بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
شبهة مرور إمام أهل السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري
في ثلاث مراحل
يرى البعض أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله تعالى قد مرّ في حياته بثلاث مراحل ،
الأولى : مرحلة الاعتزال التي دامت إلى ما يقرب من سن الأربعين .
والثانية : مرحلة اتباعه لعبد الله بن سعيد بن كلاّب .
والثالثة : مرحلة رجوعه إلى عقيدة السلف وأهل السنة .
ويبنون على هذه الدعوى أن الأشاعرة اتبعوا الإمام الأشعري في مرحلته الثانية فقط وهي التي كان فيها متبعاً لعبدالله بن سعيد ! إذ عندهم أن عبدالله بن سعيد بن كلاّب ليس من أهل السنة ، وأن الأشاعرة متبعون له لا للإمام أبي الحسن لأن الإمام رجع عن عقيدة ابن كلاّب في مرحلته الثالثة ، وألّف على عقيدة السلف كتابه الإبانة وبعض كتبه الأخرى .
هذا تقرير هذه الدعوى ، وقبل الشروع في إثبات بطلانها تاريخياً وعلمياً نفصل ما ورد فيها من قضايا ، ثم نشرع في تفنيدها ، لقد تضمنت هذه الدعوى ثلاث قضايا :
الأولى : الإمام الأشعري مر بثلاث مراحل في حياته ، الاعتزال ثم اتباعه لابن كلاّب ثم أخيراً رجوعه إلى منهج السنة والجماعة، وهذه هي القضية الرئيسية وهي تتضمن القضيتين التاليتين .
الثانية : عبد الله بن سعيد بن كلاّب ليس على منهج أهل السنة والجماعة .
الثالثة : كتاب الإبانة يمثل المرحلة الأخيرة من حياة الإمام الأشعري ( 1 ) ، وهي مرحلة العودة إلى طريق السلف الصالح .
* * *
وللرد على القضية الأولى وهي مرور الإمام بثلاث مراحل أو ثلاث حالات في حياته نقول :
إن الإمام الأشعري رحمه الله تعالى عَلَمٌ من أعلام المسلمين يشار إليه بالبنان ، وتعقد على كلماته الخناصر ، فهو ليس بنكرة من الناس ، ولا برجل مجهول يخفى على الناس أمره لا سيما في قضية مثل هذه التي نحن بصددها ، فإن كان الأمر كما جاء في الدعوى ، وأنه مر بثلاث مراحل في حياته فلا بد أن يكون المؤرخون قد ذكروا هذا وبينوه ، ولكان ـ حتماً ـ قد اشتهر عنه وانتشر كما ذاع وانتشر أمر رجوعه عن الاعتزال إذ لم يَبْقَ أحد ممن ترجم له إلا وذكر قصة صعوده المنبر وتبرِّيه من الاعتزال ، فهل ذكر أحد من المؤرخين شيئاً عن رجوع الإمام عن منهج عبدالله بن سعيد بن كلاّب ؟
عند الرجوع إلى كتب التاريخ لا نجد أي إشارة إلى هذا لا من قريب ولا من بعيد ، بل نجد المؤرخين كلهم مطبقين على أن الإمام أبا الحسن بعد هجره للاعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهب السلف الصالح ، وصنف على طريقتهم كتبه اللاحقة الإبانة وغيرها من الكتب التي صنفها في نصرة مذهب أهل الحق .
قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى (تبيين كذب المفتري ص/127 ):
( انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية ، وصنَّف في ذلك الكتب . . ) اهـ .
وقال عنه ابن خلكان ( وفيات الأعيان 3/284 ):
(هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة . . . وكان أبو الحسن أولاً معتزلياً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ) اهـ .
وفي سير أعلام النبلاء ( 15/89) قال عنه الذهبي :
( وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة ، وقال : إني كنت أقول بخلق القرآن . . . وإني تائب معتقد الردّ على المعتزلة ) اهـ .
وعند العلامة ابن خلدون رحمه الله ( المقدمة ص/853):
( إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم ـ أي المعتزلة ـ في مسائل الصلاح والأصلح ، فرفض طريقتهم وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّب وأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ) اهـ .
فأثبت أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على رأي عبدالله بن كلاّب والقلانسي والمحاسبي وهؤلاء كلهم على طريقة السلف والسنة .
وهكذا كل كتب التاريخ التي ترجمت للإمام أبي الحسن ، مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وطبقات الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لابن العماد والكامل لابن الأثير وتبيين كذب المفتري لابن عساكروترتيب المدارك للقاضي عياض وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة وطبقات الشافعية للأسنوي والديباج المذهب لابن فرحون ومرآة الجنان لليافعي وغيرها ، كلها مطبقة على أن الإمام أبا الحسن بعد توبته من الاعتزال رجع إلى مذهب السلف والسنة .
أضف إلى ذلك ، أن رجوع الإمام المزعوم هذا لو ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه وتلامذته ، لأن أولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته وأصحابه وأتباعه الملازمون له ، فهؤلاء هم أقرب الناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه ، لا سيما في قضية مهمة مثل هذه القضية التي تتوفر الدواعي على نقلها ، وتتحفز الأسماع على تلقفها، خاصة من إمام كبير مثل الإمام أبي الحسن ، وعند الرجوع إلى أقوال أصحابه وأصحاب أصحابه أيضاً لا نجد أي إشارة تفيد ذلك، بل نجدهم متفقين على أن الإمام كان بعد هجره للاعتزال على منهج السلف والسنة الذي كان عليه المحاسبي وابن كلاب والقلانسي والكرابيسي وغيرهم ، فهذه مؤلفات ناصر مذهب الأشعري القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى كالإنصاف والتمهيد وغيرها ، ومؤلفات ابن فورك ومؤلفات أبي بكر القفال الشاشي وأبي إسحق الشيرازي وأبي بكر البيهقي وغيرهم من أصحاب الإمام وأصحاب أصحابه ليس فيها أي ذكر أو إشارة لهذا الأمر الذي هو من الأهمية بمكان ، فهل يعقل أن يرجع الإمام عن مذهبه ويهجره ثم لا يكون لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد من أصحابه وتلاميذه وهو من هو جلالة وقدراً ؟! أم تُراه قد رجع عن ذلك سرّاً وهو الذي حين قرر هجر مذهب المعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نفسه ليعلن ذلك على الملأ ؟!
كلا، ليس الأمر كما جاء في هذه الدعوى ، بل الحق الذي لا مرية فيه هو أن الإمام لم يمرّ في حياته إلا بمرحلتين ، الاعتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف ، وليس لمن يقول بخلاف هذا الأمر من متمسك .
ومن يقول بهذه الدعوى يعتمد في قوله هذا على أسلوب الإمام في تأليف كتاب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى ، فقد اتبع الإمام فيها طريق التفويض الذي هو طريق جمهور السلف ، فبنوا على هذا الأسلوب مخالفة الإمام الأشعري لآراء ابن كُلاّب الذي يتهمونه بأنه لم يكن على طريق السلف .
تُرى هل ما في الإبانة التي هي على طريق جمهور السلف ، وهي من أواخـر كتب الإمام أو هـي آخرها (2) ، ما يناقض ما كان عليه عبدالله بن سعيد بن كلاّب ؟ أو بتعبير آخر ، هل كان ابن كلاّب على خلاف طريق السلف الذي ألَّف الإمام الأشعري الإبانة عليه ؟
وهذا يجرُّنا إلى القضية الثانية .
الرد على القضية الثانية :
هل كان عبدالله بن سعيد بن كلاّب منحرفاً عن طريق السنة والسلف ؟
نسلم أولاً أن الإمام الأشعري بعد تركه للاعتزال كان على طريق عبدالله بن سعيد بن كلاب ، وهذا أمر يوافقنا عليه أصحاب الدعوى ، ولكنهم يخالفوننا في أن طريق ابن كلاب وطريق السلف هما في حقيقة الأمر طريق واحد ، لأن ابن كلاب كان من أئمة أهل السنة والجماعة السائرين على طريق السلف الصالح .
قال التاج السبكي في الطبقات ( الطبقات 2 /300 ):
(وابن كلاّب على كل حال من أهل السنة . . . . ورأيت الإمام ضياء الدين الخطيب والد الإمام فخر الدين الرازي قد ذكر عبدالله بن سعيد في آخر كتابه “غاية المرام في علم الكلام ” فقال : ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد التميمي الذي دمّر المعتزلة في مجلس المأمون وفضحهم ببيانه ) اهـ.
ونقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى عن الإمام ابن القابسي رحمه الله تعالى وهو من كبار أئمة المالكية في المغرب قوله ( تبيين كذب المفتري ص/123 ، 405 ):
( قرأت بخطِّ على بن بقاء الورّاق المحدث المصري رسالة كتب بها أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني الفقيه المالكي ، وكان مقدَّم أصحاب مالك رحمه الله بالمغرب في زمانه ، إلى علي بن أحمد بن إسماعيل البغدادي المعتزلي جواباً عن رسالة كتب بها إلى المالكيين من أهل القيروان يظهر نصيحتهم بما يدخلهم به في أقاويل أهل الاعتزال ، فذكر الرسالة بطولها في جزءٍ وهي معروفة ، فمن جملة جواب ابن أبي زيد له أن قال : ونسبتَ ابن كلاّب إلى البدعة ، ثم لم تحكِ عنه قولاً يعرف أنه بدعة فيوسم بهذا الاسم ، وما علمنا من نسب إلى ابن كلاّب البدعة ، والذي بلغنا أنه يتقلّد السنة ويتولّى الردَّ على الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعني عبدالله بن سعيد بن كلاّب ) اهـ .
وهذه شهادة عظيمة من الإمام ابن أبي زيد رحمه الله لابن كلاب أنه يتقلَّد السنة ويردُّ على المبتدعة ، وأنه لم يعلم من نسب إليه البدعة .
وعلّق العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في هامش الصفحة معرِّفاً بابن كلاب قال ( المصدر السابق ) : ( . . كان إمام متكلمة السنة في عهد أحمد ، وممن يرافق الحارث بن أسد ، ويشنع عليه بعض الضعفاء في أصول الدين .. ) ثم بيّن المسائل التي يشنع عليه بسببها وأن كلامه فيها ليس ببعيد عن الشرع والعقل .
وقال ابن قاضي شهبة (طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1 / 78):
(كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة ، وبطريقته وطريقة الحارث المحاسبي اقتدى أبو الحسن الأشعري ) اهـ.
وقال عنه جمال الدين الأسنوي ( طبقات الشافعية للأسنوي 2 /178 ):
(كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة . . . ذكره العبادي في طبقة أبي بكر الصيرفي ، قال : إنه من أصحابنا المتكلمين ) اهـ.
وقال الإمام الحافظ الذهبي (سير أعلام النبلاء (11/175):
( والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة ، بل هو في مناظريهم ) اهـ.
علّق الشيخ شعيب الأرنؤوط على هذا الكلام قائلاً : ( كان إمام أهل السنة في عصره ، وإليه مرجعها ، وقد وصفه إمام الحرمين في كتابه ” الإرشاد ” بأنه من أصحابنا ) اهـ.
ولقد مر معنا قول العلامة ابن خلدون ) المقدمة ص / 853
( إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري . . . . وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّب وأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ( اهـ.
فوصفه بأنه من أتباع السلف ، وأن الإمام الأشعري كان على رأيه ورأي القلانسي والمحاسبي وهؤلاء من أتباع السلف وعلى طريق السنة .
وقال العلامة كمال الدين البياضي رحمه الله تعالى ( إشارات المرام من عبارات الإمام ص/23):
لأن الماتريدي مفصّل لمذهب الإمام ـ يعني أبا حنيفة ـ وأصحابِه المظهرين قبل الأشعري لمذهب أهل السنة ، فلم يخلُ زمان من القائمين بنصرة الدين وإظهاره . . وقد سبقه ـ يعني الأشعري ـ أيضاً في ذلك ـ يعني في نصرة مذهب أهل السنة ـ الإمام أبو محمد عبدالله بن سعيد القطان . .) اهـ .
أي أن الإمام ابن كلاب كان قبل الإمام أبي الحسن في نصرة الدين وإظهار السنة .
وقال الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان 3 /291) في ترجمته ، بعد أن نقل قول ابن النديم : إنـه ـ يعني ابن كلاب ـ من الحشوية .
قال الحافظ : (يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات ، ويقال لهم المفوضة ) اهـ.
وقال الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى ( الملل والنحل ص81 ) :
(حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلابي وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف ، إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية ، وصنَّف بعضهم ودرَّس بعضٌ ، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح ، فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة ، فأيَّد مقالتهم بمناهج كلامية ، وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة ، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية ) اهـ .
بل نزيد على ما مرَّ ونقول : ليس الإمام الأشعري وحده الذي كان على طريق الإمام ابن كلاب ، كلا ، بل كان على نفس المعتقد أئمة كبار مثل الإمام البخاري رحمه الله تعالى .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ( الفتح 1/293 ):
( البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم ، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيـد وأمثالهـما ، وأما المسائـل الكلامية فأكثرها من الكرابيـسي وابن كُـلاَّب ونحـوهما ) اهـ .
هذه نصوص واضحة بينة في أن الإمام عبدالله بن سعيد بن كلاب كان على طريق السلف والسنة
فإذا كان الأمر كذلك كما بيّن هؤلاء الأئمة ، فما السبب في اتهامه بمخالفة طريق السلف ؟
يقول ابن عبدالبر في بيان سبب ذلك أثناء ترجمة الإمام الكرابيسي ( الانتقاء ص/ 165 ) :
( وكانت بينه ـ يعني الكرابيسي ـ وبين أحمد بن حنبل صداقة وكيدة ، فلمّا خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة ، فكان كلُّ واحد منهما يطعن على صاحبه ، وذلك أن أحمد كان يقول : من قال القرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال القرآن كلام الله ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي ، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع . وكان الكرابيسي وعبدالله بن كلاّب وأبو ثور وداود بن علي وطبقاتهم يقولون : إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته لا يجوز عليه الخلق ، وإن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق وإنه حكاية عن كلام الله . . . وهجرت الحنبلية أصحاب أحمد بن حنبل حسيناً الكرابيسي وبدّعوه وطعنوا عليه وعلى كل من قال بقوله في ذلك ) اهـ .
هذا هو سبب الطعن والتشنيع على عبدالله بن كلاّب ووصْـفِه بأنه لم يكن على طريق السنة والسلف ، إلا أن هذا القول الذي بُـدّع بسببه لا يقتضي وصفه بالبدعة أو أنه على غير طريق السلف ، لا سيما أن مسألة اللفظ بالقرآن كان يقول بها ثلة من أكابر أمة الإسلام مثل الذين ذكرهم ابن عبدالبر ، وممن كان يقول بذلك أيضاً الإمام البخاري والإمام مسلم والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المـروزي وغيرهم ، وما الفتنة التي حدثت بين البخاري وشيخه الذهلي إلا بسبب هذه المسألة ، نعني مسألة اللفظ ، ولقد صنّف الإمام البخاري في هذه المسألـة كتابـه ” خلق أفعال العباد ” لإثبات رأيه فيها والردّ على مخالفيه .
أما الإمام مسلم فقد كان يظهر القول باللفظ ولا يكتمه . ( انظر سير أعلام النبلاء 12 /453 وما بعدها ، 12/572 ):
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في ترجمة الكرابيسي ( طبقات الفقهاء الشافعيين 1/133):
(وأن أحمد بن حنبل كان تكلم فيه بسبب مسألة اللفظ ، وكان هو أيضاً يتكلم في أحمد ، فتجنَّب الناس الأخذ عنه لهذا السبب . قلت : الذي رأيت عنه أنه قال كلام الله غير مخلوق من كل الجهات إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق ، ومن لم يقلْ : إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر . وهذا هو المنقول عن البخاري وداود بن على الظاهري ، وكان الإمام أحمد يسدُّ في هذا البابَ لأجل حسم مادة القول بخلق القرآن ) اهـ .
وممن كان يقول باللفظ أيضاً الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى ، وهي من المسائل التي نقم عليه بسببها بعض متعصبة الحنابلة ، قال الحافظ ابن كثير رحمـه الله تعالى ( المصدر السابق 1/226 ):
( كان قد وقع بينه ـ الطبري ـ وبين الحنابلة أظنه بسبب مسألة اللفظ ، واتهم بالتشيع ، وطلبوا عقد مناظرة بينهم وبينه ، فجاء ابن جرير لذلك ولم يجئ منهم أحد ، وقد بالغ الحنابلة في هذه المسألة وتعصبوا لها كثيراً ، واعتقدوا أن القول بها يفضي إلى القول بخلق القرآن ، وليس كما زعموا ، فإن الحق لا يحتاط له بالباطل ، والله أعلم ) اهـ . (وانظر في محنة ابن جرير مع الحنابلة البداية والنهاية 11/145 ، الكامل لابن الأثير 7/8 ، السير 14/272 ـ 277 ، الوافي بالوفيات 2/284).
نعم ، فإن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو صفة من صفات ذاته العلية ، إلا أنه لا يصحَّ أن يحتاط لهذا الحق بالباطل الذي هو إنكار حدوث وخلق ما قام بالمخلوق ، ثم التشنيع على من يقول بذلك !
على أية حال فإن الحق في هذه القضية مع الكرابيسي وابن كلاّب والبخاري ومسلم وأبي ثور وداود والمحاسبي والطبري وغيرهم ممن كان على طريقهم ، أما الإمام أحمد رضي الله عنه ـ ومن قال بقوله ـ فكلامه محمول على سدّ باب الذريعة لكي لا يتوسل بالقول باللفظ إلى القول بخلق القـرآن .
قال الإمام الذهبي ( السير 12/82 ، وانظر أيضاً السير 11/510 ):
( ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ، لكن أباه الإمام أحمد لئلا يُتذرع به إلى القول بخلق القرآن فسدّ الباب ) اهـ.
وقال أيضاً ( ميزان الاعتدال 1/544 ): ( وكان يقول ـ يعني الكرابيسي ـ القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولفظي به مخلوق ، فإن عنى التلفظ فهذا جيد ، فإن أفعالنا مخلوقة ، وإن قصد الملفوظ بأنه مخلوق فهذا الذي أنكره أحمد والسلف وعدّوه تجهماً ) اهـ .
ولا ريب أن مراد الكرابيسي وابن كلاّب والبخاري ومسلم وأبي ثور وداود ومن كان على قولهم لاريب أن مرادهم هو الأول ، وعلى الجملة فإن القضية أهون من أن يُبـدَّع من أجلها .
قال الحافظ الذهبي ( السير 11/510) بعد أن نقل قول الحافظ أبي بكر الأعين : مشايخ خراسان ثلاثة قتيبة ، وعلى بن حجر ، ومحمد بن مهران الرازي ، ورجالها أربعة عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري قبل أن يظهر منه ما ظهر . . . الخ
قال الذهبي معلّقاً عليه : ( والذي ظهر من محمد ـ يعني البخاري ـ أمرٌ خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن وتسمّى مسألة أفعال التالين ، فجمهور الأئمة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق وبهذا ندين الله ) اهـ .
ولا يلزم من هجر الإمام أحمد لهؤلاء الأئمة أن يكونوا على غير طريق السلف ، لا سيما أن الحق معهم فيما ذهبوا إليه كما قرَّرَه الإمام الذهبي ، كما أننا متيقنون بأنهم رحمهم الله تعالى لم يقولوا هذا القول دون أن تدعو لذلك حاجة ، كلا ، وحاشاهم أن يتكلموا بشيء سكت عنه الصحابة والتابعون ، لكنهم لمَّا رأوا الناس تقحموا هذا الباب ، وخاضوا في هذا الأمر ، وحملوه على غير وجهه ، اضطروا إلى الكلام فيه تبياناً للحق ، وكفّاً للناس عن ذلك .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى : ( في تعليقه على تبيين كذب المفتري هامش(2) من الصفحة (406):
( أما كلام أحمد في ابن كلاب وصاحبه فلكراهته الخوض في الكلام وتورُّعِه منه ، ولكن الحق أن الخوض فيه عند الحاجة متعيِّنٌ على خلاف ما يرتئيه أحمد ) اهـ .
على أن الأمر خفيف كما وصفه الحافظ الذهبي ، وأن هذه المسألة مما اختلفت فيها أقوال الأئمة ، وهم متفقون جميعاً على أن القرآن الذي هو صفة الرحمن وكلامه تعالى غيرمخلوق .
بهذا يتبين أن الإمام ابن كلاّب لم يكن وحده في هذا الأمر الذي ذهب إليه ، بل كان على رأيه كبار أئمة الدين ، وبهذا أيضاً يُعلم أنه لم يبتدع أو يخالف منهج السلف والسنة ، بل هو من أكابر أهل السنة والجماعة السائرين على خطى السلف الصالح كما مرّ من أقوال العلمـاء فيه .
فإذا كان الأمر كذلك ، فمن أين جاء القول بأن الإمام الأشعري قد ترك طريقته وآراءه ؟ وهذا السؤال يجرنا إلى الحديث عن القضية الثالثة .
الردّ على القضية الثالثة :
كتاب الإبانة هو متمسك ومعتمد من يقول بمرور الإمام الأشعري بثلاث مراحل في حياته ، والذي لا ريب فيه أن الإمام قد سلك في هذا الكتاب وفي غيره من الرسائل التي نسبت له أسلوباً مختلفاً في التأليف ، فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور السلف في المتشابهات ، نعني بذلك أنه قد أخذ بطريق التفويض ، ففهم البعض من ذلك أن الإمام قد رجع عن طريق ابن كلاب الذي كان عليه إلى طريق السلف !
ونحن قد أثبتنا في الحديث حول القضية الثانية أن ابن كلاب لم يكن مخالفاً للسلف بل هو منهم وعلى طريقهم ، وهذا كافٍ في الردِّ لمن تأمل وأنصف .
لكننا نزيد على ذلك ونقول :
إن كتاب الإبانة الذي هو معتمد أصحاب هذه الدعوى ، وهو الدليل عندهم على رجوع الإمام عن طريق ابن كلاب ، نقول : إن هذا الكتاب بذاته ينقض دعوى رجوع الإمام عن هذا الطريق ، لأنه مؤلَّف على طريقة ابن كلاّب وعلى منهجه .
قال الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان 3/291 ) ـ وقد مرّ قريباً ـ تعليقاً على وصف ابن النديم لابن كلاّب بأنه من الحشوية ، قال الحافظ : ( يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات ويقال لهم المفوضة ، وعلى طريقته ـ يعني ابن كلاّب ـ مشى الأشعري في كتاب الإبانة ) اهـ .
وهذا يزيد اليقين بأن الإمام ابن كلاب كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم ، لأن الإبانة التي ألَّفها الإمام الأشعري في آخر حياته ـ تبعاً لمن يزعم ذلك ـ على منهج السلف هي مؤلَّفة على طريقة الإمام ابن كلاب ، وهذا يقتضي قطعاً أن طريق السلف وطريق ابن كلاب هما في حقيقة الأمر طريق واحد وهو ما كان عليه الإمام الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال ، أي أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل في حياته ، بل هما مرحلتان فقط ، مرحلة الاعتزال ثم أعقبتها مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابن كلاب والمحاسبي والقلانسي والكرابيسي والبخاري ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم ، وهي المرحلة التي ألَّف الإمام فيها كتاب الإبانة .
ويُروى أن الإمام الأشعري عندما ألَّف الإبانة رفضها بعض حنابلة (3) بغداد تعصّبـاً ولـم يقبلـوها منـه ( انظر سير أعلام النبلاء 15/90 ، طبقات الحنابلة 2/18 ، الوافـي بالوفيات 12/146 ) ولعـل هـذا يؤيد ما مرَّ من أن الإبانة مؤلَّفة على طريقة ابن كلاب الذي هجره بعض الحنابلة فيمن هجروه من الأئمة لأجل مسألة اللفظ وأخذهم بعلم الكلام للرد على المخالفين من المعتزلة وغيرهم .
وهذا الذي ذكرناه عن كتاب الإبانة ، إنما أردنا به الإبانة التي صنّفها الإمام ، وليست الإبانة المتداولة والمطبوعة اليوم ، وذلك لما حدث على هذا الكتاب من التحريف والنقص والزيادة .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب ” تبيين كذب المفتري ” :
( والنسخة المطبوعة في الهند من الإبانة نسخة مصحفة محرفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة ، فيجب إعادة طبعها من أصل موثوق ) اهـ .
وقال أيضاً : (( مقدمته على كتاب إشارات المرام من عبارات الإمام للعلامة البياضي )):
( ومن العزيز جدّاً الظفر بأصلٍ صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة ، وطبْعُ كتاب الإبانة لم يكن من أصل وثيق ، وفي المقالات المنشورة باسمه وقفة ) اهـ .
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الدكتورعبد الرحمن بدوي مؤيداً للعلامة الكوثري ( مذاهب الإسلاميين 1/516 ) قال :
(وقد لاحظ الشيخ الكوثري بحق أن النسخة المطبوعة في الهند . . تلاعبت بها الأيدي الأثيمة. . ) اهـ . كما لاحظ ذلك غيرهم من الدارسين ( انظر مذاهب الإسلاميين 1/517 وما بعدها).
وللشيخ وهبي غاوجي حفظه الله رسالة في هذا الموضوع بعنوان ” نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه إلى الإمام أبي الحسن ” أتى فيها بأدلة موضوعية تدل على أن قسماً كبيراً مما في الإبانة المتداولة اليوم بين الناس لا يصح نسبته للإمام الأشعري .
وقد طبع كتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين ، وهي طبعة وإن كانت أحسن حالاً من المطبوعة قبلُ إلا أنها لم تخلُ من التحريف والنقص والزيادة أيضاً ، وهذا لعله يصحح ما ذهب إليه العلامة الكوثري رحمه الله تعالى حين قال ( ومن العزيز جدّاً الظفر بأصلٍ صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة ) .
وقد نقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتاب تبيين كذب المفتري فصلين من الإبانة ، وعند مقارنة الإبانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية مع الفصلين المنقولين عند ابن عساكر يتبين بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب .
وهذه بعض الأمثلة على ذلك :
* جاء في الإبانة المطبوعة ص/16 ما نصُّه ( وأنكروا أن يكون له عينـان مـع قولـه تجري بأعيننا . . ) اهـ هكذا بالتثنية !
* وعند ابن عساكر ص/ 157 ( وأنكروا أن يكون له عين . . . ) بإفراد لفظ العين .
* وجاء في المطبوعة ص/18 ( وأن له عينين بلا كيف . . )
* وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/22 ( وأن له سبحانه عينين بلا كيف ) هكذا ، كلاهما بالتثنية!
* وعند ابن عساكر ص/ 158 ( وأن له عيناً بلا كيف . . ( بإفراد لفظ العين .
والإفراد هو الموافق للكتاب والسنة وأقوال السلف ، وهذا نصٌّ واضح في التلاعب بنسخ الكتاب ، ولفظ العينين لم يردْ في القرآن ولا في السنة ، ومن ثنَّى فقد قاس الله تعالى على المحسوس المشاهد من الخلق تعالى الله وتقدس عن ذلك .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في هامش ص/313 ( لم ترد صيغة التثنية في الكتاب ولا في السنة ، وما يروى عن أبي الحسن الأشعري من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر إلى نقل الكافة عنه ) ثم قال : ( قال ابن حزم : لا يجوز لأحد أن يصف الله عز وجل بأن له عينين لأن النص لم يـأت بـذلك ) اهـ وقال ابن عقيل معلقاً على حديث الدجال (دفع شبه التشبيه ص/263 ) :
( يحسب بعض الجهلة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما نفى العور عن الله عز وجل أثبت
من دليل الخطاب أنه ذو عينين ، وهذا بعيد من الفهم ، إنما نفى العور من حيث نفي النقائص . . ) اهـ .
وقال ابن الجوزي في الرد على من أثبت لله تعالى عينين ( دفع شبه التشبيه ص/114 ):
( قلت : وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه ، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام : ” وإن الله ليس بأعور ” وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى ) اهـ .
ومن أمثلة التحريف فيه أيضاً القدح بالإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه :
فقد جاء في الإبانة المطبوعة ص/ 57 ( وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن سليمان بن عيسى القاري عن سفيان الثوري ، قال : قال لي حماد بن أبي سليمان : بلِّغ أبا حنيفة المشرك أنِّي منه بريء . قال سليمان : ثم قال سفيان : لأنه كان يقول القرآن مخلوق .
وذكر سفيان بن وكيع قال عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي قال : الكلام الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله : القرآن مخلوق . قال : فتاب منه وطاف به في الخلق . قال أبي : فقلت له كيف صرت إلى هذا ؟ قال : خفت أن يقوم عليّ ، فأعطيته التقيّـة .
وذكر هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي أن حمّاداً ـ يعني ابن أبي سليمان ـ بعث إلى أبي حنيفة : إني بريء مما تقول ، إلا أن تتوب . وكان عنده ابن أبي عقبة ، قال ، فقال : أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب .
وذكر عن أبي يوسف قال : ناظرت أبا حنيفة شهرين حتى رجع عن خلق القرآن ) اهـ .
ترى هل نحن بحاجة إلى إثبات كذب مثل هذه الأخبار وأنها مدسوسة في كتاب الإمام الأشعري ، أم أنه يكفي عزوها إلى الإبانة المطبوعة لكي يُعلم تحريفها وتلاعـب الأيـدي فيها ؟!
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/90 ، 91 جاء بعد الخبر الأول بعد قول سفيان : لأنه يقول القرآن مخلوق . ما نصُّه : ( وحاشى الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه من هذا القول بل هو زور وباطل فإن أبا حنيفة من أفضل أهل السنة ) اهـ .
وجاء فيها بعد قول ابن أبي عقبة : أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه لما استتيب منه بعد ما استتيب . ما نصُّه : ( وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي الله عنه ) اهـ .
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ، في هامش ص/ 49 ، ما نصُّه: ( ومن غريب التحريف ما دُسَّ في بعض نسخ الإبانة للأشعري كما دُسَّ فيها أشياء أخر من أن حمّاد بن أبي سليمان قال ” بلِّغ أبا حنيفة المشرك أني بريء من دينه ” وكان يقول بخلق القرآن . فإن لفظ حمّاد ” بلّغ أبا فلان ” لا أبا حنيفة ! كما في أول خلق الأفعال للبخاري ، وجعل من لا يخاف الله لفظ ” أبا حنيـفة ” فـي موضـع ” أبا فلان ” والله أعلم من هو أبو فلان هذا ، وما هي المسألة . . ) اهـ .
وقال الشيخ وهبي غاوجي حفظه الله: ( نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه . . . ص/20):
(ولا بأس أن نقول : لو كان الإمام الأشعري رحمه الله تعالى نسب حقاً إلى الإمام ـ يعني أبا حنيفة ـ القول بخلق القرآن لما كان للإمام الأشعري تلك المكانة العالية عند الحنفية أتباع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى . فلا تلتفت أيها القارئ إلى تلك النقول المبتورة مبتدأً والباطلة سنداً ، وأحسن الظن بالإمام الأشعري كما تحسن الظن بإمام الأئمة الفقهاء وسائر الأئمة رضوان الله تعالى عليهم . وتذكر أنه أُدخِل الكثيرُ من الأباطيل على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رُكّبت لها أسانيد باطلة ، لكلمات باطلة كذلك . ولا تنس أنه حُشِر في كتب كثير من العلماء كلماتٌ وعبارات وحذف منها كلمـات وعبارات حتى في حيـاة أصحابها ) اهـ .
ومن هذه الأمثلة أيضاً ما جاء في الطبعة المتداولة عند ذكر الاستواء ص/69 : ( إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له نقول : إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } ).
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/105 ( . . نقول إن الله عز وجل استوى على عرشه استواءً يليق به من غير حلول ولا استقرار . . ) .
فالعبارة الأخيرة محذوفة من الطبعة المتداولة !!
وفي ص/73 من الإبانة المتداولة ( فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشـه ، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض ، فدل على أن الله تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه) اهـ
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص/113 ( فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه استواءً منزهاً عن الحلول والاتحاد) اهـ .
إلى غير ذلك من عشرات الأمثلة الدالَّة دلالة قاطعة على تحريف الكتاب ، والقاضية بعدم جواز اعتبار معظمه ممثلاً لعقيدة الإمام الأشعري إلا في ما وافقت فيه قول الكافة من أهل العلم والنقل عنه .
فإذا ثبت ـ كما مرَّ معنا ـ تاريخيّاً أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على منهج السلف وأهل السنة ، وإذا ثبت أيضاً أن الإمام ابن كلاب كان من أئمة السلف وعلى نهـج السنة ، وإذا ثبت أيضاً أن كتاب الإبانة الذي بنيت عليه هذه الدعوى من أساسها هو في حقيقة الأمر مؤلف على طريقة ابن كلاب التي هي ذاتها طريقة السلف ، إذا ثبت ذلك ثبت بناءً عليه أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل في حياته ، وإنما هما مرحلتان مرحلة الاعتزال في بداية حياته ثم مرحلة عودته ورجوعه إلى طريق السلف .
ولا نعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليلاً على ما ذهب إليه إلا الاعتماد على أسلوب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى والطريقة التي كتبت عليها ، لأن الإمام قد سلك في الإبانة طريق التفويض ، وهي طريقة جمهور السلف ، وهي في حقيقتها لا تنافي بينها وبين طريق التأويل بشرطه ، والأشاعرة يعتقدون كل ما في الإبانة ـ نعني الإبانة الصحيحة التي كتبها الإمام وليست الإبانة المحرفة ـ ويعقدون عليه خناصرهم ، إذ كلٌّ من التفويض والتأويل حق لا اعتراض عليه ، وكلا الطريقين مأثور عن الصحابة والسلف كما سيأتي بيانه ، وكلا الطريقين متفقان على التنزيه بعد إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه ، وكلاهما متفقان على استبعاد الظاهر وما يعهده الخلق من عالمهم .
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى ( التبيين ص/388 ):
(بل هم ـ يعني الأشاعرة ـ يعتقدون ما فيها ـ أي الإبانة ـ أسدّ اعتقاد ، ويعتمدون عليها أشدّ اعتماد ، فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة ، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات ، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات ، وبما وصفه به نبيّه صلى الله عليه وسلم في صحيح الروايات ، وينزهونه عن سمات النقص والآفات ) اهـ . وهذا الذي قاله الحافظ ابن عساكر منطبق على كتاب الإبانة الذي ألفه الإمام ، أما ما يوجد اليوم في أيدي الناس منها فلا ثقة به ولا يصح أن يمثل ـ في الغالب ـ اعتقاد الإمام أو الأشاعرة كما أثبتنا ذلك ، إلا فيما وافق قول الكافة .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى ( تبيين كذب المفتري ص/389):
( ولم يزل كتاب الإبانة مُستصوباً عند أهل الديانة ، وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف بالخسروجـردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ، ويظهر الإعجاب به ، ويقول : ماذا الذي يُنكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه . فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان . ) اهـ .
فانظر إلى قدر كتاب الإبانة وصاحبه عند أعلام الأمة ، فهذا شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى وهو من هو جلالة وعلماً وزهداً (4) يثني هذا الثناء العاطر على الإمام أبي الحسن وكتابه الإبانة ، ومنه تعلم أن شيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني أيضاً كان على طريق الإمام الأشعري ، كيف لا وقد تولّى تربيته وتهذيبه الإمام أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي ، وهو ـ أبو الطيب ـ من طبقة أصحاب أصحاب الإمام الأشعري ، أي من الطبقة الثانية ، وكان يحضر مجالس أبي عثمان أئمةُ الوقت كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ الإمام أبي بكر بن فورك وسائر الأئمة ، وهؤلاء من أعلام أمة الإسلام من السادة الأشاعرة ، وثناؤهم عليه وثناؤه عليهم يدلّ على أنهم على طريق واحد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم . ( انظر ترجمة شيخ الإسلام الصابوني في تاريخ مدينة دمشق 9/3 ، سير أعلام النبلاء 18/40 ، الطبقات الكبرى للتاج السبكي 4/271 ).
بعد كل ما مرَّ ، وبعد كل هذه الأدلة ، هل يصح وفقاً للمنهج العلمي للبحث أن تهمل جميع هذه البراهين التاريخية والعقلية والعلمية ، ثم يؤخذ بكلام استنباطي لا يرقى إلى مستوى الظن ، وليس له ما يؤيده من النقل والعقل ؟!
ولو بالغنا واعتبرنا ما اعتمدت عليه هذه الدعوى دليلاً لما أمكن الأخذ به علمياً لأن الدليــل
متى ما تطرق إليه الاحتمال كساه ثوب الإجمال وسقط به الاستدلال ، كما هو مقرر في علم
الأصول ، هذا إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال مجرد تطرق ، فكيف يكون الحال إذا قارب هذا الاحتمال حدَّ اليقين كما مرَّ من أدلـة تحريف الإبانة ؟!
بيد أننا سنبالغ في الافتراض ونقول : هَبْ ـ جدلاً ـ أن كتاب الإبانة المتداول غير محرَّفٍ ، وأنه ثابت النسبة إلى الإمام الأشعري ، وأنه قد رجع فعلاً عن ما كان يعتقده من التـنـزيـه
فهل يلزم الأمة أن تتابعه في هذا الأمر ؟!
إن من يعتقد ذلك يسيء الظن بعقول أكثر من عشرة قرون من العلماء والأئمة ، وينسبهم إلى التقليد الأعمى في العقائد ، ويغيب عنه أن الأمة نُسِبت إلى الإمام الأشعري من حيث كونه وقف حاملاً لواء السنة على طريق السلف في وجه أصحاب البدع والأهواء ، لا لأنهم قلّدوه في ما ذهب إليه ، فمتى ما رجع عن اعتقاده رجعوا ! كلا .
فهم في الحقيقة منتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح ، وما الإمام الأشعري رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة إلا أدلاّء على الطريق .
ومن يروج لمثل هذه الدعاوى يريد أن يقول بلسان حال هذه الدعوى وأمثالها أن هذا الذي رجع عنه هؤلاء الأكابر لو كان حقاًّ ما رجعوا عنه ! فالحق عنده يعرف بمن قال به وتبناه وليس بما اعتضد به من أدلة وبراهين ! وهل أُتِيَ من أتِيَ إلا من قبل هذا الأمر الذي هو تعظيم الكبراء إلى الحدِّ الذي أعمى أعينهم عن الأخطاء ، فاتبعوهم مقلدين لهم في أخطائهم معتقدين أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل ولا يتطرق إليه .
ولله درُّ الإمام ابن الجوزي ما أصدق عبارته فقد أصاب رحمه الله تعالى المحزّ وطبّق المفصل حيث قال ( صيد الخاطر ص/187) :
( قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه : من ضِيْق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال . فلا ينبغي أن تسمع من مُعَظَّمٍ في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه ، ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة ، فقل : هذا من الراوي ، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء
من رأيه . فلو قدَّرنا صحته عنه فإنه لا يُقَلَّد في الأصول ، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما . فهذا أصلٌ يجب البناء عليه ، فلا يهولنَّك ذكرُ معظَّمٍ في النفوس ) اهـ .
لقد أطنبنا في مناقشة هذه القضية ، وما كنا لنفعل ذلك لولا أن تمسك بها البعض واعتبرها أمراً مسلَّماً ثم ذهب يبني عليها ويؤسس ، فاقتضى الأمر التفصيل ، وإلا فإن القضية أهون من ذلك بكثير ، إذ كان يكفينا مؤنة النقاش القول المأثور ( البينة على من ادعى ) ولا بينة ثمَّ ولا قرينة .
ومهما عظُمَ قدرُ القائل بهذه الدعوى فإنه لن يغير من شأن الحقيقة شيئاً ، لأن أي دعوى إنما هي تبعٌ للبراهين والأدلة التي تثبتها فتكون حقيقة أو تنفيها فتكون خطأً ووهماً يجب الرجوع عنه ، وكلٌّ يؤخذ منه ويردُّ عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والحق أحق وأثمن ما يطلبه المسلم وإذ علمت هذا ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ فَدعْ عنك من قال إذ الحق لا يعرف بالرجال ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ، وعليك بما قيل إن كان حقاً ، وإلاّ فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل .
بقلم/فوزي العنجري
الهوامش:
(1) نحن نقول هذا من باب التسليم الجدلي ، وإلا فإن الذي رجحه المحققون من الباحثين أن كتاب اللمع ألَّفه الإمام الأشعري بعد الإبانة . انظر مقدمة كتاب اللمع للأستاذ حمودة غرابة .
(2) انظر الهامش ص/9 .
(3) قيدنا هذا الرفض بأنه من بعض الحنابلة ، لأنه لم تزل طائفة كبيرة من الحنابلة يوالون الإمام الأشعري ويحبونه وينتسبون إليه ، قال الحافظ ابن عساكـر في ” التبيين ” ص/389 أثناء ردّه على الأهوازي الذي استشهد بالقصة من أجل إثبات رفض الحنابلة للإمام الأشعري ولكتابه الإبانة ، ما نصّه : ( فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم وأظهروه ، ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه ـ الإمام ـ كان صديقاً للتميميين سلف أبي محمد رزق الله بن عبدالوهاب ابن عبدالعزيز بن الحارث ، وكانوا له مكرمين ، وقد ظهر أثر بركة تلك الصحبة على أعقابهم ، حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلوذاني من أصحابهم ، وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي يخبر بصحة ما ذكرته وينبي ، وكذلك كان ينهم وبين صاحبه أبي عبدالله بن مجاهد وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب ـ الباقلاني ـ من المواصلة والمؤاكلة ما يدلّ على الاختلاق من الأهوازي . . ) اهـ . وانظر أيضاً ص/ 163 من نفسالكتاب .
(4) قال عنه التاج السبكي : الملقب بشيخ الإسلام ، لقبه أهل السنة في بلاد خراسان ، فلا يعنون عند إطلاقهم هذه اللفظة غيرَه .
waxay ku andacoodaaan NAhaabiyo oo dadka caamada ah u sheegaaan AL IMAAM ABUL XASSAN AL ASHCARI WAXA UU SOOO MAREY 3 MAR XALO CAR WAKAASE HAKEENEEN HAL KITAAB OO QOREY ARINTAAS OO KAMID AH KUTUBTA TAARIIIKHDA
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق