الجمعة، 7 يونيو 2019

وقفات و ملاحظات حول فَهم الصحيح لحديث النبيّ ﷺ : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي . . . ) وما معنى اتباع . . سنة الخلفاء الراشدين !


سنة الخلفاء الراشدين

هناك ملاحظة حول فَهم حديث النبيّ  : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي . . . ) :
         فقد فهم كثير من المسلمين ، أن للخلفاء الراشدين أن يسُنُّوا سُنَناً غير سنة النبيّ  ، إعتماداً على الحديث المذكور !
         أي : كأنهم هم أيضاً معصومون عن الخطأ ، ولهم أن يُشَرِّعوا غير ما شرّعه الله تعالى عن طريق رسول الله r ، حيث أجاز لهم النبيّ r ذلك ! وهذا خطأ في الفهم كبير !



الحاكم هو الله وحده
         فقد أجمع المسلون على أن الله تعالى وحده هو الحاكم ، ولا حاكم غيره .
         قال الدكتور عبد الكريم زيدان ، رحمه الله :
         [ وعلى هذا فالحاكم ، أي الذي يصدر عنه الحكم ، هو الله وحده ، فلا حكم إلا ما حكم به ، ولا
شرع إلا ما شرعه ، وعلى هذا دلّ القرآن وأجمع المسلمون .
ففي القرآن قوله تعالى : (( إن الحكم إلا لله )) ( [1] )   (( ألا لَهُ الحكم )) ( [2] ) .
        
وعلى هذا الأساس كان الحكم بغير ما أنزل الله كفراً ، لأنه ليس لغير الله سلطة إصدار الأحكام قال تعالى (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ( [3] ) .
         وما وظيفة الرسل إلا تبليغ أحكام الله ، وما وظيفة المجتهدين إلا التعرف على هذه الأحكام والكشف عنها بواسطة المناهج والقواعد التي وضعها علم الأصول ] ([4] ) .
         وقال الدكتور حمد عبيد الكبيسي :
         [ من خصائص الشريعة الإسلامية : أنها تشريع سماوي ، يصدر الحكم فيها عن الله سبحانه ، فالحاكم ومصدر الحكم حقيقة هو الله تعالى ،
أما مايقررِّه علماء أصول الفقه من أن هناك أصولاً وأدلة أخرى للحكم ، فإنهم يعنون بها تلك المسالك التي يكتشف بها حكم الله تعالى ، فهي أصول بالمعنى المجازي لا الحقيقي .
         وقد أجمع على هذا المسلمون ، فاتفقوا على أنّ الحاكم هو الله سبحانه ، وأنه لا شرع إلا منه ،
وقد استند هذا الإجماع إلى نصوص من الكتاب : ( إن الحكم إلا لله ) ( يوسف : 40 ) ،( وأن احكم بينهم
بما أنزل الله ) ( المائدة : 49 ) ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ( المائدة : 47 ) ] ([5]) .

         وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله :
         [ أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر ، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه لا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له
أما النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ،
ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر .
فإذاً الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته ] ([6] )  .

         وقال الإمام الشافعي رحمه الله :
         [ وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ ، فبِحُكْم الله سنَّه . وكذلـك أخبرنـا الله فـي قولــه : " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ ... ] ([7]) .



معنى اتباع . . سنة الخلفاء الراشدين

إذاً فما معنى قوله   : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ؟
معناه  : هو شهادة من رسول الله r للخلفاء الراشدين المهديين ، بأنهم سائرون على سنة رسول الله r لا يحيدون عنها .
 فإذا عملوا عملاً لم يعمله النبيّ  ، فهو من فهمهم الصحيح لسنة رسول الله، ولو أن النبيّ  كان في مكانهم لعمل ذلك العمل .
فأعمالهم صائبة ، وصحيحة ، ليس فيها بدعة مذمومة ، أو ضلالة ، والله أعلم .
وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، أنه قال :
[ ما جاء عن الخلفاء الراشدين فهو من السنة ] ([8] ) .
         وقال الحافظ إبن تيمية رحمه الله :
         [ فَإِنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ السَّلَفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ : هُوَ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ بِهِ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد ] ([9] )



تفسير الإمام الشوكاني للحديث
وقال الشيخ المباركفوري رحمه الله :
[  وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ
وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ
فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ الْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا
وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمُ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ
وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما تَقْضِي قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ
قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لم تجد قال أجتهد رأيي
قال الحمدلله الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ أَوْ كَمَا قَالَ
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ
فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ قُلْتُ ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ
وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنَ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنَ الظُّنُونِ
فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ
وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ محل القدوة وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ
انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ ] ([10] ) .

وقال الشيخ المباركفوري ، أيضاً ، رحمه الله :
[ قُلْتُ لَيْسَ المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي أَيْ بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا انتهى كلام القارىء
وَقَالَ صَاحِبُ سُبُلِ السَّلَامِ أَمَّا حَدِيثُ عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وبن مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ وأخرجه أحمد وبن ماجه وبن حِبَّانَ وَلَهُ طَرِيقٌ فِيهَا مَقَالٌ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا
فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِسُنَّةِ الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَادِ الْأَعْدَاءِ وَتَقْوِيَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ لِكُلِّ خَلِيفَةٍ رَاشِدٍ لَا يَخُصُّ الشَّيْخَيْنِ .
وَمَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِخَلِيفَةٍ رَاشِدٍ أَنْ يُشَرِّعَ طَرِيقَةً غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ هَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسُهُ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ سَمَّى مَا رَآهُ مِنْ تَجْمِيعِ صَلَاتِهِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ بِدْعَةً وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا سُنَّةٌ  فَتَأَمَّلْ ] ([11] ) .
ومعلوم أن كثيرا من الأعمال لم يعملها النبيّ  ، بل عملها الخلفاء الراشدون بعده ، وهو وصّى باتباع سنتهم مع سنته ، باعتبار أن الخلفاء الراشدين سائرون على منهجه الذي ربّاهم عليه ، فالسنة هي الطريقة والمنهج .
فليس معنى الحديث : أنّ للخلفاء الراشدين أن يشرّعوا مع الله تعالى ، ومع رسوله  ، كما فهم كثير من المسلمين ذلك خطأ !
بل يعني : أنّ الخلفاء الراشدين فقهاء علماء ، قد فهموا الإسلام ، وهم على الصراط المستقيم !
فلا تتردّدوا في اتباع منهجهم فيما لم أفعله أنا !


([1]) سورة الأنعام : 57 .
([2]) سورة الأنعام : 62 .
([3]) سورة المائدة : 44 .
([4]) الوجيز في أصول الفقه . ص 52 .
([5]) أصول الأحكام وطرق الاستنباط في التشريع الإسلامي ص 279 .
([6]) المستصفى للإمام الغزالي ( 1 / 157 ) .
([7]) الرسالة للإمام الشافعي ( 1 / 88 ) .
([8]) فتح الباري شرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني ( 13 / 291 ) .
([9]) مجوع الفتاوى ( 4 / 159 ) .
([10]) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي – المباركفوري ( 7 / 367 ) .
([11]) تحفة الأحوذي ( 3 / 40 – 41 ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق