عند أن كنت في الأردن التقيت بأخ سلفي فاضل ، مشهور على مستوى الأردن، أخبرني بأنه مختص في كتب ابن تيمية وله اطلاع واسع عليها، ثم جاء ذكر داعية مشهور فقال لي: بأنه مبتدع وعنده ضلالات.
فقلت له: إني لا أحب الدفاع عن أشخاص،
والقدح أو المدح في أي شخص كان لا يرفع مقامه عند الله ولا يخفضه.
ولكن من باب الفائدة العلمية ما هي أبرز وأخطر بدعة عنده ؟
فقال: قوله بأن الولي يحيي الموتى.
فقلت له: هذا ليس قوله.
فقال: بل هو قوله، سمعته بنفسي.
فقلت له: أعرف ذلك، ولكنه قول جمهور أهل السنة، فلماذا ننسبه إليه وكأنه انفرد به، فإذا كنا سنعتبر هذا القول ضلالاً فلا نحمِّـل تبعته لهذا الداعية، وليكن قولنا واضحا وصريحا: أن جمهور أهل السنة ضلوا .
ثم قلت له: أتعرف أن ابن تيمية الذي أنت مختص في دراسة تراثه وكتبه يقول بذلك.
فقال أين: فقلت له في كتاب النبوات ومجموع الفتاوى.
ثم قام أحد الحاضرين في المجلس بالبحث والوقوف على نص ابن تيمية.
وأنقل لكم معشر القراء بعض كلام أهل العلم في المسألة حتى نعلم أن الأحكام التي تُبْنى على قصور معرفة تكون ظالمة ولا يسلم المرء تبعتها في الدنيا ولا في الآخرة ...
===
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في النبوات (ص/218) : (بخلاف إحياء الموتى، فانه اشترك فيه كثير من الأنبياء بل ومن الصالحين).
.............
وقال في النبوات (ص/298): (وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الأنبياء كما قد وقع لطائفة من هذه الأمة ومن أتباع عيسى، فإن هؤلاء يقولون نحن إنما أحيى الله الموتى على أيدينا لاتباع محمد أو المسيح، فبإيماننا بهم وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا، فكان إحياء الموتى مستلزماً لتصديقه عيسى ومحمداً، لم يكن قط مع تكذيبهما فصار آية لنبوتهم).
.............
وقال في النبوات (ص/5): (أما الصالحون الذين يَدْعُوْنَ إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها، فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء، فإنهم يقولون نحن إنما حصل لنا هذا باتباع الأنبياء، ولو لم نتبعهم لم يحصل لنا هذا، فهؤلاء إذا قُدِّرَ أنه جرى على يد أحدهم ما هو من جنس ما جرى للأنبياء كما صارت النار برداً وسلاماً على أبي مسلمٍ كما صارت على إبراهيم، وكما يكثِّرُ الله الطعام والشراب لكثير من الصالحين، كما جرى في بعض المواطن للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إحياء الله ميِّتاً لبعض الصالحين كما أحياه للأنبياء، وهي أيضا من معجزاتهم بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاص، ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحدٍ قط مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم، ولكنهم قد يشاركونهم في بعضها، كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم).
.............
وقال الإمام تاج الدين السبكي وهو يعدد أنواع الكرامات في كتابه الماتع طبقات الشافعية الكبرى (2/338): (إحياء الموتى واستشهد لذلك بقصة أبي عبيد البسري فقد صح أنه غزا ومعه دابة فماتت فسأل الله أن يحييها حتى يرجع إلى بسر، فقامت الدابة تنفض أذنيها فلما فرغ من الغزوة ووصل إلى بسر أمر خادمه أن يأخذ السرج عن الدابة، فلما أخذه سقطت ميتة، والحكايات في هذا الباب كثيرة). وذكر قصصا كثيرة في ذلك.
.............
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية (ص/108): (كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة، خلافا للمخاذيل المعتزلة والزيدية ... ثم الصحيح أنهم ينتهون إلى إحياء الموتى خلافا لأبي القاسم القشيري، ومن ثم قال الزركشي: ما قاله – القشيري - مذهب ضعيف، والجمهور على خلافه).
.............
والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أنَّ كل ما كان معجزة لنبي يصح أن يكون كرامة لولي إلا ما كان من خصائص النبوة كالقرآن، فيجوز أن يكرم الله الولي بأن يفلق له البحر، وتنقلب العصا ثعباناً، ويحي الموتى، إلى غير ذلك من آيات الأنبياء،
.............
قال شيخ الإسلام النووي في شرح صحيح مسلم (16/108): (وفيه – أي: حديث جريج - أن الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها،
ومنعه بعضهم وادَّعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه،
وهذا غلطٌ من قائله،
وإنكارٌ للحس،
بل الصواب جريانها بقلب الأعيان وإحضار الشيء من العدم، ونحوه).
.............
وقال الإمام تاج الدين السبكي طبقات الشافعية الكبرى (2/337): (وأما جمهور أئمتنا فعمموا التجويز وأطلقوا القول إطلاقا).
.............
وبمثل هذا الكلام قال جماعات من العلماء الكبار ... وفي الختام ينبغي أن يعلم أنَّ الفاعل في الحقيقة هو الله تعالى.
وأنَّ نسبة الإحياء إلى الله تعالى في قوله سبحانه: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الحج:6} ،
لا تتعارض مع نسبة الإحياء والإماتة إلى غيره كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: [أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ] {آل عمران:49}.
لأن نسبة الإحياء إلى الله في الآية الأولى (نسبة حقيقية)، ونسبة الإماتة الإحياء إلى عيسى عليه السلام في الآية الثانية (نسبة مجازية) فلا تعارض.
وكذا نسبة الإماتة إلى الملك في قول الله تعالى: [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ] {السجدة:11}، لا تتعارض مع نسبة الإماتة إلى الله تعالى في قوله: [اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا] {الزُّمر:42}.
فنسبة الإماتة إلى ملك الموت على وجه المجاز، ونسبة ذلك إلى الله على وجه الحقيقة.
وقد أخرج الإمام البيهقي في دلائل النبوة بسنده إلى: أبي سبرة النخعي، قال: «أقبل رجل من اليمن فلما كان في بعض الطريق نفق – أي:مات - حماره، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت من الدثنية مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة، أطلب إليك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه». قال الإمام البيهقي: هذا إسناد صحيح، وقد نقل تصحيح البيهقي الإمام ابن كثير في البداية والنهاية مقراً له.
قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع بالكناسة موضع مشهور بالكوفة.
ووجه الدلالة في الحديث: أن الله استجاب دعاء هذا الرجل، فأحيى له حماره، وعودة من مات إنساناً كان أو حيواناً أمر غير معتاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق