الخميس، 16 يناير 2025

"فهم الإسلام في ظلال الأصول العشرين" للإمام الشهيد حسن البنا - الأصل الحادي عشر.

 الأصل الحادي عشر

البدعة الضلالة التي يجب محاربتها

"وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه ضلالة يجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدى إلى ما هو شر منها".

هذا الأصل يعالج :

1-البدعة الحقيقية وماهيتها.

2-محاربتها بأفضل الوسائل.

الحقيقة أن هذا الموضوع حدث فيه لغط كثير والتبست مفاهيمه عند كثير من الناس وخلطوا خلطاً كبيراً فيه والصورة التي نراها اليوم بتكرار كلمة البدعة في صغير الأمر وكبيره خير شاهد مما يجعلنا نحتاج إلى ضبط فقهي لهذا المصطلح حتى نتبين ما هي البدعة الضلالة التي يجب محاربتها، والبدعة التي اختلف فيها العلماء، والحقيقة لكي نرسم إطاراً دقيقاً يحدد الحكم الصحيح لهذا الموضوع يجب أن نعلم أولاً أن رسول الله r جاء برسالة سمحة تتسع لكل مطالب الناس وتفي بكل مستلزمات الحياة " مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ " فالمولى I من يوم أن قال لرسولنا r (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فكلمات هذه الآية أنها تبين لنا أن الأمر قد اكتمل وأن الرسول r بين أمر الدين ووضحه بما لا يدع مجالاً للتساؤل في أصول العقيدة وأصول العبادة وثوابت الإسلام.

ومن هنا فإن الرسول r حين شرع لنا سنن الهدى قال r :"عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجز وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" إنها رسالة شاملة فصلت ما لا يتغير من الشئون الدينية ، وأجملت ما يتغير مما يتعلق بتنظيم الدنيا واستغلال خيرات الكون لتتيح للمسلم سبل التقدم المادى والرقى والتطور الحضارى والوصول في مجال العمل والإبداع والإنشاء والاختراع إلى أقصى غاية لتكون الأمة الإسلامية كما أرادها الله خير أمة أخرجت للناس.

وعلى هذا فإن الأمور التي أمر فيها الرسول r بأمر أو نهى عن شيء مطلوب فيها الطاعة والالتزام بفعل المأمور وترك المحظور مصداقاً لقول الله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا إن الله شديد العقاب)

والمسلم وقَّاف عندها لا يتخطاها بحال من الأحوال لأن كل ما خالف سنة رسول الله r بدعة لا يرضاها الله ورسوله ذلك لأن حقيقة الدين تتمثل في أمرين:

أولاً-ألا يعبد إلا الله.

ثانياُ-ألا يعبد إلا بما شرع .

فمن ابتدع في ذلك شيئاً فهى ضلالة ترد عليه لأن الشارع وحده هو صاحب هذا الحق (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) هذا في العبادات .

وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع الحكيم منشأ لها بل الناس هم الذين أنشئوها وتعاملوا بها والشارع الحكيم جاء إما مصححاً لها أو معدلاً ومهذباً أو مقراً في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعين:

1-عبادات يصلح بها دينهم.

2-عادات يحتاجون إليها في دنياهم .

وباستقراء أمور الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأما العادات فهى ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله I وذلك لأن الأمر والنهى هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟

قاعدة نفيسة : يقول الإمام أحمد وفقهاء أهل الحديث : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع فيها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) .

والعادات الأصل فيها العفو ، فلا يحظر فيها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً...) ومن هذا قول جابر بن عبد الله t في الحديث الصحيح "كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن" فهم في حل لأفعالهم حتى يبين القرآن.

فالأصل في الأشياء الإباحة فلا حرام إلا ما ورد به نص صريح صحيح من الشارع بتحريمه وإلا بقى الأمر على أصل الإباحة والحل – كما ذكرنا في الأصل الخامس.

وهنا يعنّ لنا سؤال ما هي البدعة إذاً؟

لابد أن نعلم أن مقابل البدعة السنة فنحدد أولاً معنى السنة؛ لأن ابن عباس t وقف أمام قول الله (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) فقال: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.

فما هي السنة؟

السنة: لها معنى لغوى، فهي تعنى الطريقة سواء أكانت محمودة أم مرفوضة لكن يختلف المعنى تماماً إذا انتقلنا إلى المعنى الشرعى فهى ما بيَّن الرسول r من كتاب الله تعالى بالقول أو الفعل وهى طريقته المتبعة التي فيها بيان لهذا الدين سواء أكان قولاً أو فعلاً أو تركاً أو تقريراً كما بيَّن العلماء .

أما البدعة : لغة هي الاختراع على غير مثال سابق قال تعالى (بديع السموات والأرض) وقال (قل ما كنت بدعاً من الرسل) .

أما تعريفها شرعاً فهى ما أحدث بعد الرسالة على سبيل التقرب إلى الله ولم يكن فعلها الرسول r ولا أمر بها ولا أقرها ولا فعلتها الصحابة.

وهى الحديث في الدين و (في الدين) هذا لفظ مقصود بذاته، فعندما نقول في الدين نكون قد أخرجنا العادات والتقاليد إلا ما نهى الرسول r عنه بعينه وما أستُحدث من بعد النبى r من الأهواء والأعمال، هذه الأمور التي استحدثت في الدين هي ما يطلق عليها كلمة البدعة وهناك خلط في هذه الأمور ولذلك فإن التلقي في الدين يجب أن يكون من رسول الله r وهذا أمر لا يمكن أن يمارى فيه مسلم لأن ربنا I يقول (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) فهو التزام بما أمر به رسول الله r وتحذير من البدع.

التحذير من البدع : هناك الآيات كثيرة وكذلك أحاديث رسول الله r التي تحذر من الابتداع في الدين ومخالفة شرع الله مثل قوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ومثل قوله (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وما روته السيدة عائشة أم المؤمنين عن رسول الله r قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفى لفظ آخر "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

وعن العرباض بن سارية t أنه قال : صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا؟ قال :"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حشى فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" .

وقال r : "ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبى مجاب، الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل لحُرم الله ، والمستحل من عترتى ما حرم الله، والتارك لسنتى" وعن ابن مسعود t قال: الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة.

بغض الصحابة للبدع:

كان الصحابة y حذرين جدا ًمن أى أمر يتصل بالدين فكانوا يتحرون مصدر التلقي ويتأكدون من أن رسول الله r فعله أو أمر به .

قال أبو بكر: إنما أنا مثلكم وإنى لا أدرى لعلكم ستكلفونى ما كان رسول الله r يطيقه إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات وإنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن استقمت فبايعونى وإن زغت فقومونى"

وقال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".

وقال ابن عباس لمن سأله الوصية :"عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع"

وعن حذيفة قال : "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله r فلا تَعَبَّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً"

شروط البدعة : البدعة التي يجب محاربتها لابد أن يتحقق فيها:

1-أن تكون من الأمور التي يفعلها العباد على أنها من العبادات

2-يتقربون بها إلى الله تعالى .

3-لم يجيء بها أصل في الدين .

وبالتالى كل أمر يتصل بالعقيدة أو يتصل بالعبادة أو يتصل بالتشريع هذه الأمور كلها إن كانت تخالف نصاً من النصوص أو فعلاً من أفعال رسول الله r أو قولاً فيه نهى عن هذا وتقرب به العبد لله I عبادة تعتبر من البدع التي يجب محاربتها.

ذلك لأنه ليس كل ما يقال عنه أنه بدعة بإطلاق يجب أن يحارب –وسنوضح ذلك تفصيلاً بمشيئة الله – لأنه يجرى على ألسنة كثير من الناس كلمة "بدعة وابتداع" فيتسع معناهما تارة حتى لا يخرج عن دائرتها شيء ويضيق تارة حتى لا يتناول شيئاً والحق أن المولى I كلف عباده عقائد تتصل به سبحانه وبرسالاته وكتبه واليوم الآخر كما كلفهم عبادات هي غذاء لهذا الإيمان وعلامة الصدق فيه، وحرم عليهم أشياء صوناً لحياتهم وحفظاً لعقولهم وأخلاقهم وقد فصل لهم لك في كتبه ورسالاته ومجموع ما حرمه عليهم وما فصل وبين هو الدين الذي تعبدهم به ولا يقبل منهم سواه.

وعلى العبد أن يقف عند حد العقيدة والعبادة والحل والحرمة لا يتعدى ما شرع الله وبين، والتصرف في شيء منه هو الانحراف عن دين الله وهو الابتداع فيه.

فالابتداع في الدين في عقيدته أو عبادته أو ما حل وحرم – ولذلك قال الإمام البنا وكل بدعة في الدين لا أصل لها ..أما ما لم يتعبدنا الله بشيء منه فليس من هذا الباب في شيء والتصرف فيه بالتنظيم والتغيير لا يكون من الابتداع الذي يؤثر على تدين الإنسان وعلاقته بربه.

والبدعة التي نتكلم عنها هي باعتبارها أمر استحدثه بشر ليستكمل به عبادة قربى لله وما هي من الدين في شيء فكل ما يتصل بمثل هذه الأمور منهى عنها نهياً قاطعاً وليس هناك خلاف بين العلماء في هذه القضية البتة، لكن الذي نريد أن نركز عليه ما قاله ابن تيمية t يقول:"إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعين:

الأول عبادات يصلح بها أمر دينه.

الثاني عادات يحتاجون إليها.

1- والعادات بطبيعة الحال ترتبط ببيئة المجتمع الذى يعيش فيه الإنسان ارتباطاً وثيقاً وطالما أن هذه العادات لا تصطدم بنص شرعى ولا توجيهٍ نبوى فالأصل فيها الإباحة، تخضع لهذه القاعدة "الأصل فى الأشياء الإباحة" فلا يطلب أحد الدليل على الأمور المباحة شرعاً كالعادات والتقاليد المباحة فالمطلوب دليل على الحرمة وليس للحِل دليل فالأصل فيه الإباحة فالذى يقول حرام هو المطالب بأن يأتى بدليل الحرمة فالدماء والأموال والفروج الأصل فيها الحرمة، ولا تنتقل إلى الحل إلا بحكم الله I يقول القرآن الكريم (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ) فالأصل فى هذه المأكولات الإباحة إلا ما حرم الرسول r وما قصة الضب منا ببعيد فحين هاجر المسلمون إلى المدينة وجدوا حيوانًا يسمى الضب كان يأكله أهل المدينة فسألوا رسول الله r أحلال هو أم حرام؟ قال:"هو حلال ولكن نفسى تعافه" أي لو رأيتمونى لا آكله فهذا أمر لا يتصل بالشرع ولكن نفسه r تعافه ونحن نؤكد على هذه المعاني لأن بعض الناس وصل بها الحال إلى أنها حرمت رابطة العنق (الكرافتة) والبدلة والقمصان الأفرنجية وغير ذلك تحريمًا قاطعاً وبذلك لم يفرقوا بين الأمور التعبدية وما يتصل بالعادات والتقاليد

2- يقول r عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجدت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا؟ قال :"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حشى فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليك بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" أو كما قال r، ومن هنا كان الصحابة y حذرين جدا ًمن أى أمر يتصل بالدين إلا ويتأكدون من أن رسول الله r فعله، حذيفة t يقول:"كل عبادة لا يتعبَّدها أصحاب رسول الله r فلا تعبَّدوها" يريد أن يطمئن نفسا ًفالصحابة y بمنزلتهم ومصاحبتهم لرسول الله r أرجع إليهم أمر العبادات لاتصالهم برسول الله r فى صغير الأمر وكبيره.

3-والحقيقة أن العلماء صاغوا معنى الابتداع وقالوا : إنه الأمر الذي يخرج به المؤمن عن دائرة الرسالة الإلهية التي جاء بها رسول الله r والذى يغتصب به المبتدع حق الله فى التشريع وهذا يعنى أنه يدعو الناس إلى تشريعات ليست من السنة ولا من القرآن فى شيء والذى به يضع المبتدع نفسه موضع من يرى أن العبادات أو العقائد التى رسمها المولى ليتقرب بها العباد إليه ناقصة، كقصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول r فكأنهم تقالّوها ، فقال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثانى وأما أنا فأقوم ولا أنام وقال الثالث أما أنا فلا أتزوج النساء فلما جاء الرسول r قال:"أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأزوج النساء وهذه سنتى ومن رغب عن سنتى فليس منى" لذا كان لابد أن يلتزموا بما التزم به رسول الله r.

وعلى هذا فإن الابتداع في مقتضيات الحياة هو من التطور المطلوب كى نلبى حاجة العصر الذي نعيشه حتى لا نتخلف عن الركب ولا نكون في عزلة عن الدنيا ولا يُسمع للمسلمين فيها صوت ولا يعرف لهم فيها وجود.

فالمولى I ما تعبدنا بمنهج خاص للأرض الزراعية وأنواعها وطرقها – مثلاً- بل أطلق للعقل الإنسانى حريته ولم يأمره إلا بالبحث والنظر والكد والعمل بقصد الإصلاح "والله يعلم المفسد من المصلح" وقد كان ما أخذ الله به الأمم السابقة وقبّحه منهم ونعاه عليهم خاصاً بالابتداع في العقائد والعبادات والحل والحرمة ولم يكن شيء منه مما يتصل بزينة الحياة الدنيا التي أخرج لعباده أو بنموها وتقدمها فلم ينكر سبحانه مثلاً على سبأ أن تكون لهم جنتان عن يمين وشمال ولم ينكر على قارون أن كان له من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، وامتن على داود عليه السلام بإلانة الحديد له ورضي عن دعوة سليمان (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) فيسخر له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب ويسيل له عين القطر، ويسخر له الجن يعملون له من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ثم يطمّعه في المزيد ويغريه بالعمل (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)

فالإنكار إذاً على الذين بدلوا عقائدهم الصحيحة وغيروا في رسوم العبادة وكيفيتها فكانت الصلاة عند البيت مكاء وتصدية، وطافوا به عرايا وحرموا ما أحل الله (وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)

وعلى هذا فإن الابتداع في الدين هو :

1-الذى يخرج به المؤمن عن دائرة الرسالة الإلهية.

2- والذى يغتصب به المبتدع حق الله في تشريع هو له وحده

3-والذى به يضع المبتدع نفسه موضع من يرى أن العبادات أو العقائد التي رسمها المولى ليتقرب بها العباد إليه ناقصة، أو فاسدة فأكملها أو أصلحها بابتداعه.

4-أو موضع من يرى أن الرسول الذي اصطفاه الله لتبليغ دينه قد قصر فيما أمر بتبليغه ، وحجز عن عباد الله بعض ما يقربهم إليه.

ولقد كان هذا الابتداع هو السبب الوحيد في اندراس العقائد والعبادات في التحلل من قيود الحل والحرمة وانتزاع التدين من القلوب وبذلك انقطعت صلتهم بالخالق وصار أساس التعامل بينهم القوة الغاشمة والطغيان المزرى بالإنسانية وعلى هذا فإن الابتداع يكون من الهوى والظن (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى).

فهم يجب أن يسود:

بعد هذا الفهم المحدد للبدعة في الدين يتضح أن الأمور الخلافية والأحكام الظنية التي يختلف فيها العلماء ليست من البدع ولا من الهوى والظن فليس كل من خالف أخاه في رأى – كما سنرى بالنسبة للبدعة التركية والإضافية – أو أخذ برأى فقيه يصير مبتدعاً وإنما هو مقلد وبذلك تخرج الأمور التي في دائرة الخلاف الفقهى من الابتداع.

وعلى هذا فإن على المسلم أن يفكر فيما يلائم عصره من طرق التثقيف وخطط التعليم بما يوسع مدارك أبناء الشعب ويصل بهم إلى الثقافة النافعة من أقرب الطرق وأيسرها وليس له أن يجمد على ما ورث من ذلك من آبائه وأجداده ويقف مكتوف اليدين دون أن يسلك طريق الاختراع والابتداع بما يحقق له العزة والمجد من وسائل الحياة ما دام لم يخرج عن دائرة ما أبيح التصرف فيه إلى دائرة المنهى عنه وليعلم المسلم أن كل ما يحدث في هذا الجانب من المخترعات التي لم يسبق بها يكون محفوظاً له في تاريخ العاملين على ترقية شعوبهم ويكون له في الوقت نفسه الثواب عند الله بقدر ما ينتفع العباد بمخترعاته وإنتاجه ، وليس لنا أن نقول عن شيء يقع في هذه الدائرة أنه لم يفعله الرسول r ولا أحد من خلفائه فلا نقول نفعل ذلك لأنهم لم يفعلوه لأن زمنهم لم يطلبه ولم تخلق لديهم بواعث عمله أو التفكير فيه، ومحال على الرسول r وخلفائه أن يعترضوا لأن تقدمهم في الحياة شيء لا يمس عمله عقيدة أو عبادة فضلاً عن أن لديهم وسائل القدرة عليه إلا أنهم لم يعملوه بحجة أن الله لم يأذن لهم فيه فهو من باب "أنتم أعلم بأمور دنياكم" .

وقد وافق الرسول r سلمان الفارسى في حفر الخندق حول المدينة واشترك في حفره وما مشروعات عمر بن الخطاب في تنظيم الدولة وإنفاذ الجيوش وترتيب الخراج وحبس ما أفاء الله على المؤمنين وتعيين الولاة وتغييرهم إلا أثراً من آثار هذا الإطلاق الذي كانوا يؤمنون أن الله تركهم عليه يبحثون به ما يحتاجون إليه من الشئون الزمنية فتقدموا ودانت لهم الدنيا وأيقظوا الإنسانية من نومها فثبتت أقدامهم ودانت لهم قوى الفساد في الأرض.

إن الناس في زماننا هذا ترى على ألسنتهم كلمة بدعة في كل شيء عرفوه وحرموا باسمها كثيراً من العادات الطيبة ووسائل الحياة السهلة ولقد عرفنا من تاريخ الأديان أن التحريف الابتداعى قد أصابها من جهات ثلاث:

1-من جهة العقيدة ومنها دخل الشرك وعبادة غير الله ودعاؤه والاستعانة به واللجوء إليه.

2-من جهة العبادة ومنها دخل التغيير بالزيادة والنقص والتغيير في الكيفية.

3-من جهة الحلال والحرام ومنها حرم الحلال واحتيل فأحلوا الحرام.

ولذلك فإن أشد ما نخشاه على شخصيتنا الإسلامية أن تسلك أمتنا بالأهواء أو التعصب مسلك السابقين فتطغى البدع على ديننا والانحراف على استقامتنا ونتشبه بهم في  أمورهم كلها- ونقصد بمشابهة المخالفين في الدين فيما يقصده فيه التشبه في خصائصهم الدينية – أما مجرد المشابهة فيما تجرى به العادات والأعراف العامة فإنه لا بأس بها طالما لا يوجد نص بتحريم أو كراهة فإن لم يوجد فلا كراهة ولا حرمة فقد قيل لأبى يوسف صاحب الإمام أبو حنيفة وقد رُئي لابساً نعلين مخصوفين بمسامير إن فلاناً وفلاناً من العلماء كرها ذلك لأنه تشبه بالرهبان فقال : كان رسول الله r يلبس النعال التي لها شعر وإنها لمن لباس الرهبان"

اتفاق لا خلاف معه:

وعلى هذا فإنه لا يوجد بين المسلمين من يختلف في حكم البدعة في الدين بهذا التحديد الذي رأيت – أي البدعة الأصلية – والتى حدثت أول محاولة لها مع هؤلاء الثلاثة رهط الذين جاءوا إلى بيوت النبى r يسألون عن عبادته r فلما أخبروها كأنهم تقالّوها، فقالوا وأين نحن من النبى r وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإنى أصلى الليل أبداً، وقال آخر أنا أصوم الدهر لا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول r فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنى أخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى" ، وهنا تتدخل النية، هل يعمل هذا العمل قربى إلى الله I استشعاراً بأن الشريعة وأن المنهج وأن الطريقة التي تعبد بها رسول الله r ناقصة فيكملها، فهذا يُخشى عليه من الكفر. أم أن هذا اجتهاد منه في أمورٍ جائزة بالنسبة له وليست في أصل العبادات.

عن أبى سعيد قال:"بين الرسول r يُقسّم –أى يقسم الفيئ-جاء عبد الله بن ذى الخويصرة التميمى فقال اعدل يا رسول الله، فقال رسول الله r :"ويلك من يعدل إذا لم أعدل! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعنى أضرب عنقه، قال: دعه إن له أصحاب يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" فانظر إلى التطاول وصل إلى أي حد، فالرسول r يقسّم بأمر من؟ بأمر الله I وعملية القسمة في     الفيئ محددة بنص ولذلك فعندما يأتى هذا الرجل ويقول للرسول r اعدل يكون قد وقع في أمرين كلهم يؤدي إلى الكفر، الأمر الأول منهما وصفه للرسول r بصفة لا ينطق بها مؤمن (اعدل)، أما الأمر الثانى فالاعتراض على كتاب الله الذي قسّم الفيء بأقسام محددة ليس لأحد من المسلمين أن يتقدم عنها أو يتأخر.

ولقد حاول هذا المعترض أن يفتح باب الاعتراض على رسول الله r والخروج عن حد التسليم الكامل له وتمام الإتباع فما بالك بالذين يعترضون على شرع الله كله!!

إن الوحي كان يتنزل والدين يتكون ورءوس الضلال تخمد وباءت كل المحاولات للانحراف بالدين أو التشكيك فيه بالفشل أليست هذه بدعة لا يختلف المسلمون فيها؟ فالبدعة ليست لها زمان أو مكان محدد ولكنه موجودة في كل زمان ومكان ولا ينجو منها أحد إلا بالتمسك بالكتاب والسنة.

نشأة البدع في عهد الصحابة :

لقد حدث أول خلاف بين المسلمين بعد رسول الله r فيمن يكون الخليفة من بعده وحسم الأمر في سقيفة بنى ساعدة ومر أيضًا عهد عمر ولم تظهر البدع ثم جاء عهد عثمان رضى الله عنهم أجمعين وحصل الخلاف في أواخر عهده وجرى ما جرى وقتل عثمان مظلوماً ثم بايع المسلمون الساكنون في المدينة علياً إلا طائفة ، وبحرب الجمل وصفين ظهرت الخوارج والشيعة ثم المرجئة.

وفى أواخر عصر بنى أمية أظهر معبد الجهنى القول بالقدر، ثم جاء تلميذه جهم بن صفوان وضم إلى ذلك قوله ببدعة التعطيل وهى نفى أسماء الله وصفاته ثم جاء المعتزلة في عصر المأمون بن هارون الرشيد فقويت شوكتهم وقد تأثروا بالفلسفة فكانت بدعة خلق القرآن التي امتحن فيها الإمام أحمد بن حنبل هذا كله قديماً أما اليوم فما أكثر بل وما أشد البدع في زماننا هذا فهى لا تعد ولا تحصى وأشدها بدعة الحكم بغير ما أنزل الله والاحتفال بأعياد لها مناسبات دينية عند غير المسلمين والعادات الغربية التي تصطدم بشرعنا كالسفور والنساء الكاسيات العاريات والاختلاط بين الجنسين وغير ذلك من الأمور التي مسخت شخصيتنا حتى صدق فينا قول رسولنا r :"لتركبن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه" وصدق سفيان الثورى حين قال : لا يقبل قول إلا بعمل ولا يستقيم عمل إلا بنية ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة.

والواجب علينا كمتبعين لرسول الله r: محاربة هذه البدع والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدى إلى ما هو شر منها – وقد بينا بتوفيق الله تفصيلاً في الأصل الرابع لهذا فلتعد إليه فإنه مفيد.

وعلى هذا نقول: إن البدعة الأصلية هي التي في دين الله ولا أصل لها وهذه لا يختلف مسلم في إنكارها ومحاربتها بالطرق الشرعية والجدير بالذكر أن البدعة عامة لها تقسيماتها وأحكامها التي تختلف باختلاف هذا التقسيم وهذا ما سنبينه بتوفيق الله في الأصل الثانى عشر.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق