التبعية السياسية عند السلفية: قراءة في جذور وسياق ظهور وآثار التيار الجامي المدخلي
التبعية السياسية عند السلفية
قراءة في جذور وسياق ظهور وآثار التيار الجامي المدخلي
كرم الحفيان
الوحدة الثقافية – مركز المجدد للبحوث والدراسات
مقدمة
“نحن طاعة ولاة الأمور عندنا أصل، لا نخالفه، حتى لو أُمرنا بمعصية، ماذا نقول له؟ نقول: سمعاً وطاعة، دمي دون ديني”. هذه العبارات الصادمة قالها عبد الفتاح بن غلبون الشهير بالطابونة أحد أشهر دعاة السلفية المدخلية في ليبيا وعضو القوات الخاصة في قوات حفتر في حوار متلفز، وذلك في سياق تأييده لقائد الانقلاب المشير خليفة حفتر أو “سماحة الوالد” كما وصفه[1]. فما هي جذور التبعية السياسية عند السلفية المدخلية؟ وفي أي سياق ظهرت؟ وما هي أبرز تطبيقاتها؟ وما هي خريطة انتشارها؟ وكيف تطورت الفكرة؟ وما هي آخر تجلياتها؟.
الجذور
إن أردنا تتبع الجذور الفكرية والفقهية المعاصرة لظاهرة التبعية السياسية عند التيار الجامي[2] المدخلي[3]، فلا بد من التعريج على العقيدة السياسية للوسط الديني الذي ولدت فيه في السعودية، ثم رصد طبيعة أثر الشيخ ناصر الدين الألباني على هذا التيار. بدايةً، تبدو عقيدة التبعية السياسية وطاعة الحكام ناضجة وراسخة في السعودية (وإن لم تكن النظرية الوحيدة) قبل ولادة التيار الجامي المدخلي بسنواتٍ طويلة، وأهم أبعادها: اعتزال العمل السياسي بكافة أشكاله، والتشديد على مبدأ طاعة “ولي الأمر” في السعودية والتشنيع على معارضيه ووصمهم بالضلال. تتجلى هذه النظرية بأبعادها الثلاثة في المؤسسة الدينية الرسمية هيئة كبار العلماء بقيادة الشيخين الشهيرين عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين[4].
يًلحظ هذا بوضوح في غياب أي نقد جوهري أو جريء لسياسات السلطة الحاكمة طيلة عقود، وفي الانحياز الكامل للسلطة السياسية لاسيما في المنعطفات التاريخية المصيرية التي واجهت فيها السلطة الحاكمة تحديات داخلية وخارجية كبرى، ومست أس شرعيتها أو وجودها. وقد أُصدرت الفتاوى المسوغة أو المهيئة لاستخدام السلطة للعنف أو القمع ضد حركات الاحتجاج أو التمرد المجتمعية سواءً كانت سلمية أو عنيفة، بدءاً من الجماعة السلفية المحتسبة أو المعروفة إعلامياً بجماعة جهيمان العتيبي صاحبة حادثة السيطرة على الحرم الشهيرة نهاية السبعينيات، ومروراً باعتقال قادة ونُخب تيار الصحوة السلمي- وأبرز منظريه الشيوخ سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر- الذي كان له انتقادات علنية مستمرة ودعا لإصلاحات جذرية في مختلف المجالات التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية[5]، وانتهاءً بالتيار الجهادي الداعي لاستهداف الوجود العسكري الأمريكي عقب نزوله السعودية في التسعينيات[6].
هنا غالباً ما تُستدعى العلاقة التاريخية بين قادة الدعوة وزعماء الدولة في السياق السعودي الحديث، ويتم الإضاءة على مبدأ “تقسيم العمل” بين الطرفين. فلقادة الدولة (آل سعود) السيادة في المجال السياسي، أما قادة الدعوة (الوهابية) فنطاق نفوذهم مقصور على المجالات الدينية التعليمية والتثقيفية في مقابل إسباغهم الشرعية على منظومة الحكم وترك المجال السياسي لها. في الحقيقة، فإن هذا التصور ليس مطّرداً في جميع المراحل حتى بعد قيام الدولة السعودية الحديثة في القرن العشرين فحالات الشد والجذب بين السلطتين السياسية والدينية في ما يخص الجوانب القانونية والتشريعية والقضائية بقيت موجودة على مدار أربعة عقود متتالية قبيل سبعينيات القرن الماضي[7].
فخلال أربعين عاماً من قيادته للمؤسسات الدينية الرسمية المعاصرة بسائر فروعها القضائية والعلمائية والتعليمية، برز الشيخ محمد ابن ابراهيم آل الشيخ شخصيةً محوريةً قويةً ومستقلةً على صعيد المواقف السياسة الداخلية وسجل هجوماً لاذعاً لعشرات المرات على برامج وقوانين وتشريعات تحديثية وتغريبية انتهجت من قبل السلطة السياسية زمن الملكين سعود وفيصل[8].
بيد أن الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا أشار في دراسته المميزة “زمن الصحوة” -عند سرده لديناميات العلاقة بين الحكام والعلماء وتطورها عبر تاريخ الدعوة الوهابية والدولة السعودية- إلى تبلور عرف يقضي بتوكيل مجالات سياسية معينة بالحكام حصراً كالعلاقات مع الدول الخارجية خاصة غير الإسلامية، وهو ما يفسر عدم وجود اعتراضات علمائية على تحالف المملكة العربية السعودية مع الانجليز مطلع القرن العشرين، ومع الولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية[9].
أما منذ بداية السبعينيات فقد تلاشى الدور المعارض للمؤسسة الدينية ورموزها في مجالات السياسية الداخلية أيضاً. وبدأت تنضج رؤية عقدية ويتشكل خطاب جديد عنوانه التبعية الكاملة للسلطة الحاكمة، والوقوف معها بقوة ضد أي جهة معارضة كما مر معنا، ووصل الأمر لإدانة مبدأ النقد العلني للسلطة والتأصيل لنظرية النصيحة السرية، قال الشيخ ابن باز “الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان”[10]، وتجنب إيغار صدور الناس على الحاكم -ولو كان كافراً- مخافة أن تحصل فتن وفوضى كما ذكر الشيخ ابن عثيمين[11]، بخلاف رأس المؤسسة الدينية السابق الشيخ محمد ابن ابراهيم آل الشيخ صاحب الفتاوى السياسية شديدة اللهجة.
وبالرغم من أن هذا التحول في دور المؤسسة الدينية السياسي حدث مع تصدر الشيخين ابن باز وابن عثيمين- قطبي المؤسسة الدينية الرسمية بعد رحيل ابن ابراهيم آل الشيخ- للمجالات الدينية وانحيازهما الواضح للسلطة[12]، بيد أنه لا يمكن قطع النظر عن العوامل الأخرى الممهدة أو المرافقة لهذا التحول الكبير في العلاقة مع السلطة. فقد تحدث الكثيرون عن أثر تقنين السلطة للمجالات الدينية عبر بناء المؤسسات الدينية الرسمية وإلحاقها بالدولة، في مقدمتها: “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي تأسست عام 1926م وأصبحت الجهة الحصرية لممارسة هذه الشعيرة ذات الطابع “الثوري”[13].
ثم تلاها تأسيس مؤسسات الإفتاء والقضاء والمعاهد والجامعات الرسمية في الخمسينيات والستينيات. هنا، تبرز خطورة تحول الدين إلى مؤسسة وإلى بيروقراطية رسمية هرمية، أو ما يسميه علي عزت بيجوفيتش “الدين المؤسّسيّ الزائف”[14]، وإن كان وجود شخصية باستقلالية وحزم محمد ابن ابراهيم آل الشيخ على رأس المؤسسة الدينية حال مؤقتاً دون تغول السلطة السياسية[15].
إذن فبعد وفاة الشيخ محمد ابن ابراهيم آل الشيخ، مالت المؤسسة الدينية وفي القلب منها هيئة كبار العلماء بقيادة الشيخين ابن باز وابن عثيمين إلى ترسيخ عقيدة التبعية السياسية، والتنفير من أي عمل سياسي معارض، وإسناد السلطة ضده، وهي الجوانب التي تبناها التيار الجامي المدخلي، بيد أنه زاد عليها التخصص في الهجوم على الجماعات الإسلامية الأخرى لاسيما الحركية والسياسية. هذا فيما يخص أثر هيئة كبار العلماء في التيار الجامي المدخلي. أما الرافد الآخر التأسيسي لهذا الفكر، فهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
الشيخ الألباني هو الأب المؤسس لما أُطلق عليه لاحقاً تيار أهل الحديث الجدد، وهو تيار ثوري للغاية في التعامل مع المنظومات المعرفية الإسلامية بما فيها من فقه وحديث، وهادئ وانعزالي في ما يتعلق بالسياسة والدولة، ورفضي وإقصائي للتيارات الإسلامية الأخرى لاسيما الحركية والسياسية.
ففيما يتصل بالفقه، نجد رفضاً راديكالياً لمرجعية المذاهب السنيّة الأربعة واستبدال ما أَطلق عليه الألباني “فقه الحديث” بها، ثم وسع الألباني مجال نقده ليشمل سائر أقسام الأحاديث[16]. أما بخصوص المنهج الهادئ الانسحابي، فمن أشهر مقولات الألباني التي تحولت لأيديولوجيا ثابتة عند من أتى بعده هي “من السياسة ترك السياسة” وواجب الوقت ومنهج التغيير يقوم على التصفية والتربية؛ تصفية المعارف الإسلامية عبر تنقية السنة ثم تفسير القرآن وفقاً للسنة الصحيحة، والتربية على العقيدة الصحيحة المستمدة من السلف الصالح، وكان يعد الانشغال بالسياسة مضيعة للوقت وهدراً للجهود فيما لا طائل منه، وهذه النقطة الأخيرة دفعته للدخول في سجالات وخلافات مستمرة مع التيارات الإسلامية السياسية، ولإصدار فتواه الشهيرة لأهل فلسطين بوجوب مغادرة الضفة وغزة حفظاً لعقيدتهم وكي يستطيعوا ممارسة دينهم[17].
الخطوط العريضة للأطروحات السابقة ستصبح الركائز الفكرية التأسيسية لمحمد بن أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي أساتذة علم الحديث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي ستغدو في مرحلة لاحقة معقلاً رئيساً للتيار الجامي المدخلي، ونقطة إشعاع أساسية لتصدير فكرهم عالمياً[18].
وفي الأردن حيث استقر الشيخ الألباني ونضجت دعوته في طبعتها الأخيرة في آخر عقدين من القرن العشرين وهما آخر عقدين من حياته، سيشكل مجموعة من أبرز طلابه الملازمين له التيار “الألباني” هناك، في مقدمتهم على الحلبي وسليم الهلالي وأبو ليلى محمد أحمد ومشهور حسن سلمان وغيرهم[19].
بيد أن التجمعين المذكورين (السعودي والأردني) سيذهبان بعيداً ليجعلا بوصلتهما الدعوية هي التنظير لطاعة الحكام، وأنها من أصول العقيدة الصحيحة[20]، في حين أن هذا لم يكن ديدن الشيخ الألباني إذ كان مشغولاً بالقضايا العلمية، وأثبت استقلاله السياسي في مواطن عديدة وفي قضايا حساسة للغاية، كرفضه الاعتراف بإمامة غير القرشي وهو ما ينسحب على حكام السعودية[21]، إضافةً إلى رفضه لاستعانة السعودية بالقوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية[22]، الحدث الذي سيؤدي في النهاية لتقدم وازدهار التيار الجامي المدخلي مطلع التسعينيات في السعودية أولاً ثم عبر العالم.
سياقات الظهور
بعد أن تحدثنا عن البيئة الفكرية التي تتلمذ عليها ونهل منها التيار الجامي المدخلي، وكي تكتمل الصورة، لا بد من الإضاءة على أهم السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة به.
فقُبيل ظهور التيار الجامي المدخلي في السعودية، سواءً في الحقبة التي سبقت حرب الخليج الأولى والتدخل الأجنبي في السعودية، أو التي أعقبته، كان الحراك الإسلامي ممثلاً بتيار الصحوة في حالة احتجاج وصعود وتعبئة اجتماعية سياسية تدريجية غير مسبوقة. وتيار الصحوة هو ذلك التيار الذي نشأ خلال التزواج بين الأفكار السلفية المحلية والأفكار الإخوانية الوافدة وأهمها الأفكار والتنظيرات الحركية والسياسية للشيخ السوري محمد سرور زين العابدين والمفكر المصري محمد قطب[23].
وقد أشار لاكروا إلى أن تيار الصحوة جسد التهديد والتحدي الأكبر للسلطة السعودية على مدار تاريخها الطويل، وذلك لنجاحه في معالجة التقطيع والتجزئة التي فرضتها السلطة على النظام الاجتماعي السياسي لعقود عبر تقسيمه لفضاءات ومجالات اجتماعية معزولة عن بعضها البعض، وبالأخص المجالين الديني والثقافي. المجالان الأخيران كانا منفصلين تماماً على مستوى الإنسان وعلى مستوى المكان، كما أنهما كانا معزولين أيضاً عن باقي مجالات المجتمع. المجال الديني بما يضمه من علماء وطلاب علم ديني وشرائح شعبية متدينة، والمجال الثقافي بما يحويه من مفكرين حداثيين ونخب تكنوقراط وقطاعات شعبية ذات نمط حياة ليبرالي[24].
صحيح أن تيار الصحوة ظهر أثره التصعيدي على المستوى الوطني والعالمي بعد حرب الخليج الأولى ونزول القوات الأمريكية للسعودية، إذ نظّم نفسه أكثر وجهر بمطالبه الإصلاحية الجذرية الجريئة في مختلف المجالات: السياسية خاصةً فيما يتصل بالعلاقة مع أمريكا، والدستورية بالمطالبة بالشورى، وقضايا العدالة الاجتماعية والمطالب الحقوقية، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالأحكام الإسلامية في جميع ما سبق[25]. غير أنه كان قد طوّر خطابه من الهجوم على الدوائر العلمانية الحداثية في السعودية التي تشكلت خلال العقود السابقة وكان لها أنشطة وأندية ثقافية وفضاء اجتماعي مستقل، إلى مناهضة النظام السياسي السعودي- الراعي لها وأصل المشكلة-، أولاً بشكل مبطن عبر الهجوم على حليفه الأمريكي وسياساته (وهو أمر جديد في البيئة السعودية) لاسيما في دعم إسرائيل خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينيات؛ أي قبل حرب الخليج، ثم صراحةً عبر الخطب الحماسية والمحاضرات الثقافية ومذكرات ولوائح المطالب المتتالية الموجهة لرأس السلطة[26].
بيد أن هذه الحركة الاحتجاجية الواسعة لم تكلل بالنجاح وتم القضاء عليها بسهولة كبيرة جداً حتى قبل أن تستخدم السلطة القمع من الأعلى. هذا، رغم قدرة الصحوة على التعبئة العابرة للفضاءات والمجالات الاجتماعية المختلفة عبر اختراق علماء ومثقفي الصحوة للمجالين الديني والثقافي وحشدهم الناجح فيهما وبينهما، ورغم امتلاكها للموارد الشرعية والحركية الكثيرة، والسبب الرئيس في نظر لاكروا هو افتقارها “لهياكل تعبوية متينة يمكنها الاعتماد عليها لمواصلة الاحتجاجات” فعناصر الصحوة كانوا من خلفيات وعوالم اجتماعية مختلفة للغاية ولم تكن نظرتهم للهدف من وراء الحركة واحدة[27].
إذن فالفشل سببه غياب أيديولوجيا محددة لطريقة التغيير أو الهدف النهائي منه، وكذلك عدم وجود هياكل اجتماعية صلبة أو ما يمكن أن نطلق عليه “عصبيات” بالمصطلح الخلدوني، فالظاهر أن الصحوة اعتمدت على حشود من الأفراد لا مجموعات اجتماعية ذات حس وأهداف ومصير جماعي راسخ. ويمكن أن نضيف لها عاملاً آخر وهو غياب أنصار للصحوة في مراكز قيادية أو قطاعات حساسة داخل مؤسسات الدولة خاصة العسكرية، وعدم وجود جناح عسكري مسلح قوي للصحوة، إضافةً إلى الوضع الاقتصادي المريح شعبياً وهو عامل هام.
وعليه فبعد التدخل الأجنبي: نزول قوات أمريكية للسعودية، وإعادة تشكيل النظام العالمي ليصبح نظاماً عالمياً أحادي القطب، وفي ظل مواجهة المعارضة الإسلامية الصاعدة المطالبة بخروج القوات الأمريكية وبالإصلاحات السياسية، وتأييد المؤسسة الدينية الرسمية للسلطة السياسية، في خضم هذه الأجواء، دفعت السلطات التيار الجامي المدخلي من الهامش النسبي الذي كانوا فيه في نهاية الثمانينيات إلى الصدارة في مطلع التسعينيات، معتمدة على خبرته وتمرسه في عداء الصحوة وأطروحاتها منذ الستينيات، فوفرت له مباشرة الموارد والمنابر الرسمية اللازمة لصد هذه الموجة المعارضة. الخطاب الجامي المدخلي تمحور حول نقطتين، الأولى: تحليل معارضة الصحوة للنظام على أنها نتيجة ضعف في العلم الشرعي وانتهازية سياسية، والثانية: إظهار الولاء غير المشروط للأسرة المالكة[28].
من الآن فصاعداً سيبدأ التيار الجامي المدخلي أو “أهل الحديث الجدد” في الانتشار والتمدد عبر وسيلتين: الأشخاص، والمؤسسات. أما فيما يخص الوسيلة الأولى، فبالتأكيد، يأتي في الصدارة تلاميذ الشيخ الألباني في الأردن كما قلنا سابقاً. إضافةً إلى الشيخ اليمني مقبل بن هادي الوادعي، أحد تلاميذ الشيخ الألباني أيضاً، وصاحب النفوذ الديني والاجتماعي الكبير في اليمن. الوسيلة الثانية كانت المؤسسات الدينية الرسمية إذ مكنت الدولة الشيوخ محمد بن أمان الجامي وربيع بن هادي المدخلي من السيطرة عليها بهدف تصدير “الإسلام السعودي”. في مقدمة هذه المؤسسات: الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة التي تضم نسبة كبيرة من الطلاب غير السعوديين، وقد أخرج الجامي والمدخلي أغلب الأساتذة الصحويين والإخوانيين منها لتغدو معقلاً جامياً بدءاً من العام 1992-1993[29].
الانتشار والأفكار والآثار
وعليه، فبإمكاننا تقسيم الخريطة الجامية المدخلية إلى معاقل رئيسة وهي التي تضم جامعات أو مراكز أو تجمعات ذات حضور علمي أو إعلامي قوي كالسعودية بالدرجة الأولى، ثم اليمن جنوباً، والأردن شمالاً. فإن كانت السعودية هي بلد المنشأ لهذا الفكر كجزء من الحالة الدينية السلفية المسيطرة هناك، فإن تأسيس التيار السلفي المعاصر في اليمن يعود لأحد رؤوس الفكر الجامي المدخلي وهو الشيخ مقبل بن هادي الوادعي ومؤسسته هناك “دار الحديث” التي انطلقت من محافظة صعدة لتنتشر فروعها لاحقاً فيما عرف وقتها باليمن الشمالي[30].
أما الأردن فقد أسس عدد من طلبة العلم المقربين من الشيخ الألباني “مركز الإمام الألباني” مطلع الألفية الجديدة، وهم سليم الهلالي وعلي الحلبي ومشهور حسن سلمان ومحمد موسى نصر وحسين عوايشة والتحق بهم آخرون لاحقاً. وقد حظي هذا التوجه “بدعم واحتضان لا سابق لهما” وتمتعوا ب “حضور كبير في الإعلام المرئي.. وظهرت آلاف المواقع والمنتديات على شبكة الانترنت” كما بين الباحث الأردني محمد أبو رمان[31].
ومن اللافت أيضاً، أنه في منتصف التسعينيات، مع ميل التوجه السلفي “السياسي” باتجاه السلفية الجهادية وأفغانستان شرقاً، غرّب الفكر السلفي المدخلي “اللا سياسي” شطر أوروبا وتحديداً فرنسا وهولندا عبر دعاة كثر كانوا قد أنهوا دراستهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة وجامعات أخرى بالسعودية[32]، وأيضاً من خلال المنصات الالكترونية الناطقة بالإنجليزية والمدعومة من النظام السعودي[33].
ثم تجد وجوداً محدوداً للجامية المدخلية في مصر من خلال جمعية أنصار السنة المحمدية[34]، إضافةً إلى بعض الشخصيات الدعوية أشهرهم محمد سعيد رسلان وطلعت زهران ومحمود لطفي عامر وهشام البيلي وغيرهم[35]، وحضوراً خفيفاً متأخرا ًكما في ليبيا سنوات قليلة قبيل الربيع العربي من خلال تعيين بعض الخطباء الذين درسوا على علماء محليين في السعودية واليمن[36].
الانطلاقة الفكرية للأطروحة الجامية كانت تؤكد على الطاعة غير المشروطة لـ “ولاة الأمر” والتحذير من المعارضة والتنديد بأي نشاط سياسي جماعي، واعتبار ما سبق من أصول العقيدة الصحيحة. ثم طوّر الجاميون تطبيقات عقيدة الطاعة والتبعية السياسية إلى التنسيق الأمني مع الأجهزة الرسمية، وفي النهاية، برزت ظاهرة المدخلية المسلحة التي تقاتل في صفوف قوى الانقلاب والثورة المضادة كما في ليبيا واليمن.
ففيما يخص أدبيات التنسيق الأمني، أصدر الجاميون في السعودية فتاوى كثيرة لتسويغ هذا السلوك من الناحية الدينية الشرعية، وقد تواتر عنهم كتابة التقارير التحريضية التي تدعو السلطات لسرعة اتخاذ الإجراءات القمعية بحق زملائهم. لعل أشهرها ما ذكره المعارض السعودي الدكتور سعد الفقيه بعنوان “التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية -حقائق ووثائق-“. في هذا التقرير، حذر كاتبوه السلطات من وجود مخططات لتنظيم سري يعمل على قلب نظام الحكم في السعودية، وطالبوها بسرعة التدخل، ووفقاً للفقيه فإن هذا التحريض ساهم بصورة كبيرة في إقناع السلطات بخطورة تيار الصحوة في السعودية وبضرورة ضربه سريعاً، وقد كان[37].
ثم انتقل هذا التنسيق والانحياز العملي للسلطات إلى ما وراء الحدود السعودية ليشمل جُل الدول العربية[38] مما جعل الآخرين ينعتونهم بلقب “شيوخ أمن الدولة” في مصر على سبيل المثال[39].
ومع قيام الثورات العربية، وكما هو متوقع، في المجمل، وقف المداخلة بكل قوة ضدها واعتبروها خروجاً على ولاة الأمور “الشرعيين” وإثارة للفتن والفوضى، ثم مع إقبال موجة الثورات المضادة، حرّضوا على قتل الثوار والمعارضين. قال الشيخ المصري محمد سعيد رسلان: “كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي، يعني لو اجتمع جماعةٌ من الضلال من أهل الأهواء على الشبكة العنكبوتية وكونوا مجموعة لنصرة المظلوم في قرية، مثلاً كسبك الأحد، هؤلاء خوارج، وينبغي أن يعاملوا معاملة الخوارج، وأن يدل عليهم، وأن يرشد إليهم، وأن يعاملوا بما يستحقونه من النكال والإزراء والهوان والصفع على الأقفية”[40]. بيد أنه حدث تطور لافت وغير مسبوق، وهو انخراط شرائح من المداخلة في العمل الجماعي وتشكيلهم ميليشيات مسلحة مؤيدة ومساندة للثورات المضادة في اليمن وليبيا.
مع بداية المظاهرات في ليبيا 2011، أصدر الشيخ ربيع المدخلي من مكان اقامته في السعودية فتوىً يندد فيها بالثورة والانقسام الذي أحدثته في المجتمع، وقد تبعه بعض الشخصيات السلفية في ليبيا حيث ظهروا في المساجد وعلى الشاشات لإدانة وتجريم الحراك والتحذير من الخطر الذي يتهدد وحدة وأمن البلاد. ولكن بقي موقف المداخلة غامضاً لاسيما مع تطور المجريات على الأرض لصالح الثوار ضد القذافي. ونتيجة لورود بعض فتاوى متضاربة من السعودية شارك بعض المداخلة في الثورة وإن كان متأخراً أو من خلال أدوار ثانوية[41].
وبعد سقوط نظام القذافي، أسّس السلفيون الحركيون-الذين قاموا بأدوار عسكرية هامة ساهمت في الإطاحة بنظام القذافي- أحزاباً وشاركوا في الانتخابات ووصلوا لمناصب كبيرة داخل مؤسسات الدولة الجديدة: البرلمان والوزارات لاسيما الدينية والأمنية. أما المداخلة فكما أنهم لم يكن لهم دور يذكر في الثورة فهم أيضاً لم يشاركوا في الانتخابات. إنما عملوا على التغيير من الأسفل من خلال: ممارسة العمل الدعوي، ومحاولة ضبط الأمن في المجتمعات المحلية من خلال مجموعاتهم المسلحة، والتغلغل في المؤسسات الدينية والأمنية في الدولة الجديدة[42].
ومع ظهور مشروع الانقلاب على السلطة الجديدة بقيادة الجنرال خليفة حفتر -أحد خلفاء القذافي- انضمت له كتائب المداخلة المسلحة وقاتلت في صفه ودانت بالطاعة المطلقة له[43]، وقد قامت بمجازر وتصفيات جماعية وحشية بحق مخالفيها[44]، ولا يختلف الأمر كثيراً مع مداخلة اليمن بقيادة هاني بن بريك[45].
إذن فالسلفية المدخلية طورت عقيدة طاعة الحكام من الولاء المطلق لهم والتشهير والتحذير من خصومهم وتحديداً الإسلاميين، إلى التنسيق الأمني مع المباحث والمخابرات والإرشاد على معارضي ومخالفي السلطات والدعوة لقمعهم وقتلهم، ثم في النهاية شكلت ميليشيات مسلحة مناصرة للثورات المضادة كما في ليبيا واليمن.
خاتمة
باختصار، فإن عقيدة طاعة الحكام غير المحدودة عند السلفية المدخلية لم تنبت من فراغ وإن كانت وصلت حداً غير مسبوق. فالتشديد على مسألة طاعة الحاكم وإدانة أي شكل من أشكال الاحتجاج أو النقد العلني، والإفتاء للحاكم بالبطش بمعارضيه كانت موجودة وراسخة من خلال المؤسسات الدينية الرسمية وفي مقدمتها هيئة كبار العلماء في السعودية وعبر أهم رموزها الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين. إنما الإضافة والتطور النوعي الذي قام به التيار المدخلي هو قدر الاهتمام بهذا الجانب وجعله من أهم أصول الدين، ثم التأصيل الشرعي للتنسيق الأمني الكامل مع مختلف أجهزة المخابرات للإرشاد والإبلاغ عن أي نشاط أو تحرك اجتماعي أو سياسي ضد السلطات أياً كان توجهها إلا إن كانت من الحركات الإسلامية، وقد أصدروا فتاوى كثيرة تبرر أعمالهم التجسسية وتدعو لقمع وقتل المعارضين. ثم دخلت المدخلية حقبة جديدة بعد الربيع العربي، فانتظمت في تشكيلات عسكرية مناصرة للثورة المضادة في ليبيا واليمن. عموماً، فإن التيار الجامي المدخلي ما زال أقلية داخل التيار السلفي وإن تمتع بحضور قوي في معاقلها الرئيسة في السعودية واليمن الأردن وفي بعض الحالات والمناطق التي للسعودية فيها ذراع كما في شرق ليبيا.
وعلاج هذه الظاهرة يكون بمسارين: فكري وحركي. أما الحركي وهو الأهم في نظر الباحث، فيكون باستكمال الثورات وهزيمة الثورة المضادة فقد بان الارتباط العضوي الكبير بين التيار المدخلي وأجهزة استخبارات الدول خاصة السعودية. والعلاج الفكري يكون بإسقاط الاجتهادات الرسمية المعاصرة التي تعبّد الطريق لعقيدة الطاعة، وإحياء تراث ومرجعية الأئمة الأربعة المتبوعين وأقرانهم وخلفائهم في استقلال الرأي السياسي، وسيرتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والأخذ على يد الظالم، بل والثورة عليه. ثم الإضاءة الهامة على تغير نموذج الأنظمة في هذا العصر عن النماذج التاريخية وقت قوة الحضارة الإسلامية واستقلالها عن النفوذ الخارجي، فإن كانت التبعية السياسية المطلقة غير واردة وقتها، فكيف الآن وجل أنظمة ما بعد الاستعمار الحالية تابعة للخارج ودورها وظيفي خادم للقوى الدولية فهي منها وليست منا وينبغي التعامل معها على هذا الأساس.
[1] مقطع مرئي لعبد الفتاح بن غلبون من برنامج تغطية خاصة في قناة ليبيا الإخبارية، الدقيقة 30-31، 22 أكتوبر 2016.
[2] نسبة إلى الشيخ الأثيوبي محمد بن أمان الجامي (1930-1995)؛ عميد كلية الحديث في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
[3] نسبة إلى الشيخ السعودي ربيع بن هادي المدخلي، من مواليد 1931؛ أحد تلامذة الشيخ ناصرالدين الألباني، وتلميذ الشيخ محمد ابن أمان الجامي.
[4] انظر: محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، ط 1، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016)، ص 20-21.
[5] نفسه، من ص 41-52.
[6] انظر: أبو مصعب السوري، “شهادة قادة المجاهدين ورؤوس الإصلاح والمعارضة في بلاد الحرمين على علماء السلطان في بلادهم المسماة (سعودية)”، نسخة إلكترونية، منبر التوحيد والجهاد، ص 65.
[7] انظر: محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، ص 36-39.
[8] نفسه، ص 39.
[9] انظر: ستيفان لاكروا، “زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية”، ط 1، الترجمة بإشراف: عبد الحق الزموري، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012)، ص 20.
[10] انظر: مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (8/ 210).
[11] انظر: مقابلة الشيخ ابن عثيمين مع جريدة (المسلمون)، العدد 602، 2-4-1417 ه.
[12] انظر: محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، ص 40،42.
[13] نظر: ستيفان لاكروا، “زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية”، ص 24.
[14] انظر: علي عزت بيجوفيتش، “الإسلام بين الشرق والغرب”، ط 1، ترجمة: محمد يوسف عدس، (بيروت: مؤسسة العلم الحديث، 1994)، ص 115.
[15] انظر: عبد العزيز الخضر، “السعودية سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية”، ط 1، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010)، ص 68.
[16] ستيفان لاكروا، “زمن الصحوة”، 112-114.
[17] نفسه، 118-119.
[18] Stephane Lacroix, “between revolution and apoliticism” in Global Salafism: Islam’s new religious movement, edited by Roel Meijer, (oxford university press, 2014), 14-15.
[19] انظر: محمد أبو رمان- حسن أبو هنية، “السلفية المحافظة: استراتيجية “أسلمة المجتمع” وسؤال العلاقة “الملتبسة” مع الدولة، (الأردن: مؤسسة فريدريتش إيبرت، 2010)، 35.
[20] محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، 55.
[21] Stephane Lacroix, “between revolution and apoliticism, 14.
[22] انظر: الشيخ الألباني ينكر علناً على النظام السعودي، صوتية للشيخ الألباني.
[23] انظر: محمد أبو رمان، “الصراع مع السلفية”، 44-48.
[24] انظر: ستيفان لاكروا، “زمن الصحوة”، 13، 37-54.
[25] انظر: محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، 50-52.
[26] انظر: ستيفان لاكروا، “زمن الصحوة”، 200-211.
[27] نفسه، 53-54.
[28] Stephane Lacroix, “between revolution and apoliticism”, 14.
[29] Ibid,
[30] محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، 103.
[31] نقسه، 139.
[32] Roel Meijer, ‘Introduction’ in “Global Salafism: Islam’s New Religious Movement”, (oxford university press, 2014).
[33] Thomas Hegghammer, “jihadi-salafis or revolutionaries” in “Global Salafism, 21.
[34] انظر: معتز زاهر، “الحركات السلفية المصرية وثورة يناير 2011″، (اسطنبول: المعهد المصري للدراسات، 2 مايو 2019)، 20.
[35] انظر، محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، 150-154.
[36] Virginia Collombier, “Salafi politics: (political) and (Quietist) salafis in the struggle for the Libyan state”, middle east directions programme, (San Domenico, European university Institute, 2020), 4.
[37] انظر: ستيفان لاكروا، “زمن الصحوة”، ص 291.
[38] وقد أشار الأكاديمي السعودي الدكتور سعيد الغامدي لألوان متعددة من التنسيق الأمني منذ تسعينيات القرن الماضي، تراوحت بين العمل كمخبرين، وبين استقبال وتدريس عناصر وأعضاء مخابرات عربية ليصبحوا خطباء ودعاة شغلهم الشاغل إجهاض أي حراك إسلامي مستقل، انظر: عربي 21- بسام ناصر، لماذا حرض المداخلة على القتال بليبيا وامتنعوا عنع بسورية؟، 14 أبريل 2019.
[39] انظر: محمد أبو رمان، “الصراع على السلفية”، ص 150.
[40] انظر: مقطع مرئي من خطبة للشيخ محمد سعيد رسلان، الزنديق رسلان، تعرف على الوشاية عند المداخلة، 21 فبراير 2021.
[41] Virginia Collombier, “Salafi politics: (political) and (Quietist) Salafis in the struggle for the Libyan state”, 5-6.
[42] Ibid, 9-12.
[43] انظر: مقطع مرئي لأحد القادة العسكريين بالميليشيات المدخلية الليبيبة، جديد.. طاعة ولي الأمر عند مداخلة حفتر.
[44] انظر: محمد فتوح، “السلفية المدخلية في ليبيا: ميليشيات حفتر الدينية”، (اسطنبول: المعهد المصري للدراسات، مايو 2019).
انظر أيضاً: قطب العربي، المدخلية تنظيم إرهابي على خطى داعش، عربي 21، 5 يوليو 2020.
[45] انظر: نفس المصدر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق