كل
بدعة ضلالة
ما معنى حديث
رسول الله ﷺ : كل
بدعة ضلالة ؟
[ عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما قال : كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه وعلا
صوته . . . ويقول :
(( أمـا بعد ، فإن خير الحديث كتـاب الله ،
وخير الهـدي هـدي محمد ، وشر الأمـور مُحدَثاتهـا ، وكـل مُحدثـة بدعة ، وكـل
بدعة ضلالة )) رواه مسلم ( [1] ) ، وفي رواية غيره زيادة (( وكل ضلالة في
النار )) .
وعن العرباض بن
سارية t عن
النبيّ ﷺ أنه
قال : (( . . . فإنه من يعشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات
الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة )) ( [2] ) .
[ هذان الحديثان الشريفان
هما أقوى ما يتمسك به من يحكم على كل المحدثات الدينية بأنها بدعة ضلالة ، وأن
أهلها مبتدعون ضالون من أهل النار ،
إذ النص واضـح حسـب الظـاهر (( كـل محدثة بدعة ، وكل
بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار )) .
لكن هل لهذا النص وجه
من الفهم غير هذا الظاهر الذي يبدو لمن يستدل به على التعميم
؟؟ والجواب : نعم ، والذي يتدبر آيات الكتاب العزيز
يدرك هذا .
دلالة (( كل ))
كلمة (( كل )) قد تأتي والمراد
بها التعميم الشامل فيما دخلت عليه ،
ومـن ذلك قولــه تعالــى :
{ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ
أَثِيمٍ } ، { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ، { كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ
عَدُوًّا } .
وقد تأتي والمراد
بها تعميم هو دون التعميم الشامل لكل ما يصدق عليه اللفظ ،
ومن ذلك قوله تعالى :
{ فَلَمَّا نَسُواْ
مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء} ،
{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً
لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } ، { تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ } .
ففي الآيات الأولى
لا تستطيع أن تتصور شيئاً لا يدخل في عموم ما دخل عليه لفظ (( كل )) .
فالله تعالى بكل شيء عليم ، ويستحيل
أن تتصور شيئاً لا يدخل في علمه تعالى .
وكل نفس لا بد أن يذيقها الله تعالى
الموت ثم يحييها بعدما أماتها ، ويستحيل أن تتصور أن هناك نفساً من الأنفس لا يذيقها
الله تعالى الموت ، وهكذا .
أما الآيات التالية
لها فالعموم ليس بالشامل لكل ما دخل عليه لفظ (( كل )) من كل وجه ، وتأمل معاني الآيات
وما قاله المفسرون فيها :
معاني
الآيات
[ فأما قوله تعالى
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء}
فقد قال الإمام ابن
جرير الطبري في تفسيرها :
فإن قال لنا قائل :
كيف قيل { فتحنا عليهم أبواب كل شيء} وقد علمت أن باب
الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم وأبواب أُخَرُ غيره كثيرة ؟!! .
قيل [ أي قلنا له في
الجواب ] : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت ،
وإنما معنى ذلك : فتحنا عليهم
استدراجاً منا لهم أبواب كل ما كنا سددنا عليهم بابه عند أخذنا إياهم بالبأساء
والضراء ، ...
ففتْحُ الله عليهم أبواب
كل شيء هو تبديله لهم مكان السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه
إياهم من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة، ومن الضر في الأجسام إلى
الصحة والعافية ،
وهو فتحُ أبواب
كل شيء كان أغلق بابه عليهم مما جرى ذكره .
وأما قوله تعالى { ثُمَّ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ
شَيْءٍ } فقد قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله :
وتبييناً لكل
ما لقومه وأتباعه إليه الحاجةُ من أمر دينهم .
وأما قوله تعالى { وَقَالَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء
} فقد قال ابن كثير رحمه الله :
وأوتينا من كل شيء
أي مما يحتاج إليه المُلْك .
وأمـا قوله تعالى {
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } فقد قال الإمـام الطبري
رحمه الله :
وإنما عنى تدمر كل
شيء بأمر ربها مما أرسلت بهلاكه ، لأنها لم تدمر هوداً
عليه السلام ومن كان آمن به ( [3] ) .
وقال ابن كثير
رحمه الله : أي تخرب كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب .
فقد بان وظهر
أن المراد بقوله تعالى { أَبْوَابَ كُلِّ شَيء} هو بعض
الأبواب ،
وأن المراد
بقوله تعالى { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ
شَيْءٍ } هو تفصيل ما يحتاجه قوم موسى من معرفة أمور دينهم ،
وأن المراد
بقوله تعالى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيء } هو ما أعطاه
الله تعالى لسليمان عليه السلام من الأمور التي يحتاج إليها في تدبير أمور الملك
،
وأن المراد
بقوله تعالى { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } هو تدمير
ما تدمره الريح ، أي هذا المذكور فحسب .
لا
يفهم على العموم
[ وعلى هذا فلا
يمكن أن نفهم قوله صلى الله عليه وسلم (( وكل محدثة بدعة ، وكل
بدعة ضلالة )) على العموم الشامل ،
بل نقول : المعنى أن
كل محدثة مما لا يندرج تحت نص من نصوص الكتاب أو السنة ولا يتفق مع مقاصدهما
فهو بدعة مذمومة شرعاً ، وكل بدعة بهذا المعنى فهي ضلالة .
فإن قيل : إذا كان لفظ
(( كل )) قد يأتي ويراد به
التعميم الشامل ، وقد يأتي ويراد به التعميم الشامل من وجه دون وجه
؛ فلم لا نحمل هذا اللفظ الوارد في الحديث الشريف على المعنى الأول حيث إنه هو الظاهر
؟ ! .
لماذا
لا يحمل على العموم ؟
[ فالجواب : أنه إذا
حملناه على العموم الشامل بإطلاق فإن هذا يؤدي إلى مخالفة ما كان عليه الهدي
النبوي وإلـى الحكم على عدد من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبدعة والضلال
( [4] ) ، وهذا محال
، وما أدى إلى المحال فهو باطل .
ثم إن الواجب
على أهل العلم هو أن يجمعوا بين الأدلة ، لا أن يضربوا
بعضها ببعض فيأخذوا ببعضها ويعرضوا عن بعض ، فذلك سبيل أهل الأهواء
] ([5]
) .
كل
بدعة !
ثم إن الذين ينكرون
أن تكون ( كل بدعة ) بمعنى بعض ، هم أيضاً يؤمنون
بهذا التفسير ، من حيث يدرون ، أو لا يدرون ! !
وإلا ما الذي
أخرج الامور الدنيوية ( السيارات ، الطائرات ، الراديو ،
التلفزيون ، الحاسبات ، المكيفـات ، الهواتف ، إلخ . . . ) من هذا
الحديث ( كل بدعة ) ، وهذه
الأمور أحدثت بعد خير القرون ، وبعد زمن السلف الصالح ؟ !
فإن قيل : إنّ هذه
الأمور من أمور الدنيا ، وقد قال النبيّ r ، في حديث آخر :
« أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ
دُنْيَاكُمْ »
قلنا : 1 – لم يفرّق
حديث ( كل بدعة ضلالة ) بين أمور الدنيا ، وأمور الدين .
بل قال الحديث صراحة : ( كل
) بدعة ضلالة !
ولا شك أن تلك الأمور ( السيارات
، الطائرات . . . ) بدعة ؛ إختراع على غير مثال سابق ! حدثت بعد
النبيّ r ، وبعد خير
القرون !
2 – معنى ذلك : أنّهم لم يأخذوا
بحكم حديث ( كل بدعة ضلالة ) وحده ، مستقلاً عن غيره
!
بل أدخلوا عليه إستثناءات
، وجمعوا بينه وبين حديث آخر ، فأخرجوا بمعنى شرعيٍّ صحيح .
ولم يأخذوا بمعنى ( كل
) وحده ، وما يدل عليها تلك الكلمة !
فكذلـك فَعـل مَـن قال بالبدعة
الحسنة ، إستناداً على أدلة أخرى ! أم يجوز لهم ، ما لا
يجوز لغيرهم ؟ !
وقد فسر العلماء هذا الحديث على ضوء
الآيات والأحاديث النبوية الأخرى ، ففسروا ( كل ) بـ(بعض ) ! !
لأن نص هذا الحديث
( كل بدعة ) لم يستثنِ – كما ذكرنا – ولم يخرج الأمور الدنيوية
، فما الذي أخرجها ؟ !
لم يقل ( كل بدعة في الدين
) ، ولم يقل ( كل بدعة إلا أمور الدنيا ) ! بل أطلق
البدعة ( كل بدعة ) !
فلماذا يكون هذا
التفسير والاستثناء مقبولاً هنا ، ومرفوضاً هناك ؟
!
وكذلك إن قيل : أن
سياق الكلام هو الذي أخرج الأمور الدنيوية عن البدعة ، وذلك لأن الحديث هو عن
الدين !
قلنا : إذاً كلمة (
كل ) هنا فسرت بالسياق ، ولم يؤخذ بمعناها وحده
، وهو المطلوب ، فإن الذين يقولون بالبدعة الحسنة ، قالوا ذلك أيضاً ! !
مسألتان
متداخلتان !
وهناك تفسير آخر !
وهو :
إن المسألة
التي اختلف فيها الناس ، أو العلماء ليست مسألة واحدة ، بل
هي مسألتان تداخل بعضها في بعض ! والفريقان هما على الصواب فيما ذهبا إليه
، كل على حدة !
فالذي يذهب إلى أن كل
بدعة ضلالة ، هو على الصواب ، حيث قد ورد في ذلك حديث عن
النبيّ ﷺ .
ولكن خطأه هو في الحكم على المصالح
المرسلة ، أو التي لها أصل في الشرع ، أو التي لا
تدخل في دائرة تغيير الدين ، وتشويهه زيادة ونقصانا بالبدعة ، وتسمية
غير البدعة بالبدعة ، والحكم على أصحابها بالنار !
والذي يذهب إلى أن هناك
بدعة حسنة ، هو أيضاً على الصواب ، من حيث الأمثلة التي
يأتي بها استدلالا على ذلك ، هي في الحقيقة مصالح مرسلة ، أو لها
أصل في الشرع ، أو لا تدخل في تغيير الدين ، وتشويهه زيادة ونقصانا
!
ولا يخالف
ولا يعارض حديث رسول الله r في أنّ كل بدعة ضلالة ، بالمعنى الذي يعارض
الأصول !
والأمثلة التي
يأتون بها ، هي فعلاً كلها بدع ( لأنها أغلبها حدثت بعد النبيّ r ، وبعد خير القرون ) ،
ولكنها لا تعارض ولا تخالف الأصول ، التي يقصدها الحديث !
وكلا الفريقين على
الحق ، وقوله صواب ! وكل منهما يتحدث عن مسألة غير مسألة الفريق الآخر
!
أي : الإختلاف
والكلام هو في موضوعين لا موضوع واحد ، وأحد شروط التناقض
هو : وحدة الموضوع !
كل
ضلالة في النار
أود أن أنقل هنا قولاً
للحافظ إبن تيمية ، رحمه الله ، حول ( وكل ضلالة في النار
) .
قال رحمه الله :
[ وَقَدْ كَـانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَـلَّمَ يَقُولُ فِـي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فِـي خُطْبَةِ
يـَوْمِ الْجُمُعَةِ : خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } ( [6] )
وَلَمْ يَقُلْ: وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ بَلْ يَضِلُّ عَنْ
الْحَقِّ مَنْ قَصَدَ الْحَقَّ وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلَا
يُعَاقَبُ
وَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ
مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ عَنْ حَقِيقَةِ
الْأَمْرِ مَغْفُورٌ لَهُ .
وَكَثِيرٌ مِنْ مُجْتَهِدِي
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ قَالُوا وَفَعَلُوا مَا هُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ
بِدْعَةٌ إمَّا لِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَإِمَّا لِآيَاتِ
فَهِمُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُرَدْ مِنْهَا وَإِمَّا لِرَأْيٍ رَأَوْهُ
وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ .
وَإِذَا اتَّقَى الرَّجُلُ
رَبَّهُ مَا اسْتَطَاعَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا
إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: "
قَدْ فَعَلْت " ] ([7] ) .
فهو – رحمه الله – لا
يحكم على من يضل عن الحق – إجتهادا – بالنار ، بل يقول إنه مغفور له خطؤه ، بل له
أجر على اجتهاده .
إذاً حسب رأي الحافظ إبن
تيمية رحمه الله ، أن تلك الزيادة ( وكل
ضلالة في النار ) غير صحيحة .
وذلك – إضافة إلى
سند ذلك الحديث ( وكل ضلالة في النار ) – فإن المجتهد قد يضل عن
الحق – عند اجتهاده – ويخطأ ، وخطأه مغفور له ، بل له أجر
الإجتهاد – كما في الحديث الصحيح – فكيف يُحكَم عليه بالنار
؟ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق