السبت، 6 مايو 2017

هل يمكن ترك بعض السنن لتأليف القلوب ..؟!

  

     ومن دلائل تسامح السلف : أنهم أجازوا ترك بعض السنن والمستحبات في العبادات ونحوها ، من أجل تأليف القلوب ، وعملاً بالحديث الشريف : (( بشروا ولا تنفروا )) [11] .
     عن عبدالرحمن بن يزيد قال :
     " كنا مع عبدالله بن مسعود بجمع ( أي مزدلفة ) ، فلما دخل مسجد منى قال : كم صلى أمير المؤمنين ؟ قالوا : أربعاً ، فصلى أربعاً . قال : فقلنا : ألم تحدثنا أن النبي (ﷺ) صلى ركعتين وأبا بكر ركعتين ؟!
فقال : ( بلى ، وأنا أحدثكم الآن ، ولكن عثمان كان إماماً ، فما أخالفه ، فالخلاف شرّ ) " [2] .
     وروي أنّ الإمام الشافعي رحمه الله ترك القنوت في صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الحنفية في مسجد إمامهم ببغداد ، على خلاف مذهبه . وفسروا ذلك بإنه فعله تأدباً مع الإمام أبي حنيفة ، أو تألفاً لقلوب أتباعه ، وكلاهما من الأدب الرفيع .
     وقال ابن عبدالبر في التمهيد : " سمعت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبدالملك بن هاشم رحمه الله يقول : كان أبو إبراهيم بن إسحق بن إبراهيم شيخنا يرفع يديه كلما خفض ورفع على حديث ابن عمر في الموطأ ، وكان أفضل من رأيت وأفقههم وأصحهم علماً وديناً .
     فقلت له : فلم لا ترفع أنت فنقتدي بك ؟
     قال لي : ( لا أخالف رواية ابن القاسم ، لأن الجماعة لديـنا اليوم عليها ، ومخالفة الجماعة فيما قد أبيح لنا ليس من شيم الأئمة ) " [3] .
     قال محمد بن رافع : " كنت مع أحمد بن حنبل وإسحاق عند عبدالرزاق فجاءنا يوم الفطر ، فخرجنا مع عبدالرزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير ، فلما رجعنا من المصلى دعانا عبدالرزاق إلى الغداء ، فقال عبدالرزاق لأحمد وإسحاق : رأيت اليوم منكما عجباً ، لمْ تكبّرا !
قال أحمد وإسحاق : يا أبابكر ، نحن كنا ننظر إليك : هل تكبّر فنكبّر ؟ فلما رأيناك لم تكبّر أمسكنا .
قال : أنا كنت أنظر إليكما : هل تكبران فأكبّر " [4] .
     فانظر أدب الأكابر بعضهم مع بعض ، ودع عنك الأصاغر الذين حرموا الأدب !
     وقال شيخ الإسلام في إحدى فتاويه : " إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه ، سواء قنت قبل الركوع أو بعده ، وإن كان لا يقنت لم يقنت معه ، ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لايستحبونه ، فتركه لأجل الإتفاق والإئتلاف كان قد أحسن " .
     ثمّ استدل رحمه الله بقول النبي r لعائشة : (( لولا أنّ قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت لهم الكعبة ، ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين باباً يدخل الناس منه ، وباباً يخرجون منه )) ، فترك الأفضل عنده لئلاّ ينفر الناس .
     وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأمّ قوماً لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم فقد أحسن " [5] .
     وقال رحمه الله في موضوع آخر من فتاويه :
     " ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين . . .
     فلو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها ، وكان المأمومون على خلاف رأيه ، ففعل المفضول عنده ، لمصلحة الموافقة والتأليف التـــي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جــائــزاً حـسنـاً " أ.هـ.
     وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية ( 2 / 47 ) :
     " قال أبن عقيل في ( الفنون ) : لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام ، فإن الرسول r ترك الكعبة وقال : ((لولا حدثان قومك بالجاهلية . . )) " [66] .
     وترك أحمد الركعتين قبل المغرب لإنكار الناس لهما ، وذكر في (الفصول) عن الركعتين قبل المغرب : وفعل ذلك إمامنا أحمد ثم تركه وأعتذر بأن قال : رأيت الناس لا يعرفونه .



[1] - متفق عليه .

[2] - السنن الكبرى للبيهقي ( 3 / 144 ) .

[3] - فتح البر في الترتيب الفقهي لابن عبدالبر ( 5 / 544 ) .

[4] - تاريخ دمشق ( 36 / 175 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 9 / 566 ) .

[5] - مجموع الفتاوى ( 22 / 268 ) .

[6] - مجموع الفتاوى : ( 24 / 195 ) .
=======================

     ومن دلائل التسامح عند علماء السلف : تركهم الإنكار على ما تعارف عليه أهل كلّ بلد ، مما توارثه الخلف عن السلف .
     روى الدارمي بسنده عن حميد قال : قلت لعمر بن عبدالعزيز : لو جمعت الناس على شيء ؟ فقال : " ما يسرني أنهم لم يختلفوا " . قال : ثمّ كتب إلى الآفاق أو الأمصار : ليقض كلّ قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم [1] .
     وهذا له أصل فيما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم .
     فعن عبيدة السلماني قال : قال علي بن أبي طالب t : " أقضوا ما كنتم تقضون ، فإني أكره الإختلاف حتى يكون للناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي " [2] .
     وقد قال أحمد في رواية المروذي : " لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم " .
     وقال مهنا : " سمعت أحمد يقول : من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه من شربه فليشربه وحده " أ.هـ.
     وسئل أحمد عن رجل يصلي في مسجد وهو يشرب من النبيذ ما يسكر منها أيصلى خلفه ؟ قال : " إذا كان متأولاً ولم يسكر فأرجو ، فإن سكر لم يصل خلفه " .
     قال : " ونحن نروي عمن كان يشرب " [3] .
     قال ابن الجنيد : سمعت يحيى بن معين يقول : " تحريم النبيذ صحيح ولكن أقف ولا أحرمه ، قد شربه قوم صالحون بأحاديث صحاح ، وحرمه قوم صالحون بأحاديث صحاح " [4] .
     ودخل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وزهير بن حرب على خلف بن هشام يسألونه ، فلما أرادوا الإنصراف قال لأحمد : أي شيء تقول في هذا ياأبا عبدالله ؟ لقنينة نبيذ كانت أمامه ( وكانت الجارية تريد أخذها لما رأت قدومهم فقال لها : دعيها يرى الله U شيئاً فأكتمه عن الناس ؟ )
     قال أحمد : ليس ذاك إليّ ، ذاك إليك . قال : كيف ؟ قال أحمد : " قال النبي r : (( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته )) والرجل راع في منزله ومسؤول عما فيه ، وليس للخارج أن يغير على الداخل شيئاً " [5] .
     وسئل ابن تيمية عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان ، فهل يجوز له منع الناس ؟
     فأجاب : " ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الإجتهاد ، وليس معه نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ،ولا ما هو في معنى ذلك " [6] .
     وروى الحافظ أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن عبدالله بن الحكم قــال : سمعت مالك بن أنس رحمه الله تعالى يقول : " شاورني هارون الرشيد في أن يعلق ( الموطأ ) في الكعبة ، ويحمل الناس على ما فيه ، فقلت : لا تفعل ، فإن أصحاب رسول الله r اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان ، وكلّ عند نفسه مصيب ، فقال : وفقك الله يا أبا عبدالله " [7] .
     وتروى هذه القصة أنها وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور . ولعلها تكررت مع المنصور والرشيد . فقد روى ابن سعد في ( الطبقات ) عن محمد بن عمر الأسلمي - الواقدي - قال : سمعت مالك بن أنس يقول : " لما حج المنصور قال لي : إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنســخ ، ثمّ أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ، ولا يتعدوه إلى غيره . فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل هذا ، فإنّ الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبقت إليهم ، ودانوا به من اختلاف الناس ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم " .
     وبهذه النقول كلها - فضلاً عما تقدم من الركائز والقواعد - يتبين لنا صحة ( القاعدة ) الذهبية التي وضعها ودعا إليها العلامة السلفي المجدد الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله صاحب مجلــة ( المنــــار ) وتفســـير ( المنار ) وهي التي تقول : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ) . وقد شكك في صحة هذه القاعدة بعض الأخوة السلفيين ، وها نحن نرى صحتها في ضوء الأدلة التي سقناها .
     نقل الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 16 / 10 ) في ترجمة الإمام الشافعي t عن الإمام الحافظ أبي موسى يونس بن عبدالأعلى الصدفي المصري ، أحد أصحاب الإمام الشافعي أنه قال : ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ، ثمّ افترقنا ، ولقيني ، فأخذ بيدي ، ثمّ قال : " يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟! " . قال الذهبي : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام ، وفقه نفسه ، فمازال النظراء يختلفون .
     وفي ( سير أعلام النبلاء ) أيضاً ( 11 / 370 ) في ترجمة الإمام إسحاق بن راهويه : " قال أحمد بن حفص السعدي شيخ ابن عدي : سمعت أحمد بن حنبل - الإمام - يقول : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحق ، وإن كان يخالفنا في أشياء ، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً " .
     فليس العيب - أخي المؤمن - في الخلاف ، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم .
     فالإسلام قد شرع الإجتهاد ، وجعل للمجتهد أجرين أذا أصاب ، وأجراً إذا أخطأ ، وأقرّ الرسول r أصحابه على الإجتهاد في فهم ما أمرهم به من صلاة العصر في بني قريظة ، ما بين حرفي يتقيد بلفظ النص ، وآخر ينظر إلى مقصد النص . وأقر معاذاً t على أن يعمل باجتهاده لا يألو ، فيما لم يجد فيه كتاباً ولا سنة ، وذلك حين بعثه إلى اليمن .



[1] - سنن الدارمي : ( 1 / 122 ) بتحقيق عبدالله هاشم اليماني .

[2] - تاريخ بغداد ( 8 / 42 ) .

[3] - مسائل الإمام أحمد لابن صالح ( 2 / 149 ) ، مسائل أبي داود ص42 ، مسائل ابن هانيء ( 1 / 95 ) .

[4] - سير اعلام النبلاء ( 11 / 88 ) .

[5] - طبقات الحنابلة ( 1 / 154 ) .

[6] - مجموع الفتاوى ( 30 / 79 - 80 ) .


[7] - حلية الأولياء ( 6 / 332 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق