الخميس، 24 نوفمبر 2022

الفقه الإسلامي بين ظواهر النصوص ومقاصد الشريعة

 

الفقه الإسلامي بين ظواهر النصوص ومقاصد الشريعة

اختلف المسلمون منذ عهد الصحابة في فهم النصوص ذات العلاقة بالتشريع، فأصر بعضهم على الأخذ بظاهر النصوص، ورأى البعض الآخر الأخذ بالمقاصد العامة للتشريعات الإسلامية، فكيف يتم التوفيق بين الاثنين؟

undefined
undefined

ماهر عبد الله:

أعزائي المشاهدين سلام من الله عليكم وأهلاً ومرحبًا بكم في حلقة جديدة من برنامج "الشريعة والحياة".

الإسلام دين يتميز بأنه يجمع -إضافة إلى ما فيه من روحانيات- كميات كبيرة تشكل الجزء الأعظم منه هي عبارة عما يسمى بلغة اليوم (قوانين وتشريعات). ومنذ أن كان الإسلام منذ عهد الصحابة الأول والناس يختلفون في فهم النصوص ذات العلاقة بالتشريع، بعضهم أصر على الأخذ بحرفيتها وظاهر نصها، وبعضهم رأى أن ثمة خيوط ناظمة تجمع المقاصد العامة للتشريع، وإن تميزت المدرسة المالكية في تاريخ الإسلام بأنها الأحرص على ما يُسمى بالمقاصد العامة للتشريع إلا أن الأمر لم يقتصر عليها، ولعل الإمام (الشاطبي) في كتابه (الموافقات) كان من أوائل من لمّح وصرح بوجود هذه المقاصد الناظمة لأهداف التشريع الإسلامي.

لمناقشة هذا الموضوع: النص الإسلامي والتشريع الإسلامي بين المقصد العام وبين ظاهر النص وحرفيته، يسعدني أن أستضيف لهذه الأمسية (سماحة العلامة الشيخ أحمد الخليلي) مفتي سلطنة عمان. سماحة الشيخ أهلاً وسهلاً بك في قناة الجزيرة.

الشيخ أحمد الخليلي:

أهلاً وسهلا ومرحبًا بكم، بارك الله فيكم.

ماهر عبد الله:

لو ابتدأنا بالمقدمة المنطقية لهذا الموضوع وهو تميز الإسلام عن غيره مما درج على تسميته بالدين باشتماله إلى الجانب الروحي، يتبادر إلى الذهن كلمة دين اشتماله على التقنين والتشريع أو باب الفقه بمعناه الواسع.. هل تؤيد أن الإسلام فيه هذين الجانبين أم أنه جانب روحي فقط؟

الشيخ أحمد الخليلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فقبل كل شيء أحيي الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات بتحية الإسلام الخالدة، فأقول لهم وهم يتابعون هذا الحديث: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ماهر عبد الله:

وعليكم السلام.

الشيخ أحمد الخليلي:

هذا ولا ريب أن الإسلام نظام إلهي جاء من أجل وصل هذا الإنسان بخالقه –سبحانه وتعالى– باعتبار هذا الإنسان خليفة في هذه الأرض، وسيداً في هذا الكون، سخر الله –سبحانه وتعالى– له منافع الأرض ومنافع الكون بأسره، وهو لم يُوهب هذه الموهبة العظيمة إلا لأنه ينوء بمسؤولية كبرى، هذه المسؤولية تقتضي أن تكون حياته حياة منظمة، وأن تكون حياته مبنية على أسس من أوامر الله –سبحانه وتعالى– الذي استخلفه في هذه الأرض، فإن الأرض التي اُستخلف فيها الإنسان ما هي إلا جزء من مملكة الله –تعالى– الواسعة، هذا الجزء لا يهدأ ولا يستقر ولا يسعد إلا إذا ما نفذ فيه أمر الله سبحانه وتعالى. ومن المعلوم أنه لا يمكن لأي حاكم من الحكام، وهو يتولى مسؤولية تسيير دَفَّة مجموعة من الناس إلا أن يضع لهم نظامًا، ولئن كان الأمر كذلك بالنسبة إلى هؤلاء الحكام، فمن المعلوم أنه من الأحرى بأن يكون الله –تبارك وتعالى– لم يهمل عباده، ولم يهب الإنسان هذه المَلكة ملكة العقل وملكة التدبير التي تمكن من خلالها أن يسيّر الأمور في هذه الأرض بمشيئة الله –تعالى– وتوفيقه إلا من أجل أن الإنسان مأمور بأن تكون حياته حياة مضبوطة، حياة مُقيدة، ليست هي كحياة الحيوان الأعجم الذي يتصرف وفق شهوته ورغبته من غير أن تكون له ضوابط.

ماهر عبد الله [مقاطعا]:

لو سمحت لي بالمقاطعة في هذه الجزئية تحديدًا، ثمة ديانة قبلنا الديانة اليهودية كان فيها تشريع، الجانب الخلقي الذي تعرضت إليه في الأخير.. هل نحن متوازنون أم نقع في نفس المطب


[فاصل إعلاني]

ماهر عبد الله:

هل هناك توازن فيما ترى بين الجانب الخلقي والجانب التشريعي؟ لأنه اليهودية سبقت بالجانب النظامي هذا لكنها لم تنجح.

الشيخ أحمد الخليلي:

على أي حال نحن إذا جئنا إلى الشرائع المنزلة من عند الله –تبارك وتعالى– على الرسل السابقين نجد أن هذه الشرائع إنما كانت شرائع مرحلية، ولذلك لم تكن كالإسلام كشريعة الإسلام المنزلة على نبينا محمد –عليه أفضل الصلاة والسلام– في استيعابها لمشكلات الإنسانية وعمقها في وضع الحلول لجميع هذه المشكلات حلولاً فطرية عميقة، لأنها كانت شرائع مرحلية، بخلاف هذه الشريعة الخاتمة الجامعة، فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيه –صلى الله عليه وسلم- بقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء}، ولا يلزم أن يكون هذا التبيان تبيانًا نصيًّا، فقد يكون هذا التبيان تبيانًا نصيًّا، وقد يكون ظاهرًا، وقد يكون هذا التبيان عموميًّا شاملاً، قد يكون عائدًا إلى قاعدة من القواعد، وقد يكون أيضًا برعاية مقاصد الشارع، فكل من ذلك فيه تبيان لما تحتاج إليه هذه الإنسانية.

ماهر عبد الله:

اسمح لي أن أطلب منك أن توسع في هذه القضية قليلاً، جزء من أزمة الفكر الإسلامي اليوم أننا نعاني من بعض صلاتنا ببعض العلماء أن هذه الحلول الفطرية  {وتبيانًا لكل شيء} يُساء فهمها ويعطي الانطباع للمسلم في الشارع أن كل الحلول جاهزة للمشكلة.. فقط فسر لي ما المقصود بالحلول الفطرية؟ وما المقصود بقوله تعالى: {تبيانًا لكل شيء}؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، كما قلت أولاً: من ناحية التبيان لكل شيء قلت بأن البيان قد يكون نصيًّا، بعض الأحكام جاءت نصية في الكتاب لا تقبل الجدل، ولا تحمل معنى آخر: {حُرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم..} إلى آخر الآية الكريمة، هذه آية جاءت ناصة على مدلولاتها ولا تحتمل معاني أخرى كذلك {حُرِّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله..} هذا أمر جاء نصيًّا، قد تكون هنالك آيات عامة، هذه الآيات العامة تحتمل التخصيص، ولذلك يقول جمهور من العلماء بأنه ما من عام إلا وقد خصص، ولكن هذا بطبيعة الحال إنما هو في آيات الأحكام، ولا يمكن أن نحمل مثل قول الله تبارك وتعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحد{..

ماهر عبد الله:

أنها قد تخصص.

الشيخ أحمد الخليلي:

بأن هذا مخصص، لا، لا نحمل مثل هذه الآيات على التخصيص، هذه آيات عَقَدية دلت عليها أدلة العقل –أيضًا– على أنها باقية على عمومها، ولا يمكن أن يتناول عمومها شيء من التخصيص قط، أما آيات الأحكام فالتخصيص وارد فيها، حتى آيات العبادات الله –تبارك وتعالى– خاطب الناس جميعًا بالصلاة والصيام، ولكن الحائض لا تصلي ولا تصوم في أثناء حيضها.

ماهر عبد الله:

بل ويحرم عليها

الشيخ أحمد الخليلي:

ويحرم عليها أن تصلي وتصوم {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} ولكن مع ذلك كله –أيضًا كما قلنا– الحائض لا تدخل في وجوب الصلاة عليها في أثناء حيضها، وكذلك النفساء، والله –تبارك وتعالى– فرض فرائض متعددة دخلها التخصيص.

الأحكام التي جاءت في القرآن الكريم كثير منها خُصِّص، حتى إننا نجد أن التخصيص قد تكون آية خُصصت من مخصصات متعددة: مخصصات متصلة ومخصصات منفصلة، مخصصات من خارج آيات الكتاب العزيز من السنة النبوية والله تعالى يقول: {قل لا أجد فيما أُوحي إليَّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أُهِلَّ لغير الله به..}، هذا التخصيص متصل، ثم جاءت مخصصات منفصلة من ذلك: تحريم ذوات الناب من السباع والمخالب من الطير، كما جاء النهي عن أكل الحُمر الأهلية، هذه مخصصات منفصلة.. مخصصات منفصلة –أيضًا– من نفس القرآن الكريم: تحريم الصيد على المحُرم، وكذلك تحريم الخمر، الخمر من جملة المطعومات.

ماهر عبد الله:

خليني أسألك في هذا الجانب، أنت ذكرت أشياء لها علاقة بالصلاة، أشياء لها علاقة بالصوم، ثمة تمييز قبل أن نخش [ندخل] في جوهر الموضوع.. في العادة أنتم مشايخنا علمتمونا أن الدين نقسمه عمومًا إلى عبادات، وهذه لا يمكن فهمها إلا نصيًّا، وقبلها عقائد ثم معاملات. كمقاربة حجم الاعتماد على المقاصد العامة، حجم الاعتماد على الروح العامة للتشريع، حجم الاعتماد على العقل.. أين يكون أكثر في آيات العقائد نصوص العقائد نسميها، نصوص العبادات أم نصوص المعاملات؟

الشيخ أحمد الخليلي:

طيب على أية حال إذا جئنا إلى نصوص العقائد نجد أن النصوص ما من نص إلا والعقل يؤيده، ولذلك نجد –وهذه من مزايا القرآن الكريم– عندما يقرر قضية عقدية يتبعها بالأدلة، الله –تبارك وتعالى– يقول: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} أتبع بعد ذلك أدلة عقلية تؤكد ما أثبته من أن الحق –سبحانه وتعالى– إله واحد، وذلك قوله– سبحانه: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفُلْك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المُسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}.

ثم بعد ذلك نجد أيضًا بالنسبة إلى نصوص العبادات، نصوص العبادات هي أقرب إلى التسليم، نحن لا نشك أن كل عبادة من العبادات إنما شُرعت لحكمة علمها الله –سبحانه– إذ أعمال الحكيم لا تخلو أبدًا من الحكمة، ولكن مع ذلك كله هذه الحكمة قد تتجلى، بالنسبة إلى العبادات في عمومها هي متجلية، لأن الله تعالى بَيَّن أن الغاية من العبادات ومن مشروعيتها تقوى الله، فهو القائل: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}، {لعلكم تتقون} على تفسير (ابن جرير الطبري) وجماعة من المفسرين وهذا قول جماعة من علماء العربية بمعنى: لكي تتقوا أي لعل هنا آتية بمعنى كي، وهذا مما استشهد له بشيء من شواهد العربية، فالشاعر يقول:

وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا      نكف ووثقتم لنا كل موثق

فلما كفننا الحرب كانت عهودكم    كلمع سرابٍ في الملا متعلق

أي: لعلنا نكف بمعنى: لنكف، بدليل قوله: ووثقتم لنا كل موثق. ثم إننا نجد إلى الصلاة نفسها الله –تبارك وتعالى– يقول: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وفي الزكاة يقول: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، نجد في الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، نجد في الحج ارتباط الحج بالتقوى مذكورًا في أكثر من آية، الله تعالى يقول: {وأتموا الحج والعمرة..} إلى أن ختم هذه الآية بقوله: {واتقوا الله إن الله شديد العقاب}، ثم قال بعد ذلك: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب}، ثم قال: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومَنْ تأخَّر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} وقال فيه: {ومن يُعَظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} وقال أيضًا: {لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}.

كل ذلك يدل على أن هذه العبادات في عمومها تؤدي إلى تقوى الله، فالحكمة من مشروعيتها تقوى الله، ولكن بالنسبة إلى جزئيات العبادات، نحن لا نستطيع أن ندخل في هذه الجزئيات: لماذا كان فرض المغرب ثلاث ركعات؟ لماذا كان فرض الفجر ركعتين؟ لماذا كان فرض الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؟ لماذا صلاة الظهر صار وقتها ممتدًا إلى بداية وقت صلاة العصر، وهكذا صلاة المغرب، بينما بعد صلاة الفجر ينقطع الوقت إلى صلاة الظهر؟

هذه أمور نكلها إلى الله، لا يمكن للعقل البشري أن يتدخل فيها، كذلك إذا جئنا إلى الحدث، الحدث يعني هو يتعلق بالنفس البشرية بحيث تمنع هذه النفس من الصلاة بسببه، ولكن هذا الحدث مورده مكان مخصوص، لماذا لم يقتصر على تنظيف ذلك المورد فقط؟ ثم لماذا خصصت له أعضاء يكون تنظيفها رفعًا لهذا الحدث؟ هذه أمور لا يمكن أن يتدخل فيها أحد.

ماهر عبد الله [مقاطعا]:

لكن في المحصلة النهائية –لو سمحت لي– إذن البندين الأوَّلين: العبادات والعقائد ليست هي مجال بحثنا الرئيسي لهذه الليلة فيما يتعلق بالمقاصد والنصوص، لأنه كما تفضلتم نأخذها على وجه التسليم في الأساس.

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، كذلك أما إذا جئنا إلى الأحكام الشرعية، فإن الأحكام تدور حول مصالح البشر، سواء كانت هذه المصلحة مصلحة الدين أو مصلحة النفس أو مصلحة العقل أو مصلحة النسل أو مصلحة المال، وتتفاوت بقدر أثرها في هذه المصالح فقد تكون هذه المصلحة ضرورية، وقد تكون هذه المصلحة حاجية، وقد تكون هذه المصلحة تحسينية.

ماهر عبد الله:

اسمح لي قبل أن تواصل، تحدثت عن الدين، النفس، العقل، النسل أو العرض، والمال. الأربعة الأخيرة لن تختلف عليها كثيرًا لأن كل البشرية مسلمين وغير مسلمين يقرون بها.. مسألة الدين، ما هي أهمية أن يكون الدين هو المصلحة العامة الأولى المطلوب الحفاظ عليها؟ كيف تُقنع غير المسلم بأهمية أن يكون له دين؟ ماذا سيستفيد؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، على أي حال أولاً قبل كل شيء هذا الإنسان وهو في هذه الأرض وبطبيعته مُسْتخلف في هذه الأرض ومسؤول عن عمارتها بأمر الله –سبحانه وتعالى– يحس هذا الإنسان بخواء فكري وفراغ روحي عندما يكون غير متدين، ولذلك كان الناس لهم مسالك متعددة في البحث عن الدين بفطرتهم، إذ الإنسان بفطرته يبحث عن الدين، لأنه يشعر بأنه بحاجة إلى الاتصال بقوة غيبية تسيطر على هذا الكون، فهو يشعر بأنه بدون هذا الاتصال يعيش في خواء وفي فراغ، فمن هنا كان دائماً يشعر بالحاجة إلى الرغبة في هذا الاتصال، ولكن بما أن الدين لا يخضع لتجارب البشر، ولا يخضع لمقاييس العقل وحده، إذ العقل محدود كسائر الطاقات التي في الإنسان، وكما أن البصر لا يمكن أن يخترق الحجب فيبصر ما وراءها، كذلك العقل لا يمكن أن يخترق الحجب المعنوية فينفذ إلى ما وراءها، والعقل يتأثر بمؤثرات كثيرة، قد يتأثر العقل بمؤثر اجتماعي، وقد يتأثر بمؤثر نفسي، ومن هنا تتفاوت..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

وبمجمل الثقافة التي وَلَّدته وجعلت منه شيئًا.

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، هذا مما يدخل في الاجتماع، لذلك تتفاوت المجتمعات في الاستحسان والاستقباح، وقد يتفاوت الناس الذين يعيشون في البيئة الواحدة في الاستحسان والاستقباح، وإنما كانت الضرورة داعية إلى أن ينزل وحي من الله –تعالى– ليوجه هذا العقل البشري إلى الفطرة، إلى الطريق السليم، إلى الحق المستقيم.

فإذن من هنا تأتي ضرورة البشر إلى الدين، وإذا جئنا إلى مصالح البشر بدون دين نجدها لا تقوم أبدًا، بغض النظر عن مصلحة الإنسان في الدار الآخرة، وعن حاجته إلى الصلة بربه سبحانه، هنا في هذه الحياة الدنيا لا يمكن للأوضاع البشرية أن تستقر بدون دين، لأن الناس خلقهم الله تعالى كما هو معلوم اجتماعيين بفطرتهم، مدنيين بطبعهم، ومن هنا كانت المصالح بينهم مشتركة، واشتراكهم في المصالح يؤدي إلى التدافع والتجاذب، وهذا يعني أنه لابد من أن يكون هنالك نظام، هذا النظام يسيطر على هذه النفوس البشرية فيوجهها وجهة واحدة ليكون تجاذبها وتدافعها في حدود الفضيلة والأخلاق..


[ موجز الأخبار]

ماهر عبد الله:

كنت قبل الفاصل تحدثنا عن أهمية الدين في الحياة، ولهذا رُتِّب على أنه المقصد الأول من مقاصد التشريع العامة، لكن ثمة من يقول: إن أوروبا والعالم الغربي والكثيرين من البشر نجحوا وعاشوا بالعكس، تجد ثمة مكانة للإنسان في المجتمعات غير المتدينة –إذا جاز التعبير– أكثر مما هو موجود في المجتمعات المتدينة.

الشيخ أحمد الخليلي:

الجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول أن الله –سبحانه وتعالى– يبتلي من يشاء من عباده بما شاء، هؤلاء الغربيون –لا ريب– أنهم بنوا الحياة المادية بناءً باهرًا لأنهم أولوها كل اهتمامهم، ولكن هل استطاعوا أن يبنوا الإنسان؟ هل استطاعوا أن يُكَوِّنوا الإنسان؟

نحن نجد أن هذه البلاد التي تقدمت في مجال الحضارة المادية أخفقت من حيث بناء الإنسان بالقيم الإنسانية، ولذلك أصبحت الجرائم هناك تقاس بالثواني، وهي تتزايد باستمرار، والقوة لم تستطع أن تؤمّن الإنسان هناك، بينما عندما كان الدين سائدًا، والمسلمون آخذون بحجزته غير مفرطين في جزئية من جزئياته فضلاً عن التفريط في كلياته، في ذلك الوقت كانت الدولة الإسلامية تمد نفوذها إلى جانب واسع من هذه الأرض، نستطيع أن نقول بأنها ورثت معظم الممالك الرومانية والفارسية، وساد العدل، وساد الاستقرار، وسادت الطمأنينة في هذه الأراضي كلها، في وقت لم تكن توجد فيه مخابرات، ولم تكن توجد فيه وسائل الاستكشاف الموجودة في وقتنا هذا، ولم تكن توجد فيه قوة عسكرية، ولم تكن توجد فيه أسلحة رهيبة مخيفة للإنسان، ولكن مع ذلك كله حصلت الطمأنينة وحصل الاستقرار، واطمأن الإنسان –أي إنسان كان– بغض النظر عن دينه ومعتقده، حتى أن الذمي كان يُنازل الخليفة أمام القاضي، وبما أن الخليفة تعوزه البينة يكون الحكم لصالح الذمي، هكذا كان.

الأمر الثاني أن المسلمين في وقتنا هذا ما كان تخلفهم إلا بسبب الغزو الفكري الذي أبعدهم عن التمسك بدينهم، ولو أنهم استمسكوا به تمام التمسك لما كانوا متخلفين، فإن الإسلام يأمر بالأخذ بأسباب القوة، الله تبارك وتعالى يمتن علينا بقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}، ويمتن علينا بقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه}، فإذن نحن وقد امتن الله علينا بذلك علينا أن نتخذ الوسائل لإمكان استغلال هذه المنافع التي في هذه الأرض والتي هي من حول هذه الأرض لأجل مصلحة الإنسان في هذا العالم.

ماهر عبد الله:

اسمح لي عند هذه النقطة، نحن نتحدث عن المقاصد، وذكرنا الإمام الشاطبي وذكرنا المذهب المالكي، لكن.. هذا المدخل إلى فهم الشريعة، هل هذا فهم مُستحدث أم أنه ثمة في حياة المصطفى –صلى الله عليه وسلم– وفي حياة الصحابة من حوله ما أشعرنا، ما دلنا على وجود مثل هذا الفهم المقاصدي العام؟ هل اختلف الصحابة في فهم النصوص بين مقاصديين وظاهريين؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، حصل الخلاف بين الصحابة –رضوان الله عليهم–والنبي –صلى الله عليه وسلم– أقر هؤلاء وهؤلاء على ما رأوا، ذلك لأن النبي –عليه أفضل الصلاة والسلام– أراد أن تكون هذه الشريعة شريعة سمحة واسعة، ولا ريب أنه لو لم يختلف الصحابة –رضوان الله عليهم– لما أمكن لمن بعدهم أن يختلفوا، وهذا يعني إغلاق باب النظر، ويعني عدم الاجتهاد، وقد أراد النبي –صلى الله عليه وسلم– أن تكون هذه الشريعة شريعة فيها الاجتهاد، فيها النظر في الأمور غير القطعية، فلذلك أقرهم على ما فهموه من كلامه صلى الله عليه وسلم، فهو عندما قال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: "لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة"، منهم من فهم الحديث على ظاهره، وأنه يمكن أن يخصص عموم وجوب المحافظة على وقت الصلاة بأمرالنبي–صلى الله عليه وسلم–إذ النبي مُبلغ عن الله –سبحانه– وقد أمرنا الله –تعالى– بطاعته، وجعل طاعتنا له من طاعته سبحانه، فلذلك قالوا: نحن لا نصلي كيفما كان ولو فات وقت الصلاة حتى نصل إلى بني قريظة.

هؤلاء أخذوا بالظاهر، طائفة أخرى نظرت إلى المقصد، نظرت إلى أن الصلاة كتاب موقوت، لها أوقات محددة، ورأوا أن الحديث لا يعني تأخير الصلاة عن وقتها، وإنما يعني الحديث الشريف المسارعة بحيث إذا أمكنهم ألا يصلوا إلا هنالك، بحيث لا يفوت وقت الصلاة إلا وقد بلغوا عند بني قريظة، فعليهم أن يفعلوا ذلك، فلذلك قالوا: نحن نصلي الصلاة لوقتها، ونتعجل الذهاب امتثالاً لأمر الرسول –صلى الله عليه وسلم- فلما رجعوا إلى النبي –صلوات الله وسلامه عليه– أقر الفريقين على اجتهادهما، أقر هؤلاء على نظرهم، وأقر هؤلاء على نظرهم، ولم يرد أن يقول بأن هؤلاء أصوب رأيًا حتى لا يغلق باب الاجتهاد ليظل باب الاجتهاد مفتوحًا من بعده.. وسامحني يعني في عهد الخلفاء الراشدين جميعًا –رضي الله تعالى عنهم– نرى أنهم كانوا يجتهدون في تطبيق النص، ربما كان النص يُطبق في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم– وفي جزء من عهد الخلافة الراشدة على نحو معين، ولكن يأتي من بعده عهد آخر فيرى الخليفة ويرى المسلمون معه عدم تطبيق النص على ذلك النحو، لأن الأمور تغيرت والأحوال تحولت، فعمر –رضي الله تعالى عنه– عندما منع المؤلفة قلوبهم ما كانوا يُعطَونه من قبل من سهم في الزكاة، لم يكن بذلك مُعطلاً للنص –حاشاه من ذلك– وإنما كان مُعملاً للنص كما يقتضيه الحال، فعمر أدرك تمام الإدراك أن الأمر جاء من عند الله وطبقه الرسول –صلى الله عليه وسلم– لحكمة، وذلك لأن هؤلاء كانوا في ذلك الوقت يرهب جانبهم، فالدولة الإسلامية في بداية نشأتها ومن داخلها أعداء ومن خارجها أعداء، فبداخلها المنافقون الذين كانوا يتربصون الدوائر للمسلمين، وخارجها كان الكفرة من الروم والفرس الذين كانوا –أيضًا– يتربصون الدوائر بهذه الدولة، أما وقد وصل الأمر بأن تُسلَّ عروش الظالمين من الأكاسرة والقياصرة ويُنزلوا من عليائها صاغرين، ويُخرَجوا من ممالكهم صاغرين، فإنه –ولا ريب– لم يبقَ هنالك جانب يرهب من قبل أولئك الذين كانت تتألف قلوبهم بسبب دخولهم في الإسلام من جديد، فإذن هو أعمل النص، أعطاهم عندما كان الأمر يقتضي ذلك، ومنعهم عندما كانت المصلحة تقتضي ذلك.


[فاصل قصير]

ماهر عبد الله:

مولانا، أنت فتحت بابًا عظيمًا، في الأمثلة الأولى سماحتكم تفضلتم عمن اجتهدوا في نصوص قابلة للفهم بهذه الطريقة أو تلك، لكن ما ختمتم به حديثكم قبل الفاصل عن اجتهاد في معرض نص واضح قطعي الثبوت قطعي الدلالة، قضية المؤلفة قلوبهم، والقضية الأشهر قضية الحدود في عهد (عمر بن الخطاب)، هذا أولاً يصدمنا بالتعارض مع قاعدة شرعية دارجة على الألسن "لا اجتهاد في معرض النص"، يصدمنا في اضطرارنا للموافقة على قبول بعض من يُسمون بالعلمانيين العرب على تاريخية النص الإسلامي بما فيه بعض القطعي في القرآن والسنة.

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم.. نحن لا نشك أن القرآن شرع حق المؤلفة قلوبهم، ولا نشك بأن ما كانوا يُعْطَوْنه كانوا يعطونه باستحقاق بأمر الله تبارك وتعالى، ولكن لم يكن هذا الحق لهم وحدهم ومنعوا منه، هنالك أصناف تُدفع إليها الزكاة، هذه الأصناف تُدفع إليها الزكاة بسبب استحقاقهم: الفقراء والمساكين والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل وفي الرقاب.. هذه أصناف هي مُستحقة للزكاة، وقد يكون نظرًا إلى الظرف تغطية هذا الجانب جانب هؤلاء أهم، فلا يعني أن آية الأصناف الثمانية عُطلت، وإنما أُخر إعطاء المؤلفة قلوبهم ما كانوا يعطونه من قبل بسبب أنهم كانوا يعطون لحكمة، هذه الحكمة رأى عمر –رضي الله عنه– أنها انتفت، ولا يعني ذلك تعطيلاً للنص ولا إلغاءً له، فعندما تكون الحاجة داعية إلى تأليف الناس لمصلحة الإسلام..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

أنا لم أقل إنه لغى ولا عطل ولا دعا إلى إلغاء أو تعطيل، لكن فتح الباب أمام الاجتهاد في معرض النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة.

الشيخ أحمد الخليلي:

الاجتهاد في تطبيق النص، وليس في عين النص.

ماهر عبد الله:

طبعًا.. طبعًا.

الشيخ أحمد الخليلي:

تطبيق النص، يعني النص يُطبق عندما تكون الحاجة داعية، لأن مشروعية هذا السهم لأجل حاجة المسلمين، فعندما تكون الحاجة داعية يُعطون، أما عندما تكون الحاجة غير داعية، وهناك أصناف هي أكثر استحقاقًا فإذن الأولى أن يُصرف هذا السهم في تلك الأصناف.

ماهر عبد الله:

لو سألتك السؤال التالي بعد هذا: يبدو أنك تتفق مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب..

الشيخ أحمد الخليلي [مقاطعًا]:

ومن أنا حتى أُقرن بعمر رضي الله عنه؟

ماهر عبد الله:

تتفق مع رأي إمامنا وسيدنا (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، لكن من غير عمر يملك هذه الأحقية؟ قد يقول لك قائل: إن هذا هو الخليفة الثاني، هذا كان من المقربين جدًّا من المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا الذي وردت إشارات من المصطفى باتباعه واتباع بعض الخلفاء الراشدين من بعده، قد يجوز له ذلك، لكن بعده كيف..؟

الشيخ أحمد الخليلي [مقاطعًا]:

نحن لا نستطيع أن نقول بأن الباب يُفتح على مصراعيه لأجل اقتحام هذا الأمر، هذا أمر لا يمكن أن يُقتحم هكذا، على أننا لو قلنا بفتح هذا الباب من الذي يضمن الآن أنه لا يدعي مدعٍ بأن مصلحة الأمة الآن في فتح البارات لأجل جلب السواح، ولأجل تنمية اقتصاد البلاد، ولأجل التوفير، وأن مصلحة الأمة في المعاملة الربوية، وأن مصلحة الأمة في التسامح في الأخلاقيات، من الذي يضمن لنا أنه لا يفتح هذا الباب؟

نعم في ذلك الوقت قبل كل شيء كان الإيمان يملأ النفوس، ومخافة الله تعالى تسيطر على القلوب، ولذلك كانوا والحمد لله مُوفقين في اجتهادهم، أما والحال هذه لا ريب أن باب الاجتهاد مفتوح، لكن لا يعني.. ما هي المصلحة؟ أولاً المصلحة ما هي؟ نحن علينا أن ندرك المصلحة المعتبرة هي المصلحة التي اعتبرها الشارع لا المصلحة التي ألغاها الشارع، المصلحة التي ألغاها الشارع لا قيمة لها، الله تبارك وتعالى ألغى اعتبار ما يمكن أن يتصور بأنه مصلحة بالنسبة إلى الخمر، بداية الأمر لأجل التنبيه لتنبيه الناس، قال سبحانه وتعالى: {يسألوك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} ولكن بعدما نزلت الآية القاطعة لدابر كل شقاق وكل تمسك بمحاولة تبرير شرب الخمر أو بيعها وشرائها، وهي قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يُوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} ما بقي مجال لدعوى أن الخمر فيها منفعة، وأن هذه المنفعة يمكن أن تُنمى وتعود بالمصلحة. ربما يدعي المدعي أيضًا بأن الله –تبارك وتعالى– أمرنا أن ننظر في مصالح اليتامى حيث قال: {ويسألونك عن اليتامى قبل إصلاح لهم خير} ومال اليتم ربما ينمو بالاتجار في الخمر، بالمضاربة في الربا، بمثل هذه الأمور، لا..لا..لا، هذا باب يُغلق لأن الله تبارك وتعالى ما اعتبر، ما عدَّ هذه مصلحة قط، والنبي– صلى الله عليه وسلم– ماعد هذه مصلحة.

فإذن لا يمكن أن يُفتح هذا الباب قط، نعم نحن نقول بأن المصالح تُعتبر إذا كانت هذه المصالح يعتبرها الشارع، أما المصالح التي ألغاها، أو ما يُتصور بأنه مصالح وقد ألغاها الشارع فلا يمكن اعتبارها، على أننا قبل كل شيء ذكرنا أن عقل الإنسان عقل محدود، وبما أنه عقل محدود لابد من أن يستسلم لأمر الشارع.

ماهر عبد الله:

سنعود إلى المصلحة، لكن اسمح لي عند هذه النقطة أن نعود إلى الإخوة المشاهدين لنشركهم معنا في هذا الحوار، معي الأخ نضال أبو نواس من السعودية، تفضل أخ (نضال).

نضال أبو نواس:

السلام عليكم.. تحية طيبة سيدي ماهر وتحية للسيد الخليلي، أنا أحبه ومتابع له الصراحة.

ماهر:

حياك الله أهلاً بك.

نضال:

أولاً أنا حأتكلم وحأقول هذا رأي خاص بي أنا، قد أكون صائبًا وقد أكون مخطئا، لست فقيهًا ولا شيخًا، لكن مجتهد، يعني إنسان مسلم على الأقل.. العقل المقنن أو المسدد –إن جاز التعبير– هو الفعل الذي يبتغي به الإنسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة أو موافقة الشرع، الله عز وجل يقول في سورة التوبة: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم}، نجد بعض الفقهاء يحاول الهروب من هذه الآية والاستشهاد بآيات أخرى، لأنها قد تكون محرجة لهم أمام مفاهيم الإنسانية كحرية الرأي والتفكير المتحرر، أو الخيار الديني الحر، فيما نجد في المقابل أن بعض الفقهاء المناضلين يؤيدون فرض الجهاد لأنهم يؤيدون الآية السابقة وتفسيرها الذي ليس فيه حرج لهم، فهم يريدون الحرب.

ألا تشعر معي سيدي الشيخ وسيدي ماهر أن كلا الفريقين يشوهان تفسير الآية بإسقاط هموم وهيجانات كل فريق على الآية؟ كل حسب فهمه، ثم ألا ترى أن تفسير الآية يجب أن يكون عبارة عن خليط من العقل المسدد أو المقنن في زمن الرسول، والعقل المسدد في زماننا هذا مع الاستظلال بعقلية التشريع النبوي، في زماننا هذا مثلاً سيدي ماهر وسيدي الشيخ ضعف العرب كثيرًا، وكثرت المعاهدات والاتفاقيات والتداخل بين الغرب والإسلام والهجرة والاستعمار، ألا يكون لهذه الأمور مساعد لنا أو مبرر في البعد عن حرفية النص، ومحاولة استخراج نص جديد يستظل بنفس الروح التشريعية الإلهية؟ يعني مثلاً كيف نستطيع الالتزام بنفس النصوص دون تغيير في الفترة التي كانت إبان سيد البشر، ونحن نشهد تغييرًا مطردًا في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولهذا أنا أجد من وجهة نظري المتواضعة جدًّا جدًّا أن كثيرًا من الجماعات الإسلامية لم تصل إلى مآربها السلطوية بسبب هذا التجمد النصوصي.. الآن سأقول نقطتين وآخذ فيها رأي سيدي الشيخ أولاً: ما أهمية البعد التاريخي وملاصقته لفقه التشريع؟ ثانيًا: المجتهدين المعاصرين.. ألا ترى سيدي أنهم مُقيدون اعتمدوا على سوابق السلف، قرؤوا وحفظوا فقط؟ ولهذا انحصرنا في الإملاء والكتابة والحفظ فقط.. أشكرك على رحابة صدرك يا أستاذ ماهر، شكرًا.

ماهر عبد الله:

مشكور، وأنت كنت مختصرًا، معي الأخ عبد الله ابن عامر من سلطنة عمان، أخ عبد الله تفضل.

عبد الله بن عامر:

السلام عليكم.

ماهر عبد الله:

وعليكم السلام.

عبد الله بن عامر:

أول شيء أشكركم –حقيقة– على هذا البرنامج، ومسرور جدًّا أن عندكم اليوم سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله، وحقيقة نحن ممن تربينا على روح هذه المدرسة، وما أريد أن أقوله باختصار.. أستاذ ماهر أنت ذكرت في البداية بأن قضية مقاصد التشريع تأسست من حيث التأصيل الفكري التنظيري مع وجود الإمام (القرافي)، وقد ذكر سماحة المفتي بأنه اعتباراً من بعد ذلك وُجِد ما يسمى بالتفريق بين النصوص التعبدية المحضة والنصوص التي لها مقاصد، وكذلك (الإمام السالمي) الفقيه الإباضي المشهور يقول في طلعة الشمس:

وقيل إن الأصل في الأحكامِ    تعليلها بحسب المقامِ

وقال قوم عدم التعليلِ      أصل فيحتاج إلى دليلِ

ما أريد أن أقوله باختصار بأن الحياة منذ الإمام القرافي مرورًا بالإمام السالمي رحمه الله إلى عصرنا هذا تعرضت لمتغيرات، وأنا أعلم بأن الفقهاء المعاصرين يعقدون اجتماعات دائمة عبر ملتقيات الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي، ونلاحظ أن هناك اهتمامًا واسعًا بقضية الفروع الفقهية ومستجدات الحياة، ما أريد أن أقوله: هل هناك اهتمام بإعادة التنظير لمسألة مقاصد الشريعة، يعني ما هو الأمر الذي يمكن أن يعد أمرًا تعبديًّا محضًا لا يمكن للعقل البشري أن يدخل فيه، وما هي الأمور التي يمكن للإنسان أن يجادل فيها ويحاور، ثمة مسائل كثيرة تعرض لها الفقهاء السابقون، وقالوا بأنها من باب الأمور التعبدية المحضة. وهناك الآن نفس هذه القضايا بسبب مستجدات الحياة وتغير النظرة وظروف العقل، من الفقهاء من يقول بأنها يمكن أن ينظر إليها وفق مقاصد التشريع، أذكر على سبيل المثال مثلاً قضية ما يتعلق بالجراحة الطبية، ثقب الأذن مثلاً.. الفقهاء القدامى منهم من شَدَّد ومنهم من رخص باعتبار أن هذه من الأمور الضرورية التي تعتبر من الضرورات بالنسبة للمرأة، قضية محرمات السماع الأغاني والموسيقى، كثير من الفقهاء سابقًا وقفوا حيالها وقفة التشدد، من الفقهاء المعاصرين من قال الآن بأنها مُباحة نظرًا لأنها تتساوى مع ما يسمونه بفلسفة الجماليات في الإسلام.

أريد باختصار: هل هناك اهتمام واسع بوضع قواعد جديدة تضاف إلى القواعد التي وُجدت في عصر الإمام القرافي؟ أم أن الملتقيات التي تعتقد للفقه الإسلامي ستقتصر على مجرد مناقشة الفروع الفقهية، بغض النظر عن وضع.. يعني لغة جديدة..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

سؤال جميل يا أخ (عبد الله) وإن شاء الله تسمع من الشيخ تعليق عليه، طيب سيدي.. أعتقد سمعت الأسئلة طبعًا.

الشيخ أحمد الخليلي:

السؤال الأول.

ماهر:

سنبدأ بها بالترتيب، الأخ نضال تعليقه.. كان يريد منك تعليق على الآية.. ثمة من يفسرها اليوم تفسيرًا ليبراليًّا لأن الإسلام بحاجة أن يدافع عن نفسه، وثمة من يقول: لا.. الجهاد فرض عين إلى قيام الساعة، أي التفسيرين؟

الشيخ أحمد الخليلي:

على أي حال، لا يملك أحد أن يلغي حكم الجهاد، ولكن نحن علينا أن نعرف بماذا نبدأ؟ وما هي الخطوات التي نتخذ؟ وما هي الوسائل التي ترتفع بنا إلى أن نكون أهلاً للجهاد؟ نحن نجد أن النبي –صلى الله عليه وسلم– ربى هذه الأمة قبل كل شيء على الإيمان، ورباها على الألفة والمودة، ورباها على التضحية، عندما ضحت هذه الأمة، عندما حان موقف الجهاد هَبَّت هذه الأمة بسبب تلك التربية، هبت لنصرة الله ولنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، على أن الجهاد إنما كان تأمينًا لسير الدعوة، حتى تصل هذه الدعوة إلى نفوس المستضعفين الذين يتطلعون إليها، وقد حاول أولئك المتغطرسون المتكبرون أن يحولوا بينها وبين مسامعهم، فلابد من تذليل العقبات لأجل أن تصل هذه الدعوة.

ومع هذا كله نجد أن الله –سبحانه وتعالى– يأمر بالعدل حتى في الجهاد، ويأمر بالإنصاف، الله سبحانه وتعالى يقول: {وقاتلوا في سيبل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين{، نعم الأمة الإسلامية استمسكت بهذا الأمر الرباني وسارت في هذا الطريق الصحيح، ووصلت إلى ما وصلت إليه.

نحن على أي حال لا نقول بنسخ الجهاد، معاذ الله، فإن الجهاد قائم، أي قائمة مشروعيته ما دامت السماوات والأرض، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، ولكن مع هذا كله نقول بأن الأمة عليها أن تجاهد قبل كل شيء نفسها لتـتآلف على كلمة سواء، لتكون أهلاً للاضطلاع بهذه الأمانة، نحن صدق علينا اليوم ما جاء في الحديث: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.. أمن قلة؟ قال: لا، إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل"، فلأجل هذا نريد أن نخرج من هذه المرحلة مرحلة الغثائية لنكون..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

هل تتفق معه أن أحد أسباب هذه الغثائية –طبعًا هو لم يذكر التعبير – قال سبب تأخر كثير من الحركات الإسلامية وكثير من الدول الإسلامية وهذا الفهم النصي الظاهري الحرفي للنصوص؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نحن لا نريد أن نتهم أحدًا بأنه كان سببًا للتأخير، لكن مع ذلك ندعو الجميع إلى التعمق في فهم الإسلام، إلى التعمق في إدراك أبعاد الإسلام، إلى التعمق في فهم الحكمة من مشروعية ما شُرع في الإسلام من أحكام، وما أمر به من الأخلاق علينا أن نتعمق لأجل أن نكون..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

طيب.. في هذا التعمق سؤاله التالي أنا أشكره عليه، دور وقيمة البعد التاريخي والظرف التاريخي في فهمنا اليوم، ثمة ملاصقة في تعبيره بين التشريع كما وقع وبين حوادث تاريخية أخرى، جزء من مشروع سياسي، جزء من تغير في النظام سياسي، جزء من حركة فتوحات، في التعمق الذي تنادون به.. كيف؟

الشيخ أحمد الخليلي:

على أي حال.. نحن قلنا أكثر من مرة بأن الجمود غير محمود، ونحن ندرك في عهد الخلافة الراشدة كيف الحالة أخذت بعدًا آخر على غير ما كانت عليه في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم– بل وأيضًا على غير ما كانت عليه في صدر الخلافة الراشدة؟ دونت الدواوين، ومصرت الأمصار، وأنشئ التاريخ، وإلى آخره. هذا كله مما يدل على الانفتاح، انفتاح الرعيل الأول على مستجدات الحياة، فلذلك واجهوا هذه المستجدات بالحلول المناسبة، ولذلك عندما تدخل الأمة منعطفًا تاريخيًّا لابد من أن تكون هنالك اجتهادات تتواءم مع هذا الدخول.

ماهر عبد الله:

نعم، سؤاله: هل تعتقد أن البعد التاريخي أثر حتى في صياغة بعض التشاريع، في حلقة من ثلاثة أو أربعة أسابيع تحدثنا عن دور الصراع السياسي في صياغة حتى المدارس العقائدية في الإسلام، إذا تدخلت المسائل العقائدية الإيمانية الصرفة..

الشيخ أحمد الخليلي:

تدخل الصراعات في القضايا الإيمانية هذا شيء غير مقبول، ما فُرض علينا الإيمان به علينا أن نؤمن به كما هو، ما جاءت النصوص مخالفة له لا يمكن أن نعتقده، ولكن.. نعم، المعطيات المعاصرة لها أثر في الاعتبار في القضايا الفرعية، لأجل النظر إلى المواءمة وحتى تكون الاجتهادات ملبية لحاجات العصور المتطورة.

ماهر عبد الله:

نعم.. طيب، أنا سأعود للسؤال الأخير للأخ نضال وأسئلة الأخ عبد الله، لكن بعد هذه المداخلة من الأخ (حسام بلال) من ألمانيا، أخ حسام تفضل.

حسام بلال:

السلام عليكم.

ماهر عبد الله:

وعليكم السلام.

حسام بلال:

يا أستاذ، إذا سمحت لي بمداخلتين: المداخلة الأولى وهي تتعلق بدور العقل في الإسلام، للعقل في الإسلام دوران أساسيان، الأول فيما يتعلق بالعقيدة، وفي هذا المجال لابد للعقل أن يعمل ويبحث حتى يصل إلى إثبات صحة العقيدة، وأن يكون الإيمان مبنيًّا على العقل ابتداءً، أما ما يتعلق بالنصوص الشرعية فإن دور العقل يقتصر فيها على الفهم وإعمال النظر من أجل استنباط الأحكام الشرعية منها. هذه المداخلة الأولى، المداخلة الثانية فيما ذكره فضيلة المفتي، عندما تحدث عن قيام (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه– بمنع سهم المؤلفة قلوبهم، وأسمح لنفسي هنا أن أذكر الشيخ بما تحدث عنه الأصوليون في باب مسالك العلة، وتحدثوا عن العلة التي تُستفاد من النص دلالة، وهي ما يسميها الأصوليون بالتنبيه والإيماء، وهي على قسمين، على أن الذي يعنينا هنا في البحث هو القسم الأول منها وهو أن يكون الحكم في النص مسلطًا على وصف مُفهِم بحيث يكون له مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، وهذا الحكم ينطبق على الآية التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم}.

فالمؤلفة قلوبهم هم أشخاص مسلمون تٌتألف قلوبهم بإعطائهم الزكاة، فهذا ليس اسمًا، وإنما هو وصف مناسب لحكم إعطاء الزكاة، فكأن علة إعطائهم الزكاة تأليف قلوبهم، وهذا ينطبق على باقي الأوصاف: الفقراء والمساكين، فعلة إعطائهم الزكاة هي الفقر، فإذا مازالت العلة إذا مازال هذا الواقع واقع الفقر مُنعوا من حكم الزكاة، ولذلك كان هذا الفهم فهمًا لهم..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

لكن هذا الفهم غير الفهم الدارج على كل الأحوال، من حقك أن تجتهد، لا أعتقد أننا سنحجر عليك، لكن ليس هذا هو الدارج في فهم هذه الآية، لكن إن شاء الله ستسمع من الشيخ، معي الأخ (محمد الكبيسي) من قطر، تفضل.

محمد الكبيسي:

السلام عليكم.

ماهر عبد الله:

وعليكم السلام.

محمد الكبيسي:

شكراً لسماحة العلامة الشيخ أحمد الخليلي وشكراً لك يا أخ ماهر.. حقيقة كثر الكلام حول اجتهاد سيدنا عمر في قضية المؤلفة قلوبهم وكأنك أشرت –أخي ماهر– أن هذا اجتهاد في معرض النص مع أنه في الحقيقة أن الاجتهاد هذا ليس في معرض النص لأنه النص لا يُلزم المزكي أو المعطي للزكاة سواء كان فردًا أو دولة.. لا يلزمه بأن يقسم الزكاة على الأصناف الثمانية، فللمزكي أن يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء بحسب ما تقتضيه المصلحة، وهو لم يلغِ النص ولم يوقف النص أصلاً، الحكم باقي والمؤلفة قلوبهم لهم سهم، لكن للمزكي فردًا أودولة أن يختار من الثمانية ما يشاء.

المداخلة الثانية لو سمحت أخي الكريم أن عنوان الحلقة: الفقه الإسلامي بين ظواهر النصوص ومقاصد الشريعة، في الحقيقة مقاصد الشريعة في الغالب هي نصوص أيضًا، لكنها نصوص عامة، فالاجتهاد يدور في التوفيق بين النصوص الخاصة والنصوص العامة –إن صح التعبير– والنبي –عليه الصلاة والسلام– هو الذي أرشدنا إلى الأخذ بالنصوص العامة والانتباه لها كقواعد كلية أو مقاصد عامة كما يسميها الأصوليون اليوم، فالنبي –عليه الصلاة والسلام– كما ورد في صحيح البخاري أنه كان يتحدث عن الخيل فيقول: "الخيل لثلاثة: لرجل مغنم، ولرجل أجر، ولرجل وزر" فقام رجل وقال: يا رسول الله أرأيت الحمر أي الحمير –أجلكم الله– قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لم ينزل علي فيها شيء إلا تلك الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره}، هو أرشد الصحابة –رضي الله عنهم– إلى أن يعملوا هذا النص {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره} على هذه الجزئيات.

بقيت لو يتسع لي صدر سماحة العلامة حول جزئية صغيرة استغربت الحقيقة من استشهاده بها، وهو أنه لما كان يتكلم عن ما يشبه القاعدة عند الأصوليين وقولهم: ما من عام إلا وقد خُص، قال: هذا ليس على إطلاقه واستشهد بقوله تعالى: {قل هو الله أحد} وقال: هذه طبعًا لا تخص، مع أن هذه الآية ليست من ألفاظ العموم قطعًا، فإذا كان للشيخ رأي آخر فيا حبذا أن نتعلم منه وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم.

ماهر عبد الله:

ستسمع منه إن شاء الله، مشكور يا سيدي، طيب لو عدنا للسؤال الأخير (للأخ نضال) وهذا له علاقة بجزئية مما قاله الأخ (محمد الكبيسي): أن الطابع العام على من يسمون بالمجتهدين اليوم أنهم حفظة وليسوا مبدعين، ليسوا مجتهدين، وهنا اسمح لي أتفق جدًّا مع الأخ (نضال) وبالتالي أختلف جزئيًّا مع الأخ (الكبيسي) لما قال إنه في الأخير أن المقاصد العامة ما هي إلا نصوص، نحن لا ندعو إلى ابتداع شيء، لا ندعو إلى ابتداع شيء، هي المسألة كلها في النهاية محصورة في هذا النص الذي هو المصدر الأساسي وربما الوحيد للتشريع في المحصلة النهائية، لكن نحن نتحدث عن عقليات دارجة نسمعها ونراها، وهي التي تؤثر في الإسلام اليوم، هل تعتقد أن الحفظ والسير على نهج الأقدمين هو المسيطر اليوم على العقلية الاجتهادية المسلمة؟

الشيخ أحمد الخليلي:

لا أستطيع أن أقول ذلك على الإطلاق، ولكن هناك من الناس من يحاول أن يجتهد من دون أن يكون جامعًا لآلات الاجتهاد، وهذه مشكلة، عندما يحاول إنسان أن يجتهد وهو لم يجمع آلات الاجتهاد، كيف؟ والفقهاء بينوا من هو المجتهد، وقبل كل شيء أن يكون ملمًّا بقدر المستطاع لما يحتاج إليه من اللغة العربية، وهي لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الخطأ في هذه اللغة يؤدي إلى الخطأ في فهم النصوص، ويؤدي إلى الانحراف في الاجتهاد، كذلك أن تكون عنده ملكة في أصول الفقه، وأن يكون عنده في علم المقاصد، وأن يكون عنده في تفسير القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف إلى آخره، ألا يجتهد في معرض النص، في مقابل النص.. هذا أمر لابد منه، أما أن أقول بأن جميع الناس الآن هم حرفيون..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

لا..لا..لا نقول هذا، لكن الطابع العام الغالب.

الشيخ أحمد الخليلي:

لعل الطابع العام.. الله أعلم قد يكون ذلك كذلك، ولكن مع هذا نحن ندعو علماءنا الأفاضل إلى النظر في القضايا الاجتهادية التي تحتاج إلى استفراغ الوسع من أجل النظر فيها عن إدراك وتعمق وفهم لمقاصد الشريعة الغراء.

ماهر عبد الله:

هذا يدخلنا في سؤال الأخ (عبد الله) من عمان الذي بدأ بالحديث عن (الإمام القرافي) من سطّر أولاً، لا يعنينا كثيرًا في هذا الموقع، لكن –وليسمح لي أن أصيغ ما قال– يتهمكم علماء المسلمين اليوم أن الغالبية العظمى من مؤتمراتكم إنما هي لمناقشة الفروع.

وحقيقةً في الإنتاج المعرفي الإسلامي لو أخذنا الخمسين سنة الماضية، لو أخذنا سؤال بسيط: كم كتاب أُلِّف في المقاصد العامة للتشريع في هذه الخطوط الناظمة لهذا الفكر الإسلامي؟ وكم كتاب ألف في المسح على الخفين وفي التفاصيل والفروع التي أُشبعت وقتلت بحثًا؟ سنجد أن ما ألف في هذا النظم الجامع العام في مقاصد التشريع الإسلامي لا يستحق الذكر مقارنة مع ما ألف.

الشيخ أحمد الخليلي:

وأنا أقول كذلك، وأرجو من مجامع الفقه الإسلامي أن تُعنى –أيضًا– بالنظر في القواعد والأسس لأجل ضبط الاجتهاد، ولأجل ضبط المصلحة، ولأجل ضبط نظر الفقهاء في القضايا المستجدة.. البحث في مثل هذه القضايا يسهل النظر في الفروع فيما بعد، فأنا أشاركهم النظر بأن الدعوة مفتوحة للعلماء لأن يجتمعوا بمشيئة الله تعالى في مجامعهم الفقهية من أجل البحث في القواعد، والعناية بالقواعد أهم من العناية بالفروع.

ماهر عبد الله:

أنت جزئيًّا أجبت عن سؤاله الثاني: هل ترى ثمة إمام قادر مثل القرافي ومثل الشاطبي على..

الشيخ أحمد الخليلي [مقاطعًا]:

أنا لا أستطيع أن أبيّن منازل العلماء، من هذا الذي هو في منزلة الإمام القرافي؟ من هذا الذي هو في منزلة الإمام الشاطبي؟ لا أستطيع ذلك.

ماهر عبد الله:

هل المجامع يمكن أن تقوم بهذا الدور؟

الشيخ أحمد الخليلي:

على كل حال المجامع نعم فيها علماء متمكنون وبإمكانهم –مع اجتماعهم– أن يقوموا بدور لا يقومون به فرادى، فإن الإنسان –كما يقال– قليل بنفسه كثير بالآخرين.

ماهر عبد الله:

طيب اسمح لي مرة أخرى سنعود لأسئلة الأخ (حسام) ونسمع للأخ (علي الشعري) من السعودية، أخ علي الشعري من السعودية تفضل. طيب الأخ (عبد الله أحمد) من قطر.

عبد الله أحمد:

السلام عليكم ورحمة الله.

ماهر عبد الله:

عليكم السلام.

عبد الله أحمد:

شكرًا لاستضافتكم فضيلة الشيخ، لست أهلاً لأن أتدخل في هذا الموضوع لأني لست من أهل العلم، ولكن فقط أنا ارتكبت خطأ أرجو الله –سبحانه وتعالى– أن يغفر لي أنني مرة اغتبت هذا الشيخ، فأريده أن يسامحني، فهذه فرصة.

الشيخ أحمد الخليلي:

سامحك الله.

ماهر عبد الله:

بارك الله فيك يا سيدي، معنا الأخ (منذر عبد الله) من الدانمارك، أخ منذر تفضل.

منذر عبد الله:

السلام عليكم.

ماهر عبد الله:

عليكم السلام.

منذر عبد الله:

حقيقة أود التعليق حول سؤالك –يا أخ ماهر– فيما يتعلق بالحاجة إلى الدين في الحياة والمقارنة بين واقع المسلمين اليوم الذين هم أصحاب دين وبين الغربيين الذين فصلوا الدين عن الحياة.. أنا أقول: إن المسلمين لم يتخلفوا نتيجة.. لم يتخلفوا عن ركب العالم نتيجة لتمسكهم بدينهم، وإنما بدأ تخلف المسلمين يوم تركوا هذا التمسك وتساهلوا فيه، وسمحوا للحضارة الغربية الأجنبية أن تدخل ديارهم وللمفاهيم الغربية أن تحتل أذهانهم، يوم أن تخلوا عن القيادة الفكرية في الإسلام حين تقاعسوا عن دعوته، وأساؤوا تطبيق أحكامه، فلذلك أقول مبينًا بشكل مباشر حاجة الأمة إلى الإسلام ليس كدين روحي، إنما كعقيدة سياسية تُبنى جميع شؤون حياتهم عليها، أقول: لنبين للناس أن الإسلام لو تمسك المسلمون به تمسكًا صحيحًا وبنيت حياتهم عليه أنه ينهض بهم ويعزهم، ويخرجهم من هذا البلاء الرهيب الذي يعيشون فيه، إننا لو أخذنا موقف الإسلام من الحصار المفروض على العراق، ماذا يقول الإسلام كدين كعقيدة عن الحصار المفروض على العراق؟ ماذا يقول الإسلام..؟

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

طيب أخ منذر أنا مضطر لمقاطعتك، نحن ندعو في هذا البرنامج وغيره من البرامج لرفع الحصار عن العراق، لكن لا المدخل –يا أخ منذر– هو في صلب موضوعنا هذا ذُكر عَرَضًا في التقديم لهذا البرنامج، نحن ندعو ونتمنى على العرب والمسلمين أن يساهموا –كل حسب استطاعته– لرفع هذا الحصار عن العراق، لكن ليس هذا موضوعنا لهذا اليوم.

لو عدنا للأخ (حسام) وتفسيره للمؤلفة قلوبهم، مسالك العلة، وأن الموضوع كان ضمن النص، ليس لشيء خارج عليه فعل عمر بن الخطاب ما فعل.

الشيخ أحمد الخليلي:

على أي حال نحن كما قلنا بأن النص لم يعطل بحال من الأحوال.. الأصناف الثمانية أُعطيت، ولكن كما تفضل أحد الإخوة المداخلين..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

الأخ الكبيسي.

الشيخ أحمد الخليلي:

الشيخ الكبيسي قال بأن..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

يختار من المصارف.

الشيخ أحمد الخليلي:

يختار المصارف، ورأى أن هؤلاء ليسوا بحاجة الآن لأن يُعطوا، فلذلك قدم غيرهم فهذا لا يقتضي أبدًا بحال من الأحوال تعطيل النص.

ماهر عبد الله:

طيب أنا لو سألتك عن سؤاله الأخير، أنا لم أفهمه تمامًا، لكن يا ريتك توضح لي وجهة نظرك في (ما من عام إلا وقد خُصِّصَ) وتحديدًا في قوله تعالى.. يعني ما الذي كنت تقصده بذلك؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، على كل حال هو أخذ الآية الأولى من السورة، وأنا ما أشير إلى الآية الأولى، وإنما أشير إلى (لم يلد) لأن قوله –سبحانه وتعالى– (لم يلد) عام لا يمكن أن يقبل التخصيص، فلا يمكن أن يٌقال بأن أحدًا هو مولود لله، وكذلك (لم يولد) والفعل قال العلماء بأن حكمه حكم النكرة، فهو في سياق الإثبات للإطلاق، وفي سياق النفي هو للعموم، فعندما يقول القائل: لم آتك يعني أنه لم يأت في أي وقت إلا إذا قام دليل على تخصيص عموم كلامه بحيث يُحمل على أنه لم يأتِ في وقت معين.. فقوله سبحانه: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد} كل منها عام لا يقبل التخصيص، وكذلك قوله سبحانه: {ولا يظلم ربك أحدًا} هو عام لا يقبل التخصيص، وكذلك قوله سبحانه: {بكل شيء محيط} وقوله: {بكل شيء عليم}.

ماهر عبد الله:

طيب اسمح لي أن تفصل شويه [بعض الشيء] في الكلام الذي أعتقد أننا سنتفق فيه مع الأخ (محمد الكبيسي) عندما قال: إنه ليست المسألة نصوص وقواعد عامة، لأنه إنما هذه القواعد هي من النصوص، يعني قد يفهم الموضوع خطأ بأنه مبتدعة هذ، لأننا ذكرنا عقل ودين ونسل، هل هي توافقية بحتة أم هي مبنية –أصلاً– على نصوص؟

الشيخ أحمد الخليلي:

على أي حال المحافظة على هذه القواعد أو على هذه الأسس إنما من نصوص ثابتة، الله –تبارك وتعالى– في المحافظة على النفس يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا}، وفي المحافظة كذلك على النسل نهى عن الزنا، في المحافظة على العرض نهى عن قذف المحصنات وشدد فيه، إلى آخره، هذا كله إنما هو يرجع إلى النصوص، ولكن هذا لا يمنع أن تكون هنالك مقاصد، هذه المقاصد لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال النظر، لابد من رجوع إلى نصوص، ولكن تحتاج إلى شيء من الاجتهاد.

على سبيل المثال أنا أضرب مثلاً: الله –سبحانه وتعالى– أوجب الزكاة في الأموال، وفرضها على الأغنياء للفقراء، وبيّن أن هذه الزكاة هي طُهرة لنفوس هؤلاء الأغنياء {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} هي تجمع ما بين أمرين: ما بين تطهير النفوس من الشح والأثرة والاستئثار بشهوة المال، وفي نفس الوقت تزكي الأخلاق الفاضلة في نفس الإنسان، هذه الزكاة وجبت في الأموال من غير أن يأتي نص قرآني يبين ما هي هذه الأموال، جاءت أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم– إذ بيّن النبي –صلى الله عليه وسلم– فروض الزكاة في أنواع من المال، أنواع أخرى لم تذكر هذه الأنواع الأخرى، بعض العلماء قال بحمل ما لم يُذكر على ما ذُكر، واعتبر أن كل مال يزكى لأجل عموم قول الله تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم} ولأن الزكاة إنما فُرضت لتطهير النفوس من الشح، وتخليصها من حب المال، وحب المال –أي مال كان– هو محبوب إلى النفوس. ومنهم من اقتصر على ما جاءت به أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم– من حيث أخذها الرسول –صلى الله عليه وسلم– تؤخذ، وتوضع في مواضعها، تُعطى فقراء المسلمين.

الآن حصل أخذ وردّ بين العلماء عندما حدثت هذه الأوراق النقدية، هل تُحمل على الذهب والفضة أو لا تحمل على الذهب والفضة؟ حصل الأخذ والرد، نحن عندما ننظر –أولاً– إلى ما تشح به النفس، أي شيء تشح به النفس؟ ثم ننظر –أيضًا– إلى الأصناف التي بين النبي –صلى الله عليه وسلم– الزكاة فيها، نجد أن هذه الأصناف مما تدعو إليه حاجة الناس، حاجة الناس تكون ملحة إلى هذه الأصناف، سواء كانت حاجة الناس ملحة إليها لقوامها في حياتهم أو لأجل قضاء مآربهم بها، فنجد الحبوب التي أُخذت منها الزكاة هي مُدخرة مُقتاتة يحتاج إليها الناس، وتتطلع إليها نفس الفقير لحاجته إليها، نجد –أيضًا– الأنعام مما تحتاج إليه نفوس البشر، فلذلك وجبت فيها الزكاة، أما هذه..


[موجز الأخبار]

ماهر عبد الله:

سماحتكم كنا قبل الفاصل قطعناكم: عندما ظهرت الأوراق النقدية احتار الناس علام يقيسونها؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، على أي حال.. الزكاة فُرضت لتطهير النفوس ولتربيتها على الأخلاق، ومن المعلوم أن النفوس التي جُبلت على حب المال حبًّا جمًّا تحب الآن هذه الأوراق النقدية كما كانت تحب من قبل الذهب والفضة، فالأوراق النقدية تقضى بها المآرب، ويُبلغ بها إلى المقاصد، وهي صارت وسيلة الناس في وقتنا هذا، تقضى بها الديون، وتلبى بها الحاجات، وتُستَحل بها الفروج، وتفدى بها القتلى، فإذا كانت هذه وظيفة هذه الأوراق النقدية فكيف يُقال بأنها تختلف عن الذهب والفضة ولا تزكى مثل زكاة الذهب والفضة؟!

والآن لو عطلنا نحن الزكاة في الأوراق النقدية، لتعطلت الزكاة عند معظم الناس إذ معظم الناس الآن لا يملكون الذهب والفضة، وإنما يملكون هذه الأوراق النقدية، فأرصدة الناس أصبحت منها، فلماذا تعطل الزكاة؟ إذن هذا دليل على وجوب الزكاة فيها ودليل أيضًا على أنها من حيث أحكام الربا كالذهب والفضة، وعلى هذا نعتبر..

ماهر عبد الله:

سؤال بالفاكس من الأخ (عبد السلام محمد الرواحي) من سلطنة عمان: هل كان هناك اجتهاد في زمن الرسول –صلى الله عليه وسلم– وفي وجوده مع أصحابه؟ وهل اجتهد الرسول –صلى الله عليه وسلم– بنفسه أم أن جميع الأحكام الشرعية نزلت عليه من عند الله –سبحانه وتعالى– من غير زيادة؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم، نحن ذكرنا أول الأمر أن الصحابة –رضي الله عنهم– اجتهدوا في فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة"، وأقر النبي –عليه أفضل الصلاة والسلام– هؤلاء وهؤلاء على ما توصل إليه فهمهم، ولم يُعنف هؤلاء ولا هؤلاء..

ماهر عبد الله {مقاطعًا}:

هل اجتهد هو قبل أن يأتيه الوحي؟ بمعنى أنه بعد أن أصبح نبيًّا ورسولاً؟

الشيخ أحمد الخليلي:

بعد أن أصبح نبيًّا؟ نعم.. حتى في قضية أسرى بدر، ولذلك نزل عِتاب من الله –تبارك وتعالى– لأن الله –تبارك وتعالى– ما أراد ذلك ما أراد تشريع ذلك الحكم في ذلك الوقت الذي.. ولكن بما أن فعل النبي –صلى الله عليه وسلم– كان مبنيًّا على أساس شرعي أُقر على ما هو عليه.

ماهر عبد الله:

طيب.. الأخ (سالم عبد الله) ومعذرة على هذا الانتظار، يا أخ سالم تفضل.

سالم عبد الله:

شكرًا، السلام عليكم.

ماهر عبد الله:

وعليكم السلام.

سالم عبد الله:

الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {قل إنما أنذركم بالوحي} وهناك عدة آيات في القرآن الكريم تحظرالإنذار بالوحي، والذين قالوا بمقاصد الشريعة قالوا وهذا القول يخالف هذه الآية القطعية الثبوت القطعية الدلالة، حتى أن الشافعي –رضي الله عنه– قال: من استحسن فقد شرع، ومن استصلح فقد شرع، وقام أيضًا علماء العصر الحاضر قاموا بافتراءات على الشيخ الشاطبي في موضوع مقاصد الشريعة، ونعلم أن الذين قالوا بمقاصد الشريعة اليوم أجازوا دخول البرلمانات التي تحكم بالكفر، وأجازوا إعطاء الثقة لحكومة تحكم بالكفر، وأباحوا الربا، وقالوا بجواز الحوار بين الأديان، والسلام مع اليهود، وأن الإسلام دين سلام، والحوار الديني القومي، وعدم قتل المرتد، وعدم قطع يد السارق، وعدم العمل للخلافة، وكل أدلتهم استدلوا بها بموضوع مقاصد الشريعة، فهذا الرأي لا شك أنه يخالف القطعي من القرآن الكريم..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

اسمح لي بس كلمة (لا شك) هذه شويه خطيرة بعض الشيء..

إذا هم علماء وأخذوا بالمقاصد، وأنت اختلفت معهم.. لا شك أنهم اختلفوا معك في الرأي، هذه سنتفق معك، أما أنه لا شك أنه يختلف مع القطعي.

سالم عبد الله:

هم أرادوا أن يوفقوا بين الحضارة الغربية والإسلام، وهذا وضعية علماء العصر الهابط منذ أواخر القرن الثامن عشر والقرن الحالي..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

على كل اسمح لي أن أصنف هذا الحكم على النوايا لأنه إحنا في الأخير، ستسمع إن شاء الله من الشيخ تعليقًا على هذا، معي الأخ (أحمد هويس) من سوريا أخ أحمد تفضل.

أحمد هويس:

السلام عليكما.

ماهر عبد الله والشيخ أحمد الخليلي:

وعليكم السلام.

أحمد هويس:

أحييكم من سوريا ظِئر الإسلام والعروبة، واسمحوا لي أن أُدلي بدلائي في هذا الموضوع.. مباشرةً النص الإسلامي مُقدس وهو مطلق على معين بذاته، هو النص القرآني أو الصحيح من أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وإجماع الصحابة الراشدين الهادين المهديين، النص إما من القرآن المحكم، وإما من المتشابه، وفي مورد النص لا اجتهاد؛ انطلاقًا من الآية القرآنية {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} يعني 6236 آية في القرآن مجموع آي القرآن الكريم، 365 آية على التقريب هي المحكم في القرآن، وفيه الوضوح والإبانة في الحدود والمقاصد والحلال والحرام والفتاوى والميراث.. إلى آخره 365 وباقي القرآن الكريم هو المتشابه بما فيه من أمثلة وقصص، وفيه الغموض والمجاز العقلي واللغوي بأنواعه، وفيه قضايا علم البيان والبديع، وأسرار البلاغة القرآنية، وعلمي التأصيلي والترسيسي والسمة {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء..} إلى آخره.

فالتشريع الإسلامي ينصب على المعاملات وتنظيم القوانين بالعدل لإحقاق الحق والعدالة، القوانين العامة والخاصة لكافة المصالح المرسلة، ولتوضيح مقاصد الشريعة وأخلاق الناس، إنما الدين المعاملة، إنما الدين المعاملة، كما علمنا رسول الله، فالمعاملات والعقائد والعبادات كلها لتنظيم حيوات الناس، بما يجسد الغاية من الاستخلاف، وأخذ ميثاق النبيين لسيدنا (محمد) في الآية 81 من سورة آل عمران أيضًا. أخي ماهر، أخي الدكتور مولانا الشيخ، القانون أعمى في يد العميان، والقانون ظالم في أيدي الجهلة والظالمين، والقانون الوجودي إن كان عند علماء أكفاء بصير، يمثل مقاصد الشريعة في حيوات المسلمين وغير المسلمين، أي القانون بصير في أيدي العلماء أهل البصيرة، والحكمة في التشريع ومقاصده الحياتية التي ترتقي بإنسانية الإنسان، فالتشريع العادل هو التشريع العالم المستنبط لأحكام الله، وماذا يريد الله.

ماهر عبد الله:

أخ أحمد.. أرجوك أن تختم لي بسؤال، نحن شارفنا على نهاية البرنامج أرجوك أن تختم لي بسؤال إذا كان عندك سؤال.

أحمد هويس:

على رأسي، التشريع العادل يحتاج إلى مشرعين أكفاء، ورثة أنبياء أي باختصار التشريع في كل زمان ومكان يحتاج إلى مشرعين مجددين يوضحون القوانين والقواعد التشريعية والمواكبة لروح العصر ومستجدات الحياة، أخي الأستاذ ماهر، أخي الإمام.. إن حوار الأديان المقارن يعني حوار الحضارات المنفتحة، حوار الإنسان المتحضر المؤمن الذي يصنع الحضارة والمحبة..

ماهر عبد الله [مقاطعًا]:

أخ أحمد، هذا ليس سؤالاً، أنا طلبت منك سؤال فأنا مضطر لمقاطعتك لأنه عندي مجموعة من الفاكسات، وأعتقد أن التعليق الأخير استمر في المداخلة، مشكور –على كل– على هذه المداخلة، كنا نتمنى أن تنتهي بسؤال، الأخ (حسن علي السقاف) من الأردن يسأل بالفاكس: ما معنى قول بعض محققي العلماء: إن الدليل العقلي وخاصة في العقائد مقدم على الدليل النقلي؟ وهل لهذه العلاقة علاقة بظاهر النص؟

الشيخ أحمد الخليلي:

الجواب.. على أي حال نحن لا نؤمن بأن العقل السليم يختلف مع النص الصريح، وإنما العقل جعله الله –سبحانه وتعالى– وسيلة من وسائل الفهم والإدراك، وهو أعظم وسيلة، ولذلك نعى الله –سبحانه وتعالى– على الذين لا يعقلون، وعلى الذين لا يعملون، وعلى الذين لا يفقهون، فنصوص القرآن لا تتصادم أبدًا مع العقل، وإنما العقل هو وسيلة من وسائل فهم مقاصد هذه النصوص، عندما تكون متعلقة بالعقائد والأفكار.

ماهر عبد الله:

أسألك سؤاله الثاني من هذا الكلام: هل يوجد هناك نصوص قرآنية صريحة تؤكد دور العقل وقيمته في إدراك الحقائق الشرعية في تقديم نص على آخر أو تقديم آية على حديث يتعارض متنه مع ظاهر الآية؟

الشيخ أحمد الخليلي:

أما نصوص قرآنية صريحة تدل على تقديم نص على نص؟ لا.. ولكن على أي حال النص الأقوى مُقدم، ولئن كانت الرواية عندما تتعارض مع رواية أقوى منها سندًا تُرد الرواية الأضعف بجانب الرواية التي هي أقوى، فما بالكم إذا كانت الرواية لا تتفق مع القرآن الكريم؟ على أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا قد ردوا جانبًا من الروايات التي رواها صحابة أيضًا وهم موثوق بهم، ومعلوم صدقهم ومعلومة ثقتهم، ولكنهم ردوها عندما يشتمون من هذه الرواية ما –ربما– يفهمون منه مخالفة لما جاء في القرآن الكريم.

فأمير المؤمنين عمر –رضي الله تعالى عنه– رد حديث فاطمة بنت قيس، وقال: لا نترك كتاب الله لقول امرأة إلى آخره، وكذلك السيدة أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها– عندما أُخبرت عن رواية عمر، رواية ابنه –رضي الله عنهما– أن النبي–صلى الله عليه وسلم– قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" ردت هذه الرواية مع قولها: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكن ليكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حملته على أنه ربما التبس عليه الفهم، وردت ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

فإذن عندما يكون هنالك نص قرآني، لا يمكن أن تقبل الرواية، وتكون هي في مستوى الروايات الصحيحة، ومما عرّف به علماء الحديث الرواية الصحيحة بأنها (ما نقله الثقة عن الثقة من غير شذوذ وعلة، وعلى ألا يكون مخالفًا للقرآن).

ماهر عبد الله:

لكن ثمة شواهد على التخصيص..

الشيخ أحمد الخليلي [مقاطعًا]:

التخصيص.. نعم لا شك، المخصصات وردت، العمومات تُخَصَّص بأدلة.

ماهر عبد الله:

سؤال من الأخ (أسامة عبد اللطيف أبو قورة) بشكله الظاهر ليس في صلب الموضوع، ولكن نظرًا لأنه جاء أكثر من فاكس بهذا الاتجاه، نحن ذكرنا في المقاصد العامة تشريع الدين والنفس والعقل والعرض والمال، لم نذكر أرض المسلمين، ووطن الإسلام، يريد أن يسأل: أين تقع أرض الإسلام في هذا؟ وخصوصًا تخصيصه مكانة القدس الشريف والمسجد الأقصى؟ وهذا السؤال شبيه بالأخ أيضًا محمد عبد الله من فلسطين: للأرض.. لدار الإسلام هل ثمة مكانة في هذه المقاصد وللأقصى مكانة خاصة في هذه..؟

الشيخ أحمد الخليلي:

نعم.. للأقصى مكانة خاصة، والأقصى أمانة المسلمين بأيديهم، والله تبارك وتعالى سائلهم عنها، نحن نجد في كتاب الله تعالى ما يدل على هذه المكانة، أولاً: لماذا اختار الله سبحانه المسجد الأقصى لأن يكون مسرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وجمع بينه وبين المسجد الحرام في آية واحدة عندما ذكر قصة الإسراء وتشريف الله نبيه –صلى الله عليه وسلم– بهذه الرحلة الميمونة المباركة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؟ ثم إننا نجد أن الله –سبحانه وتعالى– وجه المسلمين إلى المسجد الأقصى، ذلك لأن هذه الأمة وريثة الأمم السابقة في مقدساتها، وهي وريثة هدي النبوات السابقة، فالمحافظة على هدي النبوات أمر واجب على هذه الأمة، ولذلك كانت المحافظة على المسجد الأقصى أمرًا واجبًا عليها، ونحن ندعو جميع المسلمين لأن تتضافر جهودهم على تخليص المسجد الأقصى ورده إلى حظيرة الإسلام.

ماهر عبد الله:

طيب.. مشكور جدًّا على هذه الإجابة، لو انتقلنا إلى المقاصد هذه التي تحدثنا عنها اليوم هي المقاصد التي نص عليها الشارع، أو التي فُهمت منه دلالة أو إشارة ..[كلمة غير مفهومة] ثمة مقاصد مسكوت عنها، ما يسميه شيخنا الدكتور (القرضاوي) بمنطقة العفو.. هل ثمة مقاصد شرعية فيما سُكت عنه؟

الشيخ أحمد الخليلي:

دل حديث الرسول –صلى الله عليه وسلم– على أن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، وما سكت عنه فهو عفو، ما سكت عنه فهو عفو. هذا وقد نص العلماء على أن المقصد المعتبر هو ما وافق الشريعة الإسلامية، فالمقصد المعتبر ما لم يتصادم مع نص من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما كان متصادمًا –كما ذكرنا– فلا يعتبر مقصدًا، ولذلك أريد أن أطمئن الأخ الذي وجه إلينا سؤالاً أو تحدث بحرارة وبغيرة وبشدة عن الأوضاع المعاصرة، وقال بأن الناس الذين يعتبرون المقاصد هم الذين أباحوا ما أباحوه، أريد أن أطمئنه بأن العلماء المحققين الذين يخشون الله تعالى ويتقونه لا يحومون حول الحمى فضلاً عن أن يقعوا فيه، أخذًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيها".

فالذين يخشون الله ويتقونه لم يكونوا بحال من الأحوال ليبيحوا لأنفسهم بأن يحللوا ما حرم الله سبحانه، فالحرام يبقى حرامًا ما دامت السماوات والأرض إلا نسخًا لشريعة الرسول –صلى الله عليه وسلم– وقد جاءت من عند الله مهيمنة على ما قبلها، ولا إباحة لشيء من المفاسد، ولا تسويغ لشيء من المنكرات، هكذا نسأل الله تعالى أن يلهمنا الرشد جميعًا.

ماهر عبد الله:

سماحة الشيخ (أحمد الخليلي) جزاك الله خيرًا، وشكرًا لك على هذه المساهمة.

أعزائي المشاهدين.. باسمكم أشكر سماحة الشيخ (أحمد الخليلي) مفتي سلطنة عمان، وصاحب الباع الطويل والمشهود له في باب الفقه الإسلامي، والمشارك أيضًا في أكثر من منتدى حول التقارب بين المذاهب الإسلامية.

إذن نشكركم أعزائي المشاهدين على حسن استماعكم، ونعتذر لمن لم نستطع أخذ هواتفهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق