مفهوم
الاجتماع
جرت
عادتنا أن نجتمع لإحياء جملة من المناسبات التاريخية كالمولد النبوي وذكرى الإسراء
والمعراج وليلة النصف من شعبان والهجرة النبوية وذكرى نزول القرآن وذكرى غزوة بدر
، وفي اعتبارنا أن هذا الأمر عادي لا صلة له بالدين فلا يوصف بأنه مشروع أو سنة
كما أنه ليس معارضاً لأصل من أصول الدين لأن الخطر هو في اعتقاد مشروعية شيء ليس
بمشروع ، وعندي أن أمثال هذه الأمور العادية العرفية لا يقال فيها أكثر من أنها
محبوبة للشارع أو مبغوضة وأظن أن هذا القدر متفق عليه ، ويدعي البعض أن هذه
المناسبات التي يجتمع الناس لإحيائها ينقصها التوقيت المضبوط المتفق عليه ، فيقول
: إن الناس تعودوا أن يجتمعوا ليلة السابع والعشرين لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج
، وأن يجتمعوا ليلة الاثني عشر من ربيع الأول لإحياء ذكرى المولد النبوي مع أن
العلماء اختلفوا في تعيين وقت هاتين الحادثتين بالضبط ، وأنا أقول : إن عدم
الاتفاق على تعيين الوقت لا يؤثر لأننا لا نعتقد مشروعية تحديد الاجتماع بوقت
مخصوص بل الأمر عادي كما أسلفنا والذي يهمنا هو اغتنام فرصة الاجتماع وكسب ذلك
لتوجيهه إلى الخير فهذه الليلة قد اجتمع الناس فيها بشكل فظيع وعظيم وسواء أخطأوا
التوقيت أم أصابوا ، فإن مجرد اجتماعهم هذا على ذكر الله ومحبة رسول الله كاف في
استجلاب رحمة الله وفضله .
إني
أعتقد تمام الاعتقاد أن اجتماع هؤلاء الناس ما دام أنه لله وفي الله فإنه مقبول عند الله ولو أخطأوا في التوقيت ، وأضرب
لذلك مثلاً لتقريب القضية للأذهان برجل دعا إلى وليمة في يوم معين فجاء بعض
المدعوين في غير وقت الدعوة ظناً منهم أنه هو الوقت فهل ترى أن صاحب الوليمة
يطردهم ويردهم بجفوة وغلظة ويصد عنهم ويقول لهم : ارجعوا وانصرفوا عني فليس هذا هو
وقت الوليمة الذي دعوتكم إليه وحددته لكم ، أو ترى أنه يقابلهم بالحسنى ويشكرهم على
قدومهم ويفتح لهم بابه ويطلب منهم الدخول ثم يطلب منهم الرجوع مرة أخرى في الوقت
المحدد ؟ هذا الذي أتصوره وهو اللائق بفضل الله وكرمه .
ونحن
إذا اجتمعنا للإسراء والمعراج أو للمولد النبوي ولأي ذكرى من الذكريات التاريخية
لا يهمنا تعيين الوقت بالضبط لأنه إن كان موافقاً للصواب في الواقع ونفس الأمر
فالحمد لله ، وإن كان غير ذلك فإن الله لا يردنا ولا يغلق بابه عنا .
فاغتنام
فرصة الاجتماع بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى والتعرض لنفحاته وخيراته
وبركاته هو أجل من فائدة الذكرى نفسها عندي ، واغتنام اجتماع الناس بتذكيرهم
وإرشادهم ونصحهم وتوجيههم إلى الخير هو أولى من صدهم وردهم والإنكار على اجتماعهم
بما لا طائل تحته إذ المشاهد أن ذلك لا ينفع ولا
يفيد وأن الناس يزيد إقبالهم ويعم تمسكهم كلما زاد الإنكار عليهم أو اشتد
حتى كان الناهي لهم عن ذلك آمر لهم بفعله من حيث لا يشعر .
إن
العقلاء من أرباب الفكر والدعوة يتمنون بكل قلوبهم أن يجدوا مكاناً يجتمع فيه الناس ليبثوا فيهم آراءهم ويكسبوهم
إلى صفهم ، ولذلك تراهم يرتادون الحدائق والنوادي والأماكن العامة التي يكثر فيها
اجتماع الناس ليصنعوا بهم ما يريدون
، ونحن نرى الأمة تجتمع في مناسبات متعددة برغبة وهمة وحرص فما هو الواجب علينا
نحوهم ؟ .
إن
الاشتغال بالإنكار والأخذ والرد في حكم اجتماعهم وما إلى ذلك هو عبث بل وحمق وجهالة لأننا نضيع كنزاً عظيماً
ونفوت فرصة لا يمكن أن يجود الزمان بها
إلا في مثل هذه المناسبات .
فلنغتنم
هذه المجامع الكبرى .
] ] ]
مفهوم
المولد النبوي
يخطئ
كثير من الناس في فهمهم لحقيقة المولد النبوي الذي ندعو إليه ونشجع عليه فيتصورون تصورات فاسدة يبنون
عليها مسائل طويلة ومناقشات عريضة يضيعون بها أوقاتهم وأوقات القراء وهي كلها هباء
لأنها مبنية على تصورات كما قلنا فاسدة .
وقد
كتبنا عن المولد النبوي كثيراً وتحدثنا عنه في الإذاعة والمجامع العامة
مراراً بما يظهر معه وضوح مفهومنا عن
المولد الشريف .
إننا
نقول وقد قلنا من قبل : إن الاجتماع لأجل المولد النبوي الشريف ما هو إلا أمر عادي وليس من العبادة في
شيء وهذا ما نعتقده وندين الله تعالى به .
وليتصور
من شاء ما يتصور لأن الإنسان هو المصدق فيما يقوله عن نفسه وحقيقة معتقده لا غيره
.
ونحن
نقول في كل محفل ومجمع ومناسبة : إن هذا الاجتماع بهذه الكيفية أمر عادي ليس من
العبادة في شيء فهل يبقى بعد هذا إنكار لمنكر واعتراض لمعترض لكن المصيبة الكبرى
في عدم الفهم ولهذا يقول الإمام الشافعي :
ما
جادلت عالماً إلا غلبته ولا جادلت جاهلاً إلا غلبني . إن أقل الطلاب علماً يعلم الفرق بين العادة والعبادة
وحقيقة هذه وتلك فإذا قال القائل : هذه
عبادة مشروعة بكيفيتها نقول له : أين الدليل ؟ وإذا قال : هذه عادة نقول له
: إصنع ما تشاء لأن الخطر كل الخطر والبلاء الذي نخشاه كلنا هو أن يلبس ثوب
العبادة لفعل مبتدع غير مشرع بل من اجتهاد البشر ، وهذا ما لا نرضاه بل نحاربه ونحذر منه ، والحاصل أن الاجتماع
لأجل المولد النبوي أمر عادي ولكنه من
العادات الخيرة الصالحة التي تشتمل على منافع كثيرة وفوائد تعود على الناس بفضل وفير لأنها مطلوبة شرعاً بأفرادها ، ومن
التصورات الفاسدة التي تقع في أذهان بعض
الناس هي أنهم يظنون أننا ندعو إلى الاحتفال بالمولد في ليلة مخصوصة دون سائر العام
وما درى هذا المغفل أن الاجتماعات تعقد لأجل المولد النبوي في مكة والمدينة بشكل
منقطع النظير في كل أيام العام وفي كل مناسبة تحدث يفرح بها صاحبها ولا يكاد يمر يوم أو ليلة بمكة
والمدينة إلا ويحصل فيه اجتماع للمولد النبوي علم هذا من علمه وجهله من جهله ، فمن
زعم أننا نذكر النبي r في
ليلة واحدة فقط ونهجره ونغفل عنه ثلاثمائة وتسعة وخمسين ليلة فقد افترى
إثماً عظيماً وكذب كذباً مبيناً ، وهذه
مجالس المولد النبوي تنعقد بفضل الله تعالى في
جميع ليالي السنة ولا يكاد يمر يوم أو ليلة إلا وهنا مجلس وهناك محفل ،
ونحن ننادي بأن تخصيص الاجتماع بليلة
واحدة دون غيرها هو الجفوة الكبرى للرسول r ، ولذلك فإن الناس بحمد الله يستجيبون لهذا
النداء بكل إقبال ورغبة .
ومن
زعم بأننا نخصص الاحتفال به r في المدينة المنورة فهو جاهل أو متجاهل عن الحقيقة ، وما لنا إلا أن ندعو الله
له بأن ينور بصيرته ويكشف عنه حجاب الجهل ليرى أن ذلك ليس خاصاً بالمدينة المنورة
ولا بليلة مخصوصة في شهر مخصوص ، بل هو
عام في الزمان والمكان .
وليس يصح في الأذهان شيء ::
إذا احتاج النهار إلى دليل
والحاصل
أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد
ابتدع في الدين لأن ذكره r والتعلق به يجب أن يكون في كل حين ويجب أن تملأ به النفوس ، فنعم : إن في
شهر ولادته يكون الداعي أقوى لإقبال
لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض، فيتذكرون
بالحاضر الماضي وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .
وإن
هذه الاجتماعات ، هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله وهي فرصة ذهبية ينبغي أن لا تفوت ، بل يجب على
الدعاة والعلماء أن يذكروا الأمة بالنبي r بأخلاقه وآدابه
وأحواله وسيرته ومعاملته وعباداته ، وأن ينصحوهم ويرشدوهم إلى الخير والفلاح ويحذروهم من البلاء والبدع
والشر والفتن .
وإننا
دائماً بفضل الله ندعو إلى ذلك ونشارك في ذلك ونقول للناس : ليس المقصود من هذه
الاجتماعات مجرد الاجتماعات والمظاهر بل إن هذه وسيلة شريفة إلى غاية شريفة وهي
كذا وكذا ومن لم يستفد شيئاً لدينه فهو محروم من خيرات المولد الشريف ، ولا نحب أن نطيل بذكر الأدلة
والمسوغات التي استنبطناها في هذا
الموضوع ، إذ لنا رسالة خاصة لذلك بعنوان : حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ،
غير أننا سنخص قصة عتق ثويبة بالذكر لكثرة الكلام حولها :
] ] ]
قصة
عتق ثويبة
يذكر العلماء في كتب
الحديث والسيرة قصة عتق أبي لهب لجاريته ثويبة لما أخبرته بولادة النبي r وأن
العباس بن عبد المطلب رأى أبا لهب في النوم بعد وفاته فسأله عن حاله فقال : لم ألق خيراً
بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي
ثويبة وإنه ليخفف عليَّ في كل يوم الاثنين .
قلت : هذا الخبر
رواه جملة من أئمة الحديث والسير مثل الإمام عبد الرزاق الصنعاني والإمام البخاري
والحافظ ابن حجر والحافظ ابن كثير والحافظ البيهقي وابن هشام والسهيلي والحافظ البغوي وابن الديبع
والأشخر والعامري ، وسأبين ذلك بالتفصيل .
فأما الإمام عبد الرزاق
الصنعاني فقد رواه في المصنف (ج7 ص478) ، وأما الإمام البخاري فقد رواه في صحيحه
بإسناده إلى عروة بن الزبير مرسلاً في كتاب النكاح باب } وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ { ، وأما ابن حجر
فقد ذكره في الفتح وقال : إنه رواه الاسماعيلي من طريق الذهلي عن أبي اليمان ،
ورواه عبد الرزاق عن معمر وقال : وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل
الصالح في الآخرة ، لكنه مخالف لظاهر القرآن ، قال الله تعالى : } وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً { ، وأجيب أولاً
بأن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به ، وعلى تقدير أن يكون موصولاً
فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد
فلا يحتج به ، وسلم مخصوصاً من ذلك
دليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفف عنه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح ، وقال البيهقي : ما ورد من بطلان
الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم
التخلص من النار ولا دخول الجنة ، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه
على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات .
وأما عياض فقال :
انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ، وإن كان
بعضهم أشد عذاباً من بعض . قلت : وهذا لا
يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي ، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر ،
وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه ؟ وقال القرطبي : هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه ، وقال
ابن المنير في الحاشية : هنا قضيتان : إحداهما محال وهي اعتبار طاعة الكافر مع
كفره ، لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح ،
وهذا مفقود من الكافر .
الثانية : إثابة
الكافر على بعض الأعمال تفضلاً من الله تعالى وهذا لا يحيله العقل ، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب
لثويبة قربة معتبرة ، ويجوز
أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب ، والمتبع في ذلك
التوقيف نفياً وإثباتاً .
قلت : وتتمة هذا أن
يقع التفضيل المذكور إكراماً لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك . والله أعلم .
اهـ (فتح الباري ج9 ص145) .
وأما الحافظ ابن
كثير فقد رواه في البداية والنهاية ، وقال معلقاً : لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله
أعتقها من ساعته ، فجوزي بذلك لذلك . اهـ من السيرة النبوية لابن كثير (ج1 ص224) .
وأما الحافظ عبد الرحمن
بن الديبع الشيباني صاحب جامع الأصول فقد رواه في سيرته وقال معلقاً : ((قلت :
فتخفيف العذاب عنه إنما هو كرامة للنبي r كما خفف عن أبي طالب لا لأجل العتق ،
لقوله تعالى : } وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ
فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { . اهـ من حدائق
الأنوار في السيرة (ج1 ص134) .
وأما الحافظ البغوي
فقد رواه في شرح السنة (ج9 ص76) .
وأما الإمام الأشخر
فقد رواه في بهجة المحافل ، وقال شارحه العامري : قيل : هذا خاص به إكراماً له r كما
خفف عن أبي طالب بسببه ، وقيل : لا مانع
من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خيراً . اهـ من شرح البهجة (ج1 ص41) .
وأما السهيلي فقد
رواه في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام وقال بعد نقل الخبر : فنفعه
ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن
رسول الله r فهو أهون أهل النار عذاباً ، وقد تقدم في باب
أبي طالب أن هذا النفع إنما هو
نقصان من العذاب ، وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف أي : لا يجده في ميزانه ولا يدخل به جنة .
اهـ الروض الأنف (ج5 ص192) .
] ] ]
حاصل
البحث
والحاصل أن هذه
القصة مشهورة في كتب الأحاديث وفي كتب السير ،
ونقلها حفاظ معتبرون معتمدون ، ويكفي في توثيقها كون البخاري نقلها في صحيحه المتفق على جلالته ومكانته ، وكل ما فيه
من المسند صحيح بلا كلام .
حتى المعلقات والمرسلات فإنها لا تخرج عن دائرة
المقبول ولا تصل إلى المردود وهذا يعرفه
أهل العلم المشتغلون بالحديث والمصطلح والذين يعرفون معنى المعلق والمرسل ويعرفون
حكمها إذا جاءت في الصحيح .
فانظر إن شئت ذلك في
كتب المصطلح كألفية السيوطي والعراقي وشروحها وتدريب الراوي فإنهم تعرضوا لهذه
المسألة وبينوا قيمة ما في الصحيح من المعلق والمرسل وأن ذلك مقبول عند المحققين .
ثم إن هذه المسألة
من المناقب والفضائل والكرامات التي يذكرها العلماء في كتب الخصائص والسير
ويتساهلون في نقلها ولا يشترطون فيها الصحيح بالمعنى المصطلح عليه ، ولو ذهبنا إلى
اشتراط هذا الشرط الشاذ لما أمكن لنا ذكر شيء
من سيرة النبي r قبل البعثة وبعد البعثة مع أنك تجد كتب الحفاظ
الذين عليهم العمدة وعلى صنيعهم
المعول ، والذين منهم عرفنا ما يجوز وما لا يجوز ذكره من الحديث الضعيف نجد كتبهم
مملوءة بالمقطوعات والمراسيل وما أخذ عن
الكهان وأشباههم في خصائص رسول الله r لأن ذلك مما يجوز ذكره في هذا المقام .
أما قول من قال : إن
هذا الخبر يعارض قوله تعالى } وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً { فهذا قول مردود
بما قاله العلماء ونقلناه عنهم سابقاً .
وتحرير الكلام في
هذا المقام هو أن الآية تدل على أن أعمال الكفار لا ينظر إليها وليس فيها أنهم سواء في العذاب ،
وأنه لا يخفف عن بعضهم العذاب كما هو مقرر عند العلماء .
وكذلك الإجماع الذي
حكاه عياض ، فإنه في عموم الكفار وليس فيه أن
الله تعالى لا يخفف العذاب عن بعضهم لأجل عمل عملوه ولهذا جعل الله
تعالى جهنم دركات ، والمنافقون في الدرك
الأسفل منها .
ثم إن هذا الإجماع
يرده النص الصحيح ، ولا يصح إجماع مع مخالفة النص كما هو معلوم للطلبة .
وذلك إنه ثبت في
الصحيح أن رسول الله e سئل: هل
نفعت أبا طالب بشيء فإنه
كان يحوطك ويدافع عنك ؟ فقال : وجدته في غمرات من النار ، فأخرجته إلى ضحضاح منها ، الحديث .
فها هو أبو طالب قد
نفعه دفاعه عن النبي e وأخرجه النبي e من
أجل ذلك من غمرات النار إلى ضحضاح منها .
فالتخفيف عن أبي لهب من هذا الباب أيضا لا منكر
فيه ، والحديث يدل على أن الآية
المذكورة فيمن لم يكن لهم عمل يوجب التخفيف . وكذلك الإجماع.
وفي حديث أبي طالب
المذكور دلالة وأي دلالة على أن النبي e يتصرف
الآن وقبل يوم القيامة في أمور الآخرة ويشفع لمن تعلق به ودافع عنه .
وأما قول من قال :
إن هذا الخبر رؤيا منام لا يثبت بها حكم ، فإن هذا القائل - هداه الله للصواب - لا يفرق بين
الأحكام الشرعية وغيرها .
أما الأحكام الشرعية
فإن الخلاف واقع بين الفقهاء : هل يجوز أخذ
الأحكام وتصحيح الأخبار برؤيا رسول الله e في المنام أم لا
؟ .
وأما غيرها فإن
الاعتماد على الرؤيا في هذا الباب لا شيء فيه مطلقاً . وقد اعتمد عليها الحفاظ وذكروا ما جاء في
رؤيا أهل الجاهلية قبل بعثة رسول الله e المنذرة بظهوره ، وأنه سيقضي على الشرك وما هم
عليه من فساد . وكتب السنة مملوءة بهذا .
وفي مقدمتها كتاب
دلائل النبوة وعدوها من الإرهاصات التي لا مانع من الاستدلال في شأنها بالرؤيا ،
ولولا ذلك لما ذكروها .
فقول القائل في شأن
رؤيا العباس : إنها ليست بحجة ولا يثبت بها حكم ولا خبر ، خروج عن عمل الأئمة من الحفاظ
وغيرهم ، والمراد به التهويل لا غير ، وما هكذا يكون شان الباحث عن الحق والأمر
لله .
وأما من قال : إن
الرائي والمخبر هو العباس في حال الكفر ، والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم فإن
هذا قول مردود ، لا رائحة للعلم فيه ، وهو باطل ، ذلك لأنه لم يقل أحد أن الرؤيا
من باب الشهادة مطلقاً ، وإنما هي بشارة لا غير فلا يشترط فيها دين ولا إيمان ، بل
ذكر الله تعالى في القرآن معجزة يوسف عليه السلام عن رؤيا ملك مصر وهو وثني لا
يعرف ديناً سماوياً مطلقاً ، ومع ذلك جعل
الله تعالى رؤيته المنامية من دلائل نبوة يوسف عليه السلام وفضله وقرنها بقصته ،
ولو كان ذلك لا يدل على شيء لما ذكرها الله تعالى لأنها رؤيا مشرك وثني لا فائدة فيها لا في التأييد ولا في
الإنكار .
ولهذا ذكر العلماء
أن الكافر يرى الله تعالى في المنام ويرى في ذلك ما فيه إنذار له وتوبيخ وتقريع .
والعجب كل العجب من
قول القائل : إن العباس رأى ذلك في حال
كفره ، والكفار لا تسمع شهادتهم ولا تقبل أخبارهم ، فإن هذا القول يدل على
عدم المعرفة بعلم الحديث إذ المقرر في المصطلح أن الصحابي أو غيره إذا تحمل الحديث
في حال كفره ثم روى ذلك بعد إسلامه أخذ ذلك عنه ، وعمل به .
وانظر أمثلة ذلك في
كتب المصطلح لتعرف بعد صاحب هذا القول عن العلم . وإنما الهوى هو الذي حمل المعترض
على الدخول فيما لا يتقنه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق