اقرأ هذا من باب تعلم الفقه وكيفية الاستنباط، وطرق الفقهاء في الاستدلال ..
بسم الله وبعد :
فهذا كتيب في تفصيل القول بجواز إخراج زكاة الفطر قيمة، يغنيك عن غيره من المقالات :
أولاً : أريد أن أحيطكم علماً أن المال على عهد النبي كان قليلاً جداً ..
ثم إن الطعام كان مالاً ، يعني يمكن شراء أي سلعة بالطعام ..
ثانيا : أخطأ من قال أن الحنفية فقط هم من انفردوا بإخراج زكاة الفطر نقوداً وللأمانة العلمية فلا بد من أن نقول: أن للإمام أحمد قولان أحدهما يجزئ والآخر لا يجزئ والراجح من مذهبه أنها لا تجزئ، وكذلك للإمام مالك قولان والراجح في مذهبه أنها لا تجزئ، والشافعية قولاً واحداً على أنها لا تجزئ، والأحناف عكسهم.
إذا فقول ونصف على أنها تجزئ وقول ونصف على أنها لا تجزئ.
قال ابن حجر في الفتح: وعلى غير عادة البخاري في مخالفته للأحناف أن اتفق معهم في إخراج صدقة الفطر نقوداً وفي جواز إخراج العرض في الزكاة وبوب البخاري باباً سماه (باب العرض).
ثالثا : أدلة من قال بجواز إخراج القيمة :
ومن الأحاديث التي استدل بها : حديث معاذ بن جبل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليأخذ منهم زكاة الحبوب والثمار (الزروع) فقال لهم: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. إن جاز تغير النوع في زكاة المال (الأعلى) جاز للأدنى وهي زكاة الفطر.
ومعاذ بن جبل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: أعلمهم بالحلال والحرام معاذ.
وحديث جابر حين بعثه على الصدقة فأراد أن يأخذ من رجل بنت مخاض فقال له الرجل بنت مخاض صغيرة خذ مكانها بنت لبون فقال له جابر: لا، فاحتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي لجابر: خذها منه إن رضي بها نفسه. أو كما قال صلى الله عليه وسلم فدل على جواز تغير النوع.
وذكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي إسحاق السبيعي -وهو أصدق أهل زمانه- أنه قال: أدركتهم -أي الصحابة- وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام.
وذكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى ولاته في الأمصار أن صدقة الفطر نصف صاع على كل إنسان أو القيمة نصف درهم.
وكان في عصر عمر بن عبد العزيز ثلاثة آلاف صحابي ولم ينكر عليه أحد، وسكوت الصحابة إقرار منهم على ذلك.
وروي عن الحسن قوله: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر.
وكتب أبو بكر الصديق لأبي سعيد الخدري: أن من كانت زكاته بنت مخاض ولم يكن عنده إلا بنت لبون خذها منه وأعطه الفرق (عشرين درهماً وشاة).
وورد عن عثمان وعلي ومعاوية والحسن وابن عباس أنهم أجازوا إخراج نصف مد من قمح الشام بدلاً من مد القمح المدني. (وهؤلاء قد غيروا نص الحديث).
قال محمد بن الحسن الشيباني رداً على مَن قال بعدم جواز إخراج القيمة: إن التزمنا بالنص كما تريدون فلا يجوز أن تخرج الزكاة غير هذه الأصناف الخمسة سواء أرز أو من قوت أهل البلد، ولا بد أن تكون بالصاع النبوي ونحن قوم ليس عندهم صاع نبوي فماذا نفعل؟ فرد الشافعية: اشتروه من عندنا، فرد الشيباني: وإن كان بيننا وبينكم حرب ماذا نفعل؟
وإذا فتحنا باب القياس والاجتهاد بإخراجها من غالب قوت أهل البلد فلا بد أن نسمح للأحناف القياس وهو إخراجها نقوداً.
أجمع أهل العلم على أن المراد (بالطعام) المذكور بالحديث هو (القمح).
أورد الإمام مالك بسند صحيح: "أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم"، والفقراء يحتاجون في هذا اليوم للمال ولا يطلبون الطعام.
كما أن الأحاديث الواردة في النص على أصناف معينة من الطعام لا تفيد تحريم ما عداها، بدليل أن الصحابة -رضي الله عنهم- أجازوا إخراج القمح -وهو غير منصوص عليه- عن الشعير والتمر ونحو ذلك من الأصناف الواردة في الأحاديث.
• ما ذكره ابن المنذر من أن الصحابة أجازوا إخراج نصف الصاع من القمح؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر أو الشعير، ولهذا قال معاوية: إني لأرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من التمر فهم قدروه بالقيمة. (انظر فتح الباري 5/144) .
وإخراج القيمة هو مذهب الثورى، وأبى حنيفة، وأبى يوسف، وهو مذهب الحنفية، وبه العمل والفتوى عندهم فى كل زكاة، وفى الكفارات، والنذر، والخراج، وغيرها ، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، إلا أنهما قيدا ذلك بالضرورة، وهو قول جماعة من المالكية، كابن حبيب، وأصبغ، وابن أبى حازم، وابن دينار ، وابن وهب، على ما يقتضيه إطلاق النقل عنهم فى تجويز إخراج القيم فى الزكاة، الشاملة لزكاة المال وزكاة الرءوس، بخلاف ما نقلوه عن ابن القاسم وأشهب، من كونهما أجازا إخراج القيمة فى الزكاة إلا زكاة الفطر وكفارة الأيمان،
وعليه، فنرى أن هناك جمعًا لا بأس به من الأئمة والتابعين، وفقهاء الأمة ذهبوا إلى جواز إخراج قيمة زكاة الفطر نقودًا، هذا فى عصورهم القديمة وكان نظام المقايضة موجودًا،
بمعنى أن كل السلع تصلح وسائل للتبادل وخاصة الحبوب، فكان بيع القمح بالشعير، والذرة بالقمح وهكذا، أما فى عصرنا حيث نحصرت وسائل التبادل فى النقود وحدها، فنرى أن هذا المذهب هو الأوقع والأرجح، بل نزعم أن من خالف من العلماء قديمًا لو أدرك زماننا لقال بقول أبى حنيفة، ويظهر لنا هذا من فقههم وقوة نظرهم.
وألَّف العلامة أحمد بن الصديق الغمارى كتابًا ماتعًا فى تلك المسألة أسماه "تحقيق الآمال فى إخراج زكاة الفطر بالمال"، ورجَّح فيه مذهب الحنفية بأدلة كثيرة، ومن أَوْجه عديدة، وصلت إلى إثنين وثلاثين وجهًا، لذا نرى ترجيح قول من ذهب إلى إخراج قيمتها، وهو الأولى فى هذا الزمان.
وننبه أنه من المقرر شرعًا أنه "إنما ينكر المتفق عليه، ولا ينكر المختلف فيه"، وما دام هناك من الفقهاء من أجاز إخراج زكاة الفطر نقودًا ، وهؤلاء ممن يعتد بقولهم ويجوز تقليدهم، فلا يجوز تفريق الأمة بسبب تلك المسائل الخلافية.
......
ولعل القارىء يتوهم أننا ندلس فننسب القول بجواز إخراج القيمة للمالكية والحنابلة في وجه، فنطمئنه بذكر نصوصهم في ذلك على النحو التالي :
قال الامام الصاوي في شرحه على الصغير :
" في المذهب - طريقتان: عدم إجزاء القيمة مطلقا وإجزاؤها مطلقا، فعدم الإجزاء لابن الحاجب وابن بشير، وقد اعترضه في التوضيح بأنه خلاف ما في المدونة (!!) ، ومثله لابن عبد السلام والباجي من أن المشهور فيه الإجزاء مع الكراهة......
وقال الصاوي : (إلا العين) ذهبا أو فضة يخرجها (عن حرث وماشية) بالقيمة (فتجزئ بكره) أي مع كراهة. وهذا شامل لزكاة الفطر " . ( بلغة السالك 669/1)
جاء في الإنصاف في معرفة الراجح المجلد ٣ ص ١٨٢ : "قوله ( ولا يجزيء غير ذلك ) القيمة والصحيح من المذهب انها لا تجزيء وعليه جماهير الاصحاب ونص عليه ، وعنه رواية مخرجة يجزيء اخراجها " .
واستدل المجيزون أيضا لدفع قيمة صدقة الفطر بما يأتي :
1- الأصل في صدقة الفطر ، ومقاصد الشريعة منها إغناء الفقراء في يوم العيد ، وإدخال السرور والفرح في قلوبهم من خلال توفير احتياجاتهم الأساسية ، وهذا بلا شك إنما يتحقق في عصرنا الحاضر في الغالب بدفع النقود إليهم ليشتروا بها حاجياتهم الأساسية التي لا تنحصر في التمر ، والقمح ، والشعير ، والأرز ونحوها .
وهذا ما فهمه الصحابة الكرام حيث لم يكتفوا بما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم في عصره من التمر والشعير ، والأقط بل جعلوها قمحاً ، بل إن معظمهم جعل نصف صاع منه يعدل صاعاً من تمر أو شعير - كما سبق-
2- إن من أقوى الأدلة : ما رآه معاوية رضي الله عنه وعرضه على الصحابة الكرام في حجته أو عمرته ، من أن نصف صاع من سمراء الشام (القمح) يعدل صاعاً من التمر ، ووافقه الصحابة كما قال الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري .
فهذا الاجتماع لجمهورهم دليل قوي على جواز دفع القيمة لأن معادلة نصف صاع من القمح بصاع لا تتحقق إلاّ من خلال القيمة ، وهذه المعادلة مروية عن عمر رضي الله عنه .
3- ثبت في نصوص شرعية صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ الراشدين قبلوا القيمة في زكاة بعض الأعيان في حالات متعددة ، مثل قبول الدراهم أو الدنانير مكان الفارق في العمر المطلوب في زكاة الابل ، حيث قدر الجبران بشاتين أو عشرين درهماً .
4- كما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن لجمع الصدقات المفروضة قال لهم : (ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار) رواه البخاري معلقاً في باب العرض في الزكاة ،
وقال طاوس : ( قال معاذ لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم.... ) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/113) والمحلى (6/25)
قال الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (3/13) إسناده صحيح إلى طاوس ، لكنه لم يسمع من معاذ فهو منقطع ، ورواه ابن أبي شيبة في صمفنه (3/174) .
......
وأدلة المانعين على النحو التالي :
استدل المانعون من دفع القيمة في زكاة الفطر بما يأتي :
1- الأحاديث الصحيحة الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر ... الخ ، حيث لم يذكر القيمة وأنها لو جازت لبيّنها ، وبالتالي فإنه من يدفع القيمة لم ينفذ ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به .
2- إن الزكاة عبادة وقربة إلى الله ، فالأصل والواجب فيها الاتباع دون الابتداع ، وبعبارة فقهية فهي تعبدية لا تخضع للقياس والاجتهاد.
تلك هي أهم الأدلة التي استدل بها المانعون قديماً وحديثاً ، ولكن يمكن أن يناقش ذلك بما يأتي:
أ- أن ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض صاعاً من تمر...الخ ، هو تعبير الصحابي عما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم وليس قوله صلى الله عليه وسلم بصيغة تدل على منع ما سواه ، حيث لا يوجد نص صحيح صريح ثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على حصر هذه الفريضة في صاع مما ذكر في جميع الأحاديث الواردة في هذا الشأن ، وبالتالي فلا تدل على منع ما سواه ، وأكبر دليل على ذلك هو أن جمهور المانعين يجيزون دفع صاع من القمح زكاة فطر ، وهو لم يرد في الأحاديث الصحيحة الصريحة بالاتفاق ، كما أن جمهورهم أيضاً يجيزون دفع صاع ما لأرز صدقة فطر، وهو لم يرد في أي حديث لا صحيح ولا صريح .
فإذا كان القياس هنا صحيحاً ومقبولاً فما الفرق بينه وبين الاجتهاد بجواز دفع القيمة بل إن دفع قيمة التمر ، أو الشعير الوارد في النص أقرب من إلحاق أنواع أخرى من حبوب لم ترد في نصوص الشريعة .
ب- إن الزكاة بصورة عامة ، وزكاة الفطر بصورة خاصة ليست من الشعائر التعبدية المحضة ، وإنما من العبادات التي تدخل في المعقولة المعاني التي يمكن الاجتهاد فيها ، وقد رأينا أن جمهور المانعين اجتهدوا وقاسوا فيها بالنسبة لدفع القمح ، أو الأرز ، أو نحوهما ما دام يمثل غالب قوت البلد.
وبذلك قلب دليلهم عليهم فأصبح حجة عليهم ، ولم يلتزموا بكونها تعبدية محضة لا قياس فيها ، فإذا كان هذا القياس المجتهد فيه جائزا فلماذا إذاً لا يكون الاجتهاد بدفع القيمة جائزاً؟
ج- ثم إن ما ذكر في حديث ابن عمر من التمر والشعير والأقط كان من أنواع طعام ذلك العصر بدليل أنه لما دخلت أنواع أخرى اعتمدت ، كما قال أبو سعيد الخدري في شأن القمح.
.....
ثالثاً - وأما أدلة المذهب الثالث ، فهي نفس أدلة المذهب الثاني ( المجيزين) مع التقييد بالمصلحة الراجحة ، وبما هو أنفع للفقراء ، وبالتالي فهو راجع إليه مع هذا القيد المذكور ، وهو الراجح.
.......
وفي الختام أيها القارىء الحبيب أدعوك لتتأمل الآتي..
الأئمة الذين قالوا بإخراج زكاة الفطر من قوت البلد كان في زمانهم الطعام مالاً، يمكن شراء ما يحتاجونه به، بخلاف هذا الزمان ..
ولو عاشوا في زماننا ليس ببعيد أن يفتوا بإخراج القيمة ..
الفقهاء المعاصرون لم يلتفتوا إلى أن التمر والبر والشعير كانوا في الزمن السابق أحد وسائل المعاوضات!
فهذه الأطعمة لم تكن مجرد أطعمة وإنما هي نقود بذاتها!!
فالعرب في الجاهلية والإسلام لم يتعاملوا بالنقد “الفلوس” كوسيلة رئيسية في البيع والشراء!
فقد كانت لديهم دراهم بيزنطية وفارسية ولكن تداولها كان محدودا حتى أصدر عبد الملك بن مروان أول عملة نقدية!
ولذلك كانوا يشترون حاجاتهم بالتمر والشعير فلم تكن هذه الأطعمة مجرد طعام!
ومن هنا نجد أن التمر والبر والشعير كان بالنسبة للفقراء في زمن النبي ﷺ وما بعده طعام وفلوس في ذات الوقت!
فإذا تصدقت على الفقير بهذه السلع فقد سددت حاجته للطعام والفلوس في ذات الوقت!
فاختيار النبي ﷺ لهذه الأطعمة اختيار مقاصدي واضح ويحقق غايته الأهم وهي إغناء الفقراء عن السؤال
وأما ما يقوله المانعون من إخراج زكاة الفطر نقدا من أن الزكاة عبادة ويجب الوقوف فيها على النص!
فالزكاة مع كونها عبادة فهي عبادة مقاصدية من أولها لآخرها وهدفها معلوم بنصوص الوحي وإجماع أهل الدين والدنيا وهو سد حاجة الفقراء!
فالزكاة التي لا تنفع الفقير ليست زكاة لا لغة ولا شرعا
ونحن نجد اليوم أن هذا الواقع الذي نزل فيه التشريع قد اختلف
ولم يعد التمر والشعير سلعا أساسية تسد احتياجات الفقراء اليومية
والجمود والإصرار على اعتمادها يفوّت المقصد الرئيسي من الزكاة ويجعلها مجرد “طقس” لا يحقق الغاية!
فالواقع المشاهد أن الفقراء يبيعون التمر ليحصلوا على النقد!
وبهذه الطريقة صارت زكاة الفطر صدقة على التجار وليس على الفقراء لأن التجار هم الرابحون في هذه المعاملة!
فأنت تشتري الرز ب ب٩ج والفقير يريد المال ولا يريد الرز فيبيع الرز ب بأقل من سعره!
والنتيجة أن الغني التاجر اقتسم الزكاة مع الفقير بدلا من أن تكون خالصة للفقير!
فإذا كان القصد من الزكاة إسعاد الفقير وسد وحاجته ونحن نعلم يقينا يقينا يقينا أن ذلك لا يتحقق بكماله إلا بدفع المال إلى الفقير…
فما معنى أن نجمد على النص ونخالف المصلحة!
ولمَ نحوّل هذه الشعيرة العظيمة إلى أفعال صوريّة تغيب عنها أهدافها وتتخلف عنها مقاصدها؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله
كتبه / د. مصطفى القليوبي الشافعي المصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق