المجاز في القرآن الكريم والسنة النبوية
بين الإجازة والمنع
مقدمة
القرآن كلام الله عز وجل المتعبد بتلاوته المنزَّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء192: 195]، فهو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما نعلم أن الله يؤيد رسله بمعجزة نبغ فيها قومه، فمثلا قوم سيدنا موسى عليه السلام نبغوا في السحر لذلك أيده الله بمعجزة العصا التي صارت حيَّة واكتشف السحرة أنفسهم أن ما جاء به موسى ليس سحرا فآمنوا معه، وكذلك حال عيسى عليه السلام؛ لأن زمانه كان زمن الطب، فكانت معجزته وهي إحياء الموتى، فلما كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفصاحة والبيان، جعل الله معجزته من جنس ما كان يُولعون به وبأشرفه، فتحدّاهم بالقرآن كلاما منثورًا، لا شِعْرًا منظومًا، فأيد الله خاتم الأنبياء والمرسلين بمعجزة نبغ فيها قومه فقد أُوتي العرب البلاغة والفصاحة والبيان وبرعوا في قرض الشعر حتى إنهم كانوا يعقدون في سوق عكاظ مباريات أدبية يلقى فيها كل شاعر إنتاجه الأدبي من الشعر، ويقوم النقاد باختيار القصائد الجيدة، ويتم تعليقها على الكعبة، ولما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُنزل عليه القرآن تحدّى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا أو أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا أو أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
فالقرآن نزل بلغة العرب، وجاء على طرائقهم في البيان والكلام فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوه عن معانيه، وعمَّا فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص، وفي القرآن مثل ما في الكلام العربي، من وجوه الإعراب، ومن الغريب، والمعاني، فلم تستغلق عليهم عباراته وأثّرت فيهم تأثيرًا بالغًا، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل إسلامه حينما قصد أن يقتل سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم وقابله بعض الصحابة فأخبره أن أخته وزوجها قد أسلما فذهب سيدنا عمر مُسرعًا إلى بيت أخته فلما شعرت به أخفت الصحيفة فأخذها منها بقوّة وقرأ ما فيها فتأثر تأثرا شديدا وكان داعيًا قويًّا إلى إسلامه.
وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا في النفوس يُرهبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا إلا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف. «عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله فلما قرأ عليه القرآن كأنه رقّ له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قِبَله -بكسر القاف وفتح الباء- قال: الوليد لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مُشْرِق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعَلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال أبو جهل للوليد: لا يرضي عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: الوليد دعني أفكر فلما فكر، قال: هذا سحر يأثره عن غيره» ومن هذه الظواهر اللغوية المجاز.
والمجاز هو «إسناد اللفظ إلى غير ما هو له في الحقيقة» فنجد أن من العلماء من أنكر هذه الظاهرة في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، وحتى في اللغة بوجه عام. ومنهم من أكثر منها وبالغ فيها ليترك لنفسه العنان في تأويله كيف يشاء. فوقع الأمر بين الإفراط والتفريط.
ونتناول هنا هذه القضية -إن شاء الله تعالى- لنبين ما هي الأسباب التي دعت المنكرين إلى إنكاره؟ وما هي الردود التي رُدَّ بها عليهم؟ وقبل كل شيء ذكرت نبذة مختصرة عن المجاز وما يشتمل عليه، فإن أصبت فلله الفضل والمنة، وإن كانت الأخرى فمن نفسي، وأسأل الله التوفيق والسداد.
تعريف المجاز وما يشتمل عليه
كلمة مَجَاز بوزن (مَفْعَل) من جازَ الشيءَ يَجُوزه، إذا تعدَّاه، وإذا عُدل باللفظ عما يُوجِبُه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصليّ، أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أوَّلًا».
لذلك نعلم أن لكل مجاز حقيقة «لأنه لم يصح أن يُطْلَق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له إذ المجاز هو اسم للموضع الذي ينتقل فيه من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها، وإذا كان كل مجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، فإن من الأسماء ما لا مجاز له كأسماء الأعلام؛ لأنها وُضِعَت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات».
فيم يستعمل المجاز؟
المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها.
فائدة المجاز
إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يُعدل إليه ولكن فائدته هي: «إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانًا، ألا ترى أن حقيقة قولنا: (زيد أسد)، هي قولنا: (زيد شجاع)، لكن فرق بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السامع؛ لأن قولنا: (زيد شجاع) لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جريء مِقْدام، فإذا قلنا: (زيد أسد) يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس وهذا لا نزاع فيه.
وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى إنها ليسمح بها البخيل ويشجع بها الجبان ويحكم بها الطائش المتسرع ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال».
قال ابن رشيق (ت 463 هـ) في العمدة: «المجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعًا في القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ».
منزلة المجاز وقيمته في لغة العرب
قال ابن رشيق في العمدة متحدثا عن منزلة المجاز وقيمته في لغة العرب بقوله: «العرب كثيرًا ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها؛ فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات».
أنواع المجاز
ينقسم المجاز إلى مجاز عقلي، ومجاز لغوى.
أولًا: المجاز العقلي:
«هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع».
وبعبارة أخرى: هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له، أي غير الملابس الذي ذلك الفعل أو معناه له، يعني غير الفاعل فيما بُنِي للفاعل، وغير المفعول فيما بُنِي للمفعول، بتأول متعلق بإسناده. مثل: (أنبت الربيع البقل).
وحاصله أن تنصب قرينة صارفة للإسناد عن أن يكون إلى ما هو له، كقولنا: (في عيشة راضية)، فيما بُنِي للفاعل وأسند إلى المفعول به، إذ العيشة مرضية، وسيل مفعم، في عكسه، اسم مفعول من: أفعمت الإناء: ملأته، وأسند إلى الفاعل.
ثانيًا: المجاز اللغوي:
هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له بالتحقيق في اصطلاح به التخاطب، مع قرينة مانعة عن إرادته، أي إرادة معناها في ذلك الاصطلاح.
وينقسم المجاز اللغوي إلى مفرد ومركب:
أما المفرد فهو: «كلُّ كلمة أريد بها غيرُ ما وقعت له في وَضْع واضعها، لملاحظةٍ بين الثاني والأوّل، فهي مجاز. وإن شئت قلت: كلُّ كلمة جُزْتَ بها ما وقعتْ به في وَضْع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعًا، لملاحظةٍ بين ما تُجُوّز بها إليه، وبين أصلها الذي وُضعتْ له في وضع واضعها».
وينقسم المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة:
«والمجاز ضربان: مُرْسَلٌ، واستعارة؛ لأن العلاقة المصحَّحة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعاره، وإلا فهو مرسل، وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه، فيسمى المشبه به مستعارا منه، والمشبه مستعارا له، واللفظ مستعارا».
والمجاز المرسل له علاقات كثيرة نذكر منها:
1- السببية والمجاورة: مثل استعمال اليد في النعمة في قولهم: (كثرت أياديه لدىّ)، (له عليّ يد)، وقوله صلى الله عليه وسلم «أَسْرَعكنّ لُحوقا بي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا».
2- الجزئية: ومنها تسمية الشيء باسم جزئه، مثل قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2].
3- الكلية: مثل قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 16].
4- السببية: ومنها تسمية المسبب باسم السبب كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
5- المسببية: ومنها تسمية السبب باسم المسبب كقولهم: (أمطرت السماء نباتا).
6- اعتبار ما كان: ومنها تسمية الشيء باسم ما كان عليه مثل قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2].
7- اعتبار ما يكون: ومنها تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه مثل قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36].
8- المحلية: ومنها تسمية الشيء الحالّ باسم محله مثل قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ} [العلق: 17]، أي أهل ناديه.
9- الحالية: ومنها تسمية المحل باسم حالّه مثل قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107].
10- الآلية: ومنها تسمية الشيء باسم آلته، كقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84].
وأما المركب فهو: «اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، أي تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى، ثم تدخل المشبهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه، فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه». كما يقال للمتردد في أمر: إني أراك تقدم رجلًا وتأخر أخرى.
وهو نوع من أنواع الاستعارة؛ لأن التجوز فيه وقع في المثبت دون الإثبات للمبالغة في التشبيه، مثل قولهم (فلان طويل اليد) أي: عظيم القدرة.
الاستعارة: وهي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين، كقولك: لقيت أسدًا، وأنت تعني به الرجل الشجاع، ثم إذا ذكر المشبه به مع ذكر القرينة يسمى: استعارة تصريحية وتحقيقية، والاستعارة في الفعل لا تكون إلا تبعية، كـ (نطقت الحال).
***
المجاز في القرآن الكريم والحديث الشريف بين المجوزين والمنكرين
الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم:
«لا خلاف أن كتاب الله يشتمل على الحقائق، وهي: كل كلام بقي على موضوعه كالآيات التي لم يتجوز فيها والآيات الناطقة ظواهرها بوجود الله تعالى وتوحيده وتنزيهه والداعية إلى أسمائه وصفاته كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]، وقوله تعالى: {أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} [النمل: 61]، وقوله تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، وقوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، وقوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل: 64]، وقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ} [يس: 78]، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63]، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الذي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68].
أما المجاز فاختلف في وقوعه في القرآن:
قد قال بالمجاز خلق كثير لا يجوز حصرهم، ولم يقل بنفيه وإنكاره إلا عدد قليل من العلماء، وسأعرض -بعون الله- أراء بعض العلماء المجوزين له -بدليل وروده في كتبهم-، ثم أعرض أراء المنكرين له، والشبه التي جعلتهم ينكرونه، والرد على تلك الشبه.
الْمُجَوِّزون
قد قال بالمجاز كثير من الأئمة، وعددهم لا يحصى، ولكني آثرت أن أذكر من أصحاب كل فن بعض البارزين فيه فقط:
أولا: اللغويون والنُّحَاة
سيبويه (ت 180هـ):
وضع سيبويه كتابه الذائع الصيت (الكتاب) في القرن الثاني الهجري، فجاء كتابه – على سبقه الزمنى- نسيج وحده في موضوعه، حالا بكل ما يفيد من الدراسات اللغوية نحوًا وتصريفًا وعروضا وأصوات وقراءات، وبلاغة، لم يعرف قبله مثله، ولم يلحق به نظير واحتل مكانًا رفيع الدرجات عند العلماء والدارسين. وكان المبرد يقول فيه لمن جاء يقرأه عليه: هل ركبت البحر، تعظيمًا واستصعابًا لما فيه.
وصار كتاب سيبويه دستورا لمن جاء بعده، ومرجعا للمؤلفين من القدماء، وله عند الباحثين المحدثين أهمية لا تضارع. لم تقتصر الإفادة على النحويين والصرفيين واللغويين، والقراء، بل أفاد منها الأدباء والنقاد والبلاغيين. فمثلا الإمام عبد القاهر الجرجاني فقد وضع تعريفه لنظرية النظم على إدراك المعاني النحوية وحسن إيرادها بين الكلم، فقال: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها».
لم يصرح سيبويه باسم المجاز، ولكنه يوجهها توجيهًا مجازيًّا، ولكن المتأخرين من علماء البلاغة من بعده وإلى اليوم نقلوا التراكيب التي لفت سيبويه الأنظار إليها، ورددوا توجيهه إياها، قال: «ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ التي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82]، إنما يريد أهل القرية فاختصر، وعمل الفعل في القرية كم كان عاملًا في الأهل لو كان هاهنا. ومثله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، وإنما المعنى: بل مكر كم في الليل والنهار. وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.
ومثله في الاتساع قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى».
الفراء (ت 207هـ):
الفراء مِثْل سيبويه لم يضع كتابه للبحث البلاغي في اللغة أو في القرآن الكريم، وإنما وضعه لتوجيه النص القرآني من حيث القراءات الواردة فيه، والوجوه الإعرابية الجائزة في التنزيل، وبيان المعنى المختلف باختلاف القراءة والإعراب. فمنهجه بعيد عن المنهج البلاغي المتخصص، لكن له تخريجات في كتابه من صميم مسائل المجاز كما عرف عند المتأخرين، وهو أحيانا ينسب إلى ما يصرح به إلى أعلام السلف: صحابة وتابعين، وبخاصة ابن عباس ومجاهد وقتادة، رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا فيه من الأدلة القاطعة بأن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أدركوا مسألة التأويل المجازي.
أبو عبيدة (ت 209هـ):
أبو عبيدة صاحب كتاب (مجاز القرآن)، ولم يرد من كلمة (المجاز) التي جعلها عنوانا لكتابه المعنى الاصطلاحي للمجاز ومع هذا فإن فيه تخريجات مجازية عديدة. قال أبو عبيدة: «في القرآن ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المحتمل من مجاز ما اختصر، ومجاز ما حذف، ومجاز ما كف عن خبره، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجمع، ووقع على الجميع، ومجاز ما جاء لفظه لفظ الجميع، ووقع معناه على الاثنين، ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد، ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد إذا أشرك بينه وبين آخر مفرد، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للواحد، أو للجميع، وكف عن خبر الآخر، ومجاز ما خبر عن اثنين، أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، ومجاز ما خبر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للآخر منهما، ومجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس؛ والحيوان كل ما أكل من غير الناس، وهي الدواب كلها، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب، ومعناه مخاطبة الشاهد، ومجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبة هذه إلى مخاطبة الغائب، ومجاز ما يزاد من حروف الزائد، ويقع مجاز الكلام على إلقائهن، ومجاز المضمر استغناء عن إظهاره، ومجاز المكرر للتوكيد، ومجاز المجمل استغناء عن كثرة التكرير، ومجاز المقدم والمؤخر، ومجاز ما يحول من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذي من سببه، ويترك هو. وكل هذا جائز قد تكلموا به».
أبو عبيدة وهو من اللغويين الأوائل أبدى في كتابه كثيرًا من الإشارات إلى ما هداه إليه فكره من التخريج الذي مهد للقول بالمجاز عند تقدم الدراسات اللغوية والبيانية بصفة عامة والدراسات القرآنية بصفة خاصة، ونجد أن أبا عبيدة قد ذكر ظواهر مجازية لم ترد عند الفراء مثل المشاكلة.
أبو الفتح عثمان ابن جني (ت 392هـ):
عقد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابا سمّاه: باب في الفرق بين الحقيقة والمجاز، وذكر فيه تعريفا لكل منهما، وهذه خطوة جديدة في البحث البلاغي لم تعرف عند سابقيه. فمثلا ابن قتيبة قد صرح باسم المجاز والاستعارة لكنه لم يعرّف المجاز تعريف ابن جنى.
قال ابن جني في تعريف الحقيقة بأنها: «ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة»، وقال في تعريف المجاز: «ما كان بضد ذلك».
وهذا الكلام يفيد عدة أمور:
الأول: تقسيم الكلام -بعد الاستعمال- إلى حقائق ومجازات.
الثاني: التصريح بالوضع الأول والدلالة المباشرة للكلام.
الثالث: أن الاستعمال الحقيقي أصل سابق على الاستعمال المجازي، والمجاز فرع عن الحقيقة.
وبيّن ابن جني قيمة المجاز بقوله: «وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة، وهي: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة»، ثم ساق مثلا يوضح فيه هذه القيم الثلاثة وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الفرس: «هو بحر»، فالمعاني الثلاثة موجودة فيه. أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد ونحوها البحر، حتى إنه إن احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء... وأما التشبيه فلأن جريه يجري في الكثرة مجرى مائه (أي: ماء البحر المشبه به الفرس). أما التوكيد فأنه شبه العرض (أي المعنوي المنقول) بالجوهر (أي الحسي المادي)، وهو أثبت في النفوس منه، أي أن المحسوس أقوى أثرًا في النفس من المعقول؛ لإدراكه بالحواس.
نقد كلام ابن جنى:
1) لم يذكر ابن جني في تعريفه للمجاز سوى النقل من الحقيقة الموضوعة لها الكلمة إلى المجاز. وهذا ركن من أركان المجاز، إلا أن النقل وحده غير كاف في تحقيق التجوز في الكلام إذ لا بد فيه من علاقة مصححة للتجوز، وقرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي، وقد خلا منهما تعريفه للمجاز.
2) نراه قد خلط التشبيه البليغ بالاستعارة في تمثيله بقوله صلى الله عليه وسلم للفرس بقوله: «هو بحر»، فهو تشبيه بليغ؛ لأن الاستعارة لا يجمع فيها بين طرفي التشبيه (المشبه والمشبه به). وقد جعل التشبيه لازما لكل مجاز. وهذا غير مسلّم، فالمجاز العقلي والمجاز المرسل لا تشبيه فيهما البتة.
3) توسع ابن جني في أمر المجاز، وزعم أنه أكثر من الحقيقة، وأفرط في هذا الموضوع إفراطًا غير محمود. فتراه يقول: «اعلم أن أكثر اللغة –مع تأمله- مجاز لا حقيقة» ثم يأخذ للتمثيل والتدليل على زعمه صورًا من التراكيب الحقيقية ويعمل فيها فكره حتى يضفي عليها ثوبا فضفاضا ليدخلها في حيز المجاز.
وما ذكرناه من النقد لكلام ابن جني لا يُقَلِّل من قيمته، فابن جني أحد أعلام القرن الرابع من اللغويين الذين أقروا المجاز في اللغة وفي القرآن وحددوا بعض ملامحه وسماته.
***
ثانيًا: الأدباء والنقاد
ابن المعتز (ت 296هـ):
أبو العباس عبد الله بن المعتز هو أول من وضع كتابًا منهجيًّا في علوم البلاغة، وتحدث فيه عن سبع عشرة صورة من صورها، أو فنًّا من فنونها.
والمجاز في بديع ابن المعتز محصور في لون واحد في تصوره، وهو (الاستعارة) فقد صرح باسمها وكرر ذكرها مرات عديدة وأظهر اعتناء بها حيث قدمها على جميع الفنون السبعة عشر التي ذكرها في بديعه. عقد بابا سماه (الباب الأول من البديع وهو الاستعارة)، أورد أمثلة مختلفة من القرآن الكريم مثل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 23]، المشهور أن في الآية استعارة مكنية، ومن الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ضُمُّوا مَاشِيَتَكم تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ»، فكلمة (فحمة) مستعارة للإظلام بجامع شدة السواد في كل منها. ومن مأثور كلام العرب شعرًا ونثرًا وحِكَما وأمثالا. فقال: ومن الاستعارة قول امرئ القيس من الطويل:
وليل كموج البحر مرخ سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمـا تمـطى بصلبه وأردف أعجازًا وناء بكلكل
هذا كله من الاستعارة؛ لأن الليل لا صلب له ولا عجز. وقد اشترط ابن المعتز على تجنب الاستشهاد بكلام المحدثين بالنسبة لعصره فاقتصر على القرآن والحديث وكلام الأقدمين من جاهليين وإسلاميين.
علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 366 هـ أو 392هـ):
ولد القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في القرن الرابع الهجري وهو قرن حافل بازدهار العلم والحضارة الإسلامية لمعت في سمائه نجوم زاهرة في شتى العلوم والفنون، وكان الجرجاني من أزهرها وأضوائها، وله كتاب من أهم كتب النقد وهو (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، وهو كتاب نقدي بلاغي، نجده قد تحدث فيه عن مباحث المجاز وغيرها من الوجوه البلاغية. ومن أبرز المباحث عنده بحث الاستعارة فقد أفاض في ذكرها وتحليلها وتحديدها، والفرق بينها وبين ما يشبه بها من فنون بلاغية. والتفرقة بين حسنها ورديئها. والإشارة إلى مقومات الحسن والإجادة فيها. وتكلم عن الإفراط في استخدامها.
على أن القاضي الجرجاني له وقفات أخرى مع التوجيه المجازي للألفاظ والتراكيب. وهو باعتباره أديبًا ناقدًا، فقد جمع بين ذوق الأديب وذكاء الناقد واتخذ من أسلوب المجاز، والاستعارة بوجه خاص، وسيلة من وسائل النقد والدفاع عما رضيه من القول، وكتاباته تنم عن اشتهار أمر المجاز في عصره. وأن المجاز كان معترفًا به عند علماء الأمة سواء عند من ناصروا أبا الطيب على كثرة طرقه له، والغوص وراء معانيه، وعند الذين خاصموا أبا الطيب فهم لم ينكروا على أنصاره تذرعهم بالمجاز في الدفاع عنه، وإنما قبحوا ما تناوله من بعض صور الاستعارة والتشبيه، وفي نفس الوقت التمسوا وجوه التصحيح من الأقوال التي احتج بها الذين دافعوا عن أبي الطيب، ومنهم القاضي نفسه.
مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ = 1937م):
«ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة؛ لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز أو بالكناية لأنها كناية أو ما يطّردُ مع هذه الأسماء والمصطلحات، إنما أُريد به وضعٌ معجزٌ في نسق ألفاظه وارتياب معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق فجرى على أصولهما في أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها في هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير ويتجوّز حيث يتجوز ويُطنب ويُوجز ويُؤكِّد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أُحصي في البلاغة ومذاهبها؛ لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزًا في جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقصٌ يمكن أن يكون في موضعه ما هو أكملُ منه وأبلغُ في القصد والاستيفاء».
***
ثالثًا: الإعجازيون والبلاغيون
الإمام عبد القاهر (ت 471هـ):
يحتل الإمام عبد القاهر الجرجاني في البحث البلاغي مركزا لم يصل إليه أحد ممن قبله، ولم يزاحمه فيه أحد ممن بعده، سواء نظرت إليه من حيث عمق الدراسة، أو من حيث ما فجر من كنوزها، وفتق من أكمامها، وجلى من مسائلها، وأضاف من فنونها. فهو واحد فذ في هذا المجال، وحسبه أنه واضع صرحي علمي المعاني والبيان، وما أشار إليه من فنون البديع، ناهجًا بالدرس البلاغي منهجًا فرديًّا جمع بين العلم والفن والذوق، فكانت مباحثه البلاغية شهدًا كشهد النحل، تمتص رحيق كل الأزهار، ثم تسكبه جنى طيب المذاق فيه شفاء للناس.
وإذا كانت البلاغة قبل الإمام عبد القاهر، قد اختلطت -أحيانا– بمسائل النقد واللغة، أو اختلط بها النقد، فإن مباحث الإمام عبد القاهر قد مزجت بين هذه الفنون مزجًا حكيمًا.
حديثه عن حدّ الحقيقة والمجاز:
عرف الحقيقة بأنها: «كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع -وإن شئت قلت في مواضعة- وقوعًا لا يستند فيه إلى غيره فهو حقيقة». أما المجاز اللغوي فقد قال في حده: «وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول فهو مجاز، وإن شئت قلت: كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز».
والإمام عبد القاهر أول من فرق بين المجاز العقلي وبين المجاز اللغوي، فصور المجاز العقلي لفتت أنظار الرواد الأوائل من عهد سيبويه فأدركوا سرها، وحملوها على الاتساع في الكلام، ومنهم من أدخله في صور المجاز اللغوي, ولم يقولوا فيه الكلمة الأخيرة. فهو في مباحثهم كان ما يزال جنينا في رحم أمه، والذي أولده وسماه وربّاه وأحسن تربيته هو الإمام عبد القاهر رحمه الله.
***
السكاكي (ت 626هـ):
في مجال البحث البلاغي الدقيق يلي الإمام عبد القاهر الجرجاني الإمام أبو يعقوب يوسف السكاكي، وهو يشغل مساحة زمنية هائلة في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، وإذا كان الإمام عبد القاهر أستاذ المدرسة، وإماما خط بقلمه أروع منهج جمع بين العلم والفن، والقاعدة والتذوق، وأسفرت كتاباته عن نظريتي (البيان والمعاني) فإن السكاكي بدوره أستاذ بحق لمدرسة، وإمام خط بقلمه أدق منهج تفصيلي لكليات البلاغة وجزئياتها، وأصولها وفروعها وإذا جاز لنا أن نضع تشبيها يبين دور الرجلين، وما بينهما من اتفاق وافتراق. فإن الإمام عبد القاهر مهندس عبقري بنى مدينة فأحسنها وأجملها. والإمام السكاكي هو الذي وضع أسماء ميادينها وشوارعها ورقم قصورها ومنازلها فاكتمل للمدينة جمال الإنشاء وحسن التنسيق. فكلا الرجلين جاد بما عنده. وبذل قصارى جهده في خدمة هذا الفن.
عرّف الإمام السكاكي المجاز بأنه: «الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة معناها في ذلك الموضوع»، وفي شرحه لهذا التعريف نراه يضع فيه قيدًا لدفع ما كان قد رآه الإمام عبد القاهر في الاستعارة من أن النقل فيها نقل معنى اللفظ لا نقل اللفظ نفسه. والإمام السكاكي يرى أن المنقول في الاستعارة هو اللفظ بمعناه وليس المعنى وحده.
ترى هذا جليا في قول السكاكي: «وقولي بالتحقيق احتراز ألا تخرج الاستعارة التي هي من باب المجاز نظرا إلى دعوى استعمال الكلمة التي وقعت بها الاستعارة فيما وضعت له».
ويفرق السكاكي بين الحقيقة والمجاز بعبارة استوحى معناها من كلام الإمام عبد القاهر مع إضافات خلصت له. وهذا قوله: «ومن حق الكلمة في الحقيقة التي ليست بكناية أن تستغني في الدلالة على المراد منها بنفسها عن الغير لتعينها له بجهة الوضع» ويقول: «ومن حق المجاز ألا تستغنى عن الغير الدلالة على ما يراد منها ليعينها له ذلك القيد»، وهو يقصد بـ (الغير) القرينة؛ لأنها هي (الغير) الذي يعين الكلمة المجازية للمعنى المجازي المراد منها.
وعرف المجاز العقلي بقوله: «هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بواسطة وضع». مثل: (أنبت الربيع البقل)، ونرى أن الإمام السكاكي لم يكن مقتنعًا كل الاقتناع بفكرة المجاز العقلي حين أقبل نحوه بدرسه ويفلسف له، ويجهد نفسه في استجلاء مسائله وقضاياه. وإنما فعل ما فعل مجاراة لمن سبقه ممكن كتب حوله كالإمام عبد القاهر، وجار الله الزمخشري والفخر الرازي الذين تأثر بهم في كثير مما كتب. لذا تراه حين فرغ من بحث المجاز العقلي سرعان ما انقضَّ عليه وأنكره ووضع عليه شارة غير شارته، وألبسه ثوبًا غير ثوبه، ونحله تسمية غير تسميته، وهو يجعله صورة من صورة الاستعارة المكنية.
ورد المتأخرون مذهب السكاكي هذا في إنكار المجاز العقلي ودرجه في صور الاستعارة بالكناية، وكان الخطيب أول من لحظ هذا وناقشه في وضوع وأبان عن قصور السكاكي في هذا المبحث.
والتحقيق أن إنكار السكاكي المجاز العقلي لا تساعده عليه بعض التراكيب. وأيا كان الأمر فإن الإمام السكاكي من أشهر علماء الأمة القائلين بورود المجاز لغويًّا وعقليًّا على مذهب الأصحاب، ولغويًّا على مذهبه. ومن أشهر علماء الأمة القائلين بوروده في اللغة بوجه عام وفي القرآن بوجه خاص.
***
الخطيب القزويني (ت 739هـ):
للخطيب القزويني منزلة خاصة في البحث البلاغي بوجه عام، لم يحظ بها أحد ممن تقدمه، ولا ممن لحق به. فكان قطب الدائر بحق إذ كان البحث البلاغي قبله آخذا في النمو والتدرج جيلا بعد جيل، فجاء هو وقد استلهم أبرز مباحث سابقيه، وأخذ على عاتقه مهمة صوغ المباحث البلاغية في عبارات جامعة محررة وأضاف إليها ما جادت به قريحته مع دقة النظر، وصواب الفكر، وسلامة المذهب.
ونراه يخالف منهج الإمام السكاكي في موضع بحث المجاز العقلي فبحثه في علم المعاني؛ لأنه صورة من صور الإسناد وحال من أحواله، ودرج على هذا الشراح من بعده، أما السكاكي فبحثه في علم البيان.
ونرى الخطيب في تحليلاته لصوره المجاز العقلي غواصا وراء دقيق المعاني. وقد قسَّم المجاز اللغوي بحسب العلاقة المصححة قسمين فقال «والمجا ضربان: مرسل واستعارة؛ لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة. وإلا فهو مرسل».
ومما تجب الإشارة إليه أن جل أمثلة البلاغيين على المجاز، بل أكثرها ماء ورونقا، وأصدقها شاهدا كانت من نصوص القرآن الكريم. فلم يروا في ذلك حرجا. وهذا يدفع بقوة مذهب يدفع بقوة مذهب ابن تيمية ومشايعيه قديما وحديثا في نفي المجاز في اللغة بوجه عام. وفي القرآن بوجه خاص.
***
رابعًا: الْمُفَسِّرون
ابن جرير الطبري (ت 310هـ):
تفسير ابن جرير له أهمية خاصة من بين كل التفاسير المعروفة لنا الآن: فهو أول تفسير جامع للقرآن العظيم كله، وقد فاق في ضخامته الحد المعهود للتفاسير المبكرة، وبعض التفاسير المبكرة، وبعض التفاسير التي وضعت بعد عصره بكثير. وقد اعتمد على أقوال الصحابة والتابعين ومما نقلوه عن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. وهو من أبرز التفاسير التي جمعت إلى تفسير الرواية تفسير الدراية. حيث لم يقف ابن جرير عند الآراء المأثورة التي يرويها، يرويها بل اتبعها بالتوجيه والترجيح ما وسعه النظر والفهم، فهو تفسير نقلي عقلي في آن واحد.
نجد أن ابن جرير يتحفظ كثيرا جدا من صرف العبارة على غير ظاهرها، ويحاول أن يقف بالعبارة القرآنية عند دلالتها الظاهرة، وحين ينقل من آراء السلف ما فيه صرف العبارة عن الظاهر فإنه عند الترجيح يقلل من قيمة الصرف ويميل إلى ما عداه. ومع التحفظ الشديد فإن لمجوزي المجاز في تفسيره شواهد قوية تفوق طاقة المحصي المتعجل لكثرتها. «فنجده مثلا عند تعرضه لقوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} [البقرة: 174] فقد قال فيه: يعني تعالى ذكره بقوله أولئك: هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرشوة يعطونها فيحرفون لذلك آيات الله ويغيرون معانيها ما يأكلون في بطونهم بأكل ما أكلوا.. إلا النار. يعني: إلا ما يوردهم النار...». فهذا القول منه صالح للعمل على المجاز المرسل وعلاقته اعتبار ما سيكون.
جار الله الزمخشري (ت 538):
الزمخشري عَلَم من أعلام الإسلام، وبحر من بحور العلم، وكنز من كنوز المعرفة وشمس من شموس البيان، ومفسر راسخ القدم وهبه الله ذكاء قيد به شوارد المعاني، وفهما تذوق به مرامي التنزيل، وفقها استشف به غوامض الأسرار، وأعانه على خبيئات المعاني في مفردات التنزيل وفي جمله وتراكيبه فجاء تفسيره (الكشاف) كما قال هو:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها -لعمري- مثل كشافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء، والكشاف كالشافي
وقال في الكشاف: إن من تعاطى التفسير فلا بد له من البراعة فيهما- المعاني والبيان- لأنهما علمان مختصان بالقرآن لا يغني عنهما سواهما. ونجد في كتابه ذكره لكثير من فنون البلاغة عند تفسيره لبعض الآيات مثل المجاز العقلي، المجاز المرسل، الاستعارة، ترشيح المجاز وتجريده.
***
خامسًا: المحدثون
ابن قتيبة (ت 376 هـ):
لابن قتيبة كتاب سماه (تأويل مشكل القرآن) وكتاب آخر سمّاه (تأويل مختلف الحديث)، وقد بين المؤلف في مقدمة مستفيضة أهمية الموضوع الذي تعرض له، وكيف أن كل فرقة تمسكت بنصوص بنت عليها عقيدة، وكيف لغا اللاغون في بعض الأحاديث التي يوهم ظاهرها اختلافا فيما بينها، أو يوهم ما يضاد أصول الاعتقاد في الله.
وبعد هذه المقدمة عمد إلى ما لغوا فيه، وحاول محاولات جادة في التوفيق بين الأخبار المتعارضة والموهمة، وسار في خطوات ثابتة من أول الكتاب إلى آخره، ولجأ في بعض معالجاته لهذه المشكلة إلى التأويل المجازي، وهذا هو بيت القصيد الذي يهمنا في هذا الغرض. «ومن كلام عبد الله بن مسلم بن قتيبة في المجاز قال: لو كان المجاز كذبًا لكان أكثر كلامنا باطلاً؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر، ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما يُكوَّن، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شيء، وقال في قول الله عز وجل: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول في جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بدًا من أن يقول: يهم أن ينقض، أو يكاد، أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلًا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من ألسنة العجم إلا بمثل هذه الألفاظ».
الشريف الرضي (ت 406هـ):
وقد وضع كتابا أسماه (المجازات النبوية) ويختلف منهجه فيه عن منهج ابن قتيبة وابن فورك لأنهما اهتما –غالبا- بالأحاديث التي لها صلة وثيقة بالاعتقاد والتوحيد، أما الشريف فقد دعاه إلى وضع كتاب إظهار ما في الحديث من الصور البلاغية والبيانية سواء مست أصول الاعتقاد أو لم تمس، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «يا أنجشة: رفقا بالقوارير» ثم علق عليه قائلا: وهذه استعارة عجيبة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شبه النساء في ضعف الطبائع ووهن الغرائز بالقوارير الرقيقة التي يوهنها الخفيف، ويصدعها اللطيف، فنهى عن أن يسمعهن الحادي ما يحرك مواضع الصبوة، وينقض معاقد العفة.
الإمام السيوطي (ت 911هـ):
قال السيوطي: «لا خلاف في وقوع الحقائق في القرآن، وهي كل لفظ نقي على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير، وهذا أكثر الكلام. وأما المجاز فالجمهور أيضًا على وقوعه فيه، وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية، وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى، وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنيه القصص وغيرها».
***
سادسًا: الأصوليون والفقهاء
«الأصوليون والفقهاء طائفتان من علماء الأمة تتعلق مباحثهم بلب الشريعة ومقاصدها وأصولها. أو هما إذا حكمنا الممهدون للعل بشريعة الله في الدنيا والدين، والمهيئون لإنفاذ التكاليف في العقائد والعبادات والمعاملات والسلوك الخاص والعام. ووضع القواعد والأسس الكلية لاستنباط الأحكام الجزئية من قواعدها التفصيلية. ولولا جهود الأصوليين والفقهاء لاستغلق على الناس كتاب ربهم وسنة نبيهم، ولما جاءت أعمالهم منضبطة على هدى الله ورسوله.
فالقرآن والحديث هما مبادئ التشريع. وعمل الأصولي هو النظر فيهما وتحرير مقاصدهما، فالأصول واسطة بين الفقيه وبين مصادر التشريع.
وقد رأينا الأصوليين والفقهاء يهتمون اهتمامًا كبيرًا بمدلولات اللغة العربية: لغة التنزيل الإلهي والحديث الشريف. ويولونها أكبر عناية؛ لأنها المادة التي صيغت فيها كليات التشريع ويسيرون مع العرب النازل بلغتهم أينما ساروا في طرق بيانهم، وشعب دلالتهم، ومنها الحقيقة والمجاز، لتكون قواعدهم التي صاغوها، وأحكامهم التي استنبطوها جارية على أسس صحيحة وفهم مستقيم. ولو لم تكن نظرتهم بانقسام اللغة إلى حقيقة ومجاز لخلت مصنفاتهم وجهودهم من هذا التقسيم».
ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ):
لابن حزم كتاب يسمى (الأحكام في أصول الأحكام) تحدث فيه عن المجاز والتشبيه في فصل خاص، وأنه لم يتناول مسألة وقوع المجاز في اللغة، بل تخطاها إلى وقوعه في القرآن والسنة أو عدم وقوعه فيهما.
وقد أشار إلى الخلاف بين علماء الأمة في هذا المجال، فقال إن قوما منهم منعوه، وآخرين أجازوه، واختار هو مذهب الإجازة في إطار الحدود التي وضعها هو لوقوع المجاز في القرآن والسنة الشريفة. المؤلف لا يرى حرجا في ورود المجاز في آيات التنزيل الحكيم، وفي حديث إمام المرسلين، وهذا مشروط عنده بشرط وهذا واضح في قوله: «فكل كلمة نقلها الله تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر فإن كان الله تعالى تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شيء من هذا مجازا، بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى.
وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للأبوين ونرحمهما، ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق، ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام؛ لأنه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الاعمال بهذه الاسماء بأعيانها ولا بد».
هذا هو شرط ابن حزم في وقوع المجاز في القرآن الحكيم، والسنة المطهرة فالنقل إذا صحبه تعبّد بالعمل والاسم فهو حقيقة لا مجاز. والنقل إذا لم يصحبه تعبّد بالتسمية فهو مجاز لا حقيقة.
ومما تجب الإشارة إليه أنه مقر بالوضع اللغوي، وجعل من علامات المجاز الخروج عن هذا الوضع. وهذان الأمران مع اشتهارهما في مباحث العلماء قبل عصر ابن تيمية فإنه قد نفاهما بدليل أن سلف الأمة قبله لم يقل به.
وقد بالغ ابن حزم رحمه الله في وصف من ينكر المجاز بالكفر، والذين أنكره في القرآن بخاصة أرادوا الحفاظ على كلام الله من شطط التأويل. فهي نظرة في حيطة محمودة، وقد خرج جمهور العلماء عن هذه النظرة ونهجوا منهج التأويل المجازي في كتاب الله. فكلا الفريقين لهما مقاصد حسنة فيما ذهبوا إليه وإن ترجحت إحدى النظرتين (نظرة القول بجواز المجاز) فليس معنى هذا الحكم على من منع المجاز في القرآن بالكفر.
هذا هو موقف ابن حزم من المجاز، وهو من الرواد الأوائل في علم الأصول وحديثه عن المجاز كان قبل نضوج هذا الفن. ومهما كانت نظرته ضيقة بالنسبة لمستقل البحث في المجاز في عصره فهي لمحة لها دلالتها القوية بالإضافة إلى مبدأ الوضع الأول.
الإمام الغزالي (ت 505هـ):
تصدى الإمام أبو حامد الغزالي للبحث في الحقيقة والمجاز، وكانت مجالات فكره. وكتاباته تملي عليه التصدي لمثل هذه المباحث. وبخاصة في مجالي الكلام وعلم أصول الفقه، اللذين أسهم فيهما بنصيب وافر من العطاء الفكري العميق المستنير. وهو فيها إمام ضالع، وعَلَم يهتدى به. تكلم الغزالي عن المجاز في كتابه (المستصفى في علم الأصول).
عرّف الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) المجاز بقوله: «والمجاز ما استعملته العرب في غير موضوعه»، معنى هذا أن الإمام الغزالي مقر بالوضع اللغوي الأول المتفرغ عنه النقل إلى المعنى المجازي، والنقل هو عمدة المجاز وإن لم يتحقق به وحده.
وينتقل الإمام الغزالي إلى ذكر العلامات التي يُعرف بها المجاز على طريقة علماء الأصول وهي عندهم محصورة في أربع قال فيها: «وقد يُعْرَفُ المجازُ بإحدى علامات أربع الأولى: أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره، إذ قولنا عالم لما عُنِي به ذو عِلْمٍ صَدَقَ على كل ذي علم، وقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يصح في بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية، ولا يقال: سَلْ البساط والكوزَ، وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل».
وهذا الفرق صحيح لأن الحقيقة موضوعة وضعا كليا عاما. أما المجاز فموضوع وضعا خاصًّا حين توجد المناسبة بين طرفيه. «الثانية: أن يُعرف بامتناع الاشتقاق عليه، إذ الأمر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر، والشأن هو المراد بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]. وبقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40].
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيُعْلَم أنه مجاز في أحدهما، إذ الأمر الحقيقي يُجمع على أَوَامِرَ، وإذا أُريد به الشأن يُجْمَعُ على أُمُورٍ.
ويقول في الرابعة: أن الحقيقي إذا كان له تعلُّق بالغير، فإذا اسْتُعْمل فيما لا تعَلُّق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أُريد بها الصفة كان لها مقدور، وإن أُرِيد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب، إذ يقال: انظر إلى قدرة الله تعالى أي إلى عجائب مقدوراته، لم يكن له متعلق، إذ النبات لا مقدور له.
***
المنكرون
إنكار المجاز بعامة مر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: ما قبل ابن تيمية
إنكار المجاز قبل عصر ابن تيمية معزو إلى جماعة، وهم لا يكادون يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كان من بينهم إمام مذهب فقهي معروف. فالأصوليون يعزون هذا القول إلى داود الظاهري إمام مذهب الظاهرية وابنه أبي بكر محمد الظاهري.
ومن غير الظاهرية ينسب هذا القول إلى: أبي الحسن الجزري، وأبي عبد الله بن حامد، وأبي الفضل التميمي من الحنابلة، ومحمد بن خويز بن منداد من المالكية، ومنذر بن سعيد البلوطي (ت 355هـ). ويعزى كذلك إلى أبي علي الفارسي.
ومن الشافعية إلى أبي العباس الطبري المعروف بابن القاص، ومن المعتزلة أبي مسلم الأصبهاني.
ويعزى هذا القول كذلك للرافضة كما عزى إلى للظاهرية هؤلاء هم كل ما يعزى إليهم إنكار المجاز في القرآن، وفي الحديث النبوي كذلك.
وفي هذه المرحلة لم يكثر المانعون في تعداد أسباب المنع، ولم يطنبوا في شرحها والتمثيل لها. بل لهم في ذلك عبارات موجزة كل الإيجاز.
ومانعو المجاز قبل ابن تيمية لم يتركوا لنا مصنفات فصلوا فيها القول في أسباب منع المجاز وإنما نقلت عنهم إشارات تفيد مجرد المنع إلا في القليل النادر، فإننا نجد عبارات قصيرة أومأوا فيها إلى أسباب المنع محكية عنهم في مصنفات غيرهم من علماء الأمة. وهذا بخلاف ابن تيمية ومن بعده فلدينا أقوالهم في منع المجاز منصوص عليها في مصنفات خاصة بهم.
والعمدة في منع المجاز في القرآن الكريم بخاصة يرجع أول ما يرجع إلى داود الظاهري وابنه محمد وإن عزى هذا القول إلى غيرهما من العلماء.
والمتقدمون من الأصوليين حين ينسبون إلى داود الظاهري نفي المجاز في القرآن يذكرون له شبهتين:
إحداهما: أن المجاز عند من يقول به لا يدل على معناه إلا بمعونة القرينة، وهذا تطويل بلا فائدة ومع عدم القرينة يكون فيه إلباس.
وثانيتهما: لو سلمنا أن في القرآن مجازا- والقرآن كلام الله- لقيل لله (متجوز) وهذا الوصف لا يطلق على الله باتفاق علماء الأمة.
***
المرحلة الثانية: مرحلة ابن تيمية
«حين يُذكر ابن تيمية بين منكري المجاز مطلقا وفي القرآن الكريم فإنه يمثل في هذا المقام قطب الدائرة. لأن من أنكر المجاز قبله لم يتحمسوا للإنكار حماسته، ولم يثوروا ثورته ولم ينزحوا نزحه، ولم يقلبوا وجوه القول تقليبه. ولم يكن بين أيديهم من أسباب الإنكار ما كان بين يديه. والذين أنكروا المجاز من بعده، في فلكه داروا، وعلى أوتاره عزفوا».
سبب إنكار ابن تيمية للمجاز:
«كان السبب في تلك الحملة الضارية التي شنها على القول بالمجاز والقائلين به من سلف الأمة هو دخول المجاز في مباحث العقيدة والتوحيد. وتعلقه بصفات الله عز وجل. وقد تطرف قوم من علماء الكلام فأوسعوا دائرة التأويل في كتاب الله، وادعوا أن لكل لفظ في القرآن ظاهرا وباطنا، وحمَّلوا الألفاظ ما لم تحمل وتعسفوا في التأويل»، كما قال الإمام عبد القاهر من قبل. وذكر مثلا لفوضاهم في التأويل. وعبثهم في استنباط المعاني بما لا يؤيده نقل، ولا يسلم به عقل ولا يرضاه ذوق.
ودخول المجاز في مجال العقيدة والتوحيد بعد أن كان قضية أدبية نقدية، أو لغوية جمالية، هو الذي ألهب نار الحماسة عند ابن تيمية لأنه رأي في مثل تأويل «يد الله» بالقدرة تعطيلا لصفة من صفاته، وهكذا كل ما أضيف إلى الله مما يوهم ظاهره التشبيه والتجسيم، كالجهات والمعية والفوقية والاستواء والمجيء والنزول.
ومصطلح «التعطيل» هذا ما أظنه إلا من توليدات ابن تيمية فإن لم يكن من توليداته واختراعاته فإنه لم يشتهر ويعرف إلا عنه.
والدليل على ثورة ابن تيمية على فوضى التأويل أنه لم يتعرض للحملة على المجاز إلا في مواطن الحديث عن العقيدة، ولهذا فإننا نراه يتحدث عن المجاز وإنكاره في موضعين من مؤلفاته. أحدهما: في مجموع الفتاوى، وثانيهما: في كتابه الموسوم بـ (الإيمان) وفي كلا الموضعين يتحدث عن العقائد والتوحيد. وقد عرض لموضوع المجاز في كتابه (دقائق التفسير).
ما اعتمد عليه ابن تيمية في إنكار المجاز:
من خلال مراجعة ما كتبه ابن تيمية بخصوص المجاز في كتابه (الإيمان) وجدناه قد اعتمد في إنكار المجاز في اللغة بعامة، وفي القرآن الكريم بخاصة على ما يأتي:
1) أن سلف الأمة لم يقولوا به مثل الخليل ومالك والشافعي وغيرهم من اللغويين والأصوليين وسائر الأمة، فهو إذن حادث؟!
2) إنكاره أن يكون للغة وضع أول تفرع عنه المجاز باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما يقول مجوزو المجاز؟!
3) إنكار التجريد والإطلاق في اللغة. حتى يقال إن الحقيقة ما دلت على معناها عند الإطلاق والخلو من القرائن، والمجاز ما دل على معناه بمعونة القيود والقرائن.
4) مناقشة النصوص التي استدل بها مجوزو المجاز على وقوع المجاز في اللغة وفي القرآن.
***
المرحلة الثالثة: ما بعد ابن تيمية
ابن القيم الجوزية (ت 751 هـ):
حمل ابن قيم الجوزية حملة عنيفة على المجاز وعلى مثبتيه، وسمى المجاز طاغوتا، وهذا في كتابه (الصواعق المرسلة). وأفرغ طاقة هائلة في إنكاره، وتوسع في أسباب المنع توسعا رأسيا وأفقيا. فبعد أن احتج بما احتج به شيخه ابن تيمية راح يضيف إلى أسباب المنع أسبابا حتى أوصلها إلى ما يزيد على خمسين وجها.
حاكى شيخه في أن السلف لم يقولوا بالمجاز، وأن أبا إسحاق نفاه في اللغة مطلقا، وأن داود بن علي الظاهري وابنه أبو بكر منعاه في القرآن، وأن جماعة من أصحاب أحمد منعوه في القرآن أما الإمام نفسه فله روايتان رجح ابن القيم رواية المنع منهما... وغير ذلك مما ذكره شيخه.
وكأن ابن القيم قد استشعر هذا ضعف هذه الحُجج فراح يخوض بحرا من الفروض الجدلية ثم يبدئ ويعيد على نحو لم يعرف لأحد ممن قال بإنكار المجاز أو نسب إليه هذا القول.
إن منهج ابن القيم يغلب عليه الجدل والمحاكاة اللفظية، وهذا المنهج عديم الجدوى في مجال البحث والاستدلال، وعن طريقه يمكن إثبات الشيء ونقيضه.
ولعل ابن القيم كان يريد أن يلفت نظر تلاميذه إلى خطورة الجدل اللفظي، وبين لهم عقمه في الاستدلال فصنع ما صنع. وهكذا سلك الإمام ابن القيم منهجا جدليا في إنكاره المجاز، لذلك تضخمت الأسباب عنده فبلغت – إجمالا- اثنين وخمسين سببًا.
نرى أن ابن القيم أنكر المجاز نظرا وجدلا، وأقر به عملا وسلوكا، وقد صنف كتابا كاملا في علم البيان سماه (الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان).
محمد أمين الشنقيطي (ت 1393هـ):
في العصر الحديث وضع الشيخ الشنقيطي رسالته (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز)، ولم يخرج عمّا قال سابقوه في المنع، سوى أنه قال: (إن المجاز لم يقل به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة).
***
مناقشة أدلة من أنكر المجاز في مراحله المختلفة
أولا: مرحلة ما قبل ابن تيمية:
أجاب الأصوليون على الشُّبه التي ذكرت قبل مرحلة ابن تيمية فقالوا: إن المجاز لا بد فيه من قرينة فلا إلباس فيه إذن؟ وليس في المجاز تطويل بلا فائدة: بل فيه فوائد من أجلها يصار إلى المجاز ويعدل عن الحقيقة.
أما امتناع إطلاق وصف (متجوز) على الله فليس علته نفي المجاز عن القرآن، وإنما أسماء الله توقيفية لا بد فيها من الإذن الشرعي. ولا إذن هنا، فلا يقال إذا على الله أنه (متجوز) لعدم إذن المشرع.
ويضيف بعض الأصوليين لأدلة الظاهرية على نفي المجاز في القرآن أنهم قالوا: المجاز كذب لأنه يصح نفيه فيصح في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] ما اشتعل، وإذا كان كذبا فلا يقع في القرآن والحديث.
وفي عروس الأفراح: يقول بهاء الدين السبكي: «إن الاستعارة ليست بكذب لأمرين:
أحدهما: خفي معنوي وهو البناء على التأويل، لأن الكذب غير متأول ناظر إلى العلاقة الجامعة، وقد التبس ذلك على الظاهرية. فادعوا أن المجاز كذب ونفوا وقوعه في كلام المعصوم وهو وهْمٌ منهم.
الثاني: ظاهري لفظي أو غير لفظي وهو كالفرع عن الأول: أن المجاز ينصب قائله قرينة تصرف اللفظة عن حقيقتها وتبين أنه أراد غير ظاهرها الموضوع لها».
وهذا مردود لأن النفي الذي جعلوه أمارة من أمارات المجاز المراد به نفي حقيقة اللفظ. فإذا قيل: رأيت أسدا يحمل السلاح. فإن النفي أن المتحدَّث عنه ليس هو الأسد الحيوان المعروف. وهذا ليس بكذب ولا يتوجه النفي إلى المعنى المراد وهو الشجاعة.
ومن حججهم أيضا: أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه، فورود القرآن به يقتضي الالتباس. والجواب عن ذلك أنه لا التباس مع القرينة الدالة على المراد.
ومنها: استعمال المجاز لموضع الضرورة، وتعالى الله أن يوصف بالاضطرار. والجواب عن ذلك: لا نسلم أن استعمال المجاز لموضع الضرورة بل ذلك عادة العرب في الكلام وهي عندهم أمر مستحسن. ولهذا نراهم يستعملون ذلك في كلامهم مع القدرة على الحقيقة والقرآن نزل بلغتهم فجرى الأمر فيه على عادتهم.
هذه هي شبه مانعي المجاز -على قلتهم- في القرآن الكريم، ورأينا الأصوليين يردون عليهم بحجج أقوى، وبراهين أسطع.
***
ثانيا: مرحلة ابن تيمية:
ذِكْر شُبَه ابن تيمية ومناقشتها:
الشبهة الأولى
وقال في موضع آخر: لم يقل أحد بالمجاز إلا الإمام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية: «أما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] فهذا في مجاز اللغة، يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك كذا». فعبارة (إنا ونحن) ونحو ذلك في القرآن من مجاز اللغة.
الرد على هذا الشبهة
الواقع أن ما ذكره ابن تيمية مدفوع ومعارض بحقائق لا تقبل الجدل. فقد ذكر الإمام أن المجاز لم يعرف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى ولكننا إذا رجعنا إلى ما كتبه بعض أعلام القرون الأولى وجدناهم تكلموا على المجاز إن لم يكن بلفظه فيكون بمعناه وسنتعرض لهؤلاء العلماء حسب الترتيب التاريخي الأقدم فالأقدم:
أبو زيد القرشي (ت 170هـ):
وهو من أعلام القرن الثاني الهجري، وصاحب كتاب جمهرة أشعار العرب فقد ذكر في مقدمة كتابه هذا عندما تحدث عن اللفظ المختلف ومجاز المعاني بقوله: «وقد يداني الشيءُ الشيءَ وليس من جنسه، ولا يُنسب إليه، ليعلم العامة قرب ما بينهما، وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من اللفظ المختلف، ومجاز المعاني» ثم مثَّل بقول امرئ القيس من الطويل:
قِفا فاسألا الأطلالَ عن أُمّ مالكِ وهل تُخبِرُ الأطلالُ غيرَ التّهالُكِ
فقد علم أن الأطلال لا تجيب، إذا سُئِلت، وإنما معناه قفا فاسألا أهل الأطلال، وقال الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82]، يعني أهل القرية».
فلا يقال: إن أبا زيد قد عنى هنا شيئا غير المجاز المعروف فالأمثلة التي مثّل بها هي من صميم المجاز، ومعنى هذا أن المجاز عُرف بلفظه ومعناه خلال القرن الثاني الهجري، وهو ما يرد قول ابن تيمية بأنه لم يُعرف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى.
وإنكار داود الظاهري (ت 270هـ) للمجاز دليل على أنه كان معروفا قبل ذلك لأن الإنكار فرع الإثبات.
سيبويه (ت 180هـ):
يذكر المجاز فيقول: «ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ التي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، إنما يريد أهل القرية فاختصر، وعمل الفعل في القرية كم كان عاملًا في الأهل لو كان هاهنا. ومثله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]، وإنما المعنى: بل مكر كم في الليل والنهار. وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر. ومثله في الاتساع قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً} [البقرة: 171]، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى».
الشافعي (ت 204هـ):
قال ابن تيمية: «هذا الشافعي أول من جرَّد الكلام في أصول الفقه، لم يقسم هذا التقسيم، ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز».
والرد: «إذا كان مراد ابن تيمية أن الشافعي لم يذكر لفظ المجاز بعينه فكلامه صحيح إلى حد ما ولكن العبرة هل فطن الشافعي إلى جهة التجوز في كلام العرب وكلام الله النازل على منواله أم لا»، ومن المعلوم أن مصطلح المجاز عند الأوائل كان يعرف به الاتساع في اللغة، ويقول الشافعي في الرسالة: «فإنما خاطب الله العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغنى بأول هذا منه عن آخره وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهر يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الايضاح باللفظ كما تعرف الإشارة ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمى بالاسم الواحد المعاني الكثرة».
الفراء (ت 207هـ):
قال في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] وقد أدرك أن الاستفهام هنا ليس لطلب الفهم، وصرفه عن الظاهر، فقال: «على وجه التعجب والإنكار والتوبيخ لا على الاستفهام المحض، أي: ويحكم كيف تكفرون».
أحمد بن حنبل (ت 241هـ):
قال ابن تيمية: «وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلى في كلام الإمام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله (إنا ونحن) ونحو ذلك في القرآن: هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنعطيك، إنا سنفعل، فذكر أن هذا مجاز اللغة، وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في القرآن مجازا كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب وغيرهم».
وقال: «حكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين. وأما سائر الأمة فلم يقل أحد منهم، ولا من قدماء أصحاب أحمد: إن في القرآن مجازا، لا مالك، ولا الشافعي، ولا أبو حنيفة، فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما اشتهر في المائة الرابعة، وظهرت أوائله في المائة الثالثة، وما علمته موجودا في المائة الثانية، اللهم إلا أن يكون في أواخرها. والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم. قالوا إن معنى قول أحمد: من مجاز اللغة- أي: مما يجوز في اللغة، أي يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا ونفعل كذا، ونحو ذلك. قالوا ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له».
الجاحظ (ت 255 هـ):
قد ذكر الاستعارة - وهي نوع من أنواع المجاز- في كتابه البيان والتبيين، وهو يعلِّق على قول الراجز:
وطفِقَتْ سحابةٌ تَغشاها تَبكي على عِراصِها عيناها
وجَعل المطرَ بكاءً من السَّحاب على طريق الاستعارة، وتسميةِ الشيء باسم غيرِه إذا قام مَقامه».
ابن المعتز (ت 296):
ذكر في كتابه (البديع) الاستعارة وهي ضرب من المجاز ومثَّل لها بالآيات القرآنية: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، ومن الحديث مثّل بقوله عليه السلام: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ». والاستعارة موطنها (طار) وهي تصريحية تبعية. ومثّل لها من الشعر العربي بقول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع العموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
وعلّق عليه قائلا: (هذا كله من الاستعارة، لأن الليل لا صلب له).
ابن قتيبة (ت 376 هـ):
يرى ابن قتيبة اشتمال القرآن على المجاز وغيره من الظواهر اللغوية وهذا في كتاب (تأويل مشكل القرآن)، وقد قال ابن تيمية عن ابن قتيبة أنه من أهل السنة والجماعة وذلك في كتابه تفسير سورة الإخلاص. وسبب وضع ابن قتيبة: هو الدفاع عن القرآن من طعن الطاعنين. وذكر أن النصارى ضلوا لعد فهم المجاز وفهم كلامهم على حقيقته وذلك بقوله: «وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها طرق القول ومآخذه.... مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز».
ويقول في موضع آخر بعد ذكر أنواع المجاز: «وبكل هذه المذاهب نزل القرآن، وذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل من السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية؛ لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب».
«وقد اتخذ ابن قتيبة من المجاز سلاحا للدفاع عن القرآن الكريم والاعتقاد الصحيح فقيها كل الفقه بمذاهب العرب في الإفصاح والبيان».
ومن الأدلة أيضا: الإنكار المبكر للمجاز:
«ذكر صاحب الفهرست أن الحسن بن جعفر وضع كتابا في الرد على منكري المجاز وصاحب المجاز متوف في القرن الرابع ورصد في كتابه الحركة العلمية والفكرية بدءا من أول عصر التدوين إلى عصره الذي مات فيه» ولم يعرف بالتحديد تاريخ وفاة إلا أنه من المؤكد أنه كان في القرن الثاني أو الثالث وهذا دليل على أن العرب كانت تعرف المجاز وكان منتشرا وهذا يرد قول ابن تيمية».
***
الشبهة الثانية
إنكار الوضع اللغوي للمجاز، وهي من الشُّبه التي بنى عليها ابن تيمية رأيه في نفي المجاز بوجه عام، حيث ذكر أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز هو على حسب الاستعمال الأول للفظ، فإن استعمل اللفظ في غير ما وضع له صار مجازا، فرد هذا الكلام بقوله: «وهذا كله إنما يصح أن لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان ثم بعد ذلك استعملت فيها، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال. وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغة اصطلاحية، فيدعى أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا، وهذا بكذا، ويجعل هذا عاما في جميع اللغات.
وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم الجبائي،... والمقصود هنا أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن العرب، بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة من فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة، ثم استعملوها بعد الوضع، وإنما المعروف المنقول بالمتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني، فإن ادع مدع أنه يعلم وضعا تقدم ذلك، فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس، ولا يقال نحن نعلم ذلك بالدليل، فإنه إن لكن اصطلاح متقدم، لم يمكن الاستعمال. قيل: ليس الأمر كذلك، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض، وقد سمى ذلك منطقا وقولا في قول سليمان {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16]، وكذلك الآدميون».
نرى أن ابن تيمية يرى أن اللغة هي إلهام من الله، وليست وضعية، وينفي بشدة أن يكون جماعة من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على وضع المسميات وتعيينها للدلالة على المراد منها، ويرى أن كل لفظ قد استعمل ابتداء فيما أريد منه دون أن يكون هناك وضع سابق على الاستعمال، والذي دعاه إلى هذا نفي المجاز نفسه، لا في القرآن الكريم فحسب، بل فيه وفي اللغة بوجه عام، لأنه رأي مجوزي المجاز يقولون: إن المجاز ما نقلت فيه الكلمة من المعنى الوضعي فاستعملت في المعنى غير الوضعي، وهذا النقل هو ركن من أهم أركان المجاز وإن احتاج بعد النقل إلى علاقة وقرينة.
الرد على هذا الشبهة
نرى أن ابن تيمية قد خالف في كلام ما أطبق عليه علماء الأمة في كل زمان ومكان وفي كل فرع من فروع علم اللغة قواعد وتطبيقات، فقد أدرك الرواد الأوائل وغيرهم حقيقة الوضع الأول والخروج عليه. ومنهم من أشار إليه معنى بغير لفظه ومنهم من نص عليه نصا صريحا.
والذين أشاروا إليه معنى سلكوا عدة طرق منها أن يقولوا: هذا مأخوذ من كذا. ومنهم من يقول: هذا أصله كذا، أو الأصل كذا. ومرادهم من الأخذ والأصل أن اللفظ المتحدث عنه له دلالتان: أحداهم أصلية، وهي دلالة الوضع، والثانية فرعية وهي دلالة المجاز، وقد ينبه بعضهم بقوله: قد يستعار لكذا.
وفكرة المعاجم اللغوية نفسها إنما نشأت لجمع الألفاظ اللغوية والوقوف على مدلولاتها التي كان عليها الحال عند العرب الخلص، ولم يعنوا بالاستعمال المجازي لأنه غير منضبط الدلالة الوضعية وإنما يكفي فيه ورود نوع العلاقة المعتبرة لا كل صورة من صورها وعلى هذا كان معتمد الحقائق السماع، أما المجاز فهو قياسي، ويستثنى من هذا الإمام جار الله الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة)، بذكره بعض الاستعمالات المجازية بعد كل مادة يفرغ من ذكر دلالاتها الوضعية، وتابع الزمخشري بعض العلماء كابن السكيت والثعالبي.
والسؤال: هل قال ابن تيمية بالمجاز في مؤلفاته؟!
نجد أن المجاز قد ورد صريحًا في أعمال ابن تيمية، ويتجلى ذلك بأنه نقله عن غيره من علماء السلف الأجلاء، ثم ارتضاه فكان مذهبا له، أو نقله عن غيره ثم أضاف إليه من جنسه ما لم يقولوه، أو نوع استأنف هو فيه التأويل استئنافا ولم يسبه إليه أحد.
وأن هذا النزاع لم يكن إلا نزاعًا لفظيًّا، فابن تيمية في تأويلاته يستخدم المجاز ولم يهجر إلا التسمية فقط.
إن الضرورات والظروف التي جعلت ابن تيمية يقف تلك الوقفة من المجاز في كتابه الإيمان، وفي رسالته المدنية، هي في الواقع ظروف جد خطيرة، ومن يقف على خطورتها يسوغ للشيخ الإمام وقوفه ضدها، والعمل بكل الطاقة على دفعها وكف شرها. ولو أدى ذلك إلى إنكار المجاز، إذ ليس هو عقيدة أو معلوم من الدين بالضرورة. وإنما هو مذهب قولي، وفن من فنون البيان لا يفسق منكره ولا يذم.
ومجمل ما يمكن تصوره وكثرة التأويلات التي تعدى بها قائلوها على النصوص الشرعية. وتجاوزوا بها مرحلة المعقول المقبول إلى المدخول المنحول الذي يكاد يذهب بكل الحقائق التي جاء بها الإسلام وأقرها. فلم تكن المسألة مسألة تأويل مجازي وإلا لهان الخطب. وإنما طم شرها وعم وأغرب قائلوها كل الإغراب حتى صارت بعض الألفاظ ليس لها مدلول محقق في خضم تلك التأويلات العمياء.
***
ثالثا: ما بعد ابن تيمية:
محمد أمين الشنقيطي:
ما ذكره الشنقيطي بأن المجاز لم يقل به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة فيه شطط في القول، فليس المجاز عقيدة ولا عبادة حتى يتوقف الأمر فيها على الإذن الشرعي. ولو صح هذا القول لوجب على المسلمين الآن أن يلقوا كل كتب التراث في البحر. وليطلب آلاف المصطلحات العلمية في العلوم والفنون والآداب. في التفسير والحديث، والأصول والفقه، وفي اللغة. وإلا فأين كانت هذه المصطلحات في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار؟ إن المجاز واحد من العلوم والفنون الإسلامية له نشأة وتطور ونضج واستقرار. فما جاز عليها جاز عليه، وإلا خرجنا إلى التحكم والاعتساف.
لا يقال: إن هذه العلوم كان لها نواة في عصر الصحابة والتابعين بخلاف المجاز.
لأننا نقول المجاز كانت له نواة كذلك أسهم في غرسها صحابة أجلا، ثم أخذت تنمو حتى صارت دوحة وارقة الظلال.
والشيخ الشنقيطي وإن أنكر المجاز قولا ونظرا، فقد أقر به عملا وسلوكا كالإمامين ابن تيمية وابن القيم، وهذا واضح في تفسيره (أضواء البيان).
***
وفي الختام نقول: إن قضية المجاز شغلت فكر بعض علمائنا على مر العصور، لكننا نجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء العلماء كانوا مجوزين له في اللغة وفي القرآن وفي الحديث النبوي الشريف، لأن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وفق قواعدهم، والصحابة قد فهموه حق الفهم، ولم يعترض أحدهم على اشتماله على المجاز.
وأن الذين أنكروه كانوا متشددين في رأيهم هذا، وإن كانت نية فيه الدفاع عن الإسلام من هؤلاء الذ ين جعلوا للقرآن ظاهرًا وباطنًا ولكنهم بالغوا في ذلك حتى أنكروا المجاز وحججهم فيه واهية مردودة.
والرأي الحق أن المجاز واقع في اللغة وفي القرآن والحديث حيث يطلبه المقام ويقتضيه، ومع إقرارنا للمجاز وأهميته في صياغة الأساليب، فإن المختار هو التوسط والاعتدال في استخدامه. كما قال أحد الباحثين: «ولا شك أن قضية الحقيقة والمجاز قد شغلت العلماء زمنا طويلا ما بين منكر للمجاز كلية أو مصدق له تماما. ولكننا في كل ذلك نشعر بمدى التكلف الذي يتورط فيه من ينكره كلية كابن تيمية، ومن يبالغ في وجوده ويغرق اللغة كلها في المجاز كابن جني. وأعدل الآراء في هذه القضية رأي ابن الأثير لتمشيه مع المنطق السليم وعدم الجنوح نحو هذا الطريق أو ذاك، نقرأ له في ذلك قوله: إن كلا المذهبين فاسد عندي، وليست اللغة كلها مجازا أو كلها حقيقة، وإنما فيها الحقيقة والمجاز».
***
المصادر والمراجع:
- البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، سلسلة الذخائر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، طبعة سنة 2003م.
- تأويل مشكل القرآن- ابن قتيبة- دار الكتب الحديثة- القاهرة.
- دلائل الإعجاز- عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
- مجاز القرآن أبو عبيدة، معمر بن المتنبي (ت 210هـ)، تحقيق: فؤاد سزكين/ط الثانية عام 1390هـ القاهرة.
- المجاز في اللغة والقرآن الكريم بين الإجازة والمنع، عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، الناشر: مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1425هـ - 2004هـ، 2ج × 1 مج.
- المجازات النبوية- الشريف الرضي – تحقيق د/طه الزيني- الحلبي.
- معاني القرآن –للفراء- تحقيق د/عبد الفتاح شلبي- القاهرة.
- مفتاح العلوم – للسكاكي، الناشر: عيسى البابي الحلبي- القاهرة.
- من مسائل الخلاف بين علمي المعاني والبيان، عرض ودراسة وتحقيق د/محمود عبد العظيم صفا، الناشر: دار الكتاب الجامعي القاهرة، 1414هـ، 1993م.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، المؤلف: محمد عبد العظيم الزرقاني، الناشر: دار الفكر- بيروت، الطبعة الأولى، 1996، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، عدد الأجزاء: 2
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق