بالرغم من جهود الفقهاء والأصوليين في تحديد البدعة في الدين، وبيان ملامحها وسماتها، إلا أن الحكم بالبدعة في بعض الأحيان يكون في غير محله من قبل بعض الدعاة والمصلحين، وحدث أن توفي شخص عزيز عَليّ في يوم ثلج أغلقت فيه الشوارع، وتم نقل المتوفى -رحمه الله- للصلاة عليه في المسجد بواسطة عربة الدفاع المدني، وتعذر على بعض المحبين له حضور الدفن والصلاة بسبب الطرق المغلقة بالثلج، ولكن تيسر لي اقتحام الثلوج في اليوم التالي والذهاب إلى بيت العزاء، وكالعادة تثار مسائل بيت العزاء وإطعام المعزين من الناحية الشرعية، لاسيما وأن هناك من أهل العلم والصلاح من يقول بأن هذا بدعة في الدين، وفي هذا الموضوع جرى الحوار الآتي بيني وبين الأخ جميل وهو أحد طلابي الذين أكن لهم الاحترام والتقدير:
وليد: ما حكم صنع أهل الميت الطعام للمعزين؟
جميل: حرام، وهو بدعة في دين الله تعالى، والمفروض أن الناس هم الذين يعملون الطعام، لحديث عبد الله بن جعفر – رضي الله عنه – قال: «لمَّا جاء نعيُ جعفر قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم-: اصنعوا لأهل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وليد: نعم الحديث حسن صحيح، ويحتج به شرعا، ولكن ماذا لو أن الناس لم يصعنوا طعاما لعذر الثلج السابق ذِكْره أو لغير عذر، وقد حضر عدد من الناس مقتحمين الثلوج والظروف القاهرة، لإكرام المتوفى بالصلاة عليه ودفنه، ثم عادوا من المقبرة، وقت الظهر وهم في بيتك، وحان وقت الغداء، هل تكرم الذين ضحوا من أجل المشاركة في الجنازة؟
جميل: صنع الطعام مخالف للسنة.
وليد: نتفق جميعا أن السّنة أن يصنع الناس الطعام لأهل الميت، فإن ترك الناس السنة لعذر أو لغير عذر، فهل السنة أن يترك الضيوف بلا طعام وهم عندك في بيتك من الصباح إلى الليل! ونقول هذه هي السنة النبوية!!! وتذكر أن محل البحث هو حيث لم يقم الناس بإعداد طعام لأهل الميت، ولم يعد أهل الميت الطعام للمفاخرة بل لإكرام الضيف، فهل يمكن تقديم الطعام لهم على أنهم ضيوف، بناء على أصل إكرام الضيف شرعا.
جميل: بصراحة حديث جرير رضي الله عنه واضح في أن صنع أهل الميت الطعام من النياحة المحرمة، عن جرير بن عبد الله البَجَلي، قال: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، وهذا نص شرعي، ولا اجتهاد في مورد النص.
وليد: ليس الاجتهاد والحوار في النص، بل في تنزيله على الواقعة التي نبحثها، وسآتي لك بحديث آخر بصيغة قريبة، ونرى كيف ستتعامل معه، وهو حديث في صحيح مسلم، عن عبد الله : قال: «من سرَّه أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن … ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»، وأنت تعلم يا أخ جميل أن المنافق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فكما طبقت حديث جرير في طعام الميت: «كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، طـبّـِق هذا الحديث تماما بالطريقة نفسها، كيف يكون الأمر؟
جميل: يعني ذلك أن كل من يتخلف عن صلاة الجماعة اليوم هو منافق معلوم النفاق، والنفاق في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، هو إبطان الكفر، وهذا لا يمكن أن يكون في حال من يترك الجماعة اليوم، لأنه مسلم باتفاق وقد يكون عاصيا، وقد كان التخلف عن صلاة الجماعة هو نفاق عقيدة في عرف الصحابة رضي الله عنهم.
وليد: لم لا تَعُدّ يا أخ جميل أن صنع الطعام في حديث جرير كان من النياحة في عرف الصحابة رضي الله عنهم كما فعلتَ في عرفهم في النفاق، لاسيما وأن هذا كان يُعمل تقليدا لأعراف الجاهلية القريبة العهد من الصحابة، فأنكروها لهذا السبب، وهي أن العرف يَعُدُّها من النياحة، كما أن عرف الصحابة -رضي الله عنهم- يَعُد التخلف عن الجماعة من النفاق، وكما أنك لم تطبق عرف الصحابة في التخلف عن صلاة الجماعة، فلا تطبِّـقْه أيضا على صُنع الطعام في العزاء!.
جميل: إذن حديث جرير يكون في وصف الطعام للميت على أنه تقليد جاهلي، ومن فعله على أنه كذلك يكون من النياحة من هذا الباب، وليس صنع الطعام مطلقا في العزاء من النياحة، بل بقيد أنه تقليد جاهلي.
وليد: لاحظ أخي جميل أن وصف جرير -رضي الله عنه: «كُـنـّـا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعة الطعام من النياحة»، هل قَـيَّد صَنْعة الطعام من أهل الميت أو غيرهم؟
جميل: لا.
وليد: يعني حتى لو صنعه غيرهم يكون أيضا من الجاهلية بناء على عموم رواية جرير، هذا يعني أنه لم يفصل بين أن يصنعه أهل الميت أو غيرهم، وهذا يؤكد على أن جرير رضي الله عنه يتحدث عن عرف جاهلي في وقتهم، لا ينطبق بحال على واقعنا اليوم، وهو أن يعمل الطعام لمن جاءك من بعيد ليعزيك ويقوم بواجب الشرع، فهل يعقل أن يجلس عندك وقت الغداء ولا تقدم له شيئا بحجة أن إطعام المعزين عرف جاهلي!!! مع أن عُرْفنا اليوم لا علاقة له بالعرف الجاهلي، وما يحدث في الواقع أن أهل الميت يقدمون الطعام بنية إكرام الضيف التي هي من الإيمان، فهل نترك إكرام الضيف وهو أصل شرعي كُلِّفنا به، بحجة تقليدٍ جاهليّ بائد، أليس ترك إطعام الضيف إلغاء لأصل شرعي؟! وأن ضيافته بالطعام هي أصل شرعي وليست بدعة.
جميل: تقييد حديث جرير -رضي الله عنه- بالعرف الجاهلي قويّ، وهذا العرف ليس موجودا الآن، لاسيما أن حديث جرير عام في صنع الطعام، سواء من أهل الميت أم من غيرهم، ويبقى عامًّا في كل ما هو تقليد جاهلي صنَعه أهل الميت أم غيرهم، ويكون الحديث الذي حثّ على صُنع الطعام لآل جعفر -رضي الله عنهم، في غير ما هو تقليد للجاهلية، وبناء عليه يكون صنع أهل الميت الطعام مسكوت عنه في هذه النصوص، ولم يتكلم فيه بخصوصه.
وليد: هذا صحيح والله أعلم، فيبقى على الأصل.
جميل: هل هناك أدلة أخرى يمكن أن تؤيد به أصل الضيافة في الطعام الذي يصنع في العزاء؟
وليد: نعم، يمكن تأكيد ذلك بفعل السلف، في جواز صنع أهل الميت الطعام للحاضرين في العزاء، وأنه باق على أصل سنة الضيافة الشـرعية، وليس كل طعام بدعة، وأن الضيافة لا تتعارض مع حديث جرير رضي الله عنه على فرض ثبوته، وذلك فيما جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرَّقْن إلا أهلُها وخاصتُها، أمرَت بِـبُـرْمة من تَلْبينة فطُبِخت، ثم صُنع ثريد فصبَّت التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْنَ منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التَّلْبينة مَـجَمَّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)، فهذا يقيد حديث جرير الذي يفيد بمنع صنع الطعام مطلقا، وأنه من النياحة، فإذا جاز صنع الطعام من أهل الميت لأقاربهم وخاصتهم، فهل هناك ما يمنع صناعة الطعام للحاضرين من الضيوف إن كانوا من غير الأقارب، يعني أن يأكل الأقارب والأهل، ولا يأكل غيرهم لأنه عندئذ يكون بدعة وضلالة!!! ويلغى أصل إطعام الضيف الذي هو سنة، وبما أن من علامات البدعة أنه تحل محل السنة، يكون منع الضيافة واعتبار ذلك قربة، بدعة مذمومة تخالف النص وفعل السلف ممثلا في فعل عائشة رضي الله عنها، وأن إطلاق البدعة على فعل من أفعال السلف هو تشكيك في مرجعية السلف الصالح لهذه الأمة.
جميل: ولكن يمكن أن نقول أنه يجوز الإطعام للضرورة، في هذه الحالة.
وليد: حيث قلتَ يجوز للضرورة، فهذا يعني أنه حرام أصلا، وجاز للضـرورة لظرف طاريء، فهل إكرام الضيف جائز للضرورة خوفا من هلاكه، أم أن إكرام الضيف باقٍ على أصل شرعي وهو أنه سنة.
جميل: بل هو باق على أصل شرعي، وهو أنه سنة، ولكن لم لا نقول: إن صنع الطعام بدعة، وجاز للضرورة!
وليد: وهل تجوز البدعة للضروة يا أخ جميل؟!، أليست البدعة إدخالاً على الدين ما ليس منه، فهل لدينا نقص في الدين حتى نجيز إكماله للضرورة، والله تعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) سورة المائدة، جزء الآية 3، فمن يضيف بدعة فإنه يتهم الشـريعة بالنقص، ولا تنسَ أن حَدَّ الضرورة له معيار شرعي، وهو خوف تلف النفس أو المال، والضيوف في العزاء لا يهلكون لو منعتهم حقهم الشرعي من الضيافة، بل يخرجون ويأكلون في بيوتهم أو في المطعم، وأين الضرورة في ذلك؟!.
جميل: أظن أن الإشكال هو في عدم توجيه الأدلة إلى محالِّـهـا الصحيحة، فحديث جرير صحيح، وكذلك أحاديث إكرام الضيف، وحديث صنع الطعام لآل جعفر، فربما تحشد أدلة كثيرة ولكن لا يتم تنزيل كل دليل في محله الصحيح شرعا.
وليد: علينا أن نحدد طبيعة المسألة أولا، فالعادات لا تدخلها البِدَع أصلا، لأن أعراف الناس وعاداتهم في صناعتهم وزواجهم، وعزائهم مُـحكَّمة، بشرط أن لا تخالف الشرع، فعلينا أن نبحث في الأصل، فإذا كان الأصل في العادات أنها مقبولة إلا ما حرمه الشرع، فتبقى عادة العزاء وطريقته مشروعة حتى يثبت من الشرع ما يحرم، فهناك الكثير من العادات اليوم في طريقة الزواج والضيافة لم تكن موجودة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهي باقية على أصل الإباحة، وإكرام الضيف في العزاء على أصل سنة الإكرام، وعليه؛ فإن إطعام الضيف في العزاء له شاهدان من الشرع، شاهد من جهة أن إكرام الضيف سُنة، وشاهد من جهة أن الأصل في العادات الإباحة، وحديث جرير لا يصح تطبيقه على إطعام الضيوف في العزاء لأنه عرف جاهلي في زمن مضى، ولا يجوز أن يلغي سنة إكرام الضيف غير المحددة بزمان ومكان، ولا يلغي أصلا من أصول الشريعة، وهو أن الأصل في عادات الناس الإباحة ما لم تخالف الشرع.
جميل: بقي أن يقال شيء وهو أن أهل الميت مشغولون بمصابهم، وليس من الحكمة أن يصنعوا الطعام، وقد يكون صنع الطعام من أموال القاصرين.
وليد: هذا الأمر حق أهل الميت، وكان الأولى أن يقوم به غيرهم بالواجب العرفي وهو صنع الطعام، وعدم صنع الطعام من غير أهل المصاب مكروه شرعا لأنه مخالف للسنة، أما إذا كان من أموال القاصرين، فهو أكل لأموالهم بالباطل، ويغرم الأعمام على فرض أنهم أنفقوا على طعام أخيهم المتوفى من تركة أطفاله، أو كانت عليه ديون، فهو إكرام من جيوب الغير، وليس كرما، ولكنه اعتداء على أموال اليتامى والدائنين، وليس من الحكمة أن يحمِّل أهل الميت أنفسهم ما لا يطيقون من تكاليف العزاء، فالأمر راجع إلى الرشد المالي وحسن التصرف وليس إلى البدعة.
ملاحظة: اقتصرت في هذه المقالة على الحديث عن طعام العزاء من جهة البدعة فقط، أما التبذير أو المفاخرة في طعام العزاء، أو أن يكون من أموال اليتامى، فهذا يكون محرما لسبب خارج عن البدعة، وأوصي أهل العزاء أن لا يتحملوا ما يرهقهم ماليا في نققات ليست لها هذه الأولوية، ولا يكون الطعام الذي يصنعه أهل الميت إلى حياء من الناس، لذلك لا بد من تغيير بعض الأعراف المرهقة لأهل المتوفى، والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق