الثلاثاء، 2 يناير 2018

حكم تسوية الصفوف في الصلاة

السؤال: شيخنا أرى في اغلب مساجدنا ان الأئمة وكذلك المصلين لا يهتمون بتسوية الصف ولا بسد الفُرج والخلل ، فمهما حاولت أن أسدّ ما بيني وبين المصلي بجنبي يبتعد عني ، فما حكم تسوية الصفوف في صلاة الجماعة؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد؛Image result for ‫حكم تسوية الصفوف في الصلاة‬‎
فانّ تَسوية الصفوف، وإتمامها وتراصِّها، وإتمام الصف الأول فالأول وإكماله، وسدِّ الفُرَج أو الخَلَلِ فيها من سّنة النبيّ – صلى الله عليه وسلم- فقد ثبت عنه ذلك في جملة من الأحاديث الصحاح، وكذلك من سنّة خلفائه الراشدين وتابعيهم بإحسان، ولكن مع الاسف الشديد باتت الآن تسوية الصفوف وسد الخلل فيها من السنن المهجورة، ولا سيَّما عند الكثير من طلبة العلم فضلاً عن عامة الناس، ولهذا قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في اعانة الطالبين: (ومِن السُّنن المهملة المَغفول عنها: تسوية الصفوف والتراص فيها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتولى فعل ذلك بنفسه، ويُكثر التحريض عليه والأمر به).
وقال الإمام ابن عبد البر القرطبي المالكي – رحمه الله تعالى- في الاستذكار حول مسألة تسوية الصفوف: (هو أمر مُجتمَع عليه، والآثار عن النبي عليه السلام كثيرة فيه، ....: وأما تَسوية الصفوف في الصلاة فالآثار فيها مُتواتِرة مِن طرُق شتَّى، صِحاح كلُّها ثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسوية الصفوف، وعمل الخلفاء الراشدين بذلك بعده، وهذا ما لا خلاف فيما بين العلماء فيه).



وقد اختلف العلماءُ في وجوب تسوية الصُّفوف على قولين:
القول الأول: وجوب تسوية الصُّفوف، ويأثم من تعمد الإخلال بها مع صحة صلاته. وهو قولُ جماعة من اهل العلم، وهو مذهب ابنِ حزم الظاهري، ومذهب الامام البخاري ، وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيميةَ، والحافظ ابنِ حجر العسقلاني، والحافظ بدر الدين العيني الحنفي، والامام الصنعاني. 
واحتجوا بما يأتي: 
1- عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ)). رواه البخاري في باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف. وفي مسند أبي يعلى بزيادة : (لقد رأيت أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه ولو ذهبت تفعل ذلك اليوم لترى أحدهم كأنه بغل شموس) .
2- وعنه أيضًا قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((رصُّوا صُفوفَكم، وقارِبوا بينها، وحاذوا بالأعناقِ فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)). رواه ابو داود والنسائي وأحمد وصححه الشيخ الالباني.
3- وعنه أيضًا قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه ,وسلم : ((سوُّوا صفوفَكم؛ فإنَّ تسوية الصفوف مِن إقامةِ الصَّلاة)) صحيح البخاري.
4- عن النُّعمان بن بشير-رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يسوِّي صفوفَنا كأنما يُسوِّي به القِداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرَج يومًا فقام حتى كاد أن يكبِّر، فرأى رجلًا باديًا صدرُه مِن الصفِّ، فقال: عبادَ اللهِ، لَتُسَوُنَّ صفوفَكم أو ليخالفنَّ اللهُ بينَ وجوهِكم)) متفق عليه. وفي رواية ابي داود وابن ماجه قَالَ النعمان بن بشير: (فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ ، وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ ، وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ).
5- عن أبي مسعود الأنصاري- رضي الله عنه- قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه الامام مسلم.
6- عن البراء بن عازٍب -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا، وقال: ((تراصّوا، المناكب بالمناكب، والأقدام بالإقدام، فإن الله يُحب في الصلاة ما يحُب في القتال كأنهم بنيان مرصوص)). مشكل الاثار للطحاوي، الاستذكار لابن عبد البر .
وَجْهُ الدَّلالَةِ في الأحاديثِ السابقة: أنَّ الأمرَ في هذه الأحاديثِ والوعيدَ الوارِدَ فيها؛ يدلُّ على الوجوبِ، وأمره للوجوب ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا. والصلاة عماد الدين وركن وأساس هذا الدين، فكان الواجب المحافظة عليها، ومن وسائل المحافظة على الصلاة هو تسوية الصفوف، فما لا يتم الواجب الا به فهو واجب.
قال الامام ابن حزم – رحمه الله تعالى – في المحلى: ( تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض، لأن إقامة الصلاة فرض وما كان من الفرض فهو فرض).
وقد بوّب الامام البخاري في الصحيح بابا يدل على الوجوب فقال: باب إثم من لا يتم الصفوف ، وأورد فيه بسنده عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ : مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : ( مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ ).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : (يحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم : " سوّوا صفوفكم " ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، ومن ورود الوعيد على تركه ، فترجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن ، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسوِّ صحيحة ،لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة. 
القول الثاني: غير واجبة وانها تُسنُّ تسويةُ الصُّفوفِ في الصَّلاة، ولا إثم على على تاركها، وإن كان قد فاته خيرٌ كبير، وفضلٌ عظيم ، وهذا قول جمهور اهل العلم من المذاهب . 
واستدلوا بما استدل به اصحاب القول الاول من الاحاديث ، وقالوا: ان وجه الدلالة في الاحاديث هو : انَّ إقامة الصفوف سنةٌ مندوب إليها، فإقامة الصلاة قد تقع على السُّنَّة، كما تقع على الفريضةِ، وحمّلوا الامر في الاحاديث الى الندب والاستحباب. 
هذا وقد اتفق العلماء على ان التسوية المأمور بها إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب وحافة القدم بالقدم، لأن هذا هو الذي فعله الصحابة حين أمروا بإقامة الصفوف والتراص فيها، وان لا يتقدم بعض المصلين على البعض الآخر، وان يعتدل القائمون في الصف على سمت واحد مع التراص، وهو تلاصق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم، والكعب بالكعب حتى لا يكون في الصف خلل ولا فرجة،بشرط أن لا يضايق صاحبه ويضع اصابع قدمه على قدم صاحبه مما يؤدي الى خلل في خشوعه ، والواجب إذًا على أئمة الصلاة أن يَعتنوا بهذا، ويُبيِّنوه للناس، وأن يأمروهم بتسوية الصفوف وإكمالها، وسد الفُرَج، كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلَّم-، وأن يقتدوا بما فعله خلفاؤه وسلفُنا -رضي الله عنهم أجمعين- مِن بعده، حتى إذا ما رأى أحدهم أن الصفوف استوتْ كبَّر.
قال الامام الترمذيُّ -رحمه الله تعالى- في سننه : (رُوي عن عمر رضي الله عنه: أنه كان يوكِّل رجالاً بإقامة الصفوف، فلا يكبِّر حتى يُخبَر أن الصفوف قد استوت، ورَوى عن علي وعثمان رضي الله عنهما: أنَّهما كانا يتعاهَدان ذلك، ويقولان: استووا، وكان عليٌّ يقول: تقدَّم يا فلان، تأخر يا فلان).
قال الامام الكاساني الحنفي –رحمه الله تعالى- في بدائع الصنائع: (وفي الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ في الصَّلَاةِ: "الصقوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ" ولم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا في الناتىء - في جانبي الرجل- ).
قال الامام فخر الدين الزيلعي الحنفي – رحمه الله تعالى- في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق : (وينبغي للقوم إذا قاموا إلى الصلاة أن يتراصوا ويسدوا الخلل ويسووا بين مناكبهم في الصفوف ولا بأس أن يأمرهم الإمام بذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - «سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» ولقوله - عليه الصلاة والسلام - «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» وهو راجع إلى اختلاف القلوب ).


وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوي : (وتسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي ، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد ، وهل المعتبر مُقدَّم الرِّجْلِ ؟ الجواب : المعتبر المناكب في أعلى البَدَن ، والأكعُب في أسفل البَدَن . . . وإنما اعتُبرت الأكعب ؛ لأنها في العمود الذي يَعتمد عليه البدنُ ، فإن الكعب في أسفل السَّاق ، والسَّاقُ هو عمودُ البَدَن ، فكان هذا هو المُعتبر، وأما أطراف الأرجُل فليست بمعتبرة ؛ وذلك لأن أطراف الأرجُلِ تختلف ، فبعض الناس تكون رِجْلُه طويلة ، وبعضهم قصيرة ، فلهذا كان المعتبر الكعب ).

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (واستدل بحديث النعمان بن بشير على أن المراد بالكعب في آية الوضوء العظم الناتئ في جانبي الرِّجل، وهو عند ملتقى الساق والقدم، وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه، خلافاً لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية ولم يثبته محققوهم، وأثبته بعضهم في مسألة الحج لا الوضوء).
المفتى به:
هو ما ذهب اليه اصحاب القول الاول من وجوب تسوية الصفوف ويأثم من تعمد الإخلال بها مع صحة صلاته، وان التسوية المأمور بها إنما تكون بلصق المنكب بالمنكب ، والقدم بالقدم، والكعب بالكعب حتى لا يكون في الصف خلل ولا فرجة، والتراص في الصفوف واكمالها، ولا يتقدم بعض المصلين على البعض الآخر في الصف، بحيث يكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، اذا تحرك اوله اهتز اخره ، وللأسف الشديد اصبحت تسوية الصفوف وتراصها من السنن المهجورة بين المسلمين ، إلا من رحم الله ، وهكذا حال أكثر الناس في هذا الزمان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
فعلى الأئمة في صلاة الجماعة أن يأمروا المصلين بتسوية الصفوف تأسيا بالنبي وتنفيذا لأمره -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وعلى المأمومين أن يمتثلوا الامر، وعلى المصلي أن يسد الفرجة في الصف ويتصل الى جهة الامام، فاذا كان على يمين الامام اتصل الى اليسار، واذا كان المأموم على جهة يسار الامام اتصل الى اليمين، ولا يضره بعد ذلك شيئا.
وتسوية الصفوف لها شأْن عظيم في إِقامة الصلاة، وحُسْنِها، وتمامها، وكمالها، وفي ذلك من الفضل والأَجر، وائتلاف القلوب واجتماعها، ووحدة الصف ما شهدت به النصوص. وقد روى الطبراني في الاوسط عن سيدنا علي بن ابي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: (استَووا تَستوِ قلوبُكم، وتماسُّوا تراحموا)، وقال الامام ابن القيم في اعلام الموقعين: (اجتِماعُ القلوب وتآلُفُ الكلمة مِن أعظم مقاصد الشرع، وقد سدَّ الذريعة إلى ما يُناقِضه بكل طريق حتى في تسوية الصفِّ في الصلاة؛ لئلا تَختلف القلوب، وشواهد ذلك أكثر من أن تُذكَر).
وقد تميزت هذه الأُمة المرحومة، وخُصَّت بأَن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة كما صح ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. والله تعالى اعلم.
د. ضياء الدين الصالح

هناك تعليق واحد:

  1. نعم الأمر كما تفضلتم ولكن إعانة الطالبين ليس للإمام النووي

    ردحذف