقد اتفقوا على تضعيفه ، وقيل فيه منكر الحديث ، وقيل فيه ليس بثقة . ولعل أصل هذه الرواية هو قول كعب الأحبار ، فوصل إلى أحد الضعفاء الهلكى ، فألصقه ـ من باب الخطأ والغفلة ـ بأحد ثقات التابعين عن الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !!! فتأمل واعجب .
أما المتن الإسرائيلي المصدر فكله إيحاء بأن كلام الله تعالى وإسماعه لموسى عليه الصلاة والسلام هو بصوت مادي قوي ، تبلغ قوته قوة عشرة آلاف لسان ، وأن الله تعالى قادر على أن يتكلم بأقوى من ذلك الصوت ، وأنه يمكن تشبيهه !!! ، وذلك أنه يشبه صوت الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة !!! ، وقد صار عند من يستدل به ـ دون التفات إلى معرفة مصدره ونقد سنده ـ  حجة في العقيدة ، إذ هو صريح في أنه كلَّمه بصوت !!! [سبحان الله عمَّا يصفون] .
وإمعاناً من ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ  في تثبيت معاني الجسمية فيما يتعلق بتكليم الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه يقول في موطن آخر: [وعلم بالاضطرار من دين أهل الملل والنقل بالتواتر أن الله لما كلم موسى كلَّمه من الشجرة وأنه كان يخرج منها نار محسوسة][ ] فهل من المعلوم عند المسلمين علماً قطعياً ضرورياً أن الله تعالى لما كلم موسى كلَّمه من الشجرة وأنه كان يخرج منها نار محسوسة؟ !!! أو إن المراد بأهل الملل هنا هم اليهود والنصارى؟ !!! وهل عند اليهود والنصارى رواية مروية بالتواتر عن أنبيائهم أو إن رواياتهم منقطعة الأسانيد أصلاً؟ !!! ومن العجيب الغريب إثبات التواتر لمروياتهم ـ وأنى لها ذلك ـ لتثبيت الاحتجاج بها في العقيدة!!! فتأمل واعجب . 
إن الثابت عند أهل الإسلام هو أن الله تعالى كلَّم موسى عليه الصلاة والسلام ، وأسمعه كلامه . قال الله تعالى: [فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين َ* وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ...] [ ] . فقد ذكر ربنا تعالى أن النداء كان من جهة الشجرة ، ولم يقل إنه كان بصوت مادي ، ولم يذكر [أنه كان يخرج منها نار محسوسة] !!! . 
والثابت المؤكد هو أن الله تعالى كلمه وناداه وأسمعه كلامه ، على ما يليق بعظمة الله تعالى ، لا على ما تصوره روايات أهل الكتاب من أنه كلام بصوت حسي تبلغ قوته قوة عشرة آلاف لسان ، إذ لو كان كذلك لسمعته زوجته ، ولو كانت قد شاركت موسى في سماع كلام الله تعالى لما بقيت لموسى هذه الميزة التي تفرد بها ، والتي ذكرها ربنا تعالى فقال: [يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي] [ ] .
فلا بد من إثبات ما أثبته الله تعالى ، مع تفويض العلم بالكيفية له سبحانه ، ومع نفي مشابهة صفات الخالق لصفات المخلوق .

ز ـ  قال ابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ : [وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد ـ كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع: فهو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه] [ ] .

أقول :
هل كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ؟!!! ما هذا ؟!!! اللهم غفراً .
 
قال الباحث: 
[وسنأتي بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء ] .
ثم قال: [عند المالكية: روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويزمنداد أنه قال: [أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع ، أشعرياً كان أو غير أشعري ، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً ، ويهجر ويؤدب على بدعته ، فإن تمادى عليها استتيب منها . 
ثم قال: [عند الشافعية: قال الإمام أبو العباس ابن سريج الملقب بالشافعي الثاني وقد كان معاصراً للأشعري: لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة .... . وانظر عقيدة ابن سريج في: اجتماع الجيوش الإسلامية . 
ثم قال: [قال الإمام أبو الحسن الكرجي من علماء القرن الخامس الشافعية ما نصه: لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري .... . وضرب مثالاً بشيخ الشافعية في عصره الإمام أبي حامد الاسفراييني ، ... وبه اقتدى الشيخ أبو اسحاق الشيرازي ، ... انظر: "التسعينية" و"شرح الأصفهانية" . وانظر عن الكرجي وعقيدته: "اجتماع الجيوش الإسلامية" .
ثم قال: [وبنحو قوله  بل أشد منه قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري . يلاحظ أن كلاً من الشافعية والحنابلة يدعي الهروي لمذهبهم ، وقوله فيهم نقله في التسعينية عن كتاب ذم الكلام  . 
ثم قال: [عند الحنفية: معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كلاهما حنفيان ، ... وتلميذ الإمام أبي حنيفة أبو يوسف كفـّر بشراً المريسي ، ... ومعلوم أن أصول الأشاعرة مستمدة من بشر المريسي . 
ثم قال: [عند الحنابلة: موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر ، فمنذ بدّع الإمام أحمد ابن كلاب وأمر بهجره وهو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري لم يزل الحنابلة معهم في معركة طويلة ، ... وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور الاعتقاد القادري أوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها ، سنة (433هـ) ] .

أقول:
1ـ  قول عالم أو عالمين من فقهاء المذهب لا يدل على أنه هو قول فقهاء المذهب ، حتى ولا غالب فقهاء المذهب ، فإذا افترضنا أن واحداً من المالكية ونفراً من الشافعية وواحداً من الحنفية قد ذموا الأشاعرة فهل ذمهم إياهم يعني أن هذا هو [حكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء]؟!!! هذا لا يقوله عاقل .
2ـ  المشهور والمعروف عن أكثر فقهاء المذهب المالكي والشافعي أنهم أشاعرة ، وعن أكثر فقهاء المذهب الحنفي أنهم ماتريدية ، والماتريدية متفقون مع الأشاعرة في أصول مسائل العقيدة ، وهذه مسألة خارجة عن موضوع هذا البحث ، أشير إليها هنا استطراداً ، فمن أرادها فليطلبها من مظانها .
 3ـ ذكر الباحث قول ابن خويزمنداد من المالكية العراقيين ، وهو محمد بن أحمد بن عبدالله ، وقيل: محمد بن أحمد بن علي ، المتوفى سنة (390هـ) تقريباً ، وهذا لا يمثل فقهاء المالكية ، فقد قال فيه الإمام الباجي: [لم أسمع له في علماء العراقيين ذكراً ، وكان يجانب الكلام جملة ، وينافر أهله ، حتى يؤدي إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة ، وحكم على أهل الكلام أنهم من أهل الأهواء الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم ما قال] . وقال فيه القاضي عياض: [وعنده شواذ عن مالك ، وله اختيارات لم يعرج عليها حذاق المذهب ، ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي الفقه] [ ] . وفـي قول الباجي إشـارة إلى أن الأشـاعرة الذين خاضوا في علم الكلام ليسـوا من أهل الأهواء والكلام المذموم الذين قال فيهم الإمام مالك ما قال .
4ـ  ذكر الباحث قولاً منسوباً لأبي العباس ابن سريج ، وهو الفقيه الشافعي الكبير أحمد بن عمر بن سريج ، المتوفى سنة (306هـ) [ ] ، منقولاً من كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" لابن القيم رحمه الله ، والواجب التريث والتثبت عند نقل أي نص يحتج به على أحد من كتاب من يخالفه ويخاصمه ، أو من يجر بذلك النقل لنفسه نفعاً ، لا للتهمة بالكذب ، ولكن للتسرع في قبول ما ينقل دون تمحيص ، إذ المعاداة والمنافرة قد تحول بين المرء وبين دقة التحري ، فينسب الناقل متسرعاً عن المنقول عنه ما لم يقله ، وكذا إذا كان الناقل يجر بذلك النقل لنفسه نفعاً ، وهنا تحمل الرغبة الباطنة في انتصار الكاتب لقوله وتأييده لمذهبه على التساهل في قبول الرواية عن المنقول عنه ، دون نقد ولا تمحيص .
ويبدو أن ابن القيم ـ رحمه الله وغفر له ـ  قد وقع في ذلك التساهل ، إذ نقل شيئاً من العقيدة المنسوبة لابن سريج ، دون أن ينقد الرواية ، لا سنداً ، ولا متناً . 
فأما السند فهو منقطع ، لأن الذي ذكرها عن ابن سريج كما قال ابن القيم هو أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني ، وهذا قد ولد سـنة (380هـ) تقريباً ، وتوفي سـنة (471هـ)[ ]. أي إنه ولد بعد وفاة ابن سريج بخمسة وسبعين عاماً تقريباً ، ولم يذكر من الذي بلغه إياها ، وكل سند منقطع فهو ضعيف .
وأما المتن فإن من المستبعد جداً أن يتحدث من توفي قبل الأشعري بعشرين عاماً تقريباً عن [الأشعرية] وكأنهم جماعة معروفة بهذا الانتساب ومتمذهبة به ، فهل عرف أن تحدث من توفي قبل أبي حنيفة عن [الحنفية] ؟!! أو قبل مالك عن [المالكية] ؟!! أو قبل الشافعي عن [الشافعية]؟!! أو قبل ابن حنبل عن [الحنبلية] ؟!! أو قبل الماتريدي عن [الماتريدية] ؟!! أو قبل الرفاعي عن [الرفاعية]؟!!! . فالظاهر أن كلمة [ والأشعرية ] ليست من كلام ابن سريج ، وإنما هي مقحمة فيه .
5ـ  ذكر الباحث قولاً منسوباً لأبي الحسن الكرجي ، وهو الفقيه الشافعي الكبير محمد بن عبد الملك الكرجي ، المتوفى سنة (532هـ) [ ] ، منقولاً من كتب ابن تيمية وابن القيم ، وهما مخالفان ومخاصمان للأشاعرة ، ويجران بذلك النقل لنفسيهما نفعاً ، فهذا النقل لا يصح أن يعتمد عليه [ ] .
ويبدو أن الكرجي هذا رحمه الله كان قد ابتلي بمن يدس في كلامه في العقيدة ما لم يقله!!! . وما أكثر الذين كانوا يستجيزون مثل ذلك !!! . 
وقد أشار السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" إلى وقوفه على قصيدة تنسب إليه في العقيدة ، وأبدى شكه في جزء منها على الأقل ، وهو المشتمل على ما يقتضي التجسيم وعلى مخالفة الأشاعرة والطعن في الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله . ومن أهم الأسباب التي دعته للشك في ذلك الجزء منها هو قول ابن السمعاني: [وله قصيدة بائية في السُّنة شرح فيها اعتقاده واعتقاد السلف ، تزيد على مئتي بيت ، قرأتها عليه في داره بالكرج] . وابن السمعاني كان أشعري العقيدة ، فلو كان فيها ما اشتمل عليه ذلك الجزء لما أثنى عليها . 
ومن ذلك عنده كذلك أن بعض أبيات القصيدة شعر مقبول ، بينما بعضها الآخر في غاية الرداءة ، وهو الجزء المشتمل على تلك القبائح ، ثم إن فيها الطعن في الأشعري وأنه لم يك ذا علم ودين !!! والحال هو أنه قد اتفق الجميع على علمه ودينه وزهده وورعه [ ] .
هذا وقد نقل ابن تيمية الكلام المنسوب إلى أبي الحسن الكرجي من الكتاب المسمى بـ "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول" ، ونسب الكتاب للكرجي ، وقد قال الإسنوي في ترجمة الكرجي في "طبقات الشافعية": [ وله تصانيف في الفقه والتفسير ، وله تصنيف يقال له الذرائع في علم الشرائع ] . ولم يذكر أن له كتاباً في العقيدة أو الأصول ، فربما كان هذا الكتاب منحولاً مكذوباً ، أو مقحماً فيه مثل ذلك الطعن في الأشعري والأشاعرة .
وابن تيمية ـ رحمه الله وغفر له ـ  ينقل ما يجده في الكتب دون أن يتحقق من صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف الذي نسب إليه ، ولما كانت حاله كذلك ووجدنا ابن السمعاني وابن السـبكي ـ وهما من كبار الأشاعرة ـ  يثنيان على الكرجي ؛ تبين لنا أنه لم يثبت من الطعن في الأشاعرة عن الكرجي شيء .
6ـ  ذكر الباحث ما يدل على نفور الفقيهين الشافعيين الكبيرين أبي حامد الإسفراييني وأبي إسحاق الشيرازي من مذهب الأشاعرة ، وهذا منقول من كلام ابن تيمية [ ] ، وهو قد نقله عن الكرجي ، فرجع الأمر إلى ما ذكر في الفقرة السابقة .
ومما يؤكد ما تقدم هو أن أبا إسحاق الشيرازي أشعري العقيدة ، واقرأ إن شئت معتقده المطبوع في مقدمة شرح اللمع له ، وفيه قوله في اعتقادات أهل الحق: [ فمن ذلك أنهم يعتقدون أن أول ما يجب على العاقل البالغ: القصد إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله عز وجل] [ ثم يعتقدون أن التقليد في معرفة الله عز وجل لا يجوز ، لأن التقليد قبول قول الغير من غير حجة ] [ ثم يعتقدون أن الله تعالى ليس بجسم ] [ ] . وقوله [ العقل عند أهل الحق لا يوجب ولا يحسن ولا يقبح ] [ ولا يقال إن كلام الله لغات مختلفة ، لأن اللغات صفة المخلوقين ] [ ] . وقوله [ ثم يعتقدون أن الله تعالى مستو على العرش ، ... وأن استواءه ليس باستقرار ولا ملاصقة ، لأن الاستقرار والملاصقة صفة الأجسام المخلوقة ، والرب عز وجل قديم أزلي ، فدل على أنه كان ولا مكان ، ثم خلق المكان ، وهو على ما عليه كان ] [ ] . ثم قال عن المخالفين للأشاعرة: [فإظهارهم لما هم عليه من التشبيه ولعنة المسلمين وتكفيرهم لا يدل على أنهم على الحق ، ... ومن شرهم: لعنهم لأهل الحق وغيبتهم لهم وتقبيح اسمهم عند العامة وتلقيبهم لهم بالأشعرية] [ ] .
فهذا هو أبو إسحاق الشيرازي ، أشعري محض ، وكلامه من صميم مذهب الأشاعرة ، بخلاف قول الباحث عنه ، وهذا عاقبة التسرع وعدم التحقيق والاعتماد على ما ينقله المتسرعون . فتنبه!!! .
7ـ  ثم حشر الباحث مع فقهاء الشافعية الصوفي الحنبلي المدعو بشيخ الإسلام الهروي الأنصاري ، وأن قوله في الأشاعرة هو بنحو قول الكرجي ، بل أشد منه .
والهرويُّ هذا هو أبو إسـماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصـاري ، المتوفـى سـنة (481هـ) ، وهو حنبلي متعصب ، بعيد عن المذهب الشافعي والشافعيين ، فلم يترجم له في طبقات الشافعية السبكيّ ، ولا ابن الصلاح ، ولا ابن قاضي شهبة ، ولا الإسنوي ، فإدراجه مع فقهاء الشافعية خطأ محض ، والقول بأن كلاً من الشافعية والحنابلة يدعي الهروي لمذهبهم لا مستند له في الواقع ، وهذا من باب التسرع والحكم لأدنى اشتباه . 
ولعل منشأ الوهم هو أن السبكي ذكره في طبقات الشافعية استطراداً ، في خلال ترجمته لشيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله ، إذ يقول: [ وأما المجسمة بمدينة هراة فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب عمدوا  إلى أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري صاحب كتاب ذم الكلام فلقبوه بشيخ الإسلام ، وكان الأنصاري المشار إليه رجلاً كثير العبادة ، محدثاً ، إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه ، وينال من أهل السنة ...] [ ] . أهل السنة في كلام السبكي هم الأشاعرة ، وأنت ترى أن السبكي لم يذكر له ترجمة في طبقات الشافعية ، وإنما ذكر هذه النبذة مجرد استطراد . 
والهروي هذا عدولدود للإمام أبي الحسن الأشعري والأشاعرة ، وينبغي أن لا يغيب عن ذهن القارئ كلام الهروي الذي تقدم نقله من قبل ، إذ يقول عن الأشاعرة: [ وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي ] [ ] . فالرجل هذا مبلغه من العلم بالتاريخ ، فلا عجب في أن يكون قوله في الأشاعرة هو بنحوالقول المنسوب لأبي الحسن الكرجي بل أشد منه !!! . 
8ـ  استدل الباحث على مباينة الحنفية للأشاعرة بأنّ واضع الطحاوية وشارحها كليهما حنفيان !!! فهل وجد الباحث في عقائد الأشاعرة ما يخالف ما في العقيدة الطحاوية؟ ! أو إنّ الواقع هو بخلاف ذلك ؟!! . 
لم يذكر الباحث مثالاً واحداً يؤيد قوله . 
لكن في العقيدة الطحاوية نصوص تتوافق مع عقائد الأشاعرة وتتعارض مع من يخالفونهم ، منها: 
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: [ له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالق ولا مخلوق][ ]. وقال: [ تعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ] [ ] . وقال: [ ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين ] [ ] . وقال : 
[ وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد ] [ ] . فهل تعتقد ـ أيها الباحث ـ أنّ الله تعالى كان ولا مربوب ولا مخلوق سواء في ذلك العرش وغيره ؟؟ وهل تعتقد أنّ الله تعالى منـزه عن الحد ومنزه عن الأعضاء ومنزه عن الجهات؟ ؟ وهل المعترفون من أهل القبلة بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والمصدقون له بكل ما قال وأخبر تسميهم مؤمنين ؟؟ وهل تعتقد أنّ أفعال العباد هي خلق الله وكسب من العباد ؟؟ . هذه من عقائد الطحاوي والأشاعرة ، فهل أنت  ـ أيها الباحث الذي تشيد بالطحاوية ـ  موافق لما جاء في الطحاوية؟ ! أرجو ذلك .
أما ابن أبي العز فقد خرج عما يعتقد معظم علماء المذهب الحنفي ، وانتقل إ لى عقيدة ابن تيمية ، وملأ شرحه للطحاوية بالاقتباس من كلامه ، لذا فإنه لا يمثل الحنفية في العقيدة .
ولست أدري لم يتجاهل الباحث كتب الإمام أبي منصور الماتريدي والعقائد النسفية للإمام نجم الدين أبي حفص عمر بن محمد النسفي المتوفى سنة (537هـ) وشروحها وكتب الملا علي القاري ؟ فهذه الكتب تمثل ما يعتقده جمهور فقهاء الحنفية ، لا شرح الطحاوية لابن أبي العز .
9ـ  ذكر الباحث أن أبا يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهما الله كفّر بشراً المريسي ، ثم قال [ ومعلوم أن أصول الأشاعرة مستمدة من بشر المريسي ] ، وكأنه يوحي للقارئ بأن الأشاعرة ـ في نظر الإمام أبي يوسف والحنفية ـ قريبون من الكفر إن لم يكونوا كفاراً ، بسبب أن أصولهم مستمدة من الرجل الذي كفَّره أبو يوسف !!! . ولم يذكر أصلاً واحداً من كلام بشر المريسي وتوافقه مع كلام الأشاعرة ليوضح لنا أنهم أخذوه منه !!! .
أهذا هو البحث في العقيدة ؟!! أهذا هو حكم الأشاعرة عند أئمة المذهب الحنفي ؟!! أهكذا تطلق الأحكام على الأشاعرة دون حجة ولا برهان ؟!!!.
10ـ ذكر الباحث أن الإمام أحمد رحمه الله بدّع ابن كُلاًّب وأمر بهجره وأنه هو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري ، وكأنه يوحي للقارئ بأن الأشاعرة ـ في نظر الإمام أحمد والحنابلةـ  مبتدعة يجب هجرهم ، ولم يذكر المصدر الذي نقل منه حكم الإمام أحمد على ابن كُلاًّب، ولم يأت بدليل على أنه هو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري . 
إذا كان الباحث يريد أن يستدل بهذا على حكم الأشاعرة عند أئمة المذهب الحنبلي وأنه التبديع ووجوب الهجر ؛ فهذا غير كاف ، لأنه كلام لا يقوم على مصدر ولا دليل . وإذا صح ما نقله عن الإمام أحمد في ابن كُلاًّب فهل الإمام أحمد معصوم ؟!! . 
والاختلاف بين الأشاعرة وكثير من الحنابلة في بعض مسائل الاعتقاد أمر معلوم ومشهور ، وليس ببعيد أن يقول بعض الحنابلة في الأشاعرة ما يقولون ، فمن أراد إثباته فليجمع الأقوال من مصادرها ، مع ذكر الإحالات على تلك المصادر . لكن مخالفة كثير من الحنابلة لبعض مسائل الاعتقاد التي يقول بها الأشاعرة ليست معياراً للصحة أو عدمها ، والمعيار هو الكتاب والسنة ، فهذا هو الذي أمرنا بالرد إليه عند التنازع .
ومن متعصبة الحنابلة أبو إسماعيل الهروي ، الملقب عند بعضهم بشيخ الإسلام ، وقد تقدم نقل قوله في الإمام أبي الحسن الأشعري !!! فماذا سيكون قوله في الأشاعرة ؟!!! . ولو تنبه الباحث إلى أنه لم يكن شافعياً قط لذكره مع الحنابلة ، لا مع الشافعية .
11ـ  وههنا أمر في غاية الأهمية والخطورة ، هو أن الباحث ينظر إلى الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله نظرة تتجاوز ما ينبغي أن يعطاه العالم من التقدير والتبجيل إلى حد بعيد ، وكأنه يضعه في مقام العصمة والتقديس !!! ، فتراه يكتفي بأن يقول [ بدّع الإمامُ أحمدُ ابنَ  كُلاًّب وأمر بهجره ] ، ولا داعي عنده بعد هذا إلى النظر في حال ابن كُلاًّب وأقواله في العقيدة وعرضها على الكتاب والسنة ليرى مدى التوافق أو التخالف ، ولا داعي عنده بعد هذا إلى النظر في أقوال سائر الأئمة في هذا الرجل !!! ، والقاعدة المقررة عند أهل السنة هي أن الحجة في قول الله تبارك وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبعض الناس يرددون [ ما منا من أحد إلا ردّ  ورُدّ عليه إلا صاحب ذلك القبر الشريف صلى الله عليه وسلم ] بألسنتهم ، وأما في الواقع والتطبيق فإنهم يضربون بها عرض الحائط ، وكأنهم رفعوا أئمتهم إلى مقام العصمة ، فإلى الله المشتكى .
12 ـ  ذكر الباحث أن الخليفة العباسي القادر بالله أصدر منشور الاعتقاد القادري وأوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها ، وذلك بسبب انتشار مذهب الأشاعرة وإجماع علماء الدولة ـ سيما الحنابلة ـ  على محاربته !!! . فهل أجمع علماء الدولة في خلافة القادر بالله العباسي على محاربة المذهب الأشعري ؟!!! دعوى تحتاج إلى برهان .
ثم هل تعتقد ـ أيها الباحث ـ  العقيدة الواردة في الاعتقاد القادري التي تقول بأنه يجب على الأمة اعتقادها؟ ! أو تعتقد العقيدة الواردة في كلام ابن تيمية؟ ! فإن بينهما تناقضاً في مسألة عقدية هي من أهم الأسس التي ينبني عليها عدد من مسائل الاعتقاد ، فقد جاء في المنشور القادري [ كان ربنا وحده لا شيء معه ] ، بينما يعتقد ابن تيمية أنه كان الله ولم يكن شيء قبله وينكر أنه كان ولا شيء معه ، فعلى أية عقيدة أنت ؟! وما العقيدة الصحيحة التي يجب على المسـلم أن يعتقدها : ما ورد في الاعتقـاد القادري أو ما ورد في كتب ابن تيمية؟؟!!! .
وأما قول الباحث [ أصدر الخليفة القادر منشور الاعتقاد القادري ... سنة (433هـ) ] فهو خطأ منشؤه التسرع ، فإن الخليفة القادر بالله توفي سـنة (422هـ) والذي وقـع سـنة (433هـ) هو أن الخليفة القائم بأمر الله أخرج في هذه السَّنَة [ الاعتقاد القادري ] الذي كتب لأبيه القادر بالله ، فقرئ في الديوان ، فهذا تاريخ قراءته في خلافة القائم ، لا تاريخ كتابته في خلافة القادر .
قال الباحث: 
[وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاصاً بأئمة المذاهب المعتبرين ، بل هو منقول أيضاً عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف ،... فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل؟ ! ... وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازي في الميزان ولسان الميزان] . 
ثم قال: [وقد ترجم الحافظ الذهبي رحمه الله في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هما أهله ...] . 
ثم قال: [على أن ابن حجر قال في آخر ترجمة الرازي: أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده . وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول] . 
أي: هي شاهد لقوله : إن ابن حجر ليس على مذهب الرازي .
أقول:
1ـ إذا جاء عن بعض أئمة السلوك ذم للأشاعرة فإن هذا لا يعني أن كلهم أو أكثرهم قد ذموا الأشاعرة أو رموهم بالابتداع ، ويكفي في هذا أن الباحث لم يذكر كلمة واحدة عن واحد من أئمة السلوك في ذلك . 
والكلمة التي اقتصر عليها الباحث هي أن السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله لما سئل: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد ابن حنبل ؟ . قال: [ ما كان ولا يكون ] . فهلا ذكر الباحث مسألة واحدة من أصول مسائل الاعتقاد يختلف فيها الأشاعرة مع أحمد ابن حنبل ليثبت أن الأشاعرة مناقضون له وأنهم مذمومون مبدّعون في نظر أئمة السلوك !!! .
2ـ  انظر الكلمات الواردة عن أئمة السلوك في الفصل الأول من الرسالة القشيرية لتقف على نبذ من كلامهم في العقيدة ، فمن ذلك: 
[ الله هو الواحد ،  لاحدَّ لذاته ، ولا حروف لكلامه ] .
[ كل ما تصور في خيالك فالله بخلاف ذلك ] .
[ الإيمان تصديق القلوب بما وضحه الحق من الغيوب ] .
[ كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة ، فلما جئت بغداد زال ذلك عن قلبي ، فكتبت إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمت الآن إسلاماً جديداً ] .
[ كل ما صوره الخيال والأفكار فالله سبحانه بخلافه ] .
[ أثبتَ ذاته ، ونفى مكانه ] .
[ الرحمن لم يزل ، والعرش محدث ] .
[ وله يدان هما صفتان يخلق بهما ما يشاء ، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ،  لا جهة له ولا مكان ، ولا يحله حادث ، ولا يحمله على الفعل باعث ، ولا يقال أين هو ولا كيف هو؟  ولا يقال لم فعل ما فعل؟ إذ لا علة لأفعاله ،  يرى لا عن مقابلة ] .
فهل قائلوا هذا إلا أشاعرة؟ !!! أو إن الباحث يرفض هؤلاء بحجة أنهم ليسوا [ أقرب إلى السنة وأتباع السلف ] ؟!!! وكأن الحكم لطائفة ـ عنده ـ  بالقرب من السنة واتباع السلف هو لمن وافق مشربه دون احتكام إلى الكتاب والسنة وفهم الصحابة واللغة التي نزل بها الكتاب وجاءت بها السنة !!! .
ومن أئمة السلوك السيد أحمد بن علي بن أحمد الرفاعي المتوفى سنة (578هـ) رحمه الله تعالى ، وهو الذي وصفه الذهبي في سير أعلام النبلاء [21/ 77] بالإمام القدوة العابد الزاهد شـيخ العارفين ، وهو من أكثر الناس حثاً على اتباع السنن النبوية والتمسك بها ، ومن أكثرهم تحذيراً من ابتداع أهل السلوك المتأخرين وشططهم ، وهو أشعري المعتقد ، ومن أقواله عن الله تبارك وتعالى : [ وإنه لمنزه عن الجهة والمكان ] [ ] . ومن أقوال أهل طريقته: [ مقدس عن التغيير والانتقال ] [ ] . ومنها: [تنـزيه الله تعالى عن الفوقية والجهة والمكان ، .... كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان] [ ] .

3ـ  يشير الباحث إلى أن رجال الجرح والتعديل لهم كلام في الأشاعرة ، أي إن الأشاعرة مجروحون عند علماء الجرح والتعديل ، ، ويضرب مثلاً بترجمة إمامهم المتأخر فخر الدين الرازي في ميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان لابن حجر . 
قال الذهبي في ترجمة فخر الدين الرازي محمد بن عمر المتوفى سنة (606هـ) : [ رأس في الذكاء والعقليات ، له كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم ، سحر صريح ، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله ، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ] [ ] .
وقال ابن حجر: [ وكان يعاب بإيراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها ، حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبه نقداً ويحلها نسيئة . وكان سراج الدين الشرمساحي يقول: يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق ، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق على غاية ما يكون من الوهاء ] [ ] .
فأما كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم فقد قال تاج الدين السبكي: [ لم يصح أنه له ، بل قيل إنه مختلق عليه ] [ ] .
وأما مسألة التشكيكات والشبه فقد أشار إليها هو ـ رحمه لله تعالى ـ في وصيته التي أوصى بها حالة الاحتضار ، قال : [ اعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم ، فكنت أكتب من كل شيء شيئاً لأقف على كميته وكيفيته ، سواء كان حقاً أو باطلاً ، ... ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله ، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات ،... وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه ، على سبيل التفضل والإنعام ، وإلا فليحذف القول السيء ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر ] [ ] .
هذا وقد قال ابن حجر : [ والفخر كان من أئمة الأصول ، وكتبه في الأصلين شهيرة سائرة ، وله ما يُـقبل وما يُـرد ] [ ] . فلله در ابن حجر ما أشد إنصافه .
4ـ نقل الباحث أن ابن حجر قال في لسان الميزان في آخر ترجمة فخر الدين الرازي [ أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده ] !!!. وقد وقع في قلبي من هذه الكلمة شيء ، واستبعدتها جداً ، لكن ما العمل؟ وليس أمام الباحث من لسان الميزان إلا هذه الطبعة السقيمة المحرفة المشوهة !!! . 
ثم ظهرت طبعة حسنة قيمة من اللسان ، محققة على عدة نسخ خطية ، بعناية الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله ، وتبين منها أن تلك الكلمة ليست في شيء من النسخ الخطية ، وأنها مكتوبة في حاشية إحدى النسخ ، فبطل إثبات تلك الكلمة عن الحافظ ابن حجر رحمه الله والاستدلال بها والبناء عليها .
5ـ  قال الإمام الذهبي في ترجـمة سـيف الدين الآمـدي علي بن أبي علي المتوفى سـنة (632هـ) : [قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده ، وصح عنه أنه كان يترك الصلاة][ ]. وقال عنه ابن حجر: [تفقه لأحمد ابن حنبل ، ثم تحول شافعياً ،... وكان يظهر منه رقة قلب وسرعة دمعة ...] ثم نقل قول القائل [شككنا هل يصلي؟ فتركناه حتى نام ، وعلمنا على رجله بالحبر ، فبقيت العلامة نحويومين مكانها] [ ] .
ترى هل كان الآمدي من علماء الأشاعرة لا يصلي؟ ! وهل نفي لسوء اعتقاده؟ ! . 
أما مسألة الصلاة فلعله كان به مرض وكان يتيمم ، فبقيت علامة الحبر على رجله يومين ما توضأ خلالهما ، وأما مسألة الاعتقاد فما أكثر ما اختلف الناس في جزئيات مسائل الاعتقاد حتى هجر بعضهم بعضاً ، وبدّع بعضهم بعضاً ، وكفّر بعضهم بعضاً . وقد قال الحافظ ابن كثير ـرحمه الله ـ  في ترجمة الآمدي: [وكان كثير البكاء رقيق القلب ، وقد تكلموا فيه بأشياء ، الله أعلم بصحتها ، والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة] [ ] .
6ـ   إذا كانت بعض كتب الجرح والتعديل قد ذكرت بعض علماء الأشاعرة بجرح فهذا ليس دليلاً على تجريح الأشاعرة بإطلاق ، ولا على تجريح مذهب الأشاعرة ، إذ لا يخفى على اللبيب العاقل أن في علماء سائر المذاهب مجروحين ، والعمدة في صحة الأقوال وبطلانها هي مدى قربها أو بعدها من الأدلة ، بغض النظر عن القائل وما قيل فيه . 
ومثل الذي يسعى في توهين مذهب الأشاعرة بما وقف عليه من تراجم لبعضهم في الميزان واللسان: كمن يدّعي أن مذهب الحنابلة مذهب بدعي مذموم ، وأن أهله مجروحون عند علماء الجرح والتعديل ، مستدلاً بتراجم عدد من فقهاء الحنابلة في الميزان واللسان !!! . 
واقرأ إن شئت فيهما تراجم هؤلاء الحنابلة ، ولا تنس أن غيرها كثير:
صدقة بن الحسين البغدادي: كان يظهر في فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته مترجم في الميزان واللسان.
عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي المتوفى سنة (371هـ): متهم بالوضع في الحديث مترجم في الميزان واللسان. 
عبيد الله بن علي البغدادي المشهور بابن المارستانية المتوفى سنة (599هـ) : اتهم بالكذب وتزوير السماع ، وكان يتفلسف مترجم في الميزان واللسان.
عبيد الله بن علي بن أبي خازم بن أبي يعلى الفراء المتوفى سنة (580هـ) : أسقط القاضي ابن الدامغاني شهادته ، لما كان يرتكبه من الخلاعة وتناول مالا يجوز مترجم في اللسان. 
عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري المتوفى سنة (387هـ) : قال ابن حجر : [وقد وقفت لابن بطة على أمر استعظمته واقشعر جلدي منه] . وبين ذلك إذ ذكر حديث [كلم الله تعالى موسى يوم كلمه وعليه جبة صوف وكساء صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي] ، وأشار إلى ضعف سنده ، وإلى رواية ابن بطة لهذا الحديث ، لكن بزيادة منكرة في آخره ، وهي [فقال: من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟ . قال: أنا الله] . وعلق ابن حجر بقوله: [وما أدري ما أقول في ابن بطة بعد هذا؟ ! ... والله أعلم بغيبه] .
وهذا يعني أن ابن بطة ربما وضع هذه الزيادة وأدرجها في الحديث ، وهي موافقة لمشربه الذي فيه ميل للتجسيم والتشبيه ، وقد روى ابن الجوزي الحنبلي هذا الحديث بهذه الزيادة في الموضوعات ، وعلق بقوله: [هذا لا يصح ، وكلام الله لايشبه كلام المخلوقين] . وروى ابن بطة معجم الصحابة للبغوي وهو لم يسمعه منه ، إنما كان أخذ نسخة وحك اسم صاحبها وكتب عليها اسمه وانظر ترجمة ابن بطة في الميزان واللسان .
الحسن بن أحمد بن عبد الله ابن البناء: كان يتصرف في الأصول بالتغيير والحك مترجم في اللسان .

فهل يصح ـ يا ذوي الحجى ـ  أن يطعن طاعن في الحنابلة والمذهب الحنبلي بمثل هذه التراجم وغيرها؟ !!! حاشاهم من ذلك ، فتنبه أيها الأخ الباحث وأصلح منهجك .
قال الباحث: 
[وههنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم ، كالجويني وابنه أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم ، وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف ، .... وإذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا ؟ ] . 

أقول:
1ـ لم يذكر الباحث نقلاً واحداً عن عالم من علماء الأشاعرة يعلن فيها حيرته !!! أو توبته!!! أو رجوعه عن شيء معين كان يعتقده إلى مذهب السلف !!! فكيف يمكن أن تصح الدعوى؟ ! . 
ومن المعلوم أنه لا بد في مثل هذا من نقل الرواية ونقدها سنداً ومتناً قبل ابتناء أي حكم أو استنتاج عليها ، إذ لا بد من معرفة اتصال السند أو انقطاعه ، بالإضافة إلى عدالة الرواة الذين وردت أسماؤهم في ذلك السند وضبطهم أو انخرام العدالة أو الضبط فيهم أو في واحد منهم ، كما لا بد من معرفة انسجام تلك الرواية مع واقع حال الذي رويت عنه ، وذلك كما تقدم عن الرواية التي تعزو لابن تيمية ـ رحمه الله ـ  أنه قال [واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا] ، فإذا علمنا أن في سندها راوياً مجهولاً كان هذا من وجوه نقد السند ، وإذا علمنا أن كتب ابن تيمية طافحة بالرد على من يقول مثل هذا القول كان هذا وجهاً من وجوه نقد المتن ، وبهما أو بأحدهما تسقط الرواية وتنزل من مرتبة القبول إلى الرد .
2ـ  رويت الحيرة في الدين عن أحد علماء الأشاعرة وهو عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي ، وقد تقدم نقل الحكاية التي رواها ابن تيمية في ذلك ونقد سندها [ ] . مما يدل على أنها مختلقة مكذوبة .
3ـ  ورويت الحيرة ـ  لا في أصل الدين بل في إحدى مسائل الصفات ـ  عن إمام الحرمين رحمه الله ، وهو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسـف الجويني ، المتوفى سـنة (478هـ) .
وقد رويت الحكاية من طريق الحافظ أبي العلاء العطار الهمذاني الحسن بن أحمد بن الحسن المتوفى سنة (569هـ) ، عن الشيخ الصوفي أبي جعفر الهمذاني محمد بن الحسن بن محمد المتوفى سنة  (531هـ) ، أنه قال : سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] [ ]. فقال: كان الله ولا عرش . وجعل يتخبط ، فقلت: هل عندك للضرورات من حيلة ؟ . فقال: ما معنى هذه الإشارة؟ . قلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة ـ يقصد الفوق ـ ,  فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟ ! . وبكيت ، وبكى الخلق ، فضرب بكمه على السرير ، وصاح بالحيرة ، ومزق ما كان عليه ، وصارت قيامة في المسجد ، ونزل يقول: يا حبيبي ، الحيرة الحيرة ، والدهشة الدهشة [ ] . وفي الطريق الآخر أنه قال فيما بعد: حيرني الهمذاني .
هذا وقد نقد تاج الدين السبكي هذه الحكاية من حيث المتن وقال: أو كان الإمام عاجزاً أن يقول له: إن العارف لا يحدث نفسه بفوقية الجسمية . ثم قال: بل نقول: لا يقول عارف يا رباه إلا وقد غابت عنه الجهات [ ] .
أي إن الأشاعرة يقولون بعلوِّ الله تعالى وفوقيته ، لكنها ليست فوقية الأجسام التي يقول بها من يعتقد أن من على رأس الجبل أقرب إلى الله تعالى ممن في قعر الوادي ، وإذا كان ذلك كذلك ؛ أفكان إمام الحرمين عاجزاً عن أن يجيب هذا السائل بأن هذا القصد القلبي الضروري يتجه إلى الله تبارك وتعالى في علوه وفوقيته المطلقة التي هي ليست فوقية الأجسام والجهات المكانية؟ ! فلا تعارض بين ما أثبته الدليل العقلي والنقلي من أن الله تعالى كان ولا عرش وبين العلوِّ والفوقية المطلقة .
ولعل جانباً أو جوانب من الخلل قد تطرقت إلى هذه الحكاية ، والله أعلم بحقيقتها .
4ـ  ورويت الحيرة في مسألة من أهم مسائل الاعتقاد عن الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله ، وهي مسألة حدوث الأجسام ، فأهل الإيمان لا يشكون في أن الأجسام حادثة ، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي أحدثها وأوجدها بعد العدم ، وأن القول بقدمها كفر مخرج من الملة ، وأن الذي يشك ويرتاب في هذا لأن الأدلة عنده متعادلة من الجانبين: هو كافر خارج من الملة .
وقد جاء الاتهام بالتعريض إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، وبما يشبه التصريح إلى الإمام الرازي رحمه الله . 
قال ابن تيمية ـ سامحه الله ـ : [وقد قيل إن الأشعري في آخر عمره أقرَّ بتكافؤ الأدلة ، واعتبر ذلك بالرازي ، فإنه في هذه وهي مسألة حدوث الأجسام يذكر أدلة الطائفتين ، ويصرح في آخر كتبه وآخر عمره وهو كتاب المطالب العالية بتكافؤ الأدلة وأن المسألة من محارات العقول ،  ولهذا كان الغالب على أتباعهم الشك والارتياب في الإسـلام] [ ] .
والذي ذكره الإمام فخر الدين الرازي في هذه المسألة في هذا الكتاب هو أنه فصَّل دلائل الفلاسفة فيها ، واستقصى في تقرير الوجوه المستخرجة من اعتبار حال الفاعلية والمؤثّرية والدلائل المستنبطة من صفة القدرة والإرادة والحركة والسكون وغير ذلك ، كل ذلك على مذهب أصحاب القدم منهم وعلى مذهب أصحاب الحدوث ، وختم هذه المباحث بقوله: [وههنا آخر الكلام في هذا البحث المهيب والمطلوب الهائل] [ ] . ولم يصرح بتكافؤ الأدلة وأن هذه المسألة من محارات العقول!!! .
وكأنه ـ رحمه الله ـ يبين في ذلك الفصل ما عند الفلاسفة من الاستدلال والاستدلال المضاد دون أن يذكر قوله هو، ثم يذكر قوله معرباً ومفصحاً عنه بعد ذلك إذ يقول بعد قليل: [فإذا تأملنا في السموات وفي الكواكب وفي أحوال العناصر الأربعة وفي أحوال الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ولا سيما الإنسان ؛ وجدنا من الحكم القاهرة والدلائل الباهرة ما غرقت العقول فيها وحارت الألباب في وصفها ، لاجرم كانت هذه الاعتبارات بالدلالة على وجود الفاعل المختار الحكيم الرحيم أولى ، ومتى ثبت القول بالفاعل المختار فقد ثبت القول بحدوث العالم لا محالة] [ ] . 
فهل يصح أن ينسب للإمام فخر الدين الرازي رحمه الله أنه يقول بتكافؤ الأدلة في مسألة حدوث الأجسام وأن هذه المسألة من محارات العقول؟ !!! .
5ـ  أما التوبة والرجوع إلى مذهب السلف فمن المعلوم المشهور أن إمام الأشاعرة أبا الحسن الأشعري رحمه الله كان في أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تاب منه ورجع إلى مذهب السلف . 
لكن الأشاعرة الذين هم على مذهب أبي الحسن الأشعري لا أعلم أن أحدهم تاب ورجع إلى مذهب السلف من عقيدة كان يعتقدها ، لأنهم يعتقدون أن عقائدهم هي ما كان يعتقده السلف .
6ـ  أشـار البـاحث إلى أبي محمد الجويني وهو عبد الله بن يوسـف المتوفـى سـنة (438هـ) ، وهو والد إمام الحرمين .
لقد رجع أبو محمد الجويني رحمه الله عن تأويل النصوص الواردة في إثبات الاستواء والفوقية ونحوها إلى ترك التأويل وإلى إمرارها كما جاءت مع تمام التنزيه ونفي سمات الحدوث ، وكلاهما قولان عند الأشاعرة ، فلم يخرج بذلك عن كونه أشعرياً . 
فهل قال إن الله جسم؟ ! وهل قال إن لله مكاناً؟ ! أو إنه يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان؟! وهل قال إن فوقية الله تعالى هي فوقية الأجسام؟ ! وهل قال إن الله تعالى إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه وأن هذا على ظاهره وأنه راجع إلى الذات؟ ! وهل أنكر أن الله تعالى كان ولم يكن شيء غيره؟ ! وهل سكت عن ذلك أو صرح بنقيضه؟ !!! .
روي عنه أنه قال رحمه الله: [الحمد لله الذي كان ولا مكان] [ ] ، [له العلو والاستواء ، لا تحصره الأجسام ، ولا تصوره الأوهام] [ ] ، [فإذا أشرنا إليه تقع الإشارة عليه كما يليق به ، لا كما نتوهمه في الفوقية المنسوبة إلى الأجسام] [ ] ، [واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق ، بل كما يليق بعظمته] [ ] ، [هو سبحانه علي بالذات ، وهو كما كان قبل خلق الأكوان] [ ] .
فإذا وقع الاتفاق على ترك التأويل وإمرار النصوص كما جاءت لكن مع نفي سمات الحدوث ومشابهة الحوادث والمخلوقات فقد ارتفع الخلاف ، ولا يبقى اختلاف بعده سوى اختلاف اللفظ والتعبير .
 7ـ  وأشار الباحث إلى ولد أبي محمد الجويني وهو أبو المعالي إمام الحرمين ، وما قاله يشبه ما روي عن والده رحمهما الله . 
قال إمام الحرمين: [اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ،... فرأى بعضهم تأويلها ، ... وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، ... فحق على ذي الدين أن يعتقد تنـزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب][ ]. فقف عند قوله [وتفويض معانيها] وقوله [أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين] .
ويبدو أنه رجع عن الاستدلالات الكلامية التي مشى على الاشتغال بها وتدوينها في كتابه [الشامل] ونحوه ، بعد ما تبين له أن معظمها لا يعطي الجزم واليقين ، لأنه من باب إجراء العقل في أبعد من مداه وأقصى من مضماره . 
ولذا فإنه يقول: [لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام] . ويقول: [يا أصحابنا ، لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به] [ ] . 
ويقول: [قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفاً،... وغصت في الذي نهى عنه أهل الاسلام ، كل ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق: عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختمَ عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الاخلاص "لا إله إلا الله" فالويل لابن الجويني] [ ]. وقال في مرضه: [اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور] [ ] .
فرحمة الله تعالى على هذا الإمام الكبير ، وليت الأشاعرة من بعده قبلوا نصيحته فتركوا الاستدلالات الكلامية وأقبلوا على مزيد من الاشتغال بالأدلة العقلية والنقلية ، إذاً لكانوا قد أسدوا لأنفسهم وللمسلمين خيرا كثيراً ، ولجنبوا الأمة شراً مستطيراً .
وأما قوله في مرضه [اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة] أو [يخالف فيها السلف]: فلعل مراده أي إذا رأيتم في كلامي ما يخالف السنة أو قول السلف بيقين فأنا أرجع عنه ، وخذوا بالسنة وقول السلف ودعوا قولي ، ومن المستبعد جداً أن يكون مراده أن عنده عقائد مخالفة للسنة أو لِمَا عليه السلف وأنه رجع عنها ، لأنه لو كان كذلك لبينها للتحذير منها ، ولما استجاز السكوت عنها بإبهامها ، فهذا من أولى وأهم ما يوجبه عليه واجب النصح للمسلمين .
8ـ  وأما قول الباحث [إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا؟ ] : فاعلم أنهم رجعوا عن الاشتغال بعلم الكلام ، وتحسروا على الوقت الذي أضاعوه فيه ، ولو أن أحدهم رجع عن عقيدة كان يعتقدها لحذر من العقيدة السابقة وأرشد إلى العقيدة اللاحقة ، وهذا من أوجب الواجبات ، وأنت تجد في كلامهم التحذير من علم الكلام والنهي عن الاشتغال به ، ولا تجد التحذير من عقائد الأشاعرة ولا من الأخذ عن شيوخهم ولا النهي عن قراءة كتبهم .
والذي لا يعرف مذهب الأشاعرة ويعرض عن قراءة كتبهم بتفهم وإمعان ؛ يتخيل أنهم مخالفون للكتاب والسنة ، وأن كبار أئمتهم قد رجعوا عن عقائد الأشاعرة ، وهذا خيال من قائله ، لا يقوم على دليل ، ولا يستند إلى برهان ، لأنهم كانوا يرون أولاً وآخراً أن عقائدهم هي القائمة على أسس من الكتاب والسنة ، وأنها هي التي تربط بين دلالة العقل والنقل على وجه التوافق والتعاضد .
وأرى أن كل هذا لا يغير من الحقيقة شيئاً ، سواء رجعوا أو لم يرجعوا ، والذي يريد أن يبحث في عقائد الأشاعرة ؛ فإن الواجب الذي يفرضه عليه المنهج العلمي هو عرض عقائدهم من خلال كتبهم ثم محاكمتها من خلال الأدلة العقلية القطعية والأدلة النقلية الثابتة ، وأما غير هذا فأخشى أن يكون من التشغيب الذي لا فائدة فيه .
هذا وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كلمة لو جعلها الباحث وموافقوه ومخالفوه نصب أعينهم لكفتهم ، فقد قال: [ولو قال الإمام أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول صلى الله عليه وسلم لم نقبله] [ ] .
 
قال الباحث:
[دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم دعوى عارية عن الدليل يكذبها الواقع التاريخي ، وكُتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة ، وبعضها يقول إنه مذهب القرون الخمسة] .
ثم قال: [الذي يدخل في الإسلام حديثاً هل تستطيع أي فرقة أن تقول إنه معتزلي أو أشعري؟ ! أما نحن فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منا] .

أقول:
1ـ أما دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم فقد قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله: [الشافعية والمالكية والحنفية ... أشعريون ، هذه عبارة ابن عبد السلام شيخ الشافعية ، وابن الحاجب شيخ المالكية ، والحصيري شيخ الحنفية] [ ] . وهؤلاء أدرى بأهل مذاهبهم ، وفي هذا من الدليل كفاية .
والمقصود بكلمة [أشعريون] هنا هو أنهم في المسائل الكبرى في العقيدة إما أشاعرة وإما موافقون للأشاعرة ، ومن أهم ذلك أنهم ينفون عن الله تعالى الجسمية ولوازم الجسمية .
2ـ  أما الحنابلة ففيهم الموافقون لما عليه الجمهور ، وفيهم المخالفون لهم ، وإليك ما يقوله الإمام ابن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة (597هـ) ، قال رحمه الله: [ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله ابن حامد ، وصاحبه القاضي ، وابن الزاغوني ، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضى الحس ، ... ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل ، حتى قالوا صفة ذات ، ... وقد تبعهم خلق من العوام ، ... وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شيناً قبيحاً لا يغسل إلى يوم القيامة] [ ] . والخطاب في قوله [بعض أئمتكم] أي يا معشر الحنابلة . وأبو محمد التميمي هو رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز ، المتوفى سنة (488هـ) ، وهو من الحنابلة ، لكنه غير متفق مع ما سطره أبو عبد الله الحسن بن حامد والقاضي أبو يعلى محمد بن الحسين ابن الفراء وعلي بن عبيد الله ابن الزاغوني .
وربما كان من أسباب ابتعاد كثير من الحنابلة عن عقائد جمهور الأمة هو مزيد التعلق بكل ما يعزى للإمام أحمد مع تساهلهم في دراسة أسانيد تلك الأقوال المروية عنه ، خذ على سبيل المثال الرسالة التي رواها ابن أبي يعلى بسنده عن أحمد بن جعفر بن يعقوب الإصطخري عن الإمام أحمد ، ففيها عبارات موهمة ينبو عنها القلب ويستنكرها،منها وصف الله جل وعلا بأنه [يتحرك][ ]، والمعلق على الطبعة القديمة لا يعلق بشيء ، وكذا المعلق على الطبعة الجديدة ، رغم أن هذا لم يجد ترجمة لبعض رجال السند ، لكنه لا يهتم بهذا ، بل لعلك تجد عند بعض الحنابلة في كتب العقيدة أن الله تعالى [يتحرك] !!! ، وأن هذا هو قول [السلف]!!! ، وأن من لم يعتقد ذلك فهو [جهمي معطل] !!! وكأنهم يجعلون الكلمة التي رويت عن الإمام أحمد جزءاً من عقيدة [السلف] بمجرد أنها رويت عنه ولو كان في سندها  إليه راو مجهول !!! فتأمل واعجب . هذا مع قولهم إنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ويسكتون عما سكت عنه !!! . لكنّ الإمام الذهبي رحمه الله ذكر إحدى الرسائل المنقولة عن أبي عبد الله أحمد ابن حنبل وأثنى عليها ، ثم قال: [وأما غيرها من الرسائل المنسوبة إليه كرسالة الإصطخري ففيها نظر] [ ] . وقال: [لا كرسالة الإصطخري ، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله] [ ] .
3ـ  قال أبو ذر الهروي عبد بن أحمد بن محمد ، المتوفى سنة (434هـ) ، وهو يتحدث عن إمام الأشاعرة في عصره القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني: [كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لايشار فيها إلى أحد من أهل السنة  إلا من كان على مذهبه وطريقه][ ] .
وهذه النبذة مع ماسبق عن العز بن عبد السلام شيخ الشافعية وابن الحاجب شيخ المالكية والحصيري شيخ الحنفية كافية إن شاء الله في إثبات دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم.
4ـ  أما قول الأشاعرة بأن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة أو الخمسة فهذا لا يعني أن أولئك كانوا على غير ما عليه الأشاعرة ، لأن ذلك هو فيما يسمى آيات وأحاديث الصفات ، وللأشاعرة فيها قولان: الأول هو إمرارها كما جاءت بلا كيف ولا معنى وأنها لا تفسر مع نفي سمات الحدوث ، والثاني هو تأويلها على وجه يدل عليه استعمال العرب لمثل هذا الكلام على نحوذلك الوجه مما يتفق مع تنزيه الباري جل وعلا ، فإذا كان أهل القرون الخمسة الأولى أو جلهم على القول الأول فالأشاعرة لا ينكرونه ، بل ويقولون به ، وهو أحد القولين السائغين عندهم ، بل هو الأرجح عند كثير من محققيهم .
وشتان بين قولِ السلف وقولِ من يتوهمون أنهم على مذهب السلف ، فأولئك يقولون مثلاً في حديث [ ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ] إنه يُروى كما جاء ولا يُفسر ، وهؤلاء يقولون ينزل ربنا أي يتحرك وينتقل إذا شاء !!! فتعالى الله عما يقولون وعما يفسرون من المتشابه على المعاني الحسية .
5ـ  وأما قول الباحث إن من يدخل في الإسلام حديثا فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منهم فهو قول تغني حكايته عن الاستدلال لرده ، فهل الذي يدخل في الإسلام حديثاً يعتقد ـ  بمجرد دخوله الإسلام وقبل أن يلقى أحداً من المعتزلة أو الأشاعرة أو غيرهم ـ أن من على رأس الجبل أقربُ إلى الله ممن في قعر الوادي ، وأن الله تعالى يدنى العبد يوم القيامة حتى يمس بعضه ، وأنه تعالى يتحرك إذا شاء ، وأنه تعالى قاعد على العرش وقد أخلى مكانا يقعد فيه محمداً صلى الله عليه وسلم معه عليه يوم القيامة ؟؟!!! أو إنه عندما يدخل في الإسلام لايعلم إلا ما يعلمه المعلم فلا هو قبل ذلك من هؤلاء ولا من هؤلاء ؟ !!! فتنبه .
قال الباحث:
[يجب التنبه إلى التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد أو متابعة خاطئة أو... ، ومن هذا القسم الحافظ ابن حجر رحمه الله ، ... والحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح ، وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم ، فمثلا خالفهم في الإيمان ،.... كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة ،... ولو قيل إن الحافظ رحمه الله كان متذبذباً في عقيدته لكان ذلك أقرب إلى الصواب] . 

أقول:
1ـ  يؤكد الباحث على التفريق بين الأشاعرة المتكلمين وبين من تأثر بمذهبهم لسبب من الأسباب كالحافظ ابن حجر رحمه الله ، وعلى أن ابن حجر ليس أشعرياً ، وأنه قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح ، وأنه خالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم ، وإذا كان قول الأشاعرة على وفق ما يتصوره ويصوره الباحث وينسبه إليهم ؛ فلا شك في أن ابن حجر ليس أشعرياً ، ولكن لكي يكون حكم الباحث صحيحاً فإن عليه أن يورد أقوال الأشاعرة من كتبهم وأقوال ابن حجر من كتبه ويبين المناقضة بينهما ، ولكنه بعيد كل البعد عن هذا وذاك ، فما قيمة الدعاوى اذا لم تكن مبنية على المنهج العلمي السليم ؟؟ !! .
2ـ  إن كان ابن حجر قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح في بعض المسائل فهذا لايكفي دليلاً على أن ابن حجر ليس أشعرياً بإطلاق ، بل يكون دليلاً على أنه ليس مقلداًً للأشاعرة في كل شيء ، ولا حرج ولا عيب في هذا لا عليهم ولا عليه ، بل هذا هو شأن العالم الذي يناقش أقوال سابقيه بما ظهر له من الأدلة .
وكم من فقيه شافعي نقد من سبقه من الفقهاء الشافعيين في بعض المسائل ، وكم من فقيه حنفي أو مالكي أو حنبلي ، بل كم من صوفي نقد من سبقه من الصوفيين ، أفيكون بذلك غير صوفي ؟! .
هذا ولم يذكر الباحث نص كلام ابن حجر الذي ينقد فيه الأشاعرة باسمهم الصريح ليتبين وجه النقد ومدى ذلك النقد ومن الذي وجه إليه ذلك النقد؟؟ أهو كل الأشاعرة؟ أو جمهورهم؟ أو بعضهم؟!! وليته ذكر مثالاً واحداً  أو مثالين ، فهذا أقرب إلى المنهج العلمي من الإبهام والإطلاق .
3ـ  ذكر الباحث أن ابن حجر خالف الأشاعرة فيما هو من خصائص مذهبهم ، ومن ذلك أنه خالفهم في الإيمان ، وأحال الباحث إلى الجزء والصفحة من فتح الباري ، ولكن الموجود في ذلك الموضع لا يخالف ما قاله الأشاعرة .
قال ابن حجر: [والإيمان لغة التصديق ، وشرعاً تصديق الرسول فيما جاء به عن ربه ، وهذا القدر متفق عليه ، ثم وقع الاختلاف: هل يشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبر عما في القلب إذ التصديق من أفعال القلوب؟ أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك كفعل المأمورات وترك المنهيات؟ ... فالسلف قالوا هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان ، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ، والمرجئة قالوا هو اعتقاد ونطق فقط ، والكرامية قالوا هو نطق فقط ، والمعتزلة قالوا هو العمل والنطق والاعتقاد ، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله] [ ] .
ومما ينبغي التنبيه عليه ـ وإن كان لا يغيب عن فطنة الفطن ـ هو أن ابن حجر لم يذكر قولاً للأشاعرة في مسالة الإيمان ، وما ذاك إلا لأنه يعتقد أن قولهم لا يخرج عن قول السلف ، إذ تفسير الأشاعرة للإيمان بالتصديق والاعتقاد لا يعني أنهم يطرحون قول اللسان وعمل الجوارح ، وإنما يعني أن الإيمان الذي يخرج به المرء من الكفر إلى الحد الأدنى من الإيمان هو التصديق والاعتقاد ، وأما القول والعمل فهما من ثمار الإيمان ، وهما شرط في كمال الإيمان لا في صحته.
فهل خالف ابن حجر الأشاعرة في الإيمان؟ !!! فتأمل ـ أيها القارئ المنصف ـ واعجب!.
4ـ  ذكر الباحث أن ابن حجر يخالف الأشاعرة في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة ، والواقع خلاف ذلك ، وبيانه أن البخاري رحمه الله قال في صحيحه [باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام] ، فبيّن ابن حجر رحمه الله أن البخاري أتى بلفظة الفرائض بعد الأذان والصلاة والصوم من باب عطف العام على الخاص ، ثم نقل عن الكرماني أنه قال [ليعلم أنما هو في العمليات لا في الاعتقاديات] ، وأقره على ذلك ، إذ لم يتعقبه بشيء [ ] .
فهل خالف ابن حجر الأشاعرة في أن أحاديث الآحاد حجة في الأحكام والفرائض لا في العقائد ؟!!! فتأمل ـ أيها القارىء المنصف ـ واعجب !.
5ـ  يميل الباحث إلى أن ابن حجر ـ رحمه الله ـ كان متذبذباً في عقيدته وأن هذا القول أقرب الى الصواب !!!. يقول الباحث هذا وهو لم يذكر عن ابن حجر كلمة واحدة ومناقضتها لآية قرآنية أو حديث نبوي صحيح ، فهل هذا هو المنهج العلمي المرتكز على الكتاب والسنة؟ !!! ولمصلحة من هذا؟ !!! .
6ـ بعد أن يصف الباحث ابن حجر ـ رحمه الله ـ  بأنه كان متذبذبا في عقيدته يصف البربهاري ـ رحمه الله وغفر له ـ  بأنه [إمام السنة في عصره] !!! . ـ وهو الحسن بن علي بن خلف المتوفى سنة (329هـ) ـ .
والبربهاري هذا لم يكن يجلس مجلساً إلا ويذكر فيه أن الله عزَّ وجل يُقعد محمداً صلى الله عليه وسلم معه على العرش [ ] !!! .
ومما ينبغي أن يعلم أن هذه عقيدة نصرانية ضالة ، يقول بها النصارى في حق عيسى عليه السلام ، فتسربت إلى بعض جهلة المسلمين ، فنقلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم . وفي الإنجيل المحرف الذي بأيدي النصارى هذا النص: [وبعدما كلمهم الرب يسوع رفع إلى السماء وجلس عن يمين الله] [ ] .
فالبربهاري ومن يقول بقوله هم  ـ  في نظر الباحث ـ  أئمة السنة !!! وليسوا متذبذبين في العقيدة !!! ولست أدري هل الباحث على عقيدته ؟ ! .
والباحث يثني على عثمان بن سعيد الدارمي وماكتب في العقيدة ، وهو القائل في وصف الله سبحانه: [ولو قد شاء لاستقرَّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع؟ !] [ ] . وهذا ـ في نظر الباحث ـ  من أئمة السنة وليس متذبذباً في عقيدته !!! .
هذا بعض ما سطره الباحث في مقدمات بحثه ، وأنتقل معه الآن إلى استعراض بعض ما يقوله في المواضيع الخمسة عشر التي يرى أنها هي أبواب العقيدة ، وأن مذهب الأشاعرة فيها مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة في أربعة عشر موضوعاً منها .
 
قال الباحث:
[رأيت من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب الأشاعرة في كل أبواب العقيدة ، ليتضح أنهم على منهج فكري مستقل في كل الأبواب والأصول ، ويختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات، ماعدا قضية واحدة فقط] !!!. 

ثم ذكر الباحث ما فهمه من أقوال الأشاعرة في أبواب العقيدة ، حيث استعرض خمسة عشر موضوعاً ، وادعى أن مذهب الأشاعرة مخالف لمذهب أهل السنة فيها مخالفة تامة ، سوى الموضوع الرابع عشر ، حيث المخالفة فيه ليست بتامة .
ولا بد من استعراض شيء من كلام الباحث وتبيين بعض ما فيه .
الموضوع الأول :          مصدر التلقي

قال الباحث: 
[ مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل ، وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشراح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض ] .
والمراد بالنقل: نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة .
أقول:
1ـ  أول كلامه يصرّح بأن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل ، فيدل بظاهره على أن النقل لا يعد عندهم مصدراً للتلقي ، وآخر كلامه يصرح بأنهم يقدمون العقل على النقل عند التعارض ، وهذا يدل بظاهره على أن النقل عندهم مصدر من مصادر التلقي إلا أنهم يقدمون العقل عليه ، وهذا تناقض. فكان ينبغي للباحث أن يصون عبارته عن ذلك . 
2ـ  إن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل والنقل ، وكتب العقيدة عندهم تحتج بالأدلة العقلية والأدلة النقلية ، وانظر على سبيل المثال كتاب الإنصاف للباقلاني ، فإنه مشحون بالأدلة العقلية والأدلة النقلية الكثيرة كثرة واضحة ظاهرة .
3ـ  كتبهم تقدم الأدلة العقلية على الأدلة النقلية في مجال الاستدلال في العقائد في باب العقليات ، وذلك لأن المراد هو الرد على المخالفين، كالدهريين والثنوية وأهل التثليث والمشركين والمجسمة ونحوهم ، فهل تحتج على هؤلاء بآيات القرآن الكريم قبل أن تقيم الأدلة العقلية على الإيمان بالله تعالى وأن القرآن كلام الله؟ !!وهل تحتج عليهم بنصوص السنة النبوية قبل أن تقيم الأدلة العقلية على الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !!!.
4ـ  الاستدلال في كتب العقيدة عند الأشاعرة يكون بالأدلة العقلية والنقلية على وجه التعاضد ، فكل منهما يؤيد الآخر ، فالعقل الصحيح والنقل الثابت الصريح لا يتعارضان ، ولا تجد في كتبهم ولو مرة واحدة أنهم قالوا لقد تعارض في هذه المسألة الحكم العقلي مع حكم النص النقلي القطعي الثبوت والدلالة ، فضلا عن أن يقولوا ذلك ويقدموا العقل على النقل ، ومن ادّعى غير ذلك فليأت بالدليل. ولا بد من التنبيه إلى الفرق الكبير بين [حكم النص النقلي] وبين [ظواهر ألفاظ النص النقلي] .
5 ـ  ويحسن هنا أن أذكر مثالاً للاستدلال ـ عند الأشاعرة ـ  بالأدلة العقلية والنقلية على وجه التعاضد ، ففي تفسير قول الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] [ ] يقول الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله عن هذه الآية : إشارة إلى كمال علمه سبحانه ، والطريقُ إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمعَ ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إليه ليس إلا الدليلَ العقليَّ ، وذلك هو أن نقول: إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة ، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً ، فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا ؛ فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله [إنَّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء] ؛ أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك ، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة ، والتركيب الغريب ، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها عظام ، وبعضها غضاريف ، وبعضها شرايين ، وبعضها أوردة ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض ، على التركيب الأحسن ، والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال قدرته ،… ويدل على كونه عالماً ، من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم [ ] .
6ـ  إذا وجدنا علماء الأشاعرة يقولون إن العقل مقدم على النقل فما معنى هذا الكلام؟ 
هذا يعني أنه إذا افترضنا وقوع تعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي فإننا لا نستطيع تقديم النقل ، لأن النصوص النقلية قد عرفنا أصل صحتها بالأدلة العقلية ، وتقديم النص النقلي على قضية عقلية قطعية هو طعن بالعقل ، والطعن بأحكام العقل القطعية طعن بالعقل والنقل معاً .
ولكن هل يعني تقديم العقل إنكار النقل ؟؟ وللجواب لا بد من تقسيم النصوص النقلية من حيث طريق وصولها إلينا ومن حيث قوة الدلالة إلى أربعة أقسـام :
القسـم الأول : قطعي الورود قطعي الدلالة ، وهو نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة الدالةُ على المعنى المُسـْتَدَلِّ بها عليه دلالة واضحة بيِّنة قطعية.
القسـم الثاني : قطعي الورود ظنيُّ الدلالة ، وهو نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة الدالة على المعنى المستدَل بها عليه دلالة ظهرت ولاحت للمستدِل ولكنها غير قطعية .
القسـم الثالث : ظني الورود قطعي الدلالة ، وهو نصوص السنة التي وصلتنا بطريق آحادي ودلت على المعنى المستدَل بها عليه دلالة واضحة بينة قطعية.
القسـم الرابع : ظني الورود ظني الدلالة ، وهو نصوص السنة التي وصلتنا بطريق آحادي ودلت على المعنى المستدَل بها عليه دلالة ظهرت ولاحت للمستدِل ولكنها غير قطعية .
والجواب بعد فهم هذا التقسـيم : أنه يستحيل وقوع التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي إذا كان قطعي الورود قطعي الدلالة ، وهو القسـم الأول ، لأن الحقائق تتآلف ولا تتخالف .
ويُتصور وقوعُ التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي قطعي الورود ظني الدلالة وهو القسـم الثاني ، وفي هذه الحالة لا بد من تأويل النص ، أي تفسيره بما لا يتعارض مع القضايا العقلية القطعية ، وبيان أن ذلك الظاهر الذي ظهر ولاح للمستدِل غير مراد قطعاً.
ومثال ذلك أن الله الخالق العظيم الذي ليس كمثله شيء يستحيل أن يحل في شيء من مخلوقاته ، وهذه قضية عقلية قطعية ، وقد يظهر لبعض من لم يفهموا هذه القضية الاستدلالُ ببعض ما يظهر ويلوح لأذهانهم الكاسدة من نصوص القرآن الكريم ، فيحتجون مثلا بقوله تعالى [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ] [ ] وبقوله تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] [ ] على مذهب الحلوليين ، وهنا لا بد من تأويل النص ، أي تفسيره بما لا يتعارض مع القضايا العقلية القطعية ، ولا بد من بيان أن ذلك الظاهر غير مراد قطعاً، فيقال مثلا: إن معيّة الله تعالى أي كونه مع المخلوقات ليست كمعيّـة المخلوقات بعضهم مع بعض ، بل الله جل جلاله معهم معية تليق به ، أو معهم بعلمه مثلا ، وكذا قرب الله تعالى إلى عبده وكونه أقرب إليه من حبل الوريد ليس كقرب المخلوقات بعضهم من بعض ، بل الله جل جلاله قريب إلى عبده قرباً يليق به ، أو قريب إليه بالهيمنة والقدرة مثلاً .
ويُتصور وقوع التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي ظني الورود قطعي الدلالة ، وهو القسـم الثالث، وإن ورد شـيء من ذلك فلا بد من حمل النص على أنه خطأ من بعض الرواة .
وكذا يتصور وقوع التعارض بين قضية عقلية قطعية ونص نقلي ظني الورود ظني الدلالة ، وهو القسـم الرابع ، وإذا ورد شـيء من ذلك فيؤول ، وقد يحمل على أنه خطأ من بعض الرواة .
7 ـ  الإيجي هو أحد الذين قالوا بتقديم العقل على النقل من الأشاعرة ، فما مثال ذلك من كلامه؟ 
تحدث الإيجي عن الذين وصفوا الله تعالى بأنه جسم ، وبين أقوال المجسمين تجسيما حقيقيا ، وأشار إلى استدلالاتهم وإلى الجواب عنها :
قال رحمه الله: [والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة ، فقيل: من لحم ودم ، وقيل: نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه ، ومنهم من يقول: إنه على صورة إنسان ، فقيل: شاب أمرد جعد قطط ، وقيل: شيخ أشمط الرأس واللحية ، تعالى الله عن قول المبطلين][ ].
وقال في حديثه عن استدلالات أولئك المبطلين: احتجوا بالظواهر الموهمة للتجسيم من الآيات والأحاديث ، نحوقوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] [ ] [ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً][ ]... وحديث النزول ، والجواب: أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات ، ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن، فتؤول الظواهر ، إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله ... ، وإما تفصيلاً ... [ ]
فانظر ـ هداك الله ورعاك ـ إلى التعارض بين تنـزيه الله الذي ليس كمثله شيء وبين الظاهر الذي لاح للمجسمة من بعض الآيات والأحاديث ، وتأمل جواب الإيجي الذي يقول بتقديم العقل على النقل عند التعارض ، وجوابه يقرر ما يلي:
أ ـ  إن ما لاح للمجسمة من الاستدلال بهذه النصوص هو استدلال بما ظهر لهم من معانيها ، فهو مجرد [ظواهر] ، أي إن ألفاظ النصوص لا تدل على التجسيم دلالة قطعية .
ب ـ  تنـزيه الله تعالى عن التجسيم أمر مقطوع به .
ج ـ  إذا تعارض دليلان فيجب العمل بكليهما على قدر الإمكان.
د ـ  الواجب هنا هو تنزيه الله تعالى عن الجسمية ولوازمها وتأويلُ تلك الظواهر، إما تأويلاً إجماليا بصرف اللفظ عن المعنى المتبادر لمدعي التجسيم وتفويضُ المعنى التفصيلي إلى الله ، وإما بتأويل النصوص تأويلا تفصيليا بحسب سياق النص.
ولا بد ههنا من تقرير حقيقة هامة: وهي أنك قد تختلف مع الإيجي في دلالة ظواهر ألفاظ النصوص ، وفي التأويل الإجمالي أو التفصيلي ، ولكنك لا تستطيع بحال من الأحوال أن تقول إنه يقدم العقل على النقل بالمعنى المتبادر إلى الذهن عند هذا الإطلاق ، كما لا تستطيع بحال من الأحوال أن تقول إن مصدر تلقي العقيدة عنده هو العقل بعيداً عن النقل ، بل مصدر العقيدة عنده هو العقل المؤيد بالنقل ، ومن زعم غير ذلك فليأت بالدليل .
8 ـ  وأخيراً فلا تعجل ـ أيها الأخ الباحث ، واعلم أن ابن تيمية رحمه الله يقر مبدأ التفريق بين الدليل النقلي الذي لم يعارضه دليل عقلي وبين ما عارضه دليل عقلي أو نقلي آخر ، واستمع إليه إذ يقول في معرض استدلاله على أمر من أمور العقيدة: [والسمع قد دل عليه ، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم] [ ] .
9 ـ  قال الإمام الغزالي رحمه الله عن علم التوحيد الذي ينظر في ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الأنبياء وأحوال يوم القيامة: [وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن ، ثم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية][ ] .
 
قال الباحث:
وضع الرازي في أساس التقديس القانون الكلي للمذهب في ذلك فقال: [اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك ... لم يبق إلا أن يُقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية: إما أن يقال إنها غير صحيحة ، أو يقال: إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها ، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى].
وعلق الباحث على قول الرازي [إما أن يقال إنها غير صحيحة] بقوله: [يلاحظ أن الدلائل النقلية تشمل نصوص الكتاب والسنة معاً ، فكيف يقال إنها غير صحيحة دون تفريق بينهما؟ مع أن مجرد إطلاقها على السنة وحدها في غاية الخطورة] .
وعلق على قول الرازي [اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات] بقوله: [هل وصلت قيمة نصوص الوحي إلى حد أن الاشتغال بتأويلها الذي هو تحريف لها يعتبر تبرعا وإحسانا؟ !] .

أقول:
1ـ خلاصة كلام الرازي هي: الجزم والقطع بما تقتضيه الدلائل العقلية القطعية ، وتقديمها على الأدلة النقلية التي يشعر ظاهرها بخلاف ذلك .
ولا بد من التمييز بين الدلائل العقلية التي ما تزال تدور بين الأخذ والرد ، وبين الدلائل العقلية التي تجاوزت تلك المرحلة وبلغت درجة اليقين ، فالأولى ظنية ، ولا يتصور عند الأشاعرة بحث اختلافها مع النقل ، فهي مردودة في باب العقائد ومرفوضة قطعاً ، والثانية قطعية ، وهذه هي التي بحثوا في موضوع اتفاقها أو اختلافها مع النقل .
كما لا بد من التمييز بين الأدلة النقلية الظنية الورود  أو الدلالة  أو كليهما  وبين الأدلة النقلية القطعية الورود والدلالة ، فالأولى ظنية ، وهذه هي التي بحثوا في موضوع اتفاقها أو اختلافها مع العقل ، والثانية قطعية ، ويستحيل عند الأشاعرة أن يكون بعضها مخالفاً لبعض الدلائل العقلية القطعية .
وتأمل في قول الرازي عندما ذكر الدلائل العقلية كيف قيدها بكونها قطعية ، وعندما ذكر الأدلة النقلية قال: [يشعر ظاهرها بخلاف ذلك] .
2ـ  الأدلة النقلية التي تشعر ظواهرها بمخالفة الدلائل العقلية القطعية قد تكون نصوصا من القرآن الكريم أو السنة النبوية ، وما يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون من المتواتر أو الآحادي ، والآحادي قد يكون صحيح السند أو ضعيفاً  أو تالفاً .
وقول الرازي عن الدلائل النقلية [إما أن يقال إنها غير صحيحة]: فهذا لا يتعلق بالقرآن الكريم قطعاً ، ولا بالسنة المتواترة ، وكلام الرازي يتعلق بالأحاديث الآحادية ، سواء أكان سندها صحيحاً عند من صحح السند أو ضعيفاً أو تالفاً .
ثم إنه لا إشكال في أن الضعيف والتالف غير صحيح ، لكن الآحادي إذا صح سنده فهل يجوز أن يقال إنه ليس بصحيح المتن إذا خالف الأدلة القطعية العقلية؟ 
لا بد ههنا من مراعاة أمرين: أحدهما النظر فيمن صحح السند ، فكثير من الذين يحكمون للسند بالصحة يتبين للناقد بعد التبصر في أحكام دراسة الأسانيد أنهم متساهلون في التصحيح ، ثانيهما النظر في الأدلة العقلية ، إذ لا بد أن تكون قطعية يقينية .
فإذا أورد أحد العلماء حديثاً في باب العقائد مشيراً إلى صحته أو ساكتاً عنه ومعتمداً عليه ثم تبين ضعف سنده فلا إشكال في رده ، وأنه لا ينهض للمعارضة بينه وبين الدليل العقلي ، وإذا كان ما سمي بالدليل العقلي ليس دليلاً عقلياً حقيقياً ولا يعدوكونه ظناً من الظنون ؛ فهذا كذلك لا إشكال في رده ، وأنه لا ينهض للمعارضة بينه وبين الدليل النقلي .
أما إذا كان سند الحديث صحيحاً وخالف مدلوله دليلاً عقلياً قطعياً فهذا هو ميدان البحث في التعارض الواقع بينهما ، وهنا يقول الأشاعرة إنه لا بد من تقديم العقل على النقل . ولكن الذي ينبغي التأكيد عليه هنا هو أننا إذا تجنبنا منهج التساهل في دراسة الأسانيد فقد لا نجد مثالا لهذه الحالة ،وإن عثر على شيء من ذلك فلا يعدو كونه من أندر النادر.
3ـ واعلم أنَّ هذا لا نزاع فيه عند أهل العلم ، وابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول بهذا ، واستمع إليه إذ يقول  : [ إذا قيل تعارض دليلان سواء كانا سمعيين أو عقليين أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً ؛ فالواجب أن يقال : لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً ، فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً ، وهذا متفق عليه بين العقلاء ، ... وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء ، سواء كان هو السمعيَّ أو العقلي، فإن الظن لا يرفع اليقين ، وأما إن كانا جميعاً ظنيين فإنه يُصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المُقّدَّمَ سواء كان سمعياً أو عقلياً ] [ ] .
4 ـ ظن الباحث أن الدلائل النقلية إذا كانت صحيحة فإنها لا تستحق عند الرازي الاشتغال بتأويلها إلا على سبيل التبرع ، ولذلك فإنه راح يلمزه بما يعني أنه لا يقدر نصوص الوحي حق قدرها.
وإنما أُتي الباحث من حيث عدم التأني في تفهم العبارات ، فإن الرازي لم يقل إن الاشتغال بتأويلها هو من باب التبرع ، ولكنه ألمح إلى أنه يكفينا مع رد ظواهرها المخالفة للدلائل العقلية القطعية أن نفوض العلم بها إلى الله تعالى ، وهذا تأويل إجمالي ، ويمكننا أن نشتغل بذكر التأويلات التفصيلية على سبيل التبرع . فلم نسيت أيها الباحث قول الرازي: [بذكر تلك التأويلات على التفصيل ؟؟!!!] .
5 ـ  وقبل أن أغادر مسألة اتهام الأشاعرة بأنهم يقدمون العقل على النقل لا بد من بيان اتفاق الأمة الإسلامية على أصل المسألة ، فالمسلمون يعتقدون أنه يستحيل قطعاً أن يأتي في كتاب الله تعالى أو في كلام أحد من رسله ما يصادم العقل ، وقد قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم [لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] [ ] ، وقال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ] [ ] ، ولا يقول بجواز أن يأتي في كلام الله تعالى أو في كلام أحد من رسله ما يصادم العقل إلا من كان على شاكلة النصارى الذين ينادون: أطفئ سراج عقلك واتبعني .
واستمع إلى ابن تيمية رحمه الله إذ يقول عن النصارى: [ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات ، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول] [ ] .
لكن ما الحكم فيما لو نقل عن أحد من رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع؟ إما أن النقل غير صحيح فهو مما لا تثبت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يصح النقل ويكونَ للمنقول معنى غير المعنى الذي تبادر إلى ذهن قارئ النص ، وهنا يكون الواجب عليه هو تأويل النص بصرفه عن ذلك المعنى الذي تبادر إلى ذهنه بادي الرأي إلى معنى سليم لا يصادم العقل ، وهذا هو ما يعنيه الأشاعرة . واستمع إلى ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: [ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذي لا يكذب ناقض بعض الأخبار للزم أحد الأمرين: إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول ، لكن ـ ولله الحمد ـ  هذا لم يقع ، ولا ينبغي أن يقع قط][ ] .
6 ـ ومما يثير الاستغراب والدهشة أن ابن تيمية نقل نقلاً غريباً يخالف ما تقدم ، فقال : [... ذكر الرازي في أول كتابه "نهاية العقول" أن الاستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال... ، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع ] [ ] . وهذا ليس موجوداً في كلام الإمام الرازي ـ رحمه الله ـ ، إذ لم يجده محقق الكتاب في أول "نهاية العقول" ، بل ولا بعد تصفحه لكثير من صفحات مخطوطة الكتاب ، ولعله مما كتبه ابن تيمية من حفظه وهو في حالة انفعالية ، فوقع في هذا الخطأ الفاحش ، إذ نسب للإمام الرازي قولاً كفرياً وهو بريء منه؟؟؟ . [ ] .
 
قال الباحث:
يقول السنوسي: [وقعتْ في الكتاب والسنة ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر] . ويقول السنوسي: [أصول الكفر ستة ... التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية] .

أقول:
1ـ قال الله تعالى في كتابه العظيم: [فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا] [ ] ، وقال تعالى: [نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] [ ] ، وقال تعالى: [فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسـِينَاكُمْ] [ ]، فهل من صفـات الله تعالى النسـيان؟ ‍! تعـالى اللهُ عن ذلك علواً كبيـراً .
أو ليست هذه النصوص مصروفة عن ظواهرها؟ ! أو ليست واجبة التأويل؟ ! أو ليس الذي يصف ربه تعالى بالنسيان يكون كافراً ؟ ! .
هذا ونحوه هو ما يعنيه الأشاعرة من وقوع ظواهر من اعتقدها على ظاهرها فقد كفر . 
2 ـ  وقال الله تبارك وتعالى: [وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى] [ ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون] ، فهل يصح نفي صفة الموت وصفة الحياة بإطلاق عن الكافر في جهنم؟ وهل يصح أن يقال عنه إنه ليس بميت ولا حي؟ وهل تفهم هذه الآية حسب ظواهر ألفاظها؟ ؟ أم إنك ستفسرها بتقييد الحياة المنفية هنا مستعيناً بالسياق؟ ؟ واستمع إلى الحافظ ابن كثير رحمه الله يفسر الآية الكريمة فيقول: [أي لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه] .
3 ـ وقال الله تبارك وتعالى [سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ] [ ] ، فهل يصح فهم الآية على أَنَّ الله جل وعلا يكون مشغولاً قبل ذلك ثم يتفرغ لحساب الثقلين ، أم إنك ستفسرها بأنها وعيدٌ  بمحاسبتهم وأنه لا يشغله شيء عن شيء؟ ؟ واستمع إلى الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول في معرض تفسيره للآية الكريمة: [وهو معروف في كلام العرب ، يقال لأتفرغن لك ، وما به شغل ، يقول لآخذنك على غرتك] .
4 ـ  روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدني؟ ! . قال: يا رب ، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ ! . قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ ! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ ! ...] [ ] . فهل من صفات الله تعالى المرض؟ !!! وهل يمرض مرضاً يليق به؟ !!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
فهذا النص ـ  عند الأشاعرة ـ  مصروف عن ظاهره المفهوم من الألفاظ ، ويجب فهمه في ضوء سياقه وتتمته ، وهي قوله تعالى في الحديث القدسي [أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ ! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده] .
ومن الغريب تعليق ابن تيمية رحمه الله على هذا الحديث إذ يقول: [وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يَجُع ، ولكن مرض عبده وجاع عبده ، فجعل جوعَه جوعَه ومرضَه مرضَه ، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، ولو عدته لوجدتني عنده ، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل] [ ] . فقد نفى ابن تيمية رحمه الله المرض عن الله تبارك وتعالى ، وفسر الحديث على الوجه الصحيح الذي جاء في الحديث نفسه ، لكنه سمى ذلك تفسيراً ، وأبى من تسميته تأويلاً ، وكأن نقطة الخلاف هي في التسمية !!! ويقول لك الأشاعرة: سمِّه ما شئت ، ولكن تفسيرك لكلمة [مرضتُ] بقولك [لم يمرض ولكن مرض عبده] هو صرف للمعنى المفهوم من ظاهر لفظة [مرضتُ] ، وحيث إن صرف اللفظ عن المعنى المفهوم من ظاهره إلى معنى آخر لم يكن بالهوى وإنما لدليل دل عليه ؛ فهذا هو الذي نطلق عليه اسم [التأويل] .
5 ـ وقال الله تعالى في الحديث القدسي [يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيط إذا أدخل البحر] [ ] ، فهل يصح لك أن تفهم من كلمات هذا الحديث الشـريف أن ما عند الله جل وعلا ينقص إذا أعطى كل واحد سؤله بمقدار ما ينقص ماء البحر إذا أدخلت فيه الإبرة ؟! حتى ولو كان ذلك القدر ضئيلاً جداً ؟!!! أو إن الواجب هو أن نفهم هذا الحديث الشـريف حسب سياقه ؟ ! بمعنى أن الله تعالى لا ينقص ما عنده أدنى قدر من النقص ، وأن التشبيه الوارد في الحديث لا يراد به سوى التقريب لبعض أذهان المخاطبين .
6 _ وعلى كل حال فإن الأشاعرة يأخذون بظواهر النصوص ولا يعدلون عنها إلا لدليل يدل على صرف معنى اللفظ ، وهو ما عبر عنه الإمام البيهقي رحمه الله تعالى إذ قال: [والقرآن على ظاهره ، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة] . وقال: [فلا وجه لترك الظاهر إلا بمثله أو بما هو أقوى منه] [ ] .
7 ـ  وإذا كنت مستغرباً من موقف الأشاعرة حيث يفسرون النص أحياناً على غير ظاهره؛ فانظر في كلام الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله حيث يفعل الشيء ذاته ، ولكن لا تنس أنهم لا يتركون الظاهر إلا لدليل .
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الآية إذا كانت عامة؟ فقال: تفسيرها بالسنة ، بالحديث ، إذا كانت الآية ظاهرة فينظر ما جاءت به السنة ، هي دليل على ظاهر الآية ، مثل قوله تعالى [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ] [ ] ، فلو كانت الآية على ظاهرها ورث كل من وقع عليه اسم ولد ، فلما جاءت السنة أن لا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً وأنه لا يرث قاتل ولا عبد مكاتب ، هي دليل على ما أراد الله من ذلك [ ] .
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: فمن لم يأت بطواف الزيارة ورمي الجمار وما يجب عليه فليس حجه بتام ، وإنما قوله [الحج عرفة] إذا جاء بهذه الأشياء يشبه قوله صلى الله عليه وسلم [من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها] ، فلو كان على ظاهر هذا الكلام كان قد كملت صلاته إذا أدرك ركعة . ثم قال: قال أبي: ومن احتج فزعم أن الحج عرفة فلو كان على ظاهر الكلام: وقف بعرفة ورجع إلى أهله ووطئ أهله وأصاب الصيد [ ] .
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [أمرت بقرية تأكل القرى]: تفسيره  ـ والله أعلم ـ  بفتح القرى ، فتحت مكة بالمدينة ، وما حول المدينة بها ، لا أنها تأكلها أكلا إنما تفتح القرى بالمدينة [ ] .
وقد أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى تفسير عدد من النصوص على غير ظاهرها ، فمن ذلك حديث [من غشَّنا فليس منا] وحديث [من حمل السلاح علينا فليس منا] ، قال أحمد: على التأكيد والتشديد [ ] . ومن ذلك حديث [ثلاث من كن فيه فهو منافق] ، قال أحمد: هذا على التغليظ[ ] .
8 ـ  واستمع إلى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين كيف فهم من بعض الظواهر القرآنية شيئاً ، ثم خشي أن لا يكون ما فهمه من الآيات الكريمة هو المعنى المراد منها فراح يؤولها . قال رحمه الله: بقي أن يقال: إذا صح ما ذكر من إنزال المركبة الفضائية على سطح القمر فهل بالإمكان إنزال إنسان على سطحه؟ فالجواب أن ظاهر القرآن عدم إمكان ذلك ، وأن بني آدم لا يحيون إلا في الأرض ، يقول الله تعالى [فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ][ ] ،.. ونحو هذه الآية قوله تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] [ ]، . فالواجب أن نأخذ بهذا الظاهر . ثم قال: [ولو فرض أن أحداً من بني آدم تمكن من النـزول على سطح القمر وثبت ذلك ثبوتاً قطعياً أمكن حمل الآية على أن المراد بالحياة المذكورة: الحياة المستقرة الجماعية ، كحياة الإنسان على الأرض] [ ] .
9 ـ فإذا وجدنا عند الأشاعرة أن من أصول الكفر التمسكَ في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية ؛ فلنعلم أن هذا لصدِّ تخرُّصات الزنادقة الذين يريدون زعزعة عقائد عوام المسـلمين ، محتجين بمثل قـوله تعالى [ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ] [ ] ، وبنحو ذلك من النصوص التي يريدون فهمها من ظواهـر الألفاظ المقطوعة عن سـياقها ، أما فهم النص في ضوء سـياقه بصرفه عما يظهر من معاني مفرداته فهذا أمر متفق عليه ، ويكفينا في هذا الباب ما تقدم عن الإمـام أحمد ابن حنبل ـ رحمه الله ـ .
10ـ  ذكر السنوسي في كتابه المقدمات أن [من أصول الكفر والبدع التمسك في عقائد الإيمان بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير تفصيل بين ما يستحيل ظاهره منها وما لا يستحيل] . ثم قال في الشرح : أما الكفر فكأخذ الثنوية القائلين بألوهية النور والظلمة من قوله تعالى [اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] [ ] وأن النور أحد الإلهين واسمه الله ، ولم ينظروا إلى استحالة كون النور إلهاً لأنه متغير حادث [ ] .
فانظر ـ رعاك الله ـ  كيف فسَّر السنوسي كلامه وتأمل المثال الذي ذكره ، والمرء أدرى بمرامي قوله ومقاصد نفسه .
 
قال الباحث: 
[صَّرح متكلموالأشاعرة أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض...] .

أقول:
1ـ  المعروف عند الأشاعرة وغيرهم أن نصوص الكتاب والسنة بعضها قطعي الدلالة وبعضها ظني الدلالة ، فنقـلُ الباحث بأنهم صرحوا بأن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة غير صحيح بهذا الإطلاق .
ومن الآيات القرآنية الكريمة القطعية الدلالة قوله تعالى [ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ][ ] ، [لَوْ  كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا] [ ] ، [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ  كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] [ ] , [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ][ ] ، [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ][ ] ، وغيرها كثير ، فهل قال أحد من الأشاعرة إن دلالتها ظنية؟ !! .
2ـ عزا الباحث إلى متكلمي الأشاعرة أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشرة عوارض ، ومنها الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك … والمعارض العقلي.
لا بد من تدبر القول لفهم معناه ، فما معنى هذا الكلام؟ 
معناه أن النصوص لا تفهم بمجرد فهم معاني المفردات والتراكيب، بل هناك شيء آخر لا بد منه ، وهو فَهم الأساليب .
فمثلا قال الله تعالى في قصة عاد: [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ] [ ] فهل دمرت الريح كل شيء؟ .
قد يأتي من يدعي أنه يحمل راية الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ويقول: نعم ، إن الريح التي أرسلت على عاد حملت إليهم العذاب الأليم ، ودمرت كل شيء ، ومن لم يعتقد هذا فهو كافر ، وأقل ما يقال فيه إنه مبتدع ضال مضل لا يؤمن بأن نصوص الكتاب والسنة تفيد اليقين!!! .
فيقال له: على رسلك  ـ عافاك الله ـ  ففي الآية إضمار .
فيقول: وما الإضمار؟ ! ، لا إضمار في النصوص ، وعندنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفيهما الهدى .
فيقال له : بلى ، إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نرضى عنهما بديلاً ، ولكن في قوله تعالى [تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ]  إضمار ، والتقدير: تدمر كل شيء قابل للتدمير بالريح ، لا كل شيء على الإطلاق.
فيقول: وما الدليل على ذلك؟ .
فيقال له : إن الريح دمرتهم ودمرت مواشيهم وزروعهم ، ولم تدمر مساكنهم ، بدليل قوله تعالى [فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ] [ ] ، أي إن المساكن بقيت ولم تدمر. فتفكر وتدبر . 
3 ـ  هذا وقد أوّل الإمام أحمد رحمه الله قول الله عز وجل [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ][ ] بقوله: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هلك ، والجنة والنار خلقتا للبقاء[ ] .
4 ـ ولُيعلم أن بعض الأشاعرة قال عن الدلائل النقلية [في إفادتها اليقينَ في العقليات نظر] ، ومعناه أن النصوص  ـ منفردة ـ  لا تفيد اليقين في العقليات ، بل لا بد من تضافرها مع الدلالة العقلية .
5ـ  ممن رد على القائلين بأن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين: الإمام الرازي ، حيث يقول: [اختلف العقلاء في أن التمسك بالدلائل النقلية هل يفيد اليقين أو لا؟ فقال قوم: إنه لا يفيد اليقين البتة] . ثم قال : [واعلم أن هذا الكلام على إطلاقه ليس بصحيح ، لأنه ربما اقترن بالدلائل النقلية أمور عرف وجودها بالأخبار المتواترة وتلك الأمور تنفي هذه الاحتمالات ، وعلى هذا التقدير تكون الدلائل السمعية المقرونة بتلك القرائن الثابتة بالأخبار المتواترة مفيدة لليقين] [ ] .
ويقول تاج الدين السبكي الذي وصفه الباحث بالأشعري المتعصب: والحق أن الأدلة النقلية قد تفيد اليقين بانضمام تواتر أو غيره [ ] .
قال الباحث:
[موقفهم من السنة خاصة أنه لا يثبت بها عقيدة ، بل المتواتر منها يجب تأويله ، وآحادها لا يجب الاشتغال بها حتى على سبيل التأويل ، حتى إن إمامهم الرازي قطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء ، وأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة ...] . 


أقول:
1ـ عزا الباحث إلى الأشاعرة أن السنة النبوية لا تثبت بها عقيدة عندهم ، وهذه دعوى عارية عن الدليل . ومما يؤكد عدم صحتها إثبات الأشاعرة عددا من مسائل العقيدة بالسنة ، كالإيمان بعذاب القبر ، والصراط ، والحوض ، والشفاعة في أهل الكبائر.
قال إمام الحرمين : [والصراط ثابت ، على حسب ما نطق به الحديث ، وهو جسر ممدود على متن جهنم ،... والميزان حق ، وكذلك الحوض ، والكتب التي يحاسب عليها الخلائق، ولا تحيل العقول شيئا من ذلك ، ودلالة السمع ثابتة على قطع في جميع ما ذكرناه][ ] .
وقال خلال كلامه عن الشفاعة: [فإذا ثبت جواز التشفيع عقلا فقد شهدت له سنن بلغت الاستفاضة ،فمن رامها ألفاها منقولة ، ثم هي مصرحة بالتشفيع في أهل الكبائر ...  , وفيما ذكرناه ردٌّ على فئة صاروا  إلى أَن الشفاعة ترفع الدرجات ولا تحط السيئات ، فإن الأخبار المأثورة شاهدة بتعلق الشفاعة بأصحاب الكبائر] [ ] .
ولكن الأشاعرة يشترطون أن تكون السُّنة متواترة حتى تكون حجة في العقيدة ، وهذا كاف في عدم صحة قول الباحث [بل المتواتر منها يجب تأويله] .
2ـ  الأحاديث الآحادية لا تثبت بها عقيدة عند الأشاعرة ، ولكن هذا لم يمنع أن تكون كتب العقيدة عندهم مشتملة على كثير منها ، وذلك في تفاصيل عقيدة ثبت أصلها بنص متواتر تواترا ً لفظياً أو معنوياً .
والأحاديث الآحادية التي يحتج بها غيرهم يوردونها ، ويؤولونها إذا علموا صحة سندها أو كان هناك احتمالٌ أنها رويت بسند صحيح ، وهذا إذا كانت مخالفة لما ثبت لديهم من أصول العقائد ، أما إذا علموا ضعف الحديث أو نكارته فإنهم يردونه ولا يشتغلون بتأويله .
والأحاديث الآحادية وإن كانت ليست بحجة عندهم في إثبات العقائد إلا أنهم لا يتركونها بالمرة ، ولو كانت لا تستحق الاشتغال بتأويلها لما ألّف ابن فورك كتاباً مستقلاً في ذلك سمّاه [تأويل مشكل الحديث] .
ويوضح هذا المنحى كلام إمام الحرمين إذ يقول عن أدلة قوم هو مخالف لهم فيها: [وأما الأحاديث التي يتمسكون بها فآحاد لا تفضي إلى العلم ، ولو أضربنا عن جميعها لكان سائغاً ، لكنا نومئ إلى تأويل ما دوّن منها في الصحاح] [ ] .
وقال إمام الحرمين عن استدلال أصحاب الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام [الإيمان بضع وسبعون شعبة] على دخول الأعمال في مسمى الإيمان: [وأما الحديث فهو من الآحاد ، ثم هو مؤول ، والعرب قد تسمي الشيء باسم الشيء إذا دل عليه أو كان منه بسبب] [ ] .
وقال إمام الحرمين عن حديث [إن الله خلق آدم على صورته]: [ويمكن صرف الهاء إلى آدم نفسه ، ومعنى الحديث على ذلك أن الله تعالى خلق آدم بشراً سوياً من غير والد ولا والدة] . ثم قال: [ومن أحاط بما ذكرناه لم يصعب عليه مدرك تأويل ما يُسأل عنه ، بعد التثبت وعدم الابتدار إلى تأويل ما يُسأل عنه من مناكير الأخبار] [ ] .
3ـ  أما زعْم الباحث بأن الإمام الرازي قطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم سواء: فهذا محض توهم ، ولا أدري كيف يقدِم الباحث على مثل هذا؟ .
والذي قاله الرازي يختلف تمام الاختلاف عما نسبه الباحث إليه ، إذ قال: [أخبار الآحاد مظنونة ... لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين ... , وإذا لم يكونوا معصومين كان الخطأ عليهم جائزاً والكذب عليهم جائزاً]. ثم قال عن روايات الصحابة: [لا تفيد القطع واليقين] [ ] .
وإنما جعل الرازي روايات الصحابة لا تفيد القطع واليقين لأنها آحادية ، حيث قال هذا في معرض حديثه عن الروايات الآحادية ، ولا شك عنده وعند غيره في أنها تفيد القطع واليقين إذا تواترت .
وقول الرازي بعدم عصمة الرواة فهذا مجمع عليه ما دامت الرواية لم تصل حد التواتر ، ولكن الباحث حمّل النص فوق ما يحتمل ، وجعله في الصحابة ، بل في الصحابة كلهم حسب ادعائه ، لا من حيث حفظهم فقط ، بل من حيث عدالتهم وحفظهم ، ليقول بذلك للقارئ: إن الرازي يشك في عدالة الصحابة كلهم !!! .
أهكذا تكون الأمانة العلمية؟ !! .
4ـ  أما قول الباحث بأن الإمام الرازي قطع بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة فالذي وجدته عند الرازي يختلف عن هذا القول .
قال الرازي عن البخاري ومسلم: [نحسن الظن بهما وبالذين رويا عنهم ، إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر لا يمكن إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قطعنا بأنه من وضع الملاحدة ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين] [ ] .
والفرق بين الأمرين واضح ، فالرازي يحسن الظن بالبخاري ومسلم وبالرواة الذين رويا عنهم ، ثم يضع قضية افتراضية ، وهي أننا إذا وجدنا خبراً مشتملاً على معنى منكر لا  يمكن إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما موقفنا منه؟ ؟ ويوضح موقفه من ذلك ، وهو الجزم بأن ذلك الخبر من وضع الملاحدة ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين ، والذي يقوله الباحث هو أن الرازي يجزم بوجود أحاديث في الصحيحين من وضع الزنادقة !!!.
وشتان بين الافتراض وبين الجزم بوقوع الأمر.
بل إن الإمام الرازي رحمه الله لما استشكل حديثاً من أحاديث الصحيحين وهو [إن الله لا يخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى] ؛ لم يقل عنه إنه موضوع ، ولا قال وضعته الزنادقة ، وحاول أن يجد مخرجاً من هذا الإشكال ، وقال: [وأما هذا الخبر الذي رويته فمشكل ، لأن ظاهره يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الفرق بين الإله تعالى وبين الدجال بكون الدجال أعور وكون الله تعالى ليس بأعور ، وذلك بعيد ، وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يُعتقد أن الكلام كان مسبوقاً بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال] [ ] .
5ـ  نسي الباحث أو تناسى أن ابن تيمية رحمه الله قد يتوقف عن الأخذ بالحديث الآحادي في العقيدة بحجة كونه ليس متواتراً ، واستمع إليه يقول عن حديث [كان الله ولم يكن شيء غيره]: [وهذا الحديث لو كان نصاً فيما ذُكر فليس هو متواتراً] [ ] . وهذا إقرار ضمني من ابن تيمية رحمه الله بما ذهب إليه الجمهور من أن غير المتواتر ليس بحجة مستقلة في العقائد ، وإلا فلم غمز الحديث بعدم التواتر؟ !! .
6 ـ نسي الباحث أو تناسى أن ابن تيمية  ـ رحمه الله ـ  يقول : [ وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن ] [ ] .
7 ـ  نسي الباحث أو تناسى أن ابن تيمية رحمه الله يقول: [والكذب كان قليلاً في السلف ، أما الصحابة فلم يعرف فيهم  ـ ولله الحمد ـ  من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ... ، وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس ، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم ، ولهذا كان فيما صُنف في الصحيح أحاديث يُعلم أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يُعلم أنه حق] [ ] . وتأمل قوله [جمهور متون الصحيحين] .
فخفف من حملتك على الإمام فخر الدين الرازي ، وعليك بالعدل ولزوم الإنصاف ، ولا تكل بمكيالين ، وتذكر قول الله جل وعلا [وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ] [ ] .
 
قال الباحث: 
[تقرأ في كتب عقيدتهم قديمها وحديثها المئة صفحة أو أكثر فلا تجد فيها آية ولا حديثاً ، لكنك قد تجد في كل فقرة قال الحكماء أوقال المعلم الأول أوقالت الفلاسفة ونحوها] .

أقول:
هذا غير صحيح ، فكتب الباقلاني والمتولي والعز ابن عبد السلام مثلا مشحونة بالآيات والأحاديث ، وكتب الرازي والآمدي وغيرهما فيها الكثير من الآيات والأحاديث . 
والسبب في التركيز على الأدلة العقلية أكثر من الأدلة النقلية في تلك الكتب هو أنها وضعت لمجادلة المخالفين ، وهؤلاء لا بد من مقارعتهم بالأدلة العقلية في الدرجة الأولى ، ولا شك في أن القرآن الكريم مشتمل على أقوى الحجج العقلية ، والأشاعرة أخذوها وصاغوها صياغة أخرى على الطريقة التي يفهمها الخصوم وناظروهم بها.
أما اشتمال كتب الأشاعرة على نقل أقوال الفلاسفة: فما وجدوه مخالفاً للحق ذكروه للرد عليهم ، وما رأوه موافقاً للحق ذكروه للاستئناس .
وإذا أردت أن تعرف أن الباحث يتجنى على كتب الأشاعرة في قوله [لا تجد آية ولا حديثاً في المئة صفحة] ، فارجع إلى كتاب الإنصاف للباقلاني ، ففيه مئة وسبعون صفحة تقريباً ، واشتمل على أكثر من أربعمئة آية وأكثر من مئة حديث ، ولك الحق في أن تتأمل وتتعجب!!! .
أما المختصرات التي حذفت منها الأدلة فشأنها شـأن المختصرات الفقهية التي حذفت منها الأدلة اكتفاء بما في كتب المتقدمين ، أفيصح أن يقال إنها ليس لها أدلـة من الكتاب والسـنة ؟؟!! .
 
قال الباحث:
[مذهب طائفة منهم وهم صوفيتهم كالغزالي والجامي في مصدر التلقي هو تقديم الكشف والذوق على النص ، وتأويل النص ليوافقه ، وقد يصححون بعض الأحاديث ويضعفونها حسب هذا الذوق] .

أقول:
1ـ تقديم الكشف والذوق على النص هراء لا يقول به مسلم عاقل ، لكن هل هذا مما يلحق الأشاعرةَ إثمه ؟! وهل يصح أن ينسب إلى الأشاعرة؟ !! . هذا في واد ، والأشاعرة في واد آخر.
ويكفي أن أنقل هنا قول تاج الدين السبكي إذ يقول: [الإلهام إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، يخص به الله تعالى بعض أصفيائه ، وليس بحجة ، لعدم ثقة من ليس معصوماً بخواطره ، خلافاً لبعض الصوفية] [ ] .
وقد قال الإمام أبو حفص النسفي الماتريدي المذهب: [والإلهام ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق] [ ] .
فالأشاعرة والماتريدية برآء من هذه النحلة وأهلها.
ويبدوأن الباحث ـ غفر الله له ـ لا يفرق بين الأشاعرة والصوفية ، كما لا يفرق بين الصوفية وبعض الصوفية ، وأن الكل عنده سواء !!! .
2 ـ  من المعلوم أن بعض متأخري الصوفية يصححون بعض الأحاديث بالكشف ، ولكن لم أسمع أنهم يقدمون الكشف والذوق على النص ويؤولون النص ليوافقه ، فإن افترضنا وقوع مثل هذا من بعضهم فهو مردود عليه ، وهو دليل جهله وضلاله .
3 ـ  أختم هذه الفقرة بما قاله الإمـام أبو بكر محمد بن إسـحاق الكلاباذي المتوفى سـنة (380هـ) ، وهو من أعرف الناس بمذاهب الصوفيين ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، قال رحمه الله: [أجمعوا أن جميع ما فرض الله تعالى على العباد في كتابه وأوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرض واجب وحتم لازم ، على العقلاء البالغين ، لا يجوز التخلف عنها ، ولا يسع التفريطُ فيها بوجه من الوجوه لأحد من الناس من صدّيق وولي وعارف وإن بلغ أنهى المراتب ، وأعلى الدرجات ، وأشرف المقامات ، وأرفع المنازل] [ ] . وقال في وصف الصوفيين: [وهم أشفق الناس على خلق الله ... , وأكثرهم طلباً للسنة والآثار ، وأحرصهم على اتباعها] [ ] . فمن لم يكن أكثر الناس طلباً للسنة والآثار وأحرصهم على اتباعها وادعى أنه من الصوفيين فقوله ـ عند هؤلاء المحققين ـ باطل ودعواه كاذبة .
وبما قاله أحـد كبـار الصوفيين وهو الإمـام عبدالكريم بن هو ازن القشيري المتوفى سـنة (465هـ) ، فقد قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]: [الصراط المستقيم ما عليه من الكتاب والسنة دليل ، وليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل ، الصراط المستقيم ما شهدت بصحته دلائل التوحيد ، ونبهت عليه شواهد التحقيق ، الصراط المستقيم ما درج عليه سلف الأمة ، ونطقت بصوابه دلائل العبرة] [ ] .
 ثم بما قاله أحـد كبـار الصوفيين وهو أبو حفص عمر بن محمد  السَّـهرَوَردي المتوفى سنة (632هـ) ،  فقد قال   رحمه الله: [وكل علم لا يوافق الكتاب والسنة وما هو مستفاد منهما  أو معين على فهمهما  أو مستند إليهما ـ كائناً ما كان ـ  فهو رذيلة وليس بفضيلة ، يزداد الإنسان به هواناً ورذالة في الدنيا والآخرة] [ ] .
ثم بما قاله أحد كبار أئمة التصوف وهو السيد أحمد الرفاعي المتوفى سنة (578 هـ) ، فقد قال رحمه الله: [إذا رأيتم واعظاً أو قاصَّاً أو مدرساً فخذوا منه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة الدين الذين يحكمون عدلاً ويقولون حقاً ، واطرحوا ما زاد ، وإن أتى بما لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا به وجهه] [ ] .
فهذا كلام أهل التحقيق والرسوخ من الصوفيين ، ومن قال بخلاف هذا فاضربوا به وجهه .
الموضوع الثاني :         إثبات وجود الله

قال الباحث:
[أما الأشاعرة فعندهم دليل يتيم ، هو دليل الحدوث والقدم ، وهو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث وكل حادث فلا بد له من محدث قديم] .

أقول:
أوضح الأشاعرة في كتب العقيدة عدداً من الأدلة على وجود الله تعالى ، وليس ما نقله الباحث عنهم هو الدليلَ الوحيد .
1ـ  ذكر الباقلاني عددا من الأدلة ، ومنها قوله: [فإنا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حصلت بنفسها لا من كاتب ، وصناعة لا من صانع ، وحياكة لا من ناسج ، وإذا صح هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ومحدث أحدثها ، إذ كانت ألطف وأعجب صنعاً من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع] [ ] .
وقال الباقلاني: [وإن أردتم بقولكم ما هو: ما الدلالة على وجوده؟ فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره] [ ] .
2ـ  قال المتولي: ومن الدليل على إثبات الصانع أنه لا يتصور في العقول بناء بلا بانٍ وكتابة بلا كاتب ، فكيف يتصور خلق بلا خالق؟ ! ويتضح ذلك بآيات من كتاب الله تعالى [أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] [ ] , وقوله تعالى [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] [ ] وغير ذلك من الآيات[ ] .
3ـ  ذكر الرازي أربعة براهين على وجود الله تعالى من الأدلة العقلية الكلامية ثم قال: [أما دلائل الآفاق فبعضها سفلية عنصرية ، ومجامعها الاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والمعادن ، وبعضها علوية فلكية ، ومجامعها الاستدلال بأحوال الأفلاك والكواكب، والاستقصاء في هذا النوع من الدلائل مذكور في القرآن العظيم ، مشروح في كتابنا المسمى بأسرار التنزيل وأنوار التأويل][ ].
وفي هذا النص إشارة إلى أن الدلائل على وجود الله تعالى نوعان: الأدلة العقلية الكلامية ، ودلائل الآفاق ، والأشاعرة يذكرون في كتب العقيدة الأدلة الكلامية على طريقة المتكلمين الفلاسفة ، لإفحام ملاحدة الفلاسفة بالطرق الفلسفية التي يفهمونها ، والتي لا يخضعون إلا لها ، من باب محاربتهم بسلاحهم ، ولا ينكرون دلائل الآفاق ، بل يقررونها ويشرحونها في كتب التفسير .
وقال الرازي رحمه الله: [الناس قد توصلوا إلى إثبات واجب الوجود بطرق ... ، ومن الناس من اعتمد على الإحكام والإتقان المشاهَدَين في السماوات والأرضين ، وخاصة في تركيب بدن الإنسان وما فيه من المنافع الجليلة والبدائع الغريبة ، التي تشهد فطرة كل عاقل بأنها لا تصدر إلا عن تدبير حكيم عليم ، وهذه الطريقة دالة على الذات وعلى العالِمية ، وهي طريقة من تأملها ورفض عن نفسه المقالات الباطلة وجد نفسه مضطرة إلى الاعتراف بإثبات المدبر عند مشاهدة خلقة أعضاء الحيوان] [ ] .
 
4ـ  قال الدردير في منظومته في العقيدة:
فاعلم بأن الوصف بالوجودِ من واجبات الواحد المعبودِ
إذْ ظــاهر بأن كل أثـرِ يهـدي إلى مؤثر،فاعتـبر ِ [ ]

فأنت ترى أن الدردير رحمه الله لم يسلك مسلك اللقاني في الجوهرة ، الذي ذكر دليل الحدوث والقدم .
5ـ  واعلم أن الاستدلال على وجود الله تعالى بحدوث الكون لإفهام ملاحدة الفلاسفة وإفحامهم أمر ليس مقصوراً على الأشاعرة وحدهم ، بل إن ابن تيمية رحمه الله يستخدم الدليل ذاته في مثل هذا الموقف ، واستمع إليه يقول:قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه ، إذ نحن نشاهد حدوث المحدَثات كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ، ليس بواجب ولا ممتنع ، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَثَ لا بد له من محدِث ، والممكن لا بد له من موجِد ، كما قال تعالى [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ] [ ] ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقاً خلقهم [ ] . 
وقال قبله شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى: [وجميع ما في العالم محدثة جواهره وأعراضه وأجسامه ،.... وإذا ثبت أن جميع ذلك محدَث فلا بد له من محدِث أحدثه وصانع صنعه][ ].
 
قال الباحث:
[وأخَص صفات هذا القديم ـ عند الأشاعرة ـ مخالفته للحوادث وعدم حلولها فيه ، ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا في مكان ، ..... وقد رتبوا عليه ... ، بشبهة نفي حلول الحوادث في القديم ونفي الجوهرية والعَرَضية والجهة والجسمية ، إلى آخر المصطلحات البدعية] .

أقول:
إنّ الله تبارك وتعالى له القِدم المطلق ، أي لا بداية لوجوده ، بل هو الأول ، وما سواه حادث ، أي له بداية ، والله تعالى هو الخالق ، والحوادث كلها مخلوقة ، والله تعالى لا يحل في شيء من مخلوقاته ، ولا يحل فيه شيء من مخلوقاته ، فلا يحل في الحوادث ، ولا تحل فيه الحوادث ، ولا أدري لم يضيق صدر الباحث بقول الأشاعرة  إن الله تعالى لا تحل فيه الحوادث؟! .
والحوادث المخلوقة مركبة من الجواهر والأعراض ، والجوهر: هو المتحيز ، أي له حجم بحيث إنه يأخذ من الفراغ بقدر حجمه ، والعَرَض: هو المعنى القائم بالجوهر ، كالألوان والطعوم والروائح ، والجسم: هو المتألف من الجواهر [ ] .
والله تبارك وتعالى منـزه عن أن يكون جوهراً أو جسماً أو عَرَضاً ، ولا أدري لم يضيق صدر الباحث بهذا القول إذ ينعته بالمصطلحات البدعية؟ ! .
ولما كان من لوازم الجسمية كون الجسم في مكان وكونه بالنسبة إلى أي جسم آخر في جهة من جهاته ، فالله تعالى منزه عن التحيز في مكان وعن كونه في أية جهة مكانية من الجهات بالنسبة إلى أي مخلوق من المخلوقات [ ] .
ومما يترتب على إثبات المكان والجهة للموجودات ثبوت المسافة والقرب أو البعد المكاني بينها ، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك.
وكأن الباحث يضيق صدره بتنـزيه الله تعالى عن المكان والجهة المكانية وثبوتِ المسافة والقربِ والبعدِ المكاني بين الله تعالى وبين المخلوقات !!! .
فهل إثبات هذا هو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين المهديين؟!!! ، أو إنه يريد أن يصل إلى أن من على رأس الجبل أقرب إلى الله ممن في قعر الوادي؟ !! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
 
ثم قال الباحث:
[.... مثل إنكارهم لكثير من الصفات ، كالرضى والغضب والاستواء] .

أقول:
1ـ  لم ينكر الأشاعرة رِضَا الله تعالى عمن رضي عنهم ولا غضبه على من غضب عليهم ، وكيف ينكرون ما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟ !! ومن نسب إليهم إنكار ذلك فهو مخطئ ، لأن الإنكار نفي الشيء ، والأشاعرة فسروهما بما يخالف طريقة الباحث ، فنسب إليهم الإنكار!!!.
قال الباقلاني: [وغضبه تعالى على من غضب عليه ورضاه عمن رضي عنه هما إرادته لإثابة المرضيِّ عنه وعقوبةِ المغضوب عليه ، لا غير ذلك ،... وكذلك الحب والبغض والولاية والعداوة هو نفس الإرادة للنفع والإضرار فقط] [ ] .
وقال الباقلاني فيما يجب اعتقاده: [وأنه سبحانه لم يزل مريداً وشائياً ، ومحباً ومبغضاً ، وراضياً وساخطاً ، وموالياً ومعادياً ، ورحيماً ورحماناً ، ولأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته ، لا إلى غضبٍ يغيره ، ورضى يسكّنه طبعاً له ، وحَنَقٍ وغيظ يلحقه ، وحقد يجده ، إذْ كان سبحانه متعالياً عن الميل والنفور] [ ] .
وقال البيهقي: [الرضى والسخط عند بعض أصحابنا من صفات الفعل ، وهما عند أبي الحسن يرجعان إلى الإرادة ، فالرضا إرادته إكرامَ المؤمنين وإثابتهم على التأبيد ، والسخط إرادته تعذيبَ الكفار وعقوبتهم على التأبيد ، وإرادته تعذيب فساق المسلمين إلى ما شاء] [ ] .
وقال شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلي: [ويجوز وصفه بالغضب والرضى ، .... وهما إرادته لإثابة المرضيّ عنه وعقوبة المغضوب عليه] [ ] .
2ـ  لم ينكر الأشاعرة الاستواء ، وكيف ينكرون ما ثبت في آيات كريمات في كتاب الله تعالى؟ !! .
لكن لما رأى الباحث أن الأشاعرة يفسرون هذه الآيات الكريمات على غير فهمه نسب إليهم الإنكار ، وما ذاك إلا لتسرعه في الحكم ، فالتفسير والتأويل المعتمد على دليل شيء ، والإنكار شيء آخر .
قال الباقلاني:وأن الله جل ثناؤه مستو على العرش ومستول على جميع خلقه ، كما قال تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] [ ] ، بغير مماسَّة وكيفية ولا مجاورة [ ] .
وقال الغزالي: [وأنه مستوعلى العرش ، على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواءً منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش ، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته] . ثم قال: [تعالى عن أن يحويه مكان ، كما تقدَّس عن أن يحده زمان ، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان ، وهو الآن على ما عليه كان] [ ] . 
ونحوه قول العز ابن عبد السلام [ ] .
وقد أوَّل بعض الأشاعرة العرش المذكور في آيات الاستواء ، فقال أبو منصور البغدادي: [والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك ، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره] [ ] .
وقال إمام الحرمين: [حَمْلُ الاستواء على القهر والغلبة ... شائع في اللغة ، إذ العرب تقول استوى فلان على الممالك  إذا  احتوى على مقاليد الملك واستعلى على الرقاب ، وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية ، فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه ، فإن قيل الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة ؛ قلنا: هذا باطل ، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر][ ].
وهذا يعني أن الله تعالى موصوف بأنه القهار ، ولا يقتضي ذلك وجود مغالب له كي يَظْهر قهرُه  إياه ، فكذلك استواؤه واستعلاؤه على عرش ملكه .
قد تختلف  ـ أيها الباحث ـ  مع من أَوَّلَ العرش في آيات الاستواء من الأشاعرة ، ولكنك لا تستطيع أن تقول إنهم أنكروا العرش أو الاستواء على العرش .
 
الموضوع الثالث :               التوحيد

قال الباحث:
[أما الأشاعرة فالتوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة ،... وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعين ، لأنها تدل على التركيب والأجزاء عندهم] .

أقول:
1ـ الأشاعرة يؤمنون بأن الله تعالى واحد ، وينفون التثنية والتعدد ، فذكرك لهذا مع زعمك أنهم يختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات يعني أنك مخالف لهم في ذلك ، فهل أنت مخالف لهم في ذلك حقيقة؟ ؟ !! ومثله نفي التبعيض والتركيب والتجزئة؟ ؟ ! فهل تعتقد ـ أيها الباحث المسكين ـ أن الله تعالى مركب من أجزاء وأبعاض؟ !! فارجع ـ هداك الله ـ إلى عبارتك فقوّمها .
أما إذا كانت مخالفتك لهم لأنك تظن أنهم أنكروا بعض الصفات فهذا موضوع آخر .
2 ـ الأشاعرة ينكرون الوجه واليد والعين الحسيات المشاركات لوصف المخلوق في الجسمية ، وينكرون على من يتوهم أن الله تعالى مركب منها ومن سواها ، فالمركَّب لا بد له من مركِّب ركبه ،كما أن المصوَّر لا بد له من مصوِّر صوره ، والله تعالى منـزه عن أن يكون مركَّباً مصوَّراً ، لأن هذه صفة المخلوقات . قال الله تعالى: [فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ][ ] ، وقال سبحانه وتعالى: [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ] [ ] ، وقال تعالى: [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ][ ] .
فهل تعتقد  ـ هداك الله ـ  أن الله تعالى له وجه ويد وعين حسّيّات وأنها أجزاء من الله تعالى؟ !!! . أو إنك لا تقول إنها محسوسة ولكن الله تعالى مركب منها ومن سواها؟ !!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
إذا كنت تعتقد ذلك فارجع إلى كتاب الله جل ثناؤه ففيه الهدى ،  فقد قال الله تعالى:  [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ] [ ] ، وقال تعالى: [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ] [ ] , فالمخلوقات كلها إلى هلاك وفناء ، والخالق جل جلاله هو الباقي ، وهو الذي يفنيها إذا شاء ، ويعيدها في الوقت الذي يشاء ، هذا حسب فهم الأشاعرة من كتاب الله وسنة رسوله ، أما على فهمك فيلزمك أن الله سبحانه وتعالى يهلك ويُفني اليد والعين وسائر الأجزاء إلا الوجه!!! تعالى ربنا وتنزه وتقدس عن أفهام من ينسب له الأجزاء والأبعاض ومن يتوهم على صفات ذاته الهلاك والفناء.
ولا تنـزعج  ـ أيها الباحث المسكين ـ  من نفي الأشاعرة الجزئيةَ عن الله عز وجل وردِّهم على أصناف الكفرة الذين يثبتونها ، وارجع إلى كتاب الله عز وجل لتعلم أن الله تعالى قد رد على من أثبتوها له بقوله [وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ] [ ] .
هذا وقد نفى ابن تيمية رحمه الله عن الله تعالى ما نفاه عنه الأشاعرة هنا ، إذ قال : [فإن الله سبحانه أحد صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فيمتنع عليه أن يتفرق  أو يتجزأ  أو يكون قد ركب من أجزاء ] [ ] .
وقال شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى:  [فأما وصفه بأنه واحد فإنه يرجع إلى نفي الشريك وأنه لاثاني له ، وإلى نفي التجزؤ والانقسام عن ذاته] [ ] .
3ـ  يعرِّض الباحث بالأشاعرة الذين يصفهم بأنهم أنكروا بعض الصفات ، ومنها اليد والعين ، مما يعني أنه يثبتها.
والله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ] [ ] ، ويقول تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] [ ] ، فكيف يثبت الباحث لخالقه جل وعلا اليد ولا يثبت له الأيدي؟!! ويثبت له العين ولا يثبت له الأعين؟!!! .
4ـ  الأشاعرة لا ينكرون الوجه أو اليد أو العين ، إذ كيف ينكرون ما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟ !!. وشتان بين التفسير وبين الإنكار ، ولهم في تفسيرها قولان :
قال الباقلاني: [وأخبر أنه ذو الوجه الباقي ، .. واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن ، ... وأنهما ليستا بجارحتين ولا ذَوَيْ صورة وهيئة ، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن ، .. وأن عينه ليست بحاسة من الحواس ، ولا تشبه الجوارح والأجناس] [ ] .
أما إمام الحرمين فقد نحا منحى آخر ، حيث يقول: [ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى والسبيلَ إلى إثباتها السمع دون قضية العقل ، والذي يصح عندنا: حمل اليدين على القدرة ، وحمل العين على البصر ، وحمل الوجه على الوجود] ، ثم قال:وأما قوله تعالى [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ] [ ] فلا وجه لحمل الوجه على صفة ، إذ لا تختص بالبقاء بعد فناء الخلق صفة لله تعالى ، بل هو الباقي بصفاته الواجبة [ ] .
 
قال الباحث:
[أما التوحيد الحقيقي وما يقابله من الشرك ومعرفتُه والتحذيرُ منه فلا ذكر له في كتب عقيدتهم إطلاقاً ، ولا أدري أين يضعونه؟ أفي كتب الفروع؟ فليس فيها ، أم يتركونه بالمرة؟ فهذا الذي أجزم به] .

أقول:
1ـ  أنت لم تطلع على كتبهم كلها ، فما كان ينبغي لك أن تجزم بالنفي ، واعلم أن الحالف والجازم يحلف ويجزم في حالة الإثبات على ما يعلمه ثابتاً ، ويحلف ويجزم في حالة النفي على نفي علمه بالشيء ، ولا يحلف ولا يجزم في هذه الحالة على البت والقطع ، فإذا كنت لا تدري هل ذكروا هذه المسألة أو لا؟ أو لا تدري أين يضعونها؟ فقل: [هذا الذي وقفت عليه من كتبهم]، أو [هذا الذي أظنه] ، ولا تقل [هذا الذي أجزم به].
2ـ  اعلم أن الأشاعرة مُقِـرُّون بأنه لا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع إلا الله ، وبأنه لا يستحق العبادة إلا الله ، ومن عجائب التسرع وسوء الفهم أن ينسب هذا الباحث المسكين إليهم القول بالشطر الأول دون الثاني ، لأنه لم يجد أنهم يذكرون انفراد الله تبارك وتعالى باستحقاق العبادة ، لا في كتب العقيدة ولا في كتب الفروع .
والأشاعرة يؤصلون أصول العقائد الإسلامية في كتب العقيدة ، ويردون على أصناف الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى رباً ولا بالإسلام ديناً ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، فإذا  آمن المرء بالله تعالى وبأن القرآن كلام الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله فمن المعلوم بداهة أن لا يتوجه بالعبادة إلا إلى الخالق جل جلاله .
وارجع إلى كتب التفسير التي كتبها الأشاعرة لتجد أنهم ينصون على انفراد الله تبارك وتعالى باستحقاق العبادة ، والتحذير من أصناف الشرك ، وخاصة اتخاذ شريكٍ مع الله تعالى في العبادة .
اقرأ مثلاً قول الإمام الرازي: [لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً][ ] .
واقرأ قوله: [سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ : أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً له ومعبوداً ، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال] [ ] .
واقرأ قوله كذلك... وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية ، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى [فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً] ، وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله [أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ] [ ] ، لأن قوله [ألا لله] يفيد الحصر [ ] .
وقال الإمام فخر الدين الرازي كذلك : قوله [إيّـاك نعبد] يدل على أنه لا معبود إلا الله ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله ، فقوله [إيّـاك نعبد وإيّـاك نستعين] يدل على التوحيد المحض. ثم قال: [كل من اتخذ لله شريكا فإنه لا بد وأن يكون مقدما على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه ، إما طلباً لنفعه ، أو هرباً من ضرره ، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله ، وخوفهم من الله ، ورغبتهم في الله ، ورهبتهم من الله ، فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ، ولم يستعينوا إلا بالله] [ ]. 
3ـ لو رجعت إلى كتب الباقلاني في العقيدة لأَلْفَيْتَهُ يشرح التوحيد بما يشمل توحيد الألوهية ، إذ يقول: [والتوحيد له هو الإقرار بأنه ثابت موجود ، وإله واحد فرد معبود ، ليس كمثله شيء] . ويقول: [ويجب أن يُعلم أن صانع العالم جلت قدرته واحد أحد ، ومعنى ذلك أنه ليس معه إله سواه ، ولا من يستحق العبادة إلا إياه] [ ] .
4ـ  ويقول الإمام النووي رحمه الله عن كلمة لا إله إلا الله: [وأفضل الأذكار بعد القرآن لا إله إلا الله ، ومعناها: لا معبود بحق في الوجود إلا الله] [ ] .
وقال الإمام المفسر أبو عبد الله القرطبي الأشعري العقيدة في مقدمة كتابه [التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة] ، قال رحمه الله عن كتابه هذا: [جعله الله خالصاً لوجهه ، ... ، لا رب سواه ، ولا معبود إلا هو، سبحانه] .
5ـ  وقال الإمام العز ابن عبد السلام بعد ذكر الصفات الواجبة لله تعالى: [فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ، ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه] . ثم قال: [ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما قررناه] [ ] .
6ـ  وقال الإمام السنوسي رحمه الله: [وأنواع الشرك ستة: شرك استقلال ، وهو إثبات إلهين مستقلين ، كشرك المجوس ، وشرك تبعيض ، وهو تركيب إله من آلهة ، كشرك النصارى ، وشرك تقريب ، وهو عبادة غير الله تعالى ليقرب إلى الله تعالى زلفى ، كشرك متقدمي الجاهلية ، وشرك تقليد ، وهو عبادة غير الله تعالى تبعاً للغير ، كشرك متأخري الجاهلية ، وشرك الأسباب ، وهو إسناد التأثير للأسباب العادية ، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم على ذلك ، وشرك الأغراض ، وهو العمل لغير الله تعالى ، وحكم الأربعة الأُوَل الكفر بإجماع ،وحكم السادس المعصية ، وحكم الخامس التفصيل ، ....] [ ] .
فالنوعان الأولان المذكوران هنا منافيان لتوحيد الربوبية ، وهما شرك الاستقلال وشرك التبعيض ، والنوعان التاليان لهما منافيان لتوحيد الألوهية ، وهما شرك التقريب وشرك التقليد ، ويقرر السنوسي أن الحكم في هذه الأنواع الأربعة هو الكفر ، وأن ذلك بالإجماع.
وقال السنوسي: [وحقيقة الإله هو الواجب الوجود المستحق للعبادة ، .. والمعنى على هذا لا مستحق للعبودية له موجوداً ـ أو في الوجود ـ إلا الفرد الذي هو خالق العالم جلّ وعلا ، ... لأنه لا يستحق أن يعبد ـ أي يذل له كل شيء ـ  إلا من كان مستغنياً عن كل ما سواه ومفتقراً  إليه كل ما عداه] [ ] .
وقال البيجوري: [ومعنى الإله: المعبود بحق ، ... وإذا كان معنى الإله ما ذكر كان معنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله] [ ] .
7ـ  فهل يحذر الأشاعرة من الشرك أو لا ؟؟! وهل يذكرون التوحيد الحقيقي ـ الذي هو توحيد العبادة وإفراد الله تعالى بالألوهية ـ أو لا ؟؟!!! .
ولعلك تدرك ـ أيها الأخ الباحث ـ بعد الآن أن كتب الأشاعرة ركزت في العقيدة على توحيد الربوبية ودلائله العقلية ولم تترك الحديث عن توحيد الألوهية ، وأن الأشاعرة برآء من التهمة التي حاولت إلصاقها بهم ، وهي أن التوحيد الحقيقي لا ذكر له في كتبهم ، لا في كتب العقيدة ، ولا في كتب الفروع ، وأنك تجزم بهذا !!!.
 
قال الباحث:
[وينكر الأشاعرة المعرفة الفطرية ، ويقولون إن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلد ، ورجح بعضهم كفره ، واكتفى بعضهم بتعصيته ، وهذا ما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر رحمه الله ، ونقل أقوالاً كثيرة في الرد عليهم وأن لازم قولهم تكفير العوام ، بل تكفير الصدر الأول] .

أقول :
1ـ  لم يذكر الباحث نقلاً واحداً من كتب الأشاعرة يعزز دعواه بأنهم ينكرون المعرفة الفطرية !!! .
2ـ إذا كان من المعلوم أن [فطر] بمعنى خلق ، وأن الفطرة هي بمعنى الخلقة ؛ فما المراد بـ [المعرفة الفطرية]؟ ؟ ! لم يفسر الباحث مراده بها ، فهل يعني الباحث أن كل إنسان إنما خلقه الله تعالى على الإيمان به وبكماله وقدرته وعلمه ووحدانيته وأخرجه من بطن أمه على هذه المعرفة؟ ؟ أو أن الإنسان إنما خلقه الله تعالى وجعل له في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان بالله وإلى نبذ العقائد الباطلة؟ ؟.
فإن كان الباحث يعني الاحتمال الأول فهو محجوج بقوله تعالى: [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [ ] .
ومما يزيد الأمر وضوحاً أن الله تعالى أخبر أنه أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم ذكر ما امتنّ به عليهم إذ جعل لهم أسباب الوصول إلى العلم من سمع وأبصار وأفئدة .
وإن كان الباحث يعني الاحتمال الثاني فإن الأشاعرة لا ينكرونه ، ولكن داعية الإيمان في قلب العبد تظل بحاجة إلى الدليل الذي يحدد القضايا الإيمانية ويثبتها ، ولذا جاء القرآن الكريم مشحوناً بالآيات المشتملة على الأدلة العقلية على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وإرادته وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت نبوته وعلى الإيمان باليوم الآخر وغير ذلك .
3ـ  يوجب الأشاعرة على المكلف [النظر] ويعنون به النظر في الأدلة العقلية والاستدلال بها في قضايا الإيمان الأساسية .
والعجب ممن يعيب عليهم إيجاب النظر غافلاً أو متغافلاً عن أن الله تبارك وتعالى قد أمر به وحث عليه في عدد من الآيات القرآنية الكريمة ، منها قوله تعالى [أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ] [ ] ، وقوله تعالى [قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] [ ] ، وقوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ][ ].
4ـ  يذم الأشاعرة التقليد في العقيدة ، والتقليد محاكاة قول الغير من غير حجة ، إذ لا يجوز لعاقل ترجيح قول على آخر بغير حجة له على هذا الترجيح ، والترجيح بغير مرجح باطل ، وليس هو من شأن العقلاء ، والمقلد في العقيدة هو دائماً عرضة للانتقال بين الأقوال المتعارضة ، من إيمان وكفر ، وسنة وبدعة ، لأنه لم يبن معتقده على دليل .
والعجب ممن يعيب من يذم التقليد في العقيدة غافلاً أو متغافلاً عن أن الله تبارك وتعالى قد ذم المقلدين في العقائد وحث على اتباع ما تؤيده الحجج والبراهين ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟!][ ] ، وقال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ] [ ] ، وقال تعالى [إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ] [ ] ، وقال تعالى [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ][ ] .
5 ـ  ولا بد من وقفة صغيرة مع أحد فقهاء الحنابلة ، وهو الحسن بن علي بن خلف البربهاري المتوفى سـنة (329هـ) ,  إذ يقول: [واعلم أن الدين إنما هو التقليد ، والتقليد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] . ثم يقول: [وعليك بالآثار وأصحاب الأثر والتقليد ، فإن الدين إنما هو التقليد ، يعني للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين][ ].
فلا بد من حمل قوله [إن الدين إنما هو التقليد]  ـ إذا أردنا تصحيح هذا القول ـ  على الأحكام الفقهية وفروع العقيدة ، أما أصول العقيدة فلا بد فيها أولاً من إقامة الحجج والبراهين على وجود الله تعالى وكمالاته وعلى صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأن القرآن هو كلام الله ، إذ لا يصح لعاقل أن يقول آمنت بالله تعالى ورسله وكتبه تقليداً ، بل لا بد له من النظر في نفسه وفي الآفاق حتى يعلم أن الله تعالى هو الحق ، ولا بد له من النظر في إعجاز القرآن حتى يعلم أنه كلام الله تعالى ،  وفي دلائل النبوة حتى يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق. والأدلة العقلية على ذلك كثيرة ومتنوعة ، وكل واحد يعتمد منها على ما يستوعبه عقله وفهمه . 
أما شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى فيقول: [وأما التقليد فليس بطريق للعلم أصلاً ، لأن التقليد هو قبول قول الغير بلا حجة] [ ] .
6ـ  فهم الباحث من أن الأشاعرة يحكمون بالكفر أو العصيان على من آمن بالله بغير طريق النظر والاستدلال أنه يلزم من هذا القول تكفير الصدر الأول أي سلف الأمة وتكفير عوام المسلمين ، وقوله هذا يتضمن أن السلف من الصحابة والتابعين آمنوا بالله تعالى تقليداً لا عن دليل!!! .
أهكذا يُتهم سلف هذه الأمة بأنهم آمنوا بالله تقليداً بغير طريق النظر والدليل؟ ؟ !!  ألم ينظروا في أنفسهم وفي السماء والأرض وما فيهما فيعلموا أن لها خالقاً؟ !!!  ألم ينظروا إلى الإبل والنحل والنمل؟ !!!  ألم ينظروا في إعجاز القرآن؟ !!!  ألم يشاهد الصحابة معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !!! . ألم يقرؤوا ويتدبروا ويتفهموا الآيات القرآنية المشتملة على الأدلة والبراهين العقلية على الإيمان بالله تعالى وصدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه؟ !!! .
7ـ  يخطئ من يظن أن عوام المسلمين على العموم لا يملكون دليلاً عقلياً على الإيمان بالله ، إذ لا يشترط في الدليل أن يكون على وفق صياغات الفلاسفة . اسمع قول الأعرابي الذي قال: [البعرة تدل على البعير ، وأثر الأقدام يدل على المسير ، أفسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، أفلا تدلان على العليم الخبير؟ !!!] . وأي دليل على الله تبارك وتعالى أوضح وأيسر من هذا الدليل؟ !. 
8ـ  إذا قال بعض أهل العلم ـ أشعرياً كان أوغير أشعري ـ  إن الإيمان لا يصح من المكلف إلا بالنظر والاستدلال حسب طرق المتكلمين الفلسفية ؛ فهذا قول ساقط ومردود على قائله ، ولكن هل هذا هو قول الأشاعرة أو بعض الأشاعرة؟ ؟ !!! . بل كبار أئمة الأشاعرة يردونه ويبينون فساده ، ومنهم الإمام الغزالي والإمام أبو المظفر ابن السمعاني وغيرهما رحمهم الله تعالى .
الموضوع الرابع:            الإيمان

قال الباحث:
[الأشاعرة في الإيمان مرجئة جهمية ، أجمعت كتبهم قاطبة على أن الإيمان هو التصديق القلبي] . ثم قال: [هم على مذهب جهم بعينه] . وقال: [فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عمه أبو طالب لا إله إلا الله ، لأنه لا شك في تصديقه له بقلبه ، وهو ومن شابهه على مذهبهم من أهل الجنة] .

أقول:
1ـ  لقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسّـر الإيمان بقوله [أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى] [ ] .  أفليس معناه: أن تصدق بقلبك بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر؟ ! . فما الذي يعاب على الأشاعرة إذا فسروا الإيمان بمعنى ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !!! . وتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل التلفظ بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج من الإسلام ، لا من الإيمان .
2 ـ  ما الذي يريده الباحث من الأشاعرة؟ كأنه يريد منهم أن يقولوا [الإيمان اعتقاد وقول وعمل] ، وهذا صحيح إذا فُهم بمعنى أن الأعمال الصالحة ثمرات الإيمان ، لا بمعنى أنها أجزاء من ماهية الإيمان ، والفرق بينهما هو أننا إذا جعلنا الأعمال ثمرات للإيمان فيكون من قصّر فيها ناقص الإيمان ولا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، وإذا جعلناها أجزاء من ماهية الإيمان فيكون من قصّر فيها أو في بعضها قد زال عنه اسم الإيمان بالكلية ، وهذا لا يستقيم مع الأدلة الشرعية الدالة على أن المؤمن لا يخرج عن دائرة الإيمان بتقصيره في العمل ، وهذا قول السلف وأهل السنة والجماعة، جمعاً بين الأدلة.
3 ـ  لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [الإيمان بضع وسبعون شعبة] [ ] وأنه قال [الطُهور شطر الإيمان] [ ] ، والأشاعرة مقرّون بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقائلون به ، ولكن معنى ذلك هو أن تلك الأعمال الصالحة ثمرات متفرعة من الشجرة الإيمانية ، أي إذا كان أصل الشجرة وجذرها موجوداً ولكنها لم تثمر فهذا لا يعني أن الشجرة لا وجود لها بتاتاً ، بل لا بد من رعاية ذلك الأصل وتقويته وتغذيته حتى تظهر الثمار . قال الله تبارك وتعالى: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] [ ] .
4 ـ  ذكر الإيجي رحمه الله أن الإيمان بالمعنى الشرعي هو التصديق للرسول صلى الله عليه وسلم فيما عُلم مجيئه به ضرورة ، ثم ذكر أدلته على ذلك ، قال رحمه الله : الأول : الآيات الدالة على محلِّيَّة القلب للإيمان ،نحو [أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ] [ ] ، [وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ][ ] ، [ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ] [ ] . الثاني : جاء الإيمان مقروناً بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب ، نحو[ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ] [ ] ، فدل على التغاير . الثالث : أنه قُرن بضد العمل الصالح ، نحو[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ] [ ] .
فالإيمان محله القلب ، ومما يؤكد استدلالَ الإيجي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأحد الصحابة: [اذهب بنعلي هاتين ، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة] [ ] . ثم إن العطف كما يقول علماء العربية يقتضي التغاير ، فعطف الأعمال الصالحات على الإيمان يدل على أن كلا منهما غير الآخر ، واقتتال طائفتين من المؤمنين وسفك بعضهم دماء بعض غير جائز ومع ذلك فقد سمى الله تعالى الطائفتين المقتتلتين [من المؤمنين] .
5 ـ  أود أن أضيف هنا نبذة صغيرة لأحد العلماء الماتريديين ، وهو أبو المعين ميمون بن محمد النسفي المتوفى سنة (508هـ) رحمه الله تعالى ، فمعظم المسائل العقدية لا اختلاف فيها بين الأشاعرة والماتريدية ، قال أبو المعين النسفي في الاستدلال على أن الأعمال الصالحة هي غير الإيمان:يؤيده أن الله تعالى جعل الإيمان شرطا لقيام الأعمال الصالحة بقوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ] [ ] ، ولو كان الإيمان اسماً لكل عبادة لكان شرطُ الشيء نفسَه] [ ] . فرحمه الله تعالى وأعلى مقامه .
6ـ  توهم الباحث  ـ سامحه الله ـ  أن مذهب الأشاعرة في الإيمان هو مذهـب جهم بعينه!!!  وزعم  أنهم  جهمية !!! وذلك لأنه لم يدرك الفرق الدقيق بين المذهبين .
أما جهم بن صفوان والجهميون فيذمهم الأشاعرة غاية الذم ، ويرمونهم بالبدعة والضلال والزيغ ، ويبرؤون إلى الله منهم ومن مذهبهم ، فما الفرق بين المذهبين؟ 
قال أبو منصور البغدادي: [وزعمت الجهمية أن الإيمان هو المعرفة وحدها] [ ] . ونقل الشهرستاني عن جهم أنه قال: [من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده ، لأن العلم والمعرفة لا يزول بالجحد ، فهو مؤمن] [ ] . أي إن بعض الكافرين قد يُسأل عما يعتقده في الله تعالى فيقول إن الله واحد ، ويُسأل عما يعتقده في محمد صلى الله عليه وسلم فيقول هو نبي ، ويسأل عن اليوم الآخر يوم الحساب والجزاء فيقول لا بد من يوم للحساب والجزاء ، وهنا يأتي قول جهم بأن مثل هذا مؤمن ناج وإن كان مقيماً على نصرانيته أو يهوديته أو مجوسيته ، وأن الإيمان هو المعرفة ، وأن اسم الإيمان لا يزول عنه لأنه عرف الحق .
أما الأشاعرة فيقولون إن المعرفة وحدها لا تنقل المرء من الكفر إلى الإيمان ، بل لا بد معها من إذعان النفس وقبولها لهذه المعرفة ، فإبليس كان يعرف أن الله تعالى هو ربه وخالقه وآمره ، ولكنه لم يخضع بعقله وقلبه لهذه المعرفة ، فتمرد واستكبر ، وهرقل عرف من خلال حواره مع أبى سفيان صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، ولكنه لم يذعن الإذعان العقلي والقلبي لهذه المعرفة ، وكثير من أهل الكتاب تحققوا من خلال ما عندهم من العلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم ، ولكنهم جحدوا نبوته حسداً وكبراً ، كما قال تعالى [يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] [ ] ، وكثير من الكافرين يتضح لهم الحق وصدق الرسالة المحمدية فيستنكفون عن الإذعان لها ويصرون على عدم قبولها ، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ] [ ] ، فهؤلاء لا تغني عنهم معرفتهم شيئا ، وليس هؤلاء من المؤمنين ، وليسوا من الذين تنالهم الشفاعة ، لأنه ليس في قلوبهم مثقال حبة خردل من الإيمان .
وقال التفتازاني رحمه الله عن التصديق: [وحقيقته إذعان النفس وقبوله ] [ ] . وقال البيجوري رحمه الله: والمراد بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الإذعانُ لما جاء به والقبول له ، وليس المراد وقوعَ نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا يعرفون حقّيّة نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم ، ومصداق ذلك قوله تعالى [يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] [ ] .
7 ـ  لقد تجلت الحقيقة لكل ذي بصيرة ، وتبين أن أبا طالب ومن شابهه لا ينفعه تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه ما لم يذعن ويخضع بعقله وقلبه لمعرفته بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، أي حتى يقبل بعقله وقلبه الدخول في الإسلام ، ولذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يقول عمه أبو طالب الكلمة التي هي عنوان الدخول في الإسلام ، وعندما يقولها من لا يعرف النفاق والمجاملة فإنه يقولها وهو يعني ما يقول ، وهذا يعني عملية التحول الواعي من ملة الكفر إلى دين الإسلام .
 
الموضوع الخامس:         القرآن

قال الباحث:
[فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل وسمعه موسى عليه السلام ويسمعه الخلائق يوم القيامة ، ومذهب المعتزلة أنه مخلوق ، أما مذهب الأشاعرة … فقد فرقوا بين المعنى واللفظ ، فالكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ، ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء ، واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
    إن الكلام لفي الفؤاد وإنما        جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً] .

أقول:
1ـ  ما نقله الباحث هنا عن أهل السنة والجماعة صحيح ، والأشاعرة هم من أهل السنة والجماعة ، وهم قائلون بهذا ، أي إن مذهبهم هو أن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه غير مخلوق ، وأن الله تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل وسمعه موسى عليه السلام ويسمعه الخلائق يوم القيامة ، وهذا مقرر عندهم في كتب التفسير والحديث ، فمن نسب إلى الأشاعرة غير هذا فليذكر المصدر من كتب الأشاعرة .
2ـ كتب الأشاعرة في العقيدة مملوءة بالرد على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن ، وهذا أظهر من أن تنقل فيه النصوص .
3ـ  عزا الباحث إلى الأشاعرة أن كلام الله تعالى عندهم لا يوصف بالخبر ولا الإنشاء ، وهذا العزو خطأ . 
قال أبو منصور البغدادي: [كلام الله تعالى صفة له أزلية قائمة به ، وهي أمره ونهيه وخبره ووعده ووعيده] [ ] فقد صرح بالخبر ، وكذا بالأمر والنهي وهما إنشاء .

4ـ  الكلام الذي يثبته الأشاعرة لله تعالى هو الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ، لكن ما دليلهم على أن المعنى القائم بالنفس يسمى كلاماً؟ 
أما الباحث فيقول إنهم استدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني [إن الكلام لفي الفؤاد...]، ولعل الباحث لا يدري أن هذا البيت ليس هو الدليل عند الأشاعرة ، ومن ذكره منهم فقد ذكره على سبيل الاستشهاد والاستئناس بالشعر ، لا على أنه هو الدليل .
أما الدليل عند الأشاعرة فهو ما ذكره الإمام الباقلاني إذ يقول:ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس … قوله تعالى مخبراً عن الكفار [وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ][ ] ، … وقوله صلى الله عليه وسلم [يقول الله تبارك وتعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه...][ ] ، ويدل على ذلك أيضاً قول عمر رضي الله عنه [زوَّرت في نفسي كلاماً فأتى أبو بكر فزاد عليه] [ ] . فالدليل عند الأشاعرة ـ  في هذه المسألة اللغوية ـ  هو القرآن الكريم والحديث القدسي وكلام أحـد العرب الأقحاح وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فكيف غفل الباحث عن هذا؟ ! .
ومما يمكن أن يستشهد به كذلك قول الشاعر [فأيقنت أن الطرف قد قال مرحباً] . 
ومما يدل على استعمال القول في الكلام النفسي ما جاء عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ] . قالوا: بلى يا رسول الله . قال [الإشراك بالله وعقوق الوالدين] وجلس وكان متكئا فقال [ألا وقول الزور] . فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت [ ] . والذي يعرف أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم يجزم بأنهم لم يقولوا [ليته سكت] بألسنتهم ، وإنما قالوها في نفوسهم ، إشفاقاً عليه صلى الله عليه وسلم ورغبة ألا يشق على نفسه بكثرة تكرارها .
ومن الدليل على ذلك كذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا صلى أحدكم فلم يدر زاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو قاعد ، فإذا أتاه الشيطان فقال إنك قد أحدثت فليقل كذبت ، ...] [ ] . وهذا الحديث قد رواه ستة من الثقات عن يحيى بن أبي كثير ، وهو ثقة ، عن عياض بن هلال ، وهو مذكور في الثقات لابن حبان ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً . والسياق يشير إلى أن القول هو في الصلاة ، وقد صرحت بذلك بعض الطرق عن اثنين من أولئك الستة ، وربما كان ذلك مما فهمه بعض الرواة من السياق . ولا شك في أن المصلي لا يقول بلسانه للشيطان كذبت وهو في الصلاة ، بل يقولها في نفسه وضميره ، كما نبه على ذلك ابن خزيمة وابن حبّـان رحمهما الله ، وانفرد أحد أولئك الرواة الستة بقوله في الرواية [فليقل في نفسه] ، وهذا مما فهمه من معنى الرواية . وهذا الجزء من الحديث يحسن إيراده في باب الاحتجاج هنا وإن كان في سنده من انفرد ابن حبان بتوثيقه ، لأن الاعتماد في الاحتجاج ليس عليه من حيث الانفراد ، وإنما من حيث المجموع ، أي من حيث اجتماع عدد من الأدلة يعضد بعضها بعضاً على مدلول واحد .
5ـ  البيت الشعري الذي ذكر الباحث أن الأشاعرة يستدلون به قد تبين أنهم يستشهدون به ولا يستدلون به ، ثم إن الباحث يريد أن يغمز الأشاعرة بقوله [المنسوب للأخطل النصراني] ، وكأن الأشاعرة يستدلون بأقوال النصارى في العقيدة !!! .
والواقع أن من ذكر هذا البيت فإنه يستشهد به في مسألة لغوية ، لا في مسألة عقائدية ، فلا يضرك كون قائله من النصارى أو المشركين إذا كان من فصحاء العرب .
وقد كان علماء هذه الأمة منذ الصدر الأول يستشهدون بل ويستدلون في المسائل اللغوية بالشعر الجاهلي الذي قاله العرب الأقحاح المشركون ، لأن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن بلسانهم ، فلا يفهم القرآن إلا من عرف لسان العرب وأساليبهم .

6ـ  ذكر الباحث عن الأشاعرة أنهم قالوا عن كلام الله تعالى [ليس بحرف ولا صوت]، وهذا نقل صحيح ، فكتبهم أطبقت على هذا ، ولكن ما معناه؟ 
معنى هذا أن كلام الله تعالى الذي هو صفة له هو المعنى القائم بذات الله تعالى من الأزل ، فإذا أراد الله تعالى إسماعَ عبدٍ من عباده كلامَهُ جعل فيه قوة خاصة على سماع كلامه فأسمعه ما يريد إسماعه إياه ، وإذا بهذا العبد قد فهم عن الله كلامه القديم بلغة يتخاطب بها البشر ذات حروف وأصوات ، وهذا لا يعني أن الله تعالى يتكلم بلغة مما يتخاطب به البشر ، ولا أنه يتكلم بصوت له موجات صوتية وحروف لغوية ، فعندما كلم الله سبحانه وتعالى موسى سمع موسى عليه السلام كلامه ، ولو أن أناساً كانوا بجانب موسى وقت التكليم لما سمعوا شيئاً ، لا صوتاً ولا حروفاً .
أما الباحث فكأنه يريد أن يقول: إن الله تعالى يتكلم بصوت ، ولكنه صوت قوي جداً ، وبلغة عبرية أو سريانية أو عربية أو غيرها ، وبحروف اللغة التي يتكلم بها !!! . وهذا يعني أنه لو كان أناس بجانب موسى عليه السلام وقت التكليم لسمعوا كلام الله !!! أي لسمعوا صوته القوي الذي يشبه الصواعق وحروفه اللغوية !!! إلا إذا أراد الله تعالى أن يحجب أسماعهم عن سماع ذلك الصوت ، ولكان للمكالمة وقت كثلاث دقائق أو عشر دقائق مثلاً !!! ولكان لتلك الموجات الصوتية نقطة انطلاق مكانية اتجهت منها !!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
فإذا قال الباحث إنما كلّم الله تعالى موسى عليه السلام بصوت لا كأصوات المخلوقين ، فصوته لا يشبه أصواتهم ، وأصواتهم لا تشبه صوته ، فهذا يحتمل أحد أمرين:
فإنه إما أن يثبت لله تعالى صوتاً له سِمَات أصوات المخلوقين من الجهة المكانية والفترة الزمنية والموجات الصوتية ويقولَ لكننا لا نستطيع أن نتصوره ولا أن نشبهه بأصوات المخلوقين .
وإما أن يقولَ لقد صح عندي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى [يناديهم بصوت] فأنا أقول بإثبات الصوت لكنه صوت لا كالأصوات .
فإن كان الاحتمال الأول فهو من التشبيه وإن لم يكن التشبيه تاماً ، وهل يشترط أن يشبه المرء صوت خالقه بصوت المخلوقين تشبيهاً تاماً حتى نقول إنه مشبه !!! . هذا ما لا يرضى به عاقل ، وما أظن الباحث يقول به . 
وإن كان الاحتمال الثاني فلا بد من نفي سمات أوصاف المخلوقات أي سمات الحدوث عن الله تعالى حتى يكون المرء من المنزهين ، لكن إن كان يثبت ما صح عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبته وينفي التشبيه ولا يخطر بباله أي معنى من معاني تشبيه صفات الله بصفات الحادث ؛ فهذا مذهب جرى عليه كثير من أصحاب الحديث ، ولكن لا يجوز له أن ينكر على من لم يصح عنده الحديث وذهب في هذا ونحوه إلى مذهب آخر .
7 ـ قال أحـد أئمة الأشـاعرة أبو بكر محمد بن الحسـن ابن فورك المتوفـى سـنة (406 هـ) : [إن كلام الله لم يزل ولايزال موجوداً، وإنه يُفهم خلقَه معاني كلامه أولاً فأولاً وشيئاً فشيئاً ، وإن الذي يتجدد: الإسماع والإفهام ، دون المسموع والمفهوم ، ... كلامه لايخص الأوقات والأزمان ، كما أن علمه وسمعه وقدرته لايصح أن يقال فيه شيء من ذلك ، وإنما يتجدد المعلوم والمقدور بحدوثه شيئاً بعد شيء، دون العلم به والقدرة عليه]. ثم قال: [واعلم أنه كما ينكر قول من قال إن الله لم يتكلم إلا مرة واحدة؛ كذلك ينكر قول من قال إن الله تكلم مرة بعد أخرى ، لأن كل ذلك يوجب حدوث الكلام ،... فأما كلام الله الذي هو صفة من صفات ذاته غير بائن منه فكلام واحد شيء واحد ، يفهم منه ويسمع ما لا يحصى ولايعد من الفوائد والمعاني ، ونظير ذلك ما نقول إن علمه واحد ولكنه يحيط بمعلومات لا تتناهى ، والذي تقع عليه الكثرة والقلة: المعلومات ، دون العلم] . ثم قال: [والصحيح أن يقال: إن كلام الله لم يزل ولايزال ، وأنه مسمعٌ من يشاء من خلقه ومفهمٌ من أراد منهم إفهامه في الوقت الذي يريد أن يسمعه ويفهمه ما يريد من ذلك ، من غير تجديد قول ولا كلام] [ ] .
وقال شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى: [وهو سبحانه عالم بعلم واحد ، وقادر بقدرة واحدة ، وحي بحياة واحدة، ومريد بإرادة واحدة ، ومتكلم بكلام واحد] . ثم قال: [وغير ممتنع أن له كلاماً واحداً بلغات مختلفة يحصل الإفهام لكل واحد بلغته] [ ] .
ولعل هذا هو ما يشير إليه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إذ يقول : وقال الله تبارك وتعالى [الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ] فأخبر تبارك وتعالى أن القرآن من علمه ، وقال: [وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْم ] ... فالقرآن من علم الله . وكذا إذ يقول ـ رحمه الله ـ : فالقرآن من علم الله ، وعلم الله غير مخلوق . [ ]
وأصرح من ذلك قولـه ـ رحمه الله ـ : إن القرآن من علم الله . وكذا قوله ـ رحمه الله ـ : قال لي عبد الرحمن بن إسحاق : كان الله ولا قرآن . فقلتُ مجيباً له : كان الله ولا علم ؟! . فالعلم من الله وله ، وعلم الله منه ، والعلم غير مخلوق ، فمن قال إنه مخلوق فقد كفر بالله . [ ]
 
قال الباحث:
[واختلفوا  ـ أي الأشاعرة ـ  في القرآن خاصة ، فقال بعضهم: إن الله خلقه أولاً في اللوح المحفوظ ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا ، فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون: إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي وأفهمه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم . … ثم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي من هو؟ فقال بعضهم: هو جبريل . وقال بعضهم: بل هو محمد صلى الله عليه وسلم] . ثم قال: [وقد صرح الباقلاني بالأول ، وتابعه الجويني] .

أقول: 
1 ـ قول الباحث عن [بعض] الأشاعرة إن الله خلق القرآن أولاً في اللوح المحفوظ ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا: قول تنقصه الحقيقة ، لأن الذين قالوا إن الله خلق القرآن أولاً في اللوح المحفوظ هم [المعتزلة] ، لا [الأشاعرة] . فهل الباحث لا يفرق بينهما؟ !!! أم ماذا؟!!! .
2ـ  قول الباحث عن الأشاعرة إنهم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي فقال بعضهم هو جبريل وقال بعضهم بل هو محمد صلى الله عليه وسلم: هو محض خيال ، ولهم معه وقفة بين يدي الله تعالى ، فليته يستعد للجواب .
والأشاعرة يعتقدون أن القرآن معناه ولفظه من عند الله ، لا أعلم عندهم في هذا خلافاً .
3ـ  قد يحتج الباحث بهذا النص الذي قاله البيجوري ، فقد قال عن القرآن الكريم [والراجح أن المنـزلَ اللفظُ والمعنى ، وقيل المنزل المعنى وعبر عنه جبريل بألفاظ من عنده ، وقيل المنزل المعنى وعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده ، لكن التحقيقَ الأول][ ] ، ولا حجة له فيه ، لأن البيجوري لم ينسب هذه الأقوال الفاسدة إلى أحد من علماء الأشاعرة ، والظاهر أن مراده أن يقول إن هذه أقوال بعض أهل الكلام ، وأنه ينتصر للأشاعرة القائلين بخلاف هذا ويصف مذهبهم بأنه الراجح وأنه التحقيق .
وإذا كان هذا هو قولاً لبعض الأشاعرة من غير أهل التحقيق فعلاً فلم لم يذكر قائله؟ ! وهل عثر عليه الباحث فيما رجع إليه من كتب الأشاعرة !! .
4ـ  قول الباحث إن الباقلاني صرح بأن الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي هو جبريل وإن الجويني تابعه على ذلك: هو قول مخالف للحقيقة ، وهو محض خيال وتوهم . 
وإليك أيها القارئ المنصف كلام هذين الإمامين المفترى عليهما:
أما الباقلاني فقد قال:فالمنـزِّل هو الله تعالى ،    … والمنـزَّل على الوجه الذي بيناه من كونه نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال: كلام الله تعالى القديم الأزلي القائم بذاته ، … والمنـزَّل عليه: قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، … والمنـزَّل به هو اللغة العربية التي تلا بها جبريل ونحن نتلو بها إلى يوم القيامة ،… والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر: قول جبريل عليه السلام ، يدل على هذا قوله تعالى : [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] [ ] ،… فحصل من هذا أن الله تعالى علّم جبريل عليه السلام القرآن ،… وعلّمه الله النظم العربي الذي هو قراءته ، وعلم هو القراءة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه [ ] .
فأنت ترى أن الباقلاني رحمه الله يصرح بأن الله تعالى علم جبريل عليه السلام القرآن وعلمه النظم العربي الذي هو قراءته ، فهل النظم العربي للقرآن من عند الله تعالى أو من تعبير جبريل ؟!!! .
وأما إمام الحرمين الجويني فقد قال: [كلام الله تعالى منزَّل ،… فالمعنيّ بالإنزال أن جبريل صلوات الله عليه أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه فوق سبع سموات ، ثم نزل إلى الأرض فأفهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى] [ ] . فهل قال إمام الحرمين إن الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي هو جبريل عليه السلام؟ !!! .
5ـ  قد يقول قائل: أليس قول الباقلاني في النص المتقدم [والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل] نصاً واضحاً على أن القرآن المنـزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم هو قول جبريل ؟! .
أقول : إذا كان القائل ممن حفظ من كتاب الله قوله تعالى [لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ] [ ] وقوله تعالى [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ] [ ] مقطوعتين عن السياق ؛ فالجواب: بلى .
وأما إذا كان القائل ممن يرغب في فهم الكلام فأقول: اقرأ ذاك النص من أوله قراءة واعية فستجد أن الإمام الباقلاني رحمه الله يقرر نزول القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الله تعالى هو الذي أنزله ، وأن النازل أمران: أحدهما هو كلام الله القديم الأزلي الذي هو صفة من صفات ذاته ، وهذا نزوله نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال ، والثاني هو النظم العربي بألفاظ القرآن الذي علمه اللهُ جبريلَ وفَهَّمه إياه وهو قراءته ، وهذا نزوله نزول حركة وانتقال ، والنازل على حقيقة معنى النزول اللغوية المنتقل من أقطار السماء إلى الأرض هو قراءة جبريل ألفاظَ القرآن وحروفَه ،  أما صفات الله تعالى التي هي صفات ذات فهي قائمة بذات الله تعالى دائمة بدوامه ، لا تحول ولا تزول ، ولا تنـزل ولا تنتقل .
 
قال الباحث:
[واستدلوا بمثل قوله تعالى [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ] في سورتي الحاقة والانشقاق ، حيث أضافه في الأولى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الأخرى إلى جبريل] .
ثم قال ناقلاً مع الإقرار: [وفي إضافته تعالى إلى هذا الرسول تارة وإلى هذا تارة دليل على أنه إضافة بلاغ وأداء ، لا إضافة إحداث لشيء منه وإنشاء ، كما يقول بعض المبتدعة الأشعرية من أن حروفه ابتداء جبريل أو محمد ، مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال [إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ] من مشركي العرب] .

أقول : 
لقد سبق في كلام الإمام الباقلاني من أئمة الأشاعرة أن الله تعالى علم جبريلَ القرآن وعلم جبريلُ القراءةَ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم ، أي إن القرآن هو قول الله تعالى ، لا قول جبريل عليه السلام ولا قول محمد صلى الله عليه وسلم ، بل هو قراءة جبريل عليه السلام ، وليس في هذا تفسير لقوله تعالى [إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ] بأن جبريل أحدث شيئاً منه وأنشأه ، ولم يقل أحد من الأشاعرة هذا ، ولا نسبوا حرفاً واحداً منه أنه ابتدأه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم . وإضافة هذا المعنى الفاسد إلى [بعض الأشعرية] ليس سوى افتراء وتخرص ، أو سرحة وهم وتخيل ، سرت عبر أحد الأفاكين الحاقدين ، والله حسيبهم .
هل يصح لعاقل أن يُشبه الأشاعرة أو بعض الأشاعرة في بعض قولهم بمشركي العرب الذين قالوا عن القرآن الكريم [إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ] [ ] إلا إذا كان وجه المقارنة نابعاً عن ذلك القول المنسوب لبعضهم على سبيل التخرص أو التخيل ؟ ؟ !!! 
ومن تسرع الباحث أنه عزا الآية الكريمة [إنه لقول رسول كريم] إلى سورتي الحاقة والانشقاق ، والصواب أنها في سورتي الحاقة والتكوير.
 
قال الباحث:
[وعلى القول أن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق سار الأشاعرة المعاصرون وصرحوا ، فكشفوا بذلك ما أراد شارح الجوهرة أن يستره حين قال: يمتنع أن يقال إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم] . 
وأحال إلى شرح الباجوري على الجوهرة .
أقول :
النص المنقول عن شرح الجوهرة فصَله الباحث عن السياق فجاء معبرا ً ـ  بصورته المجتزأة ـ  عما في نفس الباحث من التوهم ، لا عما في نفس الشارح ، وإليك النص في السياق الذي ورد فيه:
قال البيجوري: [ومذهب أهل السنة أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق ، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق ، لكن يمتنع أن يقالَ القرآن مخلوق ويرادَ به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم ، لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق] [ ] . ثم قال في الصفحة التالية: [كل ظاهر من الكتاب والسنة دل على حدوث القرآن فهو محمول على اللفظ المقروء لا على الكلام النفسي ، لكن يمتنع أن يقال القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم ، كما سبق][ ] . فمذهب الأشاعرة والماتريدية  ـ المعبَّر عنه عند البيجوري بمذهب أهل السنة ـ  هو أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق ، وأن القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه مخلوق ، وأنه لا يجوز إطلاق القول بهذا ولو على إرادة هذا المعنى إلا في مجالس التعليم ، لأن غير أهل هذه المجالس لا يدركون الفرق .
الموضوع السادس :            القدر

قال الباحث:
[أراد الأشاعرة هنا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية ، فجاؤوا بنظرية الكسب ، وهي في مآلها جبرية خالصة ، لأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير] .

أقول :
1ـ  يدعي الباحث أن منطلق الأشاعرة هنا هو التوفيق بين مذهب الجبرية والقدرية ولا يذكر لصحة الدعوى دليلاً واحداً ، فلا وزن لها عند أهل العلم والفهم .
2ـ  الأشاعرة يردون مذهب الجبريين الذين يزعمون أن الإنسان مجبر على ما يفعله وأن القضاء والقدر لا يترك للإنسان اختياراً ، ويردون مذهب القدرية الذين يزعمون أن الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية بقدرة أودعها الله فيه وينفون القدر ، لمخالفة هذين المذهبين للآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ويقول الأشاعرة إن الإنسان ليس مجبراً على ما يفعله ، وليس خالقاً له ، وأنه مكتسب لأفعاله الاختيارية ، وأن سر القدر لا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك استدلالاً بآيات القرآن الكريم ، ووقوفاً عند مقتضى النصوص التي لا يستطيع العقل الخوض فيها ، فقد نهينا عن الخوض في القدر .
قال الإمام الباقلاني رحمه الله: ويجب أن يُعلم أن العبد له كسب وليس مجبوراً ، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية ، لأنه تعالى قال [لَهَا مَا كَسَبَتْ] يعني من ثواب طاعة ، [وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت] [ ] يعني من عقاب معصية ، وقولِه [بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] ... [ ] .
أفيصح أن يقال عن الأشاعرة الذين يثبتون ما أثبته القرآن إنهم [جاءوا بنظرية الكسب]؟!!! وكأنهم أتوا بشيء من عند أنفسهم؟ !!! ، ولم الابتعاد عن آيات القرآن الكريم؟!!! .
3ـ  يقول الباحث عما سماه نظرية الكسب عند الأشاعرة إنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير!!! والمعروف عن الأشاعرة أنهم لا ينفون عن العبد القدرة وينفون التأثير ، فالله تعالى أعطى العبد إرادة يوجهها باختياره إلى ما يريد فعله وقدرة يفعل بها ، ولكن العبد لا يخلق الفعل ، وخالق أفعال العباد هو الله تبارك وتعالى . وكأن الباحث لا يتصور قدرة إلا مؤثرة!!! .
الموضوع السابع:      السببية وأفعال المخلوقات

قال الباحث:
[ينكر الأشاعرة الربط العادي بإطلاق وأن يكون شيء يؤثر في شيء ،    … فلا ارتباط عندهم بين سبب ومسبَّب أصلاً] .
وقال: [فمثلاً عندهم من قال إن النار تحرق بطبعها أو هي علة الإحراق فهو كافر مشرك ، لأنه لا فاعل عندهم إلا الله مطلقاً] .

أقول : 
1ـ  الأشاعرة لا ينكرون الربط العادي بإطلاق ، فمن المشاهد أن النار تحرق ما هو قابل للاحتراق ، والسكين تقطع ما هو قابل للقطع ، والطعام يشبع الجائع ، وذلك حسبما جرت به العادة . وهذا أمر مشاهد محسوس لم ينكره أحد [بإطلاق] .
2ـ  الأمر الذي ينكره الأشاعرة هو ادعاء كثير من الفلاسفة بأن النار مؤثرة بذاتها ، أي إنها تحرق لأنها لا بد أن تكون محرقة ، ويعتقدون أنها لا يمكن أن تنفك عن صفة الإحراق ، وبالتالي فإن الله تبارك وتعالى عندهم لا يقدر على أن يجعلها غير محرقة ، وكذا السكين في القطع ، والطعام في الإشباع ، وهكذا… ، ولذا فإنهم ينكرون المعجزات ، كعدم إحراق النار لخليل الله إبراهيم عليه السلام ، وينكرون كل ما يتوهمون أنه مخالف لتأثيرات الأسباب في المسببات ، كالبعث والنشور ، وكاستمرار حياة الكفار في جهنم مع عظيم نارها وشدة إحراقها .
فالأشاعرة لا ينكرون الارتباط بين السبب والمسبَّب أصلاً كما فهمه الباحث ، ولكن يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى هو خالق الأسباب والمسبَّبات ، وهو يخلق الإحراق عند ملاقاة النار ، والقطعَ عند إمرار السكين ، والشبعَ عند تناول الطعام ، ولو أراد أن لا يخلق تلك المسبَّبات عند وجود تلك الأسباب لفعل ما يشاء ولتخلفت المسبَّبات عن الأسباب ، فالتأثير من الله تعالى عند وجود السبب ، لا من السبب ذاته .
وهذا كالقول في خلق أفعال العباد ، إذ العبد مكتسب لأفعاله الاختيارية وليس خالقاً لها ، وخالقها هو الله سبحانه وتعالى .
قال السنوسي رحمه الله في المقدمات: [أما الحكم العادي فهو إثبات الربط بين أمر وأمر وجوداً  أو عدماً بواسطة التكرر ، مع صحة التخلف وعدم تأثير أحدهما في الآخر البتة ] .
وقال في شرح قوله [مع صحة التخلف وعدم تأثير أحدهما في الآخر البتة ] : [لم نذكره لبيان حقيقة الحـكم العادي ، بل للتنبيه على تحقيق علم ودفع جهالة ابتلي بها الأكثر في الأحـكام العادية ،… فأنكر بسبب هذه الجهالة البعث وإحياء الميت من القبر والخلود في النار مع استمرار الحياة ، لأن ذلك كله عندهم على خلاف العادة المستمرة في الشاهد ، والربطُ المقترن فيها لا يصح فيه التخلف عندهم] [ ] .
فمن فهم مذهب الأشاعرة وردَّهم على الفلاسفة أدرك أن من يقول بأن النار تحرق بطبعها أو هي علة الإحراق وهو يعني ما يقول فهو كافر مشرك .
3ـ  قال عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله تعالى : والعجب أنهم يذمون الأشعري بقوله إن الخبز لا يُشبع والماءَ لا يروي والنارَ لا تحرق ، وهذا كلام أنزل الله معناه في كتابه ، فإن الشبع والري والإحراق حوادث انفرد الرب بخلقها ، فلم يخلق الخبزُ الشبعَ ، ولم يخلق الماءُ الري ، ولم تخلق النارُ الإحراق ، وإن كانت أسباباً في ذلك ، فالخالق هو المسبِّب دون السبب ، كما قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] [ ] … وقد قال تعالى [وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى] [ ].

الموضوع الثامن :        الحكمة الغائية

قال الباحث:
[ينفي الأشاعرة قطعاً أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة ،    … وجعلوا أفعاله تعالى كلها راجعة إلى محض المشيئة ولا تعلق لصفة أخرى كالحكمة مثلاً بها ، ورتبوا على هذا أصولاً فاسدة ، كقولهم بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه ويخلد في الجنة أفجر الكفار ، وجواز التكليف بما لا يطاق] . ثم قال: [ولهذا لم يثبت الأشاعرة الحكمة مع الصفات السبع] .

أقول :
1ـ  الأشاعرة ينفون أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة ، بمعنى أن له غرضاً ، وينفون كذلك أن يكون لشيء من أفعاله حكمة بهذا المعنى ، كمن يسعى من قيامه بما يفعله إلى تحقيق الغرض الباعث على الفعل . فالإنسان يستبد به حبه لشيء فيقدم على أفعال وتصرفات لولا ذلك الحب لما أقدم عليها ، وكذا الكره والبغض ، وكذا الفرح أو الحزن أو الغيرة ، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك ، ولا يفعل الفعل إلا لإرادته الفعل ، لا لتحقيق غرض من الأغراض .
قال عضد الدين الإيجي: [أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض] . ثم قال رحمه الله: [لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض] [ ] .
وقال السنوسي: [ويؤخذ منه تنزهه تعالى عن الأغراض في أفعاله وأحكامه ، وإلا لزم افتقاره إلى ما يحصل غرضه ، كيف وهو جل وعز الغني عن كل ما سواه ؟ !‍] [ ] .
وبمثل قولهم يقول شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى ، قال رحمه الله: [ولا يجوز أن يفعل الله سبحانه الشيء لغرض ولا لداع] [ ].
2ـ  في كلام الباحث تعريض بالأشاعرة كأنهم لا يثبتون لله تعالى صفة الحكمة !!! والواقع هو أن الأشاعرة يثبتون صفة الحكمة لله تعالى في كلامهم ، لكن لا مع الصفات السبع .
قال أبو منصور البغدادي: [أول الواجبات على المكلف النظر والاستدلال المؤديان إلى المعرفة بالله تعالى وبصفاته وتوحيده وعدله وحكمته] [ ] .
وقال البيهقي: [وفي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام ، وأن له صانعاً حكيماً تام القدرة بالغ الحكمة] . ثم قال البيهقي عن الله تبارك وتعالى: [يدبر الأمور بحكمته ، ويصرفها على مشيئته] [ ] .
وقال أبو المظفر الاسفراييني: [اعلموا ـ أسعدكم الله ـ  أن الله تبارك وتعالى أمر عبده بمعرفته في ذاته وصفاته وعدله وحكمته وكماله في صفته ونفوذ مشيئته] [ ] .
وقال القاضي عياض عن الله تبارك وتعالى: [بل قضاؤه كله حكمة وعدل] [ ] .
وقال ابن فورك: [ودلت بدائعه على حكمته] [ ] .
وقال فخر الدين الرازي: [الخالق المدبر بالحكمة البالغة] [ ] .
3ـ  اعلم ـ أيها المنصف ـ أن بعض الفلاسفة يقولون إن أفعال الله تعالى من خلق وتقدير وإبداع كلها يجب أن تكون حسب الحكمة ، وهي واقعة على وفق الحكمة ، ويتصورون أنها لا يمكن أن تكون على غير ما هي عليه ، وإلا لكانت  ـ حسب فهمهم ـ  واقعة على خلاف ما تقتضيه الحكمة ، وهذا هو الذي يرده الأشاعرة .
ويفسر أبو منصور البغدادي فهم الأشاعرة لصفة الحكمة إذ يقول: [وقال أصحابنا إن الله حكيم في خلق كل خلق ، ولو لم يخلق الخلق لم يخرج عن الحكمة ، ولو خلق أضعاف ما خلق جاز ، ولو خلق الكفرة دون المؤمنين أو خلق المؤمنين دون الكفرة جاز ، ولو خلق الجمادات دون الأحياء أو الأحياء دون الجمادات جاز ، ولكانت كل هذه الوجوه منه صواباً وعدلاً وحكمة] [ ].
ويقول الآمدي: [مذهب أهل الحق أن البارئ تعالى خلق العالم وأبدعه ، لا لغاية يستند الا بداع إليها ، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها ،   … بل الخلق وأنْ لا خلق له جائزان ، وهما بالنسبة إليه سيان] [ ] .
4ـ  نعم ، يقول الأشاعرة بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه ويخلد في الجنة أفجر الكفار لو أراد ذلك ، ويرون أنه لو تعلقت المشيئة الإلهية بذلك لكان هذا من الله ـ تبارك وتعالى ـ عدلاً وحكمة ، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ  لا يفعل ذلك فضلاً منه ورحمة وكرماً وامتناناً ، حيث إنه هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة . لكن ما دليل الأشاعرة؟ ؟ ‍‍! وما الذي حملهم على القول بهذا؟ !
لم يكلف الباحث نفسه عناء البحث عن دليل الأشاعرة من آيات الكتاب الكريم والأحاديث النبوية ، ولم يُشر إلى الحديث الوارد في المسألة ، رغم دعواه التخصص في علم العقيدة المؤسس على الكتاب والسنة !!! .
روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لو أن الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم] [ ] . وهذا الحديث صححه ابن حبان حيث رواه في صحيحه ، وصححه الألباني [ ] .
ماذا كان موقف الأشاعرة الذين قال الباحث عنهم [موقفهم من السنة أنه لايثبت بها عقيدة بل المتواتر منها يجب تأويله وآحادها لا يجب الاشتغال بها حتى على سبيل التاويل] ماذا كان موقفهم من هذا الحديث؟ . 
لمّا لم يجدوا في هذه المسألة نصا صريحا سوى هذا الحديث ولم يجدوا نصا صريحا آخر معارضا له ؛ كان لا بد لهم من الأخذ به وبناء عقيدتهم في هذه المسألة عليه . فهذا الأصل مما ابتنى الأشاعرة عليه قولهم ، لا ما زعمه الباحث أنهم نفوا الحكمة عن أفعال الله تعالى ، وأنهم رتبوا على هذا أصولا فاسدة كالذي قالوه هنا .
وبمثل ذلك يقول البربهاري أحد قدماء الحنابلة ، قال رحمه الله: [ولو عذّب أهل السماوات والأرض برهم وفاجرهم: عذّبهم غير ظالم لهم ، لايجوز أن يقال لله عزّوجل إنه ظلم، وإنما يظلم من يأخذ ما ليس له ، والله له الخلق والأمر] [ ] .
ويحق لنا أن نتساءل: لِمَ لَمْ يذكر الباحث دليلاً للأشاعرة على قولهم وأغفل أية اشارة للحديث الوارد المؤيد لقولهم؟ ؟ ونترك له الإجابة ، ونقول: قد تختلف مع الأشاعرة في تصحيح الحديث أو تضعيفه وفي فهمه على ظاهره أو تأويله ، فهذا أمر يعود إليك إذا برهنت على ما تذهب إليه بالدليل ، ولكن هل يصح أن لا تشير إلى دليلهم من السنة النبوية بأدنى إشارة؟ !!!.
ومن العجيب تأويل ابن أبي العز لهذا الحديث تأويلاً غريباًً ، فقد قال رحمه الله: [فإن حق الله تعالى على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وتكون قوة الحب والإنابة والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء جمعيها متوجهة اليه ، ... فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟ ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ولو في وقت من الأوقات؟ فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه لعذبهم بعدله ولم يكن ظالماً لهم] [ ] . فإن كان هذا ممكناً في أهل الأرض فكيف يمكن هذا في أهل السماء الذين قال سبحانه وتعالى فيهم [لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]؟! [ ] والذين قال فيهم: [فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ]؟! [ ] والذين قال فيهم [إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ] [ ] ؟!!! وهل تستطيع أن تفهم الحديث على غير ما فهمه عليه الأشـاعرة والبربهاري؟ !!!.
5ـ  أما مسألة التكليف بما لا يطاق فهي متفرعة عن التي قبلها ، فمن قال بجواز تعذيب المطيع وتنعيم العاصي عقلاً فإنه يقول كذلك بجواز تكليف العبد عقلاً بما لا يطاق ، ويقول إن كل ذلك افتراض عقلي ، أما في الواقع فإن ذلك لا يكون ، للأدلة الكثيرة على أن النعيم للمطيعين وأن العذاب للعاصين ، وأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، فضلاً منه وكرماً ، فللّـه الحمد والمنة .
الموضوع التاسع:             النبوات

قال الباحث:
[يختلف مذهب الأشاعرة عن مذهب أهل السنة والجماعة في النبوات اختلافاً بعيداً ، فهم يقررون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة  ـكما في الفقرة السابقة ـ  ، ثم يقررون أنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزة ،    … أما في موضوع العصمة فينكرون صدور الذنب عن الأنبياء ، ويؤولون الآيات والأحاديث الكثيرة تأويلاً متعسِّفاً متكلَّفاً] .
وقال الباحث في هذا المبحث: [والصوفية منهم كالغزالي يفسرون الوحي تفسيراً قرمطياً فيقولون: هو انتقاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي] .

أقول:
1ـ  ليس في كلام الباحث في هذا الموضوع ـ كما في أكثر الموضوعات التي تناولها ـ سوى إشارات لمذهب الأشاعرة ، مقرونة بالغمز واللمز ، وأن مذهب الأشاعرة يختلف عن مذهب أهل السنة والجماعة اختلافاً بعيداً ، دون أية إشارة لمذهب أهل السنة والجماعة في رأي الكاتب ، ليتبين للقارئ هذا [الاختلاف البعيد] ، ودون أي دليل لما يتصور أنه مذهب أهل السنة والجماعة ، ودون أي دليل نقلي أو عقلي ينقض ما ذكره عن الأشاعرة ‍‍!! .
2ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أن إرسال الرسل راجع للمشيئة الإلهية المحضة ، فما الذي يعاب عليهم في هـذا؟ ‍‍! ألا تستحق المسألة أن يكتب فيها كليمات؟ !!! .
الأشاعرة لا يرون ما يراه كثير من الفلاسفة أن إرسال الرسل من الحكمة الواجبة على الله تعالى ، ويقول الآمِدي معبراً عما يذهبون إليه في هذا المقام: [مذهب أهل الحق أن النبوات ليست واجبة أن تكون ولا ممتنعة أن تكون ، بل الكون وأنْ لا كون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مُرجَّحها سيان ، وهما بالنظر إليه سيان] [ ] .
وهذا لا ينفي أن يكون إرسال الرسل بالإضافة إلى المشيئة المحضة مشتملاً على حكمة ، وفي هذا يقول الآمدي: [ما ظهر من حكمة بعثة الرسل والأنبياء وتبليغهم ليس إلا إصلاح الخلق وتقويم نظامهم] [ ] .
3ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزة ، فما الذي يعاب عليهم في هذا؟ ! .
قد تقول إن بعض الصحابة رضي الله عنهم استدل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير المعجزة ، فيقال إنه إذا استدل بما يرجع إلى ما عرف من صفاته التي أخبر بها الأنبياء السابقون مثلاً فهذا يرجع إلى المعجزة ، وكل ما صلح أن يكون دليلاً على نبوة نبي من الأنبياء فهو معجزة له ، لأن غيره ممن ليس له مقام النبوة يعجِز أن يكون له مثل ذلك الدليل .
وبمثل قول الأشاعرة يقول شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى ، قال رحمه الله: [وليس في العقل دلالة تدل على صدق المدعي للرسالة على الله سوى المعجز] [ ] .
4ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أنهم ينكرون صدور الذنب عن الأنبياء ، ويؤولون الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ، فما الذي يثلج صدرك وتطمئن إليه نفسك؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! أتريد أن تثبت بنصوص الآيات والأحاديث أن الأنبياء تصدر عنهم الذنوب؟ !!! وأن تأويل الأشاعرة لتلك النصوص هو تأويل متعسف ومتكلَّف؟ !!! .‍
ليتك ـ أيها الباحث المتحمس لمذهبك ـ  ذكرت أوضح نص تراه مؤيداً لمذهبك ، وتأويلاً من تأويلات الأشاعرة هو أشد التأويلات تعسفاً وتكلفاً  ـ في نظرك ـ ، لينظر فيه الناظرون هل هو من التأويلات المتعسفة المتكلفة؟ !!! . 
ليتك  ـ أيها الباحثـ  تعلم أن القول بصدور الذنب عن الأنبياء هو مذهب اليهود ، فليتك تنزه مقام أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه عن اقتراف الذنوب بالمعنى الذي يتصوره عامة الناس ، وهو حقيقة المعاصي ، وليتك تعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ‍‍! .
5 ـ  ذكر الباحث أن الإمام الغزالي يفسر الوحي تفسيراً قرمطياً ، وذلك بأنه انتقاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي ، ناقلاً من الرسالة اللدنية .
فما الذي في هذه الرسالة؟ ؟ قال الإمام الغزالي رحمه الله: [ومن علم الأصول أيضاً علم الأخبار ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب والعجم ، وكان معلَّماً يوحى إليه من قِبَلِ الله تعالى ،    … فعلمُ أخباره ومعرفة أحاديثه أمر عظيم ، وخطب جليل ، لا يقدر أحد أن يحيط بعلم الكلام النبوي إلا أن يهذب نفسه بمتابعة الشارع ، ويزيل الاعوجاج عن قلبه بتقويم شرع النبي صلى الله عليه وسلم] .
وبعد أن تكلم الغزالي عن التعليم الإنساني تكلم عن التعليم الرباني فقال:وهو على وجهين: الأول إلقاء الوحي، وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل الفانية ، وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها ، وتتمسك بجود مبدعها ، وتعتمد على إفادته وفيض نوره ، والله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالاً كلياً ، وينظر إليها نظراً إلهياً ، ويتخذ منها لوحاً ومن النفس الكلي قلماً ، وينقش فيها جميع علومه ،… ومصداق هذا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ] [ ] ،… فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة ، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل ، وأغلق الله باب الوحي من عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم [ ] .
فهل تجد في كلام الغزالي أنه فسر الوحي على غير معنى التعليم الرباني النازل من الله تبارك وتعالى على قلب أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام ، ومنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أغلق الله تعالى باب الوحي من عهده ، وذلك أخذاً من قوله تعالى [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ]؟!! .
قد تختلف مع الإمام الغزالي رحمه الله في استخدام المصطلحات الفلسفية ، والحقيقة هي أن في كلامِ الله جل وعلا وكلامِ نبيه صلوات الله وسلامه عليه: غُنْيَةً عن ذلك كله ، ولكنك لا تستطيع أن تنسب إليه ما نسبه إليه الباحث ، سامحه الله .
 
الموضوع العاشر:       التحسين والتقبيح

قال الباحث:
[ينكر الأشاعرة أن يكون للعقل والفطرة أي دور في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ، ويقولون مرد ذلك إلى الشرع وحده ، … ومما يترتب عليه من الأصول الفاسدة قولهم إن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل ، … ومثلوا لذلك بذبح الحيوان فإنه إيلام له بلا ذنب] .

أقول:
1 ـ إن ما نسبه الباحث للأشاعرة في التحسين والتقبيح هو غير ما يقولونه ، إذ هل يُعقل أن ينكر عاقل ما في الصدق والأمانة والعدل والنظافة من الحسن وما في الكذب والخيانة والظلم والقذارة من القبح؟ !!!.
إن كثيراً من الأمور يدرك الإنسان العاقل ما فيها من حسن أو قبح وإن كانت تفصيلاتها الجزئية محل اشتباه ، بحيث يستعصي على الناس إدراكها بالعقل والفطرة .
إن الأشاعرة يرون أن إدراك الإنسان لحسن شيء أو قبحه لا يترتب عليه إيجاب وثواب أو تحريم وعقاب عند الله تعالى إلا بعد ورود الشرع بالأمر والنهي وهذا ما لم ينتبه إليه الباحث . 
قال أبو منصور البغدادي: [اعلموا أن العقول تدل على صحة الصحيح واستحالة المحال، … فأما الأحكام الشرعية في الوجوب والحظر والإباحة فطريق معرفتها ورود الخبر والأمر من الله تعالى][ ] .
وقال إمام الحرمين: [العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف ، وإنما يُتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع ومُوجب السمع] [ ] .
وقال فخر الدين الرازي: [لا نزاع في أنا نعرف بعقولنا كون بعض الأشياء ملائماً لطباعنا وبعضها منافراً لطباعنا ،    … وأيضاً نعلم بعقولنا أن العلم صفة كمال والجهلَ صفة نقص ، إنما النزاع في أن كون بعض الأفعال متعلَّق الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة وكون البعض الآخر متعلَّق المدح في الدنيا والثواب في الآخرة: هل هو لأجل صفة عائدة إلى الفعل؟ أو ليس الأمر كذلك بل هو محض حكم الشرع؟ ] [ ] .
وقال التفتازاني: [وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص ،… وبالجملة كل ما يستحق المدح أو الذم في نظر العقول ومجاري العادات فإن ذلك يدرك بالعقل وردَ الشرعُ أو لا ، وإنما النزاع في الحسن والقبح عند الله تعالى ، بمعنى استحقاق فاعله في حكم الله تعالى المدح أو الذم عاجلاً والثواب أو العقاب آجلاً] [ ] .
وقال تاج الدين السبكي في جمع الجوامع في المقدمات: [والحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته وصفة الكمال والنقص: عقلي ، وبمعنى ترتب الذم عاجلاً والعقاب آجلاً: شرعي ، خلافاً للمعتزلة] .
فانظر ـ  أيها القارىء المنصف ـ  إلى الفرق بين ما يقوله الأشاعرة وبين ما ينسبه الباحث إليهم ، فإن بينهما بوناً شاسعاً .
واعلم أن دليل الأشاعرة هو قول الله تبارك وتعالى [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً][ ] .
وبمثل قول الأشاعرة يقول شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى، قال رحمه الله: [ولا مجال للعقل في تحسين شيء من المحسّنات ولاتقبيح شيء من المقبحات ، .... وإنما يعلم ذلك من جهة الرسل الصادقين من قبل الله تعالى] [ ] .
2ـ نسب الباحث إلى الأشاعرة أن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل ، دون محاولة فهم هذا القول وتفسيره . ومرادهم منه أن كثيراً من العقول التي لم تستضىء بنور الكتاب والسنة قد تستنكر كثيراً من الأحكام الشرعية ، كمشروعية التيمم عند فقد الماء وتحريم الربا وقليل الخمر وذبيحة المشرك ، وكتحريم الذهب والحرير على الرجال ،وتحريم صنع التماثيل واتخاذها ، وكتفضيل الرجل على المرأة في القوامة ووجوب الطاعة والميراث والشهادة وإباحة التعدد ، وقد تستقبح مجيء مثل هذه الأحكام في الشرع ، فلا التفات لهذه الأهواء النفسانية ، والحكم في الشرع هو أن تذعن العقول وتنقاد لحكم الله ورسوله ، لا أن تلوى أعناق النصوص لتوافق أهواء الناس ، وهذا بالإجماع .
وليس مراد الأشاعرة أن الأحكام الشرعية أو بعضها قبيحة في حكم العقل ، بل ذلك في كثير من العقول التي تدور في فلك الأهواء والوساوس ، أما العقل المنصف المتجرد من الهوى المتلمس لوجوه الحكمة فيستحيل أن يستقبح حكماً ورد في الشرع ، بل إما أن يظهر له بعض ما فيه من الحسن وإما أن يتوقف لخفاء ذلك عليه واحتجابه عنه ، أما أن يظهر له فيه خلاف ذلك فهذا  ـ بحمد الله ـ  غير موجود ، بل هو مستحيل .
3ـ  نسب الباحث إلى الأشاعرة أنهم مثلوا لما جاء في الشرع إباحته وهو قبيح في العقل بذبح الحيوان ، فإن الذبح إيلام له بلا ذنب .
ولا يصح فهم المثال إلا في ضوء فهم القاعدة المتقدمة ، وهي أن قبح ما أباح الشرع من ذبح الحيوان للأكل إنما هو في عقول أهل الأهواء والوساوس ،لا في عقول أهل الإنصاف وتلمس وجوه الحكمة مع التجرد من الهوى .
وأضيف هنا ما قاله إمام الحرمين ، حيث قال عن الآلام واللذات: [فإذا وقعت من فعل الله تعالى فهي منه حسن ،    … لا يُعترض عليه في حكمه ، واضطربت الآراء على من لم يلتزم تفويض الأمور إلى الله تعالى] [ ] .
وقال الشهرستاني: [مذهب أهل الحق أن العقل لا يدل على حسن الشيء وقبحه في حكم التكليف من الله شرعاً] . ثم قال: [فإنا نرى كثيراً من الأفعال تقبح منا ولا تقبح منه ، كإيلام البريء وإهلاك الحرث والنسل    … ، فإن نفس الإغراق والإهلاك يحسن منه تعالى ولا يقبح ، وذلك منا قبيح] [ ] .
الموضوع الحادي عشر:       التأويل

قال الباحث:
[ومعناه المبتدَع: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لقرينة ، فهو بهذا المعنى تحريف للكلام عن مواضعه] .
ثم قال: [وهو أصل منهجي من أصول الأشاعرة ،    … وضرورته لمنهج عقيدتهم أصلها أنه لما تعارضت عندهم الأصول العقلية التي قرروها بعيداً عن الشرع مع النصوص الشرعية وقعوا في مأزق رد الكل أو أخذ الكل ، فوجدوا في التأويل مهرباً عقلياً من التعارض الذي اختلقته أوهامهم ، ولهذا قالوا إننا مضطرون للتأويل وإلا أوقعنا القرآن في التناقض]. وأضاف قائلاً: [فأي تناقض في كتاب الله يا مسلمون نضطر معه إلى رد بعضه أو الاعتراف للأعداء بتناقضه؟!] .
ثم قال: [وهنا لا بد من زيادة التأكيد على أن مذهب السلف لا تأويل فيه لنص من النصوص الشرعية إطلاقاً ، ولا يوجد نص واحد ـ لا في الصفات ولا غيرها ـ اضطر السلف إلى تأويله] .
ثم قال: [وإن تعجب فاعجب لهذه اللفظة النابية التي يستعملها الأشاعرة مع النصوص ، وهي أنها توهم التشبيه ولهذا وجب تأويلها ، فهل في كتاب الله إيهام؟ ! أم إن العقول الكاسدة تتوهم والعقيدة ليست مجال توهم؟ !] .
ثم قال: [أما دعوى أن الإمام أحمد استثنى ثلاثة أحاديث وقال لا بد من تأويلها فهي فرية عليه افتراها الغزالي في الإحياء وفيصل التفرقة] .
ثم قال: [فلماذا يكون تأويلُ الأشاعرة لعلو الله ـ الذي تقطع به العقول والفطر والشرائع ـ تنزيهاً وتوحيداً وتأويلُ الباطنية للبعث والحشر كفراً وردة؟ ! أليس كل منهما رداً لظواهر النصوص مع أن نصوص العلو أكثر وأشهر من نصوص الحشر الجسماني ؟!] .

أقول:
1- يجيز الأشاعرة صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لدليل يقترن باللفظ فيصرفه عن ظاهره ، وهذا الدليل هو الذي قد يسمى عندهم "قرينة" ، فأما صرف اللفظ عن ظاهره لغير دليل فلا يجوز ، وهذا هو الذي يعد تحريفاً ، أما "التأويل الصحيح" الذي يشهد له دليل بالصحة فلا شك في وجوب قبوله ، ومن الانحراف أن يطلق عليه لفظة "التحريف" .
واستمع إلى الإمام الباقلاني وهو يقول في معرض مناقشة المعتزلة والرد عليهم: [وذلك أن هذا عدول عن الظاهر إلى غيره بغير دليل] [ ] . أي: فلا يجوز .
وقال فخر الدين الرازي: [إذا كان لفظ الآية والخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل ، وإلا لخرج الكلام عن أن يكون مفيداً ولخرج القرآن عن أن يكون حجة] . ثم قال: [صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع] [ ] .
وقال تاج الدين السبكي في أوائل مباحث "الكتاب" من جمع الجوامع: [ولا يجوز ورود … ما يُعنى به غير ظاهره إلا بدليل] . ثم قال في مبحث الظاهر والمؤول من مباحث "الكتاب" : [الظاهر ما دل دلالة ظنية ، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حُمل لدليل: فصحيح ، أو لما يُظن دليلاً: ففاسد ، أو لا لشيء: فلعب ، لا تأويل] [ ] .
فانظر ـ رحمك الله ـ إلى تمسك الأشاعرة بظاهر ما يدل عليه اللفظ ، وإلى أن الخروج عن ظاهر اللفظ إنما يصح عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع ، وهو ما يطلقون عليه "التأويل الصحيح" ، أما الخروج عن ظاهر اللفظ لما يظنه المرء دليلاً دون أن يكون في حقيقة الأمر دليلاً فهو "التأويل الفاسد" ، وأما الخروج عن ظاهر اللفظ لا لدليل ولا لشبهة دليل فهذا لعب ، وليس من التأويل في شيء ، وهو الذي يجب أن نطلق عليه أنه "تحريف للكلام عن مواضعه" ، فلا تخلط ـ هداك الله ـ بين التأويل الصحيح وبين غيره من التأويل الفاسد والتحريف .
2 ـ وأضرب لك مثالاً على التأويل الصحيح عند الأشاعرة ، قال الله تعالى في القرآن العظيم [نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ] [ ] ، فتأتي كلمة النسيان في كلام العرب بمعنى الآفة وذهاب العلم ، وتأتي بمعنى الترك ، واستعمالها بالمعنى الأول أكثر ، ولذا كان هو [الظاهر الراجح] من كلمة النسيان بصفة عامة وكان المعنى الثاني هو [الاحتمال المرجوح] .
ويتعين في قوله تعالى [فَنَسِيَهُمْ] العدولُ عن تفسير النسيان بمعنى الآفة وذهاب العلم إلى معنى الترك ، والقرينة الصارفة استحالة المعنى الأول على الله تعالى عقلاً ونقلاً ، أما عقلاً فلأنه يستحيل على الله تعالى أن يتصف بصفات النقص من الآفة والعجز ، وأما نقلاً فلأن الله سبحانه وتعالى يقول [ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً] [ ] . ويقول سبحانه وتعالى [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى] [ ] .
فإن قلت إن هذا المعنى مفهوم وظاهر من السياق وليس هذا تأويلاً ؛ فيقول لك الأشاعرة: نعم ، إن هذا المعنى هو المفهوم والظاهر من السياق ، لا من مجرد لفظ بعينه ، وهذا هو التأويل عندنا ، وسمه ما شئت ، ولكنك لا تستطيع أن تنفك عن صرف ذلك اللفظ عن المعنى الأكثر استعمالاً ، سواء في لغة العرب أو في كتاب الله تعالى ، ولا تستطيع أن تقول إن لله تعالى نسياناً حقيقياً يليق به .
3ـ  والأوضح من هذا قول الله تعالى في الحديث القدسي للعبد يوم القيامة [مرضت فلم تعدني] ، وليس المراد أن الله تعالى يتصف بالمرض قطعاً ، والمراد هو أن عبداً من عباد الله تعالى مرض ، وهو التفسير الذي جاء في الحديث نفسه .
ويتعين في هذه اللفظة العدول عن تفسيرها بمعنى الآفة ، لاستحالة هذا المعنى على الله تعالى ، وهذا هو التأويل عند الأشاعرة ، ولا تسـتطيع أن تقول إن لله تعالى مرضاً حقيقياً يليق به .
وقد تقدم هذا مع أمثلة أخرى في الموضوع الأول الذي عنوانه [مصدر التلقي] فراجعه . وتذكر كيف فسر ابن تيمية رحمه الله الحديث بالمعنى الصحيح الوارد في الحديث نفسه ، بخلاف الظاهر المتبادر من لفظة "مرضتُ" ، ولكنه يسـمي هذا "تفسيراً" ويأبى تسميته "تأويلاً" !!! .
ونحوذلك لفظة التردد الواردة في الحديث القدسي الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى [من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب … ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته] [ ]  .
فقد نقل ابن حجر في شرح الحديث تأويلَ الخطابي والكلاباذي وابن الجوزي والكرماني لهذه الفقرة الأخيرة ، وصرْفَهم لها عن ظاهر معنى التردد ، وذكرَ بعضَ ما قالوه في تأويل لفظ التردد الذي جاء فيها .
ولا يخفى أن التردد عن الشيء هو الرجوع عنه وإليه كرة بعد أخرى ، والذي يقع له التردد هو الذي تشتبه عنده وجوه المصلحة بين الفعل والترك ، ولا شك في أن هذا يستحيل على الله تعالى ، وهذه الاستحالة هي القرينة على صرف معنى لفظة التردد من هذا المعنى المحال إلى معنى آخر ، وهو أنه سبحانه وتعالى يفعل ما تشبه صورته صورة فعل المتردد ، أي إنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات .
أما ابن أبي العز سامحه الله عند شرح قول الطحاوي ونحب أهل العدل والأمانة فقد ذكر الحديث وقال: [فبيّن أنه يتردد ، لأن التردد تعارض إرادتين ، وهو سبحانه يحب ما يحبه عبده المؤمن ويكره ما يكرهه ، … وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه ، فسمى ذلك تردداً...] .
أقول: فقوله [فبين أنه يتردد] إثبات لصفة التردد لله جل وعلا ، وقوله [لأن التردد تعارض إرادتين] تأكيد لإثبات ذلك ، أما قوله [وهو يحب ما يحب عبده المؤمن ويكره ما يكرهه ، ... وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه فسمى ذلك تردداً] فهذا تفسير للفظة التردد بغير أصل معناها ، ولذا قال [فسمى ذلك تردداً] ، وهل هذا إلا تأويل؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!! . ومن الغريب أن التردد الوارد في الحديث هو التردد في الفعل ، إذ يقول سبحانه [وما ترددت عن شيء أنا فاعله   …] ، فنقله إلى معنى آخر ، وهو محبة ما يحبه عبده المؤمن وكراهية ما يكرهه ، ومع ذلك فإن هذا عند بعض الباحثين [تفسير] ، ويأبون من كلمة [تأويل] ، بل وينكرون على من يقول ذلك ، وكأن المسألة مسألة اختلاف في التسمية ‍! .
4 ـ  قال الله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى] [ ]  .
فما معنى كون الأسرى في أيدي المؤمنين؟ وهل إذا طلب من المؤمنين أن يفتحوا أيديهم فإننا نجد الأسرى فيها ؟؟! هذا ما يفهم من ظواهر الألفاظ المقطوعة عن السياق ، وليس هذا هو المراد ، والمعنى هو أن الأسرى تحت سيطرة المؤمنين ، وهذا يسميه الأشاعرة [تأويلاً] .
5 ـ  قال الله تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ] [ ] .
فهل يختلف خلق المخلوقات على الله سبحانه وتعالى سهولة وصعوبة حتى تكون الإعادة أهون عليه من الابتداء ؟‍‍‍‍‍! تعالى ربنا عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، وليس هذا هو المراد ، فالكل عند الله تعالى هين وأيسر من اليسير ، ولكن كأنه يقول للناس: كيف تتعجبون من الإعادة وتنكرونها وهي في عرفكم أهون من الابتداء؟ !! . وهذا يسميه الأشاعرة [تأويلاً] .
6 ـ  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وَلْيُلْبِسْه مما يلبَس ، ...] [ ] .
فكيف نفهم قوله صلى الله عليه وسلم [تحت أيديكم]؟ أبظاهر هاتين اللفظتين؟ ‍! وهل إذا نظرت تحت يد السيد لوجدت جميع عبيده تحت يده؟ ‍! أو إن المعنى يُؤول بملك السيد للعبد ونفوذ تصرفه فيه؟ ‍! .
7 ـ  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد][ ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المؤمن يأكل في مِعىً واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء] [ ] . الأمعاء جمع ، ومفرده مِعىً .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وعضوا عليها بالنواجذ] [ ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل] [ ] .
وقال أنس رضي الله عنه : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء من المدينة كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة كل شيء [ ] .
فهل تفهم  ـ أيها العاقل المستبصر ـ  من ظواهر الألفاظ أن الخطيئة تغسل بالماء والثلج والبرد؟ ‍! وأن الكافر يأكل في سبعة أمعاء بينما المؤمن يأكل في معى واحد؟ ‍! وهل تعض على السنة النبوية بنواجذك التي تعض بها على اللقمة؟ ‍! وهل أضاءت المدينة المنورة يوم دخوله صلى الله عليه وسلم إليها إضاءة النهار وأظلمت يوم وفاته ظلام الليل؟ ‍! . فإذا فهمت النصوص بغير ظواهر الألفاظ المقطوعة عن السياق فهذا هو [التأويل] عند الأشاعرة .
8 ـ  قال رسول الله صلى عليه وسلم: [عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يمل الله حتى تملوا][ ] .
فهل الله سبحانه وتعالى يَمَلُّ؟ نعوذ بالله من أن يقول قائل إن الله يدركه الملل ‍!‍!‍! فالملل من صفات المخلوقين ، وجل ربنا وتقدس عن أن يوصف بما يختص به المخلوق من صفة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته ، وهو محال على الله تعالى باتفاق . ونقل عن الإسماعيلي وجماعة من المحققين أنه إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازاً ، ثم نقل عن القرطبي أنه قال: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه[ ] .
ونعوذ بالله من أن يقول قائل إن للهِ مللاً يليق به لا يشبه ملل المخلوقين ، متذرعاً بأنه يثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع نفي التشبيه ‍!‍!‍! فهل يوصف الله تبارك وتعالى بصفة نقص ثم يقال [مع نفي التشبيه]؟ ‍! .
9 ـ  روى البخاري من طريق مسروق بن الأجدع عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لُحُوقاً؟ . فقال: [أطولكن يداً] . فأخذوا قصبة يذرعونها ، فكانت    …  أطولَهن يداً ، فعلمنا بعدُ أنما كانت طولَ يدها الصدقة ، وكانت أسرعَنا لحوقاً به ، وكانت تحب الصـدقة [ ] .
وروى مسلم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أسرعكن لَحَاقاً بي أطولكن يداً] . قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً .قالت: فكانت أطولنا يداً زينب ، لأنها كانت تعمل بيدها وتصَّدَّق [ ] .
وروى الحاكم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: [أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً] . قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار ، نتطاول ، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش ، وكانت امرأة قصيرة ، ولم تكن أطولنا ، فعرفنا حينئذٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة [ ] .
المعنى الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم [أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً] أن الزوجة التي أعطاها الله تعالى بسطة في الجسم وطول اليد هي أسرع لحاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، فكانت أمهات المؤمنين يذرعن أيديهن بقصبة ، أو يمددن أيديهن في الجدار ، ليعلمن من منهن هي الأطول يداً؟ وبالتالي من منهن هي الأسرع لحاقاً بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ .
أليس هذا هو ما يدل عليه الحديث حسب ألفاظه؟ ! أليس هذا هو ما فهمته أمهات المؤمنين من الحديث؟ !!! .
ثم لما توفيت زينب بنت جحش قبل غيرها وكانت الأسرعَ لحاقاً به صلى الله عليه وسلم؛ تبين لسائر أمهات المؤمنين أن المراد من الحديث ليس هو المعنى الذي تبادر إلى أفهامهن ، فزينب امرأة قصيرة ، ولم تكن أطولهن يداً ، إلا أنها كانت تحب الصدقة كثيراً ، وكانت امرأة صَناَعاً ، فكانت تعمل بيدها وتتصدق ، فعلمن رضي الله عنهن أن المراد من طول اليد في الحديث كثرة الصدقة .
فهل يمكن أن يأتي نص ويكونَ معناه المراد منه هو غير المعنى الظاهر؟ أترك الجواب لأرباب الحِجَى .
10 ـ  يتهم الباحث الأشاعرة بأنهم قرروا الأصول العقلية بعيداً عن الشرع ولم يذكر مثالاً واحداً على ذلك ، ولم يأت بدليل على صحة قوله ، فلا يمكن أن يقبل هذا منه ، ولولا المطالبة بالدليل لادعى من شاء ما شاء .
11 ـ  يتوهم الباحث أن التأويل ضروري لمذهب الأشاعرة ، حيث إنه مهرب عقلي من التناقض الذي اختلقته أوهامهم بين الأصول العقلية والنصوص الشرعية ! وليس كذلك .
بل فهم النصوص الشرعية بدون تأويل الظواهر التي ليست مرادة للشارع: أمر مستحيل .
مثال ذلك قوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى][ ]. فقد نفى ربنا تبارك وتعالى بقوله [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ] أن يكون المؤمنون قتلوا قتلى المشركين يوم بدر ، والظاهر المشاهد أنهم قتلوهم ، فهل قتلوهم أو لم يقتلوهم؟ .
إن قلت لم يقتلوهم خالفت الواقع المشاهد والظاهر المحسوس ، وهو أنهم قتلوهم ، وإن قلت قتلوهم خالفت ظاهر ألفاظ الآية الكريمة الذي أفاد أنهم لم يقتلوهم ولكن الله تعالى هو الذي قتلهم .
وقد نفى ربنا تبارك وتعالى بقوله [وَمَا رَمَيْتَ] أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رمى ، وأثبت بقوله [إِذْ رَمَيْتَ] أنه رمى ، فهاتان كلمتان فيهما نفي ثم إثبات ، فإن قلت إنه لم يرم خالفت الواقع المشاهد ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، وخالفت ما أثبته الله تعالى قي قوله [إِذْ رَمَيْتَ] ، وإن قلت إنه رمى خالفت ظاهر قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ] .
وهنا تجد نفسك أنك لا تستطيع أن تفسر الآية الكريمة حسب ظواهر الألفاظ ، وأنه يجب فهمها حسب السياق ، ولذا فقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ]: أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم   … بل هو الذي أظفركم بهم ونصركم عليهم . وقال في تفسيرقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ]: أي هو الذي بلّغ ذلك إليهم وكَبَتَهم بها لا أنت[ ] .
فالتأويل عند الأشاعرة ليس مهرباً عقلياً من التعارض بين الأصول العقلية والنصوص الشرعية أو ظواهرها إذا فُهمت النصوص في ظل السياق الذي وردت فيه ، حسب المعهود من أساليب العرب في كلامهم ومخاطباتهم ، ولكنه لدرء التعارض بين الأحكام العقلية القطعية وظواهر بعض ألفاظ النصوص إذا فُهمت تلك الألفاظ مبتورة عن السياق الذي وردت فيه ، وعن المعاني والصور البلاغية التي اشتملت عليها النصوص .
فالاحتجاج بقوله تعالى [فَنَسِيَهُمْ] على أن لله نسياناً يليق به: مرفوض ، والاحتجاج بقوله تعالى في الحديث القدسي [مرضتُ] على أن لله مرضاً يليق به: مرفوض ، والاحتجاج بقوله تعالى في الحديث القدسي [وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة] على قرب المسافة: مرفوض ، وكذا الاحتجاج به على أن لله مشياً وهرولة يليقان به: مرفوض ، وذلك لأن الظواهر من الألفاظ المبتورة عن سياقها ليس هو المراد من النصوص ، بل المراد من النصوص هو ما يظهر من معانيها في ظل سياقاتها ، وفي ظل الصور البلاغية التي اشتملت عليها ، والذي يؤول هو ظواهر الألفاظ المبتورة عن السياق ، وذلك لأنها تتناقض مع النصوص الثابتة المُحْكَمة ، والأحكام العقلية القطعية .
12 ـ  قال الله تعالى [ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] [ ] . أي يستخرجونه ، وإنباط الماء هو استخراجه من باطن الأرض ، فكأنه لا بد من الغوص في أعماق المعاني لاستخراج المعنى المراد ،ومن هنا كان تفاوت العلماء في دقة الاستنباط والوقوف على المعنى المراد .
وتدبر حيث لم يقل الله تعالى لَعَلِمَهُ الذين يسمعونه منهم ، وإنما قال [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] .
13 ـ  القرآن الكريم ليس فيه تناقض ، والله تبارك وتعالى يقول: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] [ ] .
والذي ينفي صحة التأويل بإطلاق يلزم من قوله هذا أن يكون في القرآن تناقض ، كما في الآية السابقة: [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ] ، فتعّين على من يقول بنفي التناقض عن القرآن أن يفهمه بطريقة [التأويل الصحيح] ، لا بدعوى نفاة التأويل .
14 ـ  ادّعى الباحث أن مذهب السلف لا تأويل فيه لنص من النصوص الشرعية إطلاقاً ، وهذا تسرع في النفي ، وهو كلام منقوض .
فمما ينقضه ما رواه البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: [لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة] . فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها . وقال بعضهم: بل نصلي ، لم يرد منا ذلك . فُذِكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنّف واحداً منهم [ ] . فقد أخذت الطائفة الأولى بظاهر النص الذي ينهى عن صلاة العصر ذلك اليوم إلا في بني قريظة ، وأولت الطائفة الثانية النهي بما يخرج النص عن ظاهره ، وقالوا [لم يرد منا ذلك] ، وكأنهم تأولوه على معنى الإسراع في التوجه إلى بني قريظة ، فهل كان صرفهم للنص عن ظاهره إلا [تأويلاً]؟ ‍‍وانظر كيف كانت قرينة الحال الدالة على معنى الإسراع كافية في جعل ذلك التأويل من باب [التأويل الصحيح] ، وانظر كيف أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلتا الطائفتين ولم يعنف واحدة منهما . 
ومما ينقضه ما رواه هناد بن السري رحمه الله ، قال: حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي َنجيح ، عن مجاهد أنه قال في تفسير قوله تعالى [ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً] [ ]: [ليس فيها بكرة ولا عشي ،ولكن يؤتون به على الذي يحبون من البكرة والعشي] [ ] . ومجاهد هو أحد أئمة التابعين وأحد الآخذين عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولم ينفرد بهذا التأويل .
15 ـ  العلماء الذين ورد عنهم التأويل جماعة كبيرة ، ومنهم الشافعي وأحمد والبخاري رحمهم الله ، ولا يستطيع أحد أن يتهمهم بأنهم على غير طريقة السلف .
قال الشافعي عن القرآن : وأن منه ظاهراً يُعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره [ ] .
وسيأتي قريباً عن الإمام أحمد إن شاء الله تعالى أنه أوّل بعض النصوص .
ونقل عن الحافظ الثقة حماد بن زيد المتوفى سنة (179هـ) رحمه الله أنه فسر حديث [ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا …] بقوله : نزوله إقباله [ ] .
وأما البخاري فقد قال : وقال بعضهم إن أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه الذين لم يعرفوا المجاز من التحقيق ، … فأما بيان المجاز من التحقيق فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس [وجدته بحراً] ، وهو الذي يجوز فيما بين الناس ، وتحقيقه أن مشيه حسن [ ] .
كما أوَّلَ الضحك الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم [فيضحك الله تبارك وتعالى منه] فقال: معنى الضحك فيه الرحمة [ ] .
وقد بين الإمام الشافعي رحمة الله عليه في النص المنقول آنفاً أن في القرآن الكريم ما له ظاهر ويراد به غير ظاهره ، وأن معرفة المراد تكون بالنظر في السياق ، وهذا يسميه الأشاعرة [تأويلاً] .
وتفريق الإمام البخاري بين مجاز القول وتحقيقه وتفسيره للحديث بما يخرجه عن المعنى الظاهر من لفظة البحر هو نوع من [التأويل] .
16 ـ  ومن الغريب أن ابن تيمية رحمه الله لا يستنكر التأويل في بعض المواطن ، فقد قال: ووصفَ الله تعالى نفسه ببسط اليدين فقال [بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ] [ ] ، ووصفَ بعض خلقه ببسط اليد في قوله [وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ] [ ] ، … وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ولا جوده كجودهم.
أقول: وإذا جاز تفسير بسط اليدين بالإعطاء والجود فهذا هو [التأويل] عند الأشاعرة .
17 ـ  إذا وجدنا الأشاعرة أو بعض الأشاعرة يقولون عن بعض النصوص [إنها توهم التشبيه ولهذا وجب تأويلها] ؛ فينبغي أن لا نتسرع بحمل هذا الكلام على معنى لم يقصدوه ، والإقذاع لهم بالقول عما لم يعتقدوه ، بل الواجب هو تفهمه في ضوء سائر كلامهم ومرامهم .
ومعناه هو أن تلك النصوص إذا فسرت حسب معاني الألفاظ مقطوعة عن سياقها فإنها توهم التشبيه ، وخاصة في أذهان الداخلين في الإسلام من غير العرب الذين قد تترجم لهم النصوص ترجمة حرفية ، أو  في أذهان من سار على هذه الطريقة في الفهم ، ولذا فإنها تفسر حسب أساليب العرب البلغاء في البيان ، وبما يتفق مع الحقائق العقلية القطعية والنصوص المُحْكمة الشرعية ، لا حسب تجميع معاني المفردات .
18 ـ  زعم الباحث أن أبا حامد الغزالي رحمه الله افترى على الإمام أحمد رحمه الله ، إذ ادّعى أن الإمام أحمد استثنى ثلاثة أحاديث وقال لا بد من تأويلها ، وهو زعم ينقصه الدليل ، بل وينقضه الدليل .
والذي ينقضه هو أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قد ثبت عنه أنه أول بعض النصوص:
فمن ذلك ما رواه البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو ابن السماك عن حنبل أن أحمد ابن حنبل تأول قول الله تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ ] [ ] أنه جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه [ ] .
ومن ذلك ما روي عنه أنه أوّل الحديث النبوي الذي فيه [تجيء يوم القيامة سورة البقرة] فقال: إنما هو الثـواب [ ] .
ومن ذلك ما روي عنه في تفسير قوله تعالى [ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّه] [ ] ، قال: المراد به قدرته وأمره [ ] .
ومن ذلك قوله في حديث [إن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب فيأتي صاحبه فيقول هل تعرفني ؟ ...] . قال الإمام أحمد: [كلام الله لا يجيء ، ولا يتغير من حال إلى حال ، وإنما معنى أن القرآن يجيء إنما يجيء ثواب القرآن] [ ] . وهذا إن ثبتت نسبته إليه .
19 ـ  يتساءل الباحث لم يكون تأويل الأشاعرة لعلو الله تبارك وتعالى تنـزيهاً وتوحيداً وتأويل الباطنية للبعث والحشر كفراً وردة؟ 
لقد أثبت الله تبارك وتعالى العلو لنفسه فقال [ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ] [ ] ، فأثبت الأشاعرة له العلو المطلق ، أي ليس فوقه فيما يجب له من صفات الكمال أحد ، بل ولا يشاركه في ذلك أحد ، وينفون تفسير العلو بما يشبه علو جسم على جسم وكلَّ اللوازم المترتبة عليه ، كقول القائل إن من على رأس الجبل أقرب إلى الله ممن في بطن الوادي ، أي وكلما صعد الإنسان إلى الأعلى صعودَ أجسام ومسافات صار أقرب ، وهذا التصور عن العلو هو الذي حكاه ربنا تبارك وتعالى عن فرعون بقوله: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى] [ ] . فالجمع بين النصوص جعل الأشاعرة يؤولون العلوَّ بما ليس من جنس علو جسم على جسم ، ثم إن العقل ينفي مماثلة الله تعالى للمخلوقين في الصفات ، كما ينفي المماثلة في الذات ، ويعترف بعد ذلك بعجزه عن إدراك حقيقة الذات والصفات ، فالله تعالى هو العلي كما ينبغي له سبحانه .
أما تأويل الباطنية للبعث والحشر فهو ادعاؤهم أن الإنسان إذا مات فلا يمكن أن يعاد مرة أخرى ، أي فلا بعث ولا حشر ولا حساب ولا جزاء ، ويقولون إن المراد من نصوص الوحي المشتملة على ذلك إنما يراد بها تصورات الإنسان بأنه يحاسب على أفعاله ، وأن نعيم الجنة هو مشاعر الفرح والسرور بما قدم من إحسان ، وأن عذاب جهنم هو مشاعر الحزن والغم بما قدم من إساءة!!! فهل أولوا نصوص الوحي المشتملة على ذلك للجمع بينها وبين نصوص أخرى؟!!! أو أولوا تلك النصوص لدلالة عقلية على استحالة وقوعها؟ !!! لا شيء عندهم لا في هذا ولا ذاك ، وليس بأيديهم سوى العناد والاستكبار ، ومقابلة دلالات النصوص الجلية بالإنكار ، بل الدلائل العقلية تدل قطعاً على جواز وقوع المعاد والحشر والجزاء ، وهو ما أكدته نصوص الوحي القطعية ، فهو جائز الوقوع من حيث الدليل العقلي قبل ورود النصوص ، وثابت وواقع جزماً وقطعاً بعد ورود نصوص الوحي التي أثبتت وقوعه بنصوص لا تحتمل التأويل . فليس تأويل الباطنية إلا [تأويلاً فاسداً] لا يستند إلى دليل أو قرينة ، بل ولا شبهة دليل .
فكيف يصح تشبيه هذا التأويل الفاسد بذلك التأويل الصحيح؟ !!! .
20 ـ  هنالك شبهة في موضوع التأويل أثارها ابن تيمية رحمه الله وطالما رددها بعض من جاؤوا بعده ، تلك هي قوله: [واللهُ سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال] [ ] .
وقد تقدم ما فيه الجواب ، وخلاصته أن كلام الله تعالى الذي وصف به نفسه يستحيل أن يكون ظاهره ما هو كفر أو ضلال إذا فُهم في ظل السياق الذي ورد فيه ، حسب المعهود من أساليب العرب في كلامهم ومخاطباتهم ، وأنه لا يكون ظاهره كذلك إلا إذا أخذت المعاني من الألفاظ المبتورة عن السياق ، بعيداً عن المعهود من أساليب العرب .
هذا وقد أطلت في موضوع التأويل بعض الإطالة لمزيد إيضاحه وتجليته ، ولأن فهمه ـ بوضوح ـ يعين في فهم عدد من الموضوعات الأخرى .
ولعل من المفيد أن أنقل هنا قول ابن تيمية رحمه الله عن التأويل المذموم الباطل ، فقد قال: [وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك] [ ] . فعليك ايها الباحث أن تعض على قوله هذا بنواجذك ،وتدبر قوله [بغير دليل يوجب ذلك] .
21 ـ استخدم ابن تيمية التأويل مع بعض النصوص الواردة عند أهل الكتاب ، فقد قال في معرض مناقشته للنصارى القائلين إن عيسى هو ابن الله: [لفظ الابن يعبر به عمن هو ولد الولادة المعروفة ويعبر به عمن كان هو سبباً في وجوده ، كما يقال ابن السبيل لمن ولدته الطريق ، فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده ، ويقال لبعض الطير ابن الماء ، لأنه يجيء من جهة الماء ، ويقال كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ... ، وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ، كما ذكروا أن المسيح قال أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ، وفي التوراة أن الله قال ليعقوب أنت ابني بكري ، ونحوذلك مما يراد به إذا كان صحيحاً معنى صحيح ، وهو المحبة له والاصطفاء ، وكان المعنى مفهوماً عند الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه ، وهو من الألفاظ المتشابهة ، فصار كثير من اتباعهم يريدون به المعنى الباطل] [ ] . فتدبر قوله [ونحوذلك مما يراد به إذا كان صحيحاً معنى صحيح ، وهو المحبة والاصطفاء] .
وتفسير كلمة [الابن] على معنى المحبة والاصطفاء [تأويل] ، لأن المعنى الظاهر منها هو معنى البنوة المعروف في قولك فلان بن فلان ، وليست المعاني الأخرى التي يحمل عليها ابن السبيل وابن الماء وأبناء الآخرة مساوية في الظهور لمعنى البنوة المعروف ، بل ولا مقاربة له ، بل لا تجيء أصلاً في نحوقولك فلان بن فلان ، فاعجب ممن يجعل لفظة الابن من المتشابه أو المشترك .
وإذا كان تفسير [أنت ابني بكري] على معنى المحبة والاصطفاء سائغاً ؛ وإذا كان تأكيد المعنى بقوله عنه إنه الابن البكر لا يمنع من ذلك التفسير ؛ ففي هذا دلالة على إن إتْباع اللفظ بما يؤكده ليس بمانع ـ عند ابن تيمية رحمه الله ـ من مثل ذلك التفسير الذي يصرف المعنى الظاهر إلى غيره لدليل . 
هذا ولم يتعرض ابن تيمية لتفسير كلمة [أبي وأبيكم] في النص الذي نقله عن أهل الكتاب كما فعل مع لفظة [الابن] ، وهل يستطيع أن يفسرها بغير صرفها عن معناها الظاهر من معنى الأبوة لاستحالته على الله تعالى؟ !! وهل هذا إلا [تأويل] ؟ !! .
 
الموضوع الثاني عشر:          السمعيات

قال الباحث:
[يقسم الأشاعرة أصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إلى ثلاثة أقسام:
قسم مصدره العقل وحده ، وهو معظم الأبواب ، ومنه باب الصفات ، … وهذا القسم هو ما يحكم العقل بوجوبه دون توقف على الوحي عندهم .
وقسم مصدره العقل والنقل معاً ، كالرؤية ، … وهذا القسم هو ما يحكم العقل بجوازه استقلالاً أو بمعاضدة الوحي .
وقسم مصدره النقل وحده ، وهو السمعيات ، أي المغيبات من أمور الآخرة ، كعذاب القبر والصراط والميزان ، وهو عندهم ما لا يحكم العقل باستحالته لكن لو لم يرد به الوحي لم يستطع العقل إدراكه منفرداً ، … فهذه الأمور الغيبية نتفق معهم على إثباتها ، لكننا نخالفهم في المأخذ والمصدر ، فهم يقولون عند ذكر أي أمر منها نؤمن به لأن العقل لا يحكم باستحالته ولأن الشرع جاء به ، ويكررون ذلك دائماً ، أما في مذهب أهل السنة والجماعة فلا منافاة بين العقل والنقل أصلاً] .
ثم قال الباحث: [وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبداً ، كما أنه ليس هناك أصل منها لا يستطيع العقل إثباته أبداً] .

أقول :
1ـ  نسب الباحث إلى الأشاعرة أن القسم الأول من أقسام أصول العقيدة ـ  وهو ما يشمل صفات الله تعالى ومعظم أبواب الاعتقاد ـ مصدره عندهم العقل وحده ‍‍‍!!! وكأنه يوحي للقارئ أن تلك الأبواب من أصول العقيدة تُتلقى  ـ عند الأشاعرة ـ  من العقل دون النقل!!! . وهذا ليس بصحيح .
قال الإمام البيهقي رحمه الله:[فصفات ذاته ما يستحقه فيما لم يزل ولا يزال ، وهي على قسمين ، أحدهما عقلي، والآخرسمعي، فالعقلي ما كان طريق إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به ، ... وأما السمعي فهو ما كان طريق إثباته الكتاب والسنة فقط] [ ] .
أفيظن عاقل عنده مُسكة من عقل أن الأدلة على وجود الله تعالى وحياته وعلمه وإرادته وقدرته وسمعه وبصره هي أدلة عقلية فقط وليست عقلية ونقلية؟ !!! فالعقل يدل على ذلك وآيات القرآن تدل عليه ، والدلائل متضافرة على إثبات تلك العقائد ، ولا يشك في هذا عاقل متدبر ، والأشاعرة لا يقولون بخلافه .
لكن ما الذي يقوله الأشاعرة في هذا؟ لنأخذ على سبيل المثال ما يقوله إمام الحرمين:
قال إمام الحرمين: [أصول العقائد تنقسم إلى ما يُدرك عقلاً ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً ، وإلى ما يُدرك سمعاً ولا يتقدر إدراكه عقلاً ، وإلى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً ، فأما ما لا يدرك إلا عقلاً فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى ووجوبِ اتصافه بكونه صدقاً ، إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى ، وما يسبق ثبوتُه في الترتيب ثبوتَ الكلام وجوباً فيستحيل أن يكون مدركه السمع] [ ] .
لقد بيّن إمام الحرمين رحمه الله أن القسم الأول من أقسام أصول العقيدة عند الأشاعرة هو ما يدرك عقلاً ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً ، يعني أنه يستدل عليه بالأدلة العقلية التي يحتج بها على المخالف ، ولا يصح أن نقدر أنه يستدل عليه بالأدلة السمعية ، ولم يقل [هو ما يدرك عقلاً ولا يدرك سمعاً] . وبينهما فرق واضح .
تصور إنساناً عطل عقله فلم يجد دليلاً على الله تبارك وتعالى وصفات كماله ، ولم يجد دليلاً على أن القرآن كلام الله ، ثم أقر بوجود الله وبصفاته وبأن القرآن كلام الله لأنه وجد ذلك في القرآن ، أفيسمى مثل هذا مؤمناً متمسكاً بدليل؟ !!! أليست تلك الأصول الاعتقادية مما يجب أن يكون مدركها العقل؟ !!! فإذا أثبتها العاقل المتدبر بالدلائل العقلية فإنه يستشهد عليها بعد ذلك بالدلائل السمعية القرآنية ، وهذا معنى قول إمام الحرمين [وما يسبق ثبوتُه في الترتيب ثبوتَ الكلام وجوباً فيستحيل أن يكون مدركه السمع] .
2ـ نسب الباحث إلى الأشاعرة أن هذا القسم الأول هو ما يحكم العقل بوجوبه دون توقف على الوحي عندهم ، فما أدري وجه الغرابة في هذا؟ ألا يحكم العقل السليم بأن الله تعالى واجب الوجود وأنه العليم الحكيم السميع البصيرالذي ليس كمثله شيء بالأدلة العقلية قبل ورود الأدلة السمعية بذلك؟ !!! .
وإلى نحوهذا يشير كلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: [فلا بد في آخر الأمر من أن يثبت موجوداً واجباً قديماً ، متصفاً بصفات تميزه عن غيره ، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه] [ ] .
3ـ  نسب الباحث إلى الأشاعرة أن من القسم الذي مصدره العقل والنقل معاً مسألة الرؤية ، أي رؤية المؤمنين ربَّهم تبارك وتعالى في الآخرة ، فهل يُستدل على الرؤية بالأدلة العقلية ؟!!! .
قال إمام الحرمين : [وأما ما يجوز إدراكه عقلاً وسمعاً فهو… ، ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية ،… فأما كون الرؤية ووقوعها فطريق ثبوتها الوعد الصدق والقول الحق] [ ] .
أي : فأما إثبات جواز الرؤية فهو ـ عند الأشاعرة ـ  بالعقل والنقل ، وإما إثبات وقوع الرؤية وتحققها في الآخرة فهو بالنقل ، لأن العقل لا يحكم بوجوب كون الرؤية واستحالة عدمها ، فالمسألة في شقها الأول عقلية وسمعية ، وفي شقها الثاني سمعية. والباحث  ـ سامحه الله ـ لا ينتبه لمثل هذه الفروق .
وإلى نحو هذا يشير كلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: [وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل][ ] . أي: فالرؤية  ـ من حيث هي ممكنة غير مستحيلة ـ  فهذا يكون إثباته بالدليل العقلي ، أما حصول الرؤية ووقوعها للمؤمنين فهذا لا يكون إثباته بالدليل العقلي ، بل بالأدلة السمعية .
4ـ يتفق الباحث مع الأشاعرة على إثبات تلك الأمور الغيبية ، أي السمعيات التي ثبتت بالنقل ، كعذاب القبر والصراط والميزان ، لكنه يخالفهم  ـ على ما يقول ـ  في المأخذ والمصدر ، ونقل عنهم أنهم يقولون عند ذكر أي أمر منها نؤمن به لأن العقل لا يحكم باستحالته ولأن الشرع جاء به ، أما في مذهبه ـ  الذي ينقله عن أهل السنة والجماعة ـ فيقول إنه لا منافاة بين العقل والنقل أصلاً . فما الفرق بين المذهبين؟ !!! .
لم يقل الأشاعرة بوجود منافاة بين ما يحكم به العقل على سبيل القطع وبين ما يجيء به الشرع من طريق الجزم واليقين ، وقولهم عند ذكر أي أمر منها [نؤمن به لأن العقل لا يحكم باستحالته] هو تمهيد بين يدي قولهم [ولأن الشرع جاء به] ، وفي هذا تنبيه على أنه لو كان مما يستحيل عقلاً لكان مستحيلاً شرعاً ، أما إذا افترضنا مجيئه في نص شرعي فلا بد من التأكد من هذا النص ، من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة ، ولا بد أن يكون في هذه الحالة إما غير قطعي الثبوت وإما غير قطعي الدلالة ، فالمستحيل عقلاً مستحيل نقلاً ، وهذا أمر لا خلاف فيه ، وكثير من الناس لا يدركون مواطن الاتفاق ومواطن الاختلاف .
وليت الذي يذكر في هذا اختلافاً يذكر لنا مثالاً واحداً عن أمر ثبت في الشرع ولم يثبته الأشاعرة بدعوى أن العقل يحكم باستحالته !!! .
وإلى نحو مما تقدم يشير كلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول للمعتزلي عن أمر يناقشه فيه: [وليس لك أن تنفيه بغير دليل ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ، والسمع قد دل عليه ، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم] [ ] .
فلم تعيب أيها الباحث على الأشاعرة أنهم يقولون عند ذكر أي أمر من الأمور السمعية [نؤمن به لأن العقل لا يحكم باستحالته ولأن الشرع جاء به] ولا تعيب ذلك على ابن تيمية وقد قال [والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي] والمعنى واحد؟؟!!! .
5ـ  أما قول الباحث [وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبداً] فهذه دعوى مخالفة للواقع ، لأن الإيمان بوجود الله تعالى وعلمه وقدرته وإرادته يمكن أن يستقل العقل بإثباته ، وكثير من الفلاسفة آمنوا بذلك بالأدلة العقلية . أما إذا كان مراد الباحث أنه ليس هناك أصل من أصول العقيدة يثبته العقل ولا يثبته الدليل السمعي فكان الواجب عليه البيان .
وأما قوله [كما أنه ليس هناك أصل منها لا يستطيع العقل إثباته أبداً] فهذه كذلك دعوى مخالفة للواقع ، لأن الإيمان بالملائكة من أصول الإيمان ولا يستطيع العقل إثباته ، إنما هو ثابت بالأدلة النقلية السمعية .
هذا وفي كلام ابن تيمية رحمه الله ما يشير إلى أن المعاد  ـ بما يشمل البعث والجزاء ـ  يكون إثبات وقوعه وتحققه بالأدلة السمعية دون العقلية ، أما إمكان وقوعه فهذا مما يستدل عليه بهما معاً ، وذلك إذ يقول: [إن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضاً ، ... فإنه سبحانه وتعالى بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه ، كما بين أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه وما دل على المعاد وإمكانه][ ].
وإذا كان الباحث يرى أن مسألة الاستواء على العرش من أصول العقيدة فإن ابن تيمية رحمه الله يرى أن إثباتها لا يكون بالعقل مع النقل ، وذلك إذ يقول: [وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع] [ ] .
فكيف يصح ادّعاء الباحث بأنه ليس هناك أصل من أصول العقيدة لا يستطيع العقل إثباته أبداً؟ !! .
 
 
الموضوع الثالث عشر:        التكفير

قال الباحث:
[أما الأشاعرة فهم مضطربون اضطراباً كبيراً ، فتارة يقولون نحن لا نكفر أحداً ، وتارة يقولون نحن لا نكفر إلا من كفرنا ، وتارة يكفرون بأمور لا تستوجب أكثر من التفسيق أو التبديع ، وتارة يكفرون بأمور لا توجب مجرد التفسيق ، وتارة يكفرون بأمور هي نفسها شرعية ويجب على كل مسلم أن يعتقدها] .
ثم قال: [فأما قولهم لا نكفر أحداً فباطل قطعاً ، …. وأما قولهم لا نكفر إلا من كفرنا فباطل كذلك ،… وأما تكفير من لا يستحق سوى التبديع فمثل تصريحهم في أغلب كتبهم بتكفير من قال إن الله جسم لا كالأجسام ،… وأما تكفير من لا يستحق حتى مجرد الفسق أو المعصية فكتكفيرهم من قال إن النار علة الإحراق ،… وأما التكفير بما هو حق في نفسه يجب اعتقاده فنحوتكفيرهم لمن يثبت علو الله ومن لم يؤمن بالله على طريقة أهل الكلام] .

أقول :
1ـ  الأشاعرة يرون أن الكفر نقيض الإيمان ، وإذا كان الإيمان عندهم هو تصديق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به مع إذعان النفس لذلك وقبولها إياه ؛ فيكون الكفر عندهم هو عدم تصديقه صلى الله عليه وسلم في أمر مما جاء به ، ولا بد أن يكون قد علم مجيئه به ضرورة ، أي علم ذلك بطريق قطعي وذاع واشتهر اشتهاراً يقطع العذر .
ومن نصـوص الأشـاعرة في كـتب العقيدة قول عضد الدين الإيجي المتوفـى سـنة (756 هـ): [ولا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بما فيه نفي الصانع القادر المختار العليم ، أو بما فيه شرك ، أو إنكار النبوة ، أو إنكار ما علم مجيء محمد صلى الله عليه وسلم به ضرورة ، أو إنكار أمر مجمع عليه قطعاً ، أو استحلال المحرمات ، وأما غير ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر ، ومنه التجسيم] [ ].
2ـ  لم يقل الأشاعرة [لا نكفر أحدا ً]، وهل يُظن بمسلم أن لا يكفر من لا يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر؟ !!! وهل يُظن بمسلم أن لا يكفر من يؤمن بالله ويعبد مع الله غيره؟ !!! وهل يُظن بمسلم أن لا يكفر من يؤمن بالله ويتخذ آيات الله هزواً؟ !!! ولكن الباحث يريد أن يلصق التهم الباطلة بمن يخاصمهم ثم يبين بطلانها فيثبت لنفسه الانتصار في المعارك المتوهَّمة . والذي وقفت عليه من كلام الأشاعرة هو غير هذا ، فقد قال تاج الدين السبكي في مبحث الاجتهاد من جمع الجوامع: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة] [ ] . وقال عضد الدين الإيجي: [جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يُكفر أحد من أهل القبلة] [ ] .
3ـ قول بعض الأشاعرة [لا نكفر إلا من كفَّرنا] هو قول لا يمثل رأي الأشاعرة ولا جمهورهم ، إنما قاله الأستاذ أبو منصور البغدادي ، ولم يعزه الإيجي لغيره ، ولا أدري إن كان قد تابعه عليه أحد [ ] .
وإنما لم يكفر جمهور المتكلمين والفقهاء من يكفرهم لأنه قد يكون متأولاً أخطأ في تأويله ، أي لا من باب تسمية الإيمان كفراً ، ولذا لم يكفر سيدنا علي رضي الله عنه الخوارج الذين كفروه ، وجمهور العلماء على وفق قوله رضي الله عنه في هذا .
4ـ لم يصرح الأشاعرة في أغلب كتبهم بتكفير من قال إن الله جسم لا كالأجسام ، كما ادعاه الباحث ، وإنما صرحوا بنقيض ذلك تماماً .
قال عضد الدين الإيجي بعد ذكره عدداً من المكفرات: [وأما غير ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر ، ومنه التجسيم] . وقد بين الجلال الدواني في شرحه أن التجسيم مع البلكفة غيرمكفر ، بخلاف التجسيم من غير البلكفة . وهذه الكلمة تعني قول القائل [بلا كيف][ ] .
أشار الزركشي إلى أن للإمام الأشعري رحمه الله قولين في تكفير المخطئين في الأصول والمجسمة ، وأنه رجع عند موته عن تكفير أهل القبلة ، وأن ترك التكفير هو اختيار القاضي الباقلاني وإمام الحرمين وابن القشيري وابن عبد السلام [ ] .
قال ابن حجر الهيتمي الشافعي: والمشهور من المذهب كما قاله جمع متأخرون أن المجسمة لا يكفرون ، لكن أطلق في المجموع تكفيرهم ، وينبغي حمل الأول على ما إذا قالوا جسم لا كالأجسام ، والثاني على ما إذا قالوا جسم كالأجسام [ ] .
فالذي يقول إن الله جسم لا كالأجسام فإن الأشاعرة يحكمون بتبديعه وتفسيقه لا بتكفيره ، أما الذي يقول بالجسمية وخصائص الجسمية فهذا الذي يكفرونه . فقد قال الباقلاني في معرض حديثه عن مثل هذا: [قلنا: أفتقولون إن الله تعالى جسم وجوهر وعرض؟ . فإن قالوا نعم فقد أقروا بصريح الكفر للتشبيه] [ ] . وقال فخر الدين الرازي: من يثبت كونه تعالى جسماً متحيزاً مختصاً بجهة معينة هل يحكم بكفره أو لا؟ للعلماء فيه قولان: أحدهما أنه كافر ، وهو الأظهر [ ] .
5ـ لو كان الباحث يعرف من الذين كفرهم الأشاعرة بقولهم إن النار علة الإحراق لما قال إن قولهم هذا لا يستحق مجرد الفسق أو المعصية ، وقد بينت من قبل أن الأشاعرة لا ينكرون ارتباط المسبَّبات بالأسباب ، ولكنهم ينكرون قول من يقولون إن النار هي علة الإحراق بذاتها ، لأنها لا بد عند أولئك المتفلسفين أن تكون محرقة ، ويعتقدون أنها لا يمكن أن تنفك عن صفة الإحراق ، وأن الله تعالى لا يقدر على أن ينزع منها صفة الإحراق . ولو عرف الباحث ما يقوله أولئك المتفلسفون لما تردد لحظة واحدة في تكفيرهم ، لا مجرد الحكم عليهم بالفسق والمعصية ، فضلاً عن تبرئتهم منهما .
6ـ  لم يكفرالأشاعرة من يثبت علو الله تعالى ، كما توهمه عليهم الباحث سامحه الله ، وليته يأتي بنصوصهم من كتبهم !!! . 
إن الأشاعرة يثبتون لله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى كما أثبتها لنفسه ، ومنها اسمه [العلي] الذي ورد في القرآن الكريم ، فالذي لا يثبت لله تبارك وتعالى أنه العلي هو الذي يكفر .
ولكن الذي يهرب منه الباحث تمام الهروب ولا يخطر بباله أن يعرج عليه هو تفسير العلو، فإن المجسمة يفسرونه تفسيراً مادياً ، بمعنى أن الله تعالى في مكان ، وأن بيننا وبينه مسافة ، وأن من يقف على الجبل أقرب إلى الله تعالى ممن يقف في الوادي ، وهذا هو الذي ينكره الأشاعرة ، ويصفون قائله بالبدعة والفسق والضلال ، واختلفوا في تكفيره [ ] .
وشتان بين من يصف الله تعالى بالعلو المنزه عن مشابهة علو المخلوقات من حد وجهة وتحيز ومسافة وبين من يصفه سبحانه بالعلو مع إثبات مشابهة علو المخلوقات .
7ـ  وأما من نسب للأشاعرة أنهم يكفرون من لم يؤمن بالله على طريقة أهل الكلام فهذا ما ينسب إلى بعضهم ، ولكن المحققين منهم يردّونه ، ويكفرون من لم يؤمن بالله إيماناً مستنداً إلى دليل ، لا بشرط استناده إلى دليل على طريقة أهل الكلام ، وإلا لما ذكر الباقلاني والمتولي والرازي والدردير من الأدلة على وجود الله تبارك وتعالى ما ليس على الطرق الكلامية ، كما تقدم .
الموضوع الرابع عشر:     الصحابة والإمامة

قال الباحث:
[من خلال استعراضي لأكثر أمهات كتب الأشاعرة وجدت أن موضوع الصحابة هو الموضوع الوحيد الذي يتفقون فيه مع أهل السنة والجماعة ، وقريب منه موضوع الإمامة ، ولا يعني هذا الاتفاقَ التام ، بل هم مخالفون في تفصيلات كثيرة ، لكنها ليست داخلة في بحثنا هنا ، لأن غرضنا ـ كما في سائر الفقرات ـ إنما هو المنهج والأصول] .

أقول :
كان ينبغي للباحث أن يذكر أهم النقط التي يتفق فيها الأشاعرة مع من يسميهم [أهل السنة والجماعة] في موضوع الصحابة والإمامة ، ثم أهم النقط من تلك التفصيلات الكثيرة التي يرى أنهم مخالفون فيها ، أو أن يكتفي بمثال واحد أو مثالين على الأقل ، لتتضح معالم الاتفاق والافتراق ، وكذا معالم المنهج الذي سلكوه فأدى بهم إلى ذلك .
الموضوع الخامس عشر:        الصفات

قال الباحث:
[وتناقضهم وتحكمهم فيها أشهر وأكثر ، وكل مذهبهم في الصفات مركب من بدع سابقة ، وأضافوا إليه بدعاً أحدثوها ، فأصبح غاية في التلفيق المتنافر] .
ثم قال: [أما مخالفتهم في الصفات فمعروفة ، وإن كان كثير من أسس نظرياتهم فيها يحتاج لتجلية ونسف ، ولعل هذا ما يكون في الرد المتكامل بإذن الله] .

أقول :
إذا كان الباحث قد فضل أن يرجئ مبحث مخالفة الأشاعرة لمن يسميهم [أهل السنة والجماعة] في موضوع صفات الله تعالى إلى أن يكتب الرد المتكامل ؛ فكان ينبغي له أن يذكر مثالاً واحداً أو مثالين من تناقضهم وتحكمهم ـ حسب دعواه ـ في هذا الموضوع ، وكذا من البدع السابقة والبدع التي أحدثوها ، ليعرف القارئ لمحة عن هذا المذهب الذي يدعي الباحث أنه أصبح غاية في التلفيق المتنافر ، ولكنه لم يفعل ، واكتفى باكتيال التهم دون الإدلاء بالبينة! . فهل هذا منهج مقبول في بحث علمي تترتب عليه مواقف خطيرة في لملمة صفوف الأمة أوتمزيقها وتشتيتها؟!! .
 
تتمات البحث

بعد أن ذكر الباحث المواضيع الخمسة عشر المتقدمة ذيلها بتتمات فيها ما هو مُعَاد وفيها ما هو جديد ، فأما المعاد وما تقدمت الإشارة إليه فيكتفى فيه بما تقدم ، وأما الجديد فلا بد من استعراض نبذ منه ليتبين للقارئ المنصف ما فيها .

قال الباحث :
[فارق منهجي ونموذجي: التناقض ومكابرة العقل: ليس هناك مذهب أكثر تناقضاً من مذهب الأشاعرة ، اللهم إلا مذهب الرافضة ، … ويرجع معظم تناقضهم إلى كونهم لم يسلموا للوحي تسليماً كاملاً ويعرفوا للعقل منزلته الحقيقية وحدوده الشرعية ، ولم يلتزموا بالعقل التزاماً واضحاً … ، بل خلطوا وركبوا ، فتناقضوا واضطربوا] .
ثم قال: [وإليك أمثلة سريعة للتناقض ومكابرة العقل: قالوا إنه يجوز أن يرى الأعمى بالمشرق البقة بالأندلس ، قالوا إن الجهة مستحيلة في حق الله ثم قالوا بإثبات الرؤية ، … قالوا إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ، … جزموا بأن من لم يبلغه الشرع غير مؤاخذ بإطلاق وردوا  أو أولوا النصوص في ذلك ، ثم قالوا إن على كل مكلف وإن كان مولوداً من أبوين مسلمين في ديار الإسلام وهو يظهر الإسلام عليه إذا بلغ سن التكليف أن ينظر في حدوث العالم ووجود الله …] .

أقول :
1 ـ يَتَّهِمُ الباحث الأشاعرة بالتناقض ومكابرة العقل ، ويستطيع أن يتهم أي واحد مذهب مخالفيه بذلك ، واكتيال التهم دون تدقيق النظر وتمحيص الأدلة سبيل الغوغاء .
والعاقل ينظر فيما عنده وعند مخالفيه من أدلة ويزنها بالموازين العلمية الدقيقة قبل أن يقدم على الاتهام .
والباحث الذي يطلق قلمه باتهام الأشاعرة ما أجد عنده من الصبر ما يحمله على نقل نصوص مخالفيه قبل أن يشن الحملات الشعواء ، فليته يقرأ ما قاله مخالفوه بتأن وصبر ، وليته ينظر في أدلتهم وأدلة أهل مذهبه بتجرد ونزاهة ، وبعد ذلك فليسطر ما يشاء .
2ـ يَتَّهِمُ الباحث الأشاعرة بأنهم لم يسلموا للوحي تسليماً كاملاً ويعرفوا للعقل منزلته الحقيقية وحدوده الشرعية ، وهذه عنده مرتبة أهل مذهبه ، ولم يلتزموا بالعقل التزاماً واضحاً ، وهذه عنده مرتبة المعتزلة والفلاسفة ، وهو يرى أنهم خلطوا وركبوا من ههنا وههنا ، فتناقضوا واضطربوا!!! .
والقول في هذا كالقول في سابقه .
3ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة قولهم بجواز أن يرى الأعمى وهو بالمشرق البقة وهي بالأندلس ، ولم يذكر المصدر كما هي عادته .
إذا كان الأشاعرة قد قالوا ذلك فينبغي أن نتأمل المسألة وننظر فيها: فهذه قضية ، والعقل يحكم بالوجوب أو الجواز أو الاستحالة ، ولاشك في أن حكمه فيها هو الجواز ، أي إنها ليست واجبة عقلاً ، وهذا بدهي ، وليست مستحيلة عقلاً ، إذ العقل يتصور وقوعها دون أن يلزم من ذلك مناقضة لإحدى القضايا العقلية اليقينية ، فهي جائزة الوقوع عقلاً ، ولكن يحكم العقل الإنساني إذا لم يسبق له أن علم وجود ذلك في الواقع بأن هذا مستحيل عادة ، وشتان بين أن تقول هذا مستحيل عقلاً أو مستحيل عادة ، ولكن المتسرعين لا يفقهون .
لو وصفت لإنسان جهاز الهاتف أو الهاتف الجوال قبل أن يكون قد عرفه أو سمع به فما الذي يمكن أن يقول؟ ؟ إذا كان من أهل العلم كأن يكون أشعرياً مثلاً فإنه يقول هذا جائز عقلاً مستحيل عادة ، وإذا كان من المتسرعين فإنه يقول هذا مستحيل والعقل لا يصدق بذلك ، ثم إذا عرف الجهاز وتحقق من فوائد استخدامه تبين له أنه لا يفهم الأحكام العقلية .
ورؤية رجل أعمى وهو بالمشرق لبقة أو فراشة تطير في الأندلس جائز عقلاً ، فقد يكشف الله تعالى له عنها ويريه إياها ، والله تعالى قادر على أن يخلق فيه إبصاراً فيراها ، وكل ما يمكن أن تتعلق به القدرة الإلهية فهو جائز غير مستحيل ، لأن القدرة الإلهية تتعلق بالممكنات لا بالمستحيلات .
4ـ  الأشاعرة يقولون باستحالة الجهة على الله تعالى ويقولون برؤية المؤمنين ربهم في الآخرة ، وقد يظن بعض المتسرعين أن في هذا تناقضاً ، وما ذاك إلا لتوهمهم أن الله تعالى جسم ، ومن المستحيل أن لا يكون الجسم في جهة من الجهات الست بالنسبة إلى جسم آخر ، وأن يُرى الجسم لا في جهة ، لكن إذا علمنا أن الله تعالى منزه عن الجسمية ومنزه عن المكان أيقنا باستحالة الجهة عليه سبحانه وتعالى ، ومن الدليل على ذلك: الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله [كان الله ولم يكن شيء غيره] ، فقد كان الله جل وعلا ولا عرش ولا مخلوق ، كان قبل أن يخلق شيئاً من المخلوقات ، ولا يقال كيف؟ ، ثم خلق العرش واستوى عليه كما أخبر استواء يليق به ، ولا يقال كيف؟ . وإذا كان منزهاً عن المكان وعن الجهة فإنه يُرى كما أخبر لكن لا في جهة .
وعقل الإنسان محدود ولا يمكن أن يحيط معرفة بالله ، فأنى للعقل القاصر المخلوق أن يحيط بالخالق؟ !. والأشاعرة الذين يتهمهم الباحث بأنهم لم يعرفوا للعقل منزلته الحقيقية وحدوده الشرعية هم الذين عرفوا حدود العقل ، وكبحوا جماحه عن الانطلاق أكثر من مداه ، فلم يسمحوا للعقول أن تقترب من التفكير في الله جل وعلا ، ووقفوا مع قوله جل شأنه [وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ] [ ] .
ولو قال الأشاعرة بالجسمية ونفوا الجهة لكان في هذا تناقض ، ولو قالوا بالجسمية وأثبتوا الرؤية لا في جهة لكان في هذا تناقض ، لكن حيث إنهم نزهوا المولى تعالى عن الجسمية فأين التناقض؟!!! .
5ـ  الأشاعرة يقولون إن الله تعالى موجود وهو لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا فوقه ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن شماله ، لأنه منَّـزه عن الجسمية ، فأين التناقض؟ ! .
لو قلت إنه جسم ونفيت عنه أن يكون فوق أو تحت أو أمام أو خلف أو عن يمين أو شمال لكان هذا تناقضاً ، فالجسم لا بد أن يكون في إحدى الجهات الست بالنسبة إلى أي جسم آخر ، أما الله جل وعلا فهو منزه عن الجسمية ، فلا بد أن يكون منزهاً عن الجهات ، ، ورحمة الله تعالى على الإمام الطحاوي الذي قال في العقيدة عن الله تبارك وتعالى [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات].
وبنحو قول الأشاعرة جاء كلام شيخ الحنابلة القاضي أبي يعلى مؤكداً لما ذهبوا إليه ، وذلك إذ يقول في حق الله تعالى: [كما جازت رؤيته لا في جهة] [ ] . ويقول الإمام البيهقي رحمه الله: [فإنه عز وجل يرى لا في جهة] [ ] .
6ـ  قول الأشاعرة بأن من لم يبلغه الشرع غير مؤاخذ مع قولهم إن على كل مكلف وإن كان مولوداً من أبوين مسلمين أن يؤمن بالله تعالى إيماناً مبنياً على دليل: ليس فيه تناقض .
فأما من لم يبلغه الشرع فغير مؤاخذ ، لقول الله تعالى [ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً][ ] ، ولقوله تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ][ ].
وأما وجوب الإيمان على كل مكلف إيماناً مبنياً على دليل فلأن الله تعالى ذم التقليد في العقائد ، فقال سبحانه [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ] [ ] . فهل يذكر الله تعالى التقليد في العقائد في معرض الذم ويعيبه على أمم من المقلدين ثم يقبله من غيرهم؟!! هذا محال .
ولكن الدليل على الله تعالى ليس محصوراً في الاستدلال على حدوث العالم وأن لكل محدَث محدِثاً أحدثه ، بل الأدلة على الله سبحانه وتعالى كثيرة ، مبثوثة في الآفاق والأنفس ، كما ذكره محققو الأشاعرة .
 
قال الباحث:
[وهناك قضية بالغة الخطورة ، لا سيما في هذا العصر ، وهي الأخطاء العلمية عن الكون التي تمتلئ بها كتب الأشاعرة ، … ومن ذلك قول البغدادي إن أهل السنة أجمعوا على وقوف الأرض وسكونها ، … ومثله صاحب المواقف الذي أكد أنها مبسوطة وأن القول بأنها كرة من زعم الفلاسفة] .

أقول :
نعم ، لقد قال أبو منصور البغدادي بوقوف الأرض وسكونها ، وقال عدد من العلماء نحواً من هذا ، منهم الإيجي وغيره ، وأضاف أبو منصور البغدادي أن أهل السنة أجمعوا على هذا ‍‍‍‌‍‍‍‍!!! ، وهذا خطأ جسيم ، وتسرع كبير ، ولكن هل كل العلماء قالوا ذلك؟ .
قال ياقوت الحموي في هذه المسألة: [وأما المتكلمون فمختلفون أيضاً ،… والذي عليه جماهيرهم أن الأرض مدورة كتدوير الكرة] [ ] .
إذا أخطأ الأشاعرة في عدد من المسائل المتعلقة بالكون فقد أصابوا في مسائل أخرى كثيرة ، وإذا كنت في معرض تقويم فكر الأشاعرة في المسائل العلمية الكونية فليس من العدل التحدث عن جانب الخطأ دون الإشارة إلى جانب الصواب . قال تعالى: [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [ ] .
إذا كان الأشاعرة قد أخطؤوا في عدد من المسائل العلمية الكونية ؛ فليسوا وحدهم الذين وقعوا في هذا .
قال ابن تيمية ـ سامحه الله ـ : [والكيمياء باطلة محرمة ، وتحريمها أشد من تحريم الربا ، ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها ، وأفتى بعض ولاة الأمور بإتلافها][ ].
وقال البربهاري: [وأَقِلَّ من النظر في النجوم إلا بما تستعين به على مواقيت الصلاة ، والْهُ عما سوى ذلك ، فإنه يدعو إلى الزندقة] [ ] .
أليست الدعوة إلى ترك الكيمياء وإتلاف كتبها وإلى الإقلال من النظر في النجوم هي من أسباب تخلف المسلمين؟ ‍‍!!! وإذا كانت كتب هذين العلمين قد خلطت الحق بالباطل فهل الواجب الاشتغال بها مع التمييز أو تركها وإهمالها؟ ‍‍!!! .
4ـ  إذا كان الأشاعرة قد تكلموا في المسائل العلمية الكونية وأخطؤوا في بعضها فإن هذا ليس دليلاً لتخطئتهم في مسائل العقيدة ، والميزان هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن وجد لهم قولاً بخلاف هذين الأصلين فليبرزه وليضرب به عرض الحائط ، وإلا فترك المشاغبة من سبيل أهل السلامة .
 
قال الباحث:
[وكل من قال إن الإيمان هو المعرفة أو التصديق فهو مرجئ ، … إذا كانت المرجئة الخالصة أي التي لم تخلط بالإرجاء شيئاً من البدع في الصفات أو غيرها ليست هي أهل السنة والجماعة ولا منهم ؛ فكيف يكون حال الأشاعرة الذين جاؤوا بالإرجاء كاملاً وزادوا عليه بدعاً أخرى؟ ‍‍!] .
ثم قال: [إذا كانت الجبرية الخالصة ليست هي أهل السنة والجماعة ولا منهم ؛ فكيف يكون حال الأشاعرة الذين جاؤوا  بالكسب  ـ الذي اعـترف كثير منهم بأنه جبر وإن لم يكن جبراً فهو بدعة على أي حال ـ  وزادوا علـيه؟ ‍‍!] .
ثم قال: [أضف إلى هذا أن كل ذم للصوفية فللأشاعرة منه نصيب ، لأن أكثر أئمة الصوفية المنحرفين كالغزالي وابن القشيري كانوا أشاعرة] .

أقول :
1 ـ وضع الباحث قاعدة ثم ذهب يحكم على الأشاعرة من خلالها ‍‍!!! لقد قال إن كل من يقول بأن الإيمان هو المعرفة أو التصديق فهو مرجئ ، أي مبتدع خارج عن السنة ، والأشاعرة يقولون بأن الإيمان هو التصديق ، فهم ـ عنده ـ من المبتدعة وليسـوا من أهل السنة والجماعة ‍‍!!! .
لقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حيث بعثه على اليمن: [ … فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمـس  صلوات …] [ ] . وهذا يدل على أن الإيمان والمعرفة شيء واحد ، ولذا عبر بأحدهما عن الآخر ، لكن ينبغي أن يعلم أن الحديث جاء بلفظين هذا أحدهما ، وأما الآخر فهو قوله [ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك …] [ ] ، فإذا كان اللفظ الأول هو المحفوظ تم به الاستدلال ، وإذا كان من باب الرواية بالمعنى ففيه بعض الدلالة ، من حيث إنه ورد على ألسنة الرواة الثقات التعبيرُ بمعرفة الله تعالى عن الاستجابة لمعنى الشهادتين وقبول الإيمان .
فكيف جاء التعبير عن الإيمان هنا بالمعرفة والاكتفاء في الإيـمان بالمعرفة هو قول الجهمية؟!! .
لا بد من التذكير بأن المعرفة تطلق ويراد بها أحد شيئين:
الأول : مجرد المعرفة الذهنية ، كمعرفة كثير من الكفار بأن الله تعالى حق وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق وأن الآخرة حق مع الإصرار على الكفر ، من باب [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ] [ ] . والاكتفاء بمثل هذه المعرفة هو قول الجهمية الذين شنّع عليهم العلماء كافة من الأشاعرة وغيرهم .
الثاني : المعرفة مع إذعان النفس لهذه المعرفة ، أي القبول والاستجابة العقلية والقلبية لهذه المعرفة ، مما يعني عملية التحول الواعي من الكفر إلى الإيمان ، وهذا هو الحد الأدنى من الإيمان عند الأشاعرة ، وإذا عرّفوا الإيمان عرّفوه بالتصديق مع إذعان النفس .
والفرق بين المعنيين شاسع جداً ، والقائلون بالمعنى الأول هم الذين ألزمهم العلماء بأنه ينبغي ـ على قولهم الفاسد ـ  أن يشهدوا لإبليس بالإيمان وأنه لا داعي لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب وهو في الاحتضار ، ومن لم يفهم الفرق ظن أن الأشاعرة جهمية!!! وأن تلك الإلزامات تتوجه إلى مذهبهم كذلك ‍‍!!! .
فبين الأشاعرة والجهمية من البعد كما بين المشرق والمغرب ، فتنبه ! . وارجع إلى قول الإمام الطحاوي إذ يقول: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ماداموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين وله بكل ما قال وأخبر مصدقين] .
 
2 ـ يرى الباحث أن الأشاعرة جاءوا بنظرية الكسب وأنها جبرية خالصة ، وإن لم تكن كذلك فهي بدعة على أي حال .
ونظرية الكسب هي القول بأن العبد مكتسب لأفعاله لكنه غير خالق للفعل ، وهذا ما ذكره ربنا تعالى في آيات كثيرة من كتابه الكريم ، منها قوله عز وجل [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] [ ] .
وأبرأ إلى الله تعالى ممن يقول عن الكسب [هو بدعة على أي حال] ، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا الأدب مع كلامه ، وأن يلهم الباحث التوبة والاستغفار .
وكأن الباحث ـ في غمرة الهجوم على الأشاعرة ـ يرد عليهم كل ما قالوه دون تأمل ولا روية ، حتى ولو كان ما قالوه هو عين كلام الله سبحانه .
أما تفسير الكسب من بعض الأشاعرة بأنه جبر فذاك تفسيره هو ، وهذا لا يلغي ما قاله الأشاعرة بأن أفعال المكلفين هي باكتسابهم وخالق الفعل هو الله جل شأنه .
وارجع إلى قول الإمام الطحاوي إذ يقول: [وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد] .
3 ـ يرى الباحث أن كل ذم للصوفية فللأشاعرة منه نصيب لأن أكثر أئمة الصوفية المنحرفين كانوا أشاعرة ، وهذا من باب الخلط بين المتناثرات .
هب أن أكثر أئمة الصوفية المنحرفين كانوا أشاعرة فالواجب ذم ما اتصف به أولئك من الانحراف ، لكن ما ذنب الأشاعرة؟ ‍‍! .
وكلامه هذا يشبه قول قائل متخيَّل لو قال: إن كل ذم للمعتزلة فللحنفية منه نصيب لأن أكثر أئمة المعتزلة كانوا حنفية . أو قال: إن كل ذم للكذابين والوضاعين في النصوص الشرعية فللمحدثين منه نصيب لأن أكثر الكذابين والوضاعين في نصوص الشريعة كانوا محدثين . أو قال: إن كل ذم لرواة الإسرائيليات فللمفسرين منه نصيب لأن أكثر أولئك الرواة كانوا مفسرين ‍!!! .
ويقال لهذا القائل المُتَخيّـل: هل أكثر أئمة المعتزلة كانوا حنفية؟ ! وهل أكثر الكذابين والوضاعين في نصوص الشريعة كانوا محدثين؟ ! وهل أكثر رواة الإسرائيليات كانوا مفسرين؟! كما يقال للباحث : هل أكثر أئمة الصوفية المنحرفين كانوا أشاعرة؟ ! . وإذا كان ذلك كذلك فعليكم بالمنهج القرآني ولا تحملوا أحداً وزر غيره إذا لم يكن هو سبباً فيه . قال الله تعالى [وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] [ ] .
 
قال الباحث:
[إن هذه العقائد التي أدخلتموها في الإسلام وجعلتموها عقيدة الفرقة الناجية بزعمكم: هي ما كان عليه فلاسفة اليونان ومشركو الصابئة وزنادقة أهل الكتاب] .
ثم قال: [على أن المراء حول الفرقة الناجية ليس جديداً من الأشاعرة ، فقد عقدوا لشيخ الإسلام ابن تيمية محاكمة كبرى بسبب تأليفه العقيدة الواسطية ، …] .
ثم قال: [تبين مما تقدم أن الأشاعرة فرقة من الثنتين وسبعين فرقة وأن حكم هذه الفرق الثنتين وسبعين هو: الضلالة والبدعة ، الوعيد بالنار وعدم النجاة ،    … والحاصل أن قولنا إن الأشاعرة فرقة ضالة يعني أنها منحرفة عن طريق الحق ومنهج السنة ، ولا يعني مطلقاً خروجها عن الملة وأهل القبلة] .

أقول :
يتهم الباحث الأشاعرة بأنهم أدخلوا في الإسلام عقائد وجعلوها عقيدة الفرقة الناجية بزعمهم ، وبأن تلك العقائد هي ما كان عليه فلاسـفة اليونان ومشركو الصابئة وزنادقة أهل الكتاب !!! .
يريد الباحث منا ـ معشر القراء ـ  أن نصدق ما يقول في خصومه الأشاعرة دون حجة ولا برهان ‍‍‍!!! وكأنه يقول: لا تفكروا أنتم ، ولا تشغلوا بالكم ، فغيركم مستعد للتفكير والبحث ، ويعطيكم النتائج ، ولا تطالبوا بالدليل ، ولا تناقشوا الحجج ، فالتقليد لا يجوز في الأحكام ، لكنه جائز في العقيدة ، فعليكم بتقليد الناطق باسم عقيدة أهل السنة والجماعة ‍‍!!! .
ولكن المنهج الذي ارتضاه لنا ربنا جل شأنه هو غير هذا ، وهو في قوله تعالى [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] [ ] .
وأقول للباحث : لقد قرأت بحثك بدقة وإمعان ونزاهة وتجرد ، فلم أر موضعاً واحداً ذكرت فيه قولاً للأشاعرة من كتبهم وأثبت أنهم في ذلك مخالفون لآية قرآنية أو حديث نبوي ، وأنهم قد اقتبسوا ذلك مما كان عليه فلاسفة اليونان أو مشركو الصابئة أو زنادقة أهل الكتاب .
فتطبيق المنهج القرآني يوجب عدم قبول كلامك حتى تأتي بالبرهان ، وقد علمنا الله تعالى أن نقول [قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا؟ ‍‍!] [ ] .
2ـ  يدندن الباحث حول الفرقة الناجية ، ويقول إنها واحدة ، لا ثنتان ، وهذا مما لا خلاف فيه ، ولكن: أي الفرق هي الفرقة الناجية؟ .
يستطيع كل إنسان أن يدعي أنه هو وأهل مذهبه هم الفرقة الناجية ، ولكن: هل يمكن أن تقبل الدعوى بدون إثبات؟ ! .
الفرقة الناجية تشمل كل من استمسك بالكتاب والسنة وجعلهما الميزان الذي يزن به كل ما سواهما ، فهما الحجة لأقوال الناس أو عليها ، أما أقوال الناس فيحتج لها لا بها .
فالحذر الحذر من أن تظن أنك أنت وأهل نحلتك هم الفرقة الناجية دون من سواكم ، فتقبل قول جماعتك وإن لم يكن معهم دليل ، وتردَّ قول الآخرين بتمحل ولو كان معهم الدليل ، فالحق أحقُ أن يُتَّبع .
الذين يتبنى الباحث أقوالهم يرون أنهم على عقيدة الإمام أحمد ابن حنبل ، ولكنهم لا يستطيعون أن يثبتوا عن أحمد ابن حنبل أنه كان يقول بكل ما يقولون ، وليس كل الحنابلة موافقين على ما عليه هؤلاء ، فلعل الأقرب في تسميتهم أن يقال عنهم [غلاة الحنابلة] .
الباحث يقول إن الفرقة الناجية واحدة ، ويناقش المسألة مع الأشاعرة حول ما إذا كانت تلك الفرقة الناجية هي غلاة الحنابلة أو الأشاعرة ، وليت الباحث يجمع أقوال كل من الفرقتين ، مع الدقة في التوثيق وجمع الأدلة وتمحيصها ، ثم مع الموازنة الموضوعية النـزيهة لا بد أن يظهر الحق ، ومن يدري؟ فقد تكون الفرقة الناجية هي القَدْرَ المشترك بينهما وواحدةً لا بعينها فيما زاد على القدر المشترك ، والتعيين يكون في كل مسألة على حدة ، حسب نتيجة الموازنة الموضوعية النـزيهة . وقد تكون الأخطاء اليسيرة مغفورة في جنب ما عند كل واحد من اليقين والإخلاص مع الرغبة الصادقة في اتباع الكتاب والسنّة . 
ولعل الباحث لا يخالف في المقولة التالية: يعرف الرجال بالحق ، ولا يعرف الحق بالرجال . اعرف الحقَّ تعرف أهله .

3ـ  يقول الباحث : [فقد عقدوا لشيخ الإسلام ابن تيمية محاكمة كبرى بسبب تأليفه العقيدة الواسطية] ، وهذا تحريف للتاريخ .
اسمع ما قاله ابن تيمية نفسه عن حكاية المناظرة ، قال رحمه الله: [أما بعد ، فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد ،… فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشايخ ،… فقال نريد أن تكتب لنا عقيدتك ، فقلت اكتبوا… ، ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواماً يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي غير مرة ، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون كتم بعضه أو داهن ودارى ، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحوسبع سنين . ، … ثم أرسلت من أحضرها ومعها كراريس بخطي من المنـزل ، فحضرت العقيدة الواسطية] [ ] .
حسب كلام ابن تيمية فإن المجالس عقدت للمناظرة [في أمر الاعتقاد] ، ثم طلب الأمير منه أن يكتب لهم عقيدته ، ثم إنه هو اقترح إحضار عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين ، فقبلوا ، فأرسل إلى المنـزل من أحضر العقيدة الواسطية .
أما حسب كلام الباحث فإن تلك المجالس عقدت [بسبب تأليفه العقيدة الواسطية] ، وبين الأمرين فرق كبير ، فمن نصدق؟ ‍‍! .
وابن تيمية يقول [للمناظرة] ، والباحث يقول [محاكمة] ، ولو كانت محاكمة لدعي ابن تيمية إلى مجلس القضاء وأحضر الشهود وطلب منه اليمين إذا أنكر الدعوى وكانت شهادة الشـهود غير كافية ، وكل ذلك لم يكن ، فهل كانت مجالس مناظرة أو محاكمة ؟ ومن نصدق؟! .
ويبدو أن الباحث ـ لتسرعه وانشغاله وضيق وقته ـ  غير مؤتمن على نقل كلام أئمته في التاريخ ، فكيف يؤتمن على نقل كلام خصومه في العقيدة؟ ‍‍!!! .
4ـ  يقول الباحث ـ بناء على ما تقدم من بحثه ـ  إن الأشاعرة فرقة من الفرق الثنتين والسبعين ، وحكم عليهم بالضلال والابتداع والوعيد بالنار وعدم النجاة ، لكن لم يحكم عليهم بالكفر والخروج عن الملة الإسلامية .
ولو صح وثبت ما رماهم به من التهم لقلنا له: نعم ونحن معك في حكمك هذا .
ولكن حيث إنه لم يأت بنصوص كلامهم من كتبهم ونقل عنهم نقولاً غير موثقة وحمل كلامهم على غير مرادهم فنقول: اتق الله ، وأنت مسؤول أمام الله تعالى عن كل كلمة رميت بها بريئاً .

ولنا في التاريخ عبرة

إليك بعض النصوص من التاريخ لعل فيها عبرة:
قال الإمام ابن الجوزي الحنبلي رحمه الله في أحداث سنة (445هـ) : [وفيها أُعلن بنيسابور لعن أبي الحسن الأشعري ، فضج من ذلك أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، وعمل رسالة سماها "شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة" ، وقال فيها : أيلعن إمام الدين ومحيي السنة؟ ‍‍! . وكان قد رفع إلى السلطان طغرل بك من مقالات الأشعري شيء ، فقال أصحاب الأشعري: هذا محال ، وليس بمذهب له] [ ] .
هذه المحنة التي نالت الأشاعرة كان فيها السلطان حنفياً سـنياً ولكن وزيره كان معتزلياً رافضيا ً [ ] ، وقد استطاع هذا الوزير أن يوغر صدر السلطان بالكذب والتزوير ، حتى أمر السلطان بلعن المبتدعة ، فحمل هذا الأمر على لعن المبتدعة ولعن الإمام أبي الحسن الأشعري!! ، والفتنة محنة تعرض ثم تزول ، ولكن قف عند قوله [فقال أصحاب الأشعري: هذا محال ، وليس بمذهب له] ، وكان الواجب التحقق من نسبة الأقوال المزعومة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري ، ولكن أين التبُّين؟ ؟ ! وأين التثبت؟ ‍؟ ‍! ، ومنه تعلم أنهم نسبوا إليه من القول ما هو مستحيل وليس من مذهبه ، وأصحاب المذهب أدرى بمذهب إمامهم ، ولكن أهل الشغب يهمهم الشغب لا التثبت ، فهل تعيدون الكرة؟ ‍‍! أو تأخذون العبرة؟ ‍‍! .
قال ابن الجوزي في أحداث سنة (455هـ) وهو يتحدث عن أهل الفساد: [وكانوا يتعرضون لحُرَم الناس ، حتى إن قوماً من الأتراك صعدوا إلى جامات حمام ففتحوها وطالعوا النساء ، ثم نزلوا فهجموا عليهن ، فأخذوا من أرادوا منهن ، وخرج الباقيات عراة إلى الطريق ، فاجتمع الناس وخلصوهن من أيديهم ، فعلوا هذا بحمامين] [ ] .
هكذا يفعل أهل الفساد بعاصمة الخلافة الإسلامية بغداد سنة (455هـ) ، وعلماء المسلمين منشغلون بالاختلافات العقدية والفقهية !!! فإلى الله المشتكى . ولو كانت اختلافات حقيقية في مسائل أصول الاعتقاد لسهل علينا تصور المشكلة ، ولكنها إما اختلافات لفظية وإما في مسائل فرعية .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في ترجمة الشريف أبي جعفر العباسي الحنبلي: [وفي سنة أربع وستين وأربعمئة اجتمع الشريف أبو جعفر ومعه الحنابلة في جامع القصر وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه ، وطلبوا من الدولة قلعَ المواخير وتتبع المفسدين والمفسدات ومن يبيع النبيذ وضربَ دراهم تقع بها المعاملة عوض القراضة ، فتقدم الخليفة بذلك ، فهرب المفسدات ، وكبست الدور ، وأريقت الأنبذة ، ووعدوا بقلع المواخير …] [ ] .
يلاحظ هنا أن العلماء من الحنابلة والأشاعرة اجتمعوا في جامع قصر الخليفة ، وتقدموا بمطالبهم من الدولة ، وذلك لإزالة مظاهر الفساد التي بدأت تتغلغل في كيان المجتمع الإسلامي ، وعندما أعطى الخليفة أوامره هربت المفسدات ، وبدأت الحملة لتفتيش الدور المشتبه بها ، وإراقة الأنبذة المسكرة ، ووعدت الدولة بإزالة بيوت الريبة التي يجتمع فيها أهل الفسـق والفساد…
هكذا كان لاجتماع كلمة العلماء  ـ على اختلاف مشاربهم ـ  شأن وأي شأن ‍‍‍‍! .
ويبدوا أن الحنابلة كان لهم الحظ الأكبر في الإقدام على هذا التجمع ، فمقدَّمهم الشريف أبو جعفر من أسرة الخليفة ، وهذا يعطيه وجاهة زيادة على المرتبة العلمية التي كان يحظى بها ، وكأن الرواية الحنبلية تشير إلى نوع من التعطف والتكرم على الأشاعرة ـ الذين هم أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه ـ  إذ أدخلهم الحنابلة معهم ، كما تقول الرواية ، وهذا ليس مهماً ، إنما المهم هو جمع الكلمة لتحقيق مصالح الأمة .
وليت الحرص على مصالح الأمة لا يقف عند هذا الحد ، بل يتخطاه إلى عقد مجالس للحوار والمناظرة الجادة المخلصة ، بعيداً عن الرغبة في الغلبة وحب الظهور ، فإن حب الظهور يقصم الظهور .
ولكن هل من قبول لهذه الفكرة؟ !! ومن المؤسف أن بعض من تصدروا للعلم يحاربها ، فالحسن بن علي البربهاري المتوفى سنة (329هـ) يقول في شرح السنة: [فاحذر الكلام وأصحاب الكلام والجدال والمراء والقياس والمناظرة في الدين] [ ] . ويقول: [وإذا جاءك الرجل يناظرك فاحذره ، فإن في المناظرة المراءَ والجدال والمغالبة والخصومة والغضب ، وقد نُهيت عن جميع هذا ، وهو يزيل عن طريق الحق] [ ] . ويقول: [وكان ابن عمر يكره المناظرة ومالك بن أنس ومن فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا ، وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق ، قال الله تعالى [مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا] [ ] .
هكذا يتصور البربهاري المناظرة وكأنها لا يمكن أن تكون إلا هكذا ، ويختم الكلام بأن قول الله عز وجل أكبر من قول الخلق ، ويستشهد بقوله تعالى [مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا] ليحقق بذلك الانتصار لفكرته ‍‍!! ، ولعله لم ينتبه إلى أن المراد فيها هو المجادلة بالباطل والمكابرة في دفع الحق ، ونسي أن للجدال وجهاً آخر ، وهو المذكور في قوله تعالى [قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا] [ ] وقوله تعالى [ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [ ] . فالمجادلة بقصد إظهار الحق وإيصاله إلى طالبيه وكذا المجادلة بقصد الوصول للحق محمودة ليست بمذمومة .
قال ابن الجوزي في أحداث سنة (469هـ) : [وفي شوال وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية ، وكان السبب أنه ورد  إلى بغداد أبو نصر ابن القشيري ، وجلس في النظامية ، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم ،… ومال أبو إسحاق الشيرازي إلى نصرة القشيري] . وأتابع نقل ما حدث من كلام ابن رجب ، قال: [وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ، ويسأله المعونة ، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به ، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت ، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر ، فوقعت الفتنة ، وقتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون ، …][ ].
أرأيت إلى العاقبة السيئة إذا غابت لغة الحوار؟ ! لم يبق إلا التراشق بالاتهام ثم بالآجر ولو أدى إلى قتل رجل وجرح آخرين ، وفريق يستعين بالخليفة وفريق يستعين بالوزير ‍‍‍!!! يفعلون هذا ويظنون أنهم بذلك ينصرون الدين والسنة ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً !!! .
قال ابن الجوزي في أحداث سـنة (469هـ) : [ وفي يوم الأربعـاء لعشر بقين من ذي القعدة أزيلت المواخير ودور الفسق ببغداد ونقضت ، وهرب الفواسق ، وذلك لخطاب جرى من الخليفة…] [ ] .
هنا نجد الدولة تتابع تنفيـذ الوعد الذي قطعته على نفسها بإزالة المواخير ودور الفسق قبل خمس سنوات ، وذلك بناء على مطالب العلماء المجتمعين من كلا الفريقين الحنابلة والأشاعرة .
ترى هل العلماء اليوم قادرون على نبذ الفرقة والعمل لما فيه مصلحة الأمة؟ !!! سيقولون لا يمكن أن نترك الدعوة للعقيدة التي نرى أنها هي العقيدة السليمة ، فأقول: الميدان واسع ، والطريق طويل ، والحاجة إلى نور هداية الإسلام شديدة ، وحبذا لو عمل الجميع مع التركيز على الأسس والقواسم المشتركة ، مع عدم قطع الحوار والمناظرة حول بقية المسائل ، وإذا صحت النوايا وصدقت العزائم في التوجه إلى الله تعالى وطلب الهداية منه ؛ فإن الله تعالى سيهدينا إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، وهو القائل في محكم كتابه [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ] [ ] . اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين يا رب العالمين . 

مناقشة الباحث في بعض ما قاله في كتاب آخر حول حقيقـة الإيمـان 

للباحث كلام في أحد كتبه يتصل بأبحاث هذا الكتاب اتصالاً وثيقاً ، فأود أن أورد منه نبذاً يسيرة مع التعليق عليها بعون الله : 

وقبل ذلك أقول :
من المعلوم ـ أولاً ـ  أن الأشاعرة يقولون بأن الإيمان هو التصديق وأن الإسلام هو العمل ، فمحل الإيمان القلب ، ومحل الإسلام الجوارح ، بناء على حديث جبريل الذي سأل فيه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلى عدد من نصوص القرآن والسنة ، وعليه فالعمل ليس جزءاً من الإيمان عندهم ، وذلك إذا أريد بالإيمان: الحد الأدنى الذي ينقل العبد من الكفر إلى الإيمان ، ومن حصل ذلك الحد الأدنى فهو ممن لا يخلدون في النار وهو ممن تنالهم شفاعة أرحم الراحمين جل وعلا وإن لم يعمل خيراً قط . وأما ما فوق الحد الأدنى من الإيمان فلا يكون إلا مع العمل الصالح ، لا لأن العمل جزء من الإيمان ، بل لأنه ثمرته ، فكلما كان الإيمان في القلب أقوى كانت الثمرة أكثر وأطيب . 
أما الباحث فيرى أن الإيـمان لا بد فيه من العمل ولو قليلاً ، فمحل الإيمان عنده القلب والجوارح ، كما أن العمل جزء من الإيمان حتى ولو أريد بالإيمان الحد الأدنى ، وعليه فإن العبد لا يحصل الحد الأدنى من الإيمان ـ لينقذ نفسه من الخلود في النار وليدخل فيمن تنالهم شفاعة أرحم الراحمين ـ  إلا بالعقيدة السليمة مع شيء من عمل الخير ، وأقلّه أن يكون من أهل السـجود ، أما من جـاء بالعقيدة السليمة دون أن يكون معها شـيء من العمل الصالح فلا يمكن أن يُتصور خروجه من النار ولا دخوله في شفاعة أرحم الراحمين ، إلا في بعض الحالات الخاصة كبعض سـكان الجزر النائية ممن لم يصلهم من الإسـلام إلا اسمه ، وكبعض شـرار الناس آخر الزمان عندما يَدْرُسُ الإسـلام كما يدرس وَشْيُ الثوبِ ولا يبقى في الأرض من القرآن آية [ ] . أما في الحالة العامة فلا يتصور عنده أن يدخل الجنة من أتى بالتوحيد ولم يعمل خيراً قط . 
لعلي بهذا العرض أكون قد لخصت مذهب الأشاعرة ومذهب الباحث في أن جنس العمل هل هو ركن من أركان الإيمان أو لا؟ ، ليكون هذا مدخلاً إلى متابعة الباحث في الاستدلال لمذهبه والرد على استدلال الآخرين . 
 
قال الباحث:
وأصرح لفظ استدلت به المرجئة: في إحدى روايات أبي سعيد الخدري وهي [فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ، قد عادوا حُمَماً ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون كما تخرج الحِبة في حميل السيل ، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم ، يعرفهم أهل الجنة ، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه] . وهذه إحدى روايات صحيح مسلم للحديث ، ... ووجه الاستدلال منه: أنه أخرج من النار قوماً جاؤوا بتصديق مجرد لا عمل معه [ ] . 
ثم قال:إن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة ، بل هي مصرحة بأن الجهنميين هم من أهل الصلاة ومن العاملين ، ... فمثلاً رواية أبي هريرة عند البخاري هذا نصها [حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار ؛ أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ، ... فيعرفونهم بأثر السجود ، ... فيخرجون من النار قد امتحشوا ، فيصب عليهم ماء الحياة ، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل] . وأبو سعيد الخدري جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئاً من حديثه ، .. [ ].
ثم قال: ومما يقويه أن رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عند البخاري لم يرد فيها قوله [لم يعملوا خيراً قط] ، ... وفيها [فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدموه] . وأهل الجنة يقولون حسب ظاهر ما يعلمون ، ... ثم يأتي علام الغيوب سبحانه فيخرج أقواماً من أهل الإيمان لم يكن أحد يعلم عنهم إيماناً. 
ثم قال: [وعليه ، فإن لم نقل إن تلك الرواية غير محفوظة ؛ نقول لا بد من توجيهها وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى ، ومن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله ، قال: هذه اللفظة لم يعملوا خيراً قط من الجنس الذي تقول العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام ، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال] . 

كلام الباحث هذا يتضمن مسائل :

المسالة الأولى
استدلال الباحث على أن الإيمان لا بد فيه من العمل ولو قليلاً

استدل الباحث بما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ، ... فيعرفونهم بأثر السجود ] وأبو سعيد الخدري جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئاً من حديثه ، فلما كان في آخر الحديث عند أبي هريرة أن الله تعالى يقول للعبد [ هذا لك ومثله معه ] بين أبو سعيد أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله [ هذا لك وعشرة امثاله ] [ ] .

أقول :
1 – حديث أبي هريرة فيه اختصار ، إذ جمع إخراج عصاة المؤمنين من النار وجعلهم كأنهم صنف واحد ، وقد جاءت الرواية عن جماعة من الصحابة بتفصيل إخراج العصاة من النار وأنهم يخرجون منها على أربع مراحل ، وأن أهل المرحلة الرابعة لا يقبل الله تعالى فيهم شفاعة أحد من خلقه ، ويخرجهم جل وعلا بشفاعته ورحمته ، وبنحو هذا جاءت الرواية عن أبي سعيد الخدري[ ] . وأنس بن مالك [ ] . وجابر بن عبد الله [ ] رضي الله عنهم .
وإذا ثبت أن إخراج العصاة من النار يكون على أربع مراحل فكيف يصح الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية المختصرة [ فيعرفونهم بأثر السجود ] على أن أهل كل تلك المراحل هم من أهل السجود ؟!!! وذلك لاحتمال أن يكون أهل المراحل الثلاث الأول عندهم شيء من العمل دون أهل المرحلة الأخيرة ، بل هذا هو الصواب الذي لا محيد عنه ، لما سـيأتي في حديث أبي سعيد .
2 –  في حديث أبي سعيد الخدري رد صريح على ما ادعاه الباحث ، وفي حديث أنس بن مالك إيماء الى ذلك.
فأما حديث أبي سعيد فهو في شفاعة المؤمنين للعصاة ، وفيه في رواية البخاري : [...يقولون : ربنا ، إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ؟!. فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه . فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون، فيقول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه . فيخرجون من عرفوا ، ثم يعودون ، فيقـول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فاخرجوه . فيخرجون من عرفوا، ... فيقول الجبار : بقيت شفاعتي . فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً، ... فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن ، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ] . وفيه في رواية صحيح مسلم زيادة عند ذكر أهل المرتبة الرابعة ، وهي [ فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ] .
وأما حديث أنس رضي الله عنه فهو في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : [ ... فأقول : يا رب أمتي أمتي . فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق ، فأفعل ، ثم أعود ... فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان . فأنطلق ، فأفعل ، ثم أعود ... فيقال : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار . ثم أعود الرابعة ... فأقول : يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله . فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله].
ولا شك في أن المراد من قول لا إله إلا الله هنا : قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، لأن من المعروف أنها لا تقبل إلا بقرينتها ، فقد يكون الاقتصار على الشق الأول منها جاء من باب الاختصار من قِبَلِ أحد الرواة .
وأما حديث جابر فهو في شفاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفيه في مسند أحمد بعد ذكر الشفاعة في أهل المراحل الثلاث الأُوَلِ : [ ثم يقول الله : أنا الآن أُخرج بعلمي ورحمتي . فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه ، فيكتب في رقابهم عتقاء الله ، ثم يدخلون الجنة فيسمون فيها الجهنميين ] . وجاء في صحيح ابن حبان بلفظ [ أنا الان أخرج بنعمتي وبرحمتي ] . لكن سقط من رواية ابن حبان ذكر أهل المرحلة الأولى .
فأنت ترى أنَّ أهل المراحل الثلاث الأُوَلِ  كان في قلوبهم شيء من الإيمان زيادة على قول لا إله إلا الله ، وذلك المقدار لا بد أن يثمر عملاً ، وأهل المرحلة الأولى كانوا يصلون ويصومون ويعملون ، ولا شك في أنَّ من بعدهم دونهم ، أما أهل المرتبة الرابعة فليس عندهم زيادةٌ على قول لا إله إلا الله ، فيقول فيهم أهل الجنة عندما يدخلهم الله الجنة [ هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ] . وهذا نص في موضع النزاع ، أي في أنهم أُدخلوا الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، فلا ينبغي لمسلم أن يحيد عنه .
وأما الزيادة التي في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح مسلم ففيها ما هو أصرح في المقصود وأبلغ في الدلالة ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : [ فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ] .


المسالة الثانية
لجوء الباحث إلى التشكيك في ثبوت قوله  [ فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ]

يميل الباحث إلى الشك في ثبوت هذه الزيادة الواردة في صحيح مسلم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، بدعوى أنها غير محفوظة ، فيقول : [ إن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة ، ... رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عند البخاري لم يرد فيها قوله (( لم يعملوا خيراً قط)) ] .

أقول :
1 ـ لو كان علماء الأشاعرة هم الذين ارتابوا في صحة جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه لكان هذا منسجماً مع موقفهم من الأحاديث الآحادية ، وهو أنها لا يحتج بها في العقيدة حتى ولو كانت في الصحيحين ما لم تصل حد التواتر ، لكن ماذا نقول إذا كان الذي ارتاب في صحته هو الباحث الذي سبق أن شن حملة شعواء على الأشاعرة لموقفهم من حجية أحاديث الآحاد في العقيدة وموقفهم من أحاديث الصحيحين؟ !!! . 
هل يجوز للباحث أن يشن تلك الحملة على الأشاعرة لموقفهم من أحاديث الآحاد وأحاديث الصحيحين عندما كان في الجانب النظري ثم هو نفسه يرتاب في صحة جزء من حديث رواه مسلم عندما دخل في الجانب العملي؟ !!! ما هذا التناقض؟ !!! [ ].
2 ـ مجيء الرواية في صحيح مسلم بلفظ [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط] دون أن تأتي هذه الجملة في صحيح البخاري : لا يصلح أن يكون مطعناً في هذه الزيادة التي انفرد بها مسلم دون البخاري ، فرواية البخاري التي لم تأتِ فيها الزيادة هي من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، أما الرواية المشتملة على الزيادة فقد رواها مسلم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ، ورواها الإمام أحمد من طريق معمر عن زيد بن أسلم [ ] ، ورواها ابن خزيمة من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم [ ] ، فقد رواها ثلاثة من الرواة عن زيد بن أسلم فلا يضرهم أن راوياً آخر خالفهم ولم يذكرها .
فأين كان الباحث عن هذا؟ !!! وإذا كان يرى أنه متخصص في العقيدة المبنية على الكتاب والسنة ؛ فليته استعان بمن يرشده إلى معرفة طريق الترجيح بين الروايات ، ليعلم أن الزيادة التي اجتمع على روايتها ثلاثة لا مناص من الحكم لها بالثبوت والرجحان .
3 ـ ومما يؤكد ثبوت هذه الكلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط]: هو أنها جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته أن يحرقوه ويذروه فسأله ربه لم فعلت ذلك فقال من خشيتك فغفر له ، ففي قلبه إيمان وخشية ولم يعمل خيراً قط فنالته المغفرة . وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ومعاوية بن حيدة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم .
فأما حديث ابن مسعود فرواه الإمام أحمد عنه أن رجلاً لم يعمل من الخير شيئاً قط إلا التوحيد ، فلما حضرته الوفاة قال لأهله إذا أنا مت .. [ ] .
وأما حديث أبي هريرة فرواه الأعرج عنه بلفظ [قال رجل لم يعمل حسنة قط] [ ] ، ورواه حميد بن عبد الرحمن عنه بلفظ [كان رجل يسرف على نفسه] [ ] ، ورواه أبو رافع عنه بلفظ [كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد فلما احتضر قال لأهله][ ].
وأما حديث أبي سعيد فرواه سليمان التيمي عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد ، وفيه أن الرجل قال إنه لم يبتئرْ عند الله خيراً ، أي لم يدخر عند الله خيرًا [ ] ، ورواه أبو عوانة الوضاح بن عبد الله عن قتادة ، وفيه أن الرجل قال [فإني لم أعمل خيراً قط] [ ] ، ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد بلفظ [لقد دخل رجل الجنة ما عمل خيراً قط قال لأهله حين حضره الموت][ ] . والروايتان الأُولَيَان في الصحيح ، وفي رواية عطية العوفي عن أبي سعيد متابعة وتأكيد لرواية عقبة بن عبد الغافر عنه .
وأما حديث معاوية بن حيدة فقد جاء عنه بلفظ : [كان عبد من عباد الله ، وكان لا يدين لله ديناً ،... فعلم أنه لم يبتئر عند الله خيراً] [ ] .
وأما حديث أبي بكر ففيه [فيقول له : هل عملت خيراً قط؟ فيقول: لا ، غير أني قد أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني] [ ] ، وهو من رواية والان عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر ، ولكن الذي في الصحيح من طريق ربعي عن حذيفة بلفظ [كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله فقال لأهله] [ ] . وما في الصحيح أولى ، فالاعتماد على الروايات السابقة .
فهل يبقى بعد هذا مجال للتشكيك في صحة الرواية الدالة على أن الله تعالى يخرج من النار قوماً لم يعملواً خيراً قط فتنالهم المغفرة؟ ! .
إشكال وجواب :
يوجد في إحدى الروايات عن أنس في ذكر الذين يخرجون من النار لفظة تؤيد ما قاله الباحث ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن أهل المرتبة الرابعة [فيقول أهل النار ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون به شيئاً ، فيقول الجبار عز وجل فبعزتي لأعتقنهم من النار] [ ] . ففي هذه الرواية زيادة على رواية الصحيحين ، إذ تثبت أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ، فما حكم هذه الزيادة؟ .

أقول :
هذه الزيادة ضعيفة لأن الذي رواها عن أنس هو عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله ، ولا يحتج به بإطلاق ، فقد وثقه أبو زرعة ، ووثقه العجلي وأنكر عليه حديث البهيمة ، وقال أحمد وأبو حاتم: ليس به بأس . وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما  أخطأ . وقال الساجي: صدوق إلا أنه يهم . وليَّنه أبو داود والطحاوي ، وضعفه ابن معين والنسائي والدارقطني ، وأشار عثمان الدارمي إلى تضعيفه من أجل حديث رواه في الأطعمة [ ] . فهذا الراوي قد يخطئ ويوهم ، فلا ترقى اللفظة التي تفرد بها مثل هذا الراوي لمرتبة الاحتجاج ، لأنها قد تكون من أوهامه . وأما الحكم عليها بالنكارة فمن أجل مخالفتها لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ في رواية عمرو هذا أنهم كانوا يعبدون الله ، وفي الصحيحين أنهم أدخلوا الجنة بغير عمل عملوه ، وفي صحيح مسلم أنهم لم يعملوا خيراً قط . فلعل الصواب في تلك اللفظة [ أنكم كنتم توحدون الله ] ، فرواها عمرو بن ابي عمرو على سـبيل الوهم فقال [ أنكم كنتم تعبدون الله].فتنبه .


المسألة الثالثة
لجوء الباحث إلى تقليد من أوَّل قوله  [ فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ]

من الغريب أن يلجأ الباحث  ـ على القول بأن تلك الرواية محفوظة ـ  إلى التأويل!!! ، لكنه يسميه بغير اسمه فيقول [لا بد من توجيه تلك الرواية وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى] !!! . 

أقول : 
1ـ لو كان علماء الأشاعرة هم الذين لجؤوا إلى تأويل الرواية لقرينة دلت على جواز تأويلها لكان هذا منسجماً مع موقفهم من التأويل ، وهو جوازه لوجود قرينة تدل عليه ، لكن ماذا نقول إذا كان الذي لجأ  إليه هو الباحث الذي سبق أن شنّ حملة شعواء على الأشاعرة لموقفهم من التأويل؟!!! ولم هذا التناقض؟ !!! .
2ـ ما هذا التأويل الذي استجازه الباحث تحت مسمى [توجيه الرواية وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى]؟ . 
اتكأ في ذلك على كلام ابن خزيمة رحمه الله ، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط]: ليس المراد منه أن أولئك الذين أخرجوا من النار لم يعملوا خيراً قط ، وإنما المراد أنهم لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال !!! . ترى؟ ! هل يأتي شيء على صيغة النفي ويؤكد بلفظة [قط] ثم يقال إن المراد من النفي نفي التمام والكمال؟ ! أرى أن هذا مما تنبو عنه اللغة، والله أعلم . والأصل في مثل هذا النفي نفي الحقيقة ، ولا يعدل عن الأصل إلا لحجة ظاهرة ، فمن رام هذا  العدول فليأت بشاهد لغوي من الشواهد العدول على مثل هذا الاستعمال ، وإلا فالتمسك بالأصل هو الأصل .
3ـ الباحث مطالب بأن يأتي بقرينة تؤيد قوله في نقض استدلال الأشاعرة على مذهبهم بحديث [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط] ، وتؤيد تأويله لهذه الجملة بعد أن تأكد ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن قوله يخالف الظاهر ، ومن كان قوله يخالف الظاهر فهو المدعي ، و[البينة على المدعي] . وربما يأتي مخالفوه  ـ على سبيل التبرع ـ بقرينة تؤيد قولهم . 
4ـ إن استدلال الأشاعرة هو المؤيد بالقرائن الدالة على صحته  :
فمنها الحديث الوارد في الصحيحين عن أنس بن مالك في استشفاع الناس يوم القيامة بالأنبياء ، وفيه أن الله تعالى يأذن لمحمد صلى الله عليه وسلم ويلهمه محامد يحمده بها ، قال صلى الله عليه وسلم: [فيقال: يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع . فأقول: يا رب أمتي أمتي . فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، ... انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، ... انطلق فأخرج منها من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان . ... ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ، ... فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله . فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي ، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله][ ] . وغني عن البيان أن المراد من قول لا إله إلا الله أن تكون مع قرينتها وهي [محمد رسول الله] ، صلى الله عليه وسلم . 
ووجه الاستدلال هو أنه بمقدار ما يكون في القلب من إيمان يظهر على الجوارح من العمل الصالح وآثار العمل الصالح ، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما يخرج من النار من في قلبه مثقال شعيرة من إيمان أو أقل ؛ فإنه لا بد أن يعرفهم بآثار العمل الصالح المنبثق عن ذلك القدر من الإيمان ، لأنه لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب ، لكن ما الذي يمكن أن يكون من الإيمان عند أهل المرتبة الرابعة زيادة على قول لا إله إلا الله؟ لا شيء ، لأنه لو كان عندهم شيء لذكره ، فأولئك ليس عندهم سوى كلمة التوحيد [لا إله إلا الله محمد رسول الله] ، وليس فوقها من الإيمان شيء بحيث يثمر من العمل ولو أي شيء ، ولذا فهؤلاء لا يخرجون من النار إلا بشفاعة أرحم الراحمين .
وهكذا يكون هذا الحديث شاهداً لحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم وغيره ، والذي فيه أن الله تعالى يخرج من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط .
ومنها ما روي في مسند أحمد وغيره بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ ! أظَلَمَتْك كَتَبَتي الحافظون؟ ! . قال: لا يا رب . فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ . فيبهت الرجل ، فيقول: لا يا رب . فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك . فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول: أحضروه . فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ ! . فيقال: إنك لا تظلم . فتوضع السجلات في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم] . وفي رواية الترمذي [فلا يثقل مع اسم الله شيء] [ ] . وهذا الرجل عندما يسأل عما إذا كان له حسنة يجيب بالنفي ، فدل هذا على أنه لم يعمل حسنة قط. وقد يقول قائل: لعله من أهل الصلاة إلا أنه لم يتمكن من الإدلاء بهذه الحجة لشدة هول الموقف ، فقد جاء في هذا الطريق [فيبهت الرجل] ، وجاء في طريقين آخرين [فيهاب الرجل] . فأقول: ليس كذلك ، لأنه لو كان من أهل الصلاة لوضعت الصلاة في الميزان مع قول لا إله إلا الله في مقابلة السجلات المملوءة بالسيئات . ففي هذا الحديث دلالة على أن من جاء بكلمة التوحيد ولم يعمل معها حسنة فإن عاقبته النجاة . 

وهذا شاهد آخر لحديث أبي سعيد الخدري الذي يريد الباحث توهينه .

المسألة الرابعة
الأصول العقدية والنصوص النبوية التي دعت الباحث إلى الشك أو التأويل لرواية
[فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط]

يقول الباحث:
[فإن لم نقل إن تلك الرواية غير محفوظة ؛ نقول لا بد من توجيهها وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى] .
ويقول : [أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة ، ... فإذا ضممنا هذه الروايات إلى النصوص الصريحة في تكفير تارك الصلاة لم تنهض تلك الزيادة على معارضتها] .
ويقول :[الروايات التي لم تذكر فيها هذه الزيادة أرجح ، من حيث كثرتها وموافقتها للأصول القطعية في أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن وأن الإيمان قول وعمل].
ويقول : [الإجماع على تكفير الممتنع عن الصلاة ثابت عن الصحابة] .
ويقول :[... ولا نعارض بها ما ندركه ونعلمه من الأدلة البينة على قتل الممتنع عن الصلاة كفراً وإجراء أحكام المرتد عليه ، فإن هذا قد قام دليله وأمرنا بتنفيذه] .

أقول :
ذكر الباحث من الأصول القطعية أصلين: أحدهما أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن ، والثاني أن الإيمان قول وعمل .
فأما الأول فهو متفق عليه .
وأما الثاني فإن نصوص الكتاب والسنة منها ما جعل الإيمان مقصوراً على الاعتقاد دون القول والعمل ، كحديث جبريل الذي جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، وجعل القول والعمل كالشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الإسلام لا من الإيمان ، ومنها ما جعل الكل من الإيمان ، كحديث [الإيمان بضع وسبعون شعبة][ ] ، وإطلاق القول بأن الإيمان قول وعمل فيه إعمال لبعض النصوص وإهدار لبعضها الآخر . أما الذين عملوا بالنصوص الثابتة كلها فحملوا حديث جبريل وما في معناه على أن الإيمان هو الاعتقاد ، وأن الإسلام هو القول والعمل ، وحملوا حديث [الإيمان بضع وسبعون شعبة] وما في معناه على أن الإيمان يشمل الاعتقاد من حيث إنه هو حقيقة الإيمان، ويشمل الأقوال والأعمال من حيث إنها ثمرة للإيمان ، وبذا يتم الجمع بين النصوص .
وعلى هذا فمن قال من السلف [الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص] فهو صحيح ، وذلك بالنظر إلى درجات الإيمان من أدناها إلى أعلاها ، فكلما قوي الإيمان وارتقى مثقال ذرة عن الدرجة الدنيا فإنه لا بد أن يثمر من الكلم الطيب والعمل الصالح ، وبهذا يكون الإيمان شاملاً للقول والعمل ، ويزيد بزيادة المحبة والإخلاص والتوكل والخوف والرجاء وبطاعة الله تعالى ، وينقص بنقصانها وبمعصية الله تعالى ، وهذا كله ثابت في النصوص الكثيرة المستفيضة في الكتاب والسنة ، وهو قول أهل السنة من السلف فمن بعدهم ، ومنهم الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث . 
ومن قال [الإيمان التصديق ، وهو لا يزيد ولا ينقص] فهو صحيح كذلك ، وذلك بالنظر إلى الدرجة الدنيا من درجات الإيمان التي هي التصديق وإذعان النفس ، وليس فيه بهذا المعنى زيادة عن الدرجة الدنيا مثقال ذرة بحيث يثمر شيئاً من الأقوال والأعمال الصالحة ، ولهذا فإنه ليس شاملاً للقول والعمل ، وهذا الجزء الذي ينقل المرء من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان ، لأن القدر الزائد على هذا الجزء ليس هو الذي ينقل من الكفر إلى الإيمان ، بل هو ارتقاء في درجات الإيمان نفسه ، وهذا معنى أنه لا يزيد ، ولو نقص ذلك الجزء الذي هو الحد الأدنى لما نقل المرء من الكفر إلى الإيمان ، وهذا معنى أنه لا ينقص ، وأصحاب هذه الدرجة هم أهل المرتبة الرابعة في الشفاعة ، أي الذين يدخلون النار ولا يخرجون منها إلا في آخر المراتب بشفاعة أرحم الراحمين جل شأنه . وهذا هو معنى ما تذكره كثير من كتب العقيدة عند الأشاعرة والماتريدية ، وهو لا يخالف قول السلف في قليل ولا كثير عند من يدرس كتب العلماء ومصطلحاتها بتُؤَدة وأناة . 
والأشاعرة والماتريدية بعيدون عن بدعة التجهم بعد المشرق عن المغرب ، وكذا عن بدعة الإرجاء ، والباحث نفسه يقول [فالمرجئة تقول إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ، وإن الإنسان يكون كامل الإيمان وإن لم يعمل خيراً قط] ، والأشاعرة والماتريدية قاطبة لا يقولون عمن لم يعمل خيراً قط إنه كامل الإيمان ، بل هو في أدنى درجات الإيمان . فكيف يصح اتهام الأشاعرة بأنهم مرجئة؟ !!! . 
وبعد هذه الجولة من الاستدلال ـ والتي قد يصعب على بعض الناس فهمها واستيعابها ـ  أعود بهم إلى ما يرونه الأسهل ، وهو قول ابن أبي العز شارح الطحاوية ، إذ يعُد من قال [إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص] ومن قال [إن الإيمان هو التصديق ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان] كليهما من أهل السنة ، فاستمع إليه ـ رحمه الله ـ  بعد سرد عدد من الأحاديث النبوية التي فيها وصف بعض الذنوب بالكفر ، وبعد التصريح باتفاق أهل السنة على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة ، إذ يقول: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً لا يترتب عليه فساد ، وهو أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر؟ ... من قال إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال هو كفر عملي لا اعتقادي ، ... ومن قال إن الإيمان هو التصديق ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان والكفر هو الجحود ولا يزيدان ولا ينقصان قال هو كفر مجازي غير حقيقي] [ ] . فتنبه .
واستمع إلى ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ  يفرق بين قول جهم الضال المبتدع وبين قول أبي منصور الماتريدي من أئمة الهدى ، إذ يقول: [وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح ... ، أو... ، أو... ، أو بالقلب وحده ، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله] [ ] . فتنبه .
وأما النصوص التي يرى الباحث أن رواية إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً قط لا بد من توجيهها وتخريجها بما يتفق معها: فهي ما أشار إليه من النصوص الصريحة في تكفير تارك الصلاة ، ثم يقول إن الإجماع على تكفير الممتنع عن الصلاة ثابت عن الصحابة . 
وأقول : قد وردت نصوص في تكفير تارك الصلاة ، كقوله صلى الله عليه وسلم [بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة] ، رواه أحمد ومسلم من حديث جابر ، وكقوله [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر] ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث بريدة . وروى الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله أنه قال: [كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة] [ ] . ولكن إذا كان هنالك تعارض ظاهري بين رواية إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً قط وبين أحاديث تكفير تارك الصلاة ؛ فأيهما أولى بمحاولة توجيهه بما يتفق مع الآخر؟ ! .
يرى الباحث أن أحاديث تكفير تارك الصلاة نصوص صريحة وكأنها لا تقبل وجهاً آخر من الفهم وأن رواية إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً قط هي التي لا بد من توجيهها !!! . 
والأقرب أن العكس هو الصواب ، وذلك للقرائن التالية: 
أ ـ  اشتهر عند السلف قولهم [كفر دون كفر] ، وعلى هذا فتارك الصلاة ـ إذا كان مقراً بوجوبها وحرمتها وكان تركه لها من باب الكسل ـ  هو كافر كفراً عملياً ، لا كفراً اعتقادياً مخرجاً من الملة ، وهو ما يعبرون عنه بقولهم [كفر دون كفر] ، ويكون إطلاق الصحابة لفظة الكفر على تارك الصلاة كذلك من هذا الباب . 
ب ـ  جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث فيها إطلاق لفظة الكفر واتفق العلماء على أن المراد بها الكفر العملي لا الكفر الاعتقادي ، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر] ، متفق عليه ، وقوله [اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب ، والنياحة على الميت] ، رواه مسلم ، وقوله [لا ترغبوا عن آبائكم ، فمن رغب عن أبيه فهو كافر] ، رواه مسلم ، وقوله [أيُّما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم] ، رواه مسلم ، وقوله [من حلف بغير الله فقد كفر] أو [فقد أشرك] ، رواه الحاكم وأحمد وأبو داود . فمن وقع في شيء من هذا ولم يستحل فإن العلماء متفقون على أنه لم يكفر الكفر المخرج من الملة ، والأحاديث التي فيها تكفير تارك الصلاة هي كذلك من هذا الباب . وقد ذكر ابن أبي العز عدداً من هذه الأحاديث وغيرها وحديث تكفير تارك الصلاة وبيّن اتفاق أهل السنة على أن الحكم بالكفر هنا ليس المراد منه الكفر الذي ينقل عن الملة [ ] .
ج ـ  جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [خمس صلوات افترضهن الله على عباده ، من أحسن وضوءهن وصلاتهن لوقتهن ، فأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه] . وفي الطريق الآخر عنه: [خمس صلوات افترضهن الله على عباده ، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة ، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له] [ ] . وليس انتقاص هذا المقصر في الصلاة مما يرجع إلى نقص في السنن والآداب والخشوع ، ولكنه نقص في الفرائض التي يستحق عليها العذاب في الآخرة ، ومع ذلك فهو داخل تحت المشيئة ، ولو كان تارك الصلاة كافراً  ـ والإخلال بالفرائض فيها كالترك ـ  لما أدخله تحت المشيئة . 


المسألة الخامسة
قوله  عن أهل المرحلة الرابعة [ فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ]

يريد الباحث أن يرد دلالة هذا الجزء من الحديث الوارد في الصحيحين ، فيقول : [ وأهل الجنة يقولون حسب ظاهر ما يعلمون ، ... ثم يأتي علام الغيوب سبحانه فيخرج أقواماً من أهل الإيمان لم يكن أحد يعلم عنهم إيماناً ] .

أقول :
ظاهر هذا القول يؤيد مذهب الأشاعرة ، إلا أن الباحث يرد دلالته حيث إن أهل الجنة يقولون حسب ظاهر ما يعلمون ، أي فربما كان عند أولئك شيء ضئيل جداً من العمل لم يعلمه أهل الجنة ، فعلى قوله يكون أهل الجنة قد قالوا قولاً وأخطؤوا فيه ، وإذا كان الحال كما يتصور الباحث فَلِمَ نَقَل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم الذي أخطؤوا فيه للناس ولم ينبه على الخطأ؟ !!! أم إن الباحث يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نقل للأمة قول أهل الجنة الذي أخطؤوا فيه دون أن ينتبه للخطأ أو يعرف أنه خطأ؟ !!! حاشاه من ذلك ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ لم ينتبه للخطأ ولم يعرفه فهل نزل الوحي بتصحيح ذلك الخطأ؟ !!! كل ذلك لم يكن ، فتنبه ! . فثبت أن القول الذي قاله أهل الجنة صواب لا خطأ فيه . اللهم اغفر لنا جميعاً ، وارزقنا حسن التأدب مع نبيك المصطفى ، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .

المسألة السادسة
قول "لا إله إلا الله"
هل تنجي صاحبها إذا قالها بالقلب دون اللسان ؟

وهنا قد يقال: هل أولئك الذين يخرجون من النار بشفاعة أرحم الراحمين وليس عندهم إلا قول [لا إله إلا الله] ؛ هل لا بد أن يكونوا قد قالوها باللسان والقلب أو ربما يكونون قد قالوها بالقلب فقط ؟ .
الذين يشترطون لصحة الإيمان عقد القلب على التوحيد مع التلفظ بالشهادتين يحملون القول هنا على قول اللسان والقلب ، ويقولون لا بد منه لحصول النجاة من النار ولو في المرحلة الأخيرة . 
والذين يشترطون لصحة الإيمان عقد القلب على التوحيد ولا يشترطون التلفظ بالشهادتين يحملون القول هنا على القول باللسان والقلب أو بالقلب فقط ، ويقولون إن من عقد قلبه على عقيدة التوحيد موقناً بها قلبه فإنه ممن تدركه النجاة في المرحلة الأخيرة .
وعندهم عدد من الأدلة على صحة ما ذهبوا إليه :
منها ما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة] [ ] .
ومنها ما رواه مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة] [ ] .
ومنها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً] [ ] .
ومنها ما رواه البخاري وابن خزيمة عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عرض لي جبريل فقال بشِّر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة] [ ] .
ومنها ما رواه ابن خزيمة عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من مات وهو يوقن بقلبه أن الله حق وأن الساعة قائمة وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة] أو قال [نجا من النار] [ ].
ومنها ما رواه ابن خزيمة عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من علم أن الله ربه وأني نبيه صادقاً من قلبه حرم الله لحمه على النار] [ ] .
فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة لمن مات على عقيدة التوحيد ولم يشترط التلفظ بها ، فهل من بنى عقيدته على أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم يوصف بالابتداع؟!!! . وإنما أُتي الباحث من حيث إنه لا يدرك الفرق بين عقيدة الجهمية من جانب وبين عقيدة الأشاعرة والماتريدية من جانب آخر ، فالتبس عليه الأمر ، فخلط بين الجهمية الذين هم أهل بدعة وضلال وبين الأشاعرة والماتريدية الذين هم أهل سنة وهداية ، والله المستعان .
 
ويقول الباحث :
[ وأما قول بعضهم إن المراد بالقول هنا القول النفسي فمن التأويل الفاسد ، إذ لا يصح حمل القول على القول النفسي إلا إذا قيد بذلك ، أما إذا أطلق فهو ممتنع عند جميع العقلاء] . 

أقول :
شكا رجل إلى ابن عباس فقال: إني أكون في الصلاة فيخيل إلي أن بذكري بللاً؟ . فقال: [قاتل الله الشيطان ، ... فإذا توضأت فانضح فرجك بالماء ، فإن وجدت قلت هو من الماء][ ] . وهذا دليل من أدلة كثيرة على استعمال العرب القول والمراد هو القول النفسي دون أن يقع التقييد بذلك . وقفْ عند قول الرجل [في الصلاة] وقول ابن عباس له [قلت هو من الماء] . وقد تقدم حديث [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ! الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، ألا وقول الزور] وقول الراوي [فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت] . وتقدم حديث [فإذا أتاه الشيطان فقال إنك قد أحدثت فليقل كذبت] .
ويبدو أن الباحث من المتسرعين في إطلاق أحكام لغوية دون أن يتتبع النصوص إذا رأى أن ذلك يخدم فكرته .
*   *   *   *   *
وأقول في الختام : اللهم أرنا الحقَّ حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وحببنا فيه ، واجمعنا عليه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، وكرِّهنا فيه . سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، أستغفرك وأتوب إليك .
وكان الفراغ من كتابة هذا البحث ـ على فترات متباعدة وعلى غير ترتيب ـ سوى بعض الإضافات والتعديلات اليسيرة : في الشارقة يوم الاثنين 17/5/1425هـ الموافق 5/6/2004 م ، والحمد لله رب العالمين .
                                             وكتبـه راجي عفو ربـه الكريم
                                                 صلاح الدِّين بن أَحمد الإدلبي
 
ملحق في 
تلخيص عقائد الأشاعرة
1 ـ مصدر تلقي العقيدة ـ عند الاشاعرة ـ هو القرآن الكريم والسنة المتواترة والدلالة العقلية القطعية .
2 ـ القطعيات تتوافق ولا تتعارض.
3 ـ الأحاديث الآحادية ليست حجة مستقلة في أصول العقائد.
4 ـ ظواهر ألفاظ النصوص المخالفة للنصوص المحكمة أو القواطع العقلية لا يؤخذ بها ويجب تأويلها.
5 ـ لا يوصف الله تعالى بما يدل على انه مركب من أجزاء ، فلا يقال له وجه وعينان ويدان وأصابع وساعد وساق وقدم وجنب وحقو.
6 ـ الإيمان هو التصديق العقلي مع الإذعان والقبول، والأعمال الصالحة هي ثمرات للإيمان.
7 ـ القرآن كلام الله ، وهو الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ، وهو قديم غير مخلوق.
8 ـ الطعام لا يشبع بنفسه ، والنار لا تحرق بنفسها ، والدواء لا يشفي بنفسه ، والله تعالى هو الذي يخلق الإشباع والإحراق والشفاء عند هذه الأسباب.
9 ـ التكليف والثواب والعقاب مرتبط بالأوامر الإلهية وبعثة الرسل ، لا بحسن الشيء وقبحه.
10 ـ بعض النصوص لا تفهم حسب معاني المفردات بل حسب السياق ومعاني التراكيب ، وتؤول المعاني المأخوذة من المفردات المقطوعة عن السياق إذا دل دليل على أنها غير مرادة.
11 ـ كل ما دل عليه نص قرآني أو نبوي فيجب الإيمان به ، إلا إذا كان مخالفا لحكم قطعي في الشرع أو العقل ، وهذا يعني أن ذلك النص يؤول أو يطعن في ثبوته إن كان حديثا آحاديا.
12 ـ الكفر هو نقيض الإيمان ، فهو يرجع إلى التكذيب بأي أمر ثبت عن الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم من وجه قطعي.
13 ـ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يترضى عنهم ولا يتكلم فيهم بسوء.
14 ـ الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، والأئمة من قريش.
15 ـ يجب تنزيه الله تعالى عن صفات الحوادث كالمكان والجهة والحركة والانتقال والنزول والصعود الحسيات.
16 ـ الله تعالى متفرد في الأزل ، أي كان الله ولم يكن شيء غيره ، فلا شيء قبله ، ولا شيء معه ، والعرش فما دونه أي كل ما سوى الله تعالى حادث مخلوق.
17 ـ يثبتون ما أثبته الله لنفسه وينفون في الوقت ذاته سمات الحدوث ، فيثبتون له صفة الاستواء ويقولون ليس باستقرار ولا ملاصقة.
18 ـ ينزهون الله تعالى عن أن يلحقه تغير أو تبدل.
19 ـ القرآن انزله الله تعالى بلغة العرب على وفق طرقهم في استخدام الألفاظ والتراكيب ، فلا تفهم نصوص القرآن ـ وكذا نصوص السنة ـ إلا على وفق أساليب العرب في البيان.  

فهرس أهم مسائل البحث
[وما كتب بجانبه ( ح ) فهو في الحاشية]


ـ كتابة أحد الباحثين كتاباً لبيان منهج الأشاعرة في العقيدة أخرجهم فيه من دائرة السنة وعدهم طائفة من أهل البدع
ـ من مظاهر تجني ذلك الباحث على الأشاعرة 5
ـ كلمة نفيسة لابن تيمية رحمه الله تقدم هدية للباحث 6
ـ دعوى الباحث أن الأشاعرة هي أكبر فرق المرجئة الغلاة ، وبيان أهم عقيدة تميز المرجئة المبتدعين ، وبراءة الأشاعرة من ذلك 8
ـ ربط الباحث بين مذهب الأشاعرة وما يخرجه المستشرقون من مخطوطات ، وبيان ميادين اهتمام المستشرقين من كتب التراث 10
ـ هل الأشاعرة يكفرون ابنَ تيمية ويتهمونه بالزندقة ؟ 12
ـ كلمة إنصاف من الحافظ ابن حجر رحمه الله في حق ابنَ تيمية 13
ـ مآخذ الحصني على ابن تيمية ورميه إياه بالكفر والزندقة ، وبيان ما اشتبه على الحصني من الدلائل التي أوقعته في ذلك 13
ـ طعن ابن تيمية في أبي الحسن الأشعري وفي الخسروشاهي اعتماداً على الروايات الضعيفة المنكرة   15 (ح)
ـ كلمات إنصاف من السيوطي وابن عابدين والصيادي والشيخ يوسف النبهاني في حق ابن تيمية 21
ـ  استعمال ابن تيمية كلمات التكفير والسباب في حق خصومه 23
ـ دعوى الباحث أن الأشاعرة تلقوا واستمدوا من غير السنة ولم يوافقوها في النتائج ،  والتعليق على هذا الادعاء 25

ـ بيان بعض ما في كلام ابن تيمية في العقيدة من خلل 27
ـ رده على من قال إن الله تعالى لم يزل وحده ولا شيء معه وبيان خطئه بسبب الإعراض عن منهج أئمة الحديث في الترجيح بين الروايات 27
ـ رده على من طعن في حديث الأوعال وادعاؤه أنه مروي من طريقين ، وبيان أنه مروي من طريق واحد ضعيف 29
ـ دفاعه عن أن الله تعالى أبدى عن بعضه وادعاؤه أن لفظ البعض قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين ذاكرين وآثرين ، وبيان ضعف الروايات التي اعتمد عليها 30
ـ استدلاله بما رُوي أن الله تعالى لما تجلى للجبل ما تجلى منه إلا مثل الخنصر، وبيان ضعف الروايات التي اعتمد عليها 32
ـ استدلاله برواية مرسلة فيها أن الله تعالى كلَّم موسى بقوة عشرة آلاف لسان وأن كلامه تعالى كالصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة ، وبيان ضعف هذه الرواية وأن مصدرها هو كعب الأحبار 35
ـ ادعاؤه أن أهل الجاهلية كـانوا يعظمون حراء !!! مجرد دعوى دون اســتناد إلى دليل 38
ـ هل فقهاء المذاهب الأربعة المعتبرون يذمون الأشاعرة ؟! 39
ـ منشـور الاعتقاد القادري الذي كتب للخليفة العباسي القادر بالله ، وغفلة الباحث عن التناقض الموجود بينه وبين اعتقاد ابن تيمية في مسـألة من أهم مسـائل العقيدة 47
ـ هل أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة ، وأتباع السلف يذمون الأشاعرة ؟! 48
ـ هل الأشاعرة مذمومون عند رجال الجرح والتعديل ؟! 50
ـ غفلة الباحث عن أن منهجه في الاستدلال يؤدي إلى أن الحنابلة مذمومون عند رجال الجرح والتعديل 52
ـ ادعاء الباحث أن علماء الأشاعرة الكبار أعلنوا حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف وبيان ضعف ما أستند إليه   54
ـ اتهام ابن تيمية للإمام فخر الدين الرازي بمسألة كفرية ـ وهي القول بتكافؤ الأدلة في مسألة حدوث الأجسام ـ حسبما ظهر له من كلامه دون قراءة ما بعده مما فيه التصريح بنقيض ذلك 56
ـ بيان عقيدة الإمام أبي محمد الجويني وولده إمام الحرمين وأنهما لم يخرجا عن عقيدة الأشاعرة 57
ـ بيان ما الذي رجع عنه كبار أئمة الأشاعرة وإلى أي شيء رجعوا 60
ـ الشافعية والمالكية والحنفية وكثير من الحنابلة أشعريون في العقيدة   61
ـ من أسباب ابتعاد كثير من الحنابلة عن عقائد جمهور الأمة هو التعلق بكل ما يروى عن الإمام أحمد دون دراية بعدم صحة الإسناد إليه 62
ـ ادعاء الباحث أن الذي يدخل في الإسلام حديثاً يصبح بمجرد إسلامه واحداً من أهل نحلته ، والرد عليه 63
ـ ادعاء الباحث أن الحافظ ابن حجر خالف الأشاعرة في مسالة الإيمان وفي الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة ، وبيان خطأ الباحث في ذلك   64
ـ ادعاء الباحث أن ابن حجر رحمه الله كان متذبذباً في عقيدته ، مجرد ادعاء دون استناد إلى دليل 66
ـ  ثناء الباحث على عقيدة البربهاري وعثمان بن سعيد الدارمي ، وبيان بعض ما عندهما من الخلل في العقيدة 66
ـ  استعراض الباحث مواضيع العقيدة 68
ـ  ادعاء الباحث أن الأشاعرة يختلفون مع أهل السنة والجماعة في العقيدة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات ، ماعدا قضية واحدة فقط   68

ـ  الموضوع الأول : مصدر التلقي
ـ  ادعاء الباحث أن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل ، وأنهم يقدمون العقل على النقل عند التعارض 69
ـ بيان أن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل والنقل وأن الاستدلال عندهم يكون بالأدلة العقلية والأدلة النقلية على وجه التعاضد 69
ـ توضيح قول الأشاعرة إن العقل مقدم على النقل 70 
ـ  توضيح كلام الإمام الرازي في مسألة اختلاف الدلائل القطعية العقلية وظواهر الأدلة النقلية 75
ـ  ابن تيمية رحمه الله يقول بوجوب تقديم الدليل العقلي القطعي على الدليل السمعي إذا لم يكن قطعياً 76 
ـ اتهام ابن تيمية للإمام الرازي بمسألة كفرية ـ وهي جواز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ـ وبيان أنها ليست موجودة في المصدر الذي عزاها إليه ابن تيمية 78
ـ توضيح قول الأشاعرة بأنه قد وقعت في الكتاب والسنة ظواهر من اعتقدها على ظاهرها فقد كفر من خلال عدد من الأمثلة 79
ـ ابن تيمية رحمه الله يؤول الحديث القدسي (( مرضت فلم تعدني )) و يسمي ذلك تفسيراً ويأبى أن يسميه تأويلاً 80
ـ الإمام أحمد رحمه الله يفسر بعض النصوص القرآنية والنبوية على غير ظاهرها ، وهذا ما يسميه الأشاعرة تأويلاً 81
ـ الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله يوجب الأخذ بظاهر الآيات القرآنية ويرى في حالة ثبوت غير ذلك الظاهر ثبوتاً قطعياً أن تحمل الآيات على أن المراد بها غير الظاهر الذي فسرت به قبل ذلك 82
ـ توضيح قول الأشاعرة بأن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشرة عوارض 85 
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأن السنة لا يثبت بها عقيدة عندهم ، وبيان بطلان هذا الاتهام 88 
ـ  توضيح قول الأشاعرة بأن الأحاديث الآحادية لا تثبت بها عقيدة 88
ـ اتهام الباحث للإمام الرازي بأنه يقطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة لعدالتهم وحفظهم وبأنه يقطع بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة ، وبيان أن هذا محض توهم 89 
ـ ابن تيمية رحمه الله يقول بأن خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن وبأن في الصحابة من قد يغلط أحياناً 91
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأن كتب العقيدة عندهم قد لا تجد في المئة صفحة منها آية أو حديثاً ، وبيان تجنيه في ذلك 93 
ـ اتهام الباحث للصوفيين من الأشاعرة بأنهم يقدمون الكشف والذوق على النص ، وبيان تجنيه في ذلك 94
ـ نصوص عن كبار أئمة التصوف الصافي لبيان منزلة الكتاب والسنة عندهم 94

ـ الموضوع الثاني : إثبات وجود الله تعالى
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأن عندهم دليلاً واحداً على إثبات وجود الله هو دليل الحدوث والقدم ، وبيان تجنيه في ذلك   97
ـ قول الباحث عن الأشاعرة بأنهم يثبتون أن الله تعالى ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا في مكان ، وتوضيح قول الأشاعرة في ذلك 100
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم ينكرون كثيراً من صفات الله تعالى كالرضى والغضب والاستواء ، وبيان تجنيه في ذلك وتوضيح قول الأشاعرة 102

ـ الموضوع الثالث : التوحيد
ـ قول الباحث عن الأشاعرة بأن التوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد ونفي التبعيض والتركيب والتجزئة ، وتوضيح قول الأشاعرة في ذلك 105
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم ينكرون بعض صفات الله تعالى كالوجه واليد والعين ، وتوضيح قول الأشاعرة في ذلك ، والفرق بين التفسير والإنكار 107
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأن التوحيد الحقيقي الذي هو توحيد الألوهية لا ذكر له في كتب عقيدتهم إطلاقاً وأنهم يتركونه بالمرة ، وبيان تجنيه في ذلك 108
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم ينكرون المعرفة الفطرية وغمزه إياهم بأنهم يقولون إن من آمن بالله بغير طريق النظر فإنما هو مقلد وأن بعضهم رجح كفره واكتفى بعضهم بتعصيته ، وبيان تجنيه في ذلك 112
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأن لازم قولهم تكفير العوام والصدر الأول ، وبيان تجنيه في ذلك 115

ـ الموضوع الرابع : الإيمان
ـ   اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم في مسألة الإيمان مرجئة جهمية وأنهم على مذهب جهم بعينه ، وبيان تجنيه في ذلك مع توضيح قول الأشاعرة وأدلتهم من نصوص الكتاب والسنة 116
ـ بيان الفرق بين قول جهم في الإيمان وبين مذهب الأشاعرة 118 
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنه لا داعي ـ على مذهبهم ـ لحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عمه أبو طالب "لا إله إلا الله" ، وبيان تجنيه في ذلك 120

ـ  الموضوع الخامس : القرآن
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة في أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى يتكلم بكلام مسموع ، وبيان تجنيه في ذلك 121 
ـ  عزو الباحث إلى الأشاعرة أن كلام الله تعالى لا يوصف بالخبر ولا الإنشاء ، وبيان خطئه في ذلك 121
ـ قول الباحث عن الأشاعرة بأن الكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس واتهامه لهم بأنهم استدلوا على ذلك بالبيت المنسوب للأخطل النصراني ، وبيان تجنيه في هذا الاتهام مع ذكر بعض أدلتهم من القرآن والحديث وأقوال الصحابة 122 
ـ قول الباحث عن الأشاعرة بأنهم قالوا عن كلام الله ليس بحرف ولا صوت ، وتوضيح قولهم في ذلك 124
ـ  اتهام الباحث بعض الأشاعرة بأنهم قالوا إن الله خلق القرآن أولاً في اللوح المحفوظ ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا ، وبيان تجنيه في ذلك 127 
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي للقرآن فقال بعضهم هو جبريل وقال بعضهم بل هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان تجنيه في ذلك 127
ـ  اتهام الباحث للإمامين الباقلاني والجويني الأشعريين بأنهما يقولان بأن الذي عبر عن الكلام  النفسي بهذا اللفظ هو جبريل ، وبيان تجنيه في ذلك 128
ـ  اتهام الباحث لبعض الأشاعرة بأنهم يقولون إن حروف القرآن ابتداء جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم يضاهون بذلك قول مشركي العرب [إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ]، وبيان تجنيه في ذلك 130
ـ  اتهام الباحث للباجوري بأنه يقول بخلق القرآن وأنه يريد أن يستر ذلك ، وبيان تجنيه في ذلك 131

ـ  الموضوع السادس : القدر
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم جاؤوا بنظرية الكسب وأنها في مآلها جبرية خالصة وأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير ، وبيان تجنيه في ذلك مع ذكر أدلة الأشاعرة من القرآن الكريم على إثبات الكسب للعبد 132
ـ  توضيح قول الأشاعرة بإثبات القدرة للعبد على الفعل ونفي تأثيره في إيجاد الفعل وخلقه 133

ـ  الموضوع السابع : السببية وأفعال المخلوقات
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم ينكرون الربط العادي بين السبب والمسبَّب بإطلاق ، وبيان تجنيه في ذلك 134
ـ  توضيح قول الأشاعرة بنفي تأثير السبب في المسبَّب ، وبيان ما يترتب على إثبات التأثير أو نفيه 134

ـ  الموضوع الثامن : الحكمة الغائية
ـ قول الباحث عن الأشاعرة إنهم ينفون أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة ، وتوضيح قولهم في ذلك 136 
ـ  قول الباحث عن الأشاعرة إنهم يقولون بجواز أن يخلد الله في النار أخلص أوليائه ويخلد في الجنة أفجر الكفار دون أن يذكر ما استندوا إليه من الحديث، وتوضيح قولهم واستدلالهم ذلك 138

ـ  الموضوع التاسع :  النبوات
ـ  قول الباحث عن الأشاعرة بأنهم يقررون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة  وأنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزة وأنهم ينكرون صدور الذنب عن الأنبياء ، وتوضيح قولهم في ذلك 141 
ـ  اتهام الباحث للصوفيين من الأشاعرة بأنهم يفسرون الوحي تفسيراً قرمطياً ، وبيان تجنيه في ذلك 143

ـ  الموضوع العاشر : التحسين والتقبيح
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم ينكرون أن يكون للعقل والفطرة مجال في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ، وبيان تجنيه في ذلك 145 
ـ  قول الباحث عن الأشاعرة بأنهم يقولون إن الشرع قد يأتي بما هو قبيح في العقل كإيلام الحيوان ، وتوضيح قولهم في ذلك 147

ـ  الموضوع الحادي عشر : التأويل
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم يقولون بالتأويل الذي هو تحريف للكلام ، وبيان تجنيه في ذلك 149
ـ  أمثلة للتأويل الصحيح عند الأشاعرة 150
ـ  تفسير أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لحديث نبوي على ظاهر المعنى ثم عدولهن إلى التأويل 155 
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم وجدوا في التأويل مهرباً عقلياً من التعارض الذي اختلقته أوهامهم ، وبيان تجنيه في ذلك 156
ـ  ادعاء الباحث أن مذهب السلف لا تأويل فيه لنص من النصوص الشرعية إطلاقاً ، وإثبات أنه كلام منقوض 159 
ـ  توضيح قول الأشاعرة عن بعض النصوص إنها توهم التشبيه 161 
ـ  اتهام الباحث للإمام أبي حامد الغزالي بأنه افترى على الإمام أحمد ، وبيان صحة قول الإمام الغزالي بما ينقض كلام الباحث 161
ـ  الجواب عن تساؤل الباحث لم يكون تأويل الأشاعرة لعلو الله تنزيهاً وتوحيداً وتأويل الباطنية للبعث والحشر كفراً وردة ؟! 162
ـ  الجواب عن قول ابن تيمية (( واللهُ سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال )) 164 
ـ استخدام ابن تيمية رحمه الله التأويل مع بعض النصوص الواردة عند أهل الكتاب 164 

ـ الموضوع الثاني عشر : السمعيات
ـ اتهام الباحث للأشاعرة بأن معظم أبواب العقيدة ومنها باب الصفات مصدرها عندهم العقل وحده ، وبيان تجنيه في ذلك 166
ـ  قول الباحث إن مسألة الرؤية مصدرها عند الأشاعرة العقل والنقل معاً ، وبيان خطئه في عدم التفريق بين جواز الرؤية وبين تحقق وقوعها 168
ـ توضيح قول الأشاعرة في السمعيات نؤمن بها لأن العقل لا يحكم باستحالتها ولأن الشرع جاء بها 168
ـ قول الباحث : [ وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبداً ، كما أنه ليس هناك أصل منها لا يستطيع العقل إثباته أبداً] ، وبيان خطئه في ذلك 169

ـ  الموضوع الثالث عشر: التكفير
ـ  قول الباحث إن الأشاعرة يقولون نحن لا نكفر أحداً ، وبيان خطئه في ذلك 172
ـ  قول الباحث إن الأشاعرة في أغلب كتبهم يكفرون من قال إن الله جسم لا كالأجسام ، وبيان خطئه في ذلك 172
ـ قول الباحث إن الأشاعرة يكفرون من قال إن النار علة الإحراق ، وتوضيح قولهم في ذلك 173 
ـ  قول الباحث إن الأشاعرة يكفرون من يثبت علو الله ومن لم يؤمن بالله على طريقة أهل الكلام ، وبيان خطئه في ذلك 174 

ـ  الموضوع الرابع عشر : الصحابة والإمامة

ـ الموضوع الخامس عشر : الصفات

ـ تتمات البحث

ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بالتناقض ومكابرة العقل ، وبيان تجنيه في ذلك 177 
ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أنهم قالوا بجواز أن يرى الأعمى بالمشرق البقة بالأندلس ، وتوضيح قولهم في ذ لك 178
ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أنهم يقولون باستحالة الجهة في حق الله تعالى وبإثبات الرؤية ، وتوضيح قولهم في ذلك 178
ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أنهم يقولون إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ، وتوضيح قولهم في ذلك 179
ـ  نقل الباحث عن الأشاعرة أنهم يقولون بأن من لم يبلغه الشرع غير مؤاخذ بإطلاق وأن على كل مكلف إذا بلغ سن التكليف أن ينظر في حدوث العالم ووجود الله تعالى ، وتوضيح قولهم في ذلك 180
ـ قول الباحث بأن كتب الأشاعرة تمتلئ بالأخطاء العلمية عن الكون كقول بعضهم بوقوف الأرض وسكونها وأنها مبسوطة ، وبيان أن جماهيرهم قالوا بكروية الأرض 181
ـ الإشارة إلى قول ابن تيمية بتحريم الكيمياء وأن تحريمها أشد من تحريم الربا ، وإلى دعوة البربهاري إلى الإقلال من النظر في النجوم !!! 181
ـ قول الباحث : [ وكل من قال إن الإيمان هو المعرفة أو التصديق فهو مرجئ ]، وبيان خطئه في ذلك 183
ـ  قول الباحث عن الأشاعرة بأنهم جاؤوا بنظرية الكسب وأنها جبرية خالصة وأنها بدعة ، وبيان خطئه في ذلك 185
ـ  قول الباحث بأن كل ذم للصوفية فللأشاعرة منه نصيب ، وبيان خطئه في ذلك 185
ـ  اتهام الباحث للأشاعرة بأنهم أدخلوا في الإسلام عقائد باطلة مما كان عليه فلاسفة اليونان ومشركو الصابئة وزنادقة أهل الكتاب !!! ، وبيان تجنيه في ذلك 187
ـ  قول الباحث عن الأشاعرة بأنهم عقدوا لابن تيمية محاكمة كبرى بسبب تأليفه العقيدة الواسـطية ، وبيان أن هذا تحريف للتاريخ الذي دونه ابن تيمية نفسه 189
ـ  حكم الباحث على الأشاعرة بأنهم من أهل الضلالة والبدعة والوعيد بالنار وعدم النجاة وأنهم غير خارجين عن الملة وأهل القبلة ، والتعليق عليه 190

ـ  ولنا في التاريخ عبرة 191

ـ  مناقشة الباحث في بعض ما قاله في كتاب آخر حول حقيقـة الإيمـان
ـ  تلخيص مذهب الأشاعرة ومذهب الباحث في أن جنس العمل هل هو ركن من أركان الإيمان أو لا ؟ 196
ـ كلام الباحث في هذه المسألة واستدلالاته ومناقشاته لأدلة الأشاعرة 198

ـ المسالة الأولى : استدلال الباحث على أن الإيمان لا بد فيه من العمل ولو قليلاً
ـ اسـتدلال الباحث بلفظة جاءت في حـديث أبي هريـرة رضي الله عنه وهي: [ فيعرفونهم بأثر السجود ] 199
ـ  بيان عدم صحة الاستدلال بهذه اللفظة التي جاءت في الرواية المختصرة ، وبيان أن الذين يخرجون من النار في المرحلة الرابعة هم ممن لم يعملوا خيراً قط 199

ـ المسالة الثانية : لجوء الباحث إلى التشكيك في ثبوت قوله  [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ]
ـ ميل الباحث إلى الشك في ثبوت هذه اللفظة من الحديث ، وادعاؤه أن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة 202
ـ بيان أن هذه اللفظة موجودة في أكثر طرق الحديث ، خلافاً لما ادعاه الباحث ، مما يدل على ثبوتها وأن راويها لم يتفرد بها 203
ـ ذكر من الشواهد تؤكد ثبوت هذه الزيادة [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط] 203
ـ إشكال وجواب حول لفظة جاءت في حديث أنس رضي الله عنه وهي تخالف رواية الصحيحين ، وبيان أن راويها له أخطاء وأوهام 205

ـ المسألة الثالثة : لجوء الباحث إلى تقليد من أوَّل قوله  [ فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ]
ـ لجوء الباحث إلى تأويل هذه اللفظة من الحديث 206
ـ استدلال الأشاعرة بهذه اللفظة على ما يظهر من معناها ، وإيراد الأحاديث النبوية التي تشهد لهذا المعنى الظاهر وتؤيده 207

ـ  المسألة الرابعة : الأصول العقدية والنصوص النبوية التي دعت الباحث إلى الشك أو التأويل لرواية [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط]
ـ  كلام الباحث في الاستدلال بأن الإيمان قول وعمل وبأن الممتنع عن الصلاة كافر : على أن هذه اللفظة [فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط] ليست على ظاهرها 209
ـ مناقشة الباحث في مفهوم قول أهل السنة إن الإيمان قول وعمل ، وبيان أنه لا دلالة فيه للباحث على ما ذهب إليه 210
ـ  مناقشة الباحث في مسألة تكفير تارك الصلاة ، وبيان عدم صحة استدلاله فيما ذهب إليه 212

ـ المسألة الخامسة : قوله  عن أهل المرحلة الرابعة [ فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ]
ـ ميل الباحث إلى أن قول أهل الجنة في أهل المرتبة الأخيرة من الجهنميين الذين يدخلهم الله تعالى الجنةَ هو حسب ظاهر ما يعلمون ، وبيان تجنيه في ذلك 215

ـ  المسألة السادسة : قول "لا إله إلا الله" هل تنجي صاحبها إذا قالها بالقلب دون اللسان ؟
ـ إيراد الأدلة من الأحاديث النبوية الشريفة على أن المراد من قول "لا إله إلا الله" هنا : الإيقان بها بالقلب مع قول اللسان أو بدونه 216
ـ  ادعاء الباحث أن حمل القول هنا على القول النفسي من التأويل الفاسد ، وبيان تجنيه في ذلك 218



هذه الصحيفة توضع أول الكتاب ، لكن وضعها ههنا كي لا يختل فهرس الكتاب والله الموفق
من فضلك أرسل ملحوظاتك إلى العنوان الالكتروني التالي : 
salahsafa@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق