الثلاثاء، 7 مايو 2024

إثبات التوحيد في الربوبية للمشركين والخلق هو خطأ كبير وافتئات على العلم، ومخالف للمستقر الذي درج عليه المسلمون

 الوهابية يقسمون التوحيد إلى: ألوهية، وربوبية، وأسماء وصفات، ويرتبون على ذلك الحكم بالشرك والتبديع للأمة المحمدية، ويزعم ابن تيمية من خلال هذا التقسيم البدعي أن الصوفية عندهم طعن في توحيد الألوهية لأنهم يتوسلون ويتبركون بالأنبياء والصالحين، وأن الأشاعرة لم يوحدوا توحيد الأسماء والصفات لأنهم يفوضون ويؤولون، فرتب على تقسيمه البدعي هذا: اتهام المسلمين وتبديعهم، وصار أتباعه من بعده يسيرون نفس سيره فخاضوا في الأمة المحمدية وعلمائها.


حتى إنه ليقرر مرارًا أن المشركين كانوا يوحدون توحيد الربوبية، وأن القرآن الكريم أثبت لهم ذلك في نصوص كثيرة نحو قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].
ونظائر هذه الآيات كثيرة جدًّا، وهذه قد فهم منها ابن تيمية إثبات توحيد الربوبية للمشركين، وبناءً على تقسيمه هذا قال في (مجموع الفتاوى 14/380): “أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: فَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَهُ”.
وقال في (مجموع الفتاوى 1/23): “فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده”.
حتى صرح كثير من أتباعه أن مشركي زماننا أشد جهلًا وإشراكًا من مشركي أهل الجاهلية، وهذه عبارات موجودة بكثرة في كتب القوم.
وهذا التقسيم الذي قسَّمه ابن تيمية، وهذا الفهم الذي فهمه من إثبات التوحيد في الربوبية للمشركين والخلق وتبعه عليه الوهابية كافةـ هو خطأ كبير وافتئات على العلم، ومخالف للمستقر الذي درج عليه المسلمون، وذلك من وجوه:
1 ـ لا تدل إجابة المشركين عندما سُئلوا مَنْ خلق السماوات والأرض؟ فقالوا: الله، لا تدل تلك الإجابة على توحيدهم، لأن أهل السنة كافة يقولون: الإيمان معناه التصديق القلبي، وأن التلفظ باللسان ليس وحده دليلًا على الإيمان بإجماع السلف، وقد أقر المنافقون بالتوحيد ظاهرًا لكن لم يُقبل منهم ذلك لأن قلوبهم لم تنعقد على ما ظهر منهم، قال تعالى: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
فقول المشركين: الله هو الخالق والرازق ونحو ذلك، لا يدل على الاعتقاد الصحيح؛ بل يدل على المعرفة، كما لو سألت أبا جهل وأمثاله عن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأجابوا: نعم، نعلم صدق نبوته، وأهل الكتاب من قبل كانوا يعرفون ويقرون بها لا من جهة الإيمان بنبوته، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة:146].
حتى قال الإمام القاسم بن سلام المتوفى 224هـ في كتابه (الإيمان 30): “فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ مَعْرِفَتَهُمْ بِهِ إِذْ تَرَكُوا الشَّهَادَةَ لَهُ بألسنتهم إيمانًا”.
فليس معنى إجابتهم بأن محمدًا رسول الله أنهم مؤمنون، وليس معنى قول المشركين الله هو الخالق والرازق أنهم مؤمنون بالربوبية، بل هم يعرفون أنه الخالق كما يوقنون بنبوة محمد، وهم لا يكذبونه ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، وكذا لو سألت المشركين: من خالقكم وخالق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، لكن هل آمنوا واعتقدوا ذلك بقلوبهم مصدقين بذلك؟ الجواب: لا وألف لا.
2 ـ لم يفرق القرآن الكريم في إطلاقاته بين الربوبية والألوهية، بل جعلهما شيئًا واحدًا لا ينفصل أحدهما عن الآخر من حيث الإيمان، فقد جاء في القرآن كثيرًا اقتران الاثنين على موصوف واحد، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ}، وقال تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ}، وقال تعالى: {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}.
فمن خلال هذه الآيات يتبين أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بأن يؤمنوا بالألوهية والربوبية معًا؛ لأن شركهما واقع في المعنيين، ولذا قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري المتوفى 310هـ في (جامع البيان 15/19): “فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهية والربوبية، بالذلة منكم له، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة”.
3 ـ أثبت الله تعالى عدم إيمانهم بالربوبية، ولا ندري كيف يثبت ابن تيمية وأتباعه لهم الإيمان بتوحيد الربوبية، وقد خاطبهم الله تعالى في كتابه في مواضع كثيرة يدعوهم إلى الإيمان بها، قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍإِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 17: 23].
فهذه الآيات ونظائرها عشرات في القرآن الكريم تلفت أنظارنا أن الله تعالى خاطب المشركين بعظيم قدرته وخلقه ليكون سببًا للإيمان به والتوحيد له، ولو كانوا يؤمنون بأنه خالق ورازق لما خاطبهم بذلك.
ألم يقرأ ابن تيمية واتباعه قول الله تعالى عن قول فرعون لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24].
فهل فرعون كان يقر لله بالربوبية وفي الوقت ذاته يدعيها لنفسه؟!
ألم يسمعوا مرة قول الله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
فكيف يقرون بالربوبية مع أن فرعون يدعيها لنفسه، والنمروذ يقول لسيدنا إبراهيم: {قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].
فأين توحيد الربوبية عند المشركين؟!
ألم يقرأوا قول الله تعالى عن أهل الكتاب: {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].
ألم يقرأوا قوله تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31].
ونظائر هذا في القرآن الكريم كثير يُظهر أن المشركين واليهود والنصارى كانوا يشركون في الربوبية والألوهية معًا، وأنه لا يصح القول بأنهم موحدون لأن التوحيد لا يتجزأ ولا يقبل القسمة.
4 ـ لو كان المشركون يوحدون توحيد الربوبية كما يزعم القوم لأجابوا على سؤال الملَكين في القبر؟ فالسؤال في القبر كما جاء في سائر الروايات الصحيحة: “من ربك؟” وليس في رواية واحدة: “من إلهك”؟ فهل المشركون يوحدون حتى يقولوا في القبر: ربنا الله، أم أن الإيمان شيء واحد هو الإيمان بالله جل جلاله من حيث إفراده بالعبودية وحده، ومن حيث إنه الخالق المدبر…الخ.
فعلى حد زعم ابن تيمية والوهابية أن المشركين يقولون في القبر: ربنا الله، وهو غير صحيح؛ لأن التوحيد كلٌ لا يتجزأ، ومن هنا لا يصح القول بأنهم موحدون في الربوبية إطلاقًا.
ثم إليك ما قرره الإمام الآجري المتوفى 360هـ في كتابه (الشريعة 2/684) وكأنه يرد على مذهب ابن تيمية والوهابية قبلهم بقرون: “وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ قَدْ عَرَفُوا بِعُقُولِهِمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَلَا يُنَجِّيهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبِرِّ وَالْبَحْرِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمُ الشَّدَائِدُ لَا يَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةُ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِثْلُ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ: الْمَعْرِفَةُ، عَلَى قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْوَحْشِيَّةِ لَعْنَةُ اللَّهِ، بَلْ نَقُولُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَوْلًا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ …: إِنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ تَصْدِيقًا يَقِينًا، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لَا يُجْزِئُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ”.
وهذا النص وحده كافٍ في الرد على هذه البدعة المذمومة التي قالها ابن تيمية ورددها أتباعه من بعده، وجعلوها مطية ليطلقوا من خلالها ألسنتهم في علماء الأمة المحمدية واتهام المسلمين بالشرك والبدعة.
والله تعالى أعلى وأعلم وأجل وأكرم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

هناك تعليق واحد:

  1. أكبر بدعة هي بدعة الجهمية جميعا. وأما تقسيم التوحيد..... فهو اصطلاحي. .... كما قسم العلماء العبادات الى أركان وشروط ومستحبات.... والمقاصد إلى ضرورية وحاجية ةتحسينية.... وأركان الإيمان والسلام......والاف التقسيمات التي استنبطها العلماء من نصوص الشرع. ولكن الجهمية يزعجها أن نوحد الله.... فهل تنكرون أن يكون الله هو الرب وحده. ام يزوجكم أن يكون الرب هو المعبود والمألوه وحده. أم يغيظكم أن يكون الله هو المتمرد بالاسماء الحسنى والصفات العلى وحده... يا من يلحدون في أسماء الرب.....قال لكم ربنا. وذروا الذين يلحدون في اسمائه.....فهل نكذب ربنا ونصدق الجهمية الكفار بالرب المعبود المتفرد بالاسماء

    ردحذف