#معلومات_قليلة_الانتشار_الحلقة_الثانية ((بقلم صهيب بوزيدي)).
عنوان الحلقة: ((خلاف العلماء في الإفطار لأجل المرض الذي لا يشق على الصائم)).
اختلف العلماء في حكم رخصة المرض لمن كان صائما شهر رمضان أيفطر بالمرض الذي يسبب له مشقة ويمنعه عن الصوم أم يفطر لمطلق المرض وإن لم يكن فيه مشقة تمنعه عن الصوم، والذي أقول به هو الإفطار لمطلق المرض وإن لم تكن فيه مشقة للصوم، بل ومن التوافق العجيب أني كنت أضرب مثالا فأول (لو مرض بمرضٍ في إصبعه لجاز له أن يفطر) ووجدت من العلماء القدامى من ضرب نفس المثال فزاد قلبي اطمئنانا إلى ما ذهبتُ إليه، وكنتُ منذ زمن طويل أستنكر فتوى من يقول (الطبيب هو الذي يحدد للصائم أيجوز له الإفطار أم لا) وذلك لأن الطبيب وإن كان عالما بالطب فإنه ليس فقيها ليعرف المقدار المبيح للإفطار وعدمه، خاصة وأن الفقهاء أنفسهم لم يتفقوا على هذا المقدار فمنهم من جعل مطلق المرض مبيحا للإفطار وعندها يكفي أن يصيب الإنسان أي مرض ليفطر، ومنهم من يرى المشقة الخفيفة على الصيام كافية ومنهم من يتشدد في تقدير المشقة المبيحة للإفطار حتى يخاف الإنسان على نفسه الضرر الشديد، فمن أين للطبيب أن يعرف هذه الأقوال ليرجح بينها ونحن نعلم أن في الأطباء الصالح والطالح المسلم والمل.حد، وفي المسلمين الصالحين لن يكون الطبيب متمكنا من الفقه إلا إن درسه واجتهد في تعلمه والتخصص فيه، فكيف يُناط حكم فقهي بالأطباء جميعا دون معرفة مبلغهم من التدين ومعرفة الشريعة ؟ ومن غرائب بعض الأطباء أنهم لا يناقشون مسألة رخصة الإفطار ولعلهم لا يعرفونها أصلا فتجده مباشرة يقول للمرض (في رمضان تناول الدواء عند السحور والفطور) حتى ولو كان المرض يسبب مشقة للمريض، وبعضهم يظن المشقة المبيحة للفطر عند من اشترط المشقة هي خشية هلاكه أو موته، أما ما دون ذلك فلا يرونه كافيا لإباحة الإفطار.
#أقوال_العلماء_المرخصين_للإفطار_بمطلق_المرض "وإن لم يكن له أي أثر على مشقة الصيام".
قال الإمام البخاري "صاحب صحيح البخاري المعروف": ((اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه، فقال لي:أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة)) [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/276].
قلت صهيب: وفي ذلك نفهم أن كلا من الإمامين البخاري وإسحاق بن راهويه ونفرٌ من أصحابه العلماء وإن لم يذكر اسمهم على هذا الرأي، وهو الإفطار لمطلق المرض وإن لم يكن مؤثرا على الصوم، فقال "اعتللت بنيسابور علة خفيفة" فدليل قبول البخاري لهذا الرأي إفطاره ودليل قبول إسحاق بن راهويه له قوله "خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة" فكانوا يرون ردّ الرخصة ضعفا وليس العكس، وذلك لأن المؤمن قوي الإيمان إذا علم أن الله تبارك وتعالى هو الذي فرض عليه الصوم وعلم أن الله نفسه رخص له في الإفطار عند المرض كان من قوة الإيمان التصديق بالرخصة والأخذ بها كما التصديق بالعزيمة والأخذ بها، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه)) [رواه أحمد] وذلك لأن راد الرخص الإلهية كأنما يقول لله من حيث لا يشعر "لا حاجة لي برخصك" رغم أن النية قد تكون للأخذ بالعزيمة ولكن الله يحب من عباده أن يأخذوا بالرخص كما يأخذون بالعزائم.
قال طريف ابن شهاب العطاردي:((دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه)) [المصدر السابق].
قلت صهيب: وقد ضرب ابن سيرين مثالا واقعيا لا يحتاج لكلفة في التأويل لذلك أقر العلماء المخالفون في هذه المسألة أن ابن سيرين ومن ذكرنا سابقا يجعلون رخصة الإفطار في مطلق الصيام، وقد زاد ابن سيرين كلامه وضوحا إذ جعل مجرد الوجع في الإصبع مبيحا للإفطار.
#ثالثا_الظاهرية: يرى علماء المذهب الظاهري أن الإفطار رخصة في مطلق المرض ولا يشترطون في ذلك المشقة.
هم جمهور أهل العلم وغالبيتهم ولكن هذا الجمهور نفسه لم يتفق على حدٍّ واضح لمشقة الموجبة للإفطار ولكن هؤلاء العلماء يقرون بوجود أقوال مخالفة معتبرة لأهل العلم دون أن يشنعوا عليها:
قال في كتابه المغني ((والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه. قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟ وحكي عن بعض السلف: أنه أباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية فيه ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض)) [المغني 3/155]
فنقل ابن قدامة وجود قول علماءٍ صرحوا فيه بإباحة الإفطار لأجل كل مرض حتى وجع الإصبع والضرس، ثم تابع قوله فقال في الصفحة التي تليها ((والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع والدمل والقرحة اليسيرة والجرب وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره)) [المغني 3/156].
والشاهد من نقله قوله (والمرض لا ضابط له)، قلت صهيب: إن قصد أن المرض لا ضابط يفصل بينه وبين الصحة فهذا غير صحيح إذ المرض اعتلال الجسم بأي خلل كان سواء ظهرت علاماته أو أوجاعه، وإن الحُمَّى التي جعلها الإمام أحمد من المرض الشديد الذي يوجب الإفطار يراها الأطباء في عصرنا هذا مجرد أعراضٍ لمرضٍ آخر خلف الحمى، فهي عرضٌ وعلامةٌ للمرض وليست أصلَه وقد تكون مجرد عرضٍ لزكامٍ عابر لو سألت عنه أطباء اليوم لقالوا لك (أفطر) بل بعض الأطباء يلزمون حتى المصابين بالسرطان أو فقر الدم أو القرحة المعدية بالصيام، ولا أعلم متى يجيزون للصائم أن يفطر، لذلك فحتى ولو أخذنا بأقوال العلماء القدامى في اشتراط المرض الشديد فالحمى عندهم من أعلى علامات المرض الشديد وليست حتى أدناها.
#ثانيا_الإمام_الكاساني [وهو إمام في المذهب الحنفي يطلق عليه لقب مدرّس المدارس الحنفية وملك علوم الحديث]
قال الكاساني: ((أما المرض فالمرخص منه هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم وإليه وقعت الإشارة في الجامع الصغير، فإنه قال في رجل خاف إن لم يفطر تزداد عيناه وجعاً أو حُمَّاه شدة أفطر، وذكر الكرخي في مختصره أن المرض الذي يبيح الإفطار هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة كائناً ما كانت العلة. وروري عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعداً فلا بأس بأن يفطر والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وأنه حرام فكان الإفطار مباحاً بل واجباً)) [بدائع الصنائع 2/245].
قلت صهيب: ونلاحظ من قول الإمام الكاساني اختلاف أقوال العلماء الذين قيدوا المرض بالمشقة إذ لم يجمعوا على ضابط واحد مما يجعل القلب يطمئن إلى عدم وجود أي دليل على تقييد المرض بالمشقة.
1 _ قال الله عز وجل ((أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)).
قلت: إن الله ذكر الرخصة في مطلق الصيام دون تقييد فعلى من قيده البينة والدليل وإلا فالأصل فيه الإطلاق كما دل منطوق الآية بوضوح.
2 _ قد يقول المخالف إن الحكم هنا معلل والحكم المعلل يدور مع علته وجودا وعدما وهنا يُقال إن العلة بلا شك غير منقولة لعدم بيانها في النص، فبقي أن يقال إنها علة معقولة، وفي العلة المعقولة خلاف كبير بين أهل العلم (أهي حجة أم لا ؟ أيشترط أن يكون المعقول بديهيا أم دليلا مركبا ؟ أيشترط أن يكون معقولا بالظن أم اليقين ؟) وبعيدا عن كل تلك الخلافات أقول إن العلماء الذين جعلوا الصيام في غير مطلقه لم يتفقوا على علة واحدة فبعضهم جعل العلة (الخوف من الهلاك) وبعضهم (الخوف من زيادة المرض) وبعضهم (لتجنب المشقة) والقول الذي أنتصر له في هذا المقال يفهم من الآية الأخذ بمطلق المرض كما هو الأصل فيها، فيكون الحكم إما تعبديا لعدم وجود الدليل على عليته أو يكون معللا بالمرض نفسه فإنه مشقة وإن لم يكن له علاقة بالجهاز الهضمي أو ما يعيق الصوم، فإن الصائم المريض ليس كالصائم المعافى، وبما إن العلل المعقولة غير متفق عليها فالأصل حمل النص على مطلقه دون تقييده.
3 _ توجد قاعدة فقهية عامة ((الضرورات تبيح المحظورات)) مستمدة من قول الله ((فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه)) وهذه الضرورة يُفهم منها أن خوف المرض أو الهلاك كافٍ لاجتناب الصوم فلماذا أضاف الله هذه الآية ؟ لماذا لم يقتصر على ذكر المشقة أو الاضطرار وجعل العلة في المرض والسفر ؟ مع أن المسافر قد لا يجد أي مشقة في سفره والله يعلم الغيب فيعلم بوجود عصر يسافر فيه الناس في الطائرات والسيارات والبواخر الفاخرة ومع ذلك جعل السفر نفسه رخصة للإفطار وقِصر وجمع الصلاة، فكذلك المرض مثل السفر جعله رخصة للإفطار، وقد تكون علة كل ذلك إرادة التيسير العامة، وإذ أراد الله التيسير لعباده بالترخيص لهم في المرض والسفر دون ذكر أي قيد لهذا الإطلاق قد يكون من المنطقي ألا يجوز لأحد من البشر إضافة أي قيود من عنده بدعوى أنها علل في الرخصة، مادامت هذه العلل ليست قطعية ولا حتى مفيدة لغلبة الظن، فهي محض احتمالات تتساوى معها احتمالات كثيرة لا تجعل أيا منها يرتقي لدرجة العلة، وأقصى ما يقال (لعلها من حكمة الله، لكننا لا نجزم معرفتها) والأصل أن يكون النص تعبديا أو معللا بالتيسير ورفع الحرج على المريض.
كتبه #صهيب_بوزيدي
وكذلك بعض الأطباء تجدهم عند إعطاء الدواء يقولون للمريض (هذه بعد الفطور وهذه بعد السحور) ليفهم المريض مباشرة منهم عدم الترخيص في الصيام.
بل ونجد بعض الأطباء يتساهلون في إعطاء إجازات مرضية لأتفه الأسباب في الوقت الذي لا يرخصون للمريض بالصوم حتى ولو كان الصوم يشق عليه أو يتعبه، المهم عندهم ألا يموت.
كيف لمريض بفقر الدم ألا يرخص له الطبيب في الصيام ؟ وكيف لمريض بالسرطان الخبيث ألا يرخص له الطبيب في الصيام ؟ كيف لمريض بنقص الفيتامينات ألا يرخص له الطبيب ؟ هناك من لا يمر به رمضان إلا ويكاد يقضي عليه ومع ذلك يقد يطلب منه الأطباء عدم إجهاد نفسه بالحركة ولكنهم لا يحيلون إلى الإفطار.
أما السفر عندنا فكأنه ليس رخصة من الأساس، لو سافر 1000 كيلومتر بالسيارة فإن ذلك لا يكفي ليفطر عند أكثر الناس، بل قد يسافر من قارة إلى قارة عبر الطائرة ويزداد بسبب فارق الوقت نهار صومه بثلاثة ساعات ومع ذلك يجد في نفسه حرجا فلا يفطر.
كل ذلك يدل على أن الناس صاروا يحكمون عادات المجتمع في العبادات أكثر من الدراسات الفقهية نفسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق