السبت، 17 أغسطس 2024

زواج النبيّ ﷺ بالسيدة عائشة وما بُني عليه

 زواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة وما بُني عليه (ملحوظات منهجية)

:

١-التشكيك بصحة رواية البخاري هو تشكيك نابع عن هوىً أو جهل بالصنعة الحديثية، وجهل بأصول الفقه وضوابط الاستنباط أيضًا، لأنه لم يقدّم دليلا واحدا يطعن بصحة السند من حيث (العدالة والضبط والاتصال)، وهو كذلك لم يتمكن من معالجة المسألة معالجة (أصولية مقاصدية)، وكل ما في الأمر أنه استغرب الخبر واستنكر ما يبنى عليه فردّ الرواية من أصلها، وهذه طريقة كثير من (المفكرين المعاصرين) مع الأسف الشديد. وهي طريقة تفتقر إلى الموضوعية والنهج العلمي الصحيح.
.
٢-من الناحية (الأصولية)؛البخاري لم يسند الحديث إلى رسول الله ﷺ ، وإنما أسنده إلى السيدة عائشة فهو موقوف عليها، بمعنى أن مصدر المعلومة ليس الوحي، فالسيدة عائشة هي التي قدرت عمرها، وهذا تقدير بشري -وفي العادة يؤخذ هذا من الوالدين أو الأقارب وربما من بعض القرائن-، ولكن هل يدخل هذا في باب السنّة التقريرية؟ نعم قد يدخل لو ثبت أن السيدة عائشة ذكرت ذلك بحضوره عليه الصلاة والسلام، لكن الذي يظهر من مجموع الروايات أنها ذكرت ذلك فيما بعد لابن أختها عروة بن الزبير (وهو تابعي)، وهو الذي نقله عنها. وعليه فإن التعامل مع هذه المعلومة (سنّ السيدة عائشة عند الزواج) على أنه (نص قطعي من نصوص الوحي) لا يخلو من مجازفة، غاية ما في الأمر أننا نصدّق السيدة عائشة فيما أخبرت عن عمرها، ونصدق البخاري فيما رواه بسنده عنها، لكننا لا نجزم بأن هذه المعلومة وحي من الله تعالى. بمعنى أن مصدر المعلومة طالما أنه مصدر بشري فهو يقبل النظر والمقارنة، خاصة مع ما جاء في الطبري وابن كثير أن السيدة عائشة كان قد خطبها ابن مطعم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنها كانت مهيًأة للزواج، ويعضد هذا أن السيدة خولة بنت حكيم كانت قد خيرت النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة بين الزواج ببكر (عائشة) أو ثيّب (سودة)، وكذلك المقارنة بسنّ أختها الكبرى السيدة أسماء، وبالتالي فباب المقارنة والتحليل والترجيح مفتوح لأهل العلم، وليس في ذلك حرج إن شاء الله.
.
٣-من مجمل شروح العلماء وتعليقاتهم يتضح أنهم لم يستغربوا الزواج في ذلك السن الذي ذكرته السيدة عائشة، وهذا يعود إلى عدة أمور منها:
أ-من الواضح أن سنّ النضج وتحمل المسؤولية كان في ذلك الزمان مبكّرا قياسا بالزمن الذي نعيشه، فلا يصح محاكمة ذاك الزمن بمعطيات زماننا نحن، فقد ورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمّر أسامة بن زيد على جيش المسلمين وكان عمره 18 سنة، بينما انظر كيف يتعامل الناس اليوم مع هذا السن؟فهل يصح أن نشرع قانونا عسكريا اليوم بتحديد عمر قائد الجيش بهذه السن (18سنة)؟
.
ب-أن الزواج مع فارق السن كان معتادا أيضًا، فقد تزوج النبي في شبابه السيدة خديجة وكان تكبره بخمسة عشر عاما، فمعايير السعادة الزوجية وتقدير مصلحة الزوجين لا يحكمها تقارب السن فقط، ومع هذا فينبغي مراعاة ذلك اذا اختلفت الأمور مع تغيّر الأزمنة.
.
٤-من الواضح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم-مهما كان الخلاف في سنّ السيدة عائشة-لم يدخل بزوجته إلا بعد بلوغها ورضاها مع رضا أبيها وأهلها، مع ملاحظة أن سن البلوغ يختلف كذلك من بيئة إلى بيئة ومن زمن إلى زمن، وأن رضا جميع الأطراف مؤشر على وجود مصلحة عامة وراجحة، إضافة إلى الحكمة الإلهية العظيمة في تقدير هذا الزواج، ومنها أن السيدة عائشة قد اختارها الله تعالى لتكون طالبة العلم وراوية السنّة المطهرة ووارثة الفقه المحمدي خاصة فيما يتعلق بشؤون النساء.
.
٥-تبيّن لنا أن دعوى خطأ البخاري دعوى باطلة، فالبخاري لم ينسب هذه المعلومة إلى الله ولا إلى رسول الله، وإنما أسندها إلى مصدرها وهو (السيدة عائشة)، والسيدة عائشة كذلك لم تنسب هذه المعلومة إلى الله ولا إلى رسول الله ولا إلى نفسها، بل كما هو المعتاد أن تاريخ الميلاد لا يعرفه المولود نفسه، وإنما هي (معلومة عائلية اجتماعية)، نقلتها السيدة عائشة كما سمعتها من أهلها، ثم نقلها البخاري بسنده كما هي، وقد تختلف الأسرة نفسها في تقدير عمر أفرادها، خاصة مع عدم وجود التوثيق والتدوين الرسمي، واحتجاج الفقهاء بها، ليس لأنها وحي مقدّس، وإنما لأنها واقعة حال ليس لها معارض واضح، ومن ثم فباب الاجتهاد الفقهي فيها مفتوح، والله تعالى أعلم.
.
٦-إن واقعة الحال في زمن التشريع حتى لو ثبتت يقينا لا تفيد من حيث الأصل أكثر من الإباحة، وباب الإباحة قابل للتغيير نحو التحريم والكراهة أو الإيجاب والندب بحسب تغيّر الأحوال والمآلات، ولذلك شاع عن الفقهاء تحريم المباح بسد الذرائع، وإيجابه إذا تعيّن طريقا لواجب آخر (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) أي ولو كان في أصله مباحا.
.
٧-بناء على كل ما مرّ فإن تشريع أي قانون اليوم يضرّ بالبنت الصغيرة ماديا أو معنويا أو نفسيا يعدّ جريمة نكراء، وأن الاحتجاج على هذه الجريمة بمثل هذه الرواية يعد جريمة أخرى لأنه عملية تشويه عملي للإسلام وقيمه ومبادئه السمحاء التي لخّصها القرآن نفسه بقوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
.
٨-أنصح إخواني وأخواتي بتكثيف جهدهم بإنكار هذه الجريمة وتوعية المجتمع بمخاطرها النفسية والأسرية والمجتمعية الخطيرة، وكل بحسب موقعه واختصاصه، وترك الجدل في علم الروايات وقواعد الاستنباط إلا لعالم حاذق، فإن في ذلك مزلة أقدام وأقلام وفتح باب للشيطان. والله المستعان.
.
محمد عياش الكبيسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق