حكم إقامة سلام مع إسرائيل.. مناظرة فقهية بين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ يوسف القرضاوي(*)
العناصر:
السلام مع إسرائيل: رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
صلح الحديبية كان مع قريش وهي مغتصبة لأموال المسلمين - رد الشيخ بن باز على الشيخ القرضاوي
جهاد الدفع فرض عين واليهود معتدون ولم يجنحوا للسلم: رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
التفاصيل:
(1) السلام مع إسرائيل - رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
س: نشرت الصحف فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة العربية السعودية حول السلام مع إسرائيل، أفادت أن الشيخ الجليل يقر هذا السلام ـ مع ما فيه من ثغرات ـ ما دام ولي الأمر يرى فيه المصلحة، فما تعليق فضيلتكم على ذلك؟
ج: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد من كبار علماء المسلمين المرموقين في هذا العصر. وفتاواه معتبرة في الأوساط العلمية والدينية، وهو رجل يوثق بعلمه ودينه. نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى.
ولكنه ـ على كل حال ـ ليس بمعصوم، فهو بشر يصيب ويخطئ، وقد تعلمنا من سلفنا الصالح: أن كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أجل هذا جاء التحذير من (زلات العلماء)، ومن (زيغة الحكيم) كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه، فيما رواه أبو داود.
وقد قال معاذ: " احذروا زيغة الحكيم،ولا يثنينكم ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع".
وفتوى العلامة ابن باز التي نشرت حول السلام مع إسرائيل ـ إن صحت عنه ـ يخالفه فيها الكثير من علماء المسلمين، وأنا منهم، على الرغم من مودتي وتقديري الكبير له. ولكن كما قال الحافظ الذهبي عن شيخه الإمام ابن تيمية: شيخ الإسلام حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه!
في رأيي أن موضع الخطأ في فتوى الشيخ حفظه الله ليست في الحكم الشرعي والاستدلال له، فالحكم في ذاته صحيح، والاستدلال له لا غبار عليه، ولكن الخطأ هنا في تنـزيل الحكم على الواقع. فهو تنـزيل غير صحيح، وهو ما يسميه الأصوليون "تحقيق المناط". فالمناط الذي بني عليه الحكم لم يتحقق. وأوضح ذلك فيما يلي:
بنى الشيخ ابن باز فتواه على أمرين أو على دليلين:
الأول: قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله}.
الثاني: أن الهدنة تجوز شرعًا مؤقته ومطلقة، وكلاهما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين. فقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة على ترك الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وصالح كثيرًا من قبائل العرب صلحًا مطلقًا. فلما فتحت مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجل من لا عهد له أربعة أشهر.
وعلى أساس هذين الدليلين قال الشيخ: يجوز لولي الأمر أن يعقد الهدنة إذا رأى المصلحة في ذلك.
وننظر في الدليل الأول للشيخ العلامة. وهو الآية الكريمة من سورة الأنفال، فنقول: لا مشاحّة في أن العدو إذا جنح للسلم ينبغي نحن أن نجنح لها متوكلين على الله. ولكن تطبيق هذا على واقع اليهود معنا غير صحيح، لأن اليهود الغاصبين لم يجنحوا للسلم يوما.
وكيف يعتبر اليهود جانحين للسلم، بعد أن اغتصبوا الأرض، وسفكوا الدماء، وشردوا الأهل، وأخرجوا الناس من ديارهم بغير حق؟
ما مثل اليهود مع أهل فلسطين إلا كمثل رجل اغتصب دارك، واحتلها بأهله وأولاده وأتباعه بالقوة والسلاح، وأخرجك وأهلك وعيالك منها، وشردك في العراء، وظللت أنت وعيالك تقاومه وتحاربه، وتقاتله ويقاتلك، لكي تسترجع دارك، وتسترد حقك. . وبعد مدة طالت من الزمن قال لك: تعال أصالحك وأسالمك. سأترك لك حجرة من الدار الكبيرة ـ دارك أنت ـ على أن تسالمني ولا تحاربي، وتسلم لي ولا تنازعني، فسأترك لك الأرض مقابل سلامي، مع أن الأرض أو الحجرة التي سيتنازل عنها في زعمه هي أرضك أنت مقابل سلامه هو! فهل يعتبر مثل هذا المغتصب المصر على اغتصابه جانحًا للسلم؟!
إن الآية التي يجب أن نذكرها هنا ليست آية ( سورة الأنفال)، بل آية (سورة محمد) وهي قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}.
وننظر في الدليل الثاني للشيخ، وهو أن الهدنة تجوز مؤقتة ومطلقة، فنقول: إن الهدنة معناها وقف القتال، ولكن هل الذي وُقِّع مع اليهود مجرد هدنة تترك فيها الحرب، ويوقف فيها القتال، ويكف الناس بعضهم عن بعض؟
الواقع يقول: إن الذي حدث بين اليهود والفلسطينيين ليس مجرد هدنة، بل هو شيء أكبر وأخطر، هو اعتراف لليهود بأن الأرض التي اغتصبوها بالحديد والنار، وشردوا أهلها بالملايين، أصبحت ملكًا لهم، وأصبحت لهم السيادة الشرعية عليها، وغدت حيفا ويافا وعكا واللد والرملة وبير السبع ـ بل القدس نفسها ـ أرضا إسرائيلية. وأن هذه البلاد العربية الإسلامية التي ظلت أكثر من ثلاثة عشر قرنًا مع المسلمين، صارت جزءًا من دولة إسرائيل اليهودية الصهيونية،، ولم يعد لنا حق فيها، ولا حتى مجرد المطالبة بها. ومعنى هذا: أن ما أخذ بالسلاح والقوة اكتسب الشرعية!
ما حدث إذن ليس مجرد هدنة كما تصور شيخنا الكريم، بل هو اعتراف كامل بحق إسرائيل في أرضنا الإسلامية العربية، وفي سيادتهم عليها، وأنها خرجت من أيدينا إلى الأبد! فقد وقعنا على ذلك العقود، وأشهدنا على ذلك الشهود!
إننا هنا نخالف سماحة الشيخ في تطبيق الحكم الشرعي على الواقع الراهن، فهو تطبيق ـ في نظرنا ـ غير سليم.
وقد جرت عادت الشيخ معنا في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي الذي يرأسه سماحته، ألا نفصل في الأمور التي تحتاج إلى رأي الخبراء المتخصصين إلا بعد أن نسمع شروحهم، وننصت لآرائهم، ثم يحكم الفقهاء بعد ذلك.
هذا ما يحدث في الأمور المالية والاقتصادية حيث يُدْعَى لشرحها خبراء المال والاقتصاد.
وهو ما يحدث في الأمور الطبية، حيث يدعي لشرحها كبار المتخصصين من رجال الطب في الفرع الذي يبحث فيه.
ويحدث هذا في الأمور العلمية والفلكية، حيث يدعى الأساتذة المتخصصون فيها، لسماعهم والحوار معهم، قبل أن يحكم أهل الفقه.
وكان على الشيخ الكبير في هذا الموضوع الخطير الذي يتعلق بعدو ظللنا نحاربه ـ لبغيه وعدوانه ـ ما يقرب من خمسين سنة بعد قيام دولته، وعشرات السنين الأخرى قبل قيام الدولة ـ أن يستمع إلى رأي الخبراء في السياسة والسلم والحرب، الخبراء الثقات المأمونين الذين لا يدورون في فلك الحكام الخونة أو المتخاذلين، ليعلم منهم: هل جنح اليهود للسلم فعلاً؟ هل ما حدث أهو مجرد هدنة أم اعتراف كامل يسقط حقنا بالكلية؟
والأمر واضح كل الوضوح، فالمغتصب لا يعد جانحًا للسلم حتى يرد ما اغتصبه إلى أهله، والاعتراف بسيادة المغتصب على ما انتهبه من أرض ليس هو الهدنة التي أجازها الفقهاء مطلقة أو مؤقتة. ومارسها صلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين أو مع بعضهم، حتى مكَّنه الله منهم، ونصرهم عليهم في (حطّين) وفي (فتح بيت المقدس)، بعد أن ظل تسعين عامًا في أيديهم.
لا أريد أن أتطرق إلى موضوع هذا السلام الهزيل النحيل، وما فيه من ثغرات هائلة، فقد أخذت فيه إسرائيل ولم تعط، وأعلنت من أول يوم بكل تبجح: أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لشعب إسرائيل، فبقيت مشكلات القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود معلقة، فماذا حل هذا السلام المزعوم من مشكلات إذن؟
ومع هذا أنا لا أتحدث هنا عن السلام من ناحية الموضوع، ولكن من ناحية المبدأ. فالسلام بهذه الصيغة مرفوض شرعًا. ولطالما قلت، ولا زلت أؤكد: إن فلسطين كلها أرض إسلامية، فليست هي ملك الفلسطينيين وحدهم حتى يتصرفوا فيها دون الأمة الإسلامية، فهي ملك الأمة كل الأمة، في سائر أجيالها، ولو فرط جيل وتقاعس لا يجوز أن يفرض تقاعسه وتخاذله على سائر أجيال الأمة المسلمة، لو فرط الفلسطينيون وتقاعسوا لوجب على الأمة أن تدافع عن حقها، وتقاتل عن أرضها وعن مسجدها الأقصى، فإن لم تستطع الدفاع والمقاتلة، فلتخاصم عنها بالبيان والتبليغ. فكيف والفلسطينيون أنفسهم يرفضون هذا الاستسلام ويقاومونه بكل ما يستطيعون؟
والمسلمون في ديار الإسلام يعجبون من العرب كيف تغيروا ما بين عشية وضحاها، وجعلوا العدو صديقًا، ووضعوا أيديهم في يد من قاتلهم وقتلهم وأخرجهم من ديارهم وأبنائهم. والموقف السليم هنا ما حكاه القرآن { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ } البقرة:246.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. آمين.
(2) صلح الحديبية كان مع قريش وهي مغتصبة لأموال المسلمين - رد الشيخ بن باز على الشيخ القرضاوي
إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي المنشور في مجلة المجتمع العدد 1133 الصادرة يوم 9 من شعبان 1415هـ الموافق 10/1/1995م. حول الصلح مع اليهود. وما صدر مني في ذلك من المقال المنشور في صحيفة "المسلمون" الصادرة في يوم 31 من رجب 1415هـ جوابًا لأسئلة موجهة إلى من بعض أبناء فلسطين.
وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك ليأمن الفلسطينيون في بلادهم ويتمكنوا من إقامة دينهم.
وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب. لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم. إلى آخر ما ذكره فضيلته.
وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتقده، ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته. يرجع فيه للدليل. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف لقوله الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. وقال سبحانه {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}. وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة.
ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته، وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت، وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة المسلمون الصادرة في يوم الجمعة 19/8/1415هـ الموافق 20/1/1995م وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض الإخوان في ذلك.
ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم: "إن قريشًا قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم، مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم، ولمن يرغب الدخول في الإسلام.
ونقول أيضًا: جوابا لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: لو أن إنسانًا غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها . . أجاب الشيخ يوسف بأن هذا الصلح لا يصح. وهذا غريب جدًا بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج لعجزه عن أخذ حقه كله. وما لا يدرك كله لا يترك كله. . وقد قال الله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقال سبحانه {والصلح خير}. ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله، خير من بقائه في العراء.
وأما قوله عز وجل: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم}. فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف، والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه. أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم كما صرح بذلك الحافظ بن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية، لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم، وأنه أولى من القتال . . وهو عليه الصلاة والسلام، القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر، لقول الله عز وجل " لقد رضي الله عن المؤمنين . . . " آية 18 الفتح. ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة.
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم، إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية لا على العاطفة والاستحسان. مع الإطلاع على ما كتبته أخيرًا من الأجوبة الصادرة في صحيفة (المسلمون) في 19/8/1415هـ الموافق 20/1/1995م. وقد أوضحت فيها أن الواجب هو جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، إن كانوا من أهلها، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم، تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، في حربه وصلحه، وتمسكًا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة، ووقوفًا عندها، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة، والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين قادة وشعوبًا لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في دينه، والاستقامة عليه. وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها. . إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
(3) جهاد الدفع فرض عين واليهود معتدون ولم يجنحوا للسلم: رد الشيخ القرضاوي على الشيخ بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. . أما بعد
فقد اطلعت على ما كتبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ تعقيبًا على ردي على الفتوى التي صدرت من سماحته إجابة عن أسئلة وجهتها إليه مجلة "المسلمون" في 21 من رجب سنة 1415 هـ حول السلام مع دولة الاغتصاب الصهيوني (إسرائيل).
ويؤسفني أن أخالف سماحته في تعقيبه، كما خالفته في أصل الفتوى، وليس في العلم كبير، والحق أحق أن يتبع. وقد أكد الشيخ الأصل الأصيل الذي لا يحيد عالم عنه، وهو: أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بنيت ردي السابق على حقيقة مهمة ومسلمة لدى أهل العلم، وهي أن الفتوى لا تكون صحيحة واقعة موقعها، إلا إذا امتزج فيها فقه النصوص والأحكام بفقه الواقع، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر وقع الخلل، وقد ذكرت أن الخلل الذي وقع في فتوى سماحة الشيخ لم يجئ من عدم معرفة النصوص والأحكام، بل من عدم معرفة الواقع على حقيقته.
ومعرفة الواقع وفقهه قد يصل إليه الفقيه بنفسه، وقد يحتاج إلى خبراء يقرأ لهم أو يستمع إليهم كما في الأمور الطبية والفلكية والاقتصادية وغيرها، والقرآن الكريم يقول {فاسأل به خبيرًا} سورة الفرقان: الآية 59. {ولا ينبئك مثل خبير} سورة فاطر: الآية 14
وكنت أود من فضيلة الشيخ أن يرد على ما أثرته واستشكلته في فتواه حفظه الله، ولكنه رد على أمور جانبية وترك الأساس في القضية.
قلت في كلمتي تلك: إن الشيخ استدل بالآية الكريمة {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} الأنفال: 61 والآية محكمة في نظرنا، والحكم المستنبط منها مسلم في عمومة، ولكن تطبيقه على الواقع غير مسلم، فاليهود لم يجنحوا يومًا للسلم، وإنما هم مغتصبون معتدون، أخذوا الأرض من أهلها بالقوة والسلاح والعنف والإرهاب، وشردوهم منها، وأقاموا دولتهم العنصرية الظالمة عليها. وقد قلت: إن الغاصب لا يعتبر جانحًا للسلم، إلا إذا رد ما اغتصبه إلى أهله، أما أن يغتصب داري ويسمح لي بحجرة منها أسكنها بإذنه وتحت سلطانه، فليس هذا جنوحًا للسلم بحال. هذا ما قلته ولم أقل: إن من استطاع أن يأخذ حجرة من داره المغتصبة، فليس له أن يأخذها، ويجاهد لأخذ الباقي واسترداده، وهو الذي استنبطه الشيخ من قولي، وقال إنه خطأ محض وهو ما لم أقله.
لقد استدل الرئيس المصري الراحل أنور السادات ـ حين عقد اتفاقه مع إسرائيل ـ بالآية الكريمة: {وإن جنحوا للسلم. . } فقاطعه العرب جميعًا وخونوه، وقالوا: إن اليهود لم يجنحوا للسلم، وأعتقد أن الموقف لم يتغير، بل إن اتفاق عرفات أسوأ من اتفاق السادات، باعتراف الجميع، ومن نظر في التاريخ وفي حديث القرآن عنهم وفي واقعهم العملي، يجزم بأنهم لم يجنحوا للسلم أبدًا.
كيف وقد رأينا منهم مذبحة المسجد الإبراهيمي وقتل الركع السجود في بيت الله وفي شهر رمضان؟ كما رأيناهم يغتصبون شطر المسجد ويحرمون على المسلمين دخوله؟!
وكيف يعتبر جانحًا للسلم من يقيم المستوطنات إلى اليوم في أرض العرب والمسلمين، وينتـزع الأرض الزراعية من أيدي أصحابها وملاكها، ويأتي بالآلات (البلدوزرات) لتسويتها وإلحاقها بأملاك اليهود، وأهل الأرض يصرخون ويستغيثون ولا مغيث؟
كيف يعتبر جانحًا للسلم من يقيم الحفريات حول المسجد الأقصى ومن تحته، ويَعُدُّ العُدَّةَ لبناء الهيكل على أنقاض المسجد، وهو أحد أحلامه الكبرى؟
كيف يعتبر جانحًا للسلم من يهدد المنطقة كلها بترسانته النووية وأسلحته الكيماوية والجرثومية ويمتنع عن مجرد التوقيع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية؟
الحق أن كل البراهين والشواهد تدل بوضوح على أن اليهود في طبيعتهم العدوان، وفي مخططهم العدوان، فهم لا يزالون يحلمون بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل فإلى أرض خيبر. ومواقع بني قينقاع وقريظة والنضير!
وإنما سعى اليهود إلى هذا السلام المدعى حين رأوا تنامي الجهاد وحركة المقاومة الإسلامية التي غدت مصدر قلق ورعب لليهود، فأرادوا أن يضربوا الحركة (الأصولية) الفلسطينية بأيدي الفلسطينيين أنفسهم وهو ما نتمنى ألا يكون.
وأما ما ذكره الشيخ ابن باز من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش في الحديبية، وعقد هدنة معهم لعشر سنين، مع ظلمهم للمسلمين في دورهم وأموالهم، واستدلاله بذلك على جواز ما يصنع اليوم مع إسرائيل، فهو استدلال مردود، للفرق الشاسع بين الموقفين:
فقريش ليست عنصرًا دخيلاً على مكة، بل الدار دارها، والبلد بلدها، والمسلمون هاجروا إلى الله ورسوله مختارين لنصرة دينهم، لا لدنيا يصيبونها، ولم يكن المشركون يحبون هجرتهم ولهذا هاجروا مستخفين، إلا ما كان من عمر رضي الله عنه. وإن عبر القرآن عن ذلك بأنهم {أخرجوا من ديارهم وأموالهم} لما كان عليهم من التضييق والإيذاء.
بخلاف إسرائيل، فهي كيان دخيل على المنطقة، احتل الأرض، وأقام عليها دولته، وشرّد أهلها، وفرض على العرب والمسلمين دولة دخيلة معادية في قلب دار الإسلام ووطن العرب.
ثم إن ما فعله الرسول الكريم معهم ليس أكثر من مهادنة تتوقف فيها الحرب بين الفريقين مدة من الزمن، وهذا ما يمكن قبوله للضرورة أو للمصلحة إذا رأى ذلك أهل الحل والعقد، أما الذي حدث مع اليهود فهو ـ كما ذكرنا من قبل ـ شيء أكبر وأعظم. . إنه اعتراف بحق اليهود فيما اغتصبوه من أرض، وأنه غدا جزءًا من دولتهم، وأن لهم حق السيادة عليه، وأن سلطانهم عليه سلطان شرعي، وأنه لم يعد لنا حق شرعي في المطالبة به، وناهيك بالجهاد لاسترداده، بعد أن وقعنا على ذلك العقود، وأشهدنا الشهود من الدول الكبرى والأمم المتحدة! وهذا ما لم يرد عليه الشيخ الجليل سدده الله.
وأما استشهاد الشيخ بقوله تعالى: {والصلح خير} فليس على إطلاقه، فالصلح الذي يُضَيِع حقوق الأمة، أو يملك أرض الإسلام لغاصبيها ليس خيرًا، وفي الحديث المعروف الذي رواه الترمذي (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً، أو حلل حرامًا) فحتى الصلح بين المسلمين ليس خيرًا بإطلاق، بل هو مقيد بقيود لا تخفى على أهل العلم.
وقد عقّب سماحة الشيخ ابن باز على قولي بأن الآية التي ينبغي ذكرها هنا هي قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} إن هذا فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم، وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم. أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية، فلا بأس أن يدعوا إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره أ هـ
وأقول للشيخ: إن سياق الآية لا يدل على ما ذهب إليه، بل الآية تنهى عن الدعوة إلى السلم من منطلق الضعف. . لا من منطلق القوة، بدليل عطف الدعوة إلى السلم على الوهن في الآية {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} ويجوز أن تكون الواو للمعية، والآية تذكرة لهم بأنهم "الأعلون" دائمًا، لأنهم أصحاب الدين الذي يعلو ولا يعلى، فحقهم أعلى من باطل المشركين وتوحيدهم أعلى من شركهم، وحججهم أعلى من شبهاتهم، والعاقبة لهم: {وإن جندنا لهم الغالبون}.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى في سورة آل عمران، وبعد هزيمة أحد: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
وما فهمه الشيخ من الآية: أن يحارب المسلمون إذا قووا، ويدعوا إلى السلم إذا ضعفوا لا يشرّف المسلمين، بل يجعلهم جماعة من الانتهازيين، الذين لا يحكمون الاعتبارات الأخلاقية بل الاعتبارات النفعية وحدها. وهذه في الواقع سوءة خلقية، وتهمة يبرأ منها الشرفاء.
والمفسرون الكبار يخالفون ابن كثير رحمه الله فيما ذهب إليه، فهذا شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري يقول في تفسير الآية: يقول تعالى ذكره: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين، وتجنبوا عن قتالهم.
وقوله: {وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} يقول: ولا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة وأنتم القاهرون والعالون عليهم، والله معكم بالنصر لكم عليهم. (تفسير الطبري جـ 11/ 326).
ويقول العلامة الألوسي في تفسير الآية: {فلا تهنوا} أي إذا علمتم أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبهم، فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفًا. . ولا تدعو الكفار إلى الصلح خورًا وإظهارًا للعجز، فإن ذلك إعطاء الدنية "وأنتم الأعلون" الأغلبون، والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور. والجملة حالية مقررة لمعنى النهي، مؤكدة لوجوب الانتهاء. وكذا قوله تعالى: {والله معكم} أي ناصركم، فإن كونهم الأغلبية، وكونه عز وجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عن الذل والضراعة. (روح المعاني جـ 2/80).
وما أشار إليه سماحة الشيخ في إيضاحه لجريدة (المسلمون). . من وجوب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم ـ مع القدرة ـ حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . . إلخ فهذا في (جهاد الطلب) لا في (جهاد الدفع).
ونحن الآن في جهاد الدفع ـ دفع العدو المعتدي على أرض الإسلام وأهلها ـ وهو غير جهاد الطلب، حين يكون العدو في دياره، لا في ديارنا، ونحن نتعقبه من باب (الحرب الوقائية)، وهذا هو الذي قرر الفقهاء أنه فرض كفاية بخلاف جهاد الدفع، فهو فرض عين على من وقع عليه، ثم على من يليه، حتى يشمل الأمة كافة. وعلى جميع المسلمين مساعدته حتى ينتصر على عدوه، ويخرجه من دياره.
وأما ما ذكره الشيخ أكرمه الله من أن أولي الأمر إذا اجتهدوا فيما رأوا فيه المصلحة فعلينا إطاعتهم، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، فأولوا الأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الفقهاء الكبار: أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو العلم صنفين: العلماء والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس (مجموع الفتاوى 28/170) .
ومما يدل كذلك قوله تعالى في سورة النساء: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، فعطف (أولى الأمر) على (الرسول)، وقد كان هو الإمام الأعظم ورئيس الدولة، فدل على أن أولي الأمر جماعة معه، يرد إليهم الأمر، كما يرد إليه، ووصفهم ـ أو وصف بعضهم ـ بالعلم والاستنباط، وفي هذا دليل على أن (أولي الأمر) في المفهوم القرآني أشمل وأوسع من مجرد أصحاب السلطة والحكم.
وللشيخ رشيد رضا في تفسير الآية في (المنار) شرح مستفيض يجب الرجوع إليه.
وإذا سلمنا بأن أولي الأمر هم الحكام وحدهم، فهذا في حاكم بايعته الأمة على الكتاب والسنة، ووافقه أهل الحل والعقد، وله اليد والقدرة أي السيادة والسلطة على أرضه وشعبه، أما حاكم ليست له سلطة إلا في حدود ما يسمح به أعداؤه له، فليس هذا هو ولي الأمر الشرعي الواجبة طاعته.
على أن الطاعة لولي الأمر الشرعي ليست مطلقة، إنما هي في (المعروف) كما صحت به الأحاديث، وكما أشار إليه القرآن فمن أمر بمعصية فلا سمع له و لا طاعة، ومن القواعد المقررة فقها وشرعًا: أن تصرف ولي الأمر على الرعية منوط بالمصلحة، فإذا تصرف تصرفًا لا مصلحة فيه، فهو رد، أي مردود عليه، ولا مصلحة في التنازل عن أرض الإسلام لليهود الغاصبين، والاستسلام لهم إلا إذا كانت مصلحة بني صهيون، فهم المستفيد الأوحد من هذا السلام المزعوم.
وأحب أن أنبه هنا على أمر ذي بال أشرت إليه من قبل، وهو أن قضية فلسطين ليست قضية عادية، وأرض فلسطين ليست كغيرها، ففيها القدس والمسجد الأقصى منتهى الإسراء. ومبتدأ المعراج، والقبلة الأولى في الإسلام، فليست شأنًا يخص الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية الأمة الإسلامية كلها، وقد ربط الله في كتابه بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فلا يجوز التفريط في أحدهما من مسلم.
وقد حرك إشعال حريق المسجد الأقصى العالم الإسلامي كله، وحفز الملك فيصل بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى دعوة قادة العالم الإسلامي في صورة مؤتمر قمة لمواجهة المشكلة، ومن خلال ذلك ولدت منظمة المؤتمر الإسلامي لتتحدث باسم الأمة الإسلامية.
فماذا يكون الحال اليوم والمسجد الأقصى يتعرض لخطر الهدم والضياع بالكلية؟ ورابين يعلن ويكرر بتبجح وصفاقة أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.
هذا وإن خلافي مع سماحة الشيخ عبد العزيز لا ينفي ما أكنه له من ود واحترام، وظني أنه لم يعرف الواقع السياسي على حقيقته، فجاء حكمه على قدر ما علم. وقد أثبت الواقع أن الفلسطينيين لم يحصلوا أي مصلحة من وراء ذلك السلام المزعوم، وأن المستفيد الأوحد منه هو اليهود.
وإني لأرجو من الشيخ أن يمعن النظر فيما أوردت من أدلة واعتبارات، عسى أن يراجع رأيه، فهو ـ فيما علمت ـ رجّاع إلى الحق. وقد قال عمر رضي الله عنه في رسالته الشهيرة في القضاء: (ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، أن تراجع فيه نفسك اليوم، فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه والحمد لله أولاً وآخرًا.
----------
(*) المصدر: كتاب: فتاوي معاصرة (3/ 478-491)، للشيخ يوسف القرضاوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق