ومن دلائل تسامح السلف
: أنهم أجازوا ترك بعض السنن والمستحبات في العبادات ونحوها ، من أجل تأليف القلوب
، وعملاً بالحديث الشريف : (( بشروا ولا تنفروا )) [11] .
عن عبدالرحمن بن يزيد
قال :
" كنا مع عبدالله
بن مسعود بجمع ( أي مزدلفة ) ، فلما دخل مسجد منى قال : كم صلى أمير المؤمنين ؟ قالوا
: أربعاً ، فصلى أربعاً . قال : فقلنا : ألم تحدثنا أن النبي (ﷺ) صلى ركعتين وأبا بكر ركعتين ؟!
فقال : ( بلى ، وأنا أحدثكم الآن ، ولكن عثمان كان إماماً ، فما
أخالفه ، فالخلاف شرّ ) " [2] .
وروي أنّ الإمام الشافعي
رحمه الله ترك القنوت في صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الحنفية في مسجد إمامهم ببغداد
، على خلاف مذهبه . وفسروا ذلك بإنه فعله تأدباً مع الإمام أبي حنيفة ، أو تألفاً لقلوب
أتباعه ، وكلاهما من الأدب الرفيع .
وقال ابن عبدالبر
في التمهيد : " سمعت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبدالملك بن هاشم رحمه الله يقول
: كان أبو إبراهيم بن إسحق بن إبراهيم شيخنا يرفع يديه كلما خفض ورفع على حديث ابن
عمر في الموطأ ، وكان أفضل من رأيت وأفقههم وأصحهم علماً وديناً .
فقلت له : فلم لا
ترفع أنت فنقتدي بك ؟
قال لي : ( لا أخالف
رواية ابن القاسم ، لأن الجماعة لديـنا اليوم عليها ، ومخالفة الجماعة فيما قد أبيح
لنا ليس من شيم الأئمة ) " [3] .
قال محمد بن رافع
: " كنت مع أحمد بن حنبل وإسحاق عند عبدالرزاق فجاءنا يوم الفطر ، فخرجنا مع عبدالرزاق
إلى المصلى ومعنا ناس كثير ، فلما رجعنا من المصلى دعانا عبدالرزاق إلى الغداء ، فقال
عبدالرزاق لأحمد وإسحاق : رأيت اليوم منكما عجباً ، لمْ تكبّرا !
قال أحمد وإسحاق : يا أبابكر ، نحن كنا ننظر إليك : هل تكبّر فنكبّر
؟ فلما رأيناك لم تكبّر أمسكنا .
قال : أنا كنت أنظر إليكما : هل تكبران فأكبّر " [4] .
فانظر أدب الأكابر
بعضهم مع بعض ، ودع عنك الأصاغر الذين حرموا الأدب !
وقال شيخ الإسلام
في إحدى فتاويه : " إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه ، سواء
قنت قبل الركوع أو بعده ، وإن كان لا يقنت لم يقنت معه ، ولو كان الإمام يرى استحباب
شيء والمأمومون لايستحبونه ، فتركه لأجل الإتفاق والإئتلاف كان قد أحسن " .
ثمّ استدل رحمه الله
بقول النبي r لعائشة : (( لولا أنّ
قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت لهم الكعبة ، ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين باباً
يدخل الناس منه ، وباباً يخرجون منه )) ، فترك الأفضل عنده لئلاّ ينفر الناس .
وكذلك لو كان رجل
يرى الجهر بالبسملة فأمّ قوماً لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم فقد أحسن " [5]
.
وقال رحمه الله في
موضوع آخر من فتاويه :
" ولذلك استحب
الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين . .
.
فلو كان ممن يرى المخافتة
بالبسملة أفضل أو الجهر بها ، وكان المأمومون على خلاف رأيه ، ففعل المفضول عنده ،
لمصلحة الموافقة والتأليف التـــي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جــائــزاً حـسنـاً
" أ.هـ.
وقال ابن مفلح في
الآداب الشرعية ( 2 / 47 ) :
" قال أبن عقيل
في ( الفنون ) : لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام ، فإن الرسول r ترك الكعبة وقال : ((لولا حدثان قومك بالجاهلية . . )) " [66] .
وترك أحمد الركعتين
قبل المغرب لإنكار الناس لهما ، وذكر في (الفصول) عن الركعتين قبل المغرب : وفعل ذلك
إمامنا أحمد ثم تركه وأعتذر بأن قال : رأيت الناس لا يعرفونه .
[1] - متفق عليه .
[2] - السنن الكبرى للبيهقي ( 3 / 144 ) .
[3] - فتح البر في الترتيب الفقهي لابن عبدالبر ( 5 / 544 ) .
[4] - تاريخ دمشق ( 36 / 175 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 9 /
566 ) .
[5] - مجموع الفتاوى ( 22 / 268 ) .
[6] - مجموع الفتاوى : ( 24 / 195 ) .
=======================
=======================
ومن دلائل التسامح عند علماء السلف : تركهم الإنكار
على ما تعارف عليه أهل كلّ بلد ، مما توارثه الخلف عن السلف .
روى الدارمي بسنده
عن حميد قال : قلت لعمر بن عبدالعزيز : لو جمعت الناس على شيء ؟ فقال : " ما يسرني
أنهم لم يختلفوا " . قال : ثمّ كتب إلى الآفاق أو الأمصار : ليقض كلّ قوم بما
اجتمع عليه فقهاؤهم [1] .
وهذا له أصل فيما
جاء عن الصحابة رضي الله عنهم .
فعن عبيدة السلماني
قال : قال علي بن أبي طالب t
: " أقضوا ما كنتم تقضون ، فإني أكره الإختلاف حتى يكون للناس جماعة ، أو أموت
كما مات أصحابي " [2] .
وقد قال أحمد في رواية
المروذي : " لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم "
.
وقال مهنا :
" سمعت أحمد يقول : من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه من شربه فليشربه وحده
" أ.هـ.
وسئل أحمد عن رجل
يصلي في مسجد وهو يشرب من النبيذ ما يسكر منها أيصلى خلفه ؟ قال : " إذا كان متأولاً
ولم يسكر فأرجو ، فإن سكر لم يصل خلفه " .
قال : " ونحن
نروي عمن كان يشرب " [3] .
قال ابن الجنيد :
سمعت يحيى بن معين يقول : " تحريم النبيذ صحيح ولكن أقف ولا أحرمه ، قد شربه قوم
صالحون بأحاديث صحاح ، وحرمه قوم صالحون بأحاديث صحاح " [4] .
ودخل أحمد بن حنبل
ويحيى بن معين وزهير بن حرب على خلف بن هشام يسألونه ، فلما أرادوا الإنصراف قال لأحمد
: أي شيء تقول في هذا ياأبا عبدالله ؟ لقنينة نبيذ كانت أمامه ( وكانت الجارية تريد
أخذها لما رأت قدومهم فقال لها : دعيها يرى الله U شيئاً فأكتمه عن الناس ؟ )
قال أحمد : ليس ذاك
إليّ ، ذاك إليك . قال : كيف ؟ قال أحمد : " قال النبي r : (( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته
)) والرجل راع في منزله ومسؤول عما فيه ، وليس للخارج أن يغير على الداخل شيئاً
" [5] .
وسئل ابن تيمية عمن
ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان ، فهل يجوز له منع الناس
؟
فأجاب : " ليس
له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الإجتهاد ، وليس معه نص من كتاب
ولا سنة ولا إجماع ،ولا ما هو في معنى ذلك " [6] .
وروى الحافظ أبو نعيم
في ( حلية الأولياء ) عن عبدالله بن الحكم قــال : سمعت مالك بن أنس رحمه الله تعالى
يقول : " شاورني هارون الرشيد في أن يعلق ( الموطأ ) في الكعبة ، ويحمل الناس
على ما فيه ، فقلت : لا تفعل ، فإن أصحاب رسول الله r اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان ، وكلّ عند نفسه مصيب ، فقال :
وفقك الله يا أبا عبدالله " [7] .
وتروى هذه القصة أنها
وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور . ولعلها تكررت مع المنصور والرشيد . فقد روى ابن
سعد في ( الطبقات ) عن محمد بن عمر الأسلمي - الواقدي - قال : سمعت مالك بن أنس يقول
: " لما حج المنصور قال لي : إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنســخ
، ثمّ أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها
، ولا يتعدوه إلى غيره . فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل هذا ، فإنّ الناس قد سبقت
إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبقت إليهم ، ودانوا
به من اختلاف الناس ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم " .
وبهذه النقول كلها
- فضلاً عما تقدم من الركائز والقواعد - يتبين لنا صحة ( القاعدة ) الذهبية التي وضعها
ودعا إليها العلامة السلفي المجدد الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله صاحب مجلــة ( المنــــار
) وتفســـير ( المنار ) وهي التي تقول : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً
فيما اختلفنا فيه ) . وقد شكك في صحة هذه القاعدة بعض الأخوة السلفيين ، وها نحن نرى
صحتها في ضوء الأدلة التي سقناها .
نقل الحافظ الذهبي
في سير أعلام النبلاء ( 16 / 10 ) في ترجمة الإمام الشافعي t عن الإمام الحافظ أبي
موسى يونس بن عبدالأعلى الصدفي المصري ، أحد أصحاب الإمام الشافعي أنه قال : ما رأيت
أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ، ثمّ افترقنا ، ولقيني ، فأخذ بيدي ، ثمّ
قال : " يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟!
" . قال الذهبي : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام ، وفقه نفسه ، فمازال النظراء
يختلفون .
وفي ( سير أعلام النبلاء
) أيضاً ( 11 / 370 ) في ترجمة الإمام إسحاق بن راهويه : " قال أحمد بن حفص السعدي
شيخ ابن عدي : سمعت أحمد بن حنبل - الإمام - يقول : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحق
، وإن كان يخالفنا في أشياء ، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً " .
فليس العيب - أخي
المؤمن - في الخلاف ، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم .
فالإسلام قد شرع الإجتهاد
، وجعل للمجتهد أجرين أذا أصاب ، وأجراً إذا أخطأ ، وأقرّ الرسول r أصحابه على الإجتهاد في
فهم ما أمرهم به من صلاة العصر في بني قريظة ، ما بين حرفي يتقيد بلفظ النص ، وآخر
ينظر إلى مقصد النص . وأقر معاذاً t على أن يعمل باجتهاده لا يألو ، فيما لم يجد فيه كتاباً ولا سنة ، وذلك
حين بعثه إلى اليمن .
[1] - سنن الدارمي : ( 1 / 122 ) بتحقيق عبدالله هاشم اليماني
.
[2] - تاريخ بغداد ( 8 / 42 ) .
[3] - مسائل الإمام أحمد لابن صالح ( 2 / 149 ) ، مسائل أبي داود
ص42 ، مسائل ابن هانيء ( 1 / 95 ) .
[4] - سير اعلام النبلاء ( 11 / 88 ) .
[5] - طبقات الحنابلة ( 1 / 154 ) .
[6] - مجموع الفتاوى ( 30 / 79 - 80 ) .
[7] - حلية الأولياء ( 6 / 332 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق