الأصل العاشر
أسمى عقائد الإسلام
"معرفة الله تعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات
الصفات، وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير
تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا في ذلك ما
وسع رسول الله r وأصحابه (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)
هذا الأصل يعالج:
1- قضية الأسماء الصفات.
2- وآراء الفرق الإسلامية فيها.
3- رأى السلف الصالح الذي ندين به.
هذه قضية كثر فيها اللغط والغلط، كثر فيها الحديث واختلطت فيها المفاهيم
وكثر فيها الكلام واتهُم فيها علماء أفاضل ومجاهدون باعوا أنفسهم رخيصة في سبيل
الله وممن اتهُم فيها الإمام البنا – رحمة الله عليه- فهو مرة جهمى وثانية من
المفوضة وثالثة من المبتدعة وما أكثر ما قيل عن هذا العالم الجليل ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلى العظيم.
وللأسف فإن أصحاب هذا الاتهام من ذوى القربى الذين أمرنا أن نصل أرحامهم
الدينية وممن يدعون إلى الله ويسيرون طريقه رجال لا نتهم نياتهم ولكن نعتب عليهم
لأنهم لم يتبينوا وظنوا أن ما يقولونه هو الحق الذي يجب أن يرجع إليه وليس الصواب
الذي يحتمل الخطأ، وكما قال علماء الأمة رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ
يحتمل الصواب.
ولا شك أن القضية شأنها عظيم لأنها تتصل بالعقائد – وهى
أهم العلوم على الإطلاق بالنسبة للمسلم لأن الاعتقاد الصحيح والسليم أمرٌ لازم
للمسلم قبل أن يعزم على أى سلوك؛ ذلك لأن العقيدة هي أساس التصور السليم وهي
الدافع لأي تصرف أو سلوك فإن كانت العقيدة فاسدة كان السلوك التابع لها كذلك وإن
كانت صحيحة كان السلوك المنبثق منها صحيح بإذن الله.
ذلك لأن أنواعاً كثيرة من الانحرافات في الفكر والتصور والسلوك والاعتقاد
لم يكن لها سبب إلا البعد عن فهم أصول هذا الدين ولذلك فإن هناك بعض الإخوة الذين
لم يفرقوا بين أصول العقيدة وبين فروعها فالأمر عندهم سواء بينما علماء الأمة فرَّقوا
بين أصول العقيدة وفروعها فالإسراء - مثلاً - من حيث حدوثه أصل لا يختلف فيه مسلم
أما كيفيته هل بالروح أم بالجسد فهو فرع من الاعتقاد وكذلك يختلف الحكم بإنكار كل
منهما، فالذى ينكر أصل حدوث الإسراء ليس كمن ينكر كيفيته بالروح أو بالجسد فهذا
خلاف بين العلماء وذاك أمر مجمع عليه لأنه من العقيدة ومثال آخر كلنا يعلم أن عيسى
عليه السلام رسول الله وكلمته وهذا الاعتقاد لا يستطيع مسلم أن ينكر رسالته فهو
أصل من أصول العقيدة أما رفعه فهو فرع من الاعتقاد اختلف فيه العلماء فهما لا
يستويان حكماً؟ فهناك أصول لابد أن نجتمع عليها جميعاً كما أن هناك فروعاً قد
نختلف فيها ولذلك فإن العلماء وضعوا شرطاً أساسياً لقبول العمل ألا هو صحة
الاعتقاد أولاً مع صدق الاتباع ثانياً.
ولذلك فإنه ما جاء رسول ولا نبى إلا وأوضح أصل دعوته (وَمَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنَا فَاعْبُدُونِ) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وهذا ما جاء به
كل نبي كأصل من أصول الاعتقاد ما خالفها أي نبي ولا رسول.
فلو شاب هذه العقيدة في أصولها شائبة لأدى ذلك الانحراف إلى إبطال العمل (فَمَن
كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) وذلك لأن أى
انحراف عن أصول العقيدة الصحيحة انحراف عن الإيمان قد يؤدى إلى إبطال العمل (وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) فالاختلاف في أصول العقيدة اختلاف كفر وإيمان أما
الاختلاف في فروعها فهو اختلاف صواب وخطأ وشتان ما بين الاثنين، ولذلك لم يختلف
العلماء في أصول الاعتقاد ولكن اختلافهم كان في فروع العقيدة.
مسلك الأنبياء في تقديم العقيدة:
والذي نريد أن نؤكد عليه أن مسلك الأنبياء والرسل في
تقديم العقيدة لم يكن تقديما ًنظرياً ولا تجريبياً ولا مصطلحياً إنما كان منهجاً
متحركاً باعثاً للحياة الأفضل التي ينشدها كل عامل في مجتمعه ولذلك كان التقديم
لها يتصل بواقع المجتمع الذي يعيشونه.
فالعقيدة إذاً حين قدموها إنما قدموها ليعالجوا بها مشكلات
كانت مستأصلة في زمانهم ولم يقدموها على أنها علم مجرد يجب أن يحفظ ومصطلحات يجب
أن تحدد وينتهى الأمر بهذا العلم.
فنوح u قال لهم (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
ليستقيم سلوكهم وتصورهم ويعرفوا مصدر الخير لأنفسهم ولبلادهم لكن لما وجد
إعراضاً من هؤلاء القوم وتصوروا أن الخير يأتى من غير طريق الله I وصموا
آذانهم و(جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ
وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) فأراد سيدنا نوح u أن يبين لهم
أن هذا الإصرار ليس فيه خير وإن الخير يأتي بالذكر والاستغفار (فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم
مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) فلما استكبروا ردهم إلى الصواب (مَّا لَكُمْ
لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا
كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ
نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ
نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) وهكذا
بهذه العقيدة عالج خللاً في الرؤوس لكى يستقيم تفكيرها كي تفكر تفكيراً سليماً
وترتب عقلها ترتيباً ربانياً إذا وعت معنى العبودية.
وهود u هو نفسه قالها (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ) ليعالج بها أمراً في مجتمعه فقومه غرتهم قوتهم المادية وعاثوا في
الأرض فساداً وهذه القوة المادية التي ملكوها ظنوا أنهم بذلك أصبحوا أقوى من أى
قوة أخرى على هذه الأرض يقول لهم ربنا : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا
بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ).
وكذلك عالج صالح u بالعقيدة الحضارة المادية أيضًا التي سادت في مجتمعه، فلفت
أنظارهم إلى فساد تفكيرهم قائلاً لهم : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ
تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا
فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)
وأما لوط u فقد عالج بها التحلل الأخلاقي والانحراف الذي ساد مجتمعه (أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ)
ولم يختلف عنهم شعيب u فعالج بها مشكلة اقتصادية في مجتمعه متمثلة في تطفيف الكيل
والميزان (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
وجاء موسى u فعالج بها ثلاثة أنواع من الطغيان : الطغيان السياسى متمثلاً في
فرعون، والطغيان المالى متمثلاً في قارون، والبطانة الفاسدة متمثلة في هامان، ثم
جاء عيسىu متمماً لما
جاء به موسىu (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) من هذا الاستعراض السريع نجد أن قضية الاعتقاد حين ترسخ في القلوب
فإنها تغير السلوك وتعالج أمراض القلوب فليست العقيدة مساجلة ولا مناظرة ولا أمراً
تجريدياً إنما هي أمر قلبي يتغير القلب بها فتتغير الأحوال (إِنَّ اللّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
وجاء محمد r وما كان بدعاً من الرسل إنما جاء بهذه العقيدة كمنهاج حياة كامل
لأنه الدين الخاتم فكانت رسالته مستوعبة مناحى الحياة جميعاً اقتصادية واجتماعية،
وسياسية وتعليمية، وأخلاقية وفكرية وأسرية وفردية وما كانت هذه الرسالة إلا لتكون
(كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا) وكلمة
الله كانت شاملة لكل أمر من الأمور (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن
شَيْءٍ).
فإذاً قضية العقيدة كما رأينا جاءت لكى تعالج فساداً
موجوداً في المجتمع فيه الربا والخنا والخمر والميسر والأصنام بل والشرك الأكبر
والتمييز بين أفراد الأمة بين الأبيض والأسود والعربى والعجمى فكانت لا إله إلا
الله محمداً رسول الله r هي العلاج الناجع ومن هنا رأينا رسول الله r أول ما اهتم، اهتم في مكة بتغيير القلوب لتتوجه إلى الله أولاً
لأنها أساس (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ) فليست العبرة بحفظ المصطلحات فحسب، وتحديد المفاهيم فهذه أمور
علمية بحتة لا غني عنها ولكن الأهم ما قالته السيدة عائشة أم المؤمنين رضوان الله
عليها وهى تتحدث عن نزول القرآن فتقول:"إنما نزل أول ما نزل من سور المفصّل
فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل
أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا
ندع الزنا أبداً، لأن علاج القلوب بالعقيدة أولاً تستقيم معه العقول وتفكر تفكيراً
سليماً فتنصاع لخالقها ويصبح لدى المرء وازعاً داخلياً يغير من سلوكه فيفعل
المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور، إذا أُنعم عليه شكر، وإذا أُبتلى صبر،
وإذا أذنب استغفر، فهناك فرق كبير جداً بين مقام الدعوة والتعليم وبين الفهم
والتطبيق فيجب أن نتعلم ولكن العلم -كما أسميناه- هو العلم التكويني الذي يكوِّن
الإنسان ويغير ما فيه، فالعبرة في فقه الداعي أن توجه العقيدة إلى حل مشاكل عصره
الذي يعيشه فلا ينفصل المسلم أبداً عن الواقع الذي يعيشه، تحقيقاً لتوجيه رسول
الله r"المسلم
الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على
أذاهم" وإلا لأصبح الداعى في واد والناس في وادٍ آخر لأنهم يحملون مشاكل
يريدون لها حلاً في حين أن الداعى منفصل عنهم تماماً ومنفصل عن مجتمعه، ومستغرق في
تحصيل العلوم والتي من المفروض إنزالها على أرض الواقع فنعالج شبهات عصرنا
الموجودة والظواهر السيئة في حياتنا التي نحياها الآن، كالإلحاد، العلمنة،
والعولمة والتحاكم لغير شرع الله I فضلاً عن العادات والتقاليد التي ليست من شرعنا هذه قضايا عصرنا
إذا أردنا أن نعالج قضايانا من أجل ذلك حذر العلماء من تقديم العقيدة وتعليمها
للناس بالأساليب الكلامية أو المناهج
الفلسفية التي صيغت بها كثير من الكتب القديمة فضررها أكثر من نفعها ولكن
لابد أن نقدم العقيدة بمنهج القرآن لأنه خير تقديم وأصوبه يصل إلى العقول وإلى
القلوب فينير والأولى ويطمئن الأخرى ولا يتحقق ذلك أبداً بمنهج الفلسفة ولا علم
الكلام ولا المنطق ولا أى منهج من هذه المناهج ولكن بالالتزام بمنهاج رسول الله r والطريقة
التي قدم بها العقيدة للعرب والعجم على حد سواء وبهذا المنهج الذي غرس رسول r به مشاعر
ثلاثة في نفوس الجيل الأول وهي:
1-الشعور بعظمة هذه الرسالة .
2-الاعتزاز بالانتساب إليها .
3-الثقة في نصر الله .
هذه بعض آثار لا إله إلا الله القلبية والإيمانية، أما
الجانب العلمى منها فلا إله إلا الله فيها نفى تسقط معه الألوهية عن كل الطواغيت
التي ادَّعت من دون الله I وهي كلمة تحمل نفياً فتُسقط الصنم والوثن والنظام والشعار والبشر
وصدق الله إذ يقول: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن
دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ
الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ).
وأما الإثبات فهو يعطى للألوهية كل أوصافها وسماتها وأفعالها لله رب العالمين لا شريك
له ، يخلق ويرزق ويحكم ويأمر ويشرع (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)
وهكذا تتحقق العبودية الحقة بكمال الحب وكمال الذل كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه
الله إنه علم رباني وتربية ربانية يصحبها معاناة وتربية ومجاهدة وجهاد تلمح ذلك في
مهام الرسول التي حددها قول ربنا (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) فمهمة الداعى إلى الله I تنحصر في :
1-تلاوة آيات الله.
2-تعليم الكتاب والحكمة (السنة).
3-التزكية - وهى التربية
وعلى هذا فإن تقسيم الإمام ابن تيمية للعقيدة من حيث
توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات إنما هي من باب التعلم
البحت الذي كان يراد به الرد على مشكلات ومباحث ظهرت في عصره -سنتناولها في حينها-
هذا التقسيم ليس توقيفياً بل هو اجتهاد بشر لعالم جليل فقيه عصره وإلا كيف كانت
تقدم العقيدة قبل هذا التقسيم؟
وما أطيب وأعمق وأشمل هذا التعريف الذي ذكره فضيلة
الدكتور يوسف القرضاوى يقول :
"الإيمان عمل نفسى يبلغ أغوار النفس ويحيط بحواسها
كلها من إدراك وإرادة ووجدان فلابد من إدراك ذهنى تنكشف به حقائق الوجود على ما هي
في الواقع وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحى الإلهى المعصوم ولابد أن يبلغ
هذا الإدراك الجزم الموقن أو اليقين الجازم الذي لا يزلزله شك (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)
ولابد أن يصحب المعرفة الجازمة إذعان قلبى وانقياد إرادى يتمثل في الخضوع والطاعة
والرضا والتسليم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ولابد أن يتبع تلك المعرفة وهذا الإذعان حرارة وجدانية
قلبية تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة والالتزام بمبادئها السلوكية والخلقية
والجهاد في سبيلها بالمال والنفس وبذلك تنفذ هذه العقيدة إلى العقل فتقنعه وتطمئنه
وإلى القلب فتهزه وتحركه وإلى الإرادة فتدفعها وتوجهها وإذا اقتنع العقل وتحرك
القلب واتجهت الإرادة استجابت الجوارح واندفعت إلى العمل، استجابة الرعية للراعى
الصالح" إنه تعريف شامل أحاط بكل مكونات العقيدة من علم، وتفكير، وإرادة، ومن
قلب، وجوارح تتحرك، وهذا هو الإيمان الحق وليس الإيمان الجامد وهذا هو المفهوم
القرآني في عرض العقيدة.
منهج القرآن في عرض الإيمان : إن آيات خمس في مواضع ثلاثة من الذكر الحكيم صورت لنا أبرز سمات الإيمان
في أحسن تصوير، وتحدد لنا معالمه :
ففى سورة الأنفال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).
وفى سورة النور : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)
وفى سورة الحجرات : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) .
والمتأمل في هذه الآيات يجد الأمور الآتية:
أولاً-كل منها مصدر
بهذا القول "إنما" وأهل البلاغة يقولون إنما أداة تفيد قصر سمات
المؤمن الصادق على الصفات والخصائص التي بينتها كل آية وهى :
أ-وجل القلب عند ذكر الله .
ب-ازدياد الإيمان به عند تلاوة آياته.
ج-التوكل عليه وحده.
د-إقامة الصلاة.
هـ-الإنفاق مما رزقه الله .
هذا في الآية الأولى يضاف إلى هذه الصفات في الآيتين
الأخريين.
و-الإيمان بالله ورسوله.
ز-عدم الذهاب في الأمور الجامعة إلا بعد إذنه r.
ح-عدم الارتياب في الإيمان.
ط-الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
ولا يعنى هذا أن صفات المؤمنين تقتصر وتنحصر في هذه أو
تلك إنما تضاف لهذه الصفات صفات أخرى حكاها القرآن كالتى في صدر سورة "المؤمنون"
مثلاً وغيرها من السور، فليس ما قلناه حصراً ولكن على سبيل المثال لكى نبين أن
الإيمان ليس كلاماً يقال وليس أمراً مجرداً دون حركة قلبية سلوك قرآني واسمع إلى
قول الله وهو يصف هذا الصنف (كَانُوا
قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ،
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) إنها صفات تلبست
برجال صدقوا في إيمانهم فكان هذا هو واقعهم على أرض الواقع فكانوا: (التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) هكذا منهج القرآن في عرض هذه العقيدة يجمع بين
القلب والعقل كما يجمع بين الإيمان والعمل.
كلام القرآن عن المؤمنين وليس الإيمان:
إن مبنى أمر الحديث في هذه المواضع وغيرها هو على المؤمنين
لا على مفهوم الإيمان المجرد فلم يقل ربنا مثلاً "إنما الإيمان وجل القلب
وذكر الله إلخ" إنما جرى على ما جرى عليه لحكمة جليلة وعبرة سامية –والله
أعلم بمراده- أن الحكيم الخبير يعلمنا أن الإيمان لا يصلح ولا ينبغى له أن يكون
مجرد اعتبار كونه مفهوماً نظرياً يتصوره الذهن دون أن يكون له حظ من التطبيق أو
صدق في السلوك العملى ينزل على أرض الواقع وبذلك يصح مفهوم الإيمان على وجهه
المرضى المستقيم بأن يكون ترجمة صادقة لسلوك المؤمنين في القول والعمل وهذا يدعو
كل مؤمن ألا يركن نفسه أو ينخدع قلبه بمجرد صوت خافت لداعى الإيمان يختلج في ضميره
وأيضًا ليس مجرد كلمة أو اصطلاح يلوكه لسانه ثم لا يلبث أن تموت حروفها على شفتيه
بل يتطلب مصداق ذلك سلوك حياته العملية مع ربه ونفسه ومجتمعه والكون كله (قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ)
من أجل ذلك رأينا الحديث عن المؤمنين وليس على الإيمان
المجرد أو بعبارة أخرى عن الإيمان بوصفه متحققاً في الأفراد المنعوتين به
"المؤمنين" وباسم مخصوص هو "الذين" وصفوا بهذه الصفات النبيلة
"أولئك هم "المؤمنون حقاً – وهذا هو منهج القرآن في عرض العقيدة.
ابن القيم والعقيدة: وسار على هذا الدرب ابن القيم إذ يقول : "إن للا إله إلا الله قلب
وقالب قالب أو جسد هو ما نعلمه وما نتعلمه حول الربوبية والألوهية وسماه بعلم
القالب، وكذلك قلب أو روح تحرك هذا الجسد فتبعث فيه الحياة سماه عمل القلب ثم
قال إن علم القالب يتساوى فيه المؤمن والكافر على حد سواء (وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .
أما عمل القلب فهذا هو النور الذي يبعثه الله في قلب من
يحب من عباده، وبهذه البساطة عرف المسلمون دينهم وعرفوا ربهم منذ عصر رسول الله r وصحابته
الأبرار فلم يكن هناك حاجة للتقعيد والتعقيد إذ لم يكن قد حصل تبلبل في العقيدة
ولا تشتت في الفكر والنظر وما أبسط إجابة أبى بكر الصديق t حين سئل : بم عرفت ربك؟ فقال عرفت ربى بنقض العزائم، وكما قال
سيدنا على t قال
"عرفت ربى بربى ولولا ربى ما عرفت ربى، وأليس الأعرابى البسيط الذي سئل نفس
السؤال فقال : البعرة تدل على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار الأقدام تدل
على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على الصانع
العليم القدير؟ إنها عقيدة راسخة في النفس عبر عنها هذا التعبير البسيط.
ذلك لأن المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم
بإحسان كانوا يستقون عقيدتهم من القرآن الكريم والسنة فهما الينبوع الذي يستقى منه
المسلمون عقائدهم وأخلاقهم وأوامرهم ونواهيهم وتصوراتهم وأفكارهم ومنهما عرفوا ما
يليق بذات الله تعالى وما ينزه عنه جل وعلا تعالت كلماته فلم يكن بينهم جدل في شأن
العقيدة وكانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً لا شك فيه:
1-أنه يجب لله تعالى كل صفة كمال تليق بجلاله ووصف نفسه
بها.
2-أنه يستحيل على الله كل صفة نقص لا تليق بجلاله.
3-أنه يجوز في حقه تعالى كل ممكن أو تركه كالإحياء
والإماتة مثلاً.
والحقيقة أن هذه هي النصاعة وهذه السهولة في تلقى
العقيدة في الجيل الأول وبعد وفاة الرسول r.
وكاد ينتهى العصر الأول في إيمان خالص من الجدل حتى
أواخر عهد عثمان حيث ظهر الخلاف في المسائل السياسية وكان سبباً في بدء الخلاف
الدينى بعد ذلك فتكونت الفرق، فمن حزب على t تكونت الشيعة ومن لم يرضى بعلى تكون منهم الخوارج ومن كره الخلاف
بينهما كونوا المرجئة وهكذا بدأت الفرق الإسلامية في الظهور .
ظهور الفرق الإسلامية:
لما غزا الإسلام كثيراً من البلاد المتحضرة – في ذلك
الزمان - ودخل فيه كثير من أهل الحضارات ممن لهم ثقافات وعلوم وكان لهم نظر في
المعتقدات ثم أضيف إليهم دخول اليهود والنصارى والمجوس الإسلام وكان لكل أولئك
أفكارهم الدينية الباقية من دياناتهم القديمة التي استولت على مشاعرهم، فكانوا
يفكرون في الحقائق الإسلامية على ضوء اعتقاداتهم القديمة فأثاروا بين المسلمين ما
كان يثار في دياناتهم من الكلام في الجبر والاختيار وصفات الله هل هي شيء غير
الذات أم هي والذات شيء واحد؟ إلى غير ذلك من المسائل الكلامية التي ليست لها أي
مردود تربوي.
وبالإضافة إلى ذلك كانت حركة الترجمة للكتب الفلسفية مما
كان له أثر أيضًا على الفكر الإسلامى فتأثر بمنازع الفلسفة والمذاهب القديمة في
الكون والمادة وما وراء الطبيعة المحسوسة وظهر علماء من المسلمين نزعوا منزع
الفلاسفة الأقدمين وأخذوا بطريقتهم وظهر في العصر العباسى من سلك مسلك
"السوفسطائيين" والأرأيتيين (أرأيت إن حدث كذا) يخترعون قضايا ويبحثون
لها عن حل وليس هذا من الإسلام في شيء لأن الإسلام يتعامل مع الواقع ، وثار خصام
وعراك ودارت مناقشات ومناظرات وأدلى كل بدلوه فكان الناس أصنافاً شتى فمنهم
الزنديق المنافق الذي يبغى هدم الإسلام ومنهم الجاهل المخدوع ومنهم المستقيم على
الحق وأنتجت هذه المعارك مذاهب مختلفة منها الصواب ومنها الباطل ومنها الخليط بين
الحق والباطل.
فبعد أن كان المسلمون ينتهجون منهج القرآن في رده على
أهم الفرق التي كانت منتشرة في عصر النبوة بأسلوب بليغ حكيم في نقض أقوالهم وسلك
علماء المسلمين في ذلك الوقت مسلك القرآن في الرد على المخالفين إلا أنه لما كان
كثير ممن دخل الإسلام بعد الفتح من ديانات مختلفة كاليهودية والنصرانية والمجوسية
والصابئة والبراهمة وغيرهم قد أظهروا آراء دياناتهم القديمة في لباس دينهم الجديد
مما جعل الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة التي كان همها الأول الدفاع عن
الدين والرد على المخالفين من اليهود والنصارى وغيرهم الذين تسلحوا بالفلسفة مما
دفع المعتزلة لدراستها ليستطيعوا الدفاع بنفس السلاح فاضطرهم ذلك إلى قراءة
الفلسفة اليونانية والتكلم في شأنها والرد عليها وأخذوا في إثبات العقائد
الإسلامية بالأقيسة المنطقية والتعديلات الفلسفية والدراسات العقلية المجردة وجرهم
ذلك إلى دراسة مسائل ليس في استطاعة العقل البشرى أن يصل إلى نتائج مقررة ثابتة
عنها كمسألة إثبات صفات الله تعالى ونفيها، ومسألة قدرة العبد بجوار قدرة الرب
وغير ذلك مما فتح باباً واسعاً من أبواب الاختلاف بين علماء الكلام.
وللأسف فإن اتساع الحياة أمام المسلمين بعد فتح الأقطار
والأمصار جعلتهم ينشغلون بأمور الحكم فقل تفرغهم لكتاب الله والسنة بقدر ما شغلهم
بما واجههم من الأمور الجديدة إلا فئة قليلة من الباحثين والقراء المتفرغين ولذلك
فقد نازعت بعض النفوس الغير مطمئنة آراء وأفكار وشكوك حول العقائد فظهرت على ألسنة
بعضهم وفى آرائهم فتحدثوا بها وتناقشوا فيها.
وهنا خشى الراسخون في العلم على الناس أن تتزلزل عقائدهم
فدعوا الناس إلى الرجوع للقرآن ومنهجه وحفزهم هذا الوضع الذي عاشوه إلى وضع قواعد
وضوابط وبراهين واستدلالات عقلية يرد بها على أولئك المجادلين ثم أخذت هذه
البراهين تعمق وتؤصل حتى تكونت عن هذه الحركة فكرة وضع أسس للعقائد سميت أول الأمر
علم الكلام ثم علم التوحيد أو علم العقائد.
وكانت العراق – خاصة البصرة- مظهراً لجميع النحل والملل
فقامت جماعات بَعُدت عن منهج القرآن في عرض عقائد الإسلام وكثر الكلام في كلام
الله هل هو مخلوق أم غير مخلوق وكثرت الزندقة وظهر ما يسمى بالفرق الإسلامية التي
منها.
القدرية: وهى تقول
بحرية الإرادة وعلى رأسهم معبد الجهمى وتقول لا قدر والأمر أُنُفُ فأنكروا قدرة
الله.
الجبرية: وهم يسلبون
الإنسان إرادته وأقاموا في الكوفة وقالوا إن الإنسان كالريشة في مهب الريح ونفوا
صفات الرب سبحانه وتعالى.
ووسط هذا الجو المضطرب قامت جماعة من المخلصين يشرحون
عقائد المسلمين بأسلوب القرآن ومنهجه من أشهرهم الحسن البصري الذي قال لابد من
العودة لمنهج القرآن في عرض العقيدة واختلف معه تلميذه واصل بن عطاء وتكونت
المعتزلة وفى أواخر القرن الثالث ظهر الإمام أبو منصور الماتريدي ورد على أصحاب
العقائد الباطلة وتكونت الماتريدية كما ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري وأعلن
انفصاله عن المعتزلة وأعلن مبادئه التي وافق عليها خيرة علماء المسلمين في ذلك
الوقت وظهرت فرقة الأشاعرة ثم تكونت بعد ذلك جماعة أهل السنة والجماعة.
ولقد نشأ علم الكلام في جو غريب عن طبيعة الحياة
الإسلامية الأصيلة يتناول قضايا التوحيد بغير أسلوب القرآن مما انتهى بهذا العلم
الجليل إلى الجفاف والتعقيد فجهله عامة المسلمين ونفر منه خاصتهم وهاجمه كثير من
الأئمة كالإمام مالك والشافعى وأحمد .
يقول الشيخ محمود شلتوت:"وجاء المتأخرون الذين فقدوا الذوق العربى الفصيح والاسترشاد الداعى
من القرآن والسنة فصبوا قوالب التوحيد في قواعد جافة ومن ثم ضعف الإيمان وضعفت
الإرادة تبعاً لذلك بل وضعفت الأخلاق".
ولقد قيض الله لهذه الأمة من مسح عن وجه عقيدتها ما
شابها من غبش مثل الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجرى فكانت كتاباته دعوة
إلى النهج السديد وسار على دربه الإمام البنا رضوان الله على الجميع.
أمر يجب التنبيه عليه: إن القضايا التي سنتناولها في هذه المسألة ليست للعامة بل هي مسألة انشغل
بها علماء الأمة دون غيرهم لأنه ليس المطلوب من المسلم العامى أو الأمى أن يعرف
صفات الله الواجبة ويعرف صفة الوجود وأن يفرق مثلاً بين صفات الذات وصفات المعانى
ويشتغل بأدلة كل مسألة فليس مكلفاً بذلك كما يقول الإمام الغزالى:" اكتفى
رسول الله r من أجلاف
العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل .. ثم يقول وهناك حديث مشهور في كتب
السير والحديث "قصة ضمام بن ثعلبة" رواه الإمام مسلم يبين أن
رسول الله r لم يعلم
ضمام بن ثعلبة دليلاً واحداً حين آمن به كما أنه -أى ضمام- حين دعا قومه للإيمان
لم يقدم لهم أدلة على ذلك ولذلك حين أُتهم ابن تيمية بأنه يقوم بإثارة البلبلة
الفكرية والحيرة النفسية عند الناس من كثرة الكلام في آيات وأحاديث الصفات.
قال رحمه الله : وأما قول القائل لا يُتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند
العوام فأنا ما فاتحت عامياً في شيء من ذلك قط".
ويقول أنا ما بغيت على أحد ، ولا قلت لأحد وافقنى على
اعتقادى وإلا فعلت بك ولا أكرهت أحداً بقول ولا عمل بل ما كتبت في ذلك شيئاً قط
إلا أن يكون جواب استفتاء بعد إلحاح السائل واحتراقه وكثرة مراجعته ولا عادتى
مخاطبة الناس في ذلك ابتداءً.
رأى العلماء في علم الكلام: للعلماء الأعلام رأى واضح في
علم الكلام فهذا:
الإمام الشافعى : رأى بعض تلاميذه يتناظرون في علم الكلام فقال لهم: أتظنون أنى لا أعلمه
لقد دخلت فيه حتى بلغت مبلغاً عظيماً إلا أن الكلام لا غاية له تناظروا في شيء إن
أخطأتم فيه يقال أخطأتم ولا يقال كفرتم.
الإمام مالك: يقول الإمام الشاطبى كان الإمام مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين
أكرهه ولم يزل أهل بلدنا -أى العلماء - يكرّهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأى جهم
والقدر وما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل فأما الكلام في الدين وفى
الله U فالسكوت أحب
إلىّ لأنى رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل .
وقال ابن عبد البر: قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل
بلده –يعنى العلماء منهم- فأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله
وأسمائه وضرب مثلاً نحو رأى جهم والقدر قال: والذى قاله مالك عليه جماعة الفقهاء
قديماً وحديثاً.
ويقول الإمام الشاطبى : وأما الجماعة فعلى ما قاله الإمام مالك -رحمه الله- إلا أن يضطر أحد إلى
الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في رد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشى ضلالة
عامة أو نحو ذلك ومع ذلك فقد قال الإمام الشاطبى لا بأس بتعلم طرق الاستدلال في
الحدود التي لا يأخذ بها البحث الطرق الوعرة والمسالك الشائكة فتعلم الحجة
والبرهان أمر مطلوب وليس محظوراً شرعاً إنما المحظور هو التوعر فيه وسلوك السبل
المعقدة والدخول به في طرق تؤدى إلى الأهواء والظنون أما معرفة طرق الاستدلال من
أيسر طرق البرهان فهذا أمر مطلوب والمولى يقول (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء)
والحق يقال أن الرسول r كان يدعو زعماء القبائل بل الناس جميعاً فكان يقدم لهم أركان الإيمان
في غاية البساطة ولا عبرة بما يقال أنهم كانوا يفهمون من هذه الكلمات البسيطة كل
تفاصيل العقيدة بأصولها وفروعها وما يترتب عليها بدليل أن رسول الله r خاطب بنفس
هذه الكلمات البسيطة دون حواشى الفرس والروم والحبش والقبط خارج الجزيرة العربية
بل العرب أنفسهم ولقد وقع من العرب بل ومن الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم جميعاً
ما يدل على عدم فهم بعض المعاني التي تتصل بالعقيدة ونبههم لها رسول الله r وما قصة
حادثة ذات أنواط منا ببعيد.
وعلى هذا فقضيتنا بعد هذا الإطناب الذي قصدنا به تبيان
منهج القرآن وكيف بدأ علم الكلام وما أثير حول قضية الأسماء والصفات إنما هي قضية
ما عرفها مجتمع رسول الله r على هذه الصورة التي نحن عليها اليوم دون تمييز بين أصل وفرع، ولا
كفر وإيمان، وصواب وخطأ وأصبحت القضية التي يجب أن تفاصل عليها الناس في نظر بعض
المسلمين بل أصبحت تقسيمات العقيدة من حيث توحيد الألوهية والربوبية والأسماء
والصفات كأنها توقيفيه من عند الله I وليست اجتهاد بشر أو عالم أراد أن يواجه مشاكل عصره ويخدم دينه
بلغة زمانه وإلا فماذا نقول عن المسلمين جميعاً قبل هذه التسميات التي ذكرها
الإمام ابن تيمية ليعالج بها فكراً ظهر في زمانه والتى لم يعرفها المسلمون على هذه
الصورة ؟
ورضوان الله على الإمام الشافعى حين قال: وقد تكلم في
العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة
إن شاء الله .
فما هي قضية الأسماء والصفات التي
أثيرت؟
يقول ابن القيم : التوحيد نوعان
توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات بمعنى أن يعتقد المؤمن إثبات ذات
الله وصفاته وأفعاله فهو I الأول والآخر والظاهر والباطن والخالق إلى آخر ما يجب أن يتصف به
من أسماء وهذا لم يكن مثار جدل بين المسلمين والمشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .
توحيد في العبادة والقصد: وهو توحيد الألوهية والعبادة أى لا يعبد إلا الله ولا يقصد إلا الله ولا
يتوكل إلا عليه ولا يعادى إلا فيه ولا يعمل عملاً إلا ابتغاء وجهه وهذا الذي بسببه
سُمى الكفار مشركين وهذا وقع فيه كثير من المسلمين بقصد وبغير قصد (اتَّخَذُواْ
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ)
أسماء الله : وجميع أسماء الله تعالى كلها تعتبر صفات لله تعالى إلا اسم واحد فقط هو "الله"
علم على الذات وليس صفة ويقول جمهور الفقهاء إن أسماء الله توقيفية ، يقول أبو
هريرة t قال رسول
الله r:"إن
لله تسعًا وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً - من أحصاها دخل الجنة" وفى
رواية البخارى ومسلم"لا يحفظها واحدٌ إلا دخل الجنة وهو وتر يحب
الوتر" ولقد تعلم الصحابة صفات الله من كتاب ربهم كما وصف الله نفسه وكما
وصفه رسوله r دون تقعر
ولا تنطع ولا جدال وما أثاروا قضية وما تكلم أحد منهم حول الأسماء والصفات بل
فهموها كما نزلت.
يقول المقريزى في خططه: "اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدًا r رسولاً إلى
الناس جميعاً وصف لهم ربهم I بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز فلم يسأله r من العرب
قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة والزكاة والحج"، وغير ذلك مما لله I فيه أمر
ونهى وكما سألوه عن أحوال يوم القيامة والجنة والنار إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء
من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه r في أحكام الحلال والحرام، وفى الترغيب والترهيب إلخ، ومن أمعن
النظر في دواوين الحديث النبوى ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يُرو قط من
طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة
عددهم أنه سأل رسول الله r عن معنى شيء مما وصف الرب I نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه r بل كلهم
فهموا معنى ذلك وسكتوا على الكلام في الصفات ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات
أو صفة فعل وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والسمع
والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة وساقوا الكلام سوقاً
واحداً فهذا حال أصحاب رسول الله r أما غير هؤلاء من الذين لم يتربوا في مدرسة النبوة ولم يلتزموا
منهج القرآن فإنهم أثاروا قضايا تتصل بالعقيدة وفروعها وأصول القدرية الذين قالوا
بإنكار قدر الله والمغالاة في إثبات قدرة الإنسان باعتباره حر الإرادة كما قالوا
بخلق القرآن.
والجبرية (أو الجهمية أو المعطلة) الذين اعتبروا الإنسان مجبوراً كالريشة في الهواء فنفوا
صفات الرب حتى لا يشبه المخلوق وقالوا بفناء الجنة والنار بعد نعيم أهل الجنة
وعذاب أهل النار كما قالوا بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة.
والمعتزلة الذين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين وأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة
أودعها الله فيه ونفوا أيضاً صفات الله القديمة وقالوا بخلق القرآن.
الأشاعرة : زعيمهم أبو الحسن الأشعرى تخرج على
المعتزلة في علم الكلام وتتلمذ على شيخهم في عصره أبى على الجبائى وابتعد عن
المعتزلة في تفكيرهم وأثبت الصفات وقرر أنها صفات تليق بذات الله ولا تشبه صفات
المخلوق فسمع الله تعالى ليس كسمع الحوادث وكذلك بصره وكلامه..إلخ.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: قال في قول الله (يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يده يد تليق بذاته الكريمة وليست يد جارحة
كأيدينا بل يده يد صفة كالسمع والبصر وهذا ما ذكره في كتاب الإبانة ولكن
يظهر أنه رجع عن هذا الرأى وأوّل الصفات في كتاب اللمع إذ أوّل اليد
بالقدرة.
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى بأنه يحتمل أن يكون الأشعرى قد رجع عن التأويل إلى منهج
السنة في آخر زمانه وهذا هو الراجح عنده – وإن كان رأيه الأول التأويل له وجه في
اللغة تحتمله ورأى السلف أولى بالإتباع.
ويقول فضيلة الشيخ أحمد بن حجر قاضى المحكمة الشرعية الأولى بدولة قطر: قال الإمام
الأشعرى في كتابه "الإبانة" وكتاب "مقالات الإسلاميين" صرح
رحمه الله بإثبات جميع الصفات الواردة في القرآن والحديث كالاستواء والوجه واليد
والنزول إلى غير ذلك فما عذر هؤلاء المنتسبين إلى أبى الحسن الأشعرى رحمه الله
زاعمين أنهم أشعريون وعقيدتهم في هذه الصفات كعقيدة المعتزلة والجهمية، ولا شك أن
انتسابهم إلى أبى الحسن الأشعرى رحمه الله في هذه الصفات غير صحيح ولا أدرى بماذا
يعتذرون إلا أن ينكروا كتاب الإبانة وكتاب مقالات الإسلاميين فإن إنكارهم لا يجدى
لأن المؤرخين ذكروا هذين الكتابين في ترجمته وأثبتهما الإمام ابن عساكر في كتابه
"تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام الأشعرى" وكذا ذكر السبكى في
الطبقات أن عقيدة الإمام نحو ما ذكرت، واسمع إلى سماحة الشيخ محمد بن صالح
العثيمين في شرح "لمعة الاعتقاد" لموفق الدين ابن قدامة يقول فيه الرجل
العالم الجليل:"اعلم أن حكم التأويل على ثلاثة أقسام:
الأول أن يكون صادراً
عن اجتهاد وحسن نية بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله فهذا معفو عنه لأن هذا
منتهى وسعه وقد قال تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)
.
الثانى أن يكون صادراً
عن هوى وتعصب وله وجه في اللغة العربية فهو فسق وليس بكفر إلا أن يتضمن نقصاً أو
عيباً في حق الله فيكون كفراً أعاذنا الله منه.
الثالث أن يكون صادراً
عن هوى وتعصب وليس له وجه في اللغة العربية فهذا كفر لأن حقيقته التكذيب حيث لا
وجه له".
وقد صدرت فتوى صادرة من اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة
العربية السعودية جاء فيها "موقفنا من أبى بكر الباقلانى والبيهقى وأبى فرج
ابن الجوزى وأبى زكريا النووى وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو
فوضوا في أصل معناها كمثل (وَجَاء رَبُّكَ) قالوا وجاء أمر ربك أنهم في
نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم ورحمهم الله رحمة واسعة
وجزاهم عنا خير الجزاء وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة y وأئمة السلف في القرون
الثلاثة التي شهد لها النبى r بالخير وأنهم أخطئوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف
الأمة وأئمة السنة رحمهم الله سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض
ذلك " رقم الفتيا 3/173 .
وقد تعصب كثير من الأئمة لمذهب الأشعري منهم أبو بكر
الباقلاني المتوفى سنة 403هـ والإمام الغزالي والبيضاوى المتوفى سنة 701هـ وكان
مناظرًا مجيداً وإماماً متعبداً وفقيهاً مدققاً وله في علم العقائد كتاب الطوالع
وكذلك الشريف الجرحانى وكان فقيهاً حنفياً وغيره كثير.
الماتريدية: إمامها هو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأبى منصور الماتريدى ولد
بماتريد بسمرقند فيما وراء النهر وتوفي سنة 333هـ.
قرر العلماء أن ما وصل إليه يتفق مع ما رواه الإمام أبو
حنيفة فهم يعتبرون معرفة الله مدركة الوجوب بالعقل بعكس الأشاعرة الذين يعتبرونها
واجبة بالشرع وهم يعتبرون للأشياء حسناً ذاتياً يدركه العقل فالعقل عندهم يستقل
بمعرفة الله ولكنه لا يستقل بمعرفة الأحكام التكليفية وهذا رأى أبى حنيفة t وهم يؤولون
الصفات.
وهذه هي أهم الفرق الإسلامية وآراؤها – باختصار شديد –
في قضايا العقيدة فما هو رأى السلف؟
رأى ابن تيمية : يقول إن طرائق العلماء في فهم العقائد الإسلامية أربعة أقسام:
القسم الأول: الفلاسفة وهؤلاء يقولون جاء القرآن بالطريقة الخطابية والمقدمات
الإقناعية التي تقنع الجمهور ويدعون أنهم هم أهل البرهان واليقين لأن العقائد
طريقها البرهان واليقين .
القسم الثانى : المتكلمون (المعتزلة) وهؤلاء يقدمون قضايا عقلية قبل النظر في الآيات
القرآنية فهم يأخذون بالنوعين من الاستدلال -العقل والنقل- ولكن يقدمون النظر
العقلى على الدليل القرآنى. فيأولون على مقتضى العقل وإن كانوا لا يخرجون عن عقائد
القرآن .
القسم الثالث: طائفة من العلماء –الماتريدية- تنظر إلى ما في القرآن من عقائد للعقل
فتؤمن بها فتأخذه لا على أنه أدلة هادية مرشدة موجهة للعقل ليلتمس المقدمات من
بينها بل على أنها آيات إخبارية يجب الإيمان بما اشتملت عليه من غير أن يتخذ
مضمونها مقدمة للاستنباط العقلى وهم يستعينون بالعقل ليبرهنوا على عقائد القرآن .
القسم الرابع : وهو قسم يؤمن بالقرآن -عقائده وأدلته - ولكنه يستعين بالأدلة العقلية
بجوار الأدلة القرآنية وهم الأشاعرة.
ثم يقول ابن تيمية : ومنهج السلف ليس واحداً من هذه الأربعة بل هو غيرهم لأن العقائد لا تؤخذ
إلا من النصوص القرآنية .
فأهل السلف يثبتون ما جاء في القرآن والسنة عن أوصافه I أو شئونه
فيثبتون له المحبة، والغضب، والسخط والرضا والنداء والكلام والنزول إلى الناس في
ظلل من الغمام ويثبتون الاستواء على العرش، والوجه واليد من غير تأويل ولا تفسير
بغير الظاهر لأن هذه الصفات ليست كشأن الحوادث.
فالصواب في هذا هو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه
أو وصفه به رسوله r لا يتجاوز القرآن والحديث.
وقال: إن مذهب أهل السلف بين التعطيل والتمثيل فلا
يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذوات خلقه ولا ينفون عنه
ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله r فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرفون الكلم عن مواضعه
ويلحدون في أسماء الله وآياته.
ولقد سبق ابن تيمية في هذا الرأى طائفة من الحنابلة منهم
أبو يعلى الحنبلى سنة 405هـ وابن الزاغونى سنة 527هـ والجدير بالذكر أن طائفة أخرى
من الحنابلة خالفوا هذا الرأى وقالوا إنه يؤدى إلى التشبيه والجسمية لا محالة وكيف
لا يؤدى إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة ومن هؤلاء:
ابن الجوزى الفقيه الحنبلى الذي تصدى لهذا الرأى وقال
ليس هذا بمذهب السلف بالنفى أن يكون هذا رأى الإمام أحمد بن حنبل وقال بالتأويل
وقالت طائفة من الحنابلة في أبى يعلى القاضى الحنبلى "لقد شان أبو يعلى
الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحر " وكذلك قالوا في ابن الزاغونى "إن
في قوله من غرائب التشبيه ما يحار فيه النبيه"
وقد استنكر الحنابلة هذا الاتجاه عندما شاع في القرن
الرابع والخامس حتى استتر هذا المذهب إلى أن أعلنه الإمام ابن تيمية مرة أخرى .
المسلك القويم : والمسلك القويم كما قال الإمام الشوكانى أن تجعل عمدتك في هذه القضية
هاتين الآيتين:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ) وقوله (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) فيهما الإثبات
والنفى ، إثبات صفات البارى ونفى المماثلة للحوادث ثم تقييد هذا الإثبات بظاهر ما
صرحت به الآيات وأجملته والزجر عن الخوض في كيفية هذه الصفات فإن الله I قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علماً فمن زعم أن
ذاته كذا أو صفته كذا ، فلاشك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة ،وقد نفيت عن كل فرد
من الأفراد (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) ولذلك لما سئل بن الصلاح عن
رجلين تشاجرا في قوله ينزل ربكم في كل ليلة إلى سماء الدنيا (الحديث) فقال أحدهما
للآخر الحديث يتأول وقال الآخر بل هو كما جاء ليس فيه تأويل بل ينزل وكذا في جميع
الصفات والآيات والأخبار وكل واحد يدعى الصحة في قوله.
أجاب رضى الله عنه: الذي عليه الصالحون من السلف والخلف
رضى الله عنهم في ذلك جميعاً على الإيمان الحق والإعراض عن الخوض في معانيها مع
اعتقاد التقديس المطلق وإنه ليس معناها ما فهم من مثلها حق المخلوق والله أعلم.
الإمام البنا : عد إلى رسالة العقائد فستجد نفس المعانى التي أثبتها علماء السلف والتى
ذكرناها هي نفسها التي ذكرها الإمام البنا في رسالة العقائد فبعد أن تكلم عن صفات
الله في القرآن من حيث الوجود والبقاء والقيام بنفسه والوحدانية والقدرة والإرادة
والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام.
قال رحمه الله : وصفات الله تبارك وتعالى كثيرة وكمالاته تبارك وتعالى لا تتناهى ولا تدرك
عقول البشر كنهها سبحانه لا نحصى ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه .
يقول الإمام البنا :"اعلم أن جمهور المسلمين على
أنه لا يصح أن نطلق على الله تعالى اسماً أو وصفاً لم يرد به الشرع بقصد اتخاذه
اسماً له تعالى وإن كان يشعر بالكمال فلا يصح أن نقول، هو مهندس الكون الأعظم، ولا
نقول مثلاً المدير العام لشئون الخلق على أن تكون هذه أسماء أو صفات له تعالى هذا
أمر لا ينبغى؛ لأن الصفات والأسماء توقيفية من عند الله I ليس لنا أن نزيد عليها أو أن ننقص ولقد انقسم الناس في هذه
المسألة على أربعة فرق: الفرقة الأولى : أخذت بظواهرها كما هي فنسبت إلى الله
وجهاً كوجوه الخلق –تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويداً كأيديهم وضحكاً كضحكهم
وهكذا حتى فرضوا الإله شيخاً وبعضهم فرضه شاباً وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة وصفوا
هذه الصفات بصفات المخلوق هذه واحدة ليسوا من الإسلام في شيء وليس في قولهم نصيب
من الصحة لأن المولى يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) هؤلاء هم المجسمة والمشبهة وهي
فرقة من الفرق ليست الضالة فحسب بل الكافرة بتجسيدهم الإله تعالى الله عن ذلك
علواً كبيراً.
وفرقة عطلت معانى هذه الألفاظ على وجه يقصدون بذلك نفى
مدلولاتها مطلقاً عن الله تبارك وتعالى فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا
يسمع ولا يبصر عكس الأخرى يقولون لأن ذلك لا يكون إلا لجارحة فإذاً هم يشبهوه
بالمخلوق أيضًا والجوارح يجب أن تنفى عنه I فبذلك يعطلون صفات الله I ويتظاهرون بتقديسه، وهذان رأيان باطلان لا حظ لهما من النظر وبقى
أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد وهما رأى السلف ورأى الخلف.
ثم قسم الناس في هذه القضية إلى أربعة فرق وتكلم عن كل
واحدة بما يوافق كلام السلف ثم عقد مقارنة بين السلف والخلف وقال:
ترجيح مذهب السلف: ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعانى إلى الله
تبارك وتعالى أسلم وأولى بالإتباع حسماً لمادة التأويل والتعطيل –يقصد تفويض علم
الكيفية- فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان وأثلج صدره ببرد اليقين فلا
تعدل به بديلاً ونعتقد إلى جانب هذا تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا
فسوق ولا تستدعى هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديماً وحديثاً وصدر الإسلام
أوسع من هذا كله.
فهل هذا الكلام فيه خروج على رأى السلف ؟
نحن نجمل لك: رأى السلف والخلف في سطور قليلة لتتضح لك
المقارنة.
السلف يقولون :
1-نؤمن بما ثبت من الصفات (اليد والعين والاستواء
...إلخ) كما هي لأن القرآن والسنة قد ذكروا ذلك.
2-ونحن نفهم من هذه الصفات معناً ذهنياً مطلقاً هذا
المعنى عند إضافته للخالق I يختلف تماماً عنه إذا أُضيف
للمخلوق ولا يشبهه فهو في حق الله كامل بما يليق بجلاله وفى حق المخلوق
ناقص .
3-لا يعرف حقيقة هذه المعانى وكنهها إلا الله فنحن نفوض
إليه I معرفة
المراد بهذه الصفات من حيث معانيها اللائقة به كمالاً وكنهًا.
الخلف يقولون :
1-نؤمن بكل ما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق بصفات
الله [اليد والعين والاستواء ...إلخ].
2-نؤمن أن هذه الصفات ليس المقصود منها معانيها في حق المخلوقين
فالله لا يشبهه شيء.
3-نقطع بأن معانى هذه الصفات [اليد والعين والاستواء
...إلخ] ليست على ظاهرها المراد في حق المخلوقات. وليس هناك ظاهر إلا المعروف في
حق المخلوق بذلك نحمله على ما تجيزه اللغة ولا يصطدم مع الشرع لنبتعد عن شبهة
المماثلة التي تتبادر إلى الذهن لأن الذهن ألف إطلاق هذه الصفات على المعنى المضاف
إلى المخلوق فالمسافة كما ترى ليست بعيدة بين الاثنين وهذا ليس رأى الإمام البنا
وحده ولكن معه من أئمة السلف الكثير.
واسمع ما قاله الإمام الشاطبى : يقول : "ومن أشد مسائل الخلاف –مثلاً- مسألة إثبات
الصفات حيث نفاها من نفاها فإذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما
حائماً حول حمى التنزيه ونفى النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة وإنما وقع
اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بالقصد في الطرفين معاً فالحاصل في هذا الخلاف
أشبه الواقع بينه وبين الواقع في الفروع "أي أنها من مسائل الخلاف حيث قال :
ولا يوجب هذا الخلاف تكفير كل من أخطأ فيها إلا أن تقوم فيه شروط التكفير.
ويقول الإمام ابن تيمية : فأما سائر وجوه الاختلاف كاختلاف التنوع والاختلاف الاعتبارى واللفظى
فأمره قريب وهو كثير أو غالب على الخلاف في المسائل الخبرية" والمسائل
الخبرية أي مسائل العقيدة الدقيقة أغلبه خلاف اعتبارى ولفظى.
ويقول الشيخ أبو زهرة : إن اختلاف العلماء في هذه المعانى لا يقتضى أن يُكفّر فريق لآخر لأنه
اختلاف نظر لا اختلاف حقيقة .
فلقد أصاب الإمام البنا فيما قال ووافق السلف في قولهم
ولم يخالفهم فيما قالوا فالكلام أم الذي سمعته من الفقهاء هو عين ما قاله البنا .
ومع هذا يجب أن ننبه على أمرين
1-أن الخلاف قريب بين السلف وهذه الطائفة التي أولت
الصفات في دائرة اللغة والشرع ولا يصطدم.
2-ونحذر من شبهتين: الأولى شبهة من ظن أن الإثبات القصد
منه مشابهة الحوادث ، فيظن أن المقصود باليد يد كأيدينا –تعالى الله عن ذلك علواً
كبيراً – وانتهى الأمر بهم على التجسيد والتشبيه.
والشبهة الثانية من ظن أن التأويل هو النفى فنفى عن
البارى I السمع
والبصر إلخ. فطريق أهل السنة والجماعة محصور بين من أثبت بالشروط التي ذكرناها –
وهم من قال عنهم الإمام البنا فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان.."
وبين من أوّل بالشروط التي ذكرنا وهم من قال عنهم الإمام البنا أنهم لا يجب الحكم
عليهم بكفر ولا فسوق.
بعد هذا الذي سقناه لك لنبين مطابقة ما قاله الإمام
البنا مع ما قاله علماء السلف في هذه القضية إلا أن من الغريب حقاً أن ترى بعض
المسلمين يتركون كل ما قاله موضحاً رأيه ويتمسكون بكلمة قالها في معرض كلامه في
هذه القضية حين قال "ونحن نعتقد أن رأى السلف من السكوت وتفويض علم هذه
المعانى إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع" فإذا بهم تارة يرمون
الإمام البنا بالتفويض وأنه أشعرى علماً بأنهم ينسون أن الأشعرى كان إمام أهل
السنة والجماعة في زمانه وتارة يرمونه بأنه جهمى والجهمية من المبتدعة الذين نفوا
الصفات تماماً والإمام البنا منهم برئ.
والحقيقة التي نريد أن نؤكد عليها أن الإمام البنا tلم يكن غرضه أن يكون مدرس عقيدة أو مدرس فقه ولكن كان كل همه أن يدعو إلى
الإسلام ويربى عليه رجال والذى يقرأ ما كتبه يجد اهتمامه وتركيزه في غرس العقيدة
وتربية جيل عليها وحين تكلم عن معانى الإسلام كان دائماً يشير إلى منهج الرسول r في غرس هذه
العقيدة ونحى منحى رسول الله r في تربية الرجال عليها ودائماً كان يركز على أثرها في تربية
الرجال، هذا هو الذي اهتم به ولم يخض لا في المصطلحات الفلسفية ولا في التعبيرات
الكلامية ولا كان يميل إلى الدخول في هذه المساجلات التي لا تسمن ولا تغنى من جوع
ولكن كان منهجه في تقديم العقيدة هو منهج القرآن والسنة المطهرة يقول الإمام
البنا:لم ألجأ إلى المصطلحات الفنية التي تواضع عليها العلماء المختصون بعلم
الكلام ولا النظريات الفلسفية ولا الأساليب المتعمقة التي درج عليها المتكلمون
ولكن سألجأ إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة وما عرفناه من سيرة الصدر الأول. ولو
أننا نظرنا إلى منهج القرآن في عرض الأسماء والصفات بعيد عن هذا الجدل الذي يعيش
فيه الناس لو أننا قرأنا آيات تثبت صفات لله I وقدرته القادرة كما يقول القرآن فمثلاً (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ
اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ
كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ
مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى
حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ
نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ
أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وتأمل ما يقوله سيدنا إبراهيم عليه السلام (رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن
لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فانظر إلى عرض
الصفات لتعطي العقل حقه من التفكير كما تعطي للقلب اطمئنانه واستقراره وشعوره
بقدرة الله I وهذا هو
المنهج القرآنى. ولذلك بَعُد الإمام البنا عن تكفير الناس لأن هذه ليست مهمته ولا
رسالته ولكن مهمته أن يبين ويدعو ويستثير العقول لتفكر ويستجيش عواطف ومشاعر
القلوب كي تستطيع أن ترى طريق الله I ولذلك فإن الإمام البنا رضوان الله عليه لم يفاتح العامة في مثل
هذه القضايا، فليست هذه القضايا لعامة الناس إنما هي كما قال المولى (فَلَوْلاَ
نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ
وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
فما هو التفويض الذي اتهم به الإمام البنا؟
إن التفويض من الألفاظ المجملة التي تضم تحتها معان
مختلفة فهو ينقسم إلى نوعين :
أ- نوع مذموم يجب أن ننأى عنه.
ب- نوع محمود يجب أن نقول به ونعتقده.
فأما المذموم الذي يجب أن ننأى عنه هو أن يظن امرؤ أن ألفاظ هذه الآيات وأحاديثها – آيات
الصفات وأحاديثها- ليس لها معان ولا يفهم منها شيء على أي وجه من الوجوه فهى عنده
بمثابة طسم، كهيعص إلخ فالسلف كانوا يقرءون آيات الصفات وأحاديثها ويتدبرونها لأن
الله يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)
وكانوا يفهمون الآيات على معانيها ولكن ليست المعاني المرادفة للغة فليس هذا
هو المقصود بمنهج السلف لأن الخلف كانوا يفهمون هذه المعاني إنما المعاني التي كان
يفهمها السلف من الآيات والأحاديث هي المعاني الكلية العامة المجردة فإذا أضيفت
هذه المعانى المجردة اختلفت دلالتها تماماً في حق الخالق عن دلالتها في حق المخلوق
فإذا تدبرت ذلك زال الإبهام.
أما النوع المحمود اعتقاده : هو تفويض حقيقة معناها عند إضافتها للمولى I لأننا لا ندرك كنه الذات ولذلك فلا يمكننا أن ندرك كنه الصفات
فإنه I (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (وَلَا
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)
ولذلك يقول الإمام السيوطى : السلف وأهل الحديث على
الإيمان بها وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى ولا نفسرها هذا ما قاله الإمام السيوطي
وإليك ما قاله الإمام البنا:"ومعرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه من
أسمى عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما لحق بذلك من المتشابه نؤمن
به كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيه من خلاف بين العلماء
ويسعنا ما وسع رسول الله r وأصحابه (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)" ويقول :"والذى يجب أن يتفطن له
المؤمن أن المعنى الذي يقصد باللفظ في صفات الله تبارك وتعالى يختلف اختلافاً
كلياً عن المعنى الذي يقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين...إلخ ثم يقول: فهذه
كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق من حيث الكمال والكيفية
اختلافاً كلياً لأنه تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه فتفطن لهذا المعنى فإنه
دقيق"
فماذا في هذا حين يفوض حقيقة المعنى المتعلق بذات الله
وعدم إدراك مدلولات الألفاظ من حيث الكمال والكيفية فهل يدعى أحد معرفة حقائق ما
يتعلق بذات الله والإحاطة بذلك؟ أم يفوضها لله تعالى؟ وهذا ما قال به الإمام البنا
رحمه الله وهو نفس ما قاله الإمام مالك : أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان
به واجب والسؤال عنه بدعة.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي :"واعلموا أن آيات
الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه وهذا من جهة غلط ومن جهة قد يسوغ
كما قال مالك بن أنس بقوله الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة
والإيمان به واجب فكون الاستواء غير مجهول يدل على أن معناه غير متشابه بل هو
معروف عند العرب وقوله والكيف غير معقول يدل على عجز البشر عن إدراكه وما استأثر
الله بعلمه يسمى متشابه" كل ما استأثر الله بعلمه يسمى متشابه (وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) I وهو بالنسبة إلى المعنى غير متشابه وبالنسبة إلى كيفية الاتصاف به
متشابه ولذلك هذه الأمور تذكرنا موقف الرسول r مع الجارية التي سألها الرسول r
أين الله؟ فأشارت إلى السماء
وقالت: في السماء فقال: اعتقها فإنها مؤمنة" جاء عن بعض السلف أنهم
قالوا في الصفات أمِرّوها كما جاءت بلا تفسير ووضعوا لذلك قاعدة أسموها "الإقرار
والإمرار" يعنى نقر الصفة ونمرر الكيف .
وقال به الإمام السيوطى :"ومن المتشابه آيات الصفات
نحو(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)و (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
وجمهور أهل السنة ومنهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها
المراد إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها".
فالمنهي عنه كما قال نعيم بن حماد والخزاعي شيخ البخاري
هو أن ننكر ما وصف الله به نفسه فهذا كفر أو أن نشبه الله بخلقه فهذا كفر ، إنما
نثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه من الصفات ولكن معاني هذه الصفات يفهمها الناس كلٌ
على قدر فهمه كما قاله الإمام ابن تيمية فيفرقون بين السمع والبصر أما كيفية هذه
الصفات فلا يعلمها إلا الله تعالى فهل قال الإمام البنا بغير ذلك؟
إن هذه الاتهامات ليست جديدة على علماء الأمة بل هي أمور
قديمة فالمعتزلة أنفسهم يتهمون من لا يقول بتخليد مرتكب الكبيرة بأنه من المرجئة
ونحن في نظرهم كذلك ، وقد أطلق على أبى حنيفة وتلاميذه أبى يوسف ومحمد ابن الحسن
وغيرهم اسم المرجئة وكذلك قيل عن سعيد بن جبير ومقاتل بن سليمان وحماد بن أبى
سليمان شيخ أبى حنيفة وغيرهم فكيف لا يُتهم الإمام البنا ؟ ليس بدعاً من العلماء
ولو سرنا على منهج هؤلاء الذين يتهمون البنا لقلنا إن ابن القيم من الجهمية لأنه
قال كما قالوا بفناء الجنة والنار وإن أحداً لم يُبدَّعه لأن هذا ليس بمنهج علمى
لأنه لا ينظر إلى جميع آراء ابن القيم كلها ويحكم عليها وإنما حكم مجرد أن قرأ
عنده معنى واحد فساقه وعمم وهذا الأسلوب يفرق ولا يجمع يُبغض ولا يحبب يمزق ولا
يؤلف فما أطيب منهاج السلف!
للعقيدة أصول وفروع :
والذى يجب أن ننبه إليه ونؤكد عليه أن للعقيدة أصولاً
وفروعاً والخلاف في فروع العقيدة فيه نظر ولا إنكار فيه طالما أنه يحتمل وجوهاً
فهذه أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن
محمداً r رأى ربه
وقالت: من زعم أن محمداً r رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، بينما جمهور العلماء على رأى
ابن عباس ولا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضى الله عنها.
لقد أنكرت أيضًا أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحى لما
قيل أن النبى r قال "ما
أنتم بأسمع لما أقول منهم" فقالت إنما قال : إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت
لهم الحق. بالرغم من أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله r "ما
من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى
يرد السلام" إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي لم تمنع أم المؤمنين
رضى الله عنها من خلافها مع ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فهل نسوى بين أصول
العقيدة وفروعها؟
وعلى هذا فأهل السنة -كما رأيت– وسط بين الفرق في
الأسماء والصفات فهم بين من عطّل ومن شبه ينزهون بلا تعطيل ويثبتون بلا كيف وهم
وسط بين القدرية والجبرية فأثبتوا للإنسان مشيئة وإرادة وقالوا أفعال العبد من
الله خلقاً وتقديراً وإيجاداً ومن العبد فعلاً وكسباً ومباشرة.
وهم وسط بين من كفر مرتكب الكبيرة وبين المرجئة الذين
قالوا : لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة، فلا يقولون بتخليد مرتكب
الكبيرة ويقولون أهل الكبائر تحت المشيئة " إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فما دون الشرك الأكبر تحت المشيئة فهو مؤمن
بإيمانه فاسق بكبيرته أي ليس مؤمناً كاملاً.
ووسط في نظرهم للصحابة رضوان الله عليهم بين من فسقهم
وكفرهم ومن عصمهم وعظمهم تقديساً فهم يحترمونهم ويجلونهم ويحبونهم ويثنون عليهم "
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ..." " وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ " وأمسكوا
عن الخوض في خلافهم فالواجب إتباعهم فنتكلم فيما تكلموا فيه ونسكت عما سكتوا عنه
ويسعنا ما وسعهم.
فهل نأخذ بهذا المنهج جميعاً ونتعاون فيما اتفقنا عليه
ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ونضع ما أمرنا الرسول r به موضع التنفيذ :"وكونوا عباد الله إخوانا" حتى لا
تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
يروى لنا البخارى عن زينب بنت جحش أنها قالت : استيقظ
النبى r محمرا ًوجهه
يقول : "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب" (الحديث).
يقول الشيخ أبو زهرة : يشير r إلى ما سيجرى بين المسلمين من خلاف من بعده.
وعن كرز بن علقمة الخُزاعى t قال، قال أعرابى يا رسول الله هل للإسلام من منتهى قال : "نعم
أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله U بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام" قال : ثم ماذا يا رسول الله ؟قال : "ثم تقع فتن كأنها
الظلل"، قال الأعرابى : كلا – وفى رواية كلا والله إن شاء الله – قال r "بلى
والذى نفسي بيده لتعودن فيها أساوِد صبا يضرب بعضكم رقاب بعض "، وفي
رواية زاد وقال r : "وأفضل
الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقى ربه تبارك وتعالى ويدع الناس من شره"
وصدق الإمام البنا حين قال: "إلى متى تتقارض أمتنا التهم وتتبادل الظنون
وتتنابز بالألقاب وتترك يقيناً يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك؟ فاللهم
جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم ليس لأحد فيها
شيء، اللهم آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق