السياسة السلفية: السلفيون “السياسيون” و”الهادئون” في صراع الدولة الليبيبة
السياسة السلفية: السلفيون “السياسيون” و”الهادئون” في صراع الدولة الليبيبة
Salafi politics: ‘Political’ and ‘Quietist’ Salafis in the Struggle for the Libyan State
المؤلف: فرجينيا كولومبير
ترجمة: كرم الحفيان
باحث في الحركات الإسلامية
تميل الأدبيات الأكاديمية إلى تقسيم السلفية إلى ثلاث فئات (جهادية، سياسية، هادئة) متمايزة باختلافاتٍ أيديولوجية ومنهجية، لاسيما فيما يتعلق بعلاقاتها المتفاوتة مع الدولة والسلطة السياسية واستخدام العنف. ماذا يحدث إذن، عندما تنهار مؤسسات الدولة، عندما لا تكون هناك سلطة للدولة، أو عندما يكون هناك نزاع شديد على سلطة الدولة بين مجموعات مختلفة دون أن تستطيع مجموعة أن تفرض نفسها على الآخرين؟ في سياق الاضطرابات السياسية والصراع المسلح، كيف يرتبط السلفيون بالدولة وب”السياسة”؟
قدمت التطورات في ليبيا بين عامي 2011 و2019 فرصة مثالية للنظر في هذه الأسئلة. وأدت الجهات الفاعلة التي تنتمي للسلفية أدواراً مهمة في مراحل الصراع المختلفة والتحول السياسي في ليبيا منذ عام 2011. ومع ذلك، فقد تفاعلوا مع هذه التحولات بطريقة تطمس إلى حد ما الخطوط المرسومة تقليدياً بين التيارات السلفية. تركز هذه الورقة على تيارين، السلفية “السياسية” ممثلة بشخصيات قيادية بالجماعة الليبية المقاتلة سابقاً، والسلفية “الهادئة” ممثلة بما يسمى بالسلفيين “المداخلة”، وتحلل هذه الورقة علاقة التيارين ب”السياسة” ومؤسسات الدولة في أوقات الاضطرابات. تعارض الورقة فكرة الخط الفاصل بين من يُسمون بالسلفيين “السياسيين” و”غير السياسيين”، وتفكك الاستراتيجيات المختلفة التي استخدمتها الفئتان في التعامل مع مؤسسات الدولة، والطبيعة السياسية المختلفة للأهداف التي سعتا إليها.
مقدمة
السلفية بمفهومها الواسع هي تفسير خاص للإسلام يسعي لاستعادة الدين على وفق الأجيال المسلمة الأولى: السلف الصالح، مع نظرة لإعادة بناء المجتمع المتوافق مع الشريعة: الأمة. يتصور أعضاء التيار السلفي هذا الأمر على أنه “مهمة” يجب تحقيقها من خلال الإيمان والسلوك اليومي؛ “مشروع أخلاقي” يقوم على تطبيق مجموعة أساسية من المعتقدات والممارسات و”تجاوز السياسات الدنيوية”. في واقع الأمر، كما يشير wagemakers فإن غالبية السلفيين لا ينخرطون في السياسة ولا في العنف.
ولكن، ثبت أن علاقة السلفيين بالسياسة أكثر غموضاً، وقد سُلِّط الضوء على التحدي المتمثل في “التصرف بشكل غير سياسي” في “عالم سياسي” في حالاتٍ عديدة. لذلك تميل الأدبيات الأكاديمية بعد Wiktorowicz إلى تقسيم السلفية إلى ثلاث فئات متمايزة أيديولوجياً ومنهجياً: السلفية الجهادية- السلفية السياسية- السلفية الهادئة. من المفترض عموماً، أنه من أجل تغيير النظام السياسي، الجهاديون مستعدون لممارسة العنف ضد الحكام غير الشرعيين، بينما يرحب السلفيون السياسيون بالمشاركة بالعملية والمؤسسات السياسية الرسمية، أما بالنسبة للسلفيين الهادئين، فإنهم يركزون جوهرياً على الدعوة، وطاعة الحاكم، ولا يمارسون العنف ضد الحكام ولا يشاركون في السياسة المؤسسية.
وبالتالي، فمن الواضح، تموضع “الدولة” في الانقسامات التي تبلورت داخل المجال السلفي في العقود السابقة. ماذا يحدث إذن عندما تنهار مؤسسات الدولة، عندما تغيب سلطة الدولة، أو يتنازعها مجموعات متعددة دون أن تفرض مجموعة نفسها على الآخرين؟ في سياق الاضطرابات السياسية والصراع المسلح، كيف يرتبط السلفيون بالدولة و”السياسة”.
أتاحت التطورات في ليبيا بين عامي 2011 و2019م، والدور الهام الذي قامت به الجهات المنتمية للتيار السلفي في مختلف مراحل الصراع والتحول السياسي فرصة ًكبيرةً لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة. وعلى الرغم من أنهم يقتبسون من مصفوفة أيديولوجية مشتركة، فقد تفاعلت التيارات السلفية الليبية مع التحولات السياسية بطريقة بدت غالباً أنها تطمس الخطوط المرسومة تقليدياً فيما بينها على أساس علاقتها بالسياسة، والدولة والسلطة السياسية، واستخدامها للعنف.
بالتركيز على تيارين، السلفية “السياسية”، ممثلة بشخصيات بارزة في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة سابقاً (LIFG)، وهي تنظيم سلفي جهادي نشط في ليبيا في التسعينيات ونبذ استخدام العنف كوسيلة لتحقيق تغيير سياسي في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والسلفية “الهادئة”، ممثلة بما يسمى بالسلفيين “المداخلة”، الذين برزوا مؤخرًا في المجالات الدينية والأمنية في ليبيا. تحاول هذه الورقة فهم علاقة التيارين مع “السياسة” ومؤسسات الدولة في أوقات الاضطرابات، وتحلل الإستراتيجيات التي اتبعوها منذ عام 2011 وخلال مراحل الصراع المختلفة -التي تميزت بانهيار النظام والدولة (2011)، والتنافس على إعادة بناء السلطة السياسية (2011-2014)، والانقسام بين مؤسسات الدولة والسلطة السياسية (2014-2019)- بهدف فهم علاقة التيارين بالسلطة السياسية بشكل أفضل.
أدت بداية ثورة 2011 إلى تغيير جذري في السياق الذي تطور فيه التياران في ظل نظام القذافي. في فبراير 2011، كان عليهم أولاً اتخاذ قرارات بشأن موقفهم وسلوكهم أثناء الثورة. بعد انهيار النظام في تشرين الأول (أكتوبر)، تطلب الانتقال السياسي والصراع المتصاعد حول بناء مؤسسات الدولة الجديدة والسيطرة عليها توضيح مواقفهم تجاه السياسة والعمل السياسي – بمعنى السياسة المؤسساتية وعلاقتها بمؤسسات الدولة الناشئة وكذلك تجاه استخدام العنف. كان هذا في بعض النواحي قراراً أيديولوجياً. ومع ذلك، أظهرت التطورات بين عامي 2011 و2019 أيضًا أن الطريقة التي فسر بها السلفيون “السياسيون” و”المداخلة” السياق بتطوراته، والموارد المتاحة لهم لعبت دورًا رئيساً في تشكيل إستراتيجياتهم. في مواجهة فكرة الخط الفاصل بين ما يسمى بالسلفيين “السياسيين” و”غير السياسيين”، إن تحليل الطريقة التي ارتبط بها التياران بالسلطة السياسية يسلط الضوء على الطبيعة السياسية للإستراتيجيات التي تنفذها المجموعتان، وعلى الاختلافات العميقة بينهم.
التيارات السلفية “السياسية” و”الهادئة” المدروسة هنا لا تتطابق مع التجمعات المؤسسية الواضحة وهي إلى حدٍ ما غير محددة بشكل جيد. ولا يُعرّف “أعضاؤهم” بالضرورة بأنهم “سلفيون سياسيون” أو “سلفيون مداخلة”، ناهيك عن استخدام مصطلح “سلفي” للإشارة إلى أنفسهم. ومع ذلك ، فإن وجود هذين التيارين واضح في مسارات الأعضاء المشتركة والمراجع المشتركة وسلوك المجموعة المشترك. يتضمن كل من التيارين أيضاً شخصيات رئيسة تمثلهم داخلياً وخارجيًا وتمارس تأثيرًا على المتابعين والمتعاطفين. في هذه الورقة، يتم إيلاء اهتمام خاص لعدد صغير من الشخصيات الرئيسة من التيارين الذين يبدو أنهم ساهموا بشكل كبير في تشكيل الأفكار والسلوكيات.
أُجري البحث لهذه الورقة بشكل أساسي بين عامي 2018 و 2020. وقد استند إلى دراسة مكتبية للأدبيات الموجودة حول السلفية في ليبيا وخارجها جنبًا إلى جنب مع المراقبة والتحليل المستمر للتطورات السياسية والاجتماعية والأمنية في ليبيا منذ عام 2011، بما في ذلك الرحلات المنتظمة إلى الجزء الغربي من البلاد بين عامي 2012 و2018. وبسبب الصراع المتجدد والمكثف منذ نهاية 2018 وأزمة Covid-19 في 2020، لم تتمكن المؤلفة من القيام إلا برحلة ميدانية واحدة إلى طرابلس خلال فترة المشروع في ربيع 2018. بالإضافة إلى ذلك، تضمن البحث الخاص بهذه الورقة العديد من المقابلات الكتابية والشفوية التي أجريت عن بُعد عبر الهاتف ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي مع نشطاء المجتمع المدني الليبي وعلماء الدين والمسؤولين الحكوميين السابقين والأكاديميين من مختلف أنحاء البلاد وخارجها.
وحين لم تتيسر مقابلة أتباع وقادة التيارين السلفيين عن بعد، فإن التحليل هنا نبع من المراقبة المنتظمة لمجموعة متنوعة من منصات التواصل الاجتماعي المرتبطة بمختلف الجماعات السلفية الليبية. هذه المنصات تشكل مصدراً هاماً للمعلومات، وذلك لأن العديد من الجماعات تفضل هذه الوسيلة في التعامل مع أتباعها.
السلفيون الليبيون على مفترق طرق (2011)، المقاومة والولاء في زمن انهيار الدولة
المسارات السلفية في عهد القذافي
تورخ الشهادات الليبية العديدة لظهور ظاهرة سلفية في ليبيا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، مما يسلط الضوء على الدور الذي أدته آنذاك الرعاية السعودية والصراع على النفوذ الإقليمي بين ليبيا والمملكة العربية السعودية. بدأت السلفية المتأثرة بالوهابية بالانتشار في ليبيا بمواد مكتوبة ومسموعة تدخل البلاد وبسفر الشباب الليبي إلى المملكة العربية السعودية لأداء مناسك الحج والعمرة، ثم بقاء الكثير منهم هناك والتحاقهم بالمؤسسات الدينية لبضعة أشهر قبل العودة إلى ديارهم .وعند عودتهم، ستكون السلطات الليبية حذرة من التهديد الأمني الذي قد يشكلونه وستستخدم القمع لاحتواء انتشار الأفكار التي تعتبر متطرفة. ستشكل الأيديولوجية السلفية التي انتشرت خلال تلك الفترة المصفوفة المشتركة التي ستنمو منها التيارات السلفية الرئيسة في ليبيا في العقود التالية، على الرغم من اتخاذها اتجاهات مختلفة، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع السلطة السياسية والسياسة بشكل عام.
على عكس الافتراضات المتعلقة بالطبيعة “السياسية” وإن كانت عنيفة لبعض التيارات السلفية والطبيعة “غير السياسية” المزعومة للآخرين، كان المجال السلفي الليبي قبل عام 2011 يميل إلى التناقض مع حقيقة هذا الانقسام. تطورت السلفية في ليبيا قبل عام 2011 بشكل أساسي حول الاتجاهات الجهادية والهادئة. لم يكن هناك مجال للسلفية السياسية للتطور نتيجة لسياسات القذافي في تقييد المشاركة السياسية ولتعزيز تفسيره الخاص للإسلام. ومع ذلك، حتى الجماعات التي كانت راضية باقتصار أنشطتها على المجال الديني كانت (من خلال القيام بذلك) على الأقل معترفة ضمنياً بشرعية السلطة السياسية التي تسمح لها بالقيام بذلك، وهو ما يمكن اعتباره موقفًا سياسياً. وبالتالي، فإن الانقسام في المجال السلفي في ليبيا لم يكن بين الجماعات السياسية وغير السياسية بقدر ما كان بين الجماعات التي أبدت مقاومة أو ولاءً للنظام، وما ترتب على ذلك من علاقة بين التوجهين نتيجة موقفهما من الدولة في عهد القذافي.
مثل العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كان لليبيا تاريخٌ حافلٌ من الجماعات التي تحشد المبادئ الدينية للتنافس على السلطات السياسية، أحيانًا بعنف. في ليبيا، كانت المقاومة الإسلامية لنظام القذافي بقيادة الفرع الليبي للإخوان المسلمين والجماعة الأكثر تشدداً الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وهي جماعة تشكلت أساساً من الليبيين الذين قاتلوا في أفغانستان والذين شاركوا في أعمال عنف ضد نظام القذافي في التسعينيات. وقد كانت الجماعة في الوقت نفسه أحد مكونات المجال الجهادي العالمي، وجزءًا من معارضة النظام. وخلال التسعينيات، حاولت استخدام العنف لتحفيز تغيير النظام في ليبيا، وحاولت عدة مرات اغتيال القذافي. وكان رد فعل النظام قمعًا شديدًا أدى إلى خسائر كبيرة للتنظيم وسجنٍ للمئات.
ومع ذلك، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أن القذافي ينظر إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر والتركيز الغربي المتزايد على مكافحة الإرهاب كفرصة للتقارب. أصبحت أنشطة الأعضاء السابقين في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة في الغرب أكثر صعوبة. وفي موازاة ذلك، ترافق ظهور نجل القذافي الأصغر سيف الإسلام باعتباره الوريث المحتمل لوالده مع إدخال سلسلة من الإصلاحات التي ركزت على الاقتصاد ولكنها تضمنت أيضاً محاولةً لاستيعاب جزء من المجال الإسلامي كوسيلة للتحضير لحكم سيف. وفي منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان لعملية الإصلاح هذه تأثير مباشر على التيارين السلفيين الرئيسيين في ليبيا.
ويبدو أن القذافي أدرك الفوائد التي يمكن أن يجنيها من الترويج للتيار السلفي الهادئ: من خلال مكافأة ولائهم، يمكنه استخدامهم لمواجهة خصومه الإسلاميين. وبدأ يظهر عدد من الدعاة الذين تدربوا مع علماء محليين في المملكة العربية السعودية واليمن ثم تم تمكينهم من قبل النظام على الرغم من بعض التردد من جانب عامة الناس. وبدأت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، المسؤولة عن تنظيم المساجد والزوايا والمدارس القرآنية والحج، في تعيين عدد قليل من الأئمة السلفيين في 2007-2008 وسُلمت بعض المساجد لهم. ونتيجة لاعتمادها المستمر على السلطات الدينية السعودية وغياب المؤسسات الدينية الوطنية القوية في ليبيا، ظلت الحركة السلفية الهادئة قبل عام 2011 غير مؤسسية إلى حد كبير، وأي اتجاهات إيديولوجية مختلفة داخلها بقيت غير محددة بشكل جيد.
على الطرف الآخر من الطيف السلفي، في عام 2005، بدأ حوار بين سيف الإسلام القذافي وقيادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة المسجونين، من خلال وساطة العالم الإسلامي المقيم في قطر علي الصلابي، هو نفسه كان سجيناً سابقاً في ليبيا. ومع أن بعض قادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة قد بدأوا بالفعل في إعادة التفكير في استراتيجية الجماعة ، فإن عملية “المصالحة” هذه بالنسبة للنظام ولسيف الإسلام على وجه الخصوص قد تساعد في تحويل “الإسلاميين المعفو عنهم” إلى حلفاء إستراتيجيين. وقد أظهر بعض قادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة المسجونين مستوى من المرونة الأيديولوجية، وركزت تأملاتهم على إثبات أن الجهاد العنيف يتناقض مع العقيدة الإسلامية التقليدية. وفي وثيقة التراجع التي أعدها ستة أعضاء في مجلس شورى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، ونشرت تحت اسم دراسات تصحيحية في فهم الجهاد والمساءلة وحكم الناس في عام 2009، نبذ المؤلفون علناً استخدام العنف لدفع التغيير السياسي دون النهي عن السياسة أو الإصرار على طاعة الحاكم في كل شيء. هذا التراجع أدى لاطلاق سراح العديد من الشخصيات البارزة في الحركة، وكثير منهم سافر إلى الخارج. ومع ذلك ، عارض آخرون في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة والشبكات الجهادية الأوسع (معظمهم من جيل الشباب) هذا التراجع واستمروا في الترويج للعمل المسلح، وإن كان بشكل عام خارج ليبيا.
في بداية عام 2011، بدأ المجال السلفي الليبي في التحول والتنوع، جزئياً نتيجةً للتغييرات السياسية التي نفذها النظام في السنوات السابقة. التيار الهادئ أكد ولاءه للنظام، وقد كوفئ لهذا إلى حدٍ ما بمناصب في مؤسسات الدولة الدينية. وبالتوازي مع ذلك، تقلصت إمكانيات المقاومة لدى التيار الجهادي نتيجة تخلي جزء من الحركة عن استخدام العنف السياسي. ورغم ذلك، فإن هذا التحول الأيديولوجي والمنهجي لم يُترجم إلى استراتيجية جديدة للجهاديين “المعفو عنهم” إذ ظلت اللعبة السياسية تحت سيطرة النظام بالكامل، ومن ثمّ لم تُوفر فرصاً للمشاركة. كانت هذه إحدى مفارقات التراجع: فالعنف لم يعد خياراً ضد النظام، وكذلك السياسة المؤسسية لم تصبح خياراً كذلك.
نقطة التحول
غيّرت الثورة التي اندلعت في شباط / فبراير 2011 السياق السياسي في ليبيا بشكلٍ جذري، وأجبرت الجهاديين السابقين الذين تصالحوا مع النظام والسلفيين الموالين له على إعادة النظر في علاقاتهم مع السلطات السياسية القائمة. الآن أصبح لدى الجهاديين السابقين فرصة للعمل من أجل التغيير السياسي. وتعرض السلفيون الموالون للتحدي حول التمسك بموقفهم الداعم أو توقع التغيير السياسي وتبديل الولاء.
على الرغم من تخليهم عن استخدام العنف من أجل التغيير السياسي، فإنه مع بدء ثورة 2011 كان على أعضاء الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابقين سواءً من كان مسجوناً أو من كان تحت المراقبة أو في الخارج، كان عليهم اتخاذ قرار بخصوص المشاركة. في وقت مبكر، استدعى النظام العديد من أعضاء مجلس شورى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابق خوفًا من إمكانية دعمهم للمتظاهرين. واحتُجز بعضهم وقائياً في سجن أبو سليم سيئ السمعة، مثل سامي الساعدي وخالد الشريف. وتمكن آخرون، مثل عبد الحكيم بلحاج، من الفرار والانضمام إلى أعضاء آخرين بالجماعة الليبية المقاتلة يقاتلون مع الثوار.
عاد قادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابقون الذين اختاروا المشاركة في الثورة إلى المعارضة العنيفة المباشرة للنظام، وسرعان ما تعسكرت حركة الاحتجاج ووفرت فرصة للتغيير السياسي. وأسسوا تدريجياً هيكلهم الخاص للقيادة والتوجيه، وأقاموا قاعدة عسكرية في جبال نفوسة الغربية واستخدموا صلاتهم الدولية، لا سيما مع قطر، للحصول على الأموال والأسلحة وتسهيل قدوم المقاتلين من الخارج.
وبينما لعبت خبرتهم العسكرية دوراً في رفع مكانتهم وتأثيرهم على الأرض فقد استفادوا من التغطية الإعلامية المكثفة. فعلى سبيل المثال، تم تقديم دورهم باعتباره محورياً في سقوط طرابلس في أغسطس 2011، مما ساهم في كسبهم نفوذاً على الهياكل الجديدة التي أنشئت لإدارة المدينة المحررة ولاحقاً البلاد.
ومن خلال انضمامهم إلى الانتفاضة العسكرية عَدَلَ القادة السابقون في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة عن قرارهم السابق بالتخلي عن استخدام العنف لتحقيق التغيير السياسي. وبذلك، أشاروا إلى أن تغيير النظام السياسي يظل هدفهم الرئيس، وأنهم يرون أنه لا يمكن تحقيق ذلك بدون عنف. كما أن النجاح يعتمد بشكل أساسي على توفر السياق والموارد المناسبة، وهو ما توفر في 2011/2012 على ما يبدو. وفي نهاية الحرب، حاول قادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابقون السيطرة على المؤسسات الليبية الجديدة من الأعلى بهدف تشكيل الدولة الجديدة والتأثير عليها من الداخل.
وفي المقابل، وقف قسم من السلفية الهادئة ضد احتجاجات 2011 في البداية، واكتسب لنفسه لقب حركة “البقاء في المنزل”. وبذلك، حقق إلى حدٍ كبير حسابات النظام عندما دعم ظهور الحركة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ومن المملكة العربية السعودية، أصدر ربيع المدخلي -أستاذ الحديث في الجامعة الإسلامية في المدينة والشخصية الرئيسة في الحركة التي تدعو إلى السلفية “غير السياسية” والولاء غير المشروط للعائلة المالكة- فتوى بإدانة الثورة والانقسامات (الفتن) التي أحدثتها داخل المجتمع المؤمن. وقد تبعه شخصيات سلفية ليبية- بعضهم أصبح الآن جزءاً من المؤسسة الدينية الرسمية- ظهرت علناً في المساجد والتلفاز للتنديد بالخطر الذي يشكله المتظاهرون على الوحدة الوطنية والأمن، وللمطالبة بتجريم هذا السلوك. أحدهم شيخ شاب من مدينة يفرن بجبال نفوسة يدعى مجدي حفّالة، الذي سينتهي به الأمر لأداء دور مفتاحي في نمو نفوذ الحركة في غرب ليبيا بعد 2011.
ولكِّن موقف من يسمون بالسلفيين المداخلة ظل غامضاً، خاصةً مع تكشف الأحداث على الأرض وتطور الحالة باتجاه المعسكر المناهض للقذافي. وقد أصدر شيوخ سعوديون فتاوى متضاربة أدت لمشاركة البعض في الثورة وإن كان في مرحلة متأخرة أو في أدوار ثانوية، كما استفادوا بسرعة من انهيار سلطة النظام للانخراط في الدعوة وفرض النظام الأخلاقي على مستوى الحي. في هذا الصدد، كان اختيارهم التركيز على المجتمع وعلى المستوى الشعبي وفقًا للأيديولوجيا التي أعلنوا عنها (كونها “غير سياسية” وتعطي الأولوية للدعوة). ومع ذلك ، فقد كان أيضًا نتيجة مباشرة لنقص الفرص والموارد المتاحة لهم في سياق تهيمن عليه السردية “الثورية”.
فشل في بناء المؤسسات (2012-2014)، سلفيو-ليبيا يتسابقون لإعادة بناء السلطة
وقد اتسمت الفترة الانتقالية في ليبيا بعد 2011 بمراحل مختلفة. بدأت المرحلة الأولى في أغسطس 2011 بنشر إعلان دستوري من قبل المجلس الوطني الانتقالي المؤقت (NTC) واضعاً المسار الصحيح للعملية السياسية القائمة على الانتخابات وبناء المؤسسات، والتي سرعان ما توقفت نتيجة عدم قدرة الفصائل السياسية المختلفة على المناقشة والاتفاق على أي قضية رئيسة في المرحلة الانتقالية.
وقد عالج قادة الجماعة المقاتلة السابقون في ليبيا والتيار السلفي الهادئ هذه المرحلة بطرق مختلفة للغاية. فالعديد من شخصيات الطرف الأول أكدوا على التحول الأيديولوجي الذي بدأ في 2009، معربين عن دعمهم للديمقراطية وقرروا المشاركة المباشرة في الانتخابات وفي بناء المؤسسات. في المقابل، ظل التيار الهادئ معارضاً بشدة للمشاركة السياسية واستمر في التركيز على نشر العقيدة (وضمان احترام العقيدة) على مستوى القاعدة الشعبية.
ومع ذلك، ورغم رفضهم الانخراط في اللعبة السياسية، وإعطائهم الأولوية لفرض النظام الأخلاقي، لا يبدو أن السلفيين الهادئين هدفوا إلى الحفاظ على استقلاليتهم في مقابل الدولة. بالعكس، فقد بدأوا الانخراط مباشرة في مؤسسات الدولة الناشئة على المستوى المحلي، ليس فقط في المجال الديني، إنما في المجال الأمني أيضاً.
السلفيون “السياسيون”: السيطرة على المؤسسات (الناشئة) من أعلى لتشكيل الدولة
شهدت المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية ظهوراً سريعاً لنوع سياسي جديد من السلفية جسده بعض القادة السابقين في الجماعة المقاتلة. فقد وفرت الفرص الجديدة التي أتاحها الانتقال السياسي لهم المساحة التي احتاجوها للابتعاد عن الجهاد ضد النظام والانخراط في السياسة المؤسسية كوسيلة لتحقيق التغيير السياسي.
في عام 2011، كان لدى السلفيين السياسيين الجدد أوراق اعتماد لطرحها، وهي التي شكلت موارد هامة لهم في المرحلة الانتقالية، كالدور الرئيسي الذي قامت به شخصيات مثل عبد الحكيم بلحاج في الانتفاضة المسلحة، إلى جانب ماضيهم الطويل كمعارضين للقذافي وتجربتهم العسكرية في الخارج، ما سبق، زودهم بشرعية ثورية وعسكرية كبيرة. ومع ذلك ، فإن أوراق اعتمادهم تتعلق بتجاربهم الشخصية وسمعتهم وعلاقاتهم الاجتماعية كأفراد أكثر من بانتمائهم السابق إلى الجماعة الليبية المقاتلة.
على سبيل المثال، يمكن لسامي الساعدي، المعروف أيضًا باسم أبو منذر الساعدي، حشد ماضيه كمقاتل أجنبي في أفغانستان وخصم طويل الأمد للقذافي. وبخلاف بلحاج، فقد تمتع الساعدي برصيد آخر هام في ليبيا سببه مؤهلاته الدينية ودوره كمنظّر رئيسي للجماعة الليبية المقاتلة.
توضح المعلومات التي تم مشاركتها على الموقع الالكتروني الشخصي للساعدي المصادر الثلاثة الرئيسة التي يستمد منها سلطته: المؤهلات المعترف بها في العلوم الإسلامية واللغة العربية من مؤسسات التعليم العالي في ليبيا وباكستان، والخبرة في المناصب الدينية والسياسية، والتزكيات من العلماء الذين درس عليهم في داخل ليبيا وخارجها.نتيجة لذلك، استفاد الساعدي من سمعة ومصداقية راسخة له، ليس فقط كمقاتل، ولكن أيضًا كعالم شريعة (سلطة دينية) ومنظّر (مفكر سياسي سلفي).
وفوراً بعد اكتسابهم للسلطة والشرعية في2011، حاول القادة السابقون للجماعة المقاتلة ترجمة ما سبق إلى نفوذ في مؤسسات الدولة الجديدة، كمثال لشكل من أشكال السلفية السياسية التي سعت إلى تشكيل الدولة من الداخل. كان هذا أيضًا نهجًا للتغيير من أعلى إلى أسفل بالاعتماد على المشاركة السياسية على المستوى الوطني. ومع تحديد موعد الانتخابات في يونيو 2012، كان على الأعضاء البارزين السابقين في الجماعة المقاتلة اتخاذ قرار بشأن رغبتهم في الانخراط في السياسة الحزبية. وتم تنظيم مؤتمر كبير للتنظيم السابق (الجماعة المقاتلة) في طرابلس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 بهدف معالجة مسألة المشاركة السياسية، سواءً فيما يخص تولي مناصب في المؤسسات الناشئة، إضافةً إلى التنافس في الانتخابات. لم يصدر عن الاجتماع استراتيجية واضحة، ولكن كان هناك تحول لصالح العملية الديمقراطية.
بشكل فردي، اتخذ كل من بلحاج والساعدي قراراً لصالح المشاركة السياسية، وشكلوا أحزابهم السياسية الخاصة. وقد أظهرت منصات وعضوية الحزبين اختلاف وجهات النظر السياسية وأولويات قادتهما.
فحزب “الوطن” بزعامة بلحاج عرّف نفسه بأنه “حزب سياسي قائم على مرجعيات إسلامية”، وفضّل إتباع مقاربة شاملة فاتحاً صفوفه أمام الشخصيات غير الإسلامية، وطرح أجندة وطنية تركز على التنمية والعدالة والتعاون. في المقابل، فإن حزب (الأمة الوسط) بقيادة الساعدي وصف نفسه بأنه من دعاة الإسلام المعتدل (الوسطي)، وكانت إسلاميته أكثر صراحة، واضعاً تطبيق الشريعة على رأس أولوياته الوطنية.
في يوليو 2012، ترشح كل من بلحاج والساعدي في انتخابات أول هيئة تشريعية انتقالية، المؤتمر الوطني العام. وعلى الرغم من أن نتائج هذه الأحزاب في الانتخابات كان سيئة للغاية، فقد انتخبت شخصيات عديدة من السلفية السياسية كمرشحين مستقلين في عام 2012.
ومن ثمّ، من خلال إقامة التحالفات مع برلمانيين في المؤتمر الوطني العام من خلفيات إسلامية ومن معاقل ثورية، تمكن قادة الجماعة المقاتلة السابقون من كسب التأثير على البرلمان الجديد وعلى الحكومات الانتقالية الأولى. وتقلد بعضهم مناصب وزارية أمنية رئيسة. كما بدأوا بالضغط على المجلس لاعتماد قوانين تناسب أجنداتهم السياسية، مثل قانون العزل السياسي لاستبعاد الشخصيات السياسية التي كانت تشغل مناصب في عهد القذافي. وقد حظيت كتلة الشهداء (كتلة الوفاء لدماء الشهداء) التي تشكلت لتعزيز القانون، بدعم مفتي ليبيا الذي دعا إلى التظاهر، وضغطت جماعات مسلحة تستخدم العنف من أجل اعتماد القانون. وأدى الساعدي نفسه دوراً رئيساً في الحملة بصفته رئيساً للتنسيق من أجل العزلة السياسية.
إذن، فالسلطة الدينية التي تمتع بها العديد من شخصيات الحركة السلفية السياسية، مع شرعيتهم المكتسبة من قتال وهزيمة القذافي عسكرياً، كان لهما دور فعال أيضاً في مساعدة السلفيين السياسيين على اكتساب نفوذ في المؤسسات الدينية الجديدة للدولة. وقد تم هذا الأمر عبر تحالف مع المجال الأوسع لمؤيدي الإسلام السياسي.
وعندما أعاد المجلس الوطني الانتقالي تأسيس دار الإفتاء، المؤسسة المسؤولة عن تفسير الشريعة الإسلامية في عام 2012، تم تعيين الشيخ صادق الغرياني رئيساً لها. والشيخ الغرياني هو أستاذ جامعي وشخصية دينية مؤثرة معروفة للجمهور الليبي قبل عام 2011. الغرياني كان مقربًا من سيف الإسلام القذافي، وقد أدى دوراً مهماً في المفاوضات بين النظام وقيادة الجماعة المقاتلة، ما أدى إلى تراجع الحركة، لكنه أيضًا عارض النظام في بعض المناسبات.
في فبراير 2011، دعا الشيخ الغرياني إلى انتفاضة في تاجوراء، حي طرابلس الشرقي حيث جذوره، وقدم مبررات دينية لمعارضة القذافي ونظامه. وبدا تعيين الغرياني مفتيًا لليبيا في عام 2012 نتيجة طبيعية لمؤهلاته الدينية والاحترام الذي حازه ضمن القوى الثورية وتيار الإسلام السياسي. في المقابل، منحه المنصب سلطة اتخاذ القرار في جميع القضايا الرئيسة للعقيدة الدينية والوصول إلى الموارد، لا سيما من خلال صندوق الزكاة.
استغل السلفيون السياسيون وحلفاؤهم في مجال الإسلام السياسي السيطرة على المؤسسات الدينية للدولة للتأثير على السياسة. قبل الانتخابات البرلمانية الأولى في يوليو 2012، أعلن الشيخ الغرياني علناً أن التصويت للأحزاب المؤيدة للحد من الشريعة “سيكون غير إسلامي”.
وبعد تعيين أول حكومة انتقالية في أواخر عام 2012، تصاعدت التوترات بسرعة، حيث بدأ الشيخ الغرياني العمل كوسيط بين المسؤولين الحكوميين وبعض الجماعات المسلحة بهدف تسهيل وصولهم إلى التمويل الحكومي. وفي ربيع 2013، ألقى الغرياني أيضاً خطابات عامة لصالح قانون العزل السياسي، واتخذ موقفاً قوياً مع كتلة الشهداء في المؤتمر الوطني العام، وبالتالي ساهم في تعميق الاستقطاب في المجال السياسي.
السلفيون “المداخلة”: بناء النفوذ والدعم على مستوى القاعدة الشعبية
وبخلاف السلفيين السياسيين، افتقر السلفيون الليبيون الهادئون إلى الشخصيات الدينية ذات المؤهلات المناسبة، وبالتالي لم يكن بمقدورهم السعى للوصول إلى مناصب رفيعة المستوى في المؤسسات الدينية الجديدة للدولة. وعندما بدأت الحركة السلفية الهادئة في ليبيا في الثمانينيات، لم يبدو الشيخ ربيع المدخلي مرجعاً أساسياً لها، ولكن بعد عام 2011 برز رجل الدين السعودي تدريجياً في التعليقات الليبية والأجنبية لدرجة أصبح بها التعريف الأساسي للسلفيين الهادئين أنهم “المداخلة”. ومع ذلك، فإن توصيفات المداخلة تميل إلى أن تكون محدودة نسبياً، فقد وصفوا بأنهم يتبعون الشيخ ربيع المدخلي، ويؤمنون بالولاء المطلق للحاكم (السياسي) الراسخ، ويرفضون أي تدخل في السياسة.
ارتبط تحديد هوية السلفيين الليبيين الهادئين مع المدخلي جزئياً بالتأثير الذي اكتسبه الشيخ السعودي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعد عام 1990 والدور الرئيسي الذي أدته الجامعة لاحقًا في تصدير التيار السلفي “اللاسياسي” خارج المملكة. لم يكن ربيع المدخلي من المراجع الدينية السعودية العليا، ولكنه استمد سلطته من التوصيات (التزكية) من العلماء السعوديين الأكثر شهرة مثل عبد العزيز بن باز، وصالح الفوزان، ومحمد بن العثيمين، وناصر الدين الألباني، واليمني مقبل الوادعي. وبالبناء على شبكات رجال الدين هؤلاء، استقطب المدخلي العديد من الطلاب من الخارج، بما في ذلك من ليبيا.
وبالتالي اتبع الدعاة المدخلة تعاليم مجموعة من العلماء السعوديين الرئيسيين، الذين لم يتفقوا بالضرورة على جميع القضايا غير أنهم مثلوا توجهاً خاصاً في المؤسسة الإسلامية السعودية. هذا التوجه يدحض العلماء المتهمين بانتقاد الحكام علناً أو المتهمين بالخروج عن الإسلام الصحيح، وخاصةً أولئك المنخرطين في الإسلام السياسي. وفي سياق ما بعد عام 2011، الذي اتسم بعدم الاستقرار السياسي وتزايد التوترات بين مؤيدي ومعارضي جماعة الإخوان المسلمين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، انتهى الأمر بالعنصر الأخير إلى أداء دور رئيسي. وجاء التيار المدخلي ليمثل الخصم الرئيس للإسلام السياسي والإخوان المسلمين. كان هذا إلى حد كبير نتيجة محاولة مدعومة من السعودية لضمان الاستقرار على خلفية التغيير الثوري ولمواجهة دعم قطر للإخوان المسلمين في جميع أنحاء المنطقة. لكن في أعقاب انتفاضة 2011، كان السلفيون الليبيون الهادئون أضعف بكثير من السلفيين السياسيين من حيث السلطة الدينية.
وشخصية مجدي حفالة، الواعظ المقيم في طرابلس، والمعروف أيضًا باسم أبي مصعب، جسّدت الحركة المدخلية وتطورها. فحفالة، ومع كونه من أبرز الدعاة في ليبيا بيد أنه لم يصل لمكانة العالم، مثل سامي الساعدي القيادي السابق بالجماعة المقاتلة. وعوضاً عن المكانة العلمية الذاتية، عول حفالة في سلطته الدينية بشكل أكبر على شخصيات أخرى، لا سيما العلماء المسلمين غير الليبيين الذين تربطه بهم صلات شخصية. وعلى الرغم من عدم وجود سيرة ذاتية رسمية له مثل الساعدي، إلا أن السير الذاتية في المنتديات السلفية تسلط الضوء على وجوده في شبكات معينة مرتبطة بالمملكة العربية السعودية واليمن باعتبارها المصدر الرئيس لسلطته كخطيب.
وعليه، بدا أن هوية حفالة كمدرس أعلى من المؤهلات التي حصل عليها، وعلى هذا النحو، ظل مجدي حفالة معتمداً على الشبكات العابرة للحدود الوطنية في مسائل تفسير العقيدة السامية.
وهذا من بعض النواحي سمة من سمات التيار السلفي الذي يقوم إلى حد كبير على العلاقة غير الرسمية بين المعلم والطالب. ويبدو أن السلفيين المدخليين في ليبيا يستخدمون الحج و العمرة كفرص للتواصل مع العلماء السعوديين، الذين يطلبون منهم المشورة بشأن قضايا محددة، كما يلقي الدعاة السعوديون مواعظ لأتباعهم الليبيين عبر الهاتف. بشكل عام، ظل السلفيون المدخليون في ليبيا يعتمدون إلى حدٍ كبيرٍ على المملكة العربية السعودية لبناء سلطتهم الدينية.
ولغياب الموارد البشرية التي كانت ستتيح لهم التنافس على المناصب العليا في المؤسسات الدينية الجديدة، ركز السلفيون المدخليون في ليبيا، عوضاً عن ذلك، على تعزيز نفوذهم انطلاقاً من المستوى الشعبي. وقد تمكنوا من زيادة نفوذهم تدريجياً في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، أولاً من خلال الحصول على مناصب في الإدارة. وقد سمح لهم ذلك بتعيين خطباء على المستوى المحلي، مع التركيز على المدن ذات الأهمية الدينية الخاصة مثل زليتن، موطن إحدى أشهر الجامعات الإسلامية في ليبيا، الجامعة الأسمرية، والزاوية، مركز رمزي لمعظم الحركات الدينية في ليبيا (الصوفية والسلفية والإسلام السياسي) ومسقط رأس الشيخ الطاهر الزاوي، وهو مجاهد معروف أثناء الاحتلال الإيطالي ورجل دين أزهري عينه القذافي في البداية كمفتي عام ليبيا.
على المستوى السياسي، فإن ارتباط التيار الهادئ بالدعاة الذين حثوا أتباعهم على عدم الانضمام إلى الانتفاضة جعل من الصعب عليهم الانخراط مباشرة في مؤسسات الدولة الناشئة والحصول على مناصب رفيعة المستوى في بيئة تكافئ الثوريين بالدرجة الأولى.
عارض المداخلة في ليبيا، مِثل جزء مهم من المجال السلفي الليبي، قرار قادة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابقين والسلفيين السياسيين بالانخراط مباشرة في السياسة من خلال المشاركة في الانتخابات البرلمانية لعام 2012. كان هذا في الأساس موقفاً أيديولوجياً، إذ رفضوا بشدة الديمقراطية والانتخابات على أساس أن التشريع لله، وأن السياسة الحزبية هي الفتنة، وهي مصدر انقسام بين مجتمع المؤمنين. وبعد خطبته ضد الانخراط في الانتفاضة، اتخذ مجدي حفالة مواقف قوية ضد الديمقراطية والانخراط في الانتخابات. وفي “نصائحه إلى الشباب السلفيين”، حثهم حفالة على عدم الانخراط في الحياة السياسية أو الأحزاب أو الانتخابات، ودعاهم للتركيز على دراسة وتعليم الناس طريق الهدى.
ومع ذلك، في حين عارض السلفيون المدخليون السياسات الانتخابية والمؤسسية، لا يبدو أنهم أعطوا الأولوية للاستقلال عن الدولة الجديدة ومؤسساتها، لا سيما على المستوى المحلي. على العكس من ذلك، استغل بعض السلفيين الذين شاركوا إلى حد ما في الانتفاضة المنافسة على المؤسسات الأمنية الناشئة وتمكنوا من وضع أنفسهم في وسطهم. كان هذا واضحاً بشكل خاص في المناطق التي سهّل فيها انتشار اتجاهات دينية معينة توسعها وتقويتها.
على سبيل المثال، في الضاحية الشرقية لطرابلس، سوق الجمعة، وهو حي كان للسلفيين وجود فيه ويتمتعون بسمعة طيبة قبل عام 2011، وسرعان ما نما دورهم فيه. هناك، بدأ الشباب السلفيون في تشكيل مجموعات أهلية في الأحياء تركز على فرض النظام في المجتمع المحلي.كان هذا من جانبين: فرض الأمن، وفرض نظام أخلاقي وديني معين. وقد ساعدتهم جهودهم في مكافحة المخدرات والكحول على اكتساب بعض الشرعية على المستوى المحلي، على الرغم من أن وجهات نظرهم الإقصائية، وعدم تسامحهم مع الاتجاهات الدينية الأخرى، كما يتضح من ممارسات مثل تدمير الأضرحة الصوفية، كانت أكثر إثارة للجدل.
أيضاً، قامت شخصيات دينية بدور هامٍ في الربط بين مختلف الجماعات المسلحة المحلية المدخلية في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، ظل هذا الاتجاه إلى حد كبير محلياً في طابعه وأقل وضوحاً على الساحة الوطنية حيث لم تظهر شخصية رمزية معروفة لقيادة وتجسيد الحركة. كما استفاد سوق الجمعة بشكل مباشر من تعيين ابن الحي هاشم بشر في دور قيادي في اللجنة الأمنية العليا بطرابلس، وهو ثوري شارك بتحرير طرابلس، وكان ممن تلقوا تعليماً دينياً محافظاً. وهذه المؤسسة (اللجنة الأمنية) أُنشأت في عام 2011 كمحاولة لجلب العديد من المجالس العسكرية التي أُسست خلال الحرب تحت مظلة السلطات الجديدة. ومن خلال بشر، استفاد سلفيو- سوق الجمعة من الوصول إلى مؤسسات الدولة الجديدة ومواردها. وكان من بين مجموعة سوق الجمعة عبد الرؤوف كارة، عامل المعادن السابق والسلفي المنحدر من عائلة مهمة في الحي. ولشهرته بالتقوى، ولِّيَ مسؤولية “فروع الدعم” المحلية في المحكمة الجزائية المتخصصة في طرابلس. ومثل بشر، استفاد كارة من قدرته على العمل في البيئة الاجتماعية للأحياء السكنية في طرابلس. وعندما حُلت اللجنة الأمنية العليا كجزء من جهود إصلاح قطاع الأمن، اجتمع بعض السلفيين من سوق الجمعة حول إحدى المجموعات الجديدة التي تم إنشاؤها عوضاً عنها في عام 2013: قوات الردع الخاصة، وأصبح عبد الرؤوف كارة قائد القوات الجديدة.
وقد عرِّفت أنشطة قوات الردع على نطاق واسع، واستمرت في تركيز عملها على فرض النظام في المجتمع. وكما فعل مع اللجنة الأمنية، شجّع بشر مقاربة التغيير من أسفل إلى أعلى، عبر العمل مع البلديات وشيوخ الحي، وذلك لتقديم سمعة للجنة الأمنية ثم لقوات الردع بأنها الفاعل العسكري الأقدر على التعامل في المناطق المأهولة بالسكان في طرابلس. رسمياً، كانت هذه القوات خاضعة للإشراف المباشر من قبل وزارة الداخلية. ومع ذلك، فإن الطابع الديني للعديد من أعضائها أحبط محاولات فرض تسلسل هرمي أكثر انتظاماً. في ذلك الوقت، اكتسبت الشخصيات الدينية رأس مال اجتماعي من خلال مشاركتها في حل النزاعات، حيث أصبح بعضها شخصيات مهمة في الجماعات المسلحة. وكرمز لهذا التطور، ازداد عدد أتباع مجدي حفالة بشكل كبير بعد عام 2011، ولا سيما بين أعضاء الجماعات المسلحة المحلية، بما في ذلك قوات الردع ذات النفوذ. وقد اجتذبت خطبه يوم الجمعة في مساجد طرابلس المئات من الأتباع تدريجياً، ولفت موكبه الذي يتحرك في جميع أنحاء المدينة تحت حماية العناصر المسلحة الانتباه بشكل منتظم.
على المستوى العقائدي، اختلف السلفيون السياسيون والمدخليون في ليبيا، بشكل أساسي، حول الإنخراط في الأنشطة السياسية، خلال المحاولات الأولى لبناء مؤسسات دولة جديدة بين عامي 2012 و2014. تُرجم هذا بشكل مباشر إلى محاولة الطرف الأول كسب النفوذ في الدولة الجديدة من خلال المشاركة في الانتخابات والتعيينات في المناصب المؤسسية العليا، وفي المقابل، ركز الطرف الآخر على نشر الإيمان وضمان النظام الأخلاقي، في الغالب على المستوى الشعبي. وبعيدًا عن العقيدة، كان للنهجين أيضاً خصوصية التوافق مع الفرص التي يوفرها الانتقال السياسي الناتج عن الصراع العنيف وانهيار النظام. في هذا السياق، لم يكن لدى التيارين نفس الموارد للتعبئة، الأمر الذي أدى كذلك إلى حد ما لتكييف النهج التنازلي للسلفيين السياسيين والتركيز الشعبي للمداخلة. كان هذا واضحاً، على سبيل المثال، في المؤسسات الدينية الليبية الجديدة. فبينما كان من المفترض أن ينظر إليها التيار المدخلي على أنها مركزية في جهودهم الدعوية، إلا أنها لم تشكل أرضية رئيسة للمنافسة بين المجموعتين خلال السنوات الأولى من الفترة الانتقالية. ربما كان هذا جزئياً بسبب الافتقار إلى الشخصيات الدينية المؤهلة تأهيلاً عالياً بين السلفيين المدخليين المحليين.
كما شكل استخدام العنف قضية أخرى يمكن أن تتعرض فيها العلاقة بين العقيدة والممارسة للضغط. وقد ظهر اتجاه جديد للسلفية السياسية في عام 2011، تجسده جزئياً بعض قادة الجماعة المقاتلة السابقين، بعد أن حمل الجهاديون “الذين تم إصلاحهم” السلاح مجدداً ضد نظام القذافي وساهموا في انهياره. وعلى الرغم من أنهم أعطوا الأولوية الآن للأنشطة السياسية، فمن المحتمل أن يظل السلفيون السياسيون قوة عسكرية رئيسة في سياق ما بعد الثورة. وبالمثل، اعتمدت جهود التيار المدخلي لضمان النظام الأخلاقي والأمن على المستوى المحلي بشكل متزايد على الروابط الوثيقة بين الشخصيات الدينية والجماعات المسلحة، مما أثار تساؤلات حول وجهة نظرهم بشأن الاستخدام المحتمل للعنف لنشر الإيمان وفرض النظام الأخلاقي الذي يدعون حمايته.
تقسيم الدولة (2014-2019). ماذا يحدث عندما تُتنازع سلطة الدولة وتنقسم المؤسسات؟
في عامي 2013-2014، دخلت الفترة الانتقالية في ليبيا مرحلة جديدة. احتدم الصراع بين الائتلافين الرئيسين المتنافسين للسيطرة على مؤسسات الدولة الجديدة. في البرلمان المنتخب، أدى افتقار المؤتمر الوطني العام إلى القدرة على الحوار وبناء الإجماع إلى مأزق كامل. كما تدهور الوضع الأمني بشكل كبير في شرقي البلاد، حيث تصاعد العنف نتيجة الهجمات الجهادية وعشرات الاغتيالات لمسؤولين أمنيين سابقين ونشطاء وصحفيين بدوافع أيديولوجية ، إضافةً إلى الأعمال الانتقامية من قمع النظام في التسعينيات. في مايو 2014، تولى خليفة حفتر، وهو جنرال متقاعد، قيادة مجموعة من وحدات الجيش الساخط والقبائل الشرقية المحلية وشن عمليةً عسكريةً تهدف إلى استعادة الأمن والقضاء على الميليشيات الإسلامية التي يعتقد من هم تحت قيادته أنها مسؤولة عن موجة انعدام الأمن في بنغازي.
هذه العملية التي أُطلق عليها اسم “الكرامة”، كانت بداية مواجهة عسكرية كبيرة بين المعسكرين اللذين كانا يتنافسان على السلطة على المستوى الوطني منذ عام 2012. وفي يوليو 2014، ومن أجل منع حفتر من توسيع عملياته العسكرية إلى طرابلس، شنت فصائل إسلامية وثورية من العاصمة والمدن الغربية الأخرى عملية “فجر ليبيا”، وهاجمت مطار طرابلس الدولي والمناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة التي تعد قريبة من حفتر. وللمرة الأولى منذ عام 2011، مرت ليبيا بمواجهة عسكرية كبيرة تردد صداها في جميع أنحاء البلاد. وبالتوازي مع ذلك، أدت محاولات إنهاء الأزمة البرلمانية من خلال انتخابات تشريعية جديدة نُظمت في يونيو 2014 إلى انقسام مؤسسي وفعلي للبلد إلى مجموعتين من السلطات التشريعية والتنفيذية المتنافسة، تدعم كل منهما ائتلافات غير متجانسة من السياسيين والعسكريين والقوى الاجتماعية.
وقد أدى استمرار الانقسامات المؤسسية وتدهور الوضع الأمني في جميع أنحاء البلاد في 2014-2015 إلى تدخل المجتمع الدولي تحت رعاية الأمم المتحدة ومحاولة التوسط. وعلى الرغم من توقيع الاتفاق السياسي الليبي (LPA) في ديسمبر 2015، ظلت البلاد منقسمة بين مركزي قوة متنافسين بين عامي 2016 و2019. الأول، أُسّس في طرابلس، وتمحور حول المجلس الرئاسي (PC) لحكومة الوفاق الوطني (GNA) المؤسس حديثاً بقيادة فايز السراج. أما الآخر فكانت قاعدته في شرقي ليبيا ودار حول مجلس النواب المنتخب في يوليو 2014 والقوات المسلحة العربية الليبية بقيادة خليفة حفتر. الصراع المتصاعد في ليبيا بين الفصائل السياسية والعسكرية المتنافسة جعل السلفيين “السياسيين” و”المدخليين” في مواجهة خيارات العلاقة بالسلطة السياسية في سياق الانقسامات المؤسسية، وفيما يتعلق باستخدام العنف في سياق الاستقطاب العنيف.
السلفيون السياسيون: مزيد من “السياسة” للسيطرة على الدولة والعودة إلى العنف السياسي
استفاد السلفيون السياسيون بين عامي 2011 و2014 من انخراطهم في مؤسسات الدولة على المستوى الوطني واكتسبوا تأثيراً سريعاً على هياكل السلطة الجديدة، بيد أن التطورات التي حدثت في ربيع/صيف 2014 غيرت المشهد السياسي والعسكري بشكل كبير وشكلت تهديداً لمواقعهم. فبعد أن أطلق حفتر عملية الكرامة في مايو 2014، خشيت الدوائر الثورية والإسلامية الليبية من احتمالية ثورة مضادة في طور التكوين، وفي يوليو/تموز، هاجموا مواقع للجماعات المسلحة المتحالفة مع حفتر في طرابلس، مما أثار مواجهات مسلحة عنيفة استمرت لأسابيع وألحقت أضراراً كبيرةً في غربي ليبيا. وقد قام قادة الجماعة المقاتلة السابقون بدورٍ مهم في الشبكة التي خططت وقادت عملية فجر ليبيا، جنبًا إلى جنب مع المتشددين الإسلاميين من عدة مدن غربية، وكذلك القوى التي تُعرف بانتمائها المحلي لمعاقل الثورة أكثر من كونها محسوبة على التوجه الإسلامي، وبذلك، أصبحوا حلفاء أيضاً بحكم الأمر الواقع للجماعات المسلحة الجهادية والثورية التي تقاتل حفتر في بنغازي. في البداية تمكن التحالف الذي ينتمون إليه من الحفاظ على سيطرته العسكرية على طرابلس والأصول الرئيسة في العاصمة. ونظراً لانقسام مجلس النواب المنتخب حديثًا بين معسكرين متنافسين، ونقل مقعده إلى مدينة طبرق الشرقية مع قبول بعض أعضائه لهذه الخطوة، رفض المؤتمر الوطني العام السابق حله وشكل حكومة “الإنقاذ” الخاصة به، بقيادة شخصية مقربة من الجماعات المسلحة التي تقاتل حفتر. كانت المشاركة المباشرة لقادة الجماعة الإسلامية المقاتلة السابقين في عملية فجر ليبيا بمثابة عودة إلى استخدام العنف السياسي. وقُدِّم هذا التحول العملي على أنه يهدف إلى منع عودة الاستبداد عبر حفتر وحلفائه، وبالتالي حماية رؤيتهم لنوع معين من السلطة السياسية. لكنه اقترن أيضاً بأداء ضعيف للمرشحين المنتمين إلى المعسكر الإسلامي والثوري في الانتخابات البرلمانية في يونيو 2014، التي شارك فيها أقل من خمس الناخبين.
ولذلك كان يُنظر إلى فجر ليبيا -واستخدام العنف- على أنه وسيلة للسلفيين “السياسيين” وحلفائهم الإسلاميين، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، للحفاظ على امتياز الوصول والسيطرة على مؤسسات الدولة التي اكتسبوها منذ عام 2011. وسيكون لذلك تأثير سلبي على صورتهم وشرعيتهم الشعبية في الأشهر والسنوات التالية مع ازدياد التصور بأن مشاركة السلفيين السياسيين في فجر ليبيا كان لخدمة مصالحهم الذاتية لاستبعاد المنافسين مما أدى في نهاية المطاف إلى حرف الانتقال السياسي عن مساره. وعزز تعيين العديد من الشخصيات المرتبطة بالجماعة الإسلامية المقاتلة في حكومة الإنقاذ التصور بأن العملية قسمت البلاد (تسببت في “الفتنة”) وأدت لانعدام الأمن والانهيار الاقتصادي.
أيضاً، كان لعملية فجر ليبيا تأثير مباشر على المجال الديني، فقد أظهرت العملية العسكرية أن المؤسسات الدينية الجديدة، التي كانت تخضع إلى حد كبير لسيطرة السلفيين السياسيين وحلفائهم الإسلاميين، قد أصبحت متورطة بشكل مباشر في الصراع بين الائتلافين السياسيين والعسكريين المتنافسين، فتحت قيادة الشيخ الغرياني، تحولت دار الإفتاء من مؤسسة دينية حكومية إلى فاعل سياسي رئيس. دعم المفتي علانية “فجر ليبيا” ضد “الكرامة” وكان جزءاً من شبكة تنسيق العملية العسكرية، حتى إن تسييس دار الإفتاء ازداد بعد فجر ليبيا، فقد مارس الغرياني نفوذاً مباشراً على حكومة الإنقاذ وشجع على تعيين سلفيين سياسيين في دار الافتاء. ونتيجةً لذلك، بدأت التوترات في الظهور مع التيارات الأخرى في المؤسسة، لا سيما مع التيار السلفي “الهادئ” الذي دعم حفتر وعملية الكرامة في الشرق.
في نفس السياق، استُدرجت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى حلبة الصراع، بعد أن كانت تهدف لتكون انعكاساً لتوازن القوى إلى حد ما بين المدارس والتيارات الدينية المختلفة في ليبيا. وللمرة الأولى، عينت حكومة الإنقاذ مبارك أفتماني رئيساً لها، وهو شخصية مقربة من التيارات الإسلامية والثورية في مصراتة، وقد قاتل في حرب 2011 وكان يُعد مقربًا من القاعدة ولكن ليس لديه مؤهلات دينية. وقد أسهم ذلك في تأجيج التوترات بين التيارات الإسلامية المختلفة في المؤسسة، لا سيما بين التيارات السلفية “السياسية” و”الهادئة”. في السنوات التالية، أتاحت الترشيحات المتنازع عليها مثل ترشيح أفتماني فرصة كبيرة للسلفيين المدخليين لبدء معارضة المؤسسة الدينية العليا، عبر الإشارة إلى الطبيعة السياسية لترشيحات المناصب الرئيسة.
وشكلت عودة شخصيات الجماعة الإسلامية المقاتلة والسلفيين السياسيين إلى استخدام العنف، والطريقة التي حاولوا بها تحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات قوة لحماية ما كان ينظر إليه العديد من الليبيين على أنها مصالح شخصية، ضربةً كبيرةً لشرعيتهم الشعبية. وخلال حرب 2014ـ، وفي ما تلاها من سنوات، بدا أن السلفيين السياسيين ينظرون إلى “السياسة” بشكل أساسي على أنها تأمين مواقعهم داخل مؤسسات الدولة المنقسمة الآن، بهدف الحفاظ على السيطرة عليها والاستمرار في الاستفادة من الموارد التي وفرتها هذه المواقع. ومع بقائهم في السلطة، لا يبدو أنهم دفعوا باتجاه أجندة سياسية محددة، إنما ركزوا على المواجهة مع السلطة السياسية القائمة في الشرق، والمنافسة على الشرعية السياسية محلياً ودولياً.
السلفيون المدخليون: استخدام العنف لتوفير “الأمن والنظام” في دعم السلطات السياسية
اختلفت الأمور بشكل كبير في الطرف الآخر من الطيف السلفي، فقد تأثر مسار السلفيين المدخليين بشكل مباشر بالاتجاهات المختلفة للأحداث في غرب ليبيا وشرقها. ولأنهم لم يشغلوا مناصب رئيسة في مؤسسات الدولة العليا، فقد استثمروا في توفير الأمن وفرض نظام أخلاقي معين على المستوى الشعبي. فالسلفيون المدخليون لم يكونوا بحاجة إلى حماية مواقعهم السياسية ومن ثمَّ الانحياز إلى أي طرف مع اشتداد الصراع. وبخلاف شخصيات الجماعة الإسلامية المقاتلة السابقة، لم يكن للسلفيين المدخليين دورٌ بارزٌ في القتال في طرابلس خلال صيف 2014. بدلاً من ذلك، انصب تركيزهم الأساسي على توفير النظام وضبط الأمن على مستوى الأحياء المحلية، ونشر جهودهم على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الجهود شملت مكافحة مهربي المخدرات والكحول، ومحاربة الجريمة المنظمة وعصابات الخطف مقابل فدية، وأعضاء تنظيم الدولة الإسلامية. لم تكن هذه قضايا مرتبطة بمفهومهم للأخلاق والإسلام الصحيح فحسب، إنما كانت أيضاً قضايا ذات اهتمام شعبي للسكان المحليين في طرابلس والمدن الكبرى الأخرى، مما أكسبهم سمعة طيبة من ناحيتي الأخلاق والكفاءة في بعض الأوساط. كان هذا الحال الخاص في ظل الجو العام من انعدام الأمن الذي أعقب عملية فجر ليبيا.
وعلى الرغم أن هجوم السلفيين المدخليين على التيارات الدينية الأخرى، ومحاولاتهم فرض نظام أخلاقي محافظ خاص، أثار مخاوفاً بين شرائح المجتمع المختلفة، بيد أنهم استفادوا من عاملين اثنين، الأول: أنهم لم يحاولوا بعد السيطرة على مؤسسات الدولة العليا بشكل علني، بما في ذلك المجال الديني. والثاني: عدم ظهور العلاقة بين الدعاة المدخليين والجماعات المسلحة، مما جعل من الصعب الإشارة إلى استخدام السلفيين المدخليين للعنف لتحقيق أي أهداف سياسية محددة. وبدلاً من تقديم أنفسهم كطرف في الصراع الدائر للسيطرة على الدولة في طرابلس، واصل السلفيون المدخليون في الجزء الغربي من ليبيا استخدام العنف بطريقة هادفة، حيث تتعاون الجماعات المسلحة والشخصيات الدينية على الأرض لتوفير الأمن والنظام من أجل عموم الليبيين. وبينما ركزوا إلى حد كبير على المستوى المحلي، إلا أنهم لم يتصرفوا باستقلال كامل عن الدولة، فالخدمات الخاصة التي قدموها على المستوى المحلي كانت مفيدة في بناء تفاعلات مع مؤسسات الدولة. وفي الوقت نفسه كانوا يتطورون تنظيمياً ويعززون وجودهم في الهياكل الأمنية دون البحث عن مناصب رفيعة المستوى.
أما في شرقي ليبيا، فقد كان الوضع مختلفاً بشكل جوهري نتيجة للتطورات الأمنية والسياسية المختلفة بعد 2013، إذ تصاعدت التوترات بسرعة بين التيار السلفي المدخلي والفاعلين الإسلاميين والجهاديين الآخرين مع انتشار العنف وانعدام الأمن في بنغازي. في أواخر عام 2013، شكّل اغتيال العديد من الشخصيات المدخلية على يد أنصار الشريعة، بمن فيهم رئيس دائرة الشؤون الإسلامية في مديرية أمن بنغازي العقيد كامل بظاظه، نقطة تحول وأسفر عن عسكرة التيار المدخلي بشرق ليبيا. وكان للمواجهة مع أنصار الشريعة دور رئيس في حسم الجدل العقائدي بين المدخليين حول قرار الانضمام إلى خليفة حفتر وعملية الكرامة التابعة له، الأمر الذي تم بعد ذلك. شارك السلفيون المدخليون حفتر وأنصاره نفس العداء للإسلام السياسي والتيار الجهادي. كما يسّر إنشاء مجلس النواب في طبرق، وترشيحه للحكومة وتأييده لعملية الكرامة تقارب المدخليين وحفتر؛ ذلك لأن ظهور سلطات سياسية جديدة في شرقي ليبيا تنافس تلك الموجودة في طرابلس جعل دعم التيار المدخلي لحفتر ومجلس النواب مشروعاً من وجهة نظر عقائدية إذ يمكنهم تأطير مشاركتهم مع حفتر والجيش الوطني الليبي على أنه دعم للحاكم (ولي الأمر).
سهّل ذلك مشاركة السلفيين المدخليين في حملة حفتر العسكرية. ونظراً لعملهم الاجتماعي، اكتسب المداخليون نوعاً من الشرعية الشعبية، مما جعلهم شركاء مفيدين لحفتر، الذي كان بحاجة إلى حشد المزيد من القوات لدعم الجيش الوطني الليبي. وبينما أُسست وحدات قتالية سلفية خالصة وأدمجت ضمن الجيش الوطني ككتيبة التوحيد، انتشرت عناصر سلفية مسلحة عبر كامل الجيش الوطني. فانضم أشرف الميار وهو شخصية سلفية وقائد لواء ثوري شهير عام 2011 إلى لواء الصاعقة التابع للجيش الوطني الليبي. كما قاتلت جماعات سلفية مع مختلف “قوات حماية” الأحياء أو “قوات دعم” الجيش الوطني الليبي في بنغازي.
ونتيجةً لعملية الكرامة، بدأ السلفيون المدخليون بأداء دور أكثر وضوحاً على الأرض، سواءً في القتال في صف حفتر أو على مستوى الأحياء. وكما هو الحال في طرابلس، صاغوا مشاركتهم على أنها دعم للسلطات القائمة بشكل أساسي من خلال توفير النظام والأمن للسكان. ولأن التدخل العسكري لحفتر كان موضع ترحيب من قبل قطاعات مهمة من السكان في شرق البلاد، فقد أسهم ذلك في زيادة شرعية المداخلة. ولكن، مشاركة الجماعات المسلحة والشخصيات المدخلية في عملية الكرامة تعني انخراطهم بشكل مباشر في المنافسة العنيفة التي ضمت حفتر وجيشه الوطني الليبي من جهة ونطاق واسع من الجماعات الإسلامية والثورية من جهة ثانية. وعلى الرغم من أن الكرامة قُدمت على أنها عملية تهدف إلى استعادة النظام، فإنها كانت أيضاً صراعاً ذا طبيعة سياسية. ومن ثمَّ، فإن مشاركة المدخليين في هذا الصراع تناقض بوضوح ادعاءهم تجنب السياسة. في واقع الأمر، فإن السياق السياسي المتغير بين عامي 2014 و2019 تطلب من السلفيين السياسيين والمدخليين ترجمة العقيدة إلى ممارسة مرتبطة بقضايا هامة مثل مسألة المشاركة السياسية واستخدام العنف. وكلا التيارين أظهرا قدرة على التكيف مع الظروف الجديدة، مما سلط الضوء على طبيعتهما السياسية. ولكن تصاعد العنف وانقسام مؤسسات الدولة كان لهما أثرٌ كبيرٌ على التصور العام والشرعية الشعبية للتيارين.
وبدءاً من عام 2016 فصاعدًا أثبت السياق السياسي أنه أكثر ملاءمة للسلفيين “المدخليين” منه للسلفيين “السياسيين”، وعلى الرغم من توقيع الاتفاق السياسي الليبي (LPA) برعاية دولية في ديسمبر 2015، لم تُوحّد المؤسسات الليبية، ولم ينته الصراع بين الائتلافين المتنافسين بقيادة سراج والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني من جهة، وحفتر وجيشه الوطني من جهة أخرى. بدلاً من ذلك، وحِدَت مراكز القوى المتنافسة التي ظهرت على مدار العامين الماضيين في غرب ليبيا وشرقها، وأعيد تشكيل التحالفات جزئياً على كلى الجانبين. كان هذا هو الحال خاصةً في طرابلس، حيث تطلبت إقامة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني في العاصمة في مارس 2016 بعض الترتيبات مع الجماعات المسلحة المحلية لتوفير الأمن للسلطات السياسية الجديدة. قوات الردع الخاصة ذات الميول المدخلية بقيادة عبد الرؤوف كارة كانت واحدة ضمن عدد قليل من المجموعات التي اختارت دعم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق. وإن انتماءهم إلى المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق يعني أنه يمكن تأطير أفعالهم على أنها دعم للحكومة الجديدة المعترف بها دوليًا. ومع ذلك، كان من الواضح أن القرار كان سياسياً بطبيعته: فقد عارضت العديد من الدوائر الانتخابية في غربي ليبيا الاتفاق السياسي الليبي LPA وحكومة الوفاق الوطني، بما في ذلك بعض الجماعات المسلحة الرئيسة المتمركزة في طرابلس، والتي لا يزال كثيرٌ منها يدعم حكومة الإنقاذ.
وفي مارس 2016، تسبب وصول المجلس الرئاسي إلى طرابلس في مواجهات عسكرية بين الفصائل المتناحرة، مما أدى في النهاية إلى تحولات كبيرة في المشهد السياسي والعسكري في طرابلس. وقد كان دعم قوات الردع الخاصة المتأثرة بالسلفية المدخلية عاملأً حاسماً في السماح لحكومة الوفاق الوطني ببدء عملها في العاصمة. وبحلول مارس/آذار2017، كانت قوات الردع الخاصة والجماعات المسلحة الأخرى الداعمة للحكومة الجديدة قد طردت منافسيها تدريجياً من العاصمة. شمل ذلك الجماعات المسلحة المرتبطة بقادة سابقين في الجماعة المقاتلة، والذين أُجبروا على مغادرة المدينة وفي كثير من الحالات البلاد خوفًا على أمنهم. وعلى الرغم من الدور الرئيس الذي قاموا به في السماح للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بالتغلب على خصومه المحليين، استمر السلفيون المدخليون في تقديم أنفسهم على أنهم “غير سياسيين” وشددوا على جوانب أنشطتهم التي كانت تهدف إلى الحفاظ على النظام أو استعادته على المستوى المحلي. بهذه الطريقة، عززوا صورتهم تدريجياً كشركاء رئيسيين لسلطة سياسية تسعى إلى بسط سيطرتها على الأرض. وبذلك، وسعوا أيضًا من وصولهم إلى مؤسسات الدولة، لكن دون السعي وراء مناصب سياسية بارزة. عوضاً عن ذلك ركزوا على مجالات الأمن والعدالة، وتحديداً عبر العمل على ضمان الأمن والنظام للسكان المحليين، ومن خلال تدخلاتهم، سعوا لتعزيز روابطهم مع مؤسسات الدولة، لا سيما وزارة الداخلية. وقد ساعد عملهم ضد الجريمة المنظمة في زيادة روابطهم مع المدعي العام في وزارة العدل، وتدخلوا أيضاً في القضايا المتعلقة بالرقابة المصرفية والتوزيع النقدي وإصدار جوازات السفر والخدمات اللوجستية المرتبطة بالحج.
وعلى نقيض سلوكهم السابق، بدأ السلفيون المدخليون في ترجمة تأثيرهم المتزايد على المؤسسات الدينية للدولة، مع التركيز هذه المرة على المناصب العليا بدلاً من القواعد الشعبية فقط. ونتيجةً لذلك، تصاعدت التوترات بين التيار المدخلي ودار الإفتاء التي كانت لا تزال تحت قيادة الشيخ الغرياني وتتأثر بقوة بالتيار السلفي السياسي. وبدأت الجماعات المسلحة المتأثرة بالنفوذ المدخلي مثل قوات الردع الخاصة في استخدام القوة لاعتقال الدعاة والشخصيات الدينية المرتبطة بدار الإفتاء. وفي أواخر عام 2016، تصاعدت الأمور مع اختفاء وقتل الشيخ نادر العمراني، أحد الشخصيات البارزة في دار الافتاء، وكان قد انتقد السلفية المدخلية علناً. وتعرض أيضاً رئيس الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية عباس الغادي لانتقادات عنيفة وضغوط متزايدة من التيار المدخلي. وباعتباره حليفاً مقرباً من مفتي الديار الغرياني، اتهم الغادي بأنه لم يحز منصبة بسبب مؤهلاته العلمية، إنما لمعارفه ضمن تيار الإسلام السياسي. في نهاية المطاف، تصاعد الصراع حول إدارته للحج وتمكن السلفيون المدخليون من إقالته من منصبه من قبل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، وحل محله الشخصية المعروفة في المجال المدخلي الشيخ محمد العباني. أشار هذا إلى خروج كبير عن الطريقة التي تعامل بها السلفيون المدخليون مع مؤسسات الدولة الدينية في غربي ليبيا إلى تلك اللحظة، وعلى الرغم من شعبية بعض هذه التحركات، فإن التأثير المتزايد لقوات الردع الخاصة على السلطات السياسية في طرابلس بدأ في التراجع، كما أظهر هذا التغير حدود الخطاب “اللاسياسي” للسلفيين المدخليين.
وقد تطورت الأمور في اتجاه مماثل، وإن كان في وقت سابق، في شرقي ليبيا نتيجة للدور الرئيس الذي لعبه السلفيون المدخليون والجماعات المسلحة الخاضعة لنفوذهم في دعم حفتر. وكما هو الحال في غربي ليبيا، صاغ السلفيون المدخليون في شرقي البلاد أفعالهم على أنها دعم للسلطات القائمة في مجال الأمن والنظام، لكنهم امتنعوا عن السعي وراء مناصب سياسية رسمية. بينما في المجال الديني، منذ عام 2014، اختلفت الأمور كثيراً، فقد مارس المدخليون تأثيراً مباشراً وواسعاً على مؤسسات الدولة على المستويات العليا والمحلية، وأتاحت لهم المشاركة في عملية الكرامة في ذات العام فرصاً للوصول للموارد وتنظيم أنفسهم. وعندما أنشأت الحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء في الشرق هيئة عامة للأوقاف والشؤون الإسلامية موازية للهيئة التي تتخذ من طرابلس مقراً لها في عام 2014، مُنح السلفيون المدخليون مناصب رئيسة في المؤسسة الجديدة. وهذا سمح لهم بمواجهة مباشرة مع منافسيهم في المجال الديني، وبالتالي اكتساب درجة من القوة في تشكيل السياسات خاصةً في مجال الالتزام الديني والأخلاقي، وبدأ تأثيرهم يتجلى بشكل أكبر في 2015-2016، مما أدى إلى حوادث منتظمة استُهدف فيها المثقفون والنساء والمجتمع المدني بشكل عام.
وفي العمليات العسكرية الكبرى، اُستخدمت كتائب وعناصر السلفية المدخلية كمكون هام ضمن القوة القتالية للجيش الوطني الليبي، كحالة لواء طارق بن زياد على وجه الخصوص، الذي شارك بشكل متتال في: الهجوم على مدينة درنة الشرقية في مايو 2018، وفي الانتشار العسكري في الجنوب الغربي في كانون الثاني /يناير- شباط /فبراير 2019 وفي وسط مدينة سرت عام 2020، مما أثار انتقادات شديدة في كثير من الأحيان حول كيفية تصرف أفرادها على الأرض في مواجهة السكان المدنيين. وكذلك في غربي ليبيا، قوبل التأثير المتزايد للسلفيين المدخليين في المجال العام وعلى المجتمع ببعض المقاومة الشعبية تدريجياً. فعلى سبيل المثال، في عام2017، تم إبطال قرارات الجيش الوطني الليبي المثيرة للجدل والمتأثرة بالتيار السلفي المدخلي، مثل القيود المفروضة على سفر النساء دون محرم، نتيجة للمعارضة الواسعة في المجتمع. كما نشأت توترات مع رئيس وزراء الحكومة المؤقتة في ديسمبر 2018، الذي اتهم الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية بخلق انقسامات في المجتمع واستيراد أيديولوجيات أجنبية إلى ليبيا.
خاتمة
أجبرت التطورات السياسية والأمنية في ليبيا بين عامي 2011 و 2019 السلفيين “السياسيين” و “المدخليين” على توضيح مواقفهم وسلوكياتهم فيما يتعلق بكيفية الارتباط بـ “السياسة” والسلطة السياسية والدولة في سياق الأزمة. فخلال تلك المدة، وفي مواجهة فكرة الخط الفاصل بين من يفترض أنهم سلفيون “سياسيون” وسلفيون “غير سياسيين”، أظهر تحليل كيفية ارتباط التيارين بالسلطة السياسية حقيقة أن كلتا المجموعتين سعتا إلى أهداف يمكن وصفها بأنها “سياسية”؛ أي أنها هدفت إلى كسب وزيادة نفوذها على مؤسسات الدولة. ومع ذلك، فإن الاستراتيجيات التي استخدمتها المجموعتان بين 2011-2019 اختلفت اختلافًا عميقاً، مما يشير على ما يبدو إلى اختلافات كبيرة في طبيعة المشاريع السياسية للتيارين.
كان السلفيون “السياسيون” و”المدخليون” يهدفون إلى زيادة سلطتهم وتأثيرهم على مؤسسات الدولة بعد عام 2011، وفعلوا ذلك من خلال اتباع مسارات مختلفة. كانت إحدى السمات المميزة الرئيسة هي الاختيار بين التغيير “من أعلى إلى أسفل” -في حالة السلفيين السياسيين القادة السابقين للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة- ونهج “من القاعدة إلى القمة” -في حالة السلفيين المدخليين-. يبدو أن هذا الاختلاف ارتكز إلى حد كبير على التقييم الذي أجراه الطرفان فيما يتعلق بالموارد المتاحة لهم، وبالتالي قدراتهم، في مراحل مختلفة من الفترة الانتقالية والصراع في ليبيا.
هذا الاختلاف في المقاربات نشأ أيضاً من الرؤى المختلفة للسياسة ولمحددات التأثير السياسي. فبالنسبة لشخصيات الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابقين والسلفيين السياسيين، بصورة أساسية، أخذت طريقة التعامل مع مؤسسات الدولة شكل المشاركة المباشرة في السياسة المؤسسية والتنافس مع الجماعات السياسية الأخرى على المناصب السياسية الرسمية رفيعة المستوى، بينما ظل تفاعلهم مع المجتمع محدوداً بشكل عام. وبدا أن هدفهم هو السيطرة على ما يعتبرونه الروافع الرئيسة للقوة والسلطة، بينما فشلوا في ابتكار استراتيجيات للتأثير على النظام والقواعد الاجتماعية.
يعني هذا أن استمرار النفوذ السياسي للسلفيين السياسيين اعتمد في الغالب على قدرتهم على الحفاظ على توازن القوى مع الجهات السياسية الفاعلة لصالحهم.
وعندما فشلوا في القيام بذلك، كما حدث جزئياً لأول مرة في عام 2014 حين انقسمت المؤسسات الليبية، ثم في 2016-2017 مع فقدانهم السيطرة على طرابلس، اُستبعدوا بسرعة من اللعبة السياسية وفقدوا معظم النفوذ الذي حازوه على مؤسسات الدولة الليبية بعد 2011. فقط في حالة حدوث تغيير كبير في ميزان القوى بين الجماعات السياسية والجهات الفاعلة، يمكن أن يأملوا في استعادة نفوذهم على مؤسسات الدولة الليبية. هذا بالضبط ما حدث بعد استئناف الصراع العسكري واسع النطاق في عام 2020 وهجوم حفتر على طرابلس.
في المقابل، رفض التيار السلفي المدخلي المشاركة في السياسة المؤسسية لأسباب أيديولوجية، وعوضاً من ذلك، انخرط مع مؤسسات الدولة من خلال التفاعل المباشر والتعاون على المستوى الشعبي، مع التركيز بشكل خاص على الأمن والعدالة وفرض نظام أخلاقي معين. وبعيدًا عن موقفهم الأيديولوجي، فإن هذا يعكس إلى حد ما نقص الموارد الكافية للانخراط في المنافسة على المناصب المؤسسية. فقط، عندما أصبح السياق أكثر ملاءمة لهم – والذي حدث في أوقات مختلفة في غربي ليبيا وشرقها- بدأ السلفيون المدخليون في ليبيا في السعي إلى الحصول على مناصب رفيعة المستوى في مؤسسات الدولة الدينية.
ولكن، لم يسعوا أبدًا إلى السيطرة على المؤسسات السياسية، حتى عندما سمحت السياقات المتطورة في كل من غرب وشرق ليبيا بذلك، إنما قاموا عوضاً عن ذلك بممارسة النفوذ من الخارج، فقد أعطى السلفيون المدخليون الأولوية لتوفير الأمن وفرض “النظام الأخلاقي” كوسيلة لاكتساب الشرعية وترسيخ نفوذهم وسيطرتهم على السلطات السياسية والدولة، وكذلك على المجتمع بشكل عام.
وقد أدت مقاربة التغيير الشعبية التي اعتمدوها من أسفل لأعلى، إلى جانب السلطة الأخلاقية والدينية التي اكتسبوها عبر سيطرتهم على مؤسسات الدولة الدينية، إلى تجذّر أعمق بكثير في المجتمع، وعكست المحاولة المباشرة من قبلهم لتغيير النظام والقواعد الاجتماعية، بما في ذلك استخدام القوة عند الضرورة.
وقد أظهر تحليل مسارات السلفيين الليبيين بين عامي 2011 و2019 أن مسألة استخدام العنف لم تمثل عنصرًا رئيساً في التمييز بين التيارات السلفية السياسية والتيارات الهادئة المدخلية وحتى التيارات الجهادية. إنما كان الاختلاف بينها في مسألة متى يكون العنف شرعيًا أو مقبولاً، وضد من.
وفي بيئة صراع مثل ليبيا، حيث يتنازع على السيطرة وبناء الدولة الجهات المسلحة، أظهر السلفيون “السياسيون” و “المدخليون” على حد سواء أنهم قد يستخدمون العنف عندما يكون ضرورة لتحقيق أهدافهم السياسية. ولكن المقاربتين كان لهما تركيز مختلف، ففي حين كان عنف السلفيين السياسيين أداة ضد منافسيهم السياسيين في سباق السيطرة على مؤسسات الدولة، فإن عنف السلفيين المدخليين لم يقتصر على المنافسين السياسيين، إنما امتد للمجتمع عموماً.
وهذا يؤكد عدم وجود اختلاف كبير بين السلفيين السياسيين والسلفيين المدخليين من جهة البراغماتية السياسية ووسائل العمل. كما أنه يثير أسئلة مهمة حول صحة الادعاء بأنه يمكن للسلطات السياسية الليبية والجهات الخارجية الفاعلة أن تستعين بحشد ودعم السلفيين المدخليين دون أن يكون لذلك عواقب وخيمة في المستقبل على الحياة السياسية والمجتمع في ليبيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق